الودائع المصرفية وأحكامها
قد يغتر كثير من الناس بتلك المسميات التي تطلق على تعاملات البنوك الربوية، ولا تخرج حقيقتها عن الربا المحرم شرعا، ولكنهم يسمونه بغير اسمه، ولكنه لا يجعل الحرام حلالا، فالحلال ما أحله الله، والحرام ما حرَّمه الله، وشرع الله هو عين المصلحة التي تصلح البلاد والعباد.
والسؤال : ما هي الودائع المصرفية ؟ وما أقسامها ؟ وما هو تكييفها وحكمها ؟
يقصد بالودائع المصرفية النقود التي يعهد بها الأفراد أو الهيئات إلى المصارف على أن تتعهد بردها عند الطلب أو بالشروط المتفق عليها، وما يرد منها عند الطلب يسمي الودائع الجارية، وما لا يلتزم المصرف بردها إلا عند أجل معين يسمى الودائع الادخارية أو الاستثمارية.
تنقسم الودائع من حيث حرية المصرف في التصرف فيها إلى قسمين:
الودائع النقدية العادية : وهي التي جرى العرف المصرفي على استغلالها والتصرف فيها من قبل المصرف على أن يرد قيمتها عند اللزوم. الودائع المستندية أو النقدية المخصصة لغرض معين: وهذه لا يجوز للمصرف أن يتصرف فيها، بل يلتزم بحفظها لخدمة الغرض المخصصة له، فيحفظ الودائع المستندية في خزائنه، ويوجه الأخرى إلى الغرض الذي خصصت له وحده.
لا يصدق على الودائع المصرفية العادية حقيقية الإيداع بالمعني الفقهي، لأن حقيقة الإيداع : توكيل في حفظ المال على أن ترد عينه، وتتمثل التزامات المودع في حفظ الشيء ورده بعينه عند الاقتضاء، وهذا لا يصدق على الودائع النقدية العادية التي جرت عادة المصارف على خلطها بأموالها واستخدامها في أعمالها ورد بدلها عند الاقتضاء.
إذن فالتكييف الفقهي الصحيح لهذه الودائع أنها قروض إلى المصارف، لأن حقيقة القرض : تمليك للمال على أن يرد بدله، وهذا الذي يجري عليه عمل المصرف في هذه الودائع، فهو يخلطها بأمواله ويتصرف فيها تصرف الملاك ثم يرد بدلها عند الاقتضاء، ولما كانت العبرة في العقود للحقائق والمعاني وليس للألفاظ والمباني فإن الودائع المصرفية هي قروض في الحقيقة وإن أطلق عليها غير ذلك، وتكييف الودائع على هذا النحو متفق عليه بين الشريعة والقانون.
ففي الشريعة: جاء في المغني لابن قدامة: (ويجوز استعارة الدراهم والدنانير ليزن بها، فان استعارها لينفقها فهذا قرض). وفي المبسوط للسرخسي: (عارية الدراهم والدنانير والفلوس قرض، لأن الإعارة إذن في الانتفاع، ولا يتأتي الانتفاع بالنقود إلا باستهلاكها عينا فيصير مأذونا في ذلك).
وفي تحفة الفقهاء للسمرقندي: (كل ما لا يمكن الانتفاع به إلا باستهلاكه فهو قرض حقيقة، ولكن يسمي عارية مجازا). وفي القانون: نصت المادة 627 من القانون المدني المصري على ما يلي: (إذا كانت الوديعة مبلغا من النقود أو أي شيء آخر مما يهلك بالاستعمال وكان المودع عنده مأذونا في استعماله اعتبِر العقد قرضا).
لقد جرت العادة في القروض أن تكون من الأغنياء إلى الفقراء فهل المصرف فقير حتى يصح تخريج ودائع الناس عنده على أنها من قبيل القروض؟
ويجاب عن ذلك بأن حقيقة الإقراض تمليك للمال على أن يرد بدله، وهي تصدق على الإقراض من الغني للفقير كما تصدق على العكس، وكون الأصل في القروض أنها من الأغنياء إلى الفقراء لا ينفي وجود صور أخرى تتضمن العكس، وأظهر مثال على ذلك في تاريخنا الإسلامي الزبير بن العوام، فقد كان رضي الله عنه ذا مال وفير وقد حسبوا تركته بعد موته فوجدوها كما يذكر الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية قد بلغت تسعة وخمسين ألف ألف وثمانمائة ألف (أي تسعة وخمسين مليونا وثمانمائة ألف ) منها ألفا ألف ومائتي ألف ديونا كانت عليه، معنى هذا أن صافي تركه الزبير رحمه الله بلغت سبعة وخمسين مليونا وستمائة ألف درهم، فكيف نفسر ملكيته لهذا المبلغ مع وجود ديون بلغت مليونين ومائتي ألف؟
إن الجواب على هذا نجده فيما ذكره البخاري في صحيحه حيث قال( إنما كان دينه الذي عليه أن الرجل كان يأتيه بالمال فيستودعه إياه فيقول الزبير: لا، ولكنه سلف فإني أخشى عليه الضيعة).
فالذين جاءوا بالمال أرادوا أن يكون وديعة ولكن الزبير أراده أن يكون قرضا، والفرق بينهما واضح: فالوديعة لا يضمنها المودَع لأن يده يد أمانة لا تضمن إلا بالتفريط أو التعدي، ولكن القرض يقع ضمانه على المقترض، ويقابل ذلك حقه في الاستفادة من هذا المال المقترض.
وقد يلي الرجل أموالا ليتامى فيرى أن مصلحتهم إقراضها لغني حفظا لها كما لو أراد أن ينقلها من بلد إلى آخر، ورأى أن إقراضها لغني ليقضيه في هذا البلد الآخر يجنبها مخاطر النقل فيشرع له ذلك.
فالأصل في القرض أنه عقد إرفاق وأن النفع فيه للمقترض، ولكنه قد يخرج عن هذا الأصل فتأمل.
قد يعمد بعض أهل الدين والصلاح ممن يتعاملون مع المصارف إلى إيداع أموالهم في الحسابات الجارية إيداعا غير ربوي فرارا من أخذ الفوائد الربوية، ويرون في ذلك حلا وسطا يمكنهم من الإفادة من خدمات المصارف ويجنبهم شرورها وآثامها.
لا تبرأ الذمة بذلك ولا يخرج بها أصحابها من العهدة ما لم تلجئ إليها ضرورة أو تحمل عليها حاجة ماسة ، وذلك لما يلي:
1-التعاون على الإثم والعدوان؛ لما فيه من إعانة مؤكلي الربا وإقدارهم على تثبيت أنشطتهم الربوية، لأن البنوك لا تحتفظ بهذه الودائع في خزائن حديدية لتردها على أصحابها عند الاقتضاء، بل تخلطها بأموالها وتنشئ بها القروض الربوية وتستقل وحدها بفوائدها الربوية خالصة لها من دون الآثمين!
2- إن البنوك لا تكتفي بعقد قروض في حدود ما يودع لديها من أموال فحسب، بل تلجأ إلى ما يسمى بخلق النقود وهي آلية ربوية يتمكن بها البنك من أن يعقد قروضا ربوية يفوق حجمها حجم الودائع الأصلية المودعة عنده عدة مرات، ولقد ضبط أحد الاقتصاديين العلاقة التي تحكم الحجم الكلي للودائع بالنسبة للوديعة الأصلية في هذا القانون
الحجم الكلي للودائع = الوديعة الأصلية مقلوب نسبة الاحتياطي
وهذا يعني أن البنك إذا كان يحتفظ بنسبة 20% مما يودع لديه من أموال لمواجهة طلبات الصرف الطارئة، فإن معني ذلك أنه يستطيع أن يعقد من القروض الربوية ما يساوي خمسة أضعاف الودائع الربوية الموجدة فعلا في خزائنه، فالودائع النقدية التي يدفع بها إلى المصارف تمثل بالنسبة لأنشطتها الإقراضية الربوية شريان الحياة الذي بدونه تلفظ أنفاسها وتغلق أبوابها أو تكاد.