ج2: لقد ورد سؤال إلى المفتي رحمه الله عن حكم السدل والقبض في الصلاة فصدر عليه الجواب التالي وفيه الكفاية: الأصل في هذا القول عند من قال به الكتاب والسنة (الجزء رقم : 6، الصفحة رقم: 355) والاستصحاب، أما الكتاب فقوله تعالى: قد أفلح المؤمنون (1) الذين هم في صلاتهم خاشعون وما جاء في معنى هذه الآية مما يدل على الخشوع في الصلاة، ووجه الدلالة أن قبض رسغ اليد اليسرى بكف اليد اليمنى والحركة المؤدية إلى ذلك بعد تكبيرة الإحرام مناف للخشوع فيكون ممنوعا والأقرب إلى الخشوع هو الإرسال فيكون مشروعا. والجواب عن هذا: أن تحريك اليدين إلى استقرار القبض وسيلة والغاية سنة - كما سيأتي - والوسائل لها حكم الغايات، وكون الغاية سنة ثابت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق التواتر فعند الترمذي وابن ماجه عن قبيصة بن هلب عن أبيه، قال الترمذي بعد إخراجه: حديث حسن، وعند مسلم في صحيحه وابن خزيمة في صحيحه عن وائل بن حجر ، وعند أحمد في (المسند) وابن عبد البر في (التمهيد) و(الاستذكار) عن غضيف بن الحارث ، وعند الدارقطني عن حذيفة بن اليمان ، وعن أبي الدرداء عند الدارقطني مرفوعا وابن أبي شيبة مرفوعا، وعند أحمد والدارقطني عن جابر ، وعند أبي داود عن عبد الله بن الزبير ، وعند البيهقي عن عائشة، وقال: صحيح، وعند الدارقطني والبيهقي عن أبي هريرة وعند أبي داود عن الحسن مرسلا، وعنده أيضا عن طاووس مرسلا، وعند البخاري في (الصحيح) وأحمد في (المسند) (الجزء رقم : 6، الصفحة رقم: 356) عن سهل بن سعد ، وعند أبي داود والنسائي وابن ماجه عن ابن مسعود ، قال ابن سيد الناس : رجاله رجال الصحيح. وقال الحافظ في (الفتح): إسناده حسن، وقال الترمذي في جامعه بعد سياقه لحديث قبيصة عن أبيه ما نصه: والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين من بعدهم: يرون أن يضع الرجل يمينه على شماله في الصلاة، ويرى بعضهم أن يضعها فوق السرة، ويرى بعضهم أن يضعها تحت السرة، وكل ذلك واسع عندهم. انتهى كلام الترمذي . أما السنة فإنهم استدلوا بالدليلين الآتيين: الأول: عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم دخل المسجد فدخل رجل فصلى ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فرد النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ارجع فصل فإنك لم تصل، ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ارجع فصل فإنك لم تصل، ثلاثا، فقال: والذي بعثك بالحق ما أحسن غيره فعلمني، قال: إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعا، ثم ارفع حتى تعتدل قائما، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها متفق عليه. وجه الدلالة أنه صلى الله عليه وسلم لم يبين له وضع اليمنى على اليسرى وهذا موضع البيان، وقد أجمع العلماء على أن تأخير البيان عن (الجزء رقم : 6، الصفحة رقم: 357) وقت الحاجة لا يجوز في حقه صلى الله عليه وسلم. والجواب على هذا من وجهين: الأول: ما سبق من الأدلة الدالة على مشروعية القبض، وهذا قدر زائد على حديث المسيء فيعمل به. الثاني: أن حديث المسيء غير وارد في محل النزاع، وتقرير ذلك: أن النزاع في الاستحباب لا في الوجوب فترك ذكره إنما هو حجة على القائل بالوجوب، وقد علم أن النبي صلى الله عليه وسلم اقتصر على ذكر الفرائض في هذا الحديث. ثانيا: عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: مالي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذناب خيل شمس؟ اسكنوا في الصلاة رواه مسلم في (الصحيح) وأبو داود في السنن. ووجه الدلالة: أنه صلى الله عليه وسلم أنكر على أصحابه رضي الله عنهم رفع أيديهم، وأمرهم بالسكون في الصلاة وأمره يقتضي الوجوب، وقبض الشمال باليمين بعد تكبيرة الإحرام مخالف للسكون. والأمر بالشيء نهي عن ضده، ففيه نهي عن القبض، والنهي إذا تجرد عن القرائن اقتضى التحريم. (الجزء رقم : 6، الصفحة رقم: 358) والجواب على هذا من وجوه ستة: الأول: ما سبق من الجواب عند الآية. الثاني: ما سبق من الوجه الأول من الجواب على حديث المسيء. الثالث: أن هذا الحديث ورد على سبب خاص؛ فعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: كنا إذا صلينا مع النبي صلى الله عليه وسلم قلنا: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله، وأشار بيده إلى الجانبين، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: علام تومؤن بأيديكم كأنها أذناب خيل شمس؟ اسكنوا في الصلاة، إنما يكفي أحدكم أن يضع يديه على فخذيه ثم يسلم على أخيه من عن يمينه ومن عن شماله رواه مسلم. وإذا تقرر أنه وارد على سبب خاص فالقاعدة المقررة في علم الأصول في هذا الباب: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولكن ورد ما يدل على عدم تناول هذا العموم لمسألة قبض الشمال باليمين، وإذا تعارض عام وخاص أخرج الخاص من العام؛ لأن تناول الخاص لمدلوله أقوى من تناول العام لهذا المدلول (الجزء رقم : 6، الصفحة رقم: 359) وقد اجتمع في هذا الخصوص قوله صلى الله عليه وسلم وفعله وتقريره. الرابع: أن أدلة القبض متواترة فتقدم. الخامس: إذا ورد دليل عام وأجمع الصحابة على خلافه أو خلاف بعض مدلوله علمنا أنهم لم يجمعوا إلا على أساس مستند اقتضى ذلك، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تجتمع أمتي على ضلالة ، وهذا الحديث متواتر معنى فإنه ورد من طرق كثيرة عن كثير من الصحابة بألفاظ مختلفة ترجع إلى معنى هذا اللفظ الذي ذكرناه، وبناء على ذلك فقد سبق نقل الإجماع عن الترمذي في هذه المسألة، وحكى الحافظ ابن حجر عن ابن عبد البر أنه قال: لم يأت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه خلاف، والذي حكاه ابن حجر عن ابن عبد البر هو قوله: وهو أمر مجمع عليه في هيئة وضع اليدين إحداهما على الأخرى؛ فعلم بذلك عدم تناول العموم له. السادس: أن معنى الرفع في اللغة لا يصدق على مسمى الوضع، قال أحمد بن فارس في (معجم مقاييس اللغة) في مادة (رفع): الراء والفاء والعين أصل واحد يدل على خلاف الوضع، وتقول: رفعت الشيء رفعا، وقال أيضا في مادة: (الوضع) الواو (الجزء رقم : 6، الصفحة رقم: 360) والضاد والعين أصل واحد يدل على الخفض للشيء وحمله. انتهى. وهذا المعنى في (اللسان) و(القاموس) وغيرهما من كتب اللغة، إذا تقرر ذلك بطل الاستدلال بقوله صلى الله عليه وسلم: مالي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذناب خيل شمس ، فإن الأدلة جاءت بالوضع لا بالرفع، أما الاستصحاب فهو أن الأصل هو الإرسال كحالة الإنسان قبل الدخول في الصلاة كذلك إذا دخل في الصلاة. والجواب: أن هذا الأصل مسلم لو سلم من المعارض، وتقرير ذلك: أن الاستصحاب إنما يستدل به في حالة عدم ما يعارضه وقد عورض هنا بأدلة الوضع فتكون رافعة له. إذا علمت ما سبق فإننا نبين لك من علمنا أنه قال بالإرسال، قال النووي في (المجموع شرح المهذب): حكى ابن المنذر عن عبد الله بن الزبير والحسن البصري والنخعي أنه يرسل يديه ولا يضع إحداهما على الأخرى، وحكاه القاضي أبو الطيب عن ابن سيرين ، قال الليث بن سعد: يرسلهما، فإن طال ذلك عليه وضع اليمنى على اليسرى للاستراحة، ويروي ابن عبد الحكم عن مالك الوضع، وروى عنه ابن القاسم الإرسال وهو الأشهر، وعليه جميع أهل المغرب من أصحابه أو جمهورهم، قال ابن القيم في (إعلام الموقعين) بعد ذكر أحاديث وضع اليدين في الصلاة ما لفظه: (فردت هذه الآثار برواية ابن القاسم عن مالك )، قال: (الجزء رقم : 6، الصفحة رقم: 361) (تركه أحب إلي ولا أعلم شيئا قط ردت به سواه) انتهى. وقال سليمان بن خلف الباجي في كتابه (المنتقى شرح الموطأ): وقد اختلف الرواة عن مالك في وضع اليمنى على اليسرى فروى أشهب عن مالك أنه قال: لا بأس بذلك في النافلة والفريضة، وروى مطرف وابن الماجشون عن مالك أنه استحسنه، وروى العراقيون عن أصحابنا عن مالك في ذلك روايتين: إحداهما الاستحسان، والثانية المنع، وروى ابن القاسم عن مالك : لا بأس بذلك في النافلة وكرهه في الفريضة، وقال القاضي أبو محمد : ليس هذا من باب وضع اليمنى على اليسرى، وإنما هو من باب الاعتماد، والذي قاله هو الصواب، فإن وضع اليمنى على اليسرى إنما اختلف فيه: (هل هو من هيئة الصلاة أم لا؟ ليس فيه اعتماد فيفرق فيه بين النافلة والفريضة)، ثم قال: (إنما منع الوضع على سبيل الاعتماد، ومن حمل منع مالك على هذا الوضع اعتل بذلك لئلا يلحقه أهل الجهل بأفعال الصلاة المعتبرة في صحتها) انتهى. فتبين لك مما سبق أن الإرسال ليس بسنة، وإنما السنة القبض، ولا اعتبار لقول أحد مع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعله وتقريره. (الجزء رقم : 6، الصفحة رقم: 362) وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو عضو نائب رئيس اللجنة عبد الله بن منيع عبد الله بن غديان عبد الرزاق عفيفي