قال مقاتل: هذه السورة مدنية إلا آيتين من آخر السورة . قال سعيد بن جبير: قلت لابن عباس: سورة التوبة؟ قال : هي الفاضحة مازالت تنزل: ومنهم، ومنهم حتى ظنوا أنها لم تبق أحدا منهم إلا ذكر فيها، قال: قلت سورة الأنفال؟ قال: تلك سورة بدر، قال: قلت: سورة الحشر؟ قال: قل سورة بنى النضير . أخبرنا أبو سعيد أحمد بن إبراهيم الشريحي، أنا أبو إسحاق أحمد بن محمد إبراهيم الثعلبي، أنبأنا أبو الحسن علي بن محمد بن الحسين الجرجاني، أنبأنا أبو أحمد عبد الله بن عدي الحافظ، أنبأنا أحمد بن علي بن المثنى، حدثنا عبيد الله القواريري، حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا عوف بن أبي جميلة الأعرابي، حدثني يزيد الفارسي، حدثني ابن عباس رضي الله عنهما قال: قلت لعثمان بن عفان رضى الله عنه: ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهى من المثاني، وإلى براءة، وهى من المئين، فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتموها في السبع الطوال؟. فقال عثمان: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مما يأتي عليه الزمان، وهو ينزل عليه السور ذوات العدد، فإذا نزل عليه الشيء يدعو بعض من يكتب عنده، فيقول: ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وكانت الأنفال مما نزل بالمدينة، وكانت براءة من آخر ما نزل، وكانت قصتها شبيهة بقصتها، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها، فمن ثم قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم، ووضعتها في السبع الطوال. 1-قوله تعالى: "براءة من الله ورسوله"، أي: هذه براءة من الله. وهي مصدر كالنشاءة والدناءة. قال المفسرون: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، كان المنافقون يرجفون الأراجيف وجعل المشركون ينقضون عهودا كانت بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر الله عز وجل بنقض عهودهم، وذلك قوله عز وجل: "وإما تخافن من قوم خيانة" الآية ( الأنفال-58). قال الزجاج: براءة أي: قد برئ الله تعالى ورسوله من إعطائهم العهود والوفاء لهم بها إذا نكثوا. "إلى الذين عاهدتم من المشركين"، الخطاب مع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم هو الذى عاهدهم وعاقدهم، لأنه عاهدهم وأصحابه راضون بذلك، فكأنهم عاقدوا وعاهدوا.
2-"فسيحوا في الأرض"، رجع من الخبر إلى الخطاب، أي: قل لهم: سيحوا، أي سيروا في الأرض، مقبلين ومدبرين، آمنين غير خائفين أحدا من المسلمين. "أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله"، أي: غير فائتين ولا سابقين، "وأن الله مخزي الكافرين"، أي: مذلهم بالقتل في الدنيا والعذاب في الآخرة. واختلف العلماء في هذا التأجيل وفي هؤلاء الذي برئ الله ورسوله إليهم من العهود التي كانت بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم : فقال جماعة: هذا تأجيل من الله تعالى للمشركين، فمن كانت مدة عهده أقل من أربعة أشهر: رفعه إلى أربعة أشهر، ومن كانت مدة عهده أكثر من أربعة أشهر: حطه إلى أربعة أشهر، ومن كانت مدة عهده بغير أجل محدود: حده بأربعة أشهر، ثم هو حرب بعد ذلك لله ورسوله، فيقتل حيث أدرك ويؤسر إلا أن يتوب. وابتداء هذا الأجل: يوم الحج الأكبر، وانقضاؤه إلى عشر من شهر ربيع الآخر. فأما من لم يكن له عهد فإنما أجله انسلاخ الأشهر الحرم، وذلك خمسون يوما. وقال الزهري: الأشهر الأربعة شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم، لأن هذه الآية نزلت في شوال، والأول هو الأصوب وعليه الأكثرون . وقال الكلبي: إنما كانت الأربعة الأشهر لمن كان له عهد دون أربعة أشهر، فأتم له أربعة أشهر، فأما من كان له عهد أكثر من أربعة أشهر فهذا أمر بإتمام عهده بقوله تعالى: "فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم". قال الحسن: أمر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم بقتال من قاتله من المشركين، فقال: "قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم "، فكان لا يقاتل إلا من قاتله، ثم أمره بقتال المشركين، والبراءة منهم، وأجلهم أربعة أشهر، فلم يكن لأحد منهم أجل أكثر من أربعة أشهر، لا من كان له عهد قبل البراءة ولا من لم يكن له عهد، فكان الأجل لجميعهم أربعة أشهر، وأحل دماء جميعهم من أهل العهد وغيرهم بعد انقضاء الأجل. وقيل: نزلت هذه قبل تبوك . قال محمد بن إسحاق و مجاهد وغيرهما: نزلت في أهل مكة، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاهد قريشا عام الحديبية على: أن يضعوا الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس، ودخلت خزاعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ،ودخل بنو بكر في عهد قريش، ثم عدت بنو بكر على خزاعة فنالت منها، وأعانتهم قريش بالسلاح، فلما تظاهر بنو بكر وقريش على خزاعة ونقضوا عهدهم خرج عمرو بن سالم الخزاعي حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: لا هم إني ناشد محمــــــدا حلف أبينا وأبيه الأتلــدا فانصــر هداك الله نـصــرا وادع عباد الله يأتوا مـددا أبيض مثل الشمس يسمو صعـدا إن سيم خسفا وجهه تربـدا هم بيــتونا بالهجـير هجــدا وقتلونا ركعا وسجـــدا كنت لنا أبا وكــنا ولـــدا ثمت أسلمنا ولم ننزع يــدا فيهم رسول الله قد تجــــردا في فيلق كالبحر يجري مزبدا إن قريشا أخلفــوك الموعــدا ونقضوا ميثاقك المؤكــدا وزعموا أن لست تنـجي أحــدا وهم أذل وأقل عـــددا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا نصرت إن لم أنصركم"، وتجهز إلى مكة سنة ثمان من الهجرة. فلما كان سنة تسع أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحج، ثم قال: إنه يحضر المشركون فيطوفون عراة، فبعث أبا بكر تلك السنة أميرا على الموسم ليقيم للناس الحج، وبعث معه بأربعين آية من صدر براءة ليقرأها على أهل الموسم، ثم بعث بعده عليا، كرم الله وجهه، على ناقته العضباء ليقرأ على الناس صدر براءة، وأمره أن يؤذن بمكة ومنى وعرفة: أن قد برئت ذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم من كل مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان. فرجع أبو بكر فقال: يا رسول الله بأبي أنت وأمي أنزل في شأني شيء؟ قال: لا، ولكن لا ينبغي لأحد أن يبلغ هذا إلا رجل من أهلي، أما ترضى يا أبا بكر أنك كنت معي في الغار وأنك صاحبي على الحوض؟ قال: بلى يا رسول الله. فسار أبو بكر رضي الله عنه أميرا على الحج، وعلي رضي الله عنه ليؤذن ببراءة، فلما كان قبل يوم التوبة بيوم خطب أبو بكر الناس وحدثهم عن مناسكهم، وأقام للناس الحج، والعرب في تلك السنة على منازلهم التي كانوا عليها في الجاهلية من الحج، حتى إذا كان يوم النحر قام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، فأذن في الناس بالذي أمر به، وقرأ عليهم سورة براءة. وقال زيد بن يثيع سألنا علي بأي شيء بعثت في تلك الحجة؟ قال: بعثت بأربع: لا يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد فهو إلى مدته، ومن لم يكن له عهد فأجله أربعة أشهر، ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ولا يجتمع المشركون والمسلمون بعد عامهم هذا. ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم سنة عشر حجة الوداع. فإن قال قائل: كيف بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه ثم عزله وبعث عليا رضي الله عنه؟. قلنا: ذكر العلماء أن رسول الله لم يعزل أبا باكر رضي الله عنه، وكان هو الأمير، وإنما بعث عليا رضي الله عنه لينادي بهذه الآيات، وكان السبب فيه: أن العرب تعارفوا فيما بينهم في عقد العهود ونقضها، لأن لا يتولى ذلك إلا سيدهم، أو رجل من رهطه، فبعث عليا رضي الله عنه إزاحة للعلة، لئلا يقولوا: هذا خلاف ما نعرفه فينافي نقض العهد. والدليل على أن أبا بكر رضي الله عنه كان هو الأمير: ما أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، حدثنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا إسحاق، حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن أخي ابن شهاب، عن عمه، أخبرني حميد بن عبد الرحمن أن أبا هريرة قال: بعثني أبو بكر رضي الله عنه فى تلك الحجة في مؤذنين يوم النحر نؤذن بمنى: ألا لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان. وقال حميد بن عبد الرحمن: ثم أردف رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا فأمره أن يؤذن ببراءة. قال أبو هريرة فأذن معنا علي في أهل منى يوم النحر: ألا لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان.
3-قوله عز وجل: "وأذان" عطف على قوله: "براءة" أي: إعلام. ومنه الأذان بالصلاة، يقال: آذنته فأذن، أي: أعلمته. وأصله من الأذان، أي: أوقعته في أذنه. "من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر" واختلفوا في يوم الحج الأكبر: روى عكرمه عن ابن عباس: أنه يوم عرفة، وروي ذلك عن عمر بن الخطاب وابن الزبير. وهو قول عطاء و طاووس و مجاهد و سعيد بن المسيب. وقال جماعة: هو يوم النحر، روي عن يحيى بن الجزار وقال: خرج علي رضي الله عنه يوم النحر على بغلة بيضاء، يريد الجبانة، فجاءه رجل وأخذ بلجام دابته وسأله عن يوم الحج الأكبر؟ فقال: يومك هذا، خل سبيلها. ويروى ذلك عن عبد الله بن أبي أوفى والمغيرة بن شعبة. وهو قول الشعبي والنخعي وسعيد بن جبير والسدي. وروى ابن جريح عن مجاهد: يوم الحج الأكبر حين الحج أيام منى كلها، وكان سفيان الثوري يقول: يوم الحج الأكبر أيام منى كلها، مثل: يوم صفين ويوم الجمل ويوم بعاث، يراد به: الحين والزمان، لأن هذه الحروب دامت أياما كثيرة. وقال عبد الله بن الحارث بن نوفل: يوم الحج الأكبر اليوم الذى حج فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهو قول ابن سيرين، لأنه اجتمع فيه حج المسلمين وعيد اليهود والنصارى والمشركين، ولم يجتمع فبله ولا بعده. واختلفوا في الحج الأكبر: فقال مجاهد: الحج الأكبر: القران، والحج الأصغر: إفراد الحج. وقال الزهري و الشعبي وعطاء: الحج الأكبر: الحج، والحج الأصغر: العمرة،قيل لها الأصغر لنقصان أعمالها. قوله تعالى"أن الله بريء من المشركين ورسوله"، أي: ورسوله أيضا برئ من المشركين. وقرأ يعقوب "ورسوله" بنصب اللام أي: أن الله ورسوله بريء، "فإن تبتم": رجعتم من كفركم وأخلصتم التوحيد،" فهو خير لكم وإن توليتم ": أعرضتم عن الإيمان،" فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم ".
4-"إلا الذين عاهدتم من المشركين"، هذا استثناء من قوله: "براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين" إلا من عهد الذين عاهدتم من المشركين، وهم بنو ضمرة، حي من كنانة، أمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم بإتمام عهدهم إلى مدتهم، وكان قد بقي من مدتهم تسعة أشهر، وكان السبب فيه: أنهم لم ينقضوا العهد، وهذا معنى قوله تعالى: "ثم لم ينقصوكم شيئا"، من عهدهم الذى عاهدتموهم عليه، "ولم يظاهروا"، ولم يعاونوا، "عليكم أحدا"، من عدوكم. وقرأعطاء بن يسار: " لم ينقصوكم " بالضاد المعجمة من نقض العهد، "فأتموا إليهم عهدهم"، فأوفوا لهم بعهدهم، "إلى مدتهم"، إلى أجلهم الذى عاهدتموهم عليه، "إن الله يحب المتقين".
5-قوله تعالى "فإذا انسلخ"، انقضى ومضى "الأشهر الحرم"، قيل: هي الأشهر الأربعة: رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم. وقال مجاهد وابن إسحاق: هي شهور العهد، فمن كان له عهد فعهده أربعة أشهر، ومن لا عهد له: فأجله إلى انقضاء المحرم خمسون يوما، وقيل لها حرم لأن الله تعالى حرم فيها على المؤمنين دماء المشركين والتعرض لهم. فإن قيل: هذا القدر بعض الأشهر الحرم والله تعالى يقول: "فإذا انسلخ الأشهر الحرم"؟. قيل: لما كان هذا القدر متصلا بما مضى أطلق عليه اسم الجمع، ومعناه: مضت المدة المضروبة التي يكون معها انسلاخ الأشهر الحرم. وقوله تعالى: "فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم"، في الحل والحرم، "وخذوهم"، وأسروهم، "واحصروهم"، أي: احبسوهم. قال ابن عباس رضي الله عنه: يريد إن تحصنوا فاحصروهم، أي: امنعوهم من الخروج. وقيل: امنعوهم من دخول مكة والتصرف في بلاد الإسلام. "واقعدوا لهم كل مرصد"، أي: على كل طريق، والمرصد: الموضع الذى يرقب فيه العدو، من رصدت الشيء أرصده: إذا ترقبته، يريد: كونوا لهم رصدا لتأخذوهم من أي وجه توجهوا. وقيل: اقعدوا لهم بطريق مكة، حتى لا يدخلوها. "فإن تابوا"، من الشرك، "وأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم"، يقول: دعوهم فليتصرفوا في أمصارهم ويدخلوا مكة، "إن الله غفور"، لمن تاب، "رحيم"به. وقالالحسين بن الفضل: هذه الآية نسخت كل آية في القرآن فيها ذكر الإعراض والصبر على أذى الأعداء.
6-قوله تعالى: "وإن أحد من المشركين استجارك"، أي: وإن استجارك من المشركين الذين أمرتك بقتالهم وقتلهم، أي: استأمنك بعد انسلاخ الأشهر الحرم ليسمع كلام الله. "فأجره"، فأعذه وأمنه، "حتى يسمع كلام الله"، فيما له وعليه من الثواب والعقاب، "ثم أبلغه مأمنه"، أي: إن لم يسلم أبلغه مأمنه، أي: الموضع الذي يأمن فيه هو دار قومه، فإن قاتلك بعد ذلك فقدرت عليه فاقتله، "ذلك بأنهم قوم لا يعلمون"، أي: لا يعلمون دين الله تعالى وتوحيده فهم محتاجون إلى سماع كلام الله. قال الحسن: وهذه الآية محكمة إلى يوم القيامة.
7-قوله تعالى: "كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله"، هذا على وجه التعجب، ومعناه جحد، أي: لا يكون لهم عند الله ولا عند رسوله، وهم يغدرون وينقضون العهد، ثم استثنى فقال جل وعلا: " إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام "، قال ابن عباس: هم قريش. وقال قتادة :هم أهل مكة الذين عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية. قال الله تعالى: "فما استقاموا لكم"، أي: على العهد، "فاستقيموا لهم"، فلم يستقيموا، ونقضوا العهد، وأعانوا بني بكر على خزاعة، فضرب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الفتح أربعة أشهر يختارون من أمرهم: إما أن يسلموا، وإما أن يلحقوا بأي بلاد شاؤوا، فأسلموا قبل الأربعة الأشهر. قال السدي والكلبي و ابن إسحاق: هم من قبائل بكر: بنو خزيمة وبنو مدلج وبنو ضمرة وبنو الديل، وهم الذين كانوا قد دخلوا في عهد قريش يوم الحديبية، ولم يكن نقض العهد إلا قريش وبنو الديل من بني بكر، فأمر بإتمام العهد لمن لم ينقض وهم بنو ضمرة. وهذا القول أقرب إلى الصواب، لأن هذه الآيات نزلت بعد نقض قريش العهد وبعد فتح مكة، فكيف يقول لشيء قد مضى: "فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم"؟ وإنما هم الذين قال عز وجل: " إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا " كما نقصتكم قريش، ولم يظاهروا عليكم أحدا كما ظاهرت قريش بني بكر على خزاعة حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم. " إن الله يحب المتقين ".
8-قوله تعالى: "كيف وإن يظهروا عليكم"، هذا مردود على الآية الأولى تقديره: كيف يكون لهم عهد عند الله كيف وإن يظهروا عليكم! " لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة "، قال الأخفش: كيف لا تقتلونهم وهم إن يظهروا عليكم أي: يظفروا بكم، لا يرقبوا: لا يحفظوا؟ وقال الضحاك: لا ينتظروا. وقال قطرب: لا يراعوا فيكم إلاً. قال ابن عباس و الضحاك: قرابة. وقال يمان: رحما. وقال قتادة: الإل الحلف. وقال السدي: هو العهد. وكذلك الذمة، إلا أنه كرر لاختلاف اللفظين. وقال أبو مجلز و مجاهد: الإل هو الله عز وجل. وكان عبيد بن عمير يقرأ: جبر إل بالتشديد، يعني: عبد الله. وفي الخبر أن ناسا قدموا على أبي بكر من قوم مسيلمة الكذاب، فاستقرأهم أبو بكر كتاب مسيلمة فقرأوا، فقال أبو بكر رضي الله عنه: إن هذا الكلام لم يخرج من إل، أي: من الله. والدليل على هذا التأويل قراءة عكرمة " لا يرقبون في مؤمن إلا " بالياء، يعني: الله عز وجل. مثل جبرائيل وميكائيل. ولا ذمة أي: عهدا. "يرضونكم بأفواههم"، أي: يعطونكم بألسنتهم خلاف ما في قلوبهم، "وتأبى قلوبهم"، الإيمان، "وأكثرهم فاسقون". فإن قيل: هذا في المشركين وكلهم فاسقون فكيف قال: " وأكثرهم فاسقون "؟ قيل: أراد بالفسق: نقض العهد، وكان في المشركين من وفى بعهده، وأكثرهم نقضوا، فلهذا قال: "وأكثرهم فاسقون ".
9-" اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً "، وذلك أنهم نقضوا العهد الذي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم بأكلة أطعمهم إياها أبو سفيان. قال مجاهد : أطعم أبو سفيان حلفاءه، " فصدوا عن سبيله "، فمنعوا الناس من الدخول في دين الله. وقال ابن عباس رضي الله عنه: وذلك أن أهل الطائف أمدوهم بالأموال ليقووهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، " إنهم ساء " بئس " ما كانوا يعملون ".
10-" لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمةً "، يقول: لا تبقوا عليهم أيها المؤمنون كما لا يبقون عليكم لو ظهروا، " وأولئك هم المعتدون "، بنقض العهد.
11-" فإن تابوا "، من الشرك، " وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم " أي: فهم إخوانكم، " في الدين "، لهم ما لكم وعليهم ما عليكم، " ونفصل الآيات " ونبين الآيات " لقوم يعلمون "، قال ابن عباس: حرمت هذه الآية دماء أهل القبلة. قال ابن مسعود : أمرتهم بالصلاة والزكاة فمن لم يزك فلا صلاة له. أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع ، حدثنا شعيب بن أبي حمزة عن الزهري ، حدثنا عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أبو بكر رضي الله عنه بعده، وكفر من كفر من العرب، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأبي بكر : كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله "؟ فقال أبو بكر : والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها. قال عمر رضي الله عنه: فوالله ما هو إلا أن قد شرح صدر أبي بكر للقتال، فعرفت أنه الحق. أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنبأنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا عمرو بن عباس، حدثنا ابن المهدي، حدثنا منصور بن سعد عن ميمون بن سياه عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا: فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله".
12-قوله تعالى: "وإن نكثوا أيمانهم"، نقضوا عهودهم، "من بعد عهدهم"، عقدهم، يعني: مشركي قريش، "وطعنوا"، قدحوا "في دينكم" عابوه. فهذا دليل على أن الذمي إذا طعن في دين الإسلام ظاهرا لا يبقى له عهد، "فقاتلوا أئمة الكفر"، قرأ أهل الكوفة والشام: "أئمة" بهمزتين حيث كان، وقرأ الباقون بتليين الهمزة الثانية. وأئمة الكفر: رؤوس المشركين وقادتهم من أهل مكة. قال ابن عباس: نزلت في أبي سفيان بن حرب، و أبي جهل بن هشام، و سهيل بن عمرو، و عكرمة بن أبي جهل، وسائر رؤساء قريش يومئذ الذين نقضوا العهد، وهم الذين هموا بإخراج الرسول وقال مجاهد: هم أهل فارس والروم. وقال حذيفة بن اليمان: ما قوتل أهل هذه الآية ولم يأت أهلها بعد "إنهم لا أيمان لهم"، أي: لا عهود لهم: جمع يمين: قال قطرب: لا وفاء لهم بالعهد. وقرأ ابن عامر: " لا أيمان لهم " بكسر الألف، أي: لا تصديق لهم ولا دين لهم. وقيل: هو من الأمان، أي لا تؤمنوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم، "لعلهم ينتهون"، أي: لكي ينتهوا عن الطعن في دينكم والمظاهرة عليكم. وقيل:عن الكفر، ثم حض المسلمين على القتال
13-فقال جل ذكره: " ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم "، نقضوا عهودهم، وهم الذين نقضوا عهد الصلح بالحديبية وأعانوا بني بكر على قتال خزاعة. "وهموا بإخراج الرسول"، من مكة حين اجتمعوا في دار الندوة، " وهم بدؤوكم "، بالقتال، "أول مرة"، يعنى: يوم بدر، وذلك أنهم قالوا حين سلم العير: لا ننصرف حتى نستأصل محمدا وأصحابه. وقال جماعة من المفسرين: أراد أنهم بدأوا بقتال خزاعة حلفاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. "أتخشونهم "، أتخافونهم فتتركون قتالهم؟ "فالله أحق أن تخشوه"، في ترك قتالهم، "إن كنتم مؤمنين".
14-"قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم"، يقتلهم الله بأيديكم، "ويخزهم"، ويذلهم بالأسر والقهر، "وينصركم عليهم ويشف صدور قوم"، ويبرئ داء قلوب قوم، "مؤمنين"، مما كانوا ينالونه من الأذى منهم. وقال مجاهد و السدي: أراد صدور خزاعة حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أعانت قريش بني بكر عليهم، حتى نكأوا فيهم فشفى الله صدورهم من بني بكر بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالمؤمنين.
15-"ويذهب غيظ قلوبهم"، كربها ووجدها بمعونة قريش بكرا عليهم، ثم قال مستأنفاً: "ويتوب الله على من يشاء"، فيهديه إلى الإسلام كما فعل بأبي سفيان وعكرمة بن أبي جهل و سهيل بن عمرو، "والله عليم حكيم" وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة: "ارفعوا السيف إلا خزاعة من بني بكر إلى العصر".
16-قوله تعالى: "أم حسبتم"، أظننتم "أن تتركوا"، قيل: هذا خطاب للمنافقين. وقيل: للمؤمنين الذين شق عليهم القتال. فقال: أم حسبتم أن تتركوا فلا تؤمروا بالجهاد، ولا تمتحنوا، ليظهر الصادق من الكاذب، "ولما يعلم الله"، ولم ير الله "الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجةً"، بطانة وأولياء يوالونهم ويفشون إليهم أسرارهم. وقال قتادة: وليجة خيانة. وقال الضحاك: خديعة. وقال عطاء: أولياء. وقال أبو عبيدة: كل شيء أدخلته في شيئ ليس منه فهو وليجة، والرجل يكون في القوم وليس منهم وليجة. فوليجة الرجل: من يختص بدخيلة أمره دون الناس، يقال: هو وليجتي، وهم وليجتي، للواحد والجمع. "والله خبير بما تعملون".
17-قوله تعالى: "ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله" الآية. قال ابن عباس رضي الله عنهما: لما أسر العباس يوم بدر عيره المسلمون بالكفر وقطيعة الرحم، وأغلظ علي رضي الله عنه له القول. فقال العباس: مالكم تذكرون مساوينا ولا تذكرون محاسننا؟. فقال له علي رضي الله عنه: ألكم محاسن؟ فقال نعم: إنا لنعمر المسجد الحرام ونحجب الكعبة ونسقي الحاج، فأنزل الله عز وجل ردا على العباس: "ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله"، أي: ما ينبغي للمشركين أن يعمروا مساجد الله. أوجب على المسلمين منعهم من ذلك، لأن المساجد إنما تعمر لعابدة الله وحده، فمن كان كافرا بالله فليس من شأنه أن يعمرها. فذهب جماعة إلى أن المراد منه: العمارة المعروفة من بناء المساجد/ ومرمته عند الخراب فيمنع منه الكافر حتى لو أوصى به لا تمتثل. وحمل بعضهم العمارة هاهنا على دخول المسجد والقعود فيه. قال الحسن: ما كان للمشركين أن يتركوا فيكونوا أهل المسجد الحرام. قرأ ابن كثير وأهل البصرة: " مساجد الله " على التوحيد، وأراد به المسجد الحرام، لقوله تعالى:"وعمارة المسجد الحرام"، ولقوله تعالى "فلا يقربوا المسجد الحرام"، وقرأ الآخرون: "مساجد الله" بالجمع والمراد منه أيضا المسجد الحرام. قال الحسن: إنما قال مساجد لأنه قبلة المساجد كلها. قال الفراء: ربما ذهبت العرب بالواحد إلى الجمع وبالجمع إلى الواحد، ألا ترى أن الرجل يركب البرذون فيقول: أخذت في ركوب البراذين؟ ويقال: فلان كثير الدرهم والدينار، يريد الدراهم والدنانير؟. قوله تعالى: " شاهدين على أنفسهم بالكفر"، أراد: وهم شاهدون، فلما طرحت "وهم" نصبت، قال الحسن: لم يقولوا نحن كفار، ولكن كلامهم بالكفر شاهد عليهم بالكفر. وقال الضحاك عن ابن عباس: شهادتهم على أنفسهم بالكفر سجودهم للأصنام، وذلك أن كفار قريش كانوا نصبوا أصنامهم خارج البيت الحرام عند القواعد، وكانوا يطوفون بالبيت عراة، كلما طافوا شوطا سجدوا لأصنامهم، ولم يزدادوا بذلك من الله تعالى إلا بعدا. وقال السدي: شهادتهم على أنفسهم بالكفر هو أن النصراني يسأل من أنت؟ فيقول: أنا نصراني، واليهودي، يقول: أنا يهودي، ويقال للمشرك: ما دينك؟ فيقول: مشرك. قال الله تعالى: "أولئك حبطت أعمالهم"، لأنها لغير الله عز وجل، " وفي النار هم خالدون ". وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: معناه شاهدين على رسولهم بالكفر، لأنه ما في بطن إلا ولدته
18-ثم قال تعالى: " إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله " ولم يخف في الدين غير الله، ولم يترك أمر الله لخشية غيره، "فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين"، وعسى من الله واجب، أي: فأولئك هم المهتدون، والمهتدون هم المتمسكون بطاعة الله عز وجل التى تؤدي إلى الجنة. أخبرنا أبو عمرو محمد بن عبد الرحمن النسوي، حدثنا محمد بن الحسين الحيري، حدثنا محمد بن يعقوب، حدثنا أحمد بن الفرج الحجازي، حدثنا بقية، حدثنا أبو الحجاج، المهدي، عن عمرو بن الحارث، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إذا رأيتم الرجل يتعاهد المسجد فاشهدوا له بالإيمان فإن الله تعالى قال: "إنما يعمر مساجد الله، من آمن بالله واليوم الآخر"" أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنبأنا محمد بن يوسف، أنبأنا محمد بن إسماعيل، حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا محمد بن مطرف، عن يزيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له نزله من الجنة كلما غدا أو راح". أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنبأنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان، حدثنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني، حدثنا حميد بن زنجويه، حدثنا أبو عاصم، عن عبد الحميد بن جعفر، حدثني أبي عن محمود بن لبيد، أن عثمان بن عفان رضي الله عنه أراد بناء المسجد فكره الناس ذلك، وأحبوا أن يدعه، فقال عثمان: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:"من بنى لله مسجدا بنى الله له كهيئته في الجنة". وأخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي، أنا أبو طاهر الزيادي، أخبرنا محمد بن الحسين القطان، حدثنا علي بن الحسين الداربجردي، حدثنا أبو عاصم بهذا الإسناد، وقال: بنى الله له بينا في الجنة.
19-قوله عز وجل: "أجعلتم سقاية الحاج" الآية. أخبرنا أبو سعيد أحمد بن إبراهيم الشريحي، حدثنا أبو إسحاق أحمد بن محمدبن إبراهيم الثعلبي، حدثنا عبد الله بن حامد بن محمد الوزان، حدثنا أحمد بن محمد بن جعفر بن محمد بن عبيد الله المعافري، حدثنا أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني، حدثنا أبو توبة الربيع بن نافع الحلبي، حدثنا معاوية بن سلام، عن زيد بن سلام، عن أبي سلام، حدثنا النعمان بن بشير قال: كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رجل: ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد أن أسقي الحاج. وقال الآخر: ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد أن أعمر المسجد الحرام. وقال الآخر: الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتما، فزجرهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يوم الجمعة، ولكن إذا صليت دخلت فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما اختلفتم فيه، ففعل فأنزل الله عز وجل:"أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام"، إلى قوله: " والله لا يهدي القوم الظالمين ". وقال ابن عباس رضي الله عنهما: قال العباس حين أسر يوم بدر: لئن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد، لقد كنا نعمر المسجد الحرام، ونسقي الحاج، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وأخبر أن عمارتهم المسجد الحرام وقيامهم على السقاية لا ينفعهم مع الشرك بالله، والإيمان بالله والجهاد مع النبي صلى الله عليه وسلم خير مما هم عليه. وقال الحسن، والشعبي، ومحمد بن كعب القرظي، نزلت في علي بن أبي طالب، والعباس بن عبد المطلب، وطلحة بن شيبة، افتخروا فقال طلحة: أنا صاحب البيت بيدي مفتاحه، وقال العباس: أنا صاحب السقاية والقائم عليها، وقال علي: ما أدري ما تقولون لقد صليت إلى القبلة ستة أشهر قبل الناس وأنا صاحب الجهاد، فأنزل الله عز وجل هذه الآية: "أجعلتم سقاية الحاج". والسقاية: مصدر كالرعاية والحماية. قوله: "وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر"، فيه اختصار تقديره: أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كإيمان من آمن بالله وجهاد من جاهد في سبيل الله؟. وقيل: السقاية والعمارة بمعنى الساقي والعامر. وتقديره: أجعلتم ساقي الحاج وعامر المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله؟ وهذا كقوله تعالى: "والعاقبة للتقوى" أي: للمتقين، يدل عليه قراءة عبد الله بن الزبير وأبي بن كعب أجعلتم سقاة الحاج وعمرة المسجد الحرام على جمع الساقي والعامر. " كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين " أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثني إسحاق بن إبراهيم، حدثنا أبو أسامة، حدثنا يحيى بن مهلب، عن حسين، عن عكرمة عن ابن عباس رضى الله عنهما "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء إلى السقاية فاستسقى، فقال العباس: يا فضل اذهب إلى أمك فات رسول الله صلى الله عليه وسلم بشراب من عندها،/ فقال:اسقني، فقال: يا رسول الله إنهم يجعلون أيديهم فيه، قال:اسقني ، فشرب منه، ثم أتى زمزم وهم يسقون ويعملون فيها، فقال:اعملوا فإنكم على عمل صالح، ثم قال: لولا أن تغلبوا لنزلت حتى أضع الحبل على هذه، وأشار إلى عاتقه". أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، أنا عبد الغافر بن محمد، حدثنا محمد بن عيسى الجلودي حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، عن مسلم بن الحجاج، حدثني محمد بن منهال الضرير، حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا حميد الطويل عن بكر بن عبد الله المزني قال: " كنت جالسا مع ابن عباس عند الكعبة فأتاه أعرابي فقال: ما لي لا أرى بني عمكم يسقون العسل واللبن وأنتم تسقون النبيذ؟ أمن حاجة بكم؟ أم من بخل؟ فقال ابن عباس: الحمد لله ما بنا حاجة ولا بخل، قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته وخلفه أسامه فاستسقى، فأتيناه بإناء من نبيذ فشرب وسقى فضله أسامة، وقال:أ حسنتم وأجملتم كذا فاصنعوا ، فلا نريد تغيير ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم".
20-قوله تعالى: "الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة" فضيلة، "عند الله"، من الذين افتخروا بسقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام. "وأولئك هم الفائزون"، الناجون من النار.
21-" يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم ".
22-"خالدين فيها أبداً إن الله عنده أجر عظيم".
23-"يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء"، قال مجاهد: هذه الآية متصلة بما قبلها، نزلت في قصة العباس وطلحة وامتناعهما من الهجرة. وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: قال لما مر النبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة، فمنهم من يتعلق به أهله وولده، يقولون: ننشدك بالله أن لا تضيعنا. فيرق لهم فيقيم عليهم ويدع الهجرة، فأنزل الله عز وجل هذه الآية. وقال مقاتل: نزلت في التسعة الذين ارتدوا عن الإسلام ولحقوا بمكة، فنهى الله عنه ولايتهم، فأنزل الله: "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء" بطانة وأصدقاء فتفشون إليهم أسراركم وتؤرثون المقام معهم على الهجرة، "إن استحبوا"، اختاروا "الكفر على الإيمان، ومن يتولهم منكم"، فيطلعهم على عورة المسلمين ويؤثر المقام معهم على الهجرة والجهاد، "فأولئك هم الظالمون"، وكان في ذلك الوقت لا يقيل الإيمان إلا من مهاجر، فهذا معنى قوله: "فأولئك هم الظالمون".
24-ثم قال تعالى: "قل" يا محمد للمتخلفين عن الهجرة: "إن كان آباؤكم"، وذلك أنه لما نزلت الآية الأولى قال الذين أسلموا ولم يهاجروا: إن نحن هاجرنا ضاعت أموالنا وذهبت تجاراتنا وخربت دورنا وقطعنا أرحامنا، فنزل: "قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم"، قرأأبو بكر عن عاصم: عشيراتكم بالألف عل الجمع، والآخرون بلا ألف على التوحيد، لأن جمع العشيرة عشائر: "وأموال اقترفتموها" اكتسبتموها "وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها"، أي: تستطيبونها يعنى القصور والمنازل، "أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا"، فانتظروا، "حتى يأتي الله بأمره"، قال عطاء: بقضائه. وقال مجاهد ومقاتل: بفتح مكة وهذا أمر تهديد، "والله لا يهدي" لا يوفق ولا يرشد "القوم الفاسقين"، الخارجين عن الطاعة.
25-قوله تعالى: "لقد نصركم الله في مواطن"، أي مشاهد، "كثيرة ويوم حنين"، وحنين واد بين مكة والطائف. وقال عروة: إلى جنب ذي المجاز. وكانت قصة حنين على ما نقله الرواة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة وقد بقيت عليه أيام من شهر رمضان، ثم خرج إلى حنين لقتال هوزان وثقيف في اثنى عشر ألفا، عشرة آلاف من المهاجرين وألفان من الطلقاء، قال عطاء كانوا ستة عشر ألفا. وقال الكلبي: كانوا عشرة آلاف، وكانوا يومئذ أكثر ما كانوا قط، والمشركون أربعة آلاف من هوزان وثقيف، وعلى هوزان مالك بن عوف النصري، وعلى ثقيف كنانة بن عبد ياليل الثقفي، فلما التقى الجمعان قال رجل من الأنصار يقال له سلمة بن سلامة بن وقش: لن نغلب اليوم على قلة، فساء رسول الله صلى الله عليه وسلم كلامه، ووكلوا إلى كلمة الرجل. وفى رواية: فلم يرض الله قوله، ووكلهم إلى أنفسهم فاقتتلوا قتالا شديدا، فانهزم المشركون وخلوا عن الذراري، ثم نادوا: يا حماة السواد اذكروا الفضائح، فتراجعوا وانكشف المسلمون. قال قتادة: وذكر لنا أن الطلقاء انجفلوا يومئذ بالناس فلما انجفل القوم هربوا. أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، أخبرنا عبد العزيز أخبرنا عبد الغافر بن محمد، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، حدثنا مسلم بن الحجاج، حدثنا يحيى بن يحيى، أخبرنا أبو خثيمة عن أبي إسحاق قال: قال رجل للبراء بن عازب: يا أبا عمارة فررتم يوم حنين؟ قال: ولا والله ما ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه خرج شبان أصحابه وأخفاؤهم وهم حسر ليس عليهم سلاح، أو كثير سلاح، فلقوا قوما رماة لا يكاد يسقط لهم سهم، جمع هوزان وبني نصر، فرشقوهم رشقا ما يكادون يخطؤون، فأقبلوا هناك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب يقود به، فنزل واستنصر وقال: "أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب"، ثم صفهم. ورواه محمد بن إسماعيل عن عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن أبي إسحاق. وزاد قال: فما رؤي من الناس يومئذ أشد منه. ورواه زكريا عن أبي إسحاق. وزاد قاله البراء: كنا إذا احمر البأس نتقي به، وإن الشجاع منا للذي يحاذي به - يعنى النبي صلى الله عليه وسلم. وروى شعبة عن أبي إسحاق قال: قال البراء: إن هوزان كانوا قوما رماة، وإنا لما لقيناهم حملنا عليهم، فانهزموا، فأقبل المسلمون على الغنائم فاستقبلونا بالسهام، فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يفر. قال الكلبي: كان حول رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثمائة من المسلمين وانهزم سائر الناس. وقال آخرون: لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ غير: العباس بن المطلب، وأبو سفيان بن الحارث، وأيمن بن أم أيمن، فقتل يومئذ بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، أخبرنا عبد الغافر بن محمد، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان/ حدثنا مسلم بن الحجاج، قال: حدثنا أبو طاهر، أحمد بن عمرو بن سرح، حدثنا ابن وهب، أخبرنا يونس عن ابن شهاب، قال: حدثني كثير بن عباس بن عبد المطلب قال: قال عباس: " شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين فلزمت أنا وأبو سفيان بن الحارث رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم نفارقه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلة له بيضاء أهداها له فروة بن نفاثة الجذامي، فلما التقى المسلمون والكفار ولى المسلمون مدبرين، فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يركض بغلته قبل الكفار، وأنا آخذ بلجام بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكفها إرادة أن لا تسرع، وأبو سفيان آخذ بركابه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أي عباس: ناد أصحاب السمرة، فقال عباس - وكان رجلا صيتا - فقلت بأعلى صوتي: أين أصحاب السمرة؟ قال: فوالله لكأن عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها، فقالوا: يا لبيك يا لبيك، قال: فاقتتلوا والكفار، والدعوة في الأنصار يقولون: يا معشر الأنصار يا معشر الأنصار، ثم قصرت الدعوة على بني الحارث بن الخزرج، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على بغلته كالمتطاول عليها إلى قتالهم، فقال : هذا حين حمي الوطيس ، ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حصيات فرمى بهن وجوه الكفار، ثم قال: انهزموا ورب محمد ، فذهبت أنظر فإذا القتال على هيئته فيما أرى، قال: فوالله ما هو إلا أن رماهم بحصياته فمازلت أري حدهم كليلا، وأمرهم مدبرا". وقال سلمة بن الأكوع: "غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنينا قال فلما غشوا رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل عن البغلة، ثم قبض قبضة من تراب الأرض، ثم استقبل به وجوههم، فقال: شاهت الوجوه، فما خلق الله منهم إنسانا إلا ملأ عينه ترابا بتلك القبضة، فولوا مدبرين، فهزمهم الله عز وجل فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائمهم بين المسلمين". قال سعيد بن جبير: أمد الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين. وفى الخبر: أن رجلا من نبي نضر يقال له شجرة، قال للمؤمنين بعد القتال: أين الخيل البلق والرجال الذين عليهم ثياب بيض، ما كنا نراكم فيهم إلا كهيئة الشامة وما كان قتلنا إلا بأيديهم؟ فأخبروا بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: تلك الملائكة. قال الزهري: وبلغني أن شيبة بن عثمان بن طلحة قال: استدبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين وأنا أريد قتله بطلحة بن عثمان وعثمان بن طلحة، وكانا قد قتلا يوم أحد، فأطلع الله رسو الله صلى الله عليه وسلم على ما في نفسي فالتفت إلي وضرب في صدري وقال أعيذك بالله يا شيبة، فأرعدت فرائضي، فنظرت إليه فهو أحب إلي من سمعي وبصري، فقلت: أشهد أنك رسول الله، وأن الله قد أطلعك على ما في نفسي. فلما هزم الله المشركين وولوا مدبرين، انطلقوا حتى أتوا أوطاس وبها عيالهم وأموالهم، فبعث رسول الله رجلا من الأشعريين يقال له أبو عامر وأمره على جيش المسلمين إلى أوطاس، فسار إليهم فاقتتلوا، وقتل: دريد بن الصمة، وهزم المشركين وسبى المسلمون عيالهم، وهرب أميرهم مالك بن عوف النصري، فأتى الطائف فتحصن بها وأخذ ماله، وأهله فيمن أخذ، وقتل أمير المسلمين أبو عامر. قال الزهري: أخبرني سعيد بن المسيب أنهم أصابوا يومئذ ستة آلاف سبي، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى الطائف فحاصرهم بقية ذلك الشهر، فلما دخل ذو القعدة وهو شهر حرام انصرف عنهم، فأتى الجعرانه فأحرم منها بعمرة وقسم فيها غنائم حنين وأوطاس، وتألف أناسا، منهم: أبو سفيان بن حرب، والحارث بن هشام، وسهيل بن عمرو، والأقرع بن حابس، فأعطاهم. أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا أبو اليمان، حدثنا شعيب، حدثنا الزهري، أخبرني أنس بن مالك رضي الله عنه "أن أناسا من الأنصار قالوا لرسول الله - حين أفاء على رسوله من أموال هوازن ما أفاء، فطفق يعطى رجالا من قريش المائة من الإبل - فقالوا: يغفر الله لرسول صلى الله عليه وسلم يعطي قريشا ويدعنا وسيوفنا تقطر من دمائهم؟ قال أنس: فحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقالتهم، فأرسل إلى الأنصار، فجمعهم في قبة من أدم ولم يدع معهم أحدا غيرهم، فلما اجتمعوا جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما كان حديث بلغني عنكم؟ فقال له فقهاؤهم أما ذووا رأينا يا رسول ، فلم يقولوا شيئا، وأما أناس منا حديثة أسنانهم فقالوا: يغفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعطى قريشا ويترك الأنصار وسيوفنا تقطر من دمائهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لأعطي رجالا حديثي عهد بكفر، أما ترضون أن يذهب الناس بالأموال وترجعون إلى رحالكم برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فوالله ما تنقلبون به خير مما ينقلبون به، قالوا: بلى يا رسول الله قد رضينا، فقال لهمإنكم سترون بعدي أثرة شديدة، فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله على الحوض". وقال يونس عن ابن شهاب: "فإني أعطي رجالا حديثي عهد بالكفر أتألفهم"، وقال: "فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله فإني على الحوض"، قالوا: سنصبر. اخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا وهيب، حدثنا عمرو بن يحيى عن عباد بن تميم عن عبد الله بن زيد عن عاصم قال:" لما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم يوم حنين قسم في الناس في المؤلفة قلوبهم ولم يعط الأنصار شيئا، فكأنهم وجدوا إذ لم يصبهم ما أصابه الناس، فخطبهم فقال:يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي وكنتم متفرقين فألفكم الله بي وكنتم عالة فأغناكم الله بي؟ كلما قال شيئا قالوا: الله ورسوله أمن قال: ما يمنعكم أن تجيبوا رسول الله كلما قال شيئا قالوا: الله ورسوله أمن؟ قال: لو شئتم قلتم كذا وكذا، أترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وتذهبون بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم؟ لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس واديا أو شعبا لسلكت وادي الأنصار وشعبهم، الأنصار، شعار والناس دثار، إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض". أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، أخبرنا عبد الغافر بن محمد، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، حدثنا مسلم بن الحجاج، حدثنا محمد بن / أبي عمر المكي، حدثنا سفيان عن عمر بن سعيد بن مسروق عن أبيه عن عباية بن رفاعة، عن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان بن حرب وصفوان بن أمية وعيينة بن حصن والأقرع بن حابس كل إنسان منهم مائة من الإبل، وأعطى عباس بن مرداس دون ذلك، فقال عباس بن مرداس: فما كان حصن ولا حابس يفوقان مرداس في المجمع أتجعل نهبي ونهب العب يــدبين عيينة والأقـــرع وما كنت دون امرئ منهما ومن تخفض اليوم لا يرفع قال: فأتم له رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة. وفى الحديث أن ناسا من هوزان أقلبوا مسلمين بعد ذلك، فقالوا: يا رسول الله أنت خير الناس وأبر الناس، وقد أخذت أبناؤنا ونساؤنا وأموالنا. أخبرنا عبد الواحد بن المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا سعيد بن عفير، حدثني الليث، حدثني عقيل عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير: أن مروان والمسور بن مخرمة أخبراه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام حين جاءه وفد هوازن مسلمين، فسألوه أن يرد إليهم أموالهم وسبيهم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إن معي من ترون وأحب الحديث إلي أصدقه، فاختاروا إحدى الطائفتين: إما السبي، وإما المال. قالوا : فإنا نختار سبينا.فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأثنى على الله عز وجل بما هو أهله ثم قال: أما بعد فإن إخوانكم هؤلاء جاؤوا تائبين، وإني قد رأيت أن أرد إليهم سبيهم، فمن أحب منكم أن يطيب ذلك لهم فليفعل، ومن أحب أن يكون على حظ حتى نعطيه إياه من أول ما يفيء الله علينا، فليفعل فقال الناس: قد طيبنا ذلك يا رسول الله،فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنا لا ندري من أذن منكم في ذلك ممن لم يأذن فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم، فرجع الناس، فكلمهم عرفاؤهم ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه أنهم قد طيبوا وأذنوا.فأنزل الله تعالى في قصة حنين: " لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم ""، حتى قلتم: لن نغلب اليوم من قلة، "فلم تغن عنكم"، كثرتكم، "شيئا"، يعنى إن الظفر لا يكون بالكثرة، "وضاقت عليكم الأرض بما رحبت"، أي برحبها وسعتها، "ثم وليتم مدبرين"، منهزمين.
26-"ثم أنزل الله" بعد الهزيمة، "سكينته"، يعني: الأمنة والطمأنينة، وهي فعيلة من السكون " على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها "، يعني: الملائكة. قيل: لا للقتال، ولكن لتجبين لكفار وتشجيع المسلمين، لأنه يروى: أن الملائكة لم يقاتلوا إلا يوم بدر، "وعذب الذين كفروا"، بالقتل والأسر وسبي العيال وسلب الأموال، "وذلك جزاء الكافرين".
27-"ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء"، فيهديه إلى الإسلام، "والله غفور رحيم".
28-قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس" الآية، قال الضحاك و أبو عبيدة: نجس: قذر. وقيل: خبيث. وهو مصدر يستوي فيه الذكر والأنثى والتثنية والجمع، فأما النجس: بكسر النون وسكون الجيم، فلا يقال على الانفراد، إنما يقال: رجس نجس، فإذا أفرد قيل: نجس، بفتح النون وكسر الجيم، وأراد به: نجاسة الحكم لا نجاسة العين، سموا نجسا على الذم. وقال قتادة: سماهم نجسا لأنهم يجنبون فلا يغتسلون ويحدثون فلا يتوضؤون. قوله تعالى: "فلا يقربوا المسجد الحرام"، أراد منعهم من دخول الحرم لأنهم إذا دخلوا الحرم فقد قربوا من المسجد الحرام، وأراد به الحرم وهذا كما قال الله تعالى: "سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام" (الإسراء-1)، وأراد به الحرم لأنه أسرى به من بيت أم هانئ. قال الشيخ الإمام الأجل: وجملة بلاد الإسلام في حق الكفار على ثلاثة أقسام: أحدها: الحرم، فلا يجوز للكافر أن يدخله بحال، ذميا كان أو مستأمنا، لظاهر هذه الآية، وإذا جاء رسول من بلاد الكفار إلى الإمام والإمام في الحرم لا يأذن له في دخول الحرم، بل يبعث إليه من يسمع رسالته خارج الحرم. وجوز أهل الكوفة للمعاهد دخول الحرم. والقسم الثاني من بلاد الشام: الحجاز، فيجوز للكافر دخولها بالإذن ولكم لا يقيم فيها أكثر من مقام السفر وهو ثلاثة أيام، لما روى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لئن عشت إن شاء الله تعالى لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع فيها إلا مسلما". فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوصى فقال: "أخرجوا المشركين من جزيرة العرب"، فلم يتفرغ لذلك أبو بكر رضي الله عنه، وإجلاهم عمر رضي الله عنه في خلافته، وأجل لمن يقدم منهم تاجرا ثلاثا. وجزيرة العرب من أقصى عدن أبين إلى ريف العراق في الطول، وأما العرض فمن جدة وما والاها من ساحل البحر إلى أطراف الشام. والقسم الثالث: سائر بلاد الإسلام، فيجوز للكافر أن يقيم فيها بذمة وأمان، ولكن لا يدخلون المساجد إلا بإذن مسلم. قوله: "بعد عامهم هذا"، يعنى: العام الذى حج فيه أبو بكر رضى الله عنه بالناس، ونادى علي كرم الله وجهه ببراءة، وهو سنة تسع من الهجرة. قوله: "وإن خفتم عيلة"، وذلك أن أهل مكة كانت معايشهم من التجارات وكان المشركون يأتون مكة بالطعام ويتجرون، فلما منعوا من دخول الحرم خافوا الفقر، وضيق العيش، وذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى: "وإن خفتم عيلة" فقرأ وفاقة. يقال: عال يعيل علية، " فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء إن الله عليم حكيم "، قال عكرمة: فأغناهم الله عز وجل بأن أنزل عليهم المطر مدرارا فكثر خيرهم. وقال مقاتل: أسلم أهل جدة وصنعاء وجريش من اليمن وجلبوا الميرة الكثيرة إلى مكة فكفاهم الله ما كانوا يخافون. وقال الضحاك وقتادة: عوضهم الله منها الجزية فأغناهم بها.
29-وذلك: قوله تعالى: "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله"، قال مجاهد: نزلت هذه الآية حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتال الروم، فغزا بعد نزولها غزوة تبوك. وقال الكلبي: نزلت في قريظة والنضير من اليهود، فصالحهم وكانت أول جزية أصابها أهل الإسلام، وأول ذل أصاب أهل الكتاب/ بأيدي المسلمين. قال الله تعالى: "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر"، فإن قيل: أهل الكتاب يؤمنون بالله واليوم الآخر؟ قيل: لا يؤمنون كإيمان المؤمنين، فإنهم إذا قالوا عزيز ابن الله والمسيح ابن الله، لا يكون ذلك إيمانا بالله. "ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق"، أي: لا يدينون الدين الحق، أضاف الاسم إلى الصفة. وقال قتادة: الحق هو الله، أي: لا يدينون دين الله، ودينه الإسلام. وقال أبو عبيدة: معناه لا يطيعون الله تعالى طاعة أهل الحق. "من الذين أوتوا الكتاب"، يعنى: اليهود والنصارى. "حتى يعطوا الجزية"، وهى الخراج المضروب على رقابهم، "عن يد"، عن قهر وذل.قال أبو عبيدة: يقال لكل من أعطى شيئا كرها من غير طيب نفس: أعطاه عن يد. وقال ابن عباس: يعطونها بأيديهم ولا يرسلون بها على يد غيرهم. وقيل: عن يد أي: عن نقد لا نسيئة. وقيل: عن إقرار بإنعام المسلمين عليهم بقبول الجزية منهم، "وهم صاغرون"، أذلاء مقهورون. قال عكرمة: يعطون الجزية عن قيام، والقابض جالس. وعن ابن عباس قال: تؤخذ منه ويوطأ عنقه. وقال الكلبي: إذا أعطى صفع في قفاه. وقيل: يؤخذ بلحيته ويضرب في لهزمتيه. وقيل: يلبب ويجر إلى موضع الإعطاء بعنف. وقيل: إعطاؤه إياها هو الصغار. وقال الشافعي رحمه الله: الصغار هو جريان أحكام الإسلام عليهم. واتفقت الأمة على جواز أخذ الجزية من أهل الكتابين، وهم اليهود والنصارى إذا لم يكونوا عربا. واختلفوا في الكتابي العربي وفى غير أهل الكتاب من كفار العجم، فذهب الشافعي: إلى أن الجزية على الأديان لا على الأنساب، فتؤخذ من أهل الكتاب عربا كانوا أو عجما، ولا تؤخذ من أهل الأوثان بحال، واحتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم أخذها من أكيدر دومة، وهو رجل من العرب يقال: إنه من غسان، وأخذ من أهل ذمة اليمن، وعامتهم عرب. وذهب مالك والأوزاعي: إلى أنها تؤخذ من جميع الكفار إلا المرتد. وقال أبو حنيفة تؤخذ من أهل الكتاب على العموم، وتؤخذ من مشركي العجم، ولا تؤخذ من مشركي العرب. وقال أبو يوسف: لا تؤخذ من العربي، كتابيا كان أو مشركا، وتؤخذ من العجمى كتابيا كان أو مشركا. وأما المجوس: فاتفقت الصحابة رضي الله عنهم على أخذ الجزية منهم. أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال، أخبرنا أبو العباس الأصم، أخبرنا الربيع، أخبرنا الشافعي، أخبرنا سفيان عن عمرو بن دينار سمع بجالة يقول: لم يكن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر. أخبرنا أبو الحسن السرخسي، أخبرنا زاهر بن أحمد أبو إسحاق الهاشمي، أخبرنا أبو مصعب، عن مالك، عن جعفر بن محمد، عن أبيه "أن عمر بن الخطاب ذكر المجوس فقال: ما أدري كيف أصنع في أمرهم؟ فقال عبد الرحمن بن عوف: أشهد لسمعت رسول الله صلى عليه وسلم يقول:سنوا بهم سنة أهل الكتاب". وفى امتناع عمر رضي الله عنه عن أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن ين عوف أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر، دليل على أن رأي الصحابة كان على أنها لا تؤخذ من كل مشرك، وإنما تؤخذ من أهل الكتاب. واختلفوا في أن المجوس: هل هم من أهل الكتاب أم لا؟ فروي عن علي رضي الله عنه قال: كان لهم كتاب يدرسونه فأصبحوا، وقد أسري على كتابهم، فرفع من بين أظهرهم. واتفقوا على تحريم ذبائح المجوس ومناكحتهم بخلاف أهل الكتابين. أما من دخل في دين اليهود والنصارى من غيرهم من المشركين نظر: إن دخلوا فيه قبل النسخ والتبديل يقرون بالجزية، وتحل مناكحتهم وذبائحهم، وإن دخلوا في دينهم بعد النسخ بمجيء محمد صلى الله عليه وسلم لا يقرون بالجزية، ولا تحل مناكحتهم وذبائحهم، ومن شككنا في أمرهم أنهم دخلوا فيه بعد النسخ أو قبله: يقرون بالجزية تغليبا لحقن الدم، ولا تحل مناكحتهم وذبائحهم تغليبا للتحريم، فمنهم نصارى العرب من تنوخ ويهراء بني تغلب، أقرهم عمر رضي الله عنه على الجزية، وقال: لا تحل لنا ذبائحهم. وأما قدر الجزية: فأقله دينار، لا يجوز أن ينقص منه، ويقبل الدينار من الفقير والغني والوسط لما أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي، أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي، حدثنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي، حدثنا أبو عيسى الترمذي، حدثنا محمود بن غيلان، حدثنا عبد الرزاق أخبرنا سفيان عن الأعمش عن أبي وائل عن مسروق عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فأمره أن يأخذ من كل حالم دينارا أو عدله معافر. فالنبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يأخذ من كل حالم، أي بالغ دينار أو لم يفصل بين الغني والفقير والوسط، وفيه دليل على أنها لا تجب على الصبيان وكذلك لا تجب على النسوان، إنما تؤخذ من الأحرار العاقلين البالغين من الرجال. وذهب قوم إلى أنه على كل موسر أربعة دنانير، وعلى كل متوسط ديناران، وعلى كل فقير دينار، وهو قول أصحاب الرأي.
30-قوله تعالى: "قالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله"، روى سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من اليهود: سلام بن مشكم، والنعمان بن أوفى، وشاس بن قيس، ومالك بن الصيف، فقالوا: كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا وأنت لا تزعم أن عزيرا ابن الله؟ فأنزل الله عز وجل: "وقالت اليهود عزير ابن الله". قرأ عاصم والكسائي ويعقوب "عزير" بالتنوين والآخرون بغير تنوين، لأنه اسم أعجمي ويشبه اسما مصغرا، ومن نون قال: لأنه اسم خفيف، فوجهه أن يصرف، وإن كان أعجميا مثل نوح وهود ولوط. واختار أبو عبيدة التنوين وقال: لأن هذا ليس بمنسوب إلى أبيه، إنما هو كقولك زيد ابن الأمير وزيد ابن أختنا، فعزيز مبتدأ وما بعده خبر له. وقال عبيد بن عمير: إنما قال هذه المقالة رجل واحد من اليهود اسمه فنحاص بن عازوراء، وهو الذي قال: "إن الله فقير ونحن أغنياء"آل عمران - 181. وروى عطية العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:إنما قالت اليهود عزير ابن الله من أجل أن عزيرا كان فيهم وكانت التوراة عندهم والتابوت فيهم، فأضاعوا التوراة وعملوا بغير الحق، فرفع الله عنهم التابوت وأنساهم التوراة ونسخها من صدورهم، فدعا الله عزير وابتهل إليه أن يرد إليه الذى نسخ من صدورهم، فبينما هو يصلي مبتهلا إلى الله تعالى نزل نور من السماء فدخل جوفه فعادت إليه التوراة فأذن في قومه، وقال: يا قوم قد آتاني الله التوراة وردها إلي! فعلق به/ الناس يعلمهم، فمكثوا ما شاء الله تعالى، ثم إن التابوت نزل بعد ذهابه منهم، فلما رأوا التابوت عرضوا ما كان فيه على الذي كان يعلمهم عزير فوجدوه مثله، فقالوا: ما أوتي عزير هذا إلا أنه ابن الله. أما النصارى فقالوا: المسيح ابن الله، وكان السبب فيه أنهم كانوا على دين الإسلام إحدى وثمانين سنة بعدما رفع عيسى عليه السلام يصلون إلى القبلة، ويصومون رمضان، حتى وقع فيما بينهم وبين اليهود حرب، وكان في اليهود رجل شجاع يقال به بولص قتل جملة من أصحاب عيسى عليه السلام، ثم قال لليهود: إن كان الحق مع عيسى فقد كفرنا به والنار مصيرنا، فنحن مغبونون إن دخلوا الجنة دخلنا النار، فإني أحتال وأضلهم حتى يدخلوا النار، وكان له فرس يقال له العقاب يقاتل عليه فعرقب فرسه وأظهر الندامة، ووضع على رأسه التراب، فقال له النصارى: من أنت؟ قال: بولص عدوكم، فنوديت من السماء: ليست لك توبة إلا أن تت نصر، وقد ثبت. فأدخلوه الكنيسة،ودخل بيتا سنة لا يخرج منه ليلا ولا نهارا حتى تعلم الإنجيل، ثم خرج وقال: نوديت أن الله قبل توبتك، فصدقوه وأحبوه، ثم مضى إلى بيت المقدس، واستحلف عليهم نسطورا وعلمه أن عيسى ومريم والإله كانوا ثلاثة، ثم توجه إلى الروم وعلمهم اللاهوات والناسوت، وقال: لم يكن عيسى بإنس ولا بجسم، ولكنه ابن الله، وعلم ذلك رجلا يقال له يعقوب ثم دعا رجلا يقال له ملكا، فقال: إن الإله لم يزل ولا يزال عيسى، فلما استمكن منهم دعا هؤلاء الثلاثة واحدا واحدا، وقال لكل واحد منهم: أنت خالصتي، وقد رأيت عيسى في المنام فرضي عني. وقال لكل واحد منهم: إني غدا أذبح نفسي، فادع الناس إلى نحلتك. ثم دخل المذبح فذبح نفسه وقال: إنما أفعل ذلك لمرضاة عيسى، فلما كان يوم ثالثة دعا كل واحد منهم الناس إلى نحلته، فتبع كل واحد طائفة من الناس، فاختلفوا واقتتلوا فقال الله عز وجل: "وقالت النصارى المسيح ابن الله" "ذلك قولهم بأفواههم"، يقولون بألسنتهم من غير علم. قال أهل المعاني: لم يذكر الله تعالى قولا مقرونا بالأفواه والألسن إلا كان ذلك زورا. " يضاهئون "، قرأ عاصم بكسر الهاء مهموزا، والآخرون بضم الهاء غير مهموز، وهما لغتان يقال: ضاهيتة وضاهأته، ومعناهما واحد. قال ابن عباس رضي الله عنه: يشابهون. والمضاهاة المشابهة. وقال مجاهد: يواطؤون. وقال الحسن: يوافقون،"قول الذين كفروا من قبل"، قال قتادة والسدي: ضاهت النصارى قول اليهود من قبل، فقالوا: المسيح ابن الله، كما قالت اليهود عزير ابن الله، وقال مجاهد: يضاهؤن قول المشركين من قبل الذين كانوا يقولون اللات والعزى ومناة بنات الله. وقال الحسن: شبه كفرهم بكفر الذين مضوا من الأمم الكافرة كما قال في مشركي العرب: "كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم"(البقرة-188). وقال القتيبي: يريد أن من كان في عصر النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى يقولون ما قال أولهم، "قاتلهم الله"، قال ابن عباس: لعنهم الله. وقال ابن جريح: أي: قتلهم الله. وقيل: ليس هو على تحقيق المقاتلة ولكنه بمعنى التعجب، "أنى يؤفكون"، أي: يصرفون عن الحق بعد قيام الأدلة عليه.
31-"اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا"، أي: علماءهم وقراءهم، والأحبار:العلماء، وأحدها حبر،وحبر بكسر الحار وفتحها، والرهبان من النصارى أصحاب الصوامع فإن قيل: إنهم لم يعبدوا الأحبار والرهبان؟ قلنا: معناه أنهم أطاعوهم في معصية الله واستحلوا ما أحلوا وحرموا ما حرموا، فاتخذوهم كالأرباب. روي عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: "أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفى عنقي صليب من ذهب فقال لي ياعدي اطرح هذا الؤثن من عنقك، فطرحته ثم انتهيت إليه وهو يقرأ: "اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله"، حتى فرغ منها، قلت له: إنا لسنا نعبدهم، فقال: أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ويحلون ما حرم الله فتستحلونه؟ قال قلت: بلى، قال: فتلك عبادتهم". قال عبد الله بن المبارك: وهل بدل الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها "والمسيح ابن مريم"، أي: اتخذوه إلها، "وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون".
32-"يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم"، أي: يبطلوا دين الله بألسنتهم وتكذيبهم إياه. وقال الكلبي: النور القرآن، أي: يريدون أن يردوا القرآن بألسنتهم تكذيبا، "ويأبى الله إلا أن يتم نوره"،أي: يعلي دينه ويظهر كلمته ويتم الحق الذي بعث به محمدا صلى الله عليه وسلم، "ولو كره الكافرون".
33-"هو الذي أرسل رسوله"، يعني: الذي يأبى إلا إتمام دينه هو الذى أرسل رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم، "بالهدى"، قيل: بالقرآن. وقيل: ببيان الفرائض، "ودين الحق"، وهو الإسلام، "ليظهره"،ليعليه وينصره "على الدين كله"، إلى سائر الأديان، "ولو كره المشركون". واختلفوا في معنى هذه الآية: فقال ابن عباس: الهاء عائدة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أي: ليعلمه شرائع الدين كلها فيظهره عليها حتى لا يخفى عليه منها شيء. وقال الآخرون: الهاء راجعة إلى دين الحق، وظهوره على الأديان هو أن لا يدان الله تعالى إلا به. وقال أبو هريرة والضحاك: وذلك عند نزول عيسى بن مريم لا يبقى أهل دين إلا دخل في قال الإسلام/ وروينا عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في نزول عيسى عليه السلام قال: "ويهلك في زمانه الملل كلها إلا الإسلام". وروى المقداد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"لا يبقى على ظهر الأرض بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله كلمة الإسلام إما بعز عزيز أو ذل ذليل"، إما يعزهم الله فيجعلهم من أهله، فيعز به، أو يذلهم فيدينون له. أخبرنا أبو سعيد الشريحي، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي، أخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب، حدثنا أبو جعفر محمد سليمان بن منصور، حدثنا أبو مسلم بن إبراهيم بن عبد الله الكجي، حدثنا أبو عاصم النبيل، حدثنا عبد الحميد، هو ابن جعفر، عن الأسود بن العلاء، عن أبي سلمة عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى، قالت: قلت يا رسول الله ما كنت أظن أن يكون ذلك بعدما أنزل الله تعالى عليك: "هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون". ثم قال: يكون ذلك ما شاء الله، ثم يبعث الله تعالى ريحاً طيبة، فتقبض من كان في قلبه مثقال ذرة من خير، ثم يبقى من لا خير فيه، فيرجع الناس إلى دين آبائهم". قال الحسين بن الفضل: معنى الآية ليظهره على الدين كله بالحجج الواضحة. وقيل: ليظهره على الأديان التي حول النبي صلى الله عليه وسلم فيغلبهم. قال الشافعي رحمه الله : فقد أظهر الله رسوله صلى الله عليه وسلم على الأديان كلها بأن أبان لكل من سمعه أنه الحق، وما خالفه من الأديان باطل، وقال: وأظهره بأن جماع الشرك دينان: دين أهل الكتاب، ودين أميين فقهر رسول الله صلى الله عليه وسلم الأميين حتى دانوا بالإسلام طوعا وكرها، وقتل أهل الكتاب وسبى، حتى دان بعضهم بالإسلام، وأعطى بعضهم الجزية صاغرين، وجرى عليهم حكمه، فهذا ظهوره على الدين كله، والله أعلم.
34-قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار والرهبان"، يعني: العلماء والقراء من أهل الكتاب، "ليأكلون أموال الناس بالباطل"، [يريد: ليأخذون] الرشا في أحكامهم، ويحرفون كتاب الله، ويكتبون بأيديهم كتبا يقولون: هذه من عند الله، ويأخذون بها ثمنا قليلا من سفلتهم وهي المآكل التي يصيبونها منهم على تغيير نعت النبي صلى الله عليه وسلم، يخافون لو صدقوهم لذهبت عنهم تلك المآكل، "ويصدون"، ويصرفون الناس، "عن سبيل الله"، دين الله عز وجل. "والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم"، قال ابن عمر رضي الله عنهما: كل مال تؤدى زكاته فليس بكنز، وإن كان مدفونا. وكل مال لا تؤدى زكاته فهو كنز، وإن لم يكن مدفونا. ومثله عن ابن عباس. أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، أخبرنا عبد الغافر بن محمد أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، حدثنا مسلم بن الحجاج، حدثني سويد بن سعيد، حدثنا حفص بن ميسرة عن زيد بن أسلم أن أبا صالح ذكوان أخبره أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فأحمي عليها في نار جهنم فيكوى بها جبينه، وظهره، كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار، ولا صاحب إبل لا يؤدي منها حقها، ومن حقها حلبها يوم وردها إلا إذا كان يوم القيامة، بطح لها بقاع قرقر، أوفر ما كانت، لا يفقد منها فصيلا واحدا، تطؤه بأخفافها، وتعضه بأفواهها، كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضي الله بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار، ولا صاحب بقر ولا غنم، لا يؤدي منها حقها، إلا إذا كان يوم القيامة، بطح لها بقاع قرقر لا يفقد منها شيئا ليس فيها عقصاء، ولا جلحاء، ولا عضباء، تنطحه بقرونها، وتطؤه بأظلافها، كلما مر عليه أولاها، رد عليه أخراها، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضي الله بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار". وروينا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته، مثل له ماله يوم القيامة شجاعا أقرع، له زبيبتان يطوقه يوم القيامة، فيأخذ بلهزمتيه، يعني: شدقيه، ثم يقول: أنا مالك، أنا كنزك، ثم تلا: "ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله"الآية". وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: كل مال زاد على أربعة آلاف درهم فهو كنز، أديت منه الزكاة أو لم تؤد، وما دونها نفقة. وقيل: ما فضل عن الحاجة فهو كنز. أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، أخبرنا عبد الغافر بن محمد، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، حدثنا مسلم بن الحجاج، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا وكيع، حدثنا الأعمش عن المعرور بن سويد عن أبي ذر قال: "انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في ظل الكعبة، فلما رآني قال:هم الأخسرون ورب الكعبة، قال: فجئت حتى جلست، فلم أتقار أن قمت فقلت: يا رسول الله فداك أبي وأمي، من هم؟ قال: هم الأكثرون أموالا إلا من قال: هكذا وهكذا وهكذا، من بين يديه، ومن خلفه، وعن يمينه، وعن شماله، وقليل ما هم". وروي عن أبي ذر رضي الله عنه أنه كان يقول: من ترك بيضاء، أو حمراء، كوي بها يوم القيامة. وروي عن أبي أمامةقال: " مات رجل من أهل الصفة، فوجد في مئزره دينار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم كية، ثم توفي آخر فوجد في مئزره ديناران، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كيتان". والقول الأول أصح، لأن الآية في منع الزكاة لا في جمع المال والحلال. قال النبي صلى الله عليه وسلم:"نعم المال الصالح للرجل الصالح". وروى مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت هذه الآية، كبر ذلك على المسلمين وقالوا ما يستطيع أحد منا أن يدع لولده شيئا، فذكر عمر ذلك لرسول الله فقال:"إن الله عز وجل لم يفرض الزكاة إلا ليطيب بها ما بقي من أموالكم". وسئل ابن عمر رضي الله عنهما عن هذه الآية؟ فقال: كان ذلك قبل أن تنزل الزكاة، فلما أنزلت جعلها الله طهرا للأموال. وقال ابن عمر: ما أبالي لو أن لي مثل أحد ذهبا أعلم عدده أزكيه وأعمل بطاعة الله. قوله عز وجل: "ولا ينفقونها في سبيل الله"، ولم يقل: ولا ينفقونهما، وقد ذكر الذهب والفضة جميعا، قيل: أراد الكنوز وأعيان الذهب والفضة. وقيل: رد الكناية إلى الفضة لأنها أعم، كما قال تعالى: "واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة " (البقرة-45)، رد الكناية إلى الصلاة لأنها أعم، وكقوله تعالى: "وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها" (الجمعة-11)رد الكناية إلى التجارة لأنها أعم، "فبشرهم بعذاب أليم". أي: أنذرهم.
35-"يوم يحمى عليها في نار جهنم"، أي: يدخل النار فيوقد عليها أي على الكنوز، "فتكوى بها"، فتحرق بها، "جباههم"، أي: جباه كانزيها، "وجنوبهم وظهورهم"، روي عن ابن مسعود قال: إنه لا يوضع دينار على دينار ولا درهم على درهم، ولكن يوسع جلده حتى يوضع كل دينار ودرهم في موضع على حدة. وسئل أبو بكر الوراق: لم خص الجباه والجنوب والظهور بالكي؟ قال: لأن الغني صاحب الكنز إذا رأي الفقير وجهه، وزوى ما بين عينيه، وولاه ظهره، وأعرض عنه بكشحه. قوله تعالى: "هذا ما كنزتم"، أي: يقال لهم : هذا ما كنزتم، "لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون"، أي: تمنعون حقوق الله تعالى في أموالكم. وقال بعض الصحابة: هذه الآية في أهل الكتاب. وقال الأكثرون: هي عامة في أهل الكتاب والمسلمين، وبه قال أبو ذر رضي الله عنه.
36-قوله تعالى: "إن عدة الشهور"، أي: عدد الشهور، "عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله"، وهى المحرم وصفر وربيع الأول وشهر ربيع الثاني وجمادى الأول وجمادى الآخرة ورجب وشعبان وشهر رمضان وشوال وذو القعدة وذو الحجة. وقوله: "في كتاب الله" أي: في حكم الله. وقيل: في اللوح المحفوظ. قرأ أبو جعفر: اثنا عشر، وتسعة عشر، وأحد عشر، بسكون الشين، وقرأ العامة بفتحها، "يوم خلق السموات والأرض"، والمراد منه: الشهور الهلالية، وهي الشهور التي يعتد بها المسلمون في صيامهم وحجهم وأعيادهم وسائر أمورهم، وبالشهور الشمسية تكون السنة ثلاث مائة وخمسة وستين يوما وربع يوم، والهلالية تنقص عن ثلاث مائة وستين يوما بنقصان الأهلية. والغالب أنها تكون ثلاثمائة وأربعا وخمسين يوما، "منها أربعة حرم"، من الشهور أربعة حرم وهي: رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم، واحد فرد وثلاثة سرد، "ذلك الدين القيم"، أي: الحساب المستقيم. "فلا تظلموا فيهن أنفسكم"، قيل: قوله "فيهن" ينصرف إلى جميع شهور السنة، أي: فلا تظلموا فيهن أنفسكم بفعل المعاصي وترك الطاعة. وقيل: "فيهن" أي: في الأشهر الحرم. قال قتادة: العمل الصالح أعظم أجرا في الأشهر الحرم، والظلم فيهن أعظم من الظلم فيما سواهن، وإن كان الظلم على كل حال عظيما.وقال ابن عباس: فلا تظلموا فيهن أنفسكم يريد استحلال الحرام والغارة فيهن. قال محمد بن إسحاق بن يسار: لا تجعلوا حلالها حراما، ولا حرامها حلالا، كفعل أهل الشرك وهو النسيء. "وقاتلوا المشركين كافة"، جميعا عامة، "كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين"، واختلف العلماء في تحريم القتال في الأشهر الحرم. فقال قوم: كان كبيرا ثم نسخ بقوله: "وقاتلوا المشركين كافة" كأنه يقول فيهن وفي غيرهن. وهو قول قتادة، و عطاء الخرساني، و الزهري و سفيان الثوري، وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم غزا هوازن بحنين، وثقيفا بالطائف، وحاصرهم في شوال وبعض ذي القعدة. وقال آخرون: إنه غير منسوخ: قال ابن جريج: حلف بالله عطاء بن أبي رباح: ما يحل للناس أن يغزوا في الحرم، ولا في الأشهر الحرم، إلا أن يقاتلوا فيها وما نسخت.
37-قوله تعالى: "إنما النسيء زيادة في الكفر"، قيل: هو مصدر كالسعير والحريق. وقيل: هو مفعول كالجريح والقتيل، وهو من التأخير. ومنه النسيئة في البيع، يقال: أنسأ الله من أجله أي أخر، وهو ممدود مهموز عند أكثر القراء، وقرأ ورش عن نافع من طريق البخاري: بتشديد الياء من غير همز، وقد قيل: أصله الهمزة فخفف. وقيل: هو من النسيان على معنى المنسي أي: المتروك. ومعنى النسيء: هو تأخير تحريم شهر إلى شهر آخر، وذلك أن العرب كانت تعتقد تعظيم الأشهر الحرم، وكأن ذلك مما تمسكت به من ملة إبراهيم عليه السلام، وكانت عامة معيشهم من الصيد والغارة، فكان يشق عليهم الكف عن ذلك ثلاثة أشهر على التوالي، وربما وقعت لهم حرب في بعض الأشهر الحرم فيكرهون تأخير حربهم، فنسؤوا أي: أخروا تحريم ذلك الشهر إلى شهر آخر، وكانوا يؤخرون تحريم المحرم إلى صفر، فيحرمون صفر ويستحلون المحرم، فإذا احتاجوا إلى تأخير تحريم صفر أخروه إلى ربيع، هكذا شهرا بعد شهر، حتى استدار التحريم على السنة كلها. فقام الإسلام وقد رجع المحرم إلى موضعه الذي وضعه الله عز وجل فيه، وذلك بعد دهر طويل، فخطب النبي صلى الله عليه وسلم في حجته. كما: أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف الفربري، حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري، حدثنا محمد بن سلام، حدثنا عبد الواحد، حدثنا عبد الوهاب، حدثنا أيوب عن محمد بن سيرين، عن أبي بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان". وقال: "أي شهر هذا؟ قلنا الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: أليس ذا الحجة؟ قلنا: بلى، قال: أي بلد هذا؟ قلنا الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: أليس البلد الحرام؟ قلنا: بلى، قال: فأي يوم هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس يوم النحر؟ قلنا: بلى، قال: فإن دماءكم وأموالكم، قال محمد: أحسبه قال: وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، ألا فلا ترجعوا بعدي ضلالا يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا ليبلغ الشاهد الغائب فلعل بعض من يبلغه أن يكون أوعى له من بعض من سمعه، ألا هل بلغت ألا هل بلغت"؟ قالوا: وكان قد استمر النسيء بهم، فكانوا ربما يحجون في بعض السنين في شهر ويحجون من قابل في شهر آخر. قال مجاهد: كانوا يحجون في كل شهر عامين، فحجوا في شهر ذي الحجة عامين، ثم حجوا في المحرم عامين، ثم حجوا في صفر عامين، وكذلك في الشهور، فوافقت حجة أبي بكر رضي الله عنه فوافق حجة شهر الحج الشروع وهو ذو الحجة، فوقف بعرفة يوم التاسع، وخطب اليوم العاشر بمنى، وأعلمهم أن أشهر النسيء قد تناسخت باستدارة الزمان، وعاد الأمر إلى ما وضع الله عليه حساب الأشهر يوم خلق الله السموات والأرض، وأمرهم بالمحافظة عليه لئلا يتبدل في مستأنف الأيام. واختلفوا في أول من نسأ النسيء: فقال ابن عباس و الضحاك و قتادة و مجاهد: أول من نسأ النسيء بنو مالك بن كنانة، وكانوا ثلاثة: أبو ثمامة جناد بن عوف بن أمية الكناني. وقال الكلبي: أول من فعل ذلك رجل من بني كنانة يقال: له نعيم بن ثعلبة، وكان أميرا على الناس بالموسم، فإذا هم الناس بالصدر، قام فخطب الناس فقال: لا مرد لما قضيت، أنا الذي لا أعاب ولا أجاب، فيقول له المشركون: لبيك، ثم يسألونه أن ينسأهم شهرا يغيرون فيه، فيقول: فإن صفرا العام حرام، فإذا قال ذلك حلوا الأوتار، ونزعوا الأسنة والأزجة، وإن قال حلال عقدوا الأوتار، وشدوا الأزجة، وأغاروا. وكان من بعد نعيم بن ثعلبة رجل يقال له: جنادة بن عوف، وهو الذي أدركه النبي صلى الله عليه وسلم. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هو رجل من بني كنانة يقال له: القلمس، قال شاعرهم: وفينا ناسئ الشهر القلمس، وكانوا لا يفعلون ذلك إلا في ذي الحجة إذا اجتمعت العرب للموسم. وقال جوبير عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما: إن أول من سن النسيء عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، أنبأنا عبد الغافر بن محمد، أنبأنا محمد بن عيسى الجلودي، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، حدثنا مسلم بن الحجاج، حدثني زهير بن حرب، حدثنا جرير عن سهيل، عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف أبا بني كعب، وهو يجر قصبه في النار". فهذا الذي ذكرنا هو النسيء الذي ذكره الله تعالى فقال: "إنما النسيء زيادة في الكفر"، يريد زيادة كفر على كفرهم، "يضل به الذين كفروا"، قرأ حمزة والكسائي و حفص: "يضل" بضم الياء وفتح الضاد، كوقله تعالى: "زين لهم سوء أعمالهم"، وقرأ يعقوب بضم الياء وكسر الضاد، وهي قراءة الحسن و مجاهد على معنى "يضل" به الذين كفروا الناس، وقرأ الآخرون بفتح الياء وكسر الضاد، لأنهم هم الضالون لقوله: "يحلونه"، يعني النسيء "عاماً ويحرمونه عاماً ليواطئوا"، أي: ليوافقوا، والمواطأة: الموافقة، "عدة ما حرم الله"، يريد أنهم لم يحلوا شهرا من الحرام، لئلا يكون الحرام أكثر من أربعة أشهر، كما حرم الله فيكون موافقة العدد، "فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء أعمالهم"، قال ابن عباس: زين لهم الشيطان، "والله لا يهدي القوم الكافرين".
38-قوله عز وجل: " يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض " الآية، نزلت في الحث على غزوة تبوك، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع من الطائف أمر بالجهاد لغزوة الروم، وكان ذلك في زمان عسرة من الناس، وشدة من الحر، حين طابت الثمار والظلال، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلا ورى بغيرها حتى كانت تلك الغزوة، غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد، واستقبل سفرا بعيدا، ومفاوز هائلة، وعدوا كثيرا، فجلى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة عدوهم، فشق عليهم الخروج وتثاقلوا فأنزل الله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم " أي: قال لكم رسول الله: "انفروا" اخرجوا في سبيل الله "اثاقلتم إلى الأرض" أي: لزمتم أرضكم ومساكنكم، "أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة"، أي: بخفض الدنيا ودعتها من نعيم الآخرة "فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل".
39-ثم أوعدهم على ترك الجهاد، فقال تعالى: "إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما"، في الآخرة. وقيل: هو احتباس المطر عنهم في الدنيا. وسأل نجدة بن نفيع ابن عباس عن هذه الآية، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استنفر حيا من أحياء العرب، فتثاقلوا عليه، فأمسك عنهم المطر، فكان ذلك عذابهم. "ويستبدل قوما غيركم" خيرا منكم وأطوع. قال سعيد بن جبير: هم أبناء فارس. وقيل: هم أهل اليمن، "ولا تضروه شيئا"، بترككم النفير. "والله على كل شيء قدير".
40-قوله تعالى: "إلا تنصروه فقد نصره الله"، هذا إعلام من الله عز وجل أنه المتكفل بنصر رسوله وإعزاز دينه، أعانوه أو لم يعينوه، وأنه قد نصره عند قلة الأولياء، وكثرة الأعداء، فكيف به اليوم وهو في كثرة من العدد والعدد، "إذ أخرجه الذين كفروا"، من مكة حين مكروا به وأرادوا تبييته وهموا بقتله، "ثاني اثنين" أي هو أحد الاثنين، والاثنان: أحدهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، والآخر أبو بكر الصديق رضي الله عنه، "إذ هما في الغار"، وهو نقب في جبل ثور بمكة، "إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا" قال الشعبي: عاتب الله عز وجل أهل الأرض جميعا في هذه الآية غير أبي بكر الصديق رضي الله عنه. أخبرنا أبو المظفر محمد بن أحمد التميمي، أنبأنا محمد بن عبد الرحمن بن عثمان، أنبأنا خيثمة بن سليمان، حدثنا أحمد بن عبد الله الدورقي، حدثنا سعيد بن سليمان، عن علي بن هاشم عن كثير النواء عن جميع بن عمير قال: أتيت ابن عمر رضي الله عنهما فسمعته يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه: "أنت صاحبي في الغار وصاحبي على الحوض". قال الحسين بن الفضل: من قال إن أبا بكر لم يكن صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كافر لإنكاره نص القرآن. وفي سائر الصحابة إذا أنكر يكون مبتدعا، لا يكون كافرا. وقوله عز وجل: "لا تحزن إن الله معنا" لم يكن حزن أبي بكر جبنا منه، وإنما كان إشفاقا على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال: إن أقتل فأنا رجل واحد وإن قتلت هلكت الأمة/. وروي أنه حين انطلق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغار جعل يمشي ساعة بين يديه، وساعة خلفه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: مالك يا أبا بكر؟ قال: أذكر الطلب فأمشي خلفك، ثم أذكر الرصد فأمشي بين يديك، فلام انتهيا إلى الغار قال مكانك يا رسول الله حتى استبرئ الغار، فدخل فاستبرأه ثم قال: انزل يا رسول الله، فنزل فقال عمر: والذي نفسي بيده لتلك الليلة خير من آل عمر. أخبرنا أبو المظفر التميمي، أخبرنا محمد بن عبد الرحمن بن عثمان المعروف بابن أبي النظر، أخبرنا خيثمة بن سليمان، حدثنا أبو قلابة الرقاشي، حدثنا حيان بن هلال، حدثنا همام بن يحي، حدثنا ثابت البناني، حدثنا أنس بن مالك أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه حدثهم، قال: نظرت إلى أقدام المشركين فوق رؤوسنا ونحن في الغار فقلت: يا رسول الله لو أن أحدهم نظر تحت قدميه أبصرنا، فقال: يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما. أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، حدثنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن عقيل، قال ابن شهاب: فأخبرني عروة بن الزبير أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت:" لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار بكرة وعشيا، فلما ابتلي المسلمون. قال النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين:إني أريت دار هجرتكم، ذات نخل، بين لابتين وهما الحرتان. فهاجر من هاجر قبل المدينة ورجع عامة من كان هاجر بأرض الحبشة إلى المدينة، وتجهز أبو بكر رضي الله عنه قبل المدينة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي فقال أبو بكر: وهل ترجو ذلك بأبي أنت؟ قال: نعم فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه، وعلف راحلتين -كانتا عنده- ورق السمر، وهو الخبط، أربعة أشهر". قال ابن شهاب. قال عروة: قالت عائشة رضي الله عنها: "فبينما نحن يوما جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة، قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متقنعا في ساعة لم يكن يأتينا فيها، فقال أبو بكر: فداء له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر، قالت: فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذن، فأذن له، فدخل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر:أخرج من عندك، فقال أبو بكر: إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله، قال: فإني قد أذن لي في الخروج فقال أبو بكر: الصحبة بأبي أنت يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم قال أبو بكر: فخذ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين، قال رسول الله: بالثمن قالت عائشة رضي الله عنها: فجهزناهما أحث الجهاز، وصنعنا لهما سفرة في جراب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب، فبذلك سميت ذات النطاقين،قالت: ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بغار في جبل ثور، فمكثا فيه ثلاث ليال يبيت عندهماعبد الله بن أبي بكر وهو غلام شاب ثقف لقن، فيدلج من عندهما بسحر فيصبح مع قريش بمكة، كبائت فيها، فلا يسمع أمرا يكادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام،ويرعى عليهما عامر بن فهيرة، مولى أبي بكر، منحة من غنم، فيريحها عليهما حين تذهب ساعة من العشاء، فيبيتان في رسل، وهو لبن منحتهما ورضيفهما حتى ينعق بهماعامر بن فهيرة بغلس، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث، واستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلا من بني الديل، وهو من بني عبد بن عدي هاديا خريتا، والخريت: الماهر بالهداية، قد غمس حلفا في آل العاص بن وائل السهمي، وهو على دين كفار قريش فأمناه، فدفعا إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما صبح ثلاث، وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل فأخذ بهم على طريق السواحل". قال ابن شهاب: وأخبرني عبد الرحمن بن مالك المدلجي، وهو ابن أخي سراقة بن مالك بن جعشم: أن أباه أخبره أنه سمع سراقة بن مالك بن جعشم يقول: جاءنا رسل كفار قريش يجعلون في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه دية كل واحد منهما لمن قتله أو أسره، فبينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج، أقبل رجل منهم، حتى قام علينا ونحن جلوس، فقال: يا سراقة إني قد رأيت آنفا أسودة بالساحل أراها محمدا وأصحابه، قال سراقة: فعرفت أنهم هم، فقلت له: إنهم ليسوا بهم، ولكنك رأيت فلانا وفلانا انطلقوا بأعيننا، ثم لبثت في المجلس ساعة، ثم قمت فدخلت البيت فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي وهي من وراء أكمة، فتحبسها علي، وأخذت رمحي فخرجت به من ظهر البيت، فخططت بزجه الأرض، وخفضت عاليه حتى أتيت فرسي فركبتها فدفعتها تقرب بي حتى دنوت منهم فعثرت بي فرسي، فخررت عنها فقمت، فأهويت يدي إلى كنانتي فاستخرجت منها الأزلام فاستقسمت بها أضرهم أم لا؟ فخرج الذى أكره، فركبت فرسي وعصيت الأزلام، تقرب بي حتى إذا سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو لا يلتفت وأبو بكر يكثر الالتفات، فساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين، فخررت عنها ثم زجرتها فنهضت، فلم تكد تخرج يديها فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها غبار ساطع في السماء مثل الدخان، فاستقسمت بالأزلام فخرج الذي أكره، فناديتهم بالأمان، فوقفوا، فركبت فرسي حتى جئتهم، ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت له: إن قومك قد جعلوا فيك الدية وأخبرتهم خبر ما يريد الناس بهم وعرضت عليهم الزاد والمتاع، فلم يرزآني ولم يسألاني شيئا إلا أن قالا: أخف عنا، فسألته أن يكتب لي كتاب أمن فأمر عامر بن فهيرة فكتب في رقعة من أدم، ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن شهاب: فأخبرني عروة بن الزبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي الزبير في ركب من المسلمين كانوا تجارا قافلين من الشام، فكسا الزبير رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ثياب بياض، وسمع المسلمون بالمدينة بمخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة فكانوا يغدون كل غداة إلى الحرة فينتظرونه حتى يردهم حر الظهيرة، فانقلبوا يوما بعدما أطالوا انتظارهم، فلما أووا إلى بيوتهم أوفى رجل من يهود على أطم من آطامهم لأمر ينظر إليه، فبصر برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب، فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته: يا معشر العرب هذا جدكم الذي تنتظرون، فثار المسلمون إلى السلام، فتلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهر الحرة، فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف، وذلك يوم الاثنين من شهر ربيع الأول، فقام أبو بكر للناس وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم صامتا، فطفق من جاء من الأنصار ممن لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم يحي أبا بكر حتى أصابت الشمس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه، فعرف الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك، فلبث رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة، وأسس المسجد الذي أسس على التقوى، وصلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ركب راحلته، فسار يمشي معه الناس حتى بركت عند مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وهو يصلي فيه يومئذ رجال من المسلمين، وكان مربدا للتمر، لسهيل وسهل، غلامين يتيمين في حجر أسعد بن زرارة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بركت راحلته: هذا إن شاء الله المنزل. ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الغلامين، فساومهما بالمربد ليتخذه مسجدا فقالا: بل نهبه لك يا رسول الله، ثم بناه مسجدا، وطفق رسول الله ينقل معهم اللبن في بنيانه ويقول وهو ينقل اللبن: هذا الحمال لا حمال خيبر هذا أبر ربنا وأطهر ويقول: اللهم إن الأجر أجر الآخرة فارحم الأنصار والمهاجرة فتمثل ببيت رجل من المسلمين لم يسم لي. قال ابن شهاب: ولم يبلغنا في الأحاديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تمثل ببيت شعر تام غير هذه الأبيات. قال الزهري: لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر الغار أرسل الله تعالى زوجا من حمام حتى باضا في أسفل النقب، والعنكبوت حتى نسجت بيتا، وفي القصة أنبت يمامة على فم الغار، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم أعم أبصارهم/ عنا فجعل الطلب يضربون يمينا وشمالا حول الغار يقولون: لو دخلا هذا الغار لتكسر بيض الحمام وتفسخ بيت العنكبوت قوله عز وجل: "فأنزل الله سكينته عليه"، قيل: على النبي صلى الله عليه وسلم. وقال ابن عباس: على أبي بكر رضي الله عنه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كانت عليه السكينة من قبل، "وأيده بجنود لم تروها"، وهم الملائكة نزلوا يصرفون وجوه الكفار وأبصارهم عن رؤيته. وقيل: ألقوا الرعب في قلوب الكفار حتى رجعوا. وقال مجاهد و الكلبي: أعانه بالملائكة يوم بدر، أخبر أنه صرف عنه كيد الأعداء في الغار ثم أظهر نصره بالملائكة يوم بدر. "وجعل كلمة الذين كفروا السفلى"، وكلمتهم الشرك، وهي السفلى إلى يوم القيامة، "وكلمة الله هي العليا"، إلى يوم القيامة. قال ابن عباس: هي قول لا إله إلا الله. وقيل كلمة الذين كفروا: ما قدروا بينهم في الكيد به ليقتلوه، وكلمة الله: وعد الله أنه ناصره. وقرأ يعقوب: "وكلمة الله" بنصب التاء على العطف "والله عزيز حكيم".
41-قوله تعالى: "انفروا خفافا وثقالا"، قال الحسن والضحاك ومجاهد وقتادة وعكرمة: شبانا وشيوخا. وعن ابن عباس: نشاطا وغير نشاط. وقال عطية العوفي: ركبانا ومشاة. وقال أبو صالح: خفافا من المال، أي فقراء، وثقالا أي: أغنياء. وقال ابن زيد: الثقيل الذى له الضيعة، فهو ثقيل يكره أن يدع ضيعته، والخفيف لا ضيعة له. ويروى عن ابن عباس قال: خفافا أهل المسيرة من المال، وثقالا أهل العسرة. وقيل: خفافا من السلاح، أي: مقلين منه، وثقالا أي: مشتكثرين منه. وقال الحكم بن عتيبة: مشاغيل وغير مشاغيل. وقال مرة الهمذاني. أصحاء ومرضى.وقال يمان بن رباب: عزابا ومتأهلين.وقيل: خفافا من حاشيتكم وأتباعكم، وثقالا مستكثرين بهم. وقيل: خفافا مسرعين خارجين ساعة سماع النفير، وثقالا بعد التروي فيه والاستعداد له. "وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون"، قال الزهري: خرج سعيد بن المسيب إلى الغزو وقد ذهبت إحدى عينينه، فقيل له: إنك عليل صاحب ضر، فقال: استنفر الله الخفيف والثقيل، فإن لم يمكني الحرب كثرت السواد وحفظت المتاع. وقال عطاء الخراساني عن ابن عباس: نسخت هذه الآية بقوله: " وما كان المؤمنون لينفروا كافة ". وقال السدي: لما نزلت هذه الآية اشتد شأنها على الناس فنسخها الله تعالى وأنزل: "ليس على الضعفاء ولا على المرضى"الآية.
42-ثم نزل في المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك: "لو كان عرضًا قريباً"، واسم كان مضمر، أي: لو كان ما تدعونهم إليه عرضا قريبا، أي: غنيمة قريبة المتناول، "وسفراً قاصداً"، أي قريبا هينا، "لاتبعوك"، لخرجوا معك، "ولكن بعدت عليهم الشقة" أي: المسافة، والشقة: السفر البعيد، لأنه يشق على الإنسان. وقيل: الشقة الغاية التي يقصدونها، "وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم"، يعني باليمين الكاذبة، "والله يعلم إنهم لكاذبون"، في أيمانهم وإيمانهم، لأنهم كانوا مستطيعين.
43-"عفا الله عنك"، قال عمرو بن ميمون: اثنان فعلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يؤمر بهما: إذنه للمنافقين، وأخذه الفدية من أسارى بدر، فعاتبه الله كما تسمعون. قال سفيان بن عيينة: انظروا إلى هذا اللطف بدأ بالعفو قبل أن يعيره بالذنب. وقيل: إن الله عز وجل وقرة ورفع محله بافتتاح الكلام بالدعاء له، كما يقول الرجل لمن يخاطبه إذا كان كريما عنده: عفا الله عنك ما صنعت في حاجتي؟ ورضي الله عنك ألا زرتني. وقيل معناه: أدام الله لك العفو. "لم أذنت لهم"، أي: في التخلف عنك "حتى يتبين لك الذين صدقوا"، في أعذارهم، "وتعلم الكاذبين"، فيها، أي: تعلم من لا عذر له. قال ابن عباس رضي الله عنه: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف المنافقين يومئذ.
44-" لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم"، أي: لا يستأذنك في التخلف، "والله عليم بالمتقين".
45-" إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم "، أي شكت ونافقت، "فهم في ريبهم يترددون"، متحيرين.
46-"ولو أرادوا الخروج"، إلى الغزو، "لأعدوا له"، أي: لهيؤوا له "عدة"، أهبة وقوة من السلام والكراع، "ولكن كره الله انبعاثهم"، خروجهم، "فثبطهم"، منعهم وحبسهم عن الخروج، "وقيل اقعدوا"، في بيوتكم، "مع القاعدين"، يعنى: مع المرضى والزمنى. وقيل: مع النسوان والصبيان. قوله عز وجل: "وقيل" أي: قال بعضهم لبعض: اقعدوا. وقيل: أوحى إلى قلوبهم وألهموا أسباب الخذلان.
47-" لو خرجوا فيكم"، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم بالجهاد لغزوة تبوك، فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم عسكره على ثنية الوداع، وضرب عبد الله بن أبي على ذي جدة أسفل من ثنية الوداع، ولم يكن بأقل العسكرين، فلما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم تخلف عنه عبد الله بن أبي فيمن تخلف من المنافقين وأهل الريب، فأنزل الله تعالى يعزي نبيه صلى الله عليه وسلم:"لو خرجوا" يعني المنافقين "فيكم" أي معكم، " ما زادوكم إلا خبالا"، أي: فسادا وشرا. ومعنى الفساد: إيقاع الجبن والفشل بين المؤمنين بتهويل الأمر، "ولأوضعوا"، أسرعوا، "خلالكم"، وسطكم بإيقاع العداوة والبغضاء بينكم بالنميمة ونقل الحديث من البعض إلى البعض. وقيل: "لأوضعوا خلالكم" أي: أسرعوا فيما يخل بكم.. "يبغونكم الفتنة"، أي: يطلبون لكم ما نفتنون به، يقولون: لقد جمع لكم كذا وكذا، وإنكم مهزومون وسيظهر عليكم عدوكم ونحو ذلك. وقال الكلبي: يبغونكم الفتنة يعني: العيب والشر. وقال الضحاك: الفتنة الشرك، ويقال: بغيته الشر والخير أبغيه بغاء إذا التمسته له، يعنى: يغيت له. "وفيكم سماعون لهم"، قال مجاهد: معناه وفيكم محبون لهم يؤدون إليهم ما يسمعون منكم، وهم الجواسيس. وقال قتادة: معناه وفيكم مطيعون لهم، أي: يسمعون كلامهم ويطيعونهم. "والله عليم بالظالمين".
48-"لقد ابتغوا الفتنة من قبل"، أي: طلبوا صد أصحابك عن الدين وردهم إلى الكفر، وتخذيل الناس عنك قبل هذا اليوم، كفعل عبد الله بن أبي يوم أحد حين أنصرف عنك بأصحابه. "وقلبوا لك الأمور" وأجالوا فيك وفى إبطال دينك الرأي، بالتخذيل عنك وتشتيت أمرك، "حتى جاء الحق"، النصر والظفر، "وظهر أمر الله"، دين اله، "وهم كارهون".
49-قوله تعالى: "ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني"، نزلت في جد بن قيس المنافق، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تجهز لغزوة تبوك قال: يا أبا وهب هل لك في جلاد بني الأصفر؟ يعنى الروم، تتخذ منهم سراري ووصفاء، فقال جد: يا رسول الله لقد عرفت قومي أني رجل مغرم بالنساء، وإني أخشى إن رأيت بنات بني الأصفر أن لا أصبر عنهن، ائذن لي في القعود ولا تفتني بهن وأعينك بما لي. قال ابن عباس: اعتل جد بن قيس ولم تكن له علة إلا الإنفاق، فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أذنت لك فأنزل الله عز وجل: " ومنهم" يعنى من المنافقين " من يقول ائذن لي" في التخلف " ولا تفتني" ببنات الأصفر. قال قتادة: ولا تؤثمني: "ألا في الفتنة سقطوا"، أي: في الشرك والإثم وقعوا بنافقهم وخلافهم أمر الله وأمر رسوله، "وإن جهنم لمحيطة بالكافرين"، مطبقة بهم وجامعة لهم فيها.
50-" إن تصبك حسنة "، نصرة وغنيمة، "تسؤهم"، تحزنهم، يعني: المنافقين، "وإن تصبك مصيبة"، قتل وهزيمة، "يقولوا قد أخذنا أمرنا"، حذرنا، أي: أخذنا بالحزم في القعود عن الغزو، "من قبل"، أي: من قبل هذه المصيبة، " ويتولوا " ويدبروا "وهم فرحون"، مسرورون بما نالك من المصيبة.
51-"قل" لهم يا محمد "لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا"، أي: علينا في اللوح المحفوظ، "هو مولانا"، ناصرنا وحافظنا، وقال الكلبي: هو أولى بنا من أنفسنا في الموت والحياة، "وعلى الله فليتوكل المؤمنون".
52-"قل هل تربصون بنا"، تنتظرون بنا أيها المنافقون، "إلا إحدى الحسنيين"، إما النصر والغنيمة أو الشهادة والمغفرة. وروينا عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تكفل الله لمن جاهد في سبيله لا يخرجه من بيته إلا الجهاد في سبيله، وتصديق كلمته: أن يدخله الجنة، أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر أو غنيمة". قوله عز وجل "ونحن نتربص بكم "، إحدى السوأتين إما: "أن يصيبكم الله بعذاب من عنده"، فيهلككم كما أهلك الأمم الخالية، "أو بأيدينا" أي: بأيدي المؤمنين إن أظهرتم ما في قلوبكم، "فتربصوا إنا معكم متربصون"، قال الحسن: فتربصوا مواعيد الشيطان إنا متربصون مواعيد الله من إظهار دينه واستئصال من خالفه.
53-"قل أنفقوا طوعاً أو كرهاً"، أمر بمعنى الشرط والجزاء، أي: إن أنفقتم طوعا أو كرها. نزلت في جد قيس حين استأذن في القعود، قال أعينكم بمالي، يقول: إن أنفقتم طوعا أو كرها "لن يتقبل منكم إنكم"، أي: لأنكم، "كنتم قوماً فاسقين".
54-"وما منعهم أن تقبل منهم"، قرأ حمزة و الكسائي: "يقبل" بالياء لتقدم الفعل، وقرأ الباقون بالتاء لأن الفعل مسند إلى جمع مؤنث وهو النفقات، فأنت الفعل ليعلم أن الفاعل مؤنث، "نفقاتهم"، صدقاتهم، "إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله"، أي: المانع من قبول نفقاتهم كفرهم، "ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى"، متثاقلون لأنهم لا يرجون على أدائها ثوابا، ولا يخافون على تركها عقابا، فإن قيل: كيف ذم الكسل في الصلاة ولا صلاة لهم أصلا؟ قيل: الذم واقع على الكفر الذي يبعث على الكسل، فإن الكفر مكسل، والإيمان منشط، "ولا ينفقون إلا وهم كارهون"، لأنهم يعدونها مغرما ومنعها مغنما.
55-"فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم"، والإعجاب هو السرور بما يتعجب منه، يقول: لا تستحسن ما أنعمنا عليهم من الأموال والأولاد لأن العبد إذا كان من الله في استدراج كثر الله ماله وولده، "إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا"، فإن قيل: أي تعذيب في المال والولد وهم يتنعمون بها في الحياة الدنيا؟. قيل: قال مجاهد و قتادة: في الآية تقديم وتأخير، تقديره: فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا، إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة. وقيل: التعذيب بالمصائب الواقعة في المال والولد. وقال الحسن: يعذبهم بها في الدنيا بأخذ الزكاة منها والنفقة في سبيل الله، وقيل: يعذبهم بالتعب في جمعه، والوجل في حفظه، والكره في إنفاقه، والحسرة على تخليفه عند من لا يحمده، ثم يقدم على ملك لا يعذره. "وتزهق أنفسهم"، أي: تخرج، "وهم كافرون"، أي: يموتون على الكفر.
56-"ويحلفون بالله إنهم لمنكم"، أي: على دينكم، "وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون" يخافون أن يظهروا ما هم عليه.
57-" لو يجدون ملجأ "، حرزا وحصنا ومعقلا. وقال عطاء: مهربا. وقيل: قوما يأمنون فيهم. "أو مغارات"، غيرانا في الجبال، جمع مغارة وهو الموضع الذي يغور فيه، أي يستتر. وقال عطاء: سراديب. "أو مدخلا"، موضع دخول فيه، وأصله: مدتخل مفتعل، من أدخل يدخل. قال مجاهد: محرزا. وقال قتادة: سربا. وقال الكلبي: نفقا في الأرض كنفق اليربوع. وقال الحسن: وجها يدخلونه على خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقرئ: "مدخلا" بفتح الميم وتخفيف الدال، وكذلك قرأ يعقوب، "لولوا إليه "، لأدبروا إليه هربا منكم، "وهم يجمحون"، يسرعون في إباء ونفور لا يرد وجوههم شيء. ومعنى الآية: أنهم لو يجدون مخلصا منكم ومهربا لفارقوكم.
58-قوله تعالى "ومنهم من يلمزك في الصدقات"، الآية في ذي الخويصرة التميمي، واسمه حوقوص بن زهير، أصل الخوارج. أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب عن الزهري، أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن أبا سعيد الخدري رضي الله عنه قال: " بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم قسما فينا، أتاه ذو الخويصرة، وهو رجل من بني تميم فقال: يا رسول الله اعدل، فقال:ويلك فمن يعدل إذا لم أعدل، قد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل، فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله ائذن لي فيه فأضرب عنقه، فقال له: دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى رصافه فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى نضيه، وهو قدحه، فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى قذذة فلا يوجد فيه شيء، قد سبق الفرث والدم آيتهم: رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة، أو مثل البضعة تدردر، يخرجون على حين فرقة من الناس". قال أبو سعيد: فأشهد أني سمعت هذا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشهد أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قاتلهم وأنا معه، فأمر بذلك الرجل فالتمس، فوجد، فأتي به حتى نظرت إليه على نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى نعته. وقال الكلبي: قال رجل / من المنافقين يقال له أبو الجواظ لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لم تقسم بالسوية، فأنزل الله تعالى: "ومنهم من يلمزك في الصدقات" أي: يعيبك في أمرها وتفريقها ويطعن عليك فيها. يقال: لمزة وهمزه، أي: عابه، يعنى أن المنافقين كانوا يقولون إن محمدا لا يعطي إلا من أحب. وقرأ يعقوب "يلمزك" حيث كان: يلمزك أي: يروزك يعنى: يختبرك. "فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون"، قيل إن أعطوا كثيرا فرحوا وإن أعطوا قليلا سخطوا.
59-"ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله"، أي: قنعوا بما قسم لهم الله ورسوله "وقالوا حسبنا الله"، كافينا الله، "سيؤتينا الله من فضله ورسوله"، ما نحتاج إليه "إنا إلى الله راغبون"، في أن يوسع علينا من فضله، فيغنينا عن الصدقة وغيرها من أموال الناس. وجواب"لو" محذوف أي: لكان خيرا لهم وأعود عليهم.
60-قوله تعالى: "إنما الصدقات للفقراء والمساكين" الآية، بين الله تعال في هذه الآية أهل سهمان الصدقات وجعلها لثمانية أصناف. وروي عن زياد بن الحارث الصدائي قال:أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعته، فأتاه رجل وقال: أعطني من الصدقة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره فى الصدقات حتى حكم فيها هو فجزاها ثمانية أجزاء، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقك". قوله تعالى "للفقراء والمساكين". فأخذ أصناف الصدقة: الفقراء، والثاني: المساكين. واختلف العلماء في صفة الفقير والمسكين، فقال ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة وعكرمة والزهري: الفقير الذي لا يسأل، والمسكين: الذي يسأل. وقال ابن عمر: ليس بفقير من جمع الدرهم إلى الدرهم والتمرة إلى التمرة، ولكن من أنقى نفسه وثيابه لا يقدر على شيء، يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف. وقال قتادة، الفقير: المحتاج الزمن، والمسكين: الصحيح المحتاج. وروي عن عكرمة أنه قال: الفقراء من المسلمين، والمساكين من أهل الكتاب. وقال الشافعي: الفقير من لا مال له ولا حرفة تقع منه موقعا، زمنا كان أو غير زمن، والمسكين من كان له مال أو حرفة ولا يغنيه، سائلا أو غير سائل. فالمسكين عنده أحسن حالا من الفقير لأن الله تعالى قال: "أما السفينة فكانت لمساكين" الكهف-79 أثبت لهم ملكا مع اسم المسكنة. وعند أصحاب الرأي: الفقير أحسن حالا من المسكين. وقال القتيبي: الفقير: الذي له البلغة من العيش، والمسكين: الذي لا شيء له. وقيل: الفقير من له المسكن والخادم، والمسكين من لا ملك له. وقالوا: كل محتاج إلى شيء فهو مفتقر إليه وإن كان غنيا عن غيره، قال الله تعالى: "أنتم الفقراء إلى الله" (غافر-15)، والمسكين المحتاج إلى كل شيء ألا ترى كيف حض على إطعامه، وجعل طعام الكفارة له ولا فاقة أشد من الحاجة إلى سد الجوعة. وقال إبراهيم النخعي: الفقراء هم المهاجرون، والمساكين من لم يهاجروا من المسلمين. وفى الجملة: الفقر والمسكنة عبارتان عن الحاجة وضعف الحال، فالفقير المحتاج الذي كسرت الحاجة فقار ظهره، والمسكين الذي ضعفت نفسه وسكنت عن الحركة في طلب القوت. أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب، حدثنا عبد العزيز بن أحمد الخلال، حدثنا أبو العباس الأصم، حدثنا الربيع، أنبأنا الشافعي، أنبأنا سفيان بن عيينة عن هشام، يعنى: ابن عروة، عن أبيه، عن عبيد الله بن عدي بن الخيار: أن رجلين أخبراه أنهما أتيا رسول الله فسألاه عن الصدقة فصعد فيهما وصوب، فقال: " إن شئتما أعطيتكما ولا حظ فيها لغني ولا لذي قوة مكتسب". واختلفوا في حد الغنى الذي يمنع أخذ الصدقة: فقال الأكثرون: حده أن يكون عنده ما يكفيه وعياله سنة، وهو قول مالك والشافعي. وقال أصحاب الرأي: حده أن يملك مائتي درهم. وقال قوم: من ملك خمسين درهما لا تحل له الصدقة، لما روينا عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سأل الناس وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خموش أو خدوش أو كدوح، قيل: يا رسول الله وما يغنيه؟ قال: خمسون درهماً أو قيمتها من الذهب", وهو قول الثوري وابن المبارك وأحمد وإسحاق. وقالوا لا يجوز أن يعطى الرجل من الزكاة أكثر من خمسين درهما.وقيل: أربعون درهما لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" من سأل وله أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافا". قوله تعالى: "والعاملين عليها". وهم السعاة الذين يتولون قبض الصدقات من أهلها ووضعها في حقها، فيعطون من مال الصدقة، فقراء كانوا أم أغنياء، فيعطون أجر مثل عملهم. وقال الضحاك و مجاهد: لهم الثمن من الصدقة. "والمؤلفة قلوبهم"، فالصنف الرابع من المستحقين للصدقة هم: المؤلفة قلوبهم، وهم قسمان: قسم مسلمون، وقسم كفار. فأما المسلمون: فقسمان، قسم دخلوا في الإسلام ونيتهم ضعيفة فيه، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيه تألفا كما أعطى عيينة بن بدر، والأقرع بن حابس، والعباس بن مرداس أو أسلموا ونيتهم قوية في الإسلام، وهم شرفاء في قومهم مثل: عدي بن حاتم، والزبرقان بن بدر، فكان يعطيهم تألفا لقومهم وترغيبا لأمثالهم في الإسلام، فهؤلاء يجوز للإمام أن يعطيهم من خمس خمس الغنيمة، والفيء سهم النبي صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيهم من ذلك ولا يعطيهم من الصدقات. والقسم الثاني من مؤلفة المسلمين: أن يكون قوم من المسلمين بإزاء قوم كفار في موضع متناط، لا تبلغهم جيوش المسلمين إلا بمؤنة كثيرة وهم لا يجاهدون، إما لضعف نيتهم أو لضعف حالهم، فيجوز للإمام أن يعطيهم من سهم الغزاة من مال الصدقة. وقيل: من سهم المؤلفة. ومنهم قوم بإزاء جماعة من مانعي الزكاة يأخذون منهم الزكاة يحملونها إلى الإمام، فيعطيهم الإمام من سهم المؤلفة من الصدقات. وقيل: من سهم سبيل الله. روي أن عدي بن حاتم جاء أبا بكر الصديق بثلاثمائة من الإبل من صدقات قومه فأعطاه أبو بكر منها ثلاثين بعيرا. وأما الكفار من المؤلفة: فهم من يخشى شره منهم، أو يرجى إسلامه، فيريد الإمام أن يعطي هذا حذرا من شره، أو يعطي ذلك ترغيبا له في الإسلام،/ فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيهم من خمس الخمس، كما أعطى صفوان بن أمية لما يرى من ميله إلى الإسلام، أما اليوم فقد أعز الله الإسلام فله الحمد، وأغناه أن يتألف عليه رجال، فلا يعطى مشرك تألفا بحال، وقد قال بهذا كثير من أهل العلم أن المؤلفة منقطعة وسهمهم ساقط. روي ذلك عن عكرمة، وهو قول الشعبي، وبه قال مالك و الثوري، وأصحاب الرأي، و إسحاق بن راهوية. وقال قوم: سهمهم ثابت، يروى ذلك عن الحسن، وهو قول الزهري، و أبي جعفر محمد بن علي، و أبي ثور، وقال أحمد: يعطون إن احتاج المسلمون إلى ذلك. قوله تعالى: "وفي الرقاب"، والصنف الخامس: وهم الرقاب، وهم المكاتبون، لهم سهم من الصدقة، هذا قول أكثر الفقهاء، وبه قال سعيد بن جبير، و النخعي، و الزهري، و الليث بن سعد، و الشافعي. وقال جماعة: يشترى بسهم الرقاب عبيد فيعتقون. وهذا قول الحسن، وبه قال مالك و أحمد و إسحاق. قوله تعالى: "والغارمين"، الصنف السادس هم: الغارمون، وهم قسمان: قسم دانوا لأنفسهم في غير معصيته، فإنهم يعطون من الصدقة إذا لم لكن لهم من المال ما يفي بديونهم، فإن كان عندهم وفاء فلا يعطون، وقسم أدانوا في المعروف وإصلاح ذات البين فإنهم يعطون من مال الصدقة ما يقضون به ديونهم، وإن كانوا أغنياء. أخبرنا أبو الحسن السرخسي، أنبأنا زاهر بن أحمد، أنبأنا أبو إسحاق الهاشمي، أخبرنا أبو مصعب عن مالك بن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: لغاز في سبيل الله، أو لغارم، أو لرجل اشتراها بماله، أو لرجل له جار مسكين فتصدق على المساكين فأهدى المسكين للغني، أو لعامل عليها". ورواه معمر عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم متصلا بمعناه. أما من كان دينه في معصية فلا يدفع إليه. وقوله تعالى: " وفي سبيل الله "، أراد بها: الغزاة، فلهم سهم من الصدقة، يعطون إذا أرادوا الخروج إلى الغزو، وما يستعينون به على أمر الغزو من: النفقة، والكسوة، والسلاح، والحمولة، وإن كانوا أغنياء، ولا يعطى منه شيء في الحج عند أكثر أهل العلم. وقال قوم: يجوز أن يصرف سهم في سبيل الله إلى الحج. ويروى ذلك عن ابن عباس، وهو قول الحسن، وأحمد، وإسحاق. قوله تعالى: "وابن السبيل"، الصنف الثامن: هم أبناء السبيل، فكل من يريد سفرا مباحا ولم يكن له ما يقطع به المسافة يعطى من الصدقة بقدر ما يقطع به تلك المسافة، سواء كان له في البلد المتنقل إليه مال أو لم يكن. وقال قتادة: ابن السبيل هو الضيف. وقال فقهاء العراف: ابن السبيل الحاج المنقطع. قوله تعالى: "فريضة" أي: واجبة "من الله"، وهو نصب على القطع، وقيل: على المصدر، أي: فرض الله هذه الأشياء فريضة. "والله عليم حكيم". اختلف الفقهاء في كيفية قسم الصدقات، وفي جواز صرفها إلى بعض الأصناف: فذهب جماعة إلى أنه لا يجوز صرفها كلها إلى بعضهم مع وجود سائر الأصناف، وهو قول عكرمة، وبه قال الشافعي، قال: يجب أن تقسم زكاة كل صنف من ماله على الموجودين من الأصناف الستة، الذين سهمانهم ثابتة قسمة على السواء، لأن سهم المؤلفة ساقط، وسهم العامل إذا قسم بنفسه، ثم حصة كل صنف منهم لا يجوز أن تصرف إلى أقل من ثلاثة منهم إن وجد منهم ثلاثة أو أكثر، فلو فاوت بين أولئك الثلاث، يجوز، فإن لم يوجد من بعض الأصناف إلا واحدا صرف حصة ذلك الصنف إليه ما لم يخرج عن حد الاستحقاق، فإن انتهت حاجته وفضل شيء رده إلى الباقين. وذهب جماعة إلى أنه لو صرف الكل إلى صنف واحد من هذه الأصناف، أو إلى شخص واحد منهم يجوز، وإنما سمى الله تعالى هذه الأصناف الثمانية إعلاما منه أن الصدقة لا تخرج عن هذه الأصناف، لا إيجابا لقسمها بينهم جميعا. وهو قول عمر، وابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير وعطاء، وإليه ذهب سفيان الثوري وأصحاب الرأي، وبه قال أحمد، قال: يجوز أن يضعها في صنف واحد وتفريقها أولى. وقال إبراهيم: إن كان المال كثيرا يحتمل الإجزاء قسمه على الأصناف، وإن كان قليلا جاز وضعه في صنف واحد. وقال مالك: يتحرى موضع الحاجة منهم ويقدم الأولى فالأولى من أهل الخلة والحاجة، فإن رأى الخلة في الفقراء في عام أكثر قدمهم، وإن رآها في عام في صنف آخر حولها إليهم. وكل من دفع إليه شيء من الصدقة لا يزيد على قدر الاستحقاق، فلا يزيد الفقير على قدر غناه، فإذا حصل أدنى اسم الغنى لا يعطى بعده، فإن كان محترفا لكنه لا يجد آلة حرفته: يعطى قدر ما يحصل به آلة حرفته، ولا يزاد العامل على أجر علمه، والمكاتب على قدر ما يعتق به. وللغريم على قدر دينه، وللغازي على قدر نفقته للذهاب والرجوع والمقام في مغزاه وما يحتاج إليه من الفرس والسلاح، ولابن السبيل على قدر إتيانه مقصده أو ماله. واختلفوا في نقل الصدقة عن بلد المال إلى موضع آخر، مع وجود المستحقين فيه: فكرهه أكثر أهل العلم، لما أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي، أنبأنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي، حدثنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي، حدثنا أبو عيسى الترمذي، حدثنا أبو كريب، حدثنا وكيع، حدثنا زكريا بن إسحاق المكي، حدثنا يحيى بن عبد الله بن الصيفي عن أبي معبد عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معاذا إلى اليمن فقال: "إنك تأتي قوما أهل كتاب فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب". فهذا يدل على أنه صدقة أغنياء كل قوم ترد على فقراء ذلك القوم. واتفقوا على أنه إذا نقل من بلد إلى بلد آخر أدي مع الكراهة، وسقط الفرض عن ذمته، إلا ما حكى / عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أنه رد صدقة حملت من خراسان إلى الشام إلى مكانها من خراسان.
61-"ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن"، نزلت في جماعة من المنافقين كانوا يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم، ويقولون ما لا ينبغي، فقال بعضهم: لا تفعلوا، فإنا نخاف أن يبلغه ما تقولون فيقع بنا. فقال الجلاس بن سويد منهم: بل نقول ما شئنا، ثم نأتيه فننكر ما قلنا، ونحلف فيصدقنا بما نقول، فإنما محمد أذن، أي: أذن سامعه، يقال: فلان أذن وأذنة على وزن فعله إذا كان يسمع كل ما قيل له ويقبله، وأصله من أذن يأذن أذنا أي: اسمتمع. وقيل: هو أذن أي: ذو أذن سامعة. وقال محمد بن إسحاق بن يسار: نزلت في رجل من المنافقين يقال له نبتل بن الحارث، وكان رجلا أذلم، ثائر شعر الرأس، أحمر العينين، أسفع الخدين، مشوه الخلقة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من أحب أن ينظر إلى الشيطان فليظر إلى نبتل بن الحارث". وكان ينم حديث النبي صلى الله عليه وسلم إلى المنافقين، فقيل له: لا تفعل، فقال: إنما محمد أذن فمن حدثه شيئا صدقه، فتقول ما شئنا، ثم نأتيه ونحلف بالله فيصدقنا، فأنزل الله تعالى هذه الآية. قوله تعالى: "قل أذن خير لكم"، قرأه العامة بالإضافة، أي: مستمع خير وصلاح لكم، لا مستمع شر وفساد. وقرأ الأعمش و البرجمي عن أبي بكر: "أذن خير لكم"، مرفوعين منونين، يعني: أن يسمع منكم ويصدقكم خير لكم من أن يكذبكم ولا يقبل قولكم، ثم كذبهم فقال: "يؤمن بالله"، أي: لا، بل يؤمن بالله، "ويؤمن للمؤمنين"، أي: يصدق المؤمنين ويقبل منهم لا من المنافقين. يقال: أمنته وأمنت له بمعنى صدقته. "ورحمة"، قرأ حمزة: "ورحمة" بالخفض على معنى أذن خير لكم، وأذن رحمة، وقرأ الآخرون: "ورحمة " بالرفع، أي: هو أذن خير، وهو رحمة "للذين آمنوا منكم"، لأنه كان سبب إيمان المؤمنين: "والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم".
62-"يحلفون بالله لكم ليرضوكم"، قال قتادة و السدي: اجتمع ناس من المنافقين فيهم الجلاس بن سويد، ووديعة بن ثابت، فوقعوا في النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا: إن كان ما يقول محمد حقا فنحن شر من الحمير، وكان عندهم غلام من الأنصار يقال له عامر بن قيس، فحقروه وقالوا هذه المقالة، فغضب الغلام وقال: والله إن ما يقول محمد حق وأنتم شر من الحمير، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فدعاهم وسألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحلفوا أن عامرا كذاب. وحلف عامر أنهم كذبة فصدقهم النبي صلى الله عليهم وسلم، فجعل عامر يدعو ويقول: اللهم صدق الصادق وكذب الكاذب فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقال مقاتل والكلبي: نزلت في رهط من المنافقين تخلفوا عن غزوة تبوك، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم أتوه يعتذرون إليه ويحلفون، فأنزل الله تعالى هذه الآية: " يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين ".
63-"ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله"، يخالف الله ورسوله أن يكونوا في جانب واحد من الله ورسوله، "فأن له نار جهنم خالداً فيها ذلك الخزي العظيم"، أي: الفضيحة العظيمة.
64-"يحذر المنافقون"، أي: يخشى المنافقون، "أن تنزل عليهم"، أي: تنزل على المؤمنين، "سورة تنبئهم بما في قلوبهم"، أي: بما في قلوب المنافقين من الحسد والعداوة للمؤمنين، كانوا يقولون فيما بينهم ويسرون ويخافون الفضيحة بنزول القرآن في شأنهم. قال قتادة: هذه السورة تسمى الفاضحة والمبعثرة والمثيرة، أثارت مخازيهم ومثالبهم. قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: أنزل الله تعالى ذكر سبعين رجلا من المنافقين بأسمائهم وأسماء آبائهم ثم نسخ ذكر الأسماء رحمة للمؤمنين، لئلا يعير بعضهم بعضا، لأن أولادهم كانوا مؤمنين. " قل استهزئوا إن الله مخرج "، مظهر "ما تحذرون". قال ابن كيسان: " نزلت هذه الآية في اثني عشر رجلا من المنافقين، وقفوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم على العقبة لما رجع من غزوة تبوك ليفتكوا به إذا علاها، ومعهم رجل مسلم يخفيهم شأنه، وتنكروا له في ليلة مظلمة، فأخبر جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قدروا، وأمره أن يرسل إليهم من يضرب وجوه رواحلهم، و عمار بن ياسر يقود برسول الله صلى الله عليه وسلم راحلته، و حذيفة يسوق به، فقال لحذيفة: من عرفت من القوم؟ قال: لم أعرف منهم أحدا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:فإنهم فلان وفلان حتى عدهم كلهم، فقال حذيفة: ألا تبعث إليهم فتقتلهم؟ قال: أكره أن تقول العرب. لما ظفر بأصحابه أقبل يقتلهم، بل يكفيناهم الله بالدبيلة". أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، أنبأنا عبد الغافر بن عيسى، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، حدثنا مسلم بن الحجاج، حدثنا محمد بن المثني، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن قتادة عن أبي نضرة عن قيس بن عبادة قال: قلنا لعمار أرأيت قتالكم أرأيا رأيتموه؟ فإن الرأي يخطأ ويصيب، أو عهد عهده إليكم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ما عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا لم يعهده إلى الناس كافة، وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن في أمتي _قال شعبة وأحسبه قال: حدثني حذيفة قال في أمتي _ اثنا عشر منافقا لا يدخلون الجنة، ولا يجدون ريحها، حتى يلج الجمل في سم الخياط، ثمانية منهم تكفيهم الدبيلة، سراج من النار يظهر في أكتافهم، حتى ينجم من صدورهم".
65-قوله تعالى: "ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب" الآية، وسبب نزول هذه الآية على ما قال الكلبي و مقاتل و قتادة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسير في غزوة تبوك وبين يديه ثلاثة نفر من المنافقين، اثنان يستهزئان بالقرآن والرسول، والثالث يضحك. قيل: كانوا يقولون: إن محمدا يزعم أنه يغلب الروم ويفتح مدائنهم ما أبعده من ذلك ! وقيل كانوا يقولون: إن محمدا يزعم أنه نزل في أصحابنا المقيمين بالمدينة قرآن، وإنما هو قوله وكلامه، فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك، فقال: احبسوا علي الركب، فدعاهم وقال لهم: قلتم كذا وكذا، فقالوا: إنما كنا نخوض ونلعب، أي كنا نتحدث ونخوض في الكلام كما يفعل الركب لقطع الطريق بالحديث واللعب. قال عمر فلقد/ رأيت عبد الله بن أبي يشتد قدام رسول الله صلى الله عليه وسلم والحجارة تنكبه وهو يقول إنما كنا نخوض ونلعب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أبا لله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤون، ما يلتفت إليه ولا يزيد عليه. قوله تعالى: "قل"، أي: قل يا محمد "أبالله وآياته"، كتابه، " ورسوله كنتم تستهزئون ".
66-"لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم"، فإن قيل: كيف قال: كفرتم بعد إيمانكم، وهم لم يكونوا مؤمنين؟. قيل: معناه: أظهرتم الكفر بعدما أظهرتم الإيمان. "إن نعف عن طائفة منكم"، أي: نتب على طائفة منكم، وأراد بالطائفة واحدا، "نعذب" بالنون وكسر الذال، "طائفة" نصب. وقرأ الآخرون: يعف بالياء وضمها الفاء، "تعذب" بالتاء وفتح الدال، طائف رفع على غير تسمية الفاعل. وقال محمد بن إسحاق: الذي عفا عنه رجل واحد، هو مخشي بن حمير الأشجعي،يقال هو تاب من نفاقه، وقال: اللهم إني أزال أسمع آية تقرأ أعنى بها تقشعر الجلود منها، وتجب منها القلوب، اللهم اجعل وفاتي قتلا في سبيلك لا يقول أحد أنا غسلت أنا كفنت أنا دفنت، فأصيب يوم اليمامة، فما أحد من المسلمين إلا عرف مصرعه غيره.
67-قوله تعالى: "المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض"، أي: هم على دين واحد. وقيل: أمرهم واحد بالاجتماع على النفاق، "يأمرون بالمنكر"، بالشرك والمعصية، "وينهون عن المعروف"، أي عن الإيمان والطاعة، "ويقبضون أيديهم" أي: يمسكونها عن الصدقة والإنفاق في سبيل الله ولا يبسطونها بخير، "نسوا الله فنسيهم"، تركوا طاعة الله، فتركهم الله من توفيقه وهدايته في الدنيا، ومن رحمته في الآخرة، وتركهم في عذابه، "إن المنافقين هم الفاسقون".
68-"وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم"، كافيتهم جزاه على كفرهم، "ولعنهم الله"، أبعدهم من رحمته، "ولهم عذاب مقيم"، دائم.
69-"كالذين من قبلكم"، أي: فعلتم كفعل الذين من قبلكم بالعدول عن أمر الله، فلعنتم كما لعنوا "كانوا أشد منكم قوة"، بطشا ومنعة، "وأكثر أموالاً وأولاداً فاستمتعوا بخلاقهم" فتمتعوا وانتفعوا بخلافهم، بنصيبهم من الدنيا باتباع الشهوات ورضوا به عوضا عن الآخرة، "فاستمتعتم بخلاقكم"، أيها الكفار والمنافقون، "كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم"، وسلكتم سبيلهم، "وخضتم" في الباطل والكذب على الله تعال، وتكذيب رسله، وبالاستهزاء بالمؤمنين، "كالذي خاضوا"، أي: كما خاضوا. وقيل: كالذي بمعنى كالذين خاضوا، وذلك أن الذي اسم ناقص، مثل "ما" و "من" يعبر به عن الواحد والجميع، نظيره قوله تعالى: "كمثل الذي استوقد نارا" ثم قال: " ذهب الله بنورهم " (البقرة -17). " أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون"، أي: كما حبطت أعمالهم وخسروا كذلك حبطت أعمالكم وخسرتم. أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا محمد بن عبد العزيز، حدثنا أبو عمر الصنعاني من اليمن، عن زيد بن أسلمن عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لاتبعتموهم، قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ وفي رواية أبي هريرة: فهل الناس إلا هم"، وقال ابن مسعود رضي الله عنه :أنتم أشبه الأمم ببني إسرائيل سمتا وهديا تتبعون عملهم حذو القذة بالقذة غير أني لا أدري اتعبدون العجل أم لا.
70-قوله تعالى: "ألم يأتهم"، يعنى المنافقين، "نبأ"، خبر، "الذين من قبلهم"، حين عصوا رسلنا، وخالفوا أمرنا كيف عذبناهم وأهلكناهم. ثم ذكرهم، فقال: "قوم نوح"، أهلكوا بالطوفان، "وعاد"، أهلكوا بالريح "وثمود"، بالرجفة، "وقوم إبراهيم"، بسلب النعمة وهلاك نمرود، "وأصحاب مدين"، يعنى قوم شعيب أهلكوا بعذاب يوم الظلة، "والمؤتفكات" المنقلبات التي جعلنا عاليها سافلها وهم قوم لوط، "أتتهم رسلهم بالبينات"، فكذبوهم وعصوهم كما فعلتم يا معشر الكفار، فاحذروا تعجيل النقمة، "فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون".
71-قوله تعالى: "والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض" في الدين واتفاق الكلمة والعون والنصرة. "يأمرون بالمعروف"، بالإيمان والطاعة والخير، "وينهون عن المنكر"، عن الشرك والمعصية وما لا يعرف في الشرع، "ويقيمون الصلاة"، المفروضة، "ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم".
72-"وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة"، منازل طيبة، "في جنات عدن" أي: بساتين خلد وإقامة، يقال: عدن بالمكان إذا أقام به. قال ابن مسعود: هي بطنان الجنة، أي: وسطها. قال عبد الله بن عمرو بن العاص: إن في الجنة قصرا يقال له: "عدن" حوله البروج والمروج، له خمسة آلاف باب لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد. وقال الحسن: قصر من ذهب لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد أو حكم عدل. وقال عطاء بن السائب: "عدن" نهر في الجنة جنانه على حافتيه. وقال مقاتل و الكلبي: "عدن" أعلى درجة في الجنة، وفيها عين التسنيم، والجنان حولها، محدقة بها، وهى مغطاة من حين خلقها الله تعالى حتى ينزلها أهلها: الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون، ومن شاء الله، وفيها قصور الدر واليواقيت والذهب، فتهب ريح طيبة من تحت العرش فتدخل عليهم كثبان المسك الأذفر الأبيض. "ورضوان من الله أكبر". أي: رضا الله عنهم أكبر من ذلك، "ذلك هو الفوز العظيم". روينا عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يقول الله عز وجل لأهل الجنة يا أهل الجنة هل رضيتم؟ فيقولون: ربنا ما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعطه أحدا من خلقك، فيقول: أفلا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: ربنا أي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا".
73-قوله تعالى: "يا أيها النبي جاهد الكفار": بالسيف والقتل، "والمنافقين"، واختلفوا في صفة جهاد المنافقين، قال ابن/ مسعود: بيده فإن لم يستطع فبلسانه وإن لم يستطع فبقلبه، وقال: لا تلق المنافقين إلا بوجه مكفهر. وقال ابن عباس: باللسان وترك الرفق. وقال الضحاك: بتغليط الكلام. وقال الحسن وقتادة: بإقامة الحدود عليهم. "واغلظ عليهم ومأواهم" في الآخرة، "جهنم وبئس المصير". قال عطاء: نسخت هذه الآية كل شيء من العفو والصفح.
74-قوله تعالى: "يحلفون بالله ما قالوا"، قال ابن عباس:" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا في ظل حجرة فقال:إنه سيأتيكم إنسان فينظر إليكم بعيني شيطان، فإذا جاء فلا تكلموه، فلم يلبثوا أن طلع رجل أزرق، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: علام تشتمني أنت وأصحابك؟ فانطلق الرجل، فجاء بأصحابه، فحلفوا بالله، ما قالوا، فأنزل الله عز وجل هذه الآية". وقال الكلبي: نزلت في الجلاس بن سويد، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب ذات يوم بتبوك، فذكر المنافقين وسماهم رجسا وعابهم، فقال جلاس: لئن كان محمد صادقا لنحن شر حمير. فسمعه عامر بن قيس: أجل إن محمد لصادق وأنتم شر من الحمير، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أتاه عامر بن قيس فأخبره بما قال الجلاس، فقال الجلاس: كذب علي يا رسول الله، وأمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحلفا عند المنبر، فقام الجلاس عند المنبر بعد العصر فحلف بالله الذى لا إله إلا هو ما قاله، ولقد كذب علي عامر، ثم قام عامر فحلف بالله الذى لا إله إلا هو لقد قاله وما كذبت عليه، ثم رفع يديه إلى السماء وقال: اللهم أنزل على نبيك تصديق الصادق منا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون: آمين. فنزل جبريل عليه السلام قبل أن يتفرقا بهذه الآية، حتى بلغ: "فإن يتوبوا يك خيراً لهم"، فقام الجلاس فقال: يا رسول الله أسمع الله عز وجل قد عرض علي التوبة، صدق عامر بن قيس فيما قاله، لقد قلته وأنا أستغفر الله وأتوب إليه، فقبل رسول الله ذلك منه وحسنت توبته قوله تعالى: "ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم"، أي: أظهروا الكفر بعد إظهار الإيمان والإسلام. قيل: هي سب النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: كلمة الكفر قول الجلاس: لئن كان محمد صادقا لنحن شر من الحمير. وقيل: كلمة الكفر قولهم "لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل"، (المنافقين-8) وستأتي تلك القصة في موضعها في سورة المنافقين، "وهموا بما لم ينالوا"، قال مجاهد: هم المنافقون بقتل المسلم الذي سمع قولهم: لنحن شر من الحمير، لكي لا يفشيه. وقيل: هم اثنا عشر رجلا من المنافقين وقفوا على العقبة في طريق تبوك ليفتكوا برسول الله صلى الله علي وسلم، فجاء جبريل عليه السلام وأمره أن يرسل إليهم من يضرب وجوه رواحلهم، فأرسل حذيفة لذلك. وقال السدي: قالوا إذا قدمنا المدينة عقدنا على رأس عبد الله بن أبي تاجا، فيم يصلوا إليه. "وما نقموا"، وما كرهوا وما أنكروا منهم، "إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله". وذلك أن مولى الجلاس قتل، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بديته اثني عشر ألف درهم فاستغنى. وقال الكلبي: كانوا قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم في ضنك من العيش، فلما قدم عليهم النبي صلى الله عليه وسلم استغنوا بالغنائم. "فإن يتوبوا" من نفاقهم وكفرهم "يك خيرًا لهم وإن يتولوا"، يعرضوا عن الإيمان، "يعذبهم الله عذاباً أليماً في الدنيا"، بالخزي، "والآخرة"، أي: وفى الآخرة بالنار، " وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير ".
75-قوله تعالى: "ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن" الآية. أخبرنا أبو سعيد الشريحي، حدثنا أبو إسحاق الثعلبي، أخبرنا أبو عبد الله بن حامد الأصفهاني، حدثنا أحمد بن محمد بن إبراهيم السمرقندي، حدثنا محمد بن نصر، حدثني أبو الأزهر أحمد بن الأزهر، حدثنا مروان بن محمد بن شعيب حدثنا معان بن رفاعة عن علي بن زيد، عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبي أمامة الباهلي قال: " جاء ثعلبة بن حاطب الأنصاري إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:ويحك يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه، ثم أتاه بعد ذلك، فقال يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :أمالك في رسول الله أسوة حسنة؟ والذي نفسي بيده لو أردت أن تسير الجبال معي ذهبا وفضة لسارت ثم أتاه بعد ذلك فقال: يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا فوالذي بعثك بالحق لئن رزقني الله مالا لأعطين كل ذي حق حقه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:اللهم ارزق ثعلبة مالا". قال: فاتخذ غنما فنمت كما ينمو الدود، فضاقت عليه المدينة فتنحى عنها، فنزل واديا من أوديتها وهى تنمو كالدود، فكان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر، ويصلي في غنمه سائر الصلوات، ثم كثرت ونمت حتى تباعد بها عن المدينة، فصار لا يشهد إلا الجمعة، ثم كثرت فنمت فتباعد أيضا حتى كان لا يشهد جمعة ولا جماعة. فكان إذا كان يوم الجمعة خرج يتلقى الناس يسألهم عن الأخبار، فذكره صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: ما فعل ثعلبة؟ قالوا: يا رسول الله اتخذ ثعلبة غنما ما يسعها واد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا ويح ثعلبة ياويح ثعلبة ياويح ثعلبة. فأنزل الله آية الصدقات، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من بني سليم ورجلا من جهنية وكتب لهما أسنان الصدقة، فكيف يأخذان، وقال لهما: مرا بثعلبة بن حاطب، وبفلان، رجل من بني سليم فخذا صدقاتهما، فخرجا حتى أتيا ثعلبة فسألاه الصدقة وقراه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما هذه إلا جزية ما هذه إلا أخت الجزية، انطلقا حتى تفرغا ثم عودا إلي، فانطلقا وسمع بهما السلمي فنظر إلى خيار أسنان إيله فعزلها للصدقة ثم استقبلها بها فلما رأوها قالوا: ما هذه عليك. قال: خذاه فإن نفسي بذلك طيبة، فمرا على الناس فأخذا الصدقات، ثم رجعا إلى ثعلبة، فقال: أروني كتابكما فقرأه، ثم قال: ما هذه إلا أخت الجزية، اذهبا حتى أرى رأيي. قال: فأقبلا رآهما رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يكلماه قال: يا ويح ثعلبة يا ويح ثعلبة، ثم دعا للسلمي بخير، فأخبراه بالذي صنع ثعلبة، فأنزل الله تعالى فيه: " ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن " الآية، إلى قوله: "وبما كانوا يكذبون" وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من أقارب ثعلبة فسمع ذلك فخرج حتى أتاه فقال ويحك يا ثعلبة لقد أنزل الله فيك كذا وكذا، فخرج ثعلبة حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله أن يقبل منه الصدقة، فقال: إن الله عز وجل منعني أن أقبل منك صدقتك، فجعل يحثو التراب على رأسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا عملك وقد أمرتك فلم تطعني، فلما أبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبض صدقته، رجع إلى منزله. وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم أتى أبا بكر فقال: اقبل صدقتي، فقال أبو بكر: لم يقبلها منك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أنا أقبلها؟ فقبض أبو بكر ولم يقبلها. فلما ولي عمر أتاه فقال: اقبل صدقتي، فقال: لم يقبلها منك رسول الله ولا أبو بكر، أنا أقبلها منك؟ فلم يقبلها فلما ولي عثمان أتاه فلم يقبلها منه، وهلك ثعلبة في خلافة عثمان. قال ابن عباس و سعيد بن جبير و قتادة: أتى مجلسا من الأنصار فأشهدهم لئن آتاني الله من فضله آتيت منه كل ذي حق حقه، وتصدقت منه، ووصلت الرحم، وأحسنت إلى القرابة، فمات ابن عم له فورثه مالا فلم يف بما قال، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقال الحسن و مجاهد: نزلت في ثعلبة بن حاطب ومعتب بن قشير، وهما من بني عمرو بن عوف، خرجا على ملأ قعود قالا: والله لئن رزقنا الله مالا لنصدقن، فلما رزقهما الله عز وجل بخلا به فقوله عز وجل: "ومنهم" يعني: المنافقين "من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن" ولنؤدين حق الله منه. "ولنكونن من الصالحين"، نعمل بعمل أهل الصلاح فيه، من صلة الرحم والنفقة في الخير.
76-"فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون".
77-"فأعقبهم"، فأخلفهم، "نفاقاً في قلوبهم"، أي: صبر عاقبة أمرهم النفاق، يقال: أعقب فلانا ندامة إذا صبر عاقبة أمره ذلك. وقيل: عاقبهم بنفاق قلوبهم. يقال: عاقبته وأعقبته بمعنى واحد. "إلى يوم يلقونه"، يريد حرمهم التوبة إلى يوم القيامة، " بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون ". أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي، حدثنا أبو الحسن علي بن عبد الله الطيسفوني، حدثنا عبد الله بن عمر الجوهري، حدثنا أحمد بن علي الكشميهني، حدثنا علي بن حجر، حدثنا إسماعيل بن جعفر أخبرنا أبو سهيل نافع عن مالك عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان".
78-قوله عز وجل: "ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم"، يعني: ما أضمروا في قلوبهم وما تناجوا بينهم، "وأن الله علام الغيوب".
79-قوله عز وجل: "الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات" الآية. قال أهل التفسير: حث رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصدقة، "فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف درهم، وقال: يا رسول الله مالي ثمانية آلاف جئتك بأربعة آلاف فاجعلها في سبيل الله، وأمسكت أربعة آلاف لعيالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:بارك الله فيما أعطيت وفيما أمسكت" فبارك الله في ماله حتى أنه خلف امرأتين يوم مات فبلغ ثمن ماله لهما وستين ألف درهم. وتصدق يومئذ عاصم بن عدي العجلاني بمائة وسق من تمر. وجاء أبو عقيل الأنصاري واسمه الحباب بصاع من تمر، وقال: يا رسول الله بت ليلتي أجر بالجرير الماء حتى نلت صاعين من تمر فأمسكت أحدهما لأهلي وأتيتك بالآخر فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينثره في الصدقة، فلمزهم المنافقون، فقالوا: ما أعطى عبد الرحمن وعاصم إلا رياء، وإن الله ورسوله لغنيان عن صاع أبي عقيل، ولكنه أراد أن يذكر بنفسه ليعطى من الصدقة، فأنزل الله عز وجل: "الذين يلمزون" أي: يعيبون "المطوعين" المتبرعين "من المؤمنين في الصدقات" يعني: عبد الرحمن بن عوف وعاصما. "والذين لا يجدون إلا جهدهم"، أي: طاقتهم، يعني: أبا عقيل. والجهد: الطاقة، بالضم لغة قريش وأهل الحجاز. وقرأ الأعرج بالفتح. قال القتيبي: الجهد بالضم الطاقة وبالفتح المشقة. "فيسخرون منهم"، يستهزؤون منهم، "سخر الله منهم"، أي: جازاهم الله على السخرية، "ولهم عذاب أليم".
80-"استغفر لهم أو لا تستغفر لهم"، لفظه أمر، معناه خبر، تقديره: أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم. "إن تستغفر لهم سبعين مرةً فلن يغفر الله لهم"، وذكر عدد السبعين للمبالغة في اليأس عن طمع المغفرة. قال الضحاك: لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله قد رخص لي فلأزيدن على السبعين لعل الله أن يغفر لهم"، فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم " سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم ". " ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدي القوم الفاسقين ".
81-"فرح المخلفون" عن غزوة تبوك. والمخلف: المتروك "بمقعدهم" أي بقعودهم "خلاف رسول الله"، قال أبو عبيدة: أي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: مخالفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين ساروا وأقاموا، "وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا في الحر"، وكانت غزوة تبوك في شدة الحر، "قل نار جهنم أشد حراً لو كانوا يفقهون"، يعلمون وكذلك هو في مصحف عبد الله بن مسعود.
82-"فليضحكوا قليلاً"، في الدنيا، "وليبكوا كثيراً"،في الآخرة. تقديره: فليضحكوا قليلا فسيبكون كثيرا، "جزاءً بما كانوا يكسبون". أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي، أنبأنا السيد أبو الحسن محمد بن الحسين العلوي قال: أخبرنا عبد الله بن محمد الحسين الشرقي، حدثنا عبد الله بن هاشم، حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا شعبة عن موسى بن أنس عن أنس رضي الله عنهم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ولو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا". أخبرنا أبو بكر بن عبد الله بن أبي توبة، حدثنا أبو طاهر محمد بن أحمد الحارث، حدثنا أبو الحسن محمد بن يعقوب الكسائي حدثنا عبد الله بن محمود، حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله الخلال، حدثنا عبد الله بن المبارك عن عمران بن زيد الثعلبي، حدثنا يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"يا أيها الناس ابكو، فإن لم تستطيعوا فتباكوا، فإن أهل النار يبكون في النار حتى تسيل دموعهم في وجوههم كأنها جداول، ثم تنقطع الدموع، فتسيل الدماء فتقرح العيون، فلو أن سفنا أجريت فيها لجرت".
83-قوله تعالى: "فإن رجعك الله" أي: ردك يا محمد من غزوة تبوك، "إلى طائفة منهم"، يعني: من المخلفين. وإنما قال: "طائفة منهم" لأنه ليس كل من تخلف عن غزوة تبوك كان منافقا، "فاستأذنوك للخروج"، معك في غزوة أخرى، "فقل"، لهم "لن تخرجوا معي أبداً" في سفر، "ولن تقاتلوا معي عدوا إنكم رضيتم بالقعود أول مرة"، في غزوة تبوك "فاقعدوا مع الخالفين"، أي: مع النساء والصبيان، وقيل مع الزمنى والمرضى. وقال ابن عباس: مع الذين تخلفوا بغير عذر. وقيل: "مع الخالفين". قال الفراء يقال: صاحب خالف إذا كان مخالفا.
84-"ولا تصل على أحد منهم مات أبداً" الآية. قال أهل التفسير: بعث عبد الله بن أبي بن سلول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مريض، فلما دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له أهلكك حب اليهود؟ فقال: يا رسول الله إني لم أبعث إليك لتؤنبني، إنما بعثت إليك لتستغقر لي، وسأله أن يكفنه في قميصه ويصلي عليه. أخبرنا عبد الواحد المليحي، حدثنا أحمد بن عبد الله النعيمي، حدثنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا يحيى بن بكير، حدثني الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد بن عباس، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: " لما مات عبد الله بن أبي بن سلول دعي له رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبت إليه، فقلت: يا رسول الله أتصلي على ابن أبي بن سلول وقد قال يوم كذا وكذا: كذا وكذا؟ أعدد عليه قوله، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:أخر عني يا عمر فلما أكثرت عليه قال: إني خيرت فاخترت، لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها، قال: فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم انصرف فلم يمكث إلا يسيرا حتى نزلت الآيتان من براءة: "ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره"، إلى قوله: "وهم فاسقون".قال فعجبت بعد من جرأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ والله ورسوله أعلم". أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، حدثنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنبأنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان قال عمرو: سمعت جابر بن عبد الله قال: في فيه من ريقه وألبسه قميصه. فالله أعلم وكان كسا عباسا قميصا. قال سفيان: وقال هارون: وكان على رسول الله صلى الله عليه وسلم قميصان فقال ابن عبد الله: يا رسول الله ألبس أبي قميصك الذي يلي جلدك. وروي عن جابر قال: لما كان يوم بدر أتي بالعباس ولم يكن عليه ثوب فوجدوا قميص عبد الله بن أبي يقدر عليه، فكساه النبي صلى الله عليه وسلم إياه، فلذلك نزع النبي صلى الله عليه وسلم قميصه الذي ألبسه عبد الله. قال ابن عيينة: كانت له عند النبي صلى الله عليه وسلم يد فأحب أن يكافئه. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كلم فيما فعل بعبد الله بن أبي فقال صلى الله عليه وسلم "وما يغني عنه قميصي وصلاتي من الله شيئا والله إني كنت أرجو أن يسلم به ألف من قومه"، وروى أنه أسلم به ألف من قومه لما رأوه يتبرك بقميص النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: "ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره" ولا تقف عليه، ولا تتول دفنه، من قولهم: قام فلان بأمر فلان: إذا كفاه أمره. "إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون"، فما صلى النبي صلى الله عليه وسلم بعدها على منافق ولا قام على قبره حتى قبض.
85-قوله تعالى: "ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون".
86-" وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولو الطول منهم "، ذوو الغنى والسعة منهم في القعود، "وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين"، في رحالهم.
87-"رضوا بأن يكونوا مع الخوالف"، يعني النساء. وقيل: مع أدنياء الناس وسفلتهم. يقال: فلان خالفة قومه إذا كان دونهم. "وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون".
88-"لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات"، يعني: الحسنات، وقيل: الجواري الحسان في الجنة. قال الله تعالى: "فيهن خيرات حسان"، جمع خيرة، وحكى عن ابن عباس: أن الخير لا يعلم معناه إلا الله كما قال جل ذكره: "فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين" (السجدة -17). "وأولئك هم المفلحون".
89-"أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم".
90-قوله تعالى: "وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم" الآية، قرأ يعقوب ومجاهد: "المعذرون" بالتخفيف وهم المبالغون في العذر، يقال في المثل: لقد أعذر من أنذر أي: بالغ في العذر من قدم النذارة، وقرأ الآخرون "المعذرون" بالتشديد، أي: المقصرون، يقال: عذر أي: قصر، وقال الفراء: المعذرون المعتذرون ادغمت التاء في الذال ونقلت حركة التاء إلى العين. وقال الضحاك:"المعذرون هم رهط عامر بن الطفيل جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم دفاعا عن أنفسهم فقالوا: يا نبي الله إن نحن غزونا معك تغير أعراب طيء على حلائلنا وأولادنا ومواشينا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:قد أنبأني الله من أخباركم وسيغني الله عنكم". وقال ابن عباس: هم الذين تخلفوا بعذر بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم. "وقعد الذين كذبوا الله ورسوله"، يعني: المنافقين. قال أبو عمرو بن العلاء: كلا الفريقين كان مسيئا قوم تكلفوا عذرا بالباطل، وهم الذين عناهم الله تعالى بقوله: "وجاء المعذرون"، وقوم تخلفوا عن غير تكلف عذر فقعدوا جرأة على الله تعالى، وهم المنافقون فأوعدهم الله بقوله: "سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم"، ثم ذكر أهل العذر، فقال جل ذكره:
91-"ليس على الضعفاء"، قال ابن عباس: يعني الزمني والمشايخ والعجزة. وقيل: هم الصبيان وقيل: النسوان، "ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون"، يعني الفقراء "حرج"، مأثم. وقيل: ضيق في القعود عن الغزو، "إذا نصحوا لله ورسوله"، في مغيبهم وأخلصوا الإيمان والعمل لله وبايعوا الرسول. "ما على المحسنين من سبيل"، أي: من طريق العقوبة، "والله غفور رحيم". قال قتادة: نزلت في عائذ بن عمرو وأصحابه. قال الضحاك: نزلت في عبد الله بن أم مكتوم وكان ضرير البصر.
92-قوله تعالى: "ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم"، معناه: أنه لا سبيل على الأولين ولا على هؤلاء الذين أتوك وهم سبعة نفر سموا البكائين: معقل بن يسار، وصخر بن خنساء، وعبد الله بن كعب الأنصاري، وعلبة بن زيد الأنصاري، وسالم بن عمير، وثعلبة بن غنمة، وعبد الله بن مغفل المزني، أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله إن الله قد ندبنا إلى الخروج معك فاحملنا. واختلفوا في قوله: "لتحملهم" قال ابن عباس: سألوه أن يحملهم على الدواب. وقيل سألوه أن يحملهم على الخفاف المرقوعة والنعال/ المخصوفة، ليغزوا معه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا أجد ما أحملكم عليه" تولوا، وهم يبكون، فذلك قوله تعالى: " تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا أن لا يجدوا ما ينفقون ".
93-"إنما السبيل"، بالعقوبه، "على الذين يستأذنونك"، في التخلف "وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف" مع النساء والصبيان، "وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون".
94-"يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم"، يروى أن المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك كانوا بضعة وثمانين نفرا، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم جاؤوا يعتذرون بالباطل. قال الله تعالى: "قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم"، لن نصدقكم، "قد نبأنا الله من أخباركم"، فيما سلف، "وسيرى الله عملكم ورسوله"، في المستأنف أتتوبون من نفاقكم أم تقيمون عليه؟ "ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون".
95-"سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم"، إذا انصرفتم إليهم من غزوكم، "لتعرضوا عنهم"، لتصفحوا عنهم ولا تؤنبوهم، "فأعرضوا عنهم"، فدعوهم وما اختاروا لأنفسهم من النفاق، "إنهم رجس" نجس أي: إن عملهم قبيح، "ومأواهم"، في الآخرة، "جهنم جزاء بما كانوا يكسبون". قال ابن عباس: نزلت في جد بن قيس و معتب بن قشير وأصحابهما وكانوا ثمانين رجلا من المنافقين. فقال النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة: "لا تجالسوهم ولا تكلموهم".
96-وقال مقاتل: نزلت في عبد الله بن أبي حلف للنبي صلى الله عليه وسلم بالله الذي لا إله إلا هو لا يتخلف عنه بعدها، وطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يرضى عنه، فأنزل الله عز وجل هذه الآية، ونزل:"يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين".
97-"الأعراب"، أي: أهل البدو، "أشد كفرا ونفاقا"، من أهل الحضر، "وأجدر"، أخلق وأحرى، " أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله "، وذلك لبعدهم عن سماع القرآن ومعرفة السنن، "والله عليم"، بما في قلوب خلقه "حكيم" فيما فرض من فرائضه.
98-"ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرماً". قال عطاء: لا يرجو على إعطائه ثوابا، ولا يخاف على إمساكه عقابا، إنما ينفق خوفا أو رياء. والمغرم التزام ما لا يلزم "ويتربص"، وينتظر "بكم الدوائر" يعني: صروف الزمان، التي تأتي مرة بالخير ومرة بالشر. وقال يمان بن رباب: يعني ينقلب الزمان عليكم فيموت الرسول ويظهر المشركون، "عليهم دائرة السوء" "عليهم" يدور البلاء والحزن، ولا يرون في محمد ودينه إلا ما يسوءهم. وقرأ ابن كثير و أبو عمرو: "دائرة السوء" هاهنا وفي سورة الفتح، بضم السين، معناه: الضر والبلاء والمكروه. وقرأ الآخرون بفتح السين على المصدر. وقيل: بالفتح الردة والفساد، وبالضم الضر والمكروه. "والله سميع عليم". نزلت في أعراب أسد وغطفان وتميم. ثم استثنى فقال:
99-"ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر"، قال مجاهد: هم بنو مقرن من مزينة. وقال الكلبي: أسلم وغفار وجهينة. أخبرنا أبو سعيد عبد الله بن أحمد الطاهري، أنبأنا جدي عبد الرحمن البزار، أنبأنا أبو بكر محمد بن زكريا العذافري، أنبأنا إسحاق بن إبراهيم الدبري، أنبأنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أسلم وغفار وشيء من جهينة ومزينة خير عند الله يوم القيامة من تميم وأسد بن خزيمة وهوازن وغطفان". "ويتخذ ما ينفق قربات عند الله"، القربات جمع القربة، أي: يطلب القربة إلى الله تعالى، "وصلوات الرسول"، أي: دعاءه واستغفاره، قال عطاء: يرغبون في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم. "ألا إنها قربة لهم". قرأ نافع برواية ورش "قربة" بضم الراء، والباقون بسكونها. "سيدخلهم الله في رحمته"، في جنته، "إن الله غفور رحيم".
100-"والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار" الآية. قرأ يعقوب بالرفع عطفا على قوله: "والسابقون". واختلفوا في السابقين الأولين، قال سعيد بن المسيب، وقتاد وابن سيرين وجماعة: هم الذين صلوا إلى القبلتين. وقال عطاء بن أبي رباح : هم أهل بدر. وقال الشعبي: هم الذين شهدوا بيعة الرضوان، وكانت بيعة الرضوان بالحديبية. واختلفوا في أول من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد امرأته خديجة، مع اتفاقهم على أنها أول من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال بعضهم: أول من آمن وصلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهو قول جابر، قال مجاهد وابن إسحاق، أسلم وهو ابن عشر سنين. وقال بعضهم: أول من آمن بعد خديجة أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وهو قول ابن عباس و إبراهيم النخعي و الشعبي. وقال بعضهم: أول من أسلم زيد بن حارثة، وهو قول الزهري وعروة بن الزبير. وكان إسحاق بن إبراهيم الحنظلي يجمع بين هذه الأقوال فيقول: أول من أسلم من الرجال أبو بكر رضي الله عنه، ومن النساء خديجة، ومن الصبيان علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومن العبيد زيد بن حارثة. قال ابن إسحاق: فلما أسلم أبو بكر رضي الله عنه أظهر إسلامه ودعا إلى الله رسوله، وكان رجلا محببا سهلا كان أنسب قريش وأعلمها بما كان فيها، وكان تاجرا ذا خلق ومعروف، وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه لغير واحد من الأمر، لعلمه وحسن مجالسته، فجعل يدعو إلى الإسلام من وثق به من قومه، فأسلم على يديه - فيما بلغني - : عثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله، فجاء بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استجابوا له فأسلموا وصلوا، فكان هؤلاء الثمانية النفر الذين سبقوا إلى الإسلام. ثم تتابع الناس في الدخول في الإسلام، أما السابقون من الأنصار: فهم الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة، وكانوا ستة في العقبة الأولى، وسبعين في الثانية، والذين آمنوا حين قدم عليهم مصعب بن عمير يعلمهم القرآن، فأسلم معه خلق كثير وجماعة من النساء والصبيان. قوله عز وجل: "والسابقون الأولون من المهاجرين" الذين هاجروا قومهم وعشيرتهم وفارقوا أوطانهم. "والأنصار" أي: ومن الأنصار، وهم الذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أعدائه من أهل المدينة وآووا أصحابه، "والذين اتبعوهم بإحسان". قيل: هم بقية المهاجرين والأنصار سوى/ السابقين الأولين. وقيل: هم الذين سلكوا سبيلهم في الإيمان والهجرة أو النصرة إلى يوم القيامة. وقال عطاء: هم الذين يذكر ون المهاجرين والأنصار بالترحم والدعاء. وقال أبو صخر حميد بن زياد: أتيت محمد بن كعب القرظي فقلت له: ما قولك في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة محسنهم ومسيئهم، فقلت : من أين تقول هذا؟ فقال: يا هذا اقرأ قول الله تعالى: "والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار" إلى أن قال: "رضي الله عنهم ورضوا عنه"، وقال: "والذين اتبعوهم بإحسان"، شرط في التابعين شريطة وهى أن يتبعوهم في أفعالهم الحسنة دون السيئة. قال أبو صخر: فكأني لم أقرأ هذه الآية قط. روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه". ثم جمعهم الله عز وجل في الثواب فقال:" رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار"، قرأ ابن كثير: "من تحتها الأنهار"، وكذلك هو في مصاحف أهل مكة، "خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم".
قوله تعالى: "وممن حولكم من الأعراب منافقون"، وهم من مزينة وجهينة وأشجع وأسلم وغفار، كانت منازلهم حول المدينة، يقول: من هؤلاء الأعراب منافقون، "ومن أهل المدينة"، أي: ومن أهل المدينة من الأوس والخزرج قوم منافقون، "مردوا على النفاق"، أي: مرنوا على النفاق، يقال: تمرد فلان على ربه أي: عتا ومرد على معصيته. أي: مرن وثبت عليها واعتادها. ومنه: المريد والمارد. وقال ابن إسحاق: لجوا فيه وأبوا غيره. وقال ابن زيد: أقاموا عليه ولم يتوبوا. "لا تعلمهم"، أنت يا محمد، "نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين"، اختلفوا في هذين العذابين. قال الكلبي و السدي: " قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيبا يوم الجمعة فقال:اخرج يا فلان فإنك منافق اخرج يا فلان. أخرج ناسا من المسجد وفضحهم، فهذا هو العذاب الأول. والثاني: عذاب القبر". وقال مجاهد : الأول: القتل و السبي ، و الثاني: عذاب القبر. وعنه رواية أخرى : عذبوا بالجوع مرتين . وقال قتادة: الدبيلة في الدنيا وعذاب القبر. وقال ابن زيد: الأولى المصائب في الأموال والأولاد في الدنيا، والأخرى عذاب الآخرة. وعن ابن عباس : الأولى إقامة الحدود عليهم ، والأخرى عذاب القبر . وقال ابن إسحاق: هو ما يدخل عليهم من غيظ الإسلام ودخولهم فيه من غير حسبه ثم عذاب القبر. وقيل: إحداهما ضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم عند قبض أرواحهم، والأخرى عذاب القبر. وقيل الأولى إحراق مسجدهم ، مسجدالضرار ، والأخرى إحراقهم بنار جهنم . "ثم يردون إلى عذاب عظيم"، أي : إلى عذاب جهنم يخلدون فيه .
102-قوله تعالى: "وآخرون"، أي: ومن أهل المدينة، أو: من الأعراب آخرون، ولا يرجع هذا إلى المنافقين، "اعترفوا"، أقروا، "بذنوبهم خلطوا عملاً صالحاً"، وهو إقرارهم بذنوبهم وتوبتهم "وآخر سيئا"، أي: بعمل آخر سيء، وضع الواو موضع الباء، كما يقال: خلطت الماء واللبن، أي: باللبن. والعمل السيء: هو تخلفهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. و العمل الصالح : هو ندامتهم وربطهم أنفسهم بالسواري وقيل : غزواتهم مع النبي صلى الله عليه وسلم . " عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم"،" نزلت هذه الآية في قوم تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، ثم ندموا على ذلك، وقالوا: نكون في الظلال مع النساء، ورسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الجهاد واللأواء! فلما قرب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة قالوا والله لنوثقن أنفسنا بالسواري فلا نطلقها حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يطلقها، ويعذرنا، فأوثقوا أنفسهم بسواري المسجد فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بهم فرآهم فقال: من هؤلاء؟ فقالوا هؤلاء الذين تخلفوا عنك فعاهدوا الله عز وجل أن لا يطلقوا أنفسهم حتى تكون أنت تطلقهم وترضى عنهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأنا أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم حتى أومر بإطلاقهم، رغبوا عنى وتخلفوا عن الغزو مع المسلمين! فأنزل الله هذه الآية فأرسل إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطلقهم وعذرهم، فلما أطلقوا قالوا: يا رسول الله هذه أموالنا التي خلفتنا عنك فتصدق بها وطهرنا واستغفر لنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا، فأنزل الله تعالى: "خذ من أموالهم صدقة"" الآية. واختلفوا في أعداد هؤلاء التائبين، فروي عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: كانوا عشرة منهم أبو لبابة. وروى عطية عنه: أنهم كانوا خمسة أحدهم أبو لبابة. وقال سعيد بن جبير وزيد بن أسلم: كانوا ثمانية. وقال الضحاك و قتادة: كانوا سبعة. وقالوا جميعا: أحدهم أبو لبابة. وقال قوم: نزلت في أبي لبابة خاصة. واختلفوا في ذنبه، قال مجاهد: نزلت في أبي لبابة حين قال لقريظة: إن نزلتم على حكمه فهو الذبح وأشار إلى حلقه. وقال الزهري: نزلت في تخلفه عن غزوة تبوك فربط نفسه بسارية، وقال والله لا أحل نفسي ولا أذوق طعاماً ولا شراباً، حتى أموت أو يتوب الله علي! فمكث سبعة أيام لا يذوق طعاماً ولا شراباً حتى خر مغشيا عليه، فأنزل الله تعالى هذه الآية، فقيل له: قد تيب عليك!، فقال: والله لا أحل نفسي حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يحلني، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فحله بيده، ثم قال أبو لبابة: يا رسول الله إن من توبتي أن أهجر دار قومي التى أصبت فيها الذنب، وأن أنخلع من مالي كله صدقة إلى الله وإلى رسوله، قال: يجزيك يا أبا لبابة الثلث. قالوا جميعا: فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلث أموالهم، وترك الثلثين، لأن الله تعالى قال: "خذ من أموالهم"، ولم يقل: خذ أموالهم، قال الحسن وقتادة: هؤلاء سوى الثلاثة الذين خلفوا.
103-قوله تعالى: "خذ من أموالهم صدقةً تطهرهم"، بها من ذنوبهم، "وتزكيهم بها"، أي: ترفعهم من منازل المنافقين إلى منازل المخلصين. وقيل: تنمي أموالهم "وصل عليهم"، أي: ادع لهم واستغفر لهم. وقيل: هو قول الساعي[للمصدق] إذا أخذ الصدقة منه: آجرك الله فيما أعطيت وبارك لك فيما أبقيت. والصلاة في اللغة: الدعاء. "إن صلاتك" قرأ حمزة والكسائي:/ "صلاتك" على التوحيد ونصب التاء هاهنا، وفي سورة هود "أصلاتك" وفي سورة المؤمنين "على صلاتهم" [كلهن على التوحيد]، وافقهما حفص هاهنا وفي سورة هود. وقرأ الآخرون بالجمع فيهن ويكسرون التاء هاهنا. "سكن لهم"، أي: إن دعاءك رحمة لهم. قاله ابن عباس. وقيل: طمأنينة لهم، وسكون لهم، أن الله عز وجل قد قبل منهم. وقال أبو عبيدة: تثبيت لقلوبهم. "والله سميع عليم". واختلفوا في وجوب الدعاء على الإمام عند أخذ الصدقة: قال بعضهم: يجب. وقال بعضهم: يستحب. وقال بعضهم: يجب في صدقة الفرض ويستحب في صدقة التطوع. وقيل يجب على الإمام ويستحب للفقير أن يدعو للمعطي. أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا آدم بن أبي إياس، حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة قال: سمعت عبد الله ابن أبي أوفى -وكان من أصحاب الشجرة- قال:" كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قومه بصدقة قال:اللهم صل عليهم، فأتاه أبي بصدقته فقال:اللهم صل على آل أبي أوفى". وقال ابن كيسان: ليس هذا في صدقة الفرض إنما هو في صدقة كفارة اليمين. وقال عكرمة: هي صدقة الفرض، فلما نزلت توبة هؤلاء قال الذين لم يتوبوا من المتخلفين: هؤلاء كانوا معنا بالأمس لا [يكلمون] ولا يجالسون، فما لهم؟ فقال تعالى: "ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات ".
104-"ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات"، أي: يقبلها، " وأن الله هو التواب الرحيم". أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال، حدثنا أبو العباس محمد ابن يعقوب الأصم، أنبأنا الربيع بن سليمان، أنبأنا الشافعي، أنبأنا سفيان بن عيينة، عن ابن عجلان، عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة رضي الله عنه. قال: سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول: "والذي نفسي بيده ما من عبد يتصدق بصدقة من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا طيبا ولا يصعد إلى السماء إلا طيب إلا كأنما يضعها في يد الرحمن عز وجل فيربيها له كما يربي أحدكم فلوه، حتى أن اللقمة لتأتي يوم القيامة وإنها لمثل الجبل العظيم، ثم قرأ: " أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات "".
105-قوله تعالى: "وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون، وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون"، قال مجاهد: هذا وعيد لهم. قيل: رؤية النبي صلى الله عليه وسلم بإعلام الله تعالى إياه، ورؤية المؤمنين بإيقاع المحبة في قلوبهم لأهل الصلاح، والبغضة لأهل الفساد.
106-قوله تعالى: "وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم". قرأ أهل المدينة والكوفة غير أبي بكر "مرجون" بغير همز، والآخرون: بالهمز، والإرجاء: التأخير، مرجون: مؤخرون. لأمر الله: لحكم الله عز وجل فيهم، وهم الثلاثة الذين تأتي قصتهم من بعد: كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع، لم يبالغوا في التوبة والاعتذار كما فعل أبو لبابة، فوقفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسين ليلة ونهى الناس عن مكالمتهم ومخالطتهم، حتى شقهم القلق وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وكانوا من أهل بدر فجعل أناس يقولون: هلكوا، وآخرون يقولون: عسى الله أن يغفر لهم، فصاروا مرجئين لأمر الله [ لا يدرون ] أيعذبهم أم يرحمهم، حتى نزلت توبتهم بعد خمسين ليلة.
107-قوله تعالى: "والذين اتخذوا"، قرأ: أهل المدينة والشام "الذين" بلا واو، وكذلك هو في مصاحفهم، وقرأ الآخرون: "والذين" بالواو. "مسجدا ضرارا"، نزلت هذه الآية في جماعة من المنافقين، بنوا مسجدا يضارون به مسجد قباء، وكانوا اثني عشر رجلا من أهل النفاق: وديعة بن ثابت، وجذام بن خالد، ومن داره أخرج هذا المسجد، وثعلبة بن حاطب، وجارية بن عامر، وابناه مجمع وزيد، ومعتب بن قشير، وعباد بن حنيف أخو سهل بن حنيف، وأبو حبيبة بن الأزعر، ونبتل بن الحارث، وبجاد ابن عثمان، ورجل يقال له: بحزج، بنوا هذا المسجد ضرارا، يعني: مضارة للمؤمنين، "وكفراً"، بالله ورسوله، "وتفريقاً بين المؤمنين"، لأنهم كانوا جميعا يصلون في مسجد قباء، فبنوا مسجد الضرار، ليصلي فيه بعضهم، فيؤدي ذلك إلى الاختلاف وافتراق الكلمة، وكان يصلي بهم مجمع بن جارية. فلما فرغوا من بنائه أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتجهز إلى تبوك فقالوا: يا رسول إنا قد بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة، والليلة المطيرة والليلة الشاتية، وإنا نحب أن تأتينا وتصلي بنا فيه وتدعو لنا بالبركة، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني على جناح سفر، ولو قدمنا إن شاء الله أتيناكم فصلينا لكم فيه". "وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله من قبل"، أي: انتظارا وإعدادا لمن حارب الله ورسوله. يقال: أرصدت له: إذا أعددت له. وهو أبو عامر الراهب وكان أبو عامر هذا رجلا منهم، وهو أبو حنظلة غسيل الملائكة، وكان قد ترهب في الجاهلية وتنصر ولبس المسوح، "فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة قال له أبو عامر: ما هذا الذي جئت به؟ قال: جئت بالحنيفية دين إبراهيم، قال أبو عامر: فإنا عليها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:إنك لست عليها، قال : بلى ولكنك أدخلت في الحنيفية ما ليس منها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:ما فعلت ولكني جئت بها بيضاء نقية، فقال أبو عامر: أمات الله الكاذب منا طريدا وحيدا غريبا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم آمين. وسماه أبا عامر الفاسق". فلما كان يوم أحد قال أبو عامر لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لا أجد قوما يقاتلونك إلا قاتلتك معهم، فلم يزل يقاتله إلى يوم حنين، فلما انهزمت هوازن يئس وخرج هاربا إلى الشام فأرسل إلى المنافقين أن استعدوا بما استطعتم من قوة ومن سلاح، وابنوا لي مسجدا فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم فآت بجند من الروم، فأخرج محمدا وأصحابه، فبنوا مسجد الضرار إلى جنب مسجد قباء، فذلك قوله تعالى: "وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله"،وهو أبو عامر الفاسق، ليصلي فيه إذا رجع من الشام. قوله: "من قبل" يرجع إلى أبي عامر يعنى حارب الله ورسوله من قبل أي: من قبل بناء مسجد الضرار. "وليحلفن إن أردنا"، ما أردنا ببنائه، "إلا الحسنى"، إلا الفعلة الحسنى وهو الرفق بالمسلمين والتوسعة على أهل الضعف والعجز عن المسير إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم . "والله يشهد إنهم لكاذبون"، في قيلهم وحلفهم. روي أنه لما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك ونزل بذي أوان موضع قريب من المدينة أتوه فسألوه إتيان مسجدهم فدعا/ بقميصه ليلبسه ويأتيهم، فنزل عليه القرآن وأخبره الله تعالى خبر مسجد الضرار وما هموا به، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك بن الدخشم، ومعن بن عدي، وعامر بن السكن، ووحشياً قاتل حمزة، وقال لهم: انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه واحرقوه، فخرجوا سريعا حتى أتو بني سالم بن عوف، وهم رهط مالك بن الدخشم، فقال مالك : انظروني حتى أخرج إليكم بنار من أهلي، فدخل أهله فأخذ سعفاً من النخل فأشعل فيه نارا، ثم خرجوا يشتدون، حتى دخلوا المسجد وفيه أهله، فحرقوه وهدموه، وتفرق عنه أهله، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخذ ذلك كناسة تلقى فيه الجيف والنتن والقمامة. ومات أبو عامر الراهب بالشام وحيدا فريدا غريبا. وروي أن بني عمرو بن عوف، الذين بنوا مسجد قباء، أتوا عمر بن الخطاب في خلافته ليأذن لمجمع بن حارثة فيؤمهم في مسجدهم، فقال: لا، ولا نعمة عين، أليس بإمام مسجد الضرار؟ فقال له مجمع: يا أمير المؤمنين: لا تعجل علي، فوالله لقد صليت فيه وإني لا أعلم ما أضمروا عليه، ولو علمت ما صليت معهم فيه، كنت غلاما قارئاً للقرآن، وكانوا شيوخا لا يقرؤون القرآن فصليت ولا أحسب إلا أنهم يتقربون إلى الله تعالى، ولم أعلم ما في أنفسهم، فعذره عمر وصدقه وأمره بالصلاة في مسجد قباء. قال عطاء: لما فتح على عمر الأمصار أمر المسلمين أن يبنوا المساجد، وأمرهم أن لا يبنوا في مدينتهم مسجدين يضار أحدهما صاحبه.
108-قوله تعالى: "لا تقم فيه أبداً"، قال ابن عباس: لا تصل فيه منع الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يصلي في مسجد الضرار. "لمسجد أسس على التقوى"، اللام لام الابتداء. وقيل: لام القسم، تقديره: والله لمسجد أسس، أي: بني أصله على التقوى، "من أول يوم"، أي: من أول يوم بني ووضع أساسه، "أحق أن تقوم فيه"، مصلياً. واختلوا في المسجد الذي أسس على التقوى: فقال ابن عمر، وزيد بن ثابت، وأبو سعيد الخدري: هو مسجد المدينة، مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، والدليل عليه: ما أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، أنبأنا عبد الغافر بن محمد، حدثنا محمد بن عيسى الجلودي، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، حدثنا مسلم بن الحجاج، حدثنا محمد بن حاتم، حدثنا يحيى بن سعيد، عن حميد الخراط قال: سمعت أبا سلمة عبد الرحمن قال: مر بي عبد الرحمن بن أبي سعيد، قال: فقلت له: كيف سمعت أباك يذكر في المسجد الذى أسس على التقوى؟ فقال: قال أبي: " دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت بعض نسائه فقلت: يا رسول الله أي المسجدين الذي أسس على التقوى؟ قال: فأخذ كفا من الحصباء فضرب به الأرض، ثم قال:هو مسجدكم هذا، مسجد المدينة، قال: فقلت: أشهد أني سمعت أباك هكذا يذكره". وأخبرنا أبو الحسن الشيرزي، أنبأنا زاهر بن أحمد، أنبأنا أبو إسحاق الهاشمي، أنبأنا أبو مصعب، عن مالك عن خبيب بن عبد الرحمن، عن حفص بن عاصم، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على حوضي". وذهب قوم إلى أنه مسجد قباء، وهو رواية عطية عن ابن عباس ، وهو قول عروة بن الزبير و سعيد بن جبير وقتادة: أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا عبد العزيز بن مسلم، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي مسجد قباء كل سبت ماشياً وراكباً، وكان عبد الله بن عمر يفعله. وزاد نافع عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيصلي فيه ركعتين. قوله تعالى: "فيه رجال يحبون أن يتطهروا"، من الأحداث والجنابات والنحاسات، وقال عطاء: كانوا يستنجون بالماء ولا ينامون بالليل على الجنابة. أخبرنا أبو طاهر عمر بن عبد العزيز القاشاني، أنبأنا أبو عمر القاسم بن جعفر بن عبد الواحد الهاشمي، أنبأنا أبو علي محمد بن أحمد بن عمرو اللؤلؤي، حدثنا أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني، أخبرنا محمد بن العلاء حدثنا معاوية بن هشام، عن يونس بن الحارث، عن إبراهيم بن أبي ميمونة، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "نزلت هذه الآية في أهل قباء": "فيه رجال يحبون أن يتطهروا" قال: "كانوا يستنجون بالماء فنزلت فيهم هذه الآية". "والله يحب المطهرين"، أي المتطهرين.
109-"أفمن أسس بنيانه" قرأ نافع وابن عامر " أسس" بضم الهمزة وكسر السين، "بنيانه" رفع فيهما جميعا على غير تسمية الفاعل. وقرأ الآخرون "أسس" فتح الهمزة والسين، "بنيانه": بنصب النون، على تسمية الفاعل. "على تقوى من الله ورضوان خير"، أي: على طلب التقوى ورضا الله تعالى خير "أم من أسس بنيانه على شفا": على شفير، "جرف"؟ قرأ أبو عمرو وحمزة و أبو بكر "جرف" ساكنة الراء، وقرأ الباقون بضم الراء وهما لغتان، وهى البئر التي لم تطو. قال أبو عبيدة: هو الهوة وما يجرفه السيل من الأودية فينجرف بالماء فيبقى واهيا، "هار"، أي: هائر وهو الساقط يقال: هار يهور فهو هائر، ثم يقلب فيقال: هار مثل شاك وشائك وعاق وعائق. وقيل: هو من يهار: إذا انهدم، ومعناه: الساقط الذي يتداعى بعضه في إثر بعض، كما ينهار الرمل والشيء الرخو. "فانهار به"، أي: سقط بالباني "في نار جهنم"، يريد بناء هذا المسجد الضرار كالبناء على شفير جهنم فيهور بأهلها فيها. قال ابن عباس رضي الله عنهما: يريد صيرهم النفاق إلى النار. " والله لا يهدي القوم الظالمين "، قال قتادة: والله ما تناهى أن وقع في النار، وذكر لنا أنه حفرت بقعة فيه، فرؤي الدخان يخرج منها. وقال جابر بن عبد الله: رأيت الدخان يخرج من مسجد الضرار.
110-"لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبةً"، أي: شكاً ونفاقا، "في قلوبهم"، يحسبون أنهم كانوا في بنيانه محسنين كما حبب العجل إلى قوم موسى. قال ابن عباس رضي الله عنهما. وقال الكلبي: حسرة وندامة لأنهم ندموا عل بنائه. وقال السدي: لا يزال هدم بنائهم ريبة وحزازة وغيظاً في قلوبهم. "إلا أن تقطع قلوبهم"، أي: تتصدع قلوبهم فيموتوا. قرأ ابن عامر، وأبو جعفر، وحمزة، وحفص: "تقطع" بفتح التاء أي: تتقطع. والآخرون بضمها. وقرأ يعقوب وحده: ((إلى أن)) خفيف، على الغاية، "تقطع" بضم التاء، خفيف، من القطع يدل عليه تفسير الضحاك وقتادة: لا يزالون في شك منه إلى أن يموتوا فيستيقنوا. "والله عليم حكيم".
111-قوله تعالى: "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم" الآية. قال محمد بن كعب القرظي: " لما بايعت الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة/ بمكة وهم سبعون نفساً، قال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله اشترط لربك ولنفسك ما شئت.فقال:أشترط لربي عز وجل: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأشترط لنفسي، أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم.قالوا: فإذا فعلنا ذلك فما لنا؟قال:الجنة، قالوا: ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل فنزلت: "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة"". وقرأ الأعمش: "بالجنة". " يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون"، قرأ حمزة والكسائي: "فيقتلون" بتقديم المفعول على الفاعل بمعنى يقتل بعضهم بعضا، ويقتل الباقون. وقرأ الآخرون بتقديم الفاعل. "وعدا عليه حقا" أي: ثواب الجنة لهم وعد وحق "في التوراة والإنجيل والقرآن"، يعني أن الله عز وجل وعدهم هذا الوعد، وبينه في هذه الكتب. وقيل فيه دليل على أن أهل الملل كلهم أمروا بالجهاد على ثواب الجنة، ثم هنأهم فقال: "ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا"، فافرحوا "ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم"، قال عمر رضي الله عنه: إن الله عز وجل بايعك وجعل الصفقتين لك. وقال قتادة ثامنهم الله عز وجل فأغلى لهم. وقال الحسن: اسمعوا إلى بيعة ربيحة بايع الله بها كل مؤمن. وعنه أنه قال: إن الله أعطاك الدنيا فاشتر الجنة ببعضها.
112-ثم وصفهم فقال: "التائبون"، قال الفراء: استؤنفت بالرفع لتمام الآية وانقطاع الكلام. وقال الزجاج: التائبون رفع للابتداء وخبره مضمر. المعنى: التائبون - إلى آخر الآية - لهم الجنة أيضا. أي: من لم يجاهد غير معاند ولا قاصد لترك الجهاد، لأن بعض المسلمين يجزي عن بعض في الجهاد، [فمن كانت هذه صفته]فله الجنة أيضا، وهذا أحسن، فكأنه وعد الجنة لجميع المؤمنين، كما قال: "وكلا وعد الله الحسنى" (النساء-95)، فمن جعله تابعا للأول كان الوعد بالجنة خاصا للمجاهدين الموصوفين بهذه الصفة. قوله تعالى: "التائبون" أي: الذين تابوا من الشرك وبرؤوا من النفاق، "العابدون" المطيعون الذين أخلصوا العبادة لله عز وجل "الحامدون"، الذين يحمدون الله على كل حال في السراء والضراء. وروينا عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"أول من يدعى إلى الجنة يوم القيامة الذين يحمدون الله في السراء والضراء". "السائحون"، قال ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما: هم الصائمون. وقال سفيان بن عيينة: إنما سمي الصائم سائحا لتركه اللذات كلها من المطعم والمشرب والنكاح. وقال عطاء: السائحون الغزاة المجاهدون في سبيل الله. روي عن " عثمان بن مظعون، رضي الله عنه، أنه قال: يا رسول الله ائذن لي في السياحة، فقال:إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله". "الراكعون الساجدون"، يعنى: المصلين، "الآمرون بالمعروف"، بالإيمان، "والناهون عن المنكر" عن الشرك. وقيل: المعروف السنة والمنكر البدعة. "والحافظون لحدود الله"، القائمون بأوامر الله . وقال الحسن: أهل الوفاء ببيعة الله. "وبشر المؤمنين".
113-"ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين"، اختلفوا في سبب نزول هذه الآية. قال قوم: سبب نزولها: ما أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا أبو اليمان، أنبأنا شعيب، عن الزهري، حدثني سعيد بن المسيب عن أبيه. قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجد عنده أبا جهل، وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة. فقال: أي عم قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله. فقال أبو جهل، وعبد الله بن أمية: أترغب عن ملة عبد المطلب. فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعيدان بتلك المقالة، حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك"، فأنزل الله تعالى: "ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم"، وأنزل في أبي طالب:"إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء". أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، أنبأنا عبد الغافر بن محمد، أنبأنا محمد بن عيسى، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، حدثنا مسلم بن الحجاج، حدثني محمد بن حاتم بن ميمون، حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا يزيد بن كيسان، حدثني أبو حازم الأشجعي، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله لعمه: "قل لا إله إلا الله أشهد لك بها يوم القيامةقال: لولا أن تعيرني قريش، فيقولون: إنما حمله على ذلك الجزع، لأقررت بها عينك. فأنزل الله عز وجل: "إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء"". أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنبأنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل [ثنا عبد الله بن يوسف] حدثني الليث حدثني يزيد بن الهاد عن عبد الله بن خباب عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر عنده عمه فقال: "لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة، فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه". وقال أبو هريرة وبريدة: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة أتى قبر أمه آمنة فوقف عليه حتى حميت الشمس رجاء أن يؤذن له فيستغفر لها فنزلت: "ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين" الآية. أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، حدثنا عبد الغافر بن محمد، حدثنا محمد بن عيسى الجلودي، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، حدثنا مسلم بن الحجاج، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، أنبأنا محمد بن عبيد، عن يزيد كيسان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال:" زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله فقال:استأذنت ربي عز وجل في أن أستغفر لها فلم يؤذن لي واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور، فإنها تذكر الموت". قال قتادة قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لأستغفرن لأبي. كما استغفر إبراهيم لأبيه فأنزل الله تعالى هذه الآية: "ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم"". وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لما أنزل الله عز وجل خبرا عن إبراهيم عليه السلام قال لأبيه: "سلام عليك سأستغفر لك ربي" سمعت رجلا يستغفر لوالديه وهما مشركان، فقلت له:/ تستغفر لهما وهما مشركان؟ فقال: أو لم يستغفر إبراهيم لأبيه؟ فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فأنزل الله عز وجل: "قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم"، إلى قوله: "إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك" (الممتحنة -4).
114-قوله تعالى: " وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه "، قال بعضهم: الهاء في إياه عائدة إلى إبراهيم عليه السلام. والوعد كان من أبيه، وذلك أن أباه كان وعده أن يسلم، فقال له إبراهيم سأستغفر لك ربي يعني إذا أسلمت. وقال بعضهم الهاء راجعة إلى الأب، وذلك أن إبراهيم وعد أباه أن يستغفر له رجاء إسلامه. وهو قوله: "سأستغفر لك ربي". يدل عليه قراءة الحسن: وعدها أباه، بالباء الموحدة. والدليل على أن الوعد من إبراهيم، وكان الاستغفار في حال شرك الأب، قوله تعالى: "قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم"، إلى أن قال: "إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك" (الممتحنة -4) فصرح أن إبراهيم ليس بقدوة في هذا الاستغفار، وإنما استغفر له وهو مشرك لمكان الوعد رجاء أن يسلم. "فلما تبين له أنه عدو لله"، لموته عل الكفر، "تبرأ منه"، وقيل: فلما تبين له في الآخرة أنه عدو لله تبرأ منه أي: يتبرأ منه، وذلك ما: أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنبأنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا إسماعيل بن عبد الله، حدثني أخي عبد الحميد عن ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة، وعلى وجه آزر قترة وغبرة، فيقول له إبراهيم: ألم أقل لك لا تعصني؟! فيقول له أبوه:فاليوم لا أعصيك، فيقول إبراهيم عليه السلام: يا ربي إنك وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون، فأي خزي أخزى من أبي الأبعد؟ فيقول الله تعالى إني حرمت الجنة على الكافرين. ثم يقال يا إبراهيم: ما تحت رجليك؟ فينظر فإذا هو بذبح ملتطخ، فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار" وفي رواية: يتبرأ منه يومئذ. قوله تعالى: "إن إبراهيم لأواه حليم"، اختلفوا في معنى الأواه، جاء في الحديث: "إن الأواه الخاشع المتضرع". وقال عبد الله بن مسعود: الأواه الدعاء. وعن ابن عباس قال: هو المؤمن التواب. وقال الحسن وقتادة: الأواه الرحيم بعباد الله. وقال مجاهد: الأواه الموقن. وقال عكرمة: هو المستيقن بلغة الحبشة. وقال كعب الأحبار: هو الذي يكثر التأوه، وكان إبراهيم عليه السلام يكثر أن يقول: آه من النار، قبل أن لا ينفع آه. وقيل: هو الذي يتأوه من الذنوب. وقال عقبة بن عامر: الأواه الكثير الذكر لله تعالى. وعن سعيد بن جبير قال: الأواه المسبح. وروي عنه: الأواه: المعلم للخير. وقال النخعي: هو الفقيه. وقال عطاء: هو الراجع عن كل ما يكره الله. وقال أيضا: هو الخائف من النار. وقال أبو عبيدة: هو المتأوه شفقا وفرقا المتضرع يقينا. يريد أن يكون تضرعه يقينا ولزوما للطاعة. قال الزجاج: قد انتظم في قول أبي عبيدة أكثر ما قيل في الأواه. وأصله: من التأوه وهو أن يسمع للصدر صوت من تنفس الصعداء، والفعل منه أوه وتأوه، والحليم الصفوح عمن سبه أو ناله بالمكروه، كما قال لأبيه، عند وعيده، وقوله " لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا * قال سلام عليك سأستغفر لك ربي " (مريم -46) وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: الحليم السيد.
115-قوله تعالى: "وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم" الآية. معناه: ما كان الله ليحكم عليكم بالضلالة بترك الأوامر باستغفاركم للمشركين، "حتى يبين لهم ما يتقون"، يريد حتى يتقدم إليكم بالنهي، فإذا تبين ولم تأخذوا به فعند ذلك تستحقون الضلال. قال مجاهد: بيان الله للمؤمنين في ترك الاستغفار للمشركين خاصة، وبيانه لهم في معصيته وطاعته عامة، فافعلوا أو ذروا. وقال الضحاك: ما كان الله ليعذب قوما حتى يبين لهم ما يأتون وما يذرون. وقال مقاتل والكلبي: هذا في المنسوخ وذلك أن قوما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم فأسملوا، ولم تكن الخمر حراما، ولا القبلة مصروفة إلى الكعبة، فرجعوا إلى قومهم وهم على ذلك ثم حرمت الخمر وصرفت القبلة، ولا علم لهم بذلك، ثم قدموا بعد ذلك المدينة فوجدوا الخمر قد حرمت والقبلة قد صرفت، فقالوا: يا رسول الله قد كنت على دين ونحن على غيره فنحن ضلال؟ فأنزل الله تعالى: "وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم"، يعني: ما كان الله ليبطل عمل قوم قد علموا بالمنسوخ حتى يتبين لهم الناسخ. "إن الله بكل شيء عليم"، ثم عظم نفسه فقال:
116-"إن الله له ملك السموات والأرض"، يحكم بما يشاء، " يحيي ويميت وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير ".
117-قوله عز وجل: "لقد تاب الله على النبي" الآية، تاب الله أي: تجاوز وصفح. ومعنى توبته على النبي صلى الله عليه وسلم بإذنه للمنافقين بالتخلف عنه. وقيل: افتتح الكلام به لأنه كان سبب توبتهم، فذكره معهم، كقوله تعالى: "فأن لله خمسه وللرسول" (الأنفال -41)، ونحوه. "والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة"، أي: في وقت العسرة، ولم يرد ساعة بعينها، وكانت غزوة تبوك تسمى عزوة العسرة، والجيش يسمى جيش العسرة. والعسرة: الشدة، وكانت عليهم غزوة عسرة في الظهر والزاد والماء. قال الحسن: كان العشرة منهم يخرجون على بعير واحد يعتقبونه، يركب الرجل ساعة، ثم ينزل فيركب صاحبه كذلك، وكان زادهم التمر المسوس والشعير المتغير، وكان النفر منهم يخرجون ما معهم إلا التمرات بينهم، فإذا بلغ الجوع من أحدهما أخذ التمرة فلاكها حتى يجد طعمها ثم يعطيها صاحبه فيمصها، ثم يشرب عليها جرعة من ماء كذلك حتى يأتي على آخرهم، ولا يبقى من التمرة إلا النواة، فمضوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك على صدقهم ويقينهم. وقال عمر بن الخطاب: " خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى تبوك في قيظ شديد فنزلنا منزلا أصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، وحتى إن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه ويجعل ما بقي على كبده، فقال أبو بكر الصديق: يا رسول الله إن الله قد عودك في الدعاء خيرا فادعوا الله لنا...قال أتحب ذلك؟قل: نعم، فرفع يديه فلم يرجعهما حتى قالت السماء فأظلت ثم سكبت، فملؤوا ما معهم، ثم ذهبنا فلم نجدها جازت العسكر". "من بعد ما كاد يزيغ" قرأ حمزة وحفص: "يزيغ" بالياء لقوله: "كاد" ولم يقل: كادت. وقرأ الآخرون بالتاء. والزيغ: الميل، أي: من بعد ما/ كاد تميل، "قلوب فريق منهم"، أي: قلوب بعضهم، ولم يرد الميل عن الدين، بل أراد الميل إلى التخلف والانصراف للشدة التي عليهم. قال الكلبي: هم ناس بالتخلف ثم لحقوه. "ثم تاب عليهم"، فإن قيل: كيف أعاد ذكر التوبة وقد قال في أول الآية: "لقد تاب الله على النبي"؟. قيل: ذكر التوبة في أول الآية قبل ذكر الذنب، وهو محض الفضل من الله عز وجل، فلما ذكر الذنب أعاد التوبة، والمراد منه قبولها. "إنه بهم رؤوف رحيم". قال ابن عباس: من تاب الله عليه لم يعذبه أبدا. قوله عز وجل: "وعلى الثلاثة الذين خلفوا"، أي خلفوا عن غزوة تبوك. وقيل: خلفوا أي: أرجىء أمرهم، عن توبة أبي لبابة وأصحابه، وهؤلاء الثلاثة هم: كعب بن مالك الشاعر، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية، كلهم من الأنصار. أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا يحيى ين بكير، حدثنا الليث عن عقيل، عن ابن شهاب، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك أن عبد الله بن كعب بن مالك -وكان قائد كعب من بنيه حين عمي- قال:" سمعت كعب بن مالك يحدث حين تخلف عن غزوة تبوك، قال كعب: لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها قط إلا في غزوة تبوك، غير أني كنت تخلفت عن غزوة بدر، ولم يعاتب أحدا تخلف عنها، إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد، ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام، وما أحب أن لي بها مشهد بدر، وإن كانت بدر أذكر في الناس منها، وكان من خبري أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر حين تخلفت عنه في تلك الغزاة، والله ما اجتمعت عندي قبله راحلتان قط، حتى جمعتهما في تلك الغزوة، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلا ورى بغيرها، حتى كانت تلك الغزوة، غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد واستقبل سفرا بعيدا ومفازا وعدوا كثيرا، فجلى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم، فأخبرهم بوجهه الذي يريد، والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير، ولا يجمعهم كتاب حافظ -يريد الديوان- قال كعب: فما رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن ذلك سيخفى له ما لم ينزل فيه وحي من الله، وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال، فتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، فطفقت أغدو لكي أتجهز معهم، فأرجع ولم أقض شيئا، وأقول في نفسي: أنا قادر عليه إذا أردت، فلم يزل يتمادى بي الأمر حتى اشتد بالناس الجد، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، ولم أقض من جهازي شيئا، فقلت: أتجهز بعده بيوم أو يومين ثم ألحقهم، فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهز فرجعت ولم أقض شيئا، ثم غدوت ثم رجعت ولم أقض شيئا فلم يزل يتمادى بي حتى أسرعوا، وتفارط الغزو، وهممت أن أرتحل فأدركهم، وليتني فعلت، فلم يقدر لي ذلك، فكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم فطفت فيهم أحزنني أني لا أرى لي أسوة إلا رجلا مغموصا عليه في النفاق أو رجلا ممن عذر الله من الضعفاء، ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك، فقال وهو جالس في القوم بتبوك: ما فعل كعب؟ فقال رجل من بني سلمة: يا رسول الله حبسه برداه ونظره في عطفيه، فقال معاذ بن جبل: بئس ما قلت، والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرا. فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال كعب بن مالك: فلما بلغني أنه توجه قافلا حضرني همي، فطفقت أتذكر الكذب وأقول: بماذا أخرج من سخطه غدا؟ واستعنت على ذلك بكل ذي رأي من أهلي، فلما قيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادما زاح عني الباطل، وعرفت أني لن أخرج منه أبدا بشيء فيه كذب، فأجمعت صدقة، وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قادما، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد، فركع فيه ركعتين، ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك جاءه المخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلا، فقبل منهم رسول الله علانيتهم، وبايعهم، واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله، فجئته فلما سلمت عليه تبسم تبسم المغضب، ثم قال: تعال، فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، فقال لي:ما خلفك ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟فقلت: بلى يا رسول الله، إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر، ولقد أعطيت جدلا، ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك علي، ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه، إني لأرجو فيه عفو الله، لا والله ما كان لي من عذر، والله ما كنت أقوى قط ولا أيسر مني حين تخلفت عنك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك. فقمت وثار رجال من بني سلمة فاتبعوني فقالوا لي: والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا، ولقد عجزت في أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر إليه المخلفون، قد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوالله ما زالوا يؤنبونني حتى أردت أن أرجع وأكذب نفسي، ثم قلت لهم: هل لقي هذا معي أحد؟ قالوا: نعم، رجلان قالا مثل ما قلت، فقيل لهما مثل ما قبل لك، فقلت: من هما قالوا: مرارة بن الربيع العمري، وهلال بن أمية الواقفي، فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرا فيهما أسوة، فمضيت حين ذكروهما لي. قال: ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه، فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكرت في نفسي الأرض، فما هي بالأرض التي أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة، فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم، فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين، وأطوف في الأسواق، ولا يكلمني أحد، وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأقول في نفسي: هل حرك شفتيه برد السلام علي أم لا؟. ثم أصلي قريبا منه وأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي أقبل على صلاتي أقبل إلي وإذا التفت نحوه أعرض عني، حتى إذا طال علي ذلك من جفوة الناس مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة، وهو ابن عمي وأحب الناس إلي، فسلمت عليه/ فوالله ما رد علي السلام، فقلت له: ياأبا قتادة أنشدك بالله هل تعلمني أحب الله ورسوله؟ فسكت: فعدت له فنشدته فسكت،فعدت فنشدته فقال: الله ورسوله أعلم.ففاضت عيناي، وتوليت حتى تسورت الجدار. قال: فبينا أنا أمشي بسوق المدينة إذا نبطي من أنباط الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدل على كعب بن مالك، فطفق الناس يشيرون له نحوي، حتى إذا جاءني دفع إلي كتابا من ملك غسان فقرأته فإذا فيه: أما بعد: فإنه قد بلغني أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك، فقلت لما قرأته: وهذا أيضا من البلاء، فتيممت به التنور فسجرته. حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين إذا رسول لرسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك، فقلت: أطلقها أم ماذا أفعل؟ فقال: لا بل اعتزلها ولا تقربها، وأرسل إلى صاحبي بمثل ذلك، ففلت لامرأتي إلحقي بأهلك وكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر. قال كعب: فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادم فهل تكره أن أخدمه؟ قال:لا، ولكن لا يقربك، قالت: إنه والله ما به حركة إلى شيء، والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا. قال كعب: فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك كما أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه. فقلت: والله لا أستأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما يدريني ما يقول لي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استأذنته فيها وأنا رجل شاب، فلبثت بعد ذلك عشر ليالي حتى كملت لنا خمسون ليلة من حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا، فلما صليت الفجر صبح خمسين ليلة، وأنا على ظهر بيت من بيوتنا، فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله قد ضاقت علي نفسي وضاقت علي الأرض بما رحبت سمعت صوت صارخ أوفى على جبل سلع، يقول بأعلى صوته: ياكعب بن مالك أبشر. فخررت لله ساجدا وعرفت أنه قد جاء فرج، وآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى صلاة الفجر فذهب الناس يبشروننا، وذهب قبل صاحبي مبشرون، وركض رجل إلي فرسا وسعى ساع من أسلم، فأوفى على الجبل فكان الصوت أسرع من الفرس، فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبي فكسوته إياهما ببشراه، ووالله ما أملك غيرهما يومئذ، واستعرت ثوبين فلبستهما وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلقاني الناس فوجا فوجا يهنؤنني بالتوبة ويقولون: ليهنك توبة الله علك قال كعب: حتى دخلت المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس حوله الناس، فقام إلي طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني، والله ما قام إلي رجل من المهاجرين غيره، ولا أنساها لطلحة. قال كعب: فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبرق وجهه من السرور: أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك! قال قلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ قال: لا، بل من عند الله، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سر استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر، وكنا نعرف ذلك منه، فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك، قلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر. فقلت: يا رسول الله إنما نجاني الله بالصدق، وإن من توبتي ألا أحدث إلا صدقا ما بقيت، فوالله ما أعلم أحدا من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن مما أبلاني، ما تعمدت منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا كذبا، وإني لأرجو أن يخفظني الله فيما بقيت. وأنزل الله على رسوله: "لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار"، إلى قوله: "وكونوا مع الصادقين"". وروى إسحاق بن راشد عن الزهري بهذا الإسناد عن كعب، قال:" نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامي وكلام صاحبي، فلبثت كذلك حتى طال علي الأمر، وما من شيء أهم إلي من أن أموت ولا يصلي علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يموت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكون من الناس بتلك المنزلة، فلا يكلمني أحد منهم ولا يصلي علي! وأنزل الله توبتنا على نبيه صلى الله عليه وسلم حين بقى الثلث الأخير من الليل، ورسول الله صلى الله عليه وسلم عند أم سلمة وكانت أم سلمة محسنة في شأني، معينة في أمري، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:يا أم سلمة تيب على كعب، قالت: أفلا أرسل إليه فأبشره؟ قال: إذا يحطمكم الناس، فيمنعونكم النوم سائر الليلة، حتى إذا صلى صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر آذن بتوبة الله علينا".
118-قوله تعالى: "وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت"، اتسعت، "وضاقت عليهم أنفسهم"، غما وهما، "وظنوا"، أي: تيقنوا، "أن لا ملجأ من الله"، لا مفزع من الله، "إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا"، أي: ليستقيموا على التوبة فإن توبتهم قد سبقت. "إن الله هو التواب الرحيم".
119-"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين"، قال نافع: مع محمد وأصحابه. وقال سعيد ابن جبير: مع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. وقال ابن جريج: مع المهاجرين، لقوله تعالى: "للفقراء المهاجرين" إلى قوله "أولئك هم الصادقون" (الحشر -8) وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: مع الذين صدقت نياتهم واستقامت قلوبهم وأعمالهم وخرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك بإخلاص نية. وقيل: مع الذين صدقوا في الإعتراف بالذنب ولم يعتذروا بالأعذار الكاذبة. وكان ابن مسعود يقرأ: "وكونوا مع الصادقين" وقال ابن مسعود: إن الكذب لا يصلح في جد ولا هزل، ولا أن يعد أحدكم صبيه شيئا ثم لا ينجز له، اقرؤا إن شئتم وقرأ هذه الآية.
120-قوله تعالى: "ما كان لأهل المدينة" ظاهره خبر، ومعناه نهي، كقوله تعالى:" وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله " (الأحزاب -53) "ومن حولهم من الأعراب"، سكان البوادي: مزينة، وجهينة، وأشجع، وأسلم، وغفار. "أن يتخلفوا عن رسول الله"، إذا غزا. "ولا يرغبوا"، أي: ولا أن يرغبوا، "بأنفسهم عن نفسه"، في مصاحبته ومعاونته والجهاد معه. قال الحسن: لا يرغبوا بأنفسهم أن يصيبهم من الشدائد فيختاروا الخفض والدعة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في مشقة السفر ومقاساة التعب. "ذلك بأنهم لا يصيبهم"، في سفرهم، "ظمأ"، عطش، "ولا نصب"، تعب، "ولا مخمصة"، مجاعة، " في سبيل الله ولا يطؤون موطئا "، أرضا، "يغيظ الكفار"، وطؤهم إياه "ولا ينالون من عدو نيلاً"، أي: لا يصيبون من عدوهم قتلا أو أسرا أو غنيمة أو هزيمة، "إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين". أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي،أنبأنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد ابن إسماعيل، حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا يزيد بن أبي مريم، حدثنا عباية بن رفاعة قال: أدركني أبو عبس وأنا ذاهب إلى الجمعة فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمهما الله على النار". واختلفوا في حكم هذه الآية، قال قتادة: هذه خاصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا غزا بنفسه لم يكن لأحد أن يتخلف عنه إلا بعذر، فأما غيره من الأئمة والولاة لمن شاء من المسلمين أن يتخلف عنه إذا لم يكن بالمسلمين إليه ضرورة. وقال الوليد بن مسلم: سمعت الأوزاعي، وابن المبارك، وابن جابر، وعمر بن عبد العزيز يقولون في هذه الآية: إنها لأول هذه الأمة وآخرها. وقال ابن زيد: هذا حين كان أهل الإسلام قليلا، فما كثروا نسخها الله تعالى وأباح التخلف لمن يشاء، فقال: "وما كان المؤمنون لينفروا كافة".
121-قوله تعالى: "ولا ينفقون نفقة"، أي: في سبيل الله، "صغيرة ولا كبيرة"، ولو علاقة سوط، "ولا يقطعون واديا"، لا يجاوزون واديا في مسيرهم مقبلين أو مدبرين. "إلا كتب لهم"، يعني: آثارهم وخطاهم، "ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون". روي عن خريم بن فاتك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أنفق نفقة في سبيل الله كتب له سبعمائة ضعف". أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، أخبرنا عبد الغافر بن محمد، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، حدثنا مسلم بن الحجاج، حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، أخبرنا جرير، عن الأعمش، عن أبي عمرو الشيباني، عن أبي مسعود الأنصاري قال: " جاء رجل بناقة مخطومة فقال: هذه في سبيل الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة كلها مخطومة". أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا أبو معمر، حدثنا عبد الوارث، حدثنا الحسين حدثني يحيى بن أبي كثير حدثني أبو سلمة، حدثني بسر بن سعيد، حدثني زيد بن خالد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من جهز غازيا في سبيل الله فقد غزا، ومن خلف غازيا في سبيل الله بخبر فقد غزا".
122-قوله عز وجل: " وما كان المؤمنون لينفروا كافة " الآية: قال ابن عباس في رواية الكلبي: لما أنزل الله عز وجل عيوب المنافقين في غزوة تبوك كان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث السرايا فكان المسلمون ينفرون جميعا إلى الغزو ويتركون النبي صلى الله عليه وسلم وحده، فأنزل الله عز وجل هذه الآية. وهذا نفي بمعنى النهي. قوله تعالى: "فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة"، أي: فهلا خرج إلى الغزو من كل قبيلة جماعة ويبقى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة "ليتفقهوا في الدين"، يعنى الفرقة القاعدين، يتعلمون القرآن والسنن والفرائض والأحكام، فإذا رجعت السرايا أخبروهم بما أنزل بعدهم، فتمكث السرايا يتعلمون ما نزل بعدهم، وتبعث سرايا أخر، فذلك قوله: "ولينذروا قومهم"، وليعلموهم بالقرآن ويخوفوهم به، "إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون" لا يعلمون بخلافه. وقال الحسن: هذا التفقه والإنذار راجع إلى الفرقة النافرة، ومعناه: هلا نفر فرقة ليتفقهوا، أي: ليتبصروا بما يريهم الله من الظهور على المشركين ونصرة الدين، ولينذروا قومهم من الكفار إذا رجعوا إليهم من الجهاد فيخبروهم بنصر الله رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين لعلهم يخذرون أن يعادوا النبي صلى الله عليه وسلم، فينزل بهم ما نزل بأصحابهم من الكفار. وقال الكلبي: لها وجه آخر وهو أن أحياء من بني أسد من خزيمة أصابتهم سنة شديدة فأقبلوا بالذراري حتى نزلوا المدينة فأفسدوا طرقها بالعذرات وأغلوا أسعارها فنزل قوله: "وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة"، أي: لم يكن لهم أن ينفروا كافة ولكن من كل قبيلة طائفة ليتفقهوا في الدين. وقال مجاهد: نزلت في ناس خرجوا في البوادي ابتغاء الخبر من أهلها فأصابوا منهم معروفا، ودعوا من وجدوا من الناس إلى الهدى، فقال الناس لهم ما نراكم إلا وقد تركتم صاحبكم وجئتمونا، فوجدوا في أنفسهم من ذلك حرجا، وأقبلوا كلهم من البادية حتى دخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله هذه الآية، أي: هلا نفر من كل فرقة طائفة ليتفقهوا في الدين ويستمعوا ما أنزل بعدهم ولينذروا قومهم، يعني: الناس كلهم إذا رجعوا إليهم ويدعوهم إلى الله، لعلهم يحذرون بأس الله ونقمته، وقعدت طائفة يبتغون الخير. أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي، أنبأنا أبو الحسن الطيسفوني، حدثنا عبد اله بن عمر الجوهري، حدثنا أحمد بن علي الكشميهني، حدثنا علي بن حجر، حدثنا إسماعيل بن جعفر، حدثنا عبد الله بن أبي سعيد بن أبي هند عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين". أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب، حدثنا عبد العزيز بن أحمد الخلال، حدثنا أبو العباس الأصم، أخبرنا الربيع، أخبرنا الشافعي ، أنبأنا سفيان، عن أبي الزناد، عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تجدون الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا". والفقه: هو معرفة أحكام الدين، وهو ينقسم إلى فرض عين وفرض كفاية، ففرض العين مثل: علم الطهارة، والصلاة، والصوم، فعلى كل مكلف معرفته، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"طلب العلم فريضة على كل ملسم". وكذلك كل عبادة أوجبها الشرع على كل واجب بجب عليه معرفة علمها، مثل: علم الزكاة إن كان له مال، وعلم الحج إن وجب عليه. وأما فرض الكفاية فهو: أن يتعلم حتى يبلغ درجة/ الاجتهاد ورتبة الفتيا، فإذا قعد أهل بلد عن تعلمه عصوا جميعا، وإذا قام من كل بلد واحد فتعلمه سقط الفرض عن الآخرين، وعليهم تقليده فيما يقع لهم من الحوادث، روى أبو أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم". وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد". قال الشافعي: طلب العلم أفضل من صلاة النافلة.
123-قوله عز وجل: "يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار" الآية، أمروا بقتال الأقرب فالأقرب إليهم في الدار والنسب، قال ابن عباس رضي الله عنهما مثل بني قريظة والنضير وخيبر ونحوها. وقيل: أراد بهم الروم لأنهم كانوا سكان الشام وكان الشام أقرب إلى المدينة من العراق، "وليجدوا فيكم غلظة"، شدة وحمية. قال الحسن: صبرا على جهادهم، "واعلموا أن الله مع المتقين"، بالعون والنصرة.
124-قوله تعالى: "وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيماناً"، يقينا. كان المنافقون يقولون هذا استهزاء، قال الله تعالى: "فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً" يقينا وتصديقا، "وهم يستبشرون"، يفرحون بنزول القرآن.
125-"وأما الذين في قلوبهم مرض"، شك ونفاق، " فزادتهم رجساً إلى رجسهم"، أي: كفرا إلى كفرهم، فعند نزول كل سورة ينكرونها يزداد كفرهم بها. قال مجاهد: هذه الآية إشارة إلى الإيمان: يزيد وينقص. وكان عمر: يأخذ بيد الرجل والرجلين من أصحابه فيقول تعالوا حتى نزداد إيمانا. وقال علي بن أبي طالب: إن الإيمان يبدو لمظة بيضاء في القلب، فكلما ازداد الإيمان عظما ازداد ذلك البياض حتى يبيض القلب كله، وإن النفاق يبدو لمظة سوداء في القلب فكلما ازداد النفاق ازداد السواد حتى يسود القلب كله، وأيم الله لو شققتم عن قلب مؤمن لوجدتموه أبيض ولو شققتم عن قلب منافق لوجدتموه أسود. قوله: "وماتوا وهم كافرون".
126-قوله: "أو لا يرون"، قرأ حمزة ويعقوب: ترون بالتاء على خطاب المؤمنين، وقرأ الآخرين بالياء، خبر عن المنافقين المذكورين. "أنهم يفتنون" يبتلون "في كل عام مرة أو مرتين"، بالأمراض والشدائد. وقال: مجاهد: بالقحط والشدة. وقال قتادة: بالغزو والجهاد. وقال مقاتل بن حيان : يفضحون بإظهار نفاقهم. وقال عكرمة: ينافقون ثم يؤمنون ثم ينافقون. وقال يمان: ينقضون عهدهم في السنة مرة أو مرتين. " ثم لا يتوبون "، من نقض العهد ولا يرجعون إلى الله من النفاق، "ولا هم يذكرون"، أي: لا يتعظون بما يرون من تصديق وعد الله بالنصر والظفر للمسلمين.
127-"وإذا ما أنزلت سورة"، فيها عيب المنافقين وتوبيخهم، "نظر بعضهم إلى بعض"، يريدون الهرب يقول بعضهم لبعض إشارة، "هل يراكم من أحد"، أي: أحد من المؤمنين، إن قمتم، فإن لم يرهم أحد خرجوا من المسجد وإن علموا أن أحدا يراهم أقاموا وثبتوا، "ثم انصرفوا"، عن الإيمان بها. وقيل: انصرفوا عن مواضعهم التى يسمعون فيها، "صرف الله قلوبهم"، عن الإيمان. قال أبو إسحاق الزجاج: أضلهم الله مجازاة على فعلهم ذلك، "بأنهم قوم لا يفقهون"، عن الله دينه. قال ابن عباس رضي الله عنهما: "لا تقولوا إذا صليتم انصرفنا من الصلاة فإن قوما انصرفوا فصرف الله قلوبهم، ولكن قولوا قد قضينا الصلاة".
128-قوله تعالى: "لقد جاءكم رسول من أنفسكم" تعرفون نسبه وحسبه، قال السدي: من العرب، من بني إسماعيل. قال ابن عباس: ليس من العرب قبيل إلا ولدت النبي صلى الله عليه وسلم، ولهم فيهم نسب. وقال جعفر بن محمد الصادق : لم يصبه شيء من ولاد الجاهلية من زمان آدم عليه السلام. أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي، أخبرنا أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي، أخبرنا عبد الله بن حامد، حدثنا حامد بن محمد، أخبرنا علي بن عبد العزيز، حدثنا محمد بن أبي نعيم، حدثنا هشيم، حدثني المدني-يعني: أبا معشر- عن أبي الحويرث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما ولدني من سفاح أهل الجاهلية شيء، ما ولدني إلا نكاح كنكاح الإسلام". وقرأ ابن عباس والزهري وابن محيصن "من أنفسكم" بفتح الفاء، أي: من أشرفكم وأفضلكم. "عزيز عليه"، شديد عليه، "ما عنتم"، قيل "ما" صلة أي: عنتكم، وهو دخول المشقة والمضرة عليكم. وقال القتيبي: ما أعنتكم وضركم. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: ما ضللتم. وقال الضحاك والكلبي: ما أتممتم. "حريص عليكم"، أي: على إيمانكم وصلاحكم. وقال قتادة: حريص عليكم أي: على ضالكم أن يهديه الله، " بالمؤمنين رؤوف رحيم "، قيل: رؤوف بالمطيعين رحيم بالمذنبين،
129-"فإن تولوا "، إن أعرضوا عن الإيمان وناصبوك الحرب "فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم". روي عن أبي بن كعب قال: آخر ما نزل من القرآن هاتان الآيتان "لقد جاءكم رسول من أنفسكم" إلى آخر السورة. وقال: هم أحدث الآيات بالله عهدا.