1 - مكية ، وهي ثمان وتسعون آية . قوله عز وجل : " كهيعص " قرأ أبو عمرو بكسر الهاء وفتح الياء ، وضده ابن عامر ، وحمزة ، وبكسرهما : الكسائي و أبو بكر ، والباقون بفتحهما . ويظهر الدال عند الذال من ( صاد ذكر ) ابن كثير ، و نافع ، و عاصم [ و يعقوب ] ، والباقون بالإدغام . قال ابن عباس رضي الله عنهما : هو اسم من أسماء الله تعالى . وقال قتادة : هو اسم من أسماء القرآن . وقيل : اسم للسورة . وقيل : هو قسم أقسم الله به . ويروى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله " كهيعص " قال : الكاف من كريم وكبير ، والهاء من هاد ، والياء من رحيم ، والعين من عليم ، وعظيم ، والصاد من صادق . وقال الكلبي : معناه : كاف لخلقه ، هاد لعباده ، يده فوق أيديهم ، عالم ببريته ، صادق في وعده .
2- " ذكر " ، رفع المضمر ، أي : هذا الذي نتلوه عليك ذكر " رحمة ربك " ، [ وفيه تقديم وتأخير ] معناه : ذكر بك ، " عبده زكريا " ، برحمته .
3 - " إذ نادى " ، دعا ، " ربه ، " في محرابه " نداءً خفياً " ، دعا سراً من قومه في جوف الليل .
4 - " قال رب إني وهن " ، ضعف ورق ، " العظم مني " ، من الكبر . قال قتادة : اشتكى سقوط الأضراس ، " واشتعل الرأس " ، أي : ابيض شعر الرأس ، " شيباً " ، شمطاً ، " ولم أكن بدعائك رب شقياً " ، يقول : عودتني الإجابة فيما مضى ولم تخيبنى . وقيل : معناه لما دعوتني إلى الإيمان آمنت ولم أشق بترك الإيمان .
5 - " وإني خفت الموالي " ، و ( الموالي ) : بنو العم . قال مجاهد : العصبة . وقال أبو صالح : الكلالة .وقال الكلبي : الورثة . " من ورائي " أي : من بعد موتي . قرأ ابن كثير : " من ورائي " بفتح الياء ، والآخرون بإسكانها . " وكانت امرأتي عاقراً " ، لا تلد ، " فهب لي من لدنك " ، أعطني من عندك " ولياً " ابناً .
6 - " يرثني ويرث من آل يعقوب " ، قرأ أبو عمرو ، و الكسائي : بجزم الثاء فيهما ، على جواب الدعاء ، وقرأ الآخرون بالرفع على الحال والصفة ، أي : ولياً وارثاً . واختلفوا في هذا الإرث ، قال الحسن : معناه يرثني مالي ويرث من آل يعقوب النبوة والحبورة . وقيل : أراد ميراث النبوة والعلم . وقيل : أراد إرث الحبورة ، لأن زكريا كان على رأس الأحبار . قال الزجاج : والأولى أن يحمل على ميراث غير المال لأنه يبعد أن يشفق زكريا وهو نبي من الأنبياء أن يرثه بنو عمه ماله . والمعنى : إنه خاف تضييع بني عمه دين الله وتغيير أحكامه على ما كان شاهده من بني إسرائيل من تبديل الدين وقتل الأنبياء ، فسأل ربه ولياً صالحاً يأمنه على أمته ، ويرث نبوته وعلمه لئلا يضيع الدين . وهذا معنى قول عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما. " واجعله رب رضياً " ، أي براً تقياً مرضياً .
7 - قوله عز وجل : " يا زكريا إنا نبشرك " ، وفيه اختصار ، معناه : فاستجاب الله دعاءه ، فقال : يا زكريا إنا نبشرك ، " بغلام " ، بولد ذكر ، " اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سمياً " ، قال قتادة و الكلبي : لم يسم أحد قبله يحيى . وقال سعيد بن جبير و عطاء : لم نجعل له شبهاً ومثلاً ، كما قال الله تعالى : " هل تعلم له سمياً " ، أي مثلاً . والمعنى : أنه لم يكن له مثل ،لأنه لم يعص ولم يهم بمعصية قط . وقيل : لم يكن له مثل في أمر النساء ، لأنه كان سيداً وحصوراً . وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما : أي لم تلد العواقر مثله ولداً . وقيل : لم يرد الله به اجتماع الفضائل كلها ليحيى ، إنما أراد بعضها ، لأن الخليل والكليم كانا قبله ، وهما أفضل منه .
8 - " قال رب أنى " ، من أين ، " يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقراً " أي : وامرأتي عاقر . " وقد بلغت من الكبر عتياً" ، أي : يبساً ، قال قتادة : يريد نحول العظم ، يقال : عتا الشيخ يعتو عتياً وعسياً : إذا انتهى سنه وكبر ، وشيخ عات عاس : إذا صار إلى حالة اليبس والجفاف . وقرأ حمزة و الكسائي : عتياً وبكياً وصلياً وجثياً بكسر أوائلهن ، والباقون برفعها ، وهما لغتان .
9 - " قال كذلك قال ربك هو علي هين " ، يسير ، " وقد خلقتك " ، قرأ حمزة و الكسائي " خلقناك " بالنون والألف على التعظيم ، " من قبل " ، أي من قبل يحيى ، " ولم تك شيئاً " .
10 - " قال رب اجعل لي آية " ، دلالة على حمل امرأتي ،" قال آيتك أن لا تكلم الناس ثلاث ليال سويا " ، أي : صحيحاً سليماً من غير ما بأس ولا خرس . قال مجاهد : أي لا يمنعك من الكلام مرض . وقيل : ثلاث ليال سوياً أي متتابعات ، والأول أصح . وفي القصة : أنه لم يقدر فيها أن يتكلم مع الناس فإذا أراد ذكر الله تعالى انطلق لسانه .
11 - قوله عز وجل : " فخرج على قومه من المحراب " ، وكان الناس من وراء المحراب ينتظرونه أن يفتح لهم الباب فيدخلون ويصلون ، إذ خرج عليهم زكريا متغيراً لونه فأنكروه ، وقالوا : مالك يا زكريا ؟ " فأوحى إليهم " فأومأ إليهم ، قال مجاهد : كتب لهم في الأرض ، " أن سبحوا " ، أي : صلوالله ، " بكرةً " ، غدوة ، " وعشياً " ، ومعناه : أنه كان يخرج على قومه بكرةً وعشياً فيأمرهم بالصلاة ، فلما كان وقت حمل امرأته ومنع الكلام حتى خرج إليهم فأمرهم بالصلاة إشارة .
12 - قوله عز وجل : " يا يحيى " ، قيل : فيه حذف معناه : ووهبنا له يحيى وقلنا له : يا يحيى ، " خذ الكتاب " ، يعني التوراة ، " بقوة " ، بجد ، " وآتيناه الحكم " ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : النبوة ، " صبياً " ، وهو ابن ثلاث سنين . وقيل : أراد بالحكم فهم الكتاب ، فقرأ التوراة وهو صغير . وعن بعض السلف : من قرأ القرآن قبل أن يبلغ فهو ممن أوتي الحكم صبياً .
13 - " وحناناً من لدنا " ، رحمة من عندنا ، قال الحطيئة لعمر بن الخطاب رضي الله عنه : تحنن علي هداك المليك فإن لكل مقام مقالاً أي : ترحم . " وزكاة " ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : يعني الزكاة الطاعة والإخلاص . وقال قتادة رضي الله عنه : هي العمل الصالح ، وهو قول الضحاك . ومعنى الآية : وآتيناه رحمة من عندنا وتحنناً على العباد ، ليدعوهم إلى طاعة ربهم ويعمل عملاً صالحاً في الإخلاص . وقال الكلبي : يعني صدقة تصدق الله بها على أبويه . " وكان تقياً " ، مسلماً ومخلصاً مطيعاً ، وكان من تقواه أنه لم يعمل خطيئة ولا هم بها .
14 - " وبراً بوالديه " ، أي باراً لطيفاً بهما محسناً إليهما . " ولم يكن جباراً عصياً " ، و ( الجبار ) : المتكبر، وقيل : : ( الجبار ) : الذي يضرب ويقتل على الغضب ، و( العصي ) : العاصي .
15 - " وسلام عليه " ، أي : سلامة له ، " يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حياً " ، قال سفيان بن عيينة : أوحش ما يكون الإنسان في هذه الأحوال : يوم ولد فيخرج مما كان فيه ، ويوم يموت فيرى قوماً لم يكن عاينهم ، ويوم يبعث فيرى نفسه في محشر لم ير مثله . فخص يحيى بالسلامة في هذه المواطن .
16 - قوله عز وجل :" واذكر في الكتاب " ،في القرآن ، " مريم إذ انتبذت " ، تنحت واعتزلت ، " من أهلها " ، من قومها ، " مكاناً شرقياً " ، أي : مكاناً في الدار مما يلي المشرق ، وكان يوماً شاتياً شديد البرد ، فجلست في مشرقة تفلي رأسها . وقيل : كانت طهرت من المحيض ، فذهبت لتغتسل . قال الحسن : ومن ثم اتخذت النصارى المشرق قبلةً .
17 - " فاتخذت " ، فضربت ، " من دونهم حجاباً " ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : ستراً . وقيل : جلست وراء الجدار . وقال مقاتل : وراء الجبل . وقال عكرمة : إن مريم كانت تكون في المسجد فإذا حاضت تحولت إلى بيت خالتها ، حتى إذا طهرت عادت إلى المسجد ، فبينما هي تغتسل من المحيض قد تجردت ، إذ عرض لها جبريل في صورة شاب أمرد ، وضيء الوجه ، جعد الشعر ، سوي الخلق ، فذلك قوله : " فأرسلنا إليها روحنا " ، يعني : جبريل عليه السلام ، " فتمثل لها بشراً سوياً " ، وقيل : المراد من الروح عيسى عليه السلام ، جاء في صورة بشر فحملت به . والأول أصح . فلما رأت مريم جبريل يقصد نحوها نادته من بعيد ، ف
18 -" قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً " مؤمناً مطيعاً . فإن قيل : إنما يستعاذ من الفاجر ، فكيف قالت : إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً ؟. قيل : هذا كقول القائل : إن كنت مؤمناً فلا تظلمني . أي : ينبغي أن يكون إيمانك مانعاً من الظلم ، كذلك هاهنا . معناه : ينبغي أن تكون تقواك مانعاً من الفجور .
19- " قال " ، لها جبريل : " إنما أنا رسول ربك لأهب لك " ، قرأ نافع و أهل البصرة: " لأهب لك " بالياء ، أي : ليهب لك ربك ، وقرأ الآخرون : " لأهب لك " أسند الفعل إلى الرسول ،وإن كانت الهبة من الله تعالى ، لأنه أرسل به . " غلاماً زكياً " ، ولداً صالحاً طاهراً من الذنوب .
20 - " قالت " ، مريم : " أنى " ، من أين ، " يكون لي غلام ولم يمسسني بشر " ، لم يقربني زوج ، " ولم أك بغياً " ،فاجرةً ؟ تريد أن الولد يكون من نكاح أو سفاح ، ولم يكن هنا واحد منهما .
21 - " قال " ، جبريل : " كذلك " ، قيل : معناه كما قلت يا مريم ولكن ، " قال ربك " . وقيل هكذا قال ربك ، ، " هو علي هين " ، أي : خلق ولد بلا أب ، " ولنجعله آيةً " ، علامة ، " للناس " ، ودلالة على قدرتنا ، " ورحمةً منا " ، ونعمة لمن تبعه على دينة ، " وكان " ذلك ، " أمراً مقضياً " ، محكوماً مفروغاً عنه لا يرد ولا يبدل .
22 - قوله عز وجل : " فحملته " ، قيل : إن جبريل رفع درعها فنفخ في جيبه فحملت حين لبست . وقيل : مد جيب درعها بأصبعه ثم نفخ في الجيب . وقيل : نفخ في كم قميصها . وقيل : في فيها . وقيل : نفخ جبريل عليه السلام نفخاً من بعيد فوصل الريح إليها فحملت بعيسى في الحال، " فانتبذت به " ، أي تنحت بالحمل وانفردت ، " مكاناً قصياً " ، بعيداً من أهلها . قال ابن عباس رضي الله عنهما : أقصى الوادي ، وهو وادي بيت لحم ، فراراً من قومها أن يعيروها بولادتها من غير زوج . واختلفوا في مدة حملها ووقت وضعها ، فقال ابن عباس رضي الله عنهما : كان الحمل والولادة في ساعة واحة . وقيل : كان مدة حملها تسعة أشهر كحمل سائر النساء . وقيل : كان مدة حلمها ثمانية أشهر ، وكان ذلك آية أخرى لأنه لا يعيش ولد يولد لثمانية أشهر ، وولد عيسى لهذه المدة وعاش . وقيل : ولدت لستة أشهر . وقال مقاتل بن سليمان : حملته مريم في ساعة ،وصور في ساعة ،ووضعته في ساعة حين زالت الشمس من يومها ، وهي بنت عشر سنين ، وكانت قد حاضت حيضتين قبل أن تحمل بعيسى .
23 - " فأجاءها " ، أي ألجأها وجاء بها ، " المخاض " ، وهو وجع الولادة ، " إلى جذع النخلة " وكانت نخلة يابسة في الصحراء ، في شدة الشتاء ، لم يكن لها سعف . وقيل : التجأت إليها لتستند إليها وتتمسك بها على وجع الولادة ، " قالت يا ليتني مت قبل هذا" ، تمنت الموت استحياءً من الناس وخوف الفضيحة ،" وكنت نسياً " ، قرأ حمزة و حفص " نسياً " بفتح النون ، [ والباقون بكسرها ] ، وهما لغتان ، مثل : الوتر ،والوتر ،والجسر والجسر ، وهو الشيء المنسي ،و ( النسي ) في اللغة : كل ما ألقي ونسي ولم يذكر لحقارته . " منسياً " ، أي : متروكاً قال قتادة : شيء لا يعرف ولا يذكر . قال عكرمة و الضحاك و مجاهد : جيفة ملقاة . وقيل : تعني لم أخلق .
24 - " فناداها من تحتها" ، قرأ أبو جعفر ،و نافع ، و حمزة ، و الكسائي ، و حفص : " من تحتها " بكسر الميم والتاء ، يعني جبريل عليه السلام ، وكانت مريم على أكمة ، وجبريل وراء الأكمة تحتها فناداها . وقرأ الآخرون بفتح الميم والتاء ، وأراد جبريل عليه السلام أيضا ، ناداها من سفح الجبل . وقيل : هو عيسى لما خرج من بطن أمه ناداها : " أن لا تحزني " ،وهو قول مجاهد و الحسن . والأول قول ابن عباس رضي الله عنهما ، و السدي ، و قتادة ،و الضحاك ، وجماعة : أن المنادي كان جبريل لما سمع كلامها وعرف جزعها ناداها ألا تحزني . " قد جعل ربك تحتك سرياً " ، و ( السري ) :النهر الصغير . وقيل : تحتك أي جعله الله تحت أمرك إن أمرتيه أن يجري جرى ، وإن أمرتيه بالإمساك أمسك . قال : ابن عباس رضي الله عنهما: ضرب جبريل عليه السلام - ويقال : ضرب عيسى عليه الصلاة والسلام - برجله الأرض فظهرت عين ماء عذب وجرى . وقيل : كان هناك نهر يابس أجرى الله سبحانه تعالى فيه الماء وحييت النخلة اليابسة ، فأورقت وأثمرت وأرطبت . وقال الحسن : ( تحتك سرياً ) يعني : عيسى ، وكان والله عبداً سرياً ، يعني : رفيعاً .
25 - " وهزي إليك " ، يعني قيل لمريم :حركي " بجذع النخلة " ، تقول العرب :هزه وهز به ، كما يقول : حز رأسه وحز برأسه ، وأمدد الحبل وأمدد به ، " تساقط عليك " ، القراءة المعروفة بفتح التاء والقاف وتشديد السين ،أي : تتساقط ، فأدغمت إحدى التاءين في السين أي : تسقط عليك النخلة رطباً ، وخفف حمزة السين وحذف التاء التي أدغمها غيره . وقرأ حفص بضم التاء وكسر القاف خفيف على وزن تفاعل . وتساقط بمعنى أسقط ، والتأنيث لأجل النخلة . وقرأ يعقوب : ( يساقط )بالياء مشددة ردة إلى الجذع . " رطباً جنياً " ، مجنياً . وقيل : الجني هو الذي بلغ الغاية ، وجاء أوان اجتنائه . قال الربيع بن خثيم : ما للنفساء عندي خير من الرطب ،ولا للمريض خير من العسل .
26 - قوله سبحانه وتعالى: " فكلي واشربي " ، أي : فكلي يا مريم من الرطب ،واشربي من ماء النهر ،" وقري عيناً " ، أي : طيبي نفساً . وقيل : قري عينك بولدك عيسى .يقال : أقر الله عينك أي : صادف فؤادك ما يرضيك ، فتقر عينك من النظر إلى غيره .وقيل : أقر الله عينه : يعني أنامها ، يقال: قر يقر إذا سكن . وقيل : إن العين إذا بكت من السرور فالدمع بارد ،وإذا بكت من الحزن فالدمع يكون حراً ، فمن هذا قيل :أقر الله عينه وأسخن الله عينه . " فإما ترين من البشر أحداً " ، أي : تري ، فدخل عليه نون التأكيد من الحزن فالدمع يكون حاراً ، فمن هذا قيل :أقر الله عينه وأسخن الله عينه . " فإما ترين من البشر أحداً " ، أي : تري ، فدخل عليه نون التأكيد فكسرت الياء لالتقاء الساكنين . معناه : فإما ترين من البشر أحداً فيسألك عن ولدك " فقولي إني نذرت للرحمن صوماً " ، أي: صمتاً ، وكذلك كان يقرأ ابن مسعود رضي الله عنه . والصوم في اللغة الإمساك عن الطعام والشراب والكلام . قال السدي : كان في بني إسرائيل من أراد أن يجتهد صام عن الكلام ، كما يصوم عن الطعام ، فلا يتكلم حتى يمسي . وقيل : إن الله تعالى أمرها أن تقول هذا إشارةً . وقيل : أمرها أن تقول هذا القدر نطقاً ، ثم تمسك عن الكلام بعده . " فلن أكلم اليوم إنسياً " ، يقال: كانت تكلم الملائكة ، ولا تكلم الإنس .
27 - " فأتت به قومها تحمله " ، قيل : إنها ولدت ، ثم حملته في الحال إلى قومها . وقال الكلبي : حمل يوسف النجار مريم وابنها عيسى [ عليهما السلام ] إلى غار ، ومكثت أربعين يوماً حتى طهرت من نفاسها ، ثم حملته مريم عليها السلام إلى قومها . فكلمها عيسى عليه السلام في الطريق فقال : يا أماه أبشري فإني عبد الله ومسيحه ، فلما دخلت على أهلها ومعها الصبي بكوا وحزنوا ، وكانوا أهل بيت صالحين ، " قالوا يا مريم لقد جئت شيئاً فرياً " ، عظيماً منكراً ، قال أبو عبيدة : كل أمر فائق من عجب أو عمل فهو فري . قال النبي صلى الله عليه وسلم في عمر : " فلم أر عبقرياً يفري فريه " أي : يعمل عمله . ي
28 - " يا أخت هارون " ، يريد يا شبيهة هارون ، قال قتادة وغيره : كان هارون رجلاً صالحاً عابداً في بني إسرائيل . روي أنه اتبع جنازته يوم مات أربعون ألفاً كلهم يسمى ( هارون ) من بني إسرائيل سوى سائر الناس ، [ شبهوها به على ] معنى إنا ظننا أنك مثله في الصلاح . وليس المراد منه الأخوة في النسب ، كما قال الله تعالى : " إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين " ( الإسراء : 27 ) أي : أشباههم . أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أخبرنا عبد الغافر بن محمد ، أخبرنا محمد بن عيسى ، أخبرنا إبراهيم بن محمد بن محمد بن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير ، حدثنا ابن إدريس عن أبيه ، عن سماك بن حرب ، عن علقمة بن وائل ،عن المغيرة بن شعبة قال:" لما قدمت نجران سألوني ، فقالوا : إنكم تقرؤون : " يا أخت هارون " و موسى قبل عيسى بكذا وكذا ! فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سألته عن ذلك فقال : إنهم كانوا يسمون بأنبيائهم والصالحين قبلهم ". وقال الكلبي : كان هارون أخا مريم من أبيها ، وكان أمثل رجل في بني إسرائيل . وقال السدي : إنما عنوا به هارون أخا موسى،لأنها كانت من نسله ،كما يقال للتميمي : يا أخا تميم . وقيل : كان هارون رجلاً فاسقاً في بني إسرائيل عظيم الفسق فشبهوها به . " ما كان أبوك " ، عمران ،" امرأ سوء " ، قال ابن عباس رضي الله عنهما :زانيا ، " وما كانت أمك " ،حنة ، " بغياً " ، أي زانية ، فمن أين لك هذا الولد ؟ .
29 - " فأشارت " ،مريم ، " إليه " ،أي إلى عيسى عليه السلام : أن كلموه . قال ابن مسعود رضي الله عنه : لما لم يكن لها حجة وأشارت إليه ، ليكون كلامه حجةً لها . وفي القصة : لما أشارت إليه غضب القوم ، وقالوا مع ما فعلت تسخرين بنا ؟ " قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبياً " أي : من هو في المهد ، هو حجرها. وقيل : هو المهد بعينه و ( كان ) بمعنى : هو . وقال أبو عبيدة ( كان ) صلة ، أي: كيف نكلم صبياً في المهد . وقد يجيء ( كان ) حشواً في الكلام لا معنى له كقوله " هل كنت إلا بشراً رسولاً " (الإسراء : 93 ) أي : هل أنا ؟ قال السدي : فلما سمع عيسى كلامهم ترك الرضاع وأقبل عليهم . وقيل : لما أشارت إليه ترك الثدي واتكأ على يساره ، وأقبل عليهم وجعل يشير بيمينه :
30 - " قال إني عبد الله " ، وقال وهب : أتاها زكريا عند مناظرتها اليهود ، فقال لعيسى : انطق بحجتك إن كنت أمرت بها ، فقال عند ذلك عيسى عليه السلام وهو ابن أربعين يوماً - وقال مقاتل : بل هو يوم ولد - : إني عبد الله ، أقر على نفسه بالعبودية لله عز وجل أول ما تكلم لئلا يتخذ إلهاً ، " آتاني الكتاب وجعلني نبياً " ، قيل : معناه سيؤتيني الكتاب ويجعلني نبياً . وقيل : هذا إخبار عما كتب له في اللوح المحفوظ ، كما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : متى كنت نبياً ؟ قال : ("كنت نبياً وآدم بين الروح والجسد " . وقال الأكثرون أوتي الإنجيل وهو صغير طفل ،وكان يعقل عقل الرجال. وعن الحسن :أنه قال : ألهم التوراة وهو في بطن أمه .
31 - " وجعلني مباركا أين ما كنت " ، أي نفاعاً حيث ما توجهت . وقال مجاهد : معلماً للخير .وقال عطاء :أدعو إلى الله وإلى توحيده وعبادته . وقيل : مباركاً على من تبعني " وأوصاني بالصلاة والزكاة " ، أي : أمرني بهما . فإن قيل : لم يكن لعيسى مال . فكيف يؤمر بالزكاة ؟ قيل : معناه بالزكاة لو كان لي مال وقيل : بالاستكثار من الخير . " ما دمت حياً " .
32 - " وبراً بوالدتي " أي وجعلني براً بوالدتي ، " ولم يجعلني جباراً شقياً " ، أي عاصياً لربه . قيل : ( الشقي ) : الذي يذنب ولا يتوب .
33 - " والسلام علي يوم ولدت " ، أي : السلامة عند الولادة من طعن الشيطان . " ويوم أموت " ، أي عند الموت من الشرك ، " ويوم أبعث حياً " ، من الأهوال . ولما كلمهم عيسى بهذا عملوا براءة مريم ، ثم سكت عيسى عليه السلام ، فلم يتكلم بعد ذلك حتى بلغ المدة التي يتكلم فيها الصبيان
34 - " ذلك عيسى ابن مريم " ، [ قال الزجاج : أي ذلك الذي قال إني عبد الله عيسى ابن مريم ] ، " قول الحق " ،قرأ ابن عامر و عاصم و يعقوب : " قول الحق " بنصب اللام وهو نصب على المصدر ، أي : قال قول الحق ، " الذي فيه يمترون " أي : يختلفون ، فقائل يقول : هو ابن الله ، وقائل يقول : هو الله ، وقائل يقول : هو ساحر كاذب . وقرأ الآخرون برفع اللام ، يعني : هو قول الحق ، أي هذا الكلام هو قول الحق ، أضاف القول إلى الحق ، كما قال : ( حق اليقين ) ، و ( وعد الصدق ) . وقيل :هو نعت لعيسى ابن مريم ، يعني ذلك عيسى ابن مريم كلمة الله والحق هو الله " الذي فيه يمترون " يشكون ، ويختلفون ، ويقولون غير الحق . ثم نفى عن نفسه الولد ، فقال :
35 - " ما كان لله أن يتخذ من ولد " ، أي ما كان من صفته اتخاذ الولد . وقيل : اللام منقولة أي ما كان الله ليتخذ من ولد ، " سبحانه إذا قضى أمراً " ، إذا أراد أن يحدث أمراً ، " فإنما يقول له كن فيكون " .
36 - " وإن الله ربي وربكم " ، قرأ أهل الحجاز و أبو عمرو : " أن الله " بفتح الألف ، يرجع إلى قوله :" وأوصاني بالصلاة والزكاة " وبأن الله ربي وربكم ، وقرأ أهل الشام والكوفة و يعقوب بكسر الألف على الاستئناف " فاعبدوه هذا صراط مستقيم " .
37 - " فاختلف الأحزاب من بينهم " ، يعني : النصارى ،سموا أحزاباً لأنهم تحزبوا ثلاث فرق في أمر عيسى : النسطورية ،والملكانية ، واليعقوبية . " فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم " ، يعني يوم القيامة .
38 - " أسمع بهم وأبصر " ، أي ما أسمعهم وأبصرهم يوم القيامة حين لا ينفعهم السمع والبصر ! أخبر أنهم يسمعون ويبصرون في الآخرة مالم يسمعوا ولم يبصروا في الدنيا . قال الكلبي : لا أحد يوم القيامة أسمع منهم ولا أبصر حين يقول الله تعالى لعيسى :" أأنت قلت للناس " الآية (مريم - 116) . " يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين " ، أي: في خطأ بين .
39 - قوله عز وجل : " وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر " ، فرغ من الحساب وأدخل أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار ، وذبح الموت . أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ،أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا عمرو بن حفص بن غياث ، أخبرنا ابي أنبأنا الأعمش ، أخبرنا أبو صالح عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يؤتى بالموت كهيئة كبش أملح فينادي مناد : يا أهل الجنة فيشرفون وينظرون ، فيقول : هل تعرفون هذا ؟ فيقولون : نعم ، هذا الموت ، وكلهم قد رآه ، ثم ينادي : يا أهل النار فيشرفون وينظرون فيقول : هل تعرفون هذا ؟ فيقولون : نعم ، هذا الموت ، وكلهم قد رآه فيذبح ، ثم يقول : يا أهل الجنة خلود فلا موت ، ويا أهل النار خلود فلا موت . ثم قرأ " وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون " " . ورواه أبو عيسى عن أحمد بن منيع ، عن النضر بن إسماعيل ، عن الأعمش بهذا الإسناد ، وزاد : " فلولا أن الله تعالى قضى لأهل الجنة الحياة والبقاء لماتوا فرحاً ، ولولا أن الله تعالى قضى لأهل النار الحياة والبقاء لماتوا ترحاً " . أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا معاذ بن أسد ،أخبرنا عبد الله ، أخبرنا عمر بن محمد بن زيد عن أبيه أنه حدثه عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا صار أهل الجنة إلى الجنة ، وأهل النار إلى النار ، جيء بالموت حتى يجعل بين الجنة والنار . ثم يذبح ثم ينادي مناد :يا أهل الجنة لا موت، ويا أهل النار لا موت ، فيزداد أهل الجنة فرحاً إلى فرحهم ،ويزداد أهل النار حزناً إلى حزنهم " . أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد النعيمي ،أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا أبو اليمان ، أخبرنا شعيب ، أخبرنا أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يدخل أحد الجنة إلا أرى مقعده من النار لو أساء ليزداد شكراً ، ولا يدخل النار أحد إلا أري مقعده من الجنة لو أحسن ليكون عليه حسرة " . أخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد الداوودي ، أخبرنا أبو الحسن بن محمد بن موسى بن الصلت ،أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي ،أخبرنا الحسين بن الحسن ، أخبرنا ابن المبارك ، أخبرنا يحيى بن عبيد الله قال : سمعت أبي قال : سمعت أبا هريرة يقول :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ما من أحد يموت إلا ندم ، قالوا : فما ندمه يا رسول الله ؟ قال: إن كان محسناً ندم أن لا يكون ازداد ،وإن كان مسيئاً ندم أن لا يكون نزع " قوله عز وجل :" وهم في غفلة " ، أي :عما يفعل بهم في الآخرة ، " وهم لا يؤمنون " ، لا يصدقون .
40 - قوله عز وجل : " إنا نحن نرث الأرض ومن عليها" أي : نميت سكان الأرض ونهلكهم جميعاً ، ويبقى الرب وحده فيرثهم ، " وإلينا يرجعون " ،فنجزيهم بأعمالهم .
41 - قوله عز وجل : " واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقاً نبياً " ( الصديق ):الكثير الصدق القائم عليه . وقيل : من صدق الله في وحدانيته ،وصدق أنبياءه ورسله ، وصدق بالبعث ، وقام بالأوامر فعمل بها ،فهو الصديق . و (النبي ) : العالي في الرتبة بإرسال الله تعالى إياه .
42 - " إذ قال " ، إبراهيم ، " لأبيه " ، آزر وهو يعبد الأصنام ،" يا أبت لم تعبد ما لا يسمع " ، صوتاً ، " ولا يبصر " ، شيئاً ، " ولا يغني عنك" ، أي لا يكفيك ، " شيئاً " .
43 - " يا أبت إني قد جاءني من العلم " ، بالله والمعرفة،" ما لم يأتك فاتبعني " ، على ديني ، " أهدك صراطاً سوياً " ،مستقيماً .
44 - " يا أبت لا تعبد الشيطان " ، لا تطعه فيما يزين لك من الكفر والشرك ، " إن الشيطان كان للرحمن عصياً " : عاصياً ، ( كان ) بمعنى الحال ، أي : هو كذلك .
45 - " يا أبت إني أخاف " ، أي أعلم ، " أن يمسك " ، يصيبك ،" عذاب من الرحمن " أي : إن أقمت على الكفر ، " فتكون للشيطان ولياً " ،قريناً في النار .
46 - " قال " أبوه مجيباً له :" أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم . لئن لم تنته " ، لئن لم تسكت وترجع عن عيبك آلهتنا وشتمك إياها ،" لأرجمنك " ، قال الكلبي ، و مقاتل ،و الضحاك : لأشتمنك ، ولأبعدنك عني بالقول القبيح . قال ابن عباس لأضربنك . وقال عكرمة : لأقتلنك بالحجارة . " واهجرني ملياً " ،قال الكلبي : اجنبني طويلاً . وقال مجاهد و عكرمة :حيناً . وقال سعيد بن جبير : دهراً وأصل ( الحين ) : المكث ، ومنه يقال :فمكثت حيناً ، ( و الملوان ) : الليل والنهار . وقال قتادة و عطاء : سالماً . وقال ابن عباس : اعتزلني سالماً لا تصيبك مني معرة ،يقال : فلان ملي بأمر كذا :إذا كان كافياً .
47 - " قال" إبراهيم " سلام عليك " ، أي : سلمت مني لا أصيبك بمكروه ،وذلك أنه لم يؤمر بقتاله على كفره . وقيل : هذا سلام هجران ومفارقة . وقيل : سلام بر ولطف ،وهو جواب الحليم للسفيه . قال الله تعالى : " وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً " (الفرقان : 63 ) . قوله تعالى:" سأستغفر لك ربي " ، قيل : إنه لما أعياه أمره ووعده أن يراجع الله فيه ، فيسأله أن يرزقه التوحيد ويغفر له . معناه : سأسأل الله تعالى لك توبة تنال بها المغفرة . " إنه كان بي حفياً " ، براً لطيفاً . قال الكلبي : عالماً يستجيب لي إذا دعوته . قال مجاهد :عودني الإجابة لدعائي .
48 - " وأعتزلكم وما تدعون من دون الله " ، أي : أعتزل ما تعبدون من دون الله : قال مقاتل : كان اعتزاله إياهم أنه فارقهم من ( كوثى ) فهاجر منها إلى الأرض المقدسة ،" وأدعو ربي " ، أي : أعبد ربي ، " عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقيا " ، أي : عسى أن لا أشقى بدعائه وعبادته ،كما تشقون أنتم بعبادة الأصنام . وقيل : عسى أن يجيبني إذا دعوته ولا يخيبني
49 - " فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله " ،فذهب مهاجراً ، " وهبنا له " بعد الهجرة " إسحاق ويعقوب " آنسنا وحشته [ من فراقهم ] ، وأقررنا عينه ،بأولاد كرام على الله عز وجل ، " وكلاً جعلنا نبياً " يعني : إسحاق و يعقوب .
50 - " ووهبنا لهم من رحمتنا " .قال الكلبي : المال والولد ، وهو قول الأكثرين ،قالوا : ما بسط لهم في الدنيا من سعة الرزق . وقيل : الكتاب والنبوة . " وجعلنا لهم لسان صدق علياً " ،يعني ثناءً حسناً رفيعاً في كل أهل الأديان ، فكلهم بتولونهم ،ويثنون عليهم .
51 - قوله عز وجل : " واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصاً " ، غير مراء ، أخلص العبادة والطاعة لله عز وجل . وقرأ أهل الكوفة " مخلصاً " بفتح اللام أي : مختاراً اختاره الله عز وجل . وقيل : أخلصه الله من الدنس . " وكان رسولاً نبياً " .
52 - " وناديناه من جانب الطور الأيمن " ،يعني : يمين موسى ، والطور : جبل بين مصر ومدين . ويقال :اسمه ( الزبير ) وذلك حين أقبل من مدين ورأى النار نودي " أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين " (القصص : 30 ) . " وقربناه نجياً " ، أي : مناجياً ،فالنجي المناجي ، كما يقال: جليس ونديم . قال ابن عباس :معناه : قربه فكلمه ، ومعنى التقريب : إسماعه كلامه . وقيل : رفعه على الحجب حتى سمع صرير القلم .
53 - " ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبياً " ، وذلك حين دعا موسى فقال : " واجعل لي وزيرا من أهلي * هارون أخي " ( طه : 29/30 ) ، فأجاب الله دعاءه وأرسل هارون ، ولذلك سماه هبة له .
54 - قوله عز وجل : " واذكر في الكتاب إسماعيل " ، وهو إسماعيل بن إبراهيم جد النبي صلى الله عليه وسلم " إنه كان صادق الوعد " ، قال مجاهد : لم يعد شيئاً إلا وفى به . وقال مقاتل : وعد رجلاً أن يقيم مكانه حتى يرجع إليه الرجل ، فأقام إسماعيل مكانه ثلاثة أيام للميعاد حتى رجع إليه الرجل . وقال الكلبي : انتظره حتى حال عليه الحول . " وكان رسولاً " ، إلى جرهم ، " نبياً " ، مخبراً عن الله عز وجل .
55 - " وكان يأمر أهله " أي : قومه . وقيل : أهله وجميع أمته ، " بالصلاة والزكاة " ، قال ابن عباس : يريد التي افترضها الله تعالى عليهم ، وهي الحنيفية التي افترضت علينا ، " وكان عند ربه مرضياً " ، قائماً بطاعته . قيل : رضيه الله عز وجل لنبوته ورسالته .
56 - قوله عز وجل : " واذكر في الكتاب إدريس " ، وهو جد أبي نوح ، واسمه ( أخنوخ ) ، سمي إدريس لكثرة درسه الكتب . وكان خياطاً وهو أول من خط بالقلم ، وأول من خاط الثياب ، ولبس المخيط ، وكانوا من قبله يلبسون الجلود ، وأول من اتخذ السلاح ، وقاتل الكفار ، وأول من نظر في علم النجوم والحساب ، " إنه كان صديقاً نبياً " .
57 - " ورفعناه مكاناً علياً " ، قيل : يعني الجنة . وقيل : هي الرفعة بعلو الرتبة في الدنيا . وقيل : هو أنه رفع إلى السماء الرابعة . روي أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى إدريس في السماء الرابعة ليلة المعراج . وكان سبب رفع إدريس [ إلى السماء ] على ما قاله كعب وغيره : أنه سار ذات يوم في حاجة فأصابه وهج الشمس ، فقال : يا رب أنا مشيت يوماً ،فكيف بمن يحملها مسيرة خمسمائة عام في يوم واحد ! اللهم خفف عنه من ثقلها وحرها ، فلما أصبح الملك وجد من خفة الشمس وحرها ما لا يعرف . فقال : يا رب ما الذي قضيت فيه ؟ فقال: إن عبدي إدريس سألني أن أخفف عنك حملها وحرها فأجبته ، فقال : رب اجعل بيني وبينه خله ، فأذن له حتى أتى إدريس ، فكان يسأله إدريس ، فقال له : إني أخبرت أنك أكرم الملائكة وأمكنهم عند ملك الموت ، فاشفع لي إليه ليؤخر أجلي ، فأزداد شكراً وعبادة ، فقال الملك : لا يؤخر الله نفساً إذا جاء أجلها ، وأنا مكلمه فرفعه إلى السماء ووضعه عند مطلع الشمس ، ثم أتى ملك الموت فقال لي حاجة إليك ، صديق لي من بني آدم تشفع بي إليك لتؤخر أجله ، قال : ليس ذلك إلي ولكن إن أحببت أعلمته أجله ، فيقدم لنفسه ، قال : نعم ،فنظر في ديوانه فقال : إنك كلمتني في إنسان ما أره يموت أبداً ، قال : وكيف ؟ قال: لا أجده يموت إلا عند مطلع الشمس ، قال فإني أتيتك وتركته هناك ، قال: فانطلق فلا أراك تجده إلا وقد مات ، فوالله ما بقي من أجل إدريس شيء ، فرجع الملك فوجده ميتاً . واختلفوا في أنه حي في السماء أم ميت؟ فقال قوم : هو ميت ، وقال قوم : هو حي ، وقالوا : أربعة من الأنبياء في الأحياء اثنان في الأرض : الخضر وإلياس ، واثنان في السماء : إدريس وعيسى . وقال وهب : كان يرفع لإدريس كل يوم من العبادة مثل ما يرفع لجميع أهل الأرض في زمانه فعجب منه الملائكة واشتاق إليه ملك الموت ، فاستأذن ربه عز وجل في زيارته ، فأذن له فأتاه في صورة بني آدم ، وكان إدريس يصوم الدهر ،فلما كان وقت إفطاره دعاه إلى طعامه فأبى أن يأكل معه ، ففعل ذلك ثلاث ليال فأنكره إدريس ، فقال له الليلة الثالثة : إني أريد أن أعلم من أنت؟ فقال : أنا ملك الموت استأذنت ربي أن أصحبك ، قال : فلي إليك حاجة ، قال : وما هي ؟ قال : تقبض روحي ، فأوحى الله إليه أن اقبض روحه ، فقبض روحه وردها الله إليه بعد ساعة ، قال له ملك الموت : ما في سؤالك من قبض الروح ؟ قال لأذوق كرب الموت وغمته فأكون أشد استعداداً له ثم قال إدريس له : إن لي إليك حاجة أخرى ، قال : وما هي ؟ قال : ترفعني إلى السماء لأنظر إليها وإلى الجنة والنار ، فأذن الله في رفعه ، فلما قرب من النار قال لي حاجة أخرى ، قال: وما تريد؟ قال : تسأل مالكاً حتى يفتح لي أبوابها فأردها ففعل ، ثم قال : فما أريتني النار فأرني الجنة . فذهب به إلى الجنة فاستفتح ففتحت أبوابها فأدخله الجنة ، ثم قال ملك الموت : أخرج لتعود إلى مقرك ، فتعلق بشجرة وقال: لا أخرج منها ، فبعث الله ملكاً حكيماً بينهما، فقال له الملك : مالك لا تخرج ؟ قال: لأن الله تعالى قال " كل نفس ذائقة الموت" ( آل عمران : 185 ) ، وقد ذقته ، وقال: " وإن منكم إلا واردها " ( مريم : 71 ) وقد وردتها ، وقال : " وما هم منها بمخرجين " (الحجر : 48 ) ، فلست أخرج ، فأوحى الله إلى ملك الموت بإذني دخل الجنة وبأمري لا يخرج ، فهو حي هناك ، ذلك قوله تعالى :" ورفعناه مكاناً علياً " .
58 - " أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم " ، يعني : إدريس ونوحاً ، " وممن حملنا مع نوح " ، أي ومن ذرية من حملنا مع نوح في السفينة ، يريد إبراهيم ، لأنه ولد من سام بن نوح ، " ومن ذرية إبراهيم " ، يريد إسماعيل ،وإسحاق ، ويعقوب . قوله : " و إسرائيل " ، أي ومن ذرية إسرائيل ، وهم موسى ، وهارون ، وزكريا ، ويحيى ، وعيسى . قوله : " وممن هدينا واجتبينا " ، هؤلاء كانوا ممن أرشدنا واصطفيا ، " إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجداً وبكياً " ، ( سجداً ) : جمع ساجد ، (و بكيا ) جمع باك ، أخبر الله أن الأنبياء كانوا إذا سمعوا بآيات الله سجدوا وبكوا .
59 - قوله عز وجل : " فخلف من بعدهم خلف " ، أي : من بعد النبيين المذكورين خلف ، وهم قوم سوء ، ( والخلف ) - بالفتح - الصالح - ، وبالجزم الطالح . قال السدي : أراد بهم اليهود ومن لحق بهم . وقال مجاهد و قتادة : هم في هذه الأمة . " أضاعوا الصلاة " ، تركوا الصلاة المفروضة . وقال ابن مسعود و إبراهيم : أخروها عن وقتها . وقال سعيد بن المسيب : هو أن لا يصلى الظهر حتى يأتي العصر ، ولا العصر حتى تغرب الشمس . " واتبعوا الشهوات " ، أي : المعاصي ، وشرب الخمر ، يعني آثروا شهوات أنفسهم على طاعة الله . وقال مجاهد : هؤلاء قوم يظهرون في آخر الزمان ينزو بعضهم على بعض في الأسواق والأزقة . " فسوف يلقون غياً " ، قال وهب : ( الغي ) نهر في جهنم ، بعيد قعره ، خبيث طعمه . وقال ابن عباس : ( الغي ) واد في جهنم ، وإن أودية جهنم لتستعيذ من حره ، أعد للزاني المصر عليه ، ولشارب الخمر المدمن عليه ، ولآكل الربا الذي لا ينزع عنه ، ولأهل العقوق ، ولشاهد الزور . وقال عطاء : ( الغي ) : واد في جهنم يسيل قيحاً ودماً . وقال كعب : هو واد في جهنم أبعدها قعراً ، وأشدها حراً ، في بئر تسمى ( الهيم ) كلما خبت جهنم فتح الله تلك البئر فيسعر بها جهنم . أخبرنا محمد بن عبد الله بن أبي توبة ، أخبرنا محمد بن أحمد الحارثي ، أخبرنا محمد بن يعقوب الكسائي ، أخبرنا عبد الله بن محمود ، أخبرنا إبراهيم بن عبد الله الخلال ، وأخبرنا عبد الله بن المبارك عز وجل هشيم بن بشير ، أخبرنا زكريا بن أبي مريم الخزاعي ، قال : سمعت أبا أمامة الباهلي يقول : ( إن ما بين شفير جهنم إلى قعرها مسيرة سبعين خريفاً من حجر يهوي ، أو قال صخرة تهوي عظمها كعشر عشروات عظام سمان ، فقال له مولى لعبد الرحمن بن خالد بن الوليد : هل تحت ذلك شيء يا أبا أمامة ؟ قال : نعم غي وآثام ) . وقال الضحاك : غياً وخسراناً . وقيل : هلاكاً . وقيل : عذاباً . وقوله : " فسوف يلقون غياً " ليس معناه يرون فقط ، بل معناه الاجتماع والملابسة مع الرؤية .
60 - " إلا من تاب وآمن وعمل صالحاً فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئاً " .
61 - " جنات عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب " ، ولم يروها ، " إنه كان وعده مأتياً "، يعني : آتياً ، مفعول بمعنى فاعل . وقيل : لم يقل آتياً لأن كل ما أتاك فقد أتيته ، والعرب لا تفرق بين قول القائل : أتت علي خمسون سنة وبين قوله : أتيت على خمسين سنة ، ويقول : وصل إلي الخير ووصلت إلى الخير . وقال ابن جرير : ( وعده ) أي : موعده ، وهو الجنة ، ( مأتيا ) يأتيه أولياؤه [ أهل الجنة ] ، وأهل طاعته .
62 - " لا يسمعون فيها " ، في الجنة " لغواً " ، باطلاً وفحشاً وفضولاً من الكلام . وقال مقاتل : هو اليمين الكاذبة . " إلا سلاماً " ، استثناء من غير جنسه ، يعني : بل يسمعون فيها سلاماً . أي : قولاً يسلمون منه ، ( والسلام ) اسم جامع للخير ، لأنه يتضمن السلامة . معناه : إن أهل الجنة لا يسمعون ما يؤثمهم ، إنما يسمعون ما يسلمهم . وقيل : هو تسليم بعضهم على بعض ، وتسليم الملائكة عليهم . وقيل : هو تسليم الله عليهم . " ولهم رزقهم فيها بكرةً وعشياً " ، قال أهل التفسير : ليس في الجنة ليل يعرف به البكرة و العشي ، بل هم في نور أبداً ، ولكنهم يأتون بأرزاقهم على مقدار طرفي النهار . وقيل : إنهم يعرفون وقت النهار برفع الحجب ، ووقت الليل بإرخاء الحجب . وقيل : المراد منه رفاهية العيش ، وسعة الرزق من غير تضييق . وكان الحسن البصري يقول : كانت العرب لا تعرف من العيش أفضل من الرزق بالبكرة و العشي ، فوصف الله عز وجل جنته بذلك .
63 - " تلك الجنة التي نورث من عبادنا " أي : نعطي وننزل . وقيل : يورث عباده المؤمنين المساكن التي كانت لأهل النار لو آمنوا ، " من كان تقياً " ، أي : المتقين من عباده .
64 - قوله عز وجل : " وما نتنزل إلا بأمر ربك " ، أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا خلاد بن يحيى ، أخبرنا عمر بن ذر قال : سمعت أبي يحدث عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يا جبريل ما يمنعك أن تزورنا فنزلت : " وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا " الآية : قال : كان هذا الجواب لمحمد صلى الله عليه وسلم ". وقال عكرمة ، و الضحاك ، و قتادة ، و مقاتل ، و الكلبي : "احتبس جبريل عن النبي صلى الله عليه وسلم حين سأله قومه عن أصحاب الكهف وذي القرنين والروح ، فقال :أخبركم غداً ، ولم يقل : إن شاء الله ، حتى شق على النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم نزل بعد أيام ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبطأت علي حتى ساء ظني واشتقت إليك فقال له جبريل : إني كنت أشوق ، ولكني عبد مأمور ، إذا بعثت نزلت ،وإذا حبست احتبست ، فأنزل الله : " وما نتنزل إلا بأمر ربك " وأنزل : " والضحى * والليل إذا سجى * ما ودعك ربك وما قلى " " . " له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك " ،أي : له علم ما بين أيدينا . واختلفوا فيه : فقال سعيد بن جبير ، و قتادة و مقاتل : " ما بين أيدينا " : من أمر الآخرة والثواب والعقاب ، " وما خلقنا " : ما مضى من الدنيا . " وما بين ذلك " : ما يكون من هذا الوقت إلى قيام الساعة . وقيل " ما بين أيدينا " :ما بقي من الدنيا ، " وما خلفنا " : ما مضى منها ، " وما بين ذلك " : أي : ما بين النفختين , وبينهما أربعون سنة . وقيل : " ما بين أيدينا " ما بقي من الدنيا ، " وما خلفنا " : ما مضى منها ، " وما بين ذلك ": مدة حياتنا . وقيل : " ما بين أيدينا " : بعد أن نموت ، " وما خلفنا " : قبل أن نخلق ، " وما بين ذلك " : مدة الحياة . وقيل : " ما بين أيدينا " : الأرض إذا أردنا النزول إليها ، " وما خلفنا " : السماء إذا نزلنا منها ، " وما بين ذلك " : الهواء، يريد : أن ذلك كله لله عز وجل ، فلا نقدر على شيء إلا بأمره . " وما كان ربك نسياً " ، أي : ناسياً ، يقول : ما نسيك ربك ، أي : ما تركك ، والناسي التارك .
65 - " رب السموات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته " ، أي : اصبر على أمره ونهيه ، " هل تعلم له سمياً " ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : مثلاً . وقال الكلبي : هل تعلم أحداً يسمى (الله ) غيره ؟
66 - قوله عز وجل : " ويقول الإنسان " ، يعني : أبي بن خلف الجمحي ، كان منكراً للبعث ، قال : " أإذا ما مت لسوف أخرج حيا " قال ه استهزاءً وتكذيباً للبعث .
67 - قال الله عز وجل: " أو لا يذكر " ، أي : يتذكر ويتفكر ، وقرأ نافع ، و ابن عامر ، و عاصم ، و يعقوب " يذكر " خفيف ، " الإنسان " ، يعني : أبي بن خلف " أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئاً " ، أي : لا يتفكر هذا الجاحد في بدء خلقه فيستدل به على الإعادة ، ثم أقسم بنفسه ، فقال :
68 - " فوربك لنحشرنهم " لنجمعنهم في المعاد ،يعني : المشركين المنكرين للبعث ، " والشياطين " ، مع الشياطين ، وذلك أنه يحشر كل كافر مع شيطان في سلسلة ، " ثم لنحضرنهم حول جهنم " ، قيل في جهنم ، " جثياً " ، قال ابن عباس رضي الله عنه : جماعات ، جمع جثوة . وقال الحسن و الضحاك : جمع ( جاث ) ، أي : جاثين على الركب . قال السدي : قائمين على الركب لضيق المكان .
69 - " ثم لننزعن " ، لنخرجن ، " من كل شيعة " ، أي : من كل أمة وأهل دين من الكفار. " أيهم أشد على الرحمن عتياً " ، عتواً ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : يعنى جرأة . وقال مجاهد : فجوراً ، يريد : الأعتى فالأعتى وقال الكلبي : قائدهم ورأسهم في الشر يريد أن يقدم في إدخال من هو أكبر جرماً وأشد كفراً . في بعض الآثار : أنهم يحشرون جميعاً حول جهنم مسلسلين مغلولين ، ثم يقدم الأكفر فالأكفر . ورفع " أيهم " على معنى : الذي يقال لهم : أيهم أشد على الرحمن عتياً . وقيل : على الاستئناف ثم لننزعن [ يعمل في موضع ( من كل شيعة ) ] .
70 - " ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صلياً " ، أي : أحق بدخول النار ، يقال : صلي يصلي صلياً ، مثل : لقي يلقى لقياً ، وصلى يصلي صلياً مثل مضى يمضي مضياً ، إذا دخل النار و قاسى حرها .
71 - قوله عز وجل : " وإن منكم إلا واردها " ، وما منكم إلا واردها ، وقيل : القسم فيه مضمر ، أي : و الله ما منكم من أحد إلا واردها ، والورود هو موافاة المكان . واختلفوا في معنى الورود هاهنا ، وفيما تنصرف إليه الكناية في قوله : " واردها " : قال ابن عباس رضي الله عنهما وهو قول الأكثرين ، معنى الورود هاهنا هو الدخول ، والكناية راجعة إلى النار ،وقالوا : النار يدخلها البر والفاجر ، ثم ينجي الله المتقين ، فيخرجهم منها . والدليل على أن الورود هو الدخول : قول الله عز وجل حكاية عن فرعون : " يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار " ( هود : 98 ) . وروى ابن عيينة عن عمرو بن دينار أن نافع بن الأزرق مارى ابن عباس رضي الله عنهما في الورود ،فقال ابن عباس رضي الله عنه : هو الدخول . وقال نافع : ليس الورود الدخول ،فتلا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قوله تعالى :" إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون " ( الأنبياء : 98 ) أدخلها هؤلاء أم لا ؟ ثم قال : يا نافع أما والله أنت وأنا سنردها ، وأنا أرجو أن يخرجني الله وما أرى الله عز وجل أن يخرجك منها بتكذيبك . وقال قوم : ليس المراد من الورود الدخول ، وقالوا : النار لا يدخلها مؤمن أبداً ، لقوله تعالى : " إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون * لا يسمعون حسيسها " ( الأنبياء : 101/ 102 ) ، وقالوا : كل من دخلها لا يخرج منها . والمراد من قوله : " وإن منكم إلا واردها " ، الحضور والرؤية ، لا الدخول كما قال الله تعالى : " ولما ورد ماء مدين " ( القصص : 23 ) أراد به الحضور . وقال عكرمة : الآية في الكفار فإنهم يدخلونها ولا يخرجون منها . وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه ، أنه قال " وإن منكم إلا واردها " يعني : القيامة ، والكناية راجعة إليها . والأول أصح . وعليه أهل السنة ، أنهم جميعاً يدخلون النار ثم يخرج الله عز وجل منها أهل الإيمان ، بدليل قوله تعالى : " ثم ننجي الذين اتقوا " ، أي اتقوا الشرك ، وهم المؤمنون . والنجاة إنما تكون مما دخلت فيه . وقرأ الكسائي ويعقوب "ننجي" بالتخفيف والآخرون : بالتشديد. والدليل على هذا : ما أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أخبرنا أبو بكر بن الحسن الحيري ، أخبرنا حاجب بن أحمد الطوسي ، أخبرنا عبد الرحيم بن منيب ، أخبرنا سفيان ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا يموت لمسلم ثلاثة من الولد فيلج النار إلا تحلة القسم " . وأراد بالقسم قوله : " وإن منكم إلا واردها " . أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا مسلم بن إبراهيم ، أخبرنا هشام ، أخبرنا قتادة ، عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من خير ،ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن برة من خير ، ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرة من خير " ، وقال أبان عن قتادة : ( من إيمان ) مكان ( خير ) . أخبرنا أبو المظفر محمد بن إسماعيل بن علي الشجاعي ،أخبرنا أبو نصر النعمان بن محمد بن محمود الجرجاني ، أخبرنا أبو عثمان عمرو بن عبد الله البصري ، أخبرنا محمد بن عبد الوهاب ، أخبرنا محمد بن الفضل أبو النعمان ، أخبرنا سلام بن مسكين ، أخبرنا أبو الظلال عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أن رجلاً في النار ينادي ألف سنة يا حنان يا منان ، فيقول الله عز وجل لجبريل : اذهب فائتني بعبدي هذا ، قال: فذهب جبريل فوجد أهل النار منكبين يبكون ، قال : فرجع فأخبر ربه عز وجل ، قال اذهب فإنه في موضع كذا و كذا ، قال : فجاء به ، قال : يا عبدي كيف وجدت مكانك ومقيلك ؟ قال : يا رب شر مكان وشر مقيل ،قال: ردوا عبدي ،قال: ما كنت أرجو أن تعيدني إليها إذ أخرجتني منها ، قال الله تعالى لملائكته : دعوا عبدي " . وأما قوله عز وجل : " لا يسمعون حسيسها " ( الأنبياء : 102 ) قيل : إن الله عز وجل أخبر عن وقت كونهم في الجنة أنهم لا يسمعون حسيسها ، فيجوز أن يكونوا قد سمعوا ذلك قبل دخولهم الجنة ، لأنه لم يقل : لم يسمعوا حسيسها .ويجوز أن لا يسمعوا حسيسها عند دخولهم إياها ، لأن الله عز وجل يجعلها عليهم برداً وسلاماً . وقال خالد بن معدان : يقول أهل الجنة ألم يعدنا ربنا أن نرد النار ؟ فيقال : بلى ،ولكنكم مررتم بها ، وهي خامدة . وفي الحديث : تقول النار للمؤمن : " جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي " . وروي عن مجاهد في قوله عز وجل : " وإن منكم إلا واردها " قال : من حم من المسلمين فقد وردها. وفي الخبر :" الحمى كير من جهنم ، وهي حظ المؤمن من النار " . أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا محمد بن المثنى ، أخبرنا يحيى ، عن هشام ، أخبرني أبي عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء " . " كان على ربك حتماً مقضياً " ، أي : كان ورودكم جهنم حتماً لازماً ، " مقضياً " : قضاه الله عليكم .
72 - " ثم ننجي الذين اتقوا " ، أي اتقوا الشرك ، وقرأ الكسائي " ننجي " بالتخفيف ، والباقون بالتشديد ، " ونذر الظالمين فيها جثياً " ، جميعاً . وقيل : جاثين على الركب ، وفيه دليل على أن الكل دخلوها ثم أخرج الله منها المتقين ، وترك فيها الظالمين ، وهم المشركون . أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا أبو اليمان ، أخبرنا شعيب عن الزهري ، أخبرني سعيد بن المسيب و عطاء بن يزيد الليثي أن أبا هريرة أخبرهما أن الناس قالوا : يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة ؟ قال : " هل تضارون في القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب ؟ قالوا : لا يا رسول الله ، قال : فهل تمارون في الشمس ليس دونها سحاب ، قالوا : لا ،قال : فإنكم ترونه كذلك ، يحشر الناس يوم القيامة فيقول : من كان يعبد شيئاً فليتبعه ، فمنهم من يتبع الشمس ، ومنهم من يتبع القمر ، ومنهم من يتبع الطواغيت ، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها ، فيأتيهم الله عز وجل فيقول : أنا ربكم ، فيقولون : هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا ، فإذا جاء ربنا عرفناه فيأتيهم الله فيقول : أنا ربكم ، فيقولون : أنت ربنا فيدعوهم ، ويضرب الصراط بين ظهراني جهنم ، فأكون أول من يجوز من الرسل بأمته ، ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل ، وكلام الرسل يومئذ اللهم سلم سلم ، وفي جهنم كلاليب مثل شوك السعدان هل رأيتم شوك السعدان ؟ قالوا نعم قال فإنها مثل شوك السعدان غير أنه لا يعلم قدر عظمها إلا الله ،تخطف الناس بأعمالهم ، فمنهم من يوبق بعلمه ، ومنهم من يجردل ثم ينجو ، حتى إذا أراد الله رحمة من أراد من أهل النار أمر الله الملائكة أن يخرجوا من كان يعبد الله ، فيخرجونهم ويعرفونهم بآثار السجود ، وحرم الله على النار أن تأكل أثر السجود ، فيخرجون من النار ، فكل ابن آدم تأكله النار إلا أثر السجود ، فيخرجون من النار قد امتحشوا ، فيصب عليهم ماء الحياة فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل ، ثم يفرغ الله من القضاء بين العباد ، ويبقى رجل بين الجنة والنار ، وهو آخر أهل النار دخولاً الجنة ، مقبل بوجهه قبل النار، فيقول : يا رب اصرف وجهي عن النار ، قد قشبني ريحها وأحرقني ذكاؤها ، فيقول : هل عسيت إن فعلت ذلك بك أن تسأل غير ذلك ؟ فيقول : لا ، وعزتك . فيعطي الله ما شاء من عهد وميثاق ، فيصرف الله وجهه عن النار ، فإذا أقبل به على الجنة رأى بهجتها ، سكت ما شاء الله أن يسكت ، ثم قال : يا رب قدمني عند باب الجنة ، فيقول الله تبارك وتعالى : أليس قد أعطيت العهود والميثاق أن لا تسأل غير الذي كنت سألت، فيقول : يا رب لا أكون أشقى خلقك ، فيقول : فما عسيت إن أعطيت ذلك أن تسأل غيره ؟ فيقول : لا وعزتك لا أسألك غير ذلك ، فيعطى ربه ما شاء من عهد وميثاق ،فيقدمه إلى باب الجنة ، فإذا بلغ باباها ورأى زهرتها وما فيها من النضرة والسرور ، فسكت ما شاء الله أن يسكت ، فيقول يا رب أدخلني الجنة ، فيقول الله تعالى : ويحك يا ابن آدم ما أغدرك ، أليس قد أعطيت العهود والميثاق أن لا تسأل غير الذي أعطيت ؟ فيقول : يا رب لا تجعلني أشقى خلقك ، فيضحك الله منه ، ثم يأذن له في دخول الجنة ، فيقول : تمن ، فيتمنى حتى إذ انقطع أمنيته ، قال الله تعالى :تمن كذا و كذا ، أقبل يذكره ربه ، حتى إذا انتهت به الأماني ،قال الله تعالى : لك ومثله معه " . قال أبو سعيد لأبي هريرة : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " قال الله لك ذلك وعشرة أمثاله " قال أبو هريرة لم أحفظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قوله : " لك ذلك ومثله معه " . قال أبو سعيد إني سمعته يقول : " ذلك لك وعشرة أمثاله " . ورواه محمد بن إسماعيل عن محمود بن غيلان ، أخبرنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن عطاء بن يزيد ، عن أبي هريرة بمعناه ، وقال : "فيأتيهم الله عز وجل في غير الصورة التي يعرفون فيقول : أنا ربكم ، فيقولون : نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا ، فإذا أتانا ربنا عرفناه ، فيأتيهم الله في الصورة التي يعرفون ، فيقول : أنا ربكم ، فيقولون : أنت ربنا ، فيتبعونه " . أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسين الحيري ، أخبرنا حاجب بن أحمد الطوسي ، أخبرنا محمد بن حماد ، أخبرنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يعذب أناس من أهل التوحيد في النار حتى يكونوا حمماً ، ثم تدركهم الرحمة ، قال: فيخرون فيطرحون على أبواب الجنة ، قال : فيرش عليهم أهل الجنة الماء فينبتون كما تنب القثاء في حمالة السيل ، ثم يدخلون الجنة " . أخبرنا أبو محمد بن عبد الصمد الجوزجاني ، أخبرنا أبو القاسم علي بن أحمد الخزاعي ، أخبرنا أبو سعيد الهيثم بن كليب ، أخبرنا أبو عيسى الترمذي ، أخبرنا هناد بن السري ، أخبرنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن إبراهيم عن عبيدة السلماني ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني لأعرف آخر أهل النار خروجاً من النار رجل يخرج منها زحفاً فيقال له : انطلق فادخل الجنة ، قال : فيذهب ليدخل الجنة فيجد الناس قد أخذوا المنازل ، فيرجع فيقول : يا رب قد أخذ الناس المنازل ، فيقال : أتذكر الزمان الذي كنت فيه ؟ فيقول : نعم فيقال له : تمن ، فيتمنى ، فيقال له : فإن لك الذي تمنيته وعشرة أضعاف الدنيا ، قال فيقول : أتسخر بي وأنت الملك ؟ قال : فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه " . أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري ، أخبرنا حاجب بن أحمد الطوسي ، أخبرنا محمد بن حماد ، أخبرنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر ، عن أم مبشر ،عن حفصة أنها قالت :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني لأرجو أن لا يدخل النار إن شاء الله أحد شهد بدراً والحديبية ، قال: قلت يا رسول الله أليس قد قال تعالى : " وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضياً " ؟ قال : أفلم تسمعيه يقول : " ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثياً " " .
73 - قوله عز وجل : " وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات " ، واضحات ، " قال الذين كفروا " ، يعني : النضر بن الحارث وذويه من قريش ،" للذين آمنوا " ، يعني فقراء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وكانت فيهم قشافة ، وفي عيشهم خشونة ، وفي ثيابهم رثاثة ، وكان المشركون يرجلون شعورهم ، ويدهنون رؤوسهم ويلبسون حرير ثيابهم ، فقالوا للمؤمنين : " أي الفريقين خير مقاماً " ، منزلاً ومسكناً ، [ وهو موضع الإقامة . وقرأ ابن كثير : " مقاماً " بضم الميم أي إقامة] . " وأحسن ندياً " ، أي مجلساً ، ومثله النادي ، فأجابهم الله تعالى فقال :
74 - " وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثاً " ، أي متاعاً وأموالاً . وقال مقاتل : لباساً وثياباً ، " رؤيا " ، قرأ أكثر القراء بالهمز ، أي :منظراً ، من ( الرؤية ) ، وقرأ ابن عامر ،و أبو جعفر ، و نافع غير ورش : ( وريا ) مشدداً بغير همز ، وله تفسيران : أحدهما هو الأول ، بطرح الهمز ، والثاني : من الري : الذي هو ضد العطش ، ومعناه : الارتواء من النعمة ، فإن المتنعم يظهر فيه ارتواء النعمة ، والفقير يظهر عليه ذيول الفقر .
75 - " قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مداً " ، هذا أمر بمعنى الخبر ، معناه : يدعه في طغيانه ويمهله في كفره ، " حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب " ، وهو الأسر والقتل في الدنيا ، " وإما الساعة " ، يعني : القيامة ، فيدخلون النار ، " فسيعلمون " ، عند ذلك " من هو شر مكاناً " ، منزلاً ، " وأضعف جنداً " ، أقل ناصراً أهم أم المؤمنون ؟ لأنهم في النار ، والمؤمنون في الجنة وهذا رد عليهم في قوله " أي الفريقين خير مقاماً وأحسن ندياً " .
76 - قول عز وجل : " ويزيد الله الذين اهتدوا هدىً " ، أي إيماناً وإيقاناً على يقينهم ، " والباقيات الصالحات " ، الأذكار والأعمال الصالحة التي تبقى لصاحبها ، " خير عند ربك ثواباً وخير مرداً " عاقبة ومرجعاً .
77 - قوله عز وجل : " أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالاً وولداً " ، أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا عمرو بن حفص ، أخبرنا أبي ، أخبرنا الأعمش بن مسلم ، عن مسروق ، حدثنا خباب قال: كنت قيناً ،فعملت للعاص بن وائل ، فاجتمع مالي عنده فأتيناه أتقاضاه ، فقال : لا والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد ، فقلت : أما والله حتى تموت ثم تبعث فلا ، قال : وإني لميت ثم مبعوث ؟ قلت : نعم ، قال : فإنه سيكون لي ثم مال وولد فأقضيك ، فأنزل الله عز وجل : " أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالاً وولداً " .
78 - قوله عز وجل : " أطلع الغيب " ، قال ابن عباس : أنظر في اللوح المحفوظ ؟ وقال مجاهد : أعلم علم الغيب حتى يعلم أفي الجنة هو أم لا ؟ " أم اتخذ عند الرحمن عهداً " ، يعني قال لا إله إلا الله . وقال قتادة : يعني عملاً صالحاً قدمه . وقال الكلبي : أعهد إليه أن يدخل الجنة ؟ .
79 - " كلا " ، رد عليه ، يعني ، لم يفعل ذلك ، " سنكتب " ، سنحفظ عليه ، " ما يقول " ، [ فنجازيه به في الآخرة . وقيل : نأمر به الملائكة حتى يكتبوا ما يقول ] . " ونمد له من العذاب مداً " ، أي : نزيده عذاباً فوق العذاب . وقيل : نطيل مدة عذابه .
80 - " ونرثه ما يقول " ، أي ما عنده من المال والولد بإهلاكنا إياه وإبطال ملكه وقوله ما يقول ، لأنه زعم أن له مالاً وولداً ( في الآخرة ) ، أي : لا نعطيه ونعطي غيره فيكون الإرث راجعاً إلى ما تحت القول لا إلى نفس القول . وقيل : معنى قوله : " ونرثه ما يقول " أي : نحفظ ما يقول حتى نجازيه به . " ويأتينا فرداً " ، يوم القيامة بلا مال ولا ولد .
81 - قوله عز وجل : " واتخذوا من دون الله آلهة " يعني : مشركي قريش اتخذوا الأصنام آلهة يعبدونها ، " ليكونوا لهم عزاً " ، أي منعة ، حتى يكونوا لهم شفعاء يمنعونهم من العذاب .
82 - " كلا " ، أي ليس الأمر كما زعموا ، " سيكفرون بعبادتهم " ، أي تجحد الأصنام والآلهة التي كانوا يعبدونها عبادة المشركين ويتبرؤون منهم ، كما أخبر الله تعالى " تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون " ( القصص : 63 ) . " ويكونون عليهم ضداً " ، أي أعداءً لهم ، وكانوا أولياءهم في الدنيا . وقيل : أعواناً عليهم يكذبونهم ويلعنونهم .
83 - قوله عز وجل : " ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين " ، أي سلطناهم عليهم ، وذلك حين قال لإبليس " واستفزز من استطعت منهم بصوتك " ، الآية ( الإسراء : 64 ) ، " تؤزهم أزاً " ، تزعجهم إزعاجاً من الطاعة إلى المعصية ، ( والأز ) ( والهز ) : التحريك ، أي : تحركهم وتحثهم على المعاصي .
84 - " فلا تعجل عليهم " ، أي لا تعجل بطلب عقوبتهم ، " إنما نعد لهم عداً " ، قال الكلبي : يعني الليل والأيام والشهور والأعوام . وقيل : الأنفاس التي يتنفسون بها في الدنيا إلى الأجل الذي أجل لعذابهم .
85 - قوله عز وجل : " يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً " أي : اذكر لهم يا محمد اليوم الذي يجمع فيه من اتقى الله في الدنيا بطاعته إلى الرحمن ، إلى جنته وفداً ، أي : جماعات ، جمع ( وافد ) ، مثل : راكب وركب ،وصاحب صحب. وقال ابن عباس : ركباناً . وقال أبو هريرة : على الإبل . وقال علي بن أبي طالب : ما يحشرون والله على أرجلهم ، ولكن على نوق ، رحالها الذهب ، ونجائب سرجها يواقيت ، إن هموا بها سارت ، وإن هموا بها طارت .
86- " ونسوق المجرمين " ، الكافرين ، " إلى جهنم ورداً " ، أي مشاة . وقيل : عطاشاً قد تقطعت أعناقهم من العطش . ( والورد ) جماعة يردون لماء ، ولا يرد أحد الماء إلا بعد عطش .
87 - " لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهداً " ، يعنى لا إله إلا الله . وقيل : معناه لا يشفع الشافعون إلا لمن اتخذ عند الرحمن عهداً ، يعني : المؤمنين ، كقوله : " لا يشفعون إلا لمن ارتضى " ( الأنبياء : 28 ) . وقيل : لا يشفع إلا من شهد أن لا إله إلا الله ، أي لا يشفع إلا المؤمن .
88 - " وقالوا اتخذ الرحمن ولداً " ، يعني اليهود والنصارى ، ومن زعم أن الملائكة بنات الله . وقرأ حمزة و الكسائي : " ولداً " بضم الواو وسكون اللام، هاهنا وفي الزخرف وسورة نوح ، ووافق ابن كثير ، و أبو عمرو ، و يعقوب في سورة نوح ، والباقون بفتح الواو واللام . وهما لغتان مثل : العرب ، والعرب ، والعجم ،والعجم .
89 - " لقد جئتم شيئاً إداً " ، قال ابن عباس منكراً . وقال قتادة و مجاهد : عظيماً . وقال مقاتل : لقد قلتم قولاً عظيماً . ( والإد ) في كلام العرب : أعظم الدواهي .
90 - " تكاد السموات " ، قرأ نافع " يكاد " بالياء هاهنا وفي حمعسق لتقدم الفعل ، وقرأ الباقون بالتاء لتأنيث السموات ، " يتفطرن منه " ، هاهنا وفي " حم * عسق " بالنون من الانفطار ، أبو عمرو و أبو بكر و يعقوب وافق ابن عامر و حمزة هاهنا لقوله تعالى : " إذا السماء انفطرت " ( الانفطار :1 ) و " السماء منفطر " ( المزمل : 18 ) ، وقرأ الباقون بالتاء من التفطر ومعناهما واحد ، يقال : انفطر الشيء وتفطر أي تشقق . " وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً " ، أي : تنكسر كسراً . وقيل : " تنشق الأرض" أي : تنخسف بهم ، ( و الانفطار ) في السماء : أن تسقط عليهم ، " وتخر الجبال هداً " : أي تنطبق عليهم .
91 - " أن دعوا " ، أي من أجل أن جعلوا " للرحمن ولداً " ، قال ابن عباس و كعب : فزعت السموات والأرض والجبال وجميع الخلائق إلا الثقلين ، وكادت أن تزول ، وغضبت الملائكة ، واستعرت جهنم حين قالوا : اتخذ الله ولداً . ثم نفى الله عن نفسه الولد فقال :
92 - " وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولداً " ، أي ما يليق به اتخاذ الولد ولا يوصف به .
93 - " إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن " ، أي إلا آتيه يوم القيامة ، " عبداً " ذليلاً خاضعاً يعني : أن الخلق كلهم عبيده .
94 - " لقد أحصاهم وعدهم عداً " ، أي : عد أنفاسهم وأيامهم وآثارهم ، فلا يخفى عليه شيء .
95 - " وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً " ، وحيداً ليس معه من الدنيا شيء .
96 - قوله عز وجل : " إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن وداً" أي : محبة . قال مجاهد : يحبهم الله ويحببهم إلى عباده المؤمنين . أخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد الداوودي ، أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن موسى بن الصلت ، أخبرنا أبو إسحاق بن إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي ، أخبرنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إذا أحب الله العبد قال لجبرائيل : قد أحببت فلاناً فأحبه ، فيحبه جبرائيل ، ثم ينادي في أهل السماء : إن الله عز وجل قد أحب فلاناً فأحبوه ، فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض ، وإذا أبغض العبد " . قال مالك : لا أحسبه إلا قال في البغض مثل ذلك . قال هرم بن حيان : ما أقبل عبد بقلبه إلى الله عز وجل إلا أقبل الله بقلوب أهل الإيمان إليه حتى يرزقه مودتهم .
97 - قوله عز وجل : " فإنما يسرناه بلسانك " ، أي سهلنا القرآن بلسانك يا محمد ، " لتبشر به المتقين " ، يعني المؤمنين ، " وتنذر به قوماً لداً " شداداً في الخصومة ، جمع ( الألد ) . وقال الحسن : صماً في الحق . قال مجاهد : ( الألد ) : الظالم الذي لا يستقيم . قال أبو عبيدة : ( الألد ) الذي لا يقبل الحق ، ويدعي الباطل .
98 - " وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن " ،هل ترى ، وقيل هل تجد ، " منهم من أحد أو تسمع لهم ركزاً " ، أي صوتاً ، ( والركز ) : الصوت الخفي . قال الحسن : بادوا جميعاً ، فلم يبق منهم عين ولا أثر .