islamkingdomfaceBook islamkingdomtwitter islamkingdominstagram islamkingdomyoutube islamkingdomnew

فتح البغوى
14539

74-المدثر

يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ

1- "يا أيها المدثر"، أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا يحيى، حدثنا وكيع، عن علي بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير قال: "سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن؟ قال: "يا أيها المدثر"، قلت: يقولون: "اقرأ باسم ربك الذي خلق" (العلق - 1)؟ فقال أبو سلمة: سألت جابر بن عبد الله عن ذلك، فقلت له مثل الذي قلت، فقال جابر: لا أحدثك إلا بما حدثنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: جاورت بحراء فلما قضيت جواري هبطت، فنوديت فنظرت عن يميني فلم أر شيئاً، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئاً، ونظرت أمامي فلم أر شيئاً، ونظرت خلفي فلم أر شيئاً، فرفعت رأسي فرأيت شيئاً، فأتيت خديجة فقلت: دثروني وصبوا علي ماء بارداً، قال: فدثروني وصبوا علي ماء بارداً، قال فنزلت: " يا أيها المدثر* قم فأنذر * وربك فكبر "". أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا الليث، عن عقيل قال ابن شهاب: سمعت أبا سلمة قال: أخبرني جابر بن عبد الله: أنه " سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث عن فترة الوحي: فبينا أنا أمشي سمعت صوتاً من السماء فرفعت بصري قبل السماء فإذا الملك الذي جاءني بحراء قاعد على كرسي بين السماء والأرض، فخشيت حتى هويت على الأرض، فجئت أهلي فقلت: زملوني زملوني فزملوني، فأنزل الله تعالى: " يا أيها المدثر * قم فأنذر "، إلى قوله: "فاهجر" قال أبو سلمة: والرجز الأوثان، ثم حمي الوحي وتتابع".

قُمْ فَأَنْذِرْ

قوله عز وجل: 2- " يا أيها المدثر * قم فأنذر "، أي: أنذر كفار مكة.

وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ

3- "وربك فكبر"، عظمه عما يقوله عبدة الأوثان.

وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ

4- "وثيابك فطهر"، قال قتادة ومجاهد: نفسك فطهر عن الذنب، فكنى عن النفس بالثوب، وهو قول إبراهيم والضحاك والشعبي والزهري. وقال عكرمة: سئل ابن عباس عن قوله: "وثيابك فطهر"، فقال: لا تلبسها على معصية ولا على غدر، ثم قال: أما سمعت قول غيلان بن سلمة الثقفي: وإني بحمد الله لا ثوب فاجر لبست ولا من غدرة أتقنع والعرب تقول في وصف الرجل بالصدق والوفاء: إنه طاهر الثياب، وتقول لمن غدر: إنه لدنس الثياب. وقال أبي بن كعب: لا تلبسها على غدر ولا على ظلم ولا إثم، البسها وأنت بر جواد طاهر. وروى أبو روق عن الضحاك معناه: وعملك فأصلح. قال السدي: يقال للرجل إذا كان صالحاً: إنه لطاهر الثياب، وإذا كان فاجراً إنه لخبيث الثياب. وقال سعيد بن جبير: وقلبك ونيتك فطهر. وقال الحسن والقرظي: وخلقك فحسن. وقال ابن سيرين وابن زيد: أمر بتطهير الثياب من النجاسات التي لا تجوز الصلاة معها، وذلك أن المشركين كانوا لا يتطهرون ولا يطهرون ثيابهم. وقال طاووس: وثيابك فقصر لأن تقصير الثياب طهرة لها.

وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ

5- "والرجز فاهجر"، قرأ أبو جعفر، وحفص عن عاصم ويعقوب: "والرجز" بضم الراء، وقرأ الآخرون بكسرها وهما لغتان ومعناهما واحد. قال مجاهد، وعكرمة، وقتادة، والزهري، وابن زيد، وأبو سلمة: المراد بالرجز الأوثان، قال: فاهجرها ولا تقربها. وقيل: الزاي فيه منقلبة عن السين، والعرب تعاقب بين السين والزاي لقرب مخرجهما، ودليل هذا التأويل قوله: "فاجتنبوا الرجس من الأوثان" (الحج- 30). وروي عن ابن عباس أن معناه: اترك المآثم. وقال أبو العالية والربيع: "الرجز" بضم الراء: الصنم، وبالكسر: النجاسة والمعصية. وقال الضحاك: يعني الشرك. وقال الكلبي: يعني العذاب. ومجاز الآية: اهجر ما أوجب لك العذاب من الأعمال.

وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ

6- "ولا تمنن تستكثر"، أي: لا تعط مالك مصانعةً لتعطى أكثر منه، هذا قول أكثر المفسرين، قال الضحاك ومجاهد: كان هذا للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة. قال الضحاك: هما رباءان حلال وحرام، فأما الحلال فالهدايا، وأما الحرام فالربا. قال قتادة: لا تعط شيئاً طمعاً لمجازاة الدنيا، يعني أعط لربك وأرد به الله. وقال الحسن: معناه لا تمنن على الله بعملك فتستكثره، قال الربيع: لا تكثرن عملك في عينك فإنه فيما أنعم الله عليك وأعطاك قليل. وروى خصيف عن مجاهد: ولا تضعف أن تستكثر من الخير، من قولهم: حبل متين إذا كان ضعيفاً، دليله: قراءة ابن مسعود: ولا تمنن أن تستكثر، قال ابن زيد معناه: لا تمنن بالنبوة على الناس فتأخذ عليها أجراً أو عرضاً من الدنيا.

وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ

7- "ولربك فاصبر"، قيل: فاصبر على /طاعته وأوامره ونواهيه لأجل ثواب الله. قال مجاهد: فاصبر لله على ما أوذيت. وقال ابن زيد: معناه حملت أمراً عظيماً محاربة العرب والعجم فاصبر عليه لله عز وجل. وقيل: فاصبر تحت موارد القضاء لأجل الله.

فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ

8- "فإذا نقر في الناقور"، أي: نفخ في الصور، وهو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل، يعني النفخة الثانية.

فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ

9- "فذلك"، يعني النفخ في الصور، "يومئذ"، يعني يوم القيامة، "يوم عسير"، شديد.

عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ

10- "على الكافرين"، يعسر فيه الأمر عليهم، "غير يسير"، غير هين.

ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا

قوله عز وجل: 11- "ذرني ومن خلقت وحيداً"، أي: خلقته في بطن أمه وحيداً فريداً لا مال له ولا ولد. نزلت في الوليد بن المغيرة المخزومي، كان يسمى الوحيد في قومه.

وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا

12- "وجعلت له مالاً ممدوداً"، أي: كثيراً. قيل: هو ما يمد بالنماء كالزرع والضرع والتجارة. واختلفوا في مبلغه، قال مجاهد وسعيد بن جبير: ألف دينار. وقال قتادة: أربعة آلاف دينار. وقال سفيان الثوري: ألف ألف دينار. وقال ابن عباس: تسعة آلاف مثقال فضة. وقال مقاتل: كان له بستان بالطائف لا تنقطع ثماره شتاءً ولا صيفاً. وقال عطاء عن ابن عباس: كان له بين مكة والطائف إبل وخيل ونعم وغنم، وكان له عير كثيرة وعبيد وجوار. وقيل: مالاً ممدوداً غلة شهر بشهر.

وَبَنِينَ شُهُودًا

13- "وبنين شهوداً"، حصوراً بمكة لا يغيبون عنه وكانوا عشرة، قاله مجاهد وقتادة. وقال مقاتل: كانوا سبعة وهم الوليد بن الوليد، وخالد، وعمارة، وهشام، والعاص، وقيس، وعبد شمس، أسلم منهم ثلاثة خالد وهشام وعمارة.

وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا

14- "ومهدت له تمهيداً"، أي: بسطت له في العيش وطول العمر بسطاً. وقال الكلبي: يعني المال بعضه على بعض كما يمهد الفرش.

ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ

15- "ثم يطمع"، يرجو، "أن أزيد"، أي أن أزيده مالاً وولداً، وتمهيداً.

كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآَيَاتِنَا عَنِيدًا

16- "كلا"، لا أفعل ولا أزيده، قالوا: فما زال الوليد بعد نزول هذه الآية في نقصان من ماله وولده حتى هلك. "إنه كان لآياتنا عنيداً"، معانداً.

سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا

17- "سأرهقه صعوداً"، سأكلفه مشقة من العذاب لا راحة له فيها. وروينا عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الصعود جبل من نار يتصعد فيه الكافر سبعين خريفاً، ثم يهوي". أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي، أخبرني ابن فنجويه، حدثنا عمر بن الخطاب، حدثنا عبد الله بن الفضل، أخبرنا منجاب بن الحارث، أخبرنا شريك، عن عمار الدهني، عن عطية، عن أبي سعيد "عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "سأرهقه صعوداً" قال: هو جبل في النار من نار يكلف أن يصعده فإذا وضع يده ذابت، فإذا رفعها عادت فإذا وضع رجله ذابت، وإذا رفعها عادت". وقال الكلبي: الصعود: صخرة ملساء في النار يكلف أن يصعدها، لا يترك أن يتنفس في صعوده، ويجذب من أمامه بسلاسل من حديد، ويضرب من خلفه بمقامع من حديد، فيصعدها في أربعين عاماً، فإذا بلغ ذروتها أحدر إلى أسفلها، ثم يكلف أن يصعدها ويجذب من أمامه ويضرب من خلفه فذلك دأبه أبداً أبداً.

إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ

18- "إنه فكر وقدر"، الآيات، وذلك أن الله تعالى لما أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم " حم * تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم " إلى قوله: "المصير" (غافر: 1-3) قام النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد والوليد بن المغيرة قريب منه يسمع قراءته، فلما فطن النبي صلى الله عليه وسلم لاستماعه لقراءته القرآن أعاد قراءة الآية، فانطلق الوليد حتى أتى مجلس قومه بني مخزوم، فقال: والله لقد سمعت من محمد آنفا كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، وإن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو وما يعلى، ثم انصرف إلى منزله فقالت قريش: سحره محمد صبأ والله الوليد، والله لتصبون قريش كلهم، وكان يقال للوليد: ريحانة قريش فقال لهم أبو جهل: أنا أكفيكموه فانطلق فقعد إلى جنب الوليد حزيناً، فقال له الوليد: مالي أراك حزيناً يابن أخي؟ قال: وما يمنعني أن لا أحزن وهذه قريش يجمعون لك النفقة يعينونك على كبر سنك ويزعمون أنك زينت كلام محمد وتدخل على ابن أبي كبشة، وابن أبي قحافة، فتنال من فضل طعامهم فغضب الوليد، فقال: ألم تعلم أني من أكثرهم مالاً وولداً، وهل شبع محمد وأصحابه من الطعام فيكون لهم فضل من الطعام؟ ثم قام مع أبي جهل حتى أتى مجلس قومه، فقال لهم: تزعمون أن محمداً مجنون، فهل رأيتموه يخنق قط؟ قالوا: اللهم لا، قال: تزعمون أنه كاهن فهل رأيتموه قط تكهن؟ قالوا: اللهم لا، قال: تزعمون أنه شاعر فهل رأيتموه ينطق بشعر قط؟ قالوا: اللهم لا، قال: تزعمون أنه كذاب فهل جربتم عليه شيئاً من الكذب؟ قالوا: لا -وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمى الأمين قبل النبوة، من صدقه- فقالت قريش للوليد: فما هو؟ فتفكر في نفسه ثم نظر ثم عبس، فقال: ما هو إلا ساحر، أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله ومواليه وولده؟ فهو ساحر وما يقوله سحر يؤثر، فذلك قوله عز وجل: "إنه فكر"، في محمد والقرآن، "وقدر"، في نفسه ماذا يمكنه أن يقول في محمد والقرآن.

فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ

19- "فقتل"، لعن، وقال الزهري: عذب، "كيف قدر"، على طريق التعجب والإنكار والتوبيخ.

ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ

20- "ثم قتل كيف قدر"، كرره للتأكيد، وقيل: معناه لعن على أي حال قدر من الكلام، كما يقال لأضربنه كيف صنع أي على أي حال صنع.

ثُمَّ نَظَرَ

21- "ثم نظر"، في طلب ما يدفع به القرآن ويرده.

ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ

22- "ثم عبس وبسر"، كلح وقطب وجهه ونظر بكراهية شديدة كالمهتم المتفكر في شيء.

ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ

23- "ثم أدبر"، عن الإيمان، "واستكبر"، تكبر حين دعي إليه.

فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ

24- "فقال إن هذا"، ما هذا الذي يقرؤه محمد، "إلا سحر يؤثر"، يروى ويحكى عن السحرة.

إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ

25- "إن هذا إلا قول البشر"، يعني يساراً وجبراً فهو يأثره عنهما. وقيل: يرويه عن مسيلمة صاحب اليمامة.

سَأُصْلِيهِ سَقَرَ

قال الله تعالى: 26- "سأصليه"، سأدخله، "سقر"، وسقر اسم من أسماء جهنم.

وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ

27- "وما أدراك ما سقر".

لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ

28- "لا تبقي ولا تذر"، أي لا تبقي ولا تذر فيها شيئاً إلا أكلته وأهلكته. وقال مجاهد: لا تميت ولا تحيي يعني لا تبقي من فيها حياً ولا تذر من فيها ميتاً كلما احترقوا جددوا. وقال السدي: لا تبقي لهم لحماً ولا تذر لهم عظماً. وقال الضحاك: إذا / أخذت فيهم لم تبق منهم شيئاً وإذا أعيدوا لم تذرهم حتى تفنيهم ولكل شيء ملالة وفترة إلا لجهنم.

لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ

29- "لواحة للبشر"، مغيرة للجلد حتى تجعله أسود، يقال: لاحه السقم والحزن إذا غيره، وقال مجاهد: تلفح الجلد حتى تدعه أشد سواداً من الليل. وقال ابن عباس وزيد بن أسلم: محرقة للجلد. وقال الحسن وابن كيسان: تلوح لهم جهنم حتى يروها عياناً نظيره قوله: "وبرزت الجحيم للغاوين" (الشعراء- 91)، و"لواحة"، رفع على نعت "سقر" في قوله: "وما أدراك ما سقر"، والبشر جمع بشرة وجمع البشر أبشار.

عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ

30- "عليها تسعة عشر"، أي: على النار تسعة عشر من الملائكة، وهم خزنتها: مالك ومعه ثمانية عشر. وجاء في الأثر: أعينهم كالبرق الخاطف، وأنيابهم كالصياصي، يخرج لهب النار من أفواههم، ما بين منكبي أحدهم مسيرة سنة، نزعت منهم الرحمة، يرفع أحدهم سبعين ألف فيرميهم حيث أراد من جهنم. قال عمرو بن دينار: إن واحداً منهم يدفع بالدفعة الواحدة في جهنم أكثر من ربيعة ومضر. قال ابن عباس، وقتادة، والضحاك: لما نزلت هذه الآية قال أبو جهل لقريش: ثكلتكم أمهاتكم، أسمع ابن أبي كبشة يخبر أن خزنة النار تسعة عشر وأنتم الدهم، أي: الشجعان، أفيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا بواحد من خزنة جهنم؟ قال أبو الأشد أسيد بن كلدة بن خلف الجمحي: أنا أكفيكم منهم سبعة عشر، عشرة على ظهري وسبعة على بطني، فاكفوني أنتم اثنين. وروي أنه قال: أنا أمشي بين أيديكم على الصراط فأدفع عشرة بمنكبي الأيمن وتسعة بمنكبي الأيسر في النار ونمضي فندخل الجنة.

وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُ

فأنزل الله عز وجل: 31- "وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكةً"، لا رجالاً آدميين، فمن ذا يغلب الملائكة؟، "وما جعلنا عدتهم"، أي عددهم في القلة، " إلا فتنة للذين كفروا "، أي ضلالة لهم حتى قالوا ما قالوا، "ليستيقن الذين أوتوا الكتاب"، لأنه مكتوب في التوراة والإنجيل أنهم تسعة عشر، "ويزداد الذين آمنوا إيماناً"، يعني من آمن من أهل الكتاب يزدادون تصديقاً بمحمد صلى الله عليه وسلم إذا وجدوا ما قاله موافقاً لما في كتبهم، "ولا يرتاب"، ولا يشك، "الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون"، في عددهم، "وليقول الذين في قلوبهم مرض"، شك ونفاق، "والكافرون"، مشركو مكة، "ماذا أراد الله بهذا مثلاً"، أي شيء أراد بهذا الحديث؟ وأراد بالمثل الحديث نفسه. "كذلك"، أي كما أضل الله من أنكر عدد الخزنة وهدى من صدق كذلك، "يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وما يعلم جنود ربك إلا هو"، قال مقاتل: هذا جواب أبي جهل حين قال: أما لمحمد أعوان إلا تسعة عشر؟ قال عطاء: "وما يعلم جنود ربك إلا هو" يعني من الملائكة الذين خلقهم لتعذيب أهل النار، لا يعلم عدتهم إلا الله، والمعنى إن تسعة عشر هم خزنة النار، ولهم من الأعوان والجنود من الملائكة ما لا يعلم إلا الله عز وجل، ثم رجع إلى ذكر سقر فقال: "وما هي"، يعني سقر، "إلا ذكرى للبشر"، إلا تذكرة وموعظة للناس.

كَلَّا وَالْقَمَرِ

32- "كلا والقمر"، هذا قسم، يقول: حقاً.

وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ

33- "والليل إذ أدبر"، قرأ نافع وحمزة وحفص ويعقوب "إذ" بغير ألف، "أدبر" بالألف، وقرأ الآخرون إذا بالألف، دبر بلا ألف، لأنه أشد موافقة لما يليه، وهو قوله: "والصبح إذا أسفر"، ولأنه ليس في القرآن قسم بجانبه إذ وإنما بجانب الإقسام إذا، ودبر وأدبر كلاهما لغة، يقال: دبر الليل وأدبر إذا ولى ذاهباً. قال أبو عمرو: دبر لغة قريش، وقال قطرب: دبر أي أقبل، تقول العرب: دبرني فلان أي جاء خلفي، فالليل يأتي خلف النهار.

وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ

34- "والصبح إذا أسفر"، أضاء وتبين.

إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ

35- "إنها لإحدى الكبر"، يعني أن سقر لإحدى الأمور العظام، وواحد الكبر: كبرى، قال مقاتل والكلبي: أراد بالكبر: دركات جهنم، وهي سبعة: جهنم، ولظى، والحطمة، والسعير، وسقر، والجحيم، والهاوية.

نَذِيرًا لِلْبَشَرِ

36- "نذيراً للبشر"، يعني النار نذيراً للبشر، قال الحسن: والله ما أنذر الله بشيء أدهى منها. وهو نصب على القطع من قوله: "لإحدى الكبر" لأنها معرفة، و "نذيراً" نكرة، قال الخليل: النذير مصدر كالنكير، ولذلك وصف به المؤنث، وقيل: هو من صفة الله سبحانه وتعالى، مجازه: وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة نذيراً للبشر أي إنذاراً لهم. قال أبو رزين يقول أنا لكم منها نذير، فاتقوها. وقيل: هو صفة محمد صلى الله عليه وسلم معناه: يا أيها المدثر قم نذيراً للبشر، فأنذر، وهذا معنى قول ابن زيد.

لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ

37- "لمن شاء"، بدل من قوله "للبشر" "منكم أن يتقدم"، في الخير والطاعة، "أو يتأخر"، عنها في الشر والمعصية، والمعنى: أن الإنذار قد حصل لكل واحد ممن آمن أو كفر.

كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ

38- "كل نفس بما كسبت رهينة"، مرتهنة في النار بكسبها مأخوذة بعملها.

إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ

39- "إلا أصحاب اليمين"، فإنهم لا يرتهنون بذنوبهم في النار ولكن يغفرها الله لهم. قال قتادة: علق الناس كلهم إلا أصحاب اليمين. واختلفوا فيهم: روي عن علي رضي الله عنه أنهم أطفال المسلمين. وروى أبو ظبيان عن ابن عباس: هم الملائكة. وقال مقاتل: هم أصحاب الجنة الذين كانوا على يمين آدم يوم الميثاق، حين قال الله لهم: هؤلاء في الجنة ولا أبالي. وعنه أيضاً: هم الذين أعطوا كتبهم بأيمانهم، وعنه أيضاً: هم الذين كانوا ميامين على أنفسهم. وقال الحسن: هم المسلمون المخلصون. وقال القاسم: كل نفس مأخوذة بكسبها من خير أو شر إلا من اعتمد على الفضل، وكل من اعتمد على الكسب فهو رهين به، ومن اعتمد على الفضل فهو غير مأخوذ به.

فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ

40- "في جنات يتساءلون".

عَنِ الْمُجْرِمِينَ

41- "عن المجرمين"، المشركين.

مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ

42- "ما سلككم"، أدخلكم، "في سقر"، فأجابوا.

قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ

43- "قالوا لم نك من المصلين"، لله.

وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ

44- "ولم نك نطعم المسكين".

وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ

45- "وكنا نخوض"، في الباطل، "مع الخائضين".

وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ

46- "وكنا نكذب بيوم الدين".

حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ

47- "حتى أتانا اليقين"، وهو الموت.

فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ

قال الله عز وجل: 48- "فما تنفعهم شفاعة الشافعين"، قال ابن مسعود: تشفع الملائكة والنبيون والشهداء والصالحون وجميع المؤمنين، فلا يبقى في النار إلا أربعة، ثم تلا: "قالوا لم نك من المصلين" إلى قوله: "بيوم الدين"، قال عمران بن الحصين: الشفاعة نافعة لكل واحد دون هؤلاء الذين تسمعون. أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي/، أخبرنا أحمد بن الحسن الحيري، أخبرنا حاجب بن أحمد الطوسي، حدثنا محمد بن حماد، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن يزيد الرقاشي، عن أنس قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يصف أهل النار فيعذبون قال: فيمر فيهم الرجل من أهل الجنة فيقول الرجل منهم يا فلان قال فيقول: ما تريد فيقول: أما تذكر رجلاً سقاك شربة يوم كذا وكذا؟ قال فيقول: وإنك لأنت هو؟ فيقول: نعم، فيشفع له فيشفع فيه. قال: ثم يمر بهم الرجل من أهل الجنة فيقول: يا فلان، فيقول: ما تريد؟ فيقول: أما تذكر رجلاً وهب لك وضوءاً يوم كذا وكذا؟ فيقول: إنك لأنت هو؟ فيقول: نعم فيشفع له فيشفع فيه".

فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ

49- "فما لهم عن التذكرة معرضين"، مواعظ القرآن (معرضين) نصب على الحال، وقيل صاروا معرضين.

كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ

50- "كأنهم حمر"، جمع حمار، "مستنفرة"، قرأ أهل المدينة والشام بفتح الفاء، وقرأ الباقون بكسرها، فمن قرأ بالفتح فمعناها منفرة مذعورة، ومن قرأ بالكسر فمعناها نافرة، يقال: نفر واستنفر بمعنى واحد، كما يقال عجب واستعجب.

فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ

51- "فرت من قسورة"، قال مجاهد وقتادة والضحاك: القسورة: الرماة، لا واحد لها من لفظها، وهي رواية عطاء عن ابن عباس. وقال سعيد بن جبير: هم القناص وهي رواية عطية عن ابن عباس. وقال زيد بن أسلم هم رجال أقوياء، وكل ضخم شديد عند العرب: قسور وقسورة. وعن أبي المتوكل قال: هي لغط القوم وأصواتهم. وروى عكرمة عن ابن عباس قال: هي حبال الصيادين. وقال أبو هريرة: هي الأسد، وهو قول عطاء والكلبي، وذلك أن الحمر الوحشية إذا عاينت الأسد هربت، كذلك هؤلاء المشركين إذا سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن هربوا منه. قال عكرمة: هي ظلمة الليل، ويقال لسواد أول الليل قسورة.

بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً

52- "بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفاً منشرة"، قال المفسرون: إن كفار قريش قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ليصبح عند رأس كل رجل منا كتاب منشور من الله أنك لرسوله نؤمر فيه باتباعك. قال الكلبي: إن المشركين قالوا: يا محمد بلغنا أن الرجل من بني إسرائيل كان يصبح مكتوباً عند رأسه ذنبه وكفارته، فأتنا بمثل ذلك، و الصحف: الكتب، وهي جمع الصحيفة، و "منشرة": منشورة.

كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآَخِرَةَ

فقال الله تعالى: 53- "كلا"، لا يؤتون الصحف. وقيل: حقاً، وكل ما ورد عليك منه فهذا وجهه، "بل لا يخافون الآخرة"، أي لا يخافون عذاب الآخرة، والمعنى أنهم لو خافوا النار لما اقترحوا هذه الآيات بعد قيام الأدلة.

كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ

54- "كلا"، حقاً، "إنه"، يعني القرآن، "تذكرة"، موعظة.

فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ

55- "فمن شاء ذكره"، اتعظ به.

وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ

56- "وما يذكرون"، قرأ نافع ويعقوب تذكرون بالتاء والآخرن بالياء، "إلا أن يشاء الله"، قال مقاتل: إلا أن يشاء الله لهم الهدى. "هو أهل التقوى وأهل المغفرة"، أي أهل أن تتقى محارمه وأهل أن يغفر لمن اتقاه. أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي، أخبرنا ابن فنجويه، حدثنا عمر بن الخطاب، حدثنا عبد الله بن الفضل، حدثنا هدبة بن خالد، حدثنا سهيل بن أبي حزم، عن ثابت، عن أنس "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في هذه الآية: "هو أهل التقوى وأهل المغفرة"، قال: قال ربكم عز وجل: أنا أهل أن أتقى ولا يشرك بي غيري، وأنا أهل لمن اتقى أن يشرك بي أن أغفر له"، وسهيل هو ابن عبد الرحمن القطعي، أخو حزم القطعي.


1-الفاتحة 2-البقرة 3-آل-عمران 4-النساء 5-المائدة 6-الأنعام 7-الأعراف 8-الأنفال 9-التوبة 10-يونس 11-هود 12-يوسف 13-الرعد 14-إبراهيم 15-الحجر 16-النحل 17-الإسراء 18-الكهف 19-مريم 20-طه 21-الأنبياء 22-الحج 23-المؤمنون 24-النور 25-الفرقان 26-الشعراء 27-النمل 28-القصص 29-العنكبوت 30-الروم 31-لقمان 32-السجدة 33-الأحزاب 34-سبأ 35-فاطر 36-يس 37-الصافات 38-ص 39-الزمر 40-غافر 41-فصلت 42-الشورى 43-الزخرف 44-الدخان 45-الجاثية 46-الأحقاف 47-محمد 48-الفتح 49-الحجرات 50-ق 51-الذاريات 52-الطور 53-النجم 54-القمر 55-الرحمن 56-الواقعة 57-الحديد 58-المجادلة 59-الحشر 60-الممتحنة 61-الصف 62-الجمعة 63-المنافقون 64-التغابن 65-الطلاق 66-التحريم 67-الملك 68-القلم 69-الحاقة 70-المعارج 71-نوح 72-الجن 73-المزمل 74-المدثر 75-القيامة 76-الإنسان 77-المرسلات 78-النبأ 79-النازعات 80-عبس 81-التكوير 82-الانفطار 83-المطففين 84-الانشقاق 85-البروج 86-الطارق 87-الأعلى 88-الغاشية 89-الفجر 90-البلد 91-الشمس 92-الليل 93-الضحى 94-الشرح 95-التين 96-العلق 97-القدر 98-البينة 99-الزلزلة 100-العاديات 101-القارعة 102-التكاثر 103-العصر 104-الهمزة 105-الفيل 106-قريش 107-الماعون 108-الكوثر 109-الكافرون 110-النصر 111-المسد 112-الإخلاص 113-الفلق 114-الناس