islamkingdomfaceBook islamkingdomtwitter islamkingdominstagram islamkingdomyoutube islamkingdomnew

فتح القدير
15917

9-التوبة

بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ

هي مائة وثلاثون آية، وقيل مائة وسبع وعشرون آية، ولها أسماء: منها سورة التوبة، لأن فيها التوبة على المؤمنين، وتسمى الفاضحة لأنه ما زال ينزل فيها: ومنهم، ومنهم حتى كادت أن لا تدع أحداً، وتسمى البحوث لأنها تبحث عن أسرار المنافقين، وتسمى المبعثرة، والبعثرة البحث، وتسمى أيضاً بأسماء آخر كالمقشقشة، لكونها تقشقش من النفاق: أي تبرئ منه، والمخزية لكونها أخزت المنافقين، والمثيرة لكونها تثير أسرارهم، والحافرة لكونها تحفر عنها، والمنكلة لما فيها من التنكيل لهم، والمدمدمة لأنها تدمدم عليهم. وهي مدنية. قال القرطبي باتفاق. وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس قال: نزلت براءة بعد فتح مكة. وأخرج ابن مردويه عنه قال: نزلت سورة التوبة بالمدينة. وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير نحوه. وأخرج ابن المنذر عن قتادة نحوه أيضاً. وأخرج ابن أبي شيبة والبخاري والنسائي وابن الضريس وابن المنذر والنحاس وأبو الشيخ وابن مردويه عن البراء قال: آخر آية نزلت: "يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة" وآخر سورة تامة براءة. وقد اختلف العلماء في سبب سقوط البسملة من أولها على أقوال: الأول: عن المبرد وغيره: أنه كان من شأن العرب إذا كان بينهم وبين قوم عهد، فإذا أرادوا نقضه كتبوا إليهم كتاباً ولم يكتبوا فيه بسملة، فلما نزلت براءة بنقض العهد الذي كان بين النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين، بعث بها النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب فقرأها عليهم ولم يبسمل في ذلك على ما جرت به عادة العرب. وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس قال: سألت علي بن أبي طالب لم لا تكتب في براءة بسم الله الرحمن الرحيم؟ قال: لأن بسم الله الرحمن الرحيم أمان. وبراءة نزلت بالسيف. وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وأبو داود والترمذي وحسنه والنسائي والحاكم وصححه عن ابن عباس قال: قلت لعثمان بن عفان: ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني، وإلى براءة وهي من المئين، فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتموها في السبع الطوال ما حملكم ذلك؟ فقال عثمان: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه السور ذوات العدد، فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول: ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة، وكانت براءة من آخر القرآن نزولاً، وكانت قصتها شبيهة بقصتها فظننت أنها منها، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها، فمن أجل ذلك قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتها في السبع الطوال. وأخرج أبو الشيخ عن أبي رجاء قال: سألت الحسن عن الأنفال وبراءة أسورتان أو سورة؟ قال: سورتان. وأخرج أبو عبيد وابن المنذر وأبو الشيخ وابن مردويه عن حذيفة قال: يسمون هذه السورة سورة التوبة، وهي سورة العذاب. وأخرج هؤلاء عن ابن عباس قال في هذه السورة: هي الفاضحة ما زالت تنزل، ومنهم حتى ظننا أنه لا يبقى منا أحد إلا ذكر فيها. وأخرج أبو الشيخ عن عمر نحوه. وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن زيد بن أسلم أن رجلاً قال لعبد الله بن عمر سورة التوبة، فقال ابن عمر: وأيتهن سورة التوبة، ثم قال: وهل فعل بالناس الأفاعيل إلا هي؟ ما كنا ندعوها إلا المقشقشة. وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال: يسمونها سورة التوبة، وإنها لسورة عذاب. وأخرج ابن المنذر عن ابن إسحاق قال: كانت براءة تسمى في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وبعده المبعثرة لما كشفت من سرائر الناس. وأخرج أبو الشيخ عن عبيد الله بن عبيد بن عمير قال: كانت براءة تسمى المنقرة نقرت عما في قلوب المشركين. وأخرج أبو عبيد وسعيد بن منصور وأبو الشيخ والبيهقي في الشعب عن أبي عطية الهمداني قال: كتب عمر بن الخطاب: تعلموا سورة براءة وعلموا نساءكم سورة النور. ومن جملة الأقوال في حذف البسملة أنها كانت تعدل سورة البقرة أو قريباً منها، وأنه لما سقط أولها سقطت البسملة، روي هذا عن مالك بن أنس وابن عجلان. ومن جملة الأقوال في سقوط البسملة أنهم لما كتبوا المصحف في خلافة عثمان اختلف الصحابة فقال بعضهم: براءة والأنفال سورة واحدة، وقال بعضهم: هما سورتان، فتركت بينهما فرجة لقول من قال هما سورتان، وتركت بسم الله الرحمن الرحيم لقول من قال هما سورة واحدة، فرضي الفريقان. قاله خارجة وأبو عصمة وغيرهما. وقول من جعلهما سورة واحدة أظهر، لأنهما جميعاً في القتال، وتعدان جميعاً سابعة السبع الطوال. قوله: 1- "براءة من الله ورسوله" برئت من الشيء أبرأ براءة، وأنا منه بريء: إذا أزلته عن نفسك وقطعت سبب ما بينك وبينه، وبراءة مرتفعة على أنها خبر مبتدأ محذوف: أي هذه براءة، ويجوز أن ترتفع على الابتداء لأنها نكرة موصوفة، والخبر "إلى الذين عاهدتم". وقرأ عيسى بن عمر "براءة" بالنصب على تقدير اسمعوا براءة، أو على تقدير التزموا براءة، لأن فيها معنى الإغراء، و من في قوله: "من الله" لابتداء الغاية متعلق بمحذوف وقع صفة: أي واصلة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم. وقرأ روح وزيد بنصب رسوله، وقرأ الباقون بالرفع. والعهد: العقد الموثق باليمين. والخطاب في عاهدتم للمسلمين، وقد كانوا عاهدوا مشركي مكة وغيرهم بإذن من الله ومن الرسول صلى الله عليه وسلم، والمعنى: الإخبار للمسلمين بأن الله ورسوله قد برئا من تلك المعاهدة بسبب ما وقع من الكفار من النقض، فصار النبذ إليهم بعهدهم واجباً على المعاهدين من المسلمين، ومعنى براءة الله سبحانه: وقوع الإذن منه سبحانه بالنبذ من المسلمين لعهد المشركين بعد وقوع النقض منهم، وفي ذلك من التفخيم لشأن البراءة والتهويل لها والتسجيل على المشركين بالذل والهوان ما لا يخفى.

فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ

قوله: 2- "فسيحوا في الأرض أربعة أشهر" هذا أمر منه سبحانه بالسياحة بعد الإخبار بتلك البراءة، والسياحة: السير، يقال: ساح فلان في الأرض يسيح سياحة وسيوحاً وسيحاناً، ومنه سيح الماء في الأرض وسيح الخيل، ومنه قول طرفة بن العبد: لو خفت هذا منك ما نلتني حتى ترى خيلاً أمامي تسيح ومعنى الآية أن الله سبحانه بعد أن أذن بالنبذ إلى المشركين بعهدهم أباح للمشركين الضرب في الأرض والذهاب إلى حيث يريدون والاستعداد للحرب هذه الأربعة الأشهر، وليس المراد من الأمر بالسياحة تكليفهم بها. قال محمد بن إسحاق وغيره: إن المشركين صنفان: صنف كانت مدة عهدهم أقل من أربعة أشهر فأمهل تمام أربعة أشهر، والآخر كانت أكثر من ذلك فقصر على أربعة أشهر ليرتاد لنفسه، وهو حرب بعد ذلك لله ولرسوله وللمؤمنين يقتل حيث يوجد، وابتداء هذا الأجل يوم الحج الأكبر وانقضاؤه إلى عشر من ربيع الآخر، فأما من لم يكن له عهد فإنما أجله انسلاح الأشهر الحرم، وذلك خمسون يوماً: عشرون من ذي الحجة وشهر محرم. وقال الكلبي: إنما كانت الأربعة الأشهر لمن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد دون أربعة أشهر، ومن كان عهده أكثر من ذلك فهو الذي أمر الله أن يتم له عهده بقوله: "فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم" ورجح هذا ابن جرير وغيره، وسيأتي في آخر البحث من الرواية ما يتضح به معنى الآية: "واعلموا أنكم غير معجزي الله" أي اعلموا أن هذا الإمهال ليس لعجز، ولكن لمصلحة ليتوب من تاب، وفي ذلك ضرب من التهديد كأنه قيل: افعلوا في هذه المدة كل ما أمكنكم من إعداد الآلات والأدوات، فإنكم لا تفوتون الله وهو مخزيكم: أي مذلكم ومهينكم في الدنيا بالقتل والأسر، وفي الآخرة بالعذاب، وفي وضع الظاهر موضع المضمر إشارة إلى أن سبب هذا الإخزاء هو الكفر، ويجوز أن يكون المراد جنس الكافرين فيدخل فيه المخاطبون دخولاً أولياً.

وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِين

قوله: 3- "وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر" ارتفاع أذان على أنه خبر مبتدأ محذوف، أو على أنه مبتدأ خبره ما بعده على ما تقدم في ارتفاع براءة، والجملة هذه معطوفة على جملة "براءة من الله ورسوله". وقال الزجاج: إن قوله: وأذان معطوف على قوله براءة. واعترض عليه بأن الأمر لو كان كذلك لكن أذان مخبر عنه بالخبر الأول، وهو "إلى الذين عاهدتم من المشركين" وليس ذلك بصحيح، بل الخبر هو إلى الناس والأذان بمعنى الإيذان وهو الإعلام كما أن الأمان والعطاء بمعنى الإيمان والإعطاء، ومعنى قوله: "إلى الناس" التعميم في هذا: أي أنه إيذان من الله إلى كافة الناس غير مختص بقوم دون قوم، فهذه الجملة متضمنة للإخبار بوجوب الإعلام لجميع الناس، والجملة الأولى متضمنة للإخبار بالبراءة إلى المعاهدين خاصة، و "يوم الحج" ظرف لقوله وأذان، ووصفه بالأكبر لأنه يجتمع فيه الناس، أو لكون معظم أفعال الحج فيه. وقد اختلف العلماء في تعيين هذا اليوم المذكور في الآية، فذهب جمع منهم علي بن أبي طالب وابن مسعود وابن أبي أوفى والمغيرة بن شعبة ومجاهد أنه يوم النحر، ورجحه ابن جرير. وذهب آخرون منهم عمر وابن عباس وطاوس أنه يوم عرفة. والأول أرجح، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من بعثه لإبلاغ هذا إلى المشركين أن يبلغهم يوم النحر. قوله: "أن الله بريء من المشركين ورسوله" قرئ بفتح أن على تقدير بأن الله بريء من المشركين، فحذفت الباء تخفيفاً. وقرئ بكسرها، لأن في الإيذان معنى القول، وارتفاع رسوله على أنه معطوف على موضع اسم أن، أو على الضمير في بريء، أو على أنه مبتدأ وخبره محذوف، والتقدير: ورسوله بريء منهم، وقرأ الحسن وغيره "ورسوله" بالنصب عطفاً على لفظ اسم أن. وقرئ ورسوله بالجر على أن الواو للقسم، روي ذلك عن الحسن، وهي قراءة ضعيفة جداً، إذ لا معنى للقسم برسول الله صلى الله عليه وسلم هاهنا مع ما ثبت من النهي عن الحلف بغير الله، وقيل إنه مجرور على الجوار. قوله: "فإن تبتم" أي من الكفر، وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب، قيل: وفائدة هذا الالتفات زيادة التهديد، والضمير في قوله: "فهو" راجع إلى التوبة المفهومة من تبتم "خير لكم" مما أنتم فيه من الكفر "وإن توليتم" أي أعرضتم عن التوبة وبقيتم على الكفر "فاعلموا أنكم غير معجزي الله" أي غير فائتين عليه، بل هو مدرككم فمجازيكم بأعمالكم. قوله: "وبشر الذين كفروا بعذاب أليم" هذا تهكم بهم، وفيه من التهديد ما لا يخفى. وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين" إلى أهل العهد خزاعة ومدلج ومن كان له عهد قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك حين فرغ منها فأراد الحج، ثم قال: إنه يحضر البيت مشركون يطوفون عراة فلا أحب أن أحج حتى لا يكون ذلك، فأرسل أبا بكر وعلياً فطافا في الناس بذي المجاز، وبأمكنتهم التي كانوا يبيعون بها، أو بالموسم كله، فآذنوا أصحاب العهد أن يأمنوا أربعة أشهر، وهي الأشهر الحرم المنسلخات المتواليات عشرون من آخر ذي الحجة إىل عشر تخلو من ربيع الآخر، ثم لا عهد هلم وآذن الناس كلهم بالقتال إلى أن يموتوا. وأخرج عبد الله بن أحمد بن حنبل في زوائد المسند وأبو الشيخ وابن مردويه عن علي قال: لما نزلت عشر آيات من براءة عن النبي صلى الله عليه وسلم دعا أبا بكر ليقرأها على أهل مكة، ثم دعاني فقال لي: أدرك يا أبا بكر، فحيثما لقيته فخذ الكتاب منه فاقرأه على أهل مكة، فلحقته فأخذت الكتاب منه، ورجع أبو بكر، وقال: يا رسول الله نزل في شيء، قال: لا، ولكن جبريل جاءني فقال: لن يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك. وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والترمذي وحسنه وأبو الشيخ وابن مردويه من حديث أنس نحوه. وأخرج ابن مردويه من حديث سعد بن أبي وقاص نحوه أيضاً. وأخرج أحمد والنسائي وابن المنذر وابن مردويه عن أبي هريرة قال: كنت مع علي حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل مكة ببراءة، فكنا ننادي أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن ولا يطوف البيت عريان، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فإن أجله وأمده إلى أربعة أشهر فإذا مضت الأربعة أشهر فإن الله بريء من المشركين ورسوله، ولا يحج هذا البيت بعد العام مشرك. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة قال: بعثني أبو بكر في تلك الحجة في مؤذنين بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى: أن لا يحج بعد هذا العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان، ثم أردف النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب فأمره أن يؤذن ببراءة فأذن علي في يوم النحر ببراءة: أن لا يحج بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان. وأخرج الترمذي وحسنه وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر وأمره أن ينادي بهؤلاء الكلمات، ثم أتبعه علياً وأمره أن ينادي بهؤلاء الكلمات، فانطلقا فحجا، فقام علي في أيام التشريق فنادى: إن الله بريء من المشركين ورسوله فسيحوا في الأرض أربعة أشهر، ولا يحجن بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ولا يدخل الجنة إلا مؤمن، فكان علي ينادي، فإذا أعيا قام أبو بكر ينادي بها. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وأحمد والترمذي وصححه وابن المنذر والنحاس والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن زيد بن تبيع قال: سألت علياً بأي شيء بعثت مع أبي بكر في الحج؟ قال: بعثت بأربع: لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة. ولا يطوف بالبيت عريان. ولا يجتمع مؤمن وكافر بالمسجد الحرام بعد عامهم هذا. ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فعهده إلى مدته ومن لم يكن له عهد فأجله أربعة أشهر. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "براءة من الله ورسوله" الآية قال: حد الله للذين عاهدوا رسوله أربعة أشهر يسيحون فيها حيث شاءوا، وحد أجل من ليس له عهد انسلاخ الأربعة الأشهر الحرم من يوم النحر إلى انسلاخ المحرم خمسين ليلة، فإذا انسلخ الأشهر الحرم أمره أن يضع السيف فيمن عاهد إن لم يدخلوا في الإسلام ونقض ما سمي لهم من العهد والميثاق، وأذهب الشرط الأول "إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام" يعني أهل مكة. وأخرج النحاس عنه نحو هذا، وقال: ولم يعاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذا أحداً. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم والنحاس عن الزهري "فسيحوا في الأرض أربعة أشهر" قال: نزلت في شوال فهي الأربعة أشهر: شوال، ذو القعدة، وذو الحجة والمحرم. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله: "وأذان من الله ورسوله" قال: هو إعلام من الله ورسوله. وأخرج الترمذي وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن علي قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن يوم الحج الأكبر فقال: يوم النحر. وأخرجه ابن أبي شيبة والترمذي وأبو الشيخ عنه من قوله. وأخرج أبو داود والنسائي والحاكم وصححه عن عبد الله بن قرط قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعظم الأيام عند الله يوم النحر ثم يوم يوم القر". وأخرج ابن مردويه عن ابن أبي أوفى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يوم الأضحى هذا يوم الحج الأكبر". وأخرج البخاري تعليقاً وأبو داود وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية عن ابن عمر: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف يوم النحر بين الجمرات في الحجة التي حج فقال: أي يوم هذا؟، قالوا: يوم النحر، قال: هذا يوم الحج الأكبر". وأخرج البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن مردويه عن أبي هريرة قال: بعثني أبو بكر فيمن يؤذن يوم النحر بمنى أن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ويوم الحج الأكبر: يوم النحر، والحج الأكبر: الحج، وإنما قيل الأكبر من أجل قول الناس الحج الأصغر، فنبذ أبو بكر إلى الناس في ذلك العام فلم يحج عام حجة الوداع التي حج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم مشرك، وأنزل الله في العام الذي نبذ فيه أبو بكر إلى المشركين "يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس" الآية. وأخرج الطبراني عن سمرة بن جندب "أن رسول الله قال زمن الفتح:إن هذا عام الحج الأكبر"، قال: "اجتماع حج المسلمين وحج المشركين في ثلاثة أيام متتابعات، واجتمع النصارى واليهود في ثلاثة أيام متتابعات، فاجتمع حج المسلمين والمشركين والنصارى واليهود في ستة أيام متتابعات، ولم يجتمع منذ خلق السموات والأرض كذلك قبل العام، ولا يجتمع بعد العام حتى تقوم الساعة". وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن أنه سئل عن يوم الحج الأكبر فقال: ما لكم وللحج الأكبر؟ ذاك عام حج فيه أبو بكر استخلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم فحج بالناس، واجتمع فيه المسلمون والمشركون فلذلك سمي الحج الأكبر، ووافق عيد اليهود والنصارى. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب قال: الحج الأكبر اليوم الثاني من يوم النحر، ألم تر أن الإمام يخطب فيه. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن المسور بن مخرمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يوم عرفة هذا يوم الحج الأكبر". وأخرج ابن سعد وابن أبي شيبة وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عمر بن الخطاب قال: الحج الأكبر يوم عرفة. وأخرج ابن جرير عن أبي الصهباء البكري قال: سألت علي بن أبي طالب عن يوم الحج الأكبر فقال: يوم عرفة. وأخرج أبو عبيد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس قال: إن يوم عرفة يوم الحج الأكبر. وأخرج ابن جرير عن الزبير نحوه. ولا يخفاك أن الأحاديث الواردة في كون يوم النحر هو يوم الحج الأكبر هي ثابتة في الصحيحين وغيرهم من طرق، فلا تقوى لمعارضتها هذه الروايات المصرحة بأنه يوم عرفة. وأخرج ابن أبي شيبة عن الشعبي أنه سئل: هذا الحج الأكبر، فما الحج الأصغر؟ قال: عمرة في رمضان. وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن إسحاق قال: سألت عبد الله بن شداد عن الحج الأكبر فقال: الحج الأكبر يوم النحر، والحج الأصغر: العمرة. وأخرج ابن أبي شيبة عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن مسعود قال: سئل سفيان بن عيينة عن البشارة تكون في المكروه فقال: ألم تسمع قوله: "وبشر الذين كفروا بعذاب أليم".

إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ

الاستثناء بقوله: 4- "إلا الذين عاهدتم". قال الزجاج: إنه يعود إلى قوله: "براءة" والتقدير: براءة من الله ورسوله إلى المعاهدين من المشركين إلا الذين لم ينقضوا العهد منهم. وقال في الكشاف: إنه مستثنى من قوله: "فسيحوا" والتقدير: فقولوا لهم فسيحوا إلا الذين عاهدتم ثم لم ينقضوكم فأتموا إليهم عهدهم. قال: والاستثناء بمعنى الاستدراك كأنه قيل بعد أن أمروا في الناكثين، ولكن الذين لم ينكثوا فأتموا إليهم عهدهم ولا تجروهم مجراه. وقد اعترض عليه بأنه قد تخلل الفاصل بين المستثنى والمستثنى منه. وهو "وأذان من الله" إلخ. وأجيب بأن ذلك لا يضر لأنه ليس بأجنبي، وقيل: إن الاستثناء من المشركين المذكورين قبله فيكون متصلاً وهو ضعيف. قوله: "ثم لم ينقصوكم شيئاً" أي لم يقع منهم أي نقص. وإن كان يسيراً، وقرأ عكرمة وعطاء بن يسار ينقضوكم بالضاد المعجمة: أي لم ينقضوا عهدكم، وفيه دليل على أنه كان من أهل العهد من خاس بعهده، ومنهم من ثبت عليه، فأذن الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم بنقض عهد من نقض، وبالوفاء لمن لم ينقض إلى مدته "ولم يظاهروا عليكم أحداً" المظاهرة: المعاونة: أي لم يعاونوا عليكم أحداً من أعدائكم "فأتموا إليهم عهدهم" أي أدوا إليهم عهدهم تاماً غير ناقص "إلى مدتهم" التي عاهدتموهم إليها وإن كانت أكثر من أربعة أشهر، ولا تعاملوهم معاملة الناكثين من القتال بعد مضي المدة المذكورة سابقاً، وهي أربعة أشهر أو خمسون يوماً على الخلاف السابق.

فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ ر

قوله: 5- "فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم" انسلاخ الشهر: تكامله جزءاً فجزءاً إلى أن ينقضي كانسلاخ الجلد عما يحويه، شبه خروج المتزمن عن زمانه بانفصال المتمكن عن مكانه، وأصله الانسلاخ الواقع بين الحيوان وجلده، فاستعير لانقضاء الأشهر، يقال: سلخت الشهر تسلخه سلخاً وسلوخاً بمعنى خرجت منه، ومنه قول الشاعر: إذا ما سلخت الشهر أهللت مثله كفى قاتلاً سلخي الشهور وإهلالي ويقال: سلخت المرأة درعها: نزعته، وفي التنزيل "وآية لهم الليل نسلخ منه النهار". واختلف العلماء في تعيين الأشهر الحرم المذكورة هاهنا، فقيل: هي الأشهر الحرم المعروفة التي هي ذو القعدة وذو الحجة، ومحرم، ورجب: ثلاثة سرد، وواحد فرد. ومعنى الآية على هذا وجوب الإمساك عن قتال من لا عهد له من المشركين في هذه الأشهر الحرم. وقد وقع النداء والنبذ إلى المشركين بعهدهم يوم النحر، فكان الباقي من الأشهر الحرم التي هي الثلاثة المسرودة خمسين يوماً تنقضي بانقضاء شهر المحرم فأمرهم الله بقتل المشركين حيث يوجدون، وبه قال جماعة من أهل العلم منهم الضحاك والباقر. وروي عن ابن عباس واختاره ابن جرير، وقيل المراد بها شهور العهد المشار إليها بقوله: "فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم" وسميت حرماً لأن الله سبحانه حرم على المسلمين فيها دماء المشركين والتعرض لهم، وإلى هذا ذهب جماعة من أهل العلم منهم مجاهد وابن إسحاق وابن زيد وعمرو بن شعيب، وقيل: هي الأشهر المذكورة في قوله: "فسيحوا في الأرض أربعة أشهر". وقد روي ذلك عن ابن عباس وجماعة، ورجحه ابن كثير، وحكاه عن مجاهد وعمرو بن شعيب ومحمد بن إسحاق وقتادة والسدي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وسيأتي بيان حكم القتال في الأشهر الحرم الدائرة في كل سنة في هذه السورة إن شاء الله. ومعنى "حيث وجدتموهم" في أي مكان وجدتموهم من حل أو حرم. ومعنى "خذوهم" الأسر فإن الأخيذ هو الأسير. ومعنى الحصر منعهم من التصرف في بلاد المسلمين إلا بإذن منهم، والمرصد: الموضع الذي يرقب فيه العدو، يقال: رصدت فلاناً أرصده: أي رقبته، أي اقعدوا لهم في المواضع التي ترتقبونهم فيها. قال عامر بن الطفيل: ولقد علمت وما إخالك عالماً أن المنية للفتى بالمرصــد وقال النابغة: أعاذل إن الجهل من لذة الفتى وإن المنايا للنفوس بمرصد وكل في "كل مرصد" ينتصب على الظرفية وهو اختيار الزجاج، وقيل: هو منتصب بنزع الخافض: أي في كل مرصد، وخطأ أبو علي الفارسي الزجاج في جعله ظرفاً. وهذه الآية المتضمنة للأمر بقتل المشركين عند انسلاخ الأشهر الحرم عامة لكل مشرك لا يخرج عنها إلا من خصته السنة، وهو المرأة والصبي والعاجز الذي لا يقاتل وكذلك يخصص منها أهل الكتاب الذين يعطون الجزية على فرض تناول لفظ المشركين لهم، وهذه الآية نسخت كل آية فيها ذكر الإعراض عن المشركين والصبر على أذاهم. وقال الضحاك وعطاء والسدي: هي منسوخة بقوله: "فإما مناً بعد وإما فداء" وأن الأسير لا يقتل صبراً بل يمن عليه أو يفادى. وقال مجاهد وقتادة: بل هي ناسخه لقوله: "فإما مناً بعد وإما فداء" وأنه لا يجوز في الأسارى من المشركين إلا القتل. وقال ابن زيد: الآيتان محكمتان. قال القرطبي: وهي الصحيح لأن المن والقتل والفداء لم تزل من حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم من أول حرب جاء بهم وهو يوم بدر. قوله: "فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة" أي تابوا عن الشرك الذي هو سبب القتل وحققوا التوبة بفعل ما هو من أعظم أركان الإسلام، وهو إقامة الصلاة، وهذا الركن اكتفى به عن ذكر ما يتعلق بالأبدان من العبادات لكونه رأسها، واكتفى بالركن الآخر المالي، وهو إيتاء الزكاة عن كل ما يتعلق بالأموال من العبادات لأنه أعظمها "فخلوا سبيلهم" أي اتركوهم وشأنهم فلا تأسروهم ولا تحصروهم ولا تقتلوهم "إن الله غفور" لهم "رحيم" بهم.

وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ

قوله: 6- "وإن أحد من المشركين استجارك فأجره"، يقال: استجرت فلاناً: أي طلبت أن يكون جاراً: محامياً ومحافظاً من أن يظلمني ظالم، أو يتعرض لي متعرض، وأحد مرتفع بفعل مقدر يفسره المذكور بعده: أي وإن استجارك أحد استجارك، وكرهوا الجمع بين المفسر والمفسر، والمعنى: وإن استجارك أحد من المشركين الذين أمرت بقتالهم فأجره: أي كن جاراً له مؤمناً محامياً "حتى يسمع كلام الله" منك ويتدبره حق تدبره، ويقف على حقيقة ما تدعو إليه "ثم أبلغه مأمنه" أي إلى الدار التي يأمن فيها بعد أن يسمع كلام الله إن لم يسلم، ثم بعد أن تبلغه مأمنه قاتله فقد خرج من جوارك ورجع إلى ما كان عليه من إباحة دمه، ووجوب قتله حيث يوجد، والإشارة بقوله: "ذلك" إلى ما تقدم من الأمر بالإجارة وما بعده "بأنهم قوم لا يعلمون" أي بسبب فقدانهم للعلم النافع المميز بين الخير والشر في الحال والمآل. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "إلا الذين عاهدتم" قال: هم قريش. وأخرج أيضاً عن قتادة قال: هم مشركو قريش الذين عاهدهم نبي الله زمن الحديبية، وكان بقي من مدتهم أربعة أشهر بعد يوم النحر، فأمر نبيه أن يوفي بعهدهم هذا إلى مدتهم. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن محمد بن عباد بن جعفر في قوله: "إلا الذين عاهدتم" قال: هم بنو جذيمة بن عامر من بني بكر بن كنانة. وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم" قال: كان بقي لبني مذحج وخزاعة عهد، فهو الذي قال الله: "فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم". وأخرج أبو الشيخ عن السدي في قوله: "إلا الذين عاهدتم من المشركين" قال: هؤلاء بنو ضمرة وبنو مدلج من بني كنانة كانوا حلفاء للنبي صلى الله عليه وسلم في غزوة العشيرة من بطن ينبع "ثم لم ينقصوكم شيئاً" ثم لم ينقصوا عهدكم بغدر "ولم يظاهروا عليكم أحداً" قال: لم يظاهروا عدوكم عليكم "فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم" يقول: أجلهم الذي شرطتم لهم "إن الله يحب المتقين" يقول: الذين يتقون الله فيما حرم عليهم فيوفون بالعهد. قال: فلم يعاهد النبي صلى الله عليه وسلم بعد هؤلاء الآيات أحداً. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله: "فإذا انسلخ الأشهر الحرم" قال: هي الأربعة: عشرون من ذي الحجة والمحرم، وصفر، وشهر ربيع الأول، وعشر من ربيع الآخر. قلت: مراد السدي أن هذه الأشهر تسمى حرماً لكون تأمين المعاهدين فيها يستلزم تحريم القتال، لا أنها الأشهر الحرم المعروفة. وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك في الآية قال: هي عشر من ذي القعدة وذي الحجة والمحرم، سبعون ليلة. وأخرج أبو الشيخ عن مجاهد قال: هي الأربعة الأشهر التي قال: "فسيحوا في الأرض أربعة أشهر". وأخرج ابن المنذر عن قتادة نحو قول السدي السابق. وأخرج أبو داود في ناسخه عن ابن عباس في قوله: "فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم" ثم نسخ واستثنى. فقال: "فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم"، وقال: "وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله". وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "وإن أحد من المشركين استجارك فأجره" يقول: من جاءك واستمع ما تقول. واستمع ما أنزل إليك، فهو آمن حين يأتيك فيسمع كلام الله حتى يبلغ مأمنه من حيث جاء. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله: "ثم أبلغه مأمنه" قال: إن لم يوافقه ما يقص عليه ويخبر به فأبلغه مأمنه، وهذا ليس بمنسوخ. وأخرج أبو الشيخ عن قتادة في قوله: "حتى يسمع كلام الله" أي كتاب الله. وأخرج أبو الشيخ عن سعيد بن أبي عروبة قال: كان الرجل يجيء إذا سمع كتاب الله وأقر به وأسلم فذاك الذي دعي إليه، وإن أنكر ولم يقر به رد مأمنه، ثم نسخ ذلك، فقال: "وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة".

كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ

قوله: 7- "كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله" الاستفهام هنا للتعجب المتضمن للإنكار، وعهد اسم يكون. وفي خبره ثلاثة أوجه: الأول: أنه كيف، وقدم للاستفهام، والثاني: للمشركين، وعند على هذين ظرف للعهد، أو ليكون، أو صفة للعهد، والثالث: أن الخبر عند الله، وفي الآية إضمار. والمعنى: كيف يكون للمشركين عهد عند الله يأمنون به من عذابه، وقيل معنى الآية: محال أن يثبت لهؤلاء عهد وهم أضداد لكم مضمرون للغدر فلا يطمعوا في ذلك ولا يحدثوا به أنفسهم، ثم استدرك، فقال: "إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام" أي لكن الذين عاهدتم عند المسجد الحرام ولم ينقضوا ولم ينكثوا فلا تقاتلوهم، فما داموا مستقيمين لكم على العهد الذي بينكم وبينهم "فاستقيموا لهم" قيل هم بنو بكر، وقيل بنو كنانة وبنو ضمرة، وفي ما وجهان: أحدهما: أنها مصدرية زمانية. والثاني: أنها شرطية، وفي قوله: "إن الله يحب المتقين" إشارة إلى أن الوفاء بالعهد والاستقامة عليه من أعمال المتقين، فيكون تعليلاً للأمر بالاستقامة.

كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ

قوله: 8- "كيف وإن يظهروا عليكم" أعاد الاستفهام التعجيبي للتأكيد والتقرير، والتقدير: كيف يكون لهم عهد عند الله وعند رسوله؟ والحال أنهم إن يظهروا عليكم بالغلبة لكم "لا يرقبوا" أي لا يراعوا فيكم "إلا": أي عهداً "ولا ذمة". قال في الصحاح: الإل العهد والقرابة ومنه قول حسان: لعمرك أن إلك من قريش كإل السقب من رئل النعام قال الزجاج: الإل عندي على ما توجبه اللغة يدور على معنى الحدة، ومنه الإلة للحربة، ومنه أذن مؤلفة: أي محددة، ومنه قول طرفة بن العبد يصف أذني ناقته بالحدة والانتصاب: مؤلتان يعرف العنق منهما كسامعتي شاة بحومل مفرد قال أبو عبيدة: الإل العهد، والذمة والنديم. وقال الزهري: هو اسم لله بالعبرانية، وأصله من الأليل، وهو البريق، يقال: أل لونه يول إلا: أي صفا ولمع، والذمة العهد، وجمعها ذمم، فمن فسر الإل بالعهد كان التكرير للتأكيد مع اختلاف اللفظين. وقال أبو عبيدة: الذمة التذمم. وقال أبو عبيدة: الذمة الأمان كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "ويسعى بذمتهم أدناهم". وروي عن أبي عبيدة أيضاً أن الذمة ما يتذمم به: أي ما يجتنب فيه الذم. قوله: "يرضونكم بأفواههم" أي يقولون بألسنتهم ما فيه مجاملة ومحاسنة لكم طلباً لمرضاتكم وتطييب قلوبكم، وقلوبهم تأبى ذلك وتحالفه وتود ما فيه مساءتكم ومضرتكم، كما يفعله أهل النفاق وذوو الوجهين، ثم حكم عليهم بالفسق، وهو التمرد والتجري، والخروج عن الحق لنقضهم العهود، وعدم مراعاتهم للعقود.

اشْتَرَوْا بِآَيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ

ثم وصفهم بقوله: 9- "اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً" أي استبدلوا بآيات القرآن التي من جملتها ما فيه الأمر بالوفاء بالعهود ثمناً قليلاً حقيراً، وهو ما آثروه من حطام الدنيا "فصدوا عن سبيله" أي فعدلوا وأعرضوا عن سبيل الحق، أو صرفوا غيرهم عنه.

لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ

قوله: 10- "لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة". قال النحاس: ليس هذا تكريراً، ولكن الأول لجميع المشركين، والثاني لليهود خاصة. والدليل على هذا "اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً" يعني اليهود، وقيل: هذا فيه مراعاة لحقوق المؤمنين على الإطلاق، وفي الأول المراعاة لحقوق طائفة من المؤمنين خاصة "وأولئك هم المعتدون" أي المجاوزون للحلال إلى الحرام بنقض العهد، أو البالغون في الشر والتمرد إلى الغاية القصوى.

فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ

11- "فإن تابوا" عن الشرك والتزموا حكام الإسلام "فإخوانكم" أي فهم إخوانكم "في الدين" أي في دين الإسلام "ونفصل الآيات" أي نبينها ونوضحها "لقوم يعلمون" بما فيها من الأحكام ويفهمونه، وخص أهل العلم لأنهم المنتفعون بها، والمراد بالآيات ما مر من الآيات المتعلقة بأحوال المشركين على اختلاف أنواعهم. وقد أخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام" قال: قريش. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مقاتل قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم عاهد أناساً من بني ضمرة بني بكر وكنانة خاصة، عاهدهم عند المسجد الحرام وجعل مدتهم أربعة أشهر، وهم الذين ذكر الله "إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم" يقول: ما وفوا لكم بالعهد ففوا لهم. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال: هم بنو جذيمة. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: "إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام" قال: هو يوم الحديبية. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "إلاً ولا ذمة" قال: الإل القرابة والذمة العهد. وأخرج الفريابي وأبو عبيد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد قال: الإل الله عزوجل. وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن عكرمة مثله. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً" قال: أبو سفيان بن حرب أطعم حلفاءه وترك حلفاء محمد صلى الله عليه وسلم، وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "فإن تابوا" الآية يقول: إن تركوا اللات والعزى وشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فإخوانكم في الدين. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن عباس قال: حرمت هذه الآية قتال أو دماء أهل الصلاة.

وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ

قوله: 12- "وإن نكثوا" معطوف على فإن تابوا والنكث: النقض، وأصله نقض الخيط بعد إبرامه، ثم استعمل في كل نقض، ومنه نقض الإيمان والعهود على طريق الاستعارة. ومعنى "من بعد عهدهم" أي من بعد أن عاهدوكم. والمعنى: أن الكفار إن نكثوا العهود التي عاهدوا بها المسلمين، ووثقوا لهم بها وضموا إلى ذلك الطعن في دين الإسلام، والقدح فيه فقد وجب على المسلمين قتالهم، وأئمة الكفر: جمع إمام، والمراد صناديد المشركين، وأهل الرئاسة فيهم على العموم، وقرأ حمزة (أإمة). وأكثر النحويين يذهب إلى أن هذا لحن، لأن فيه الجمع بين همزتين في كلمة واحدة. وقرأ الجمهور بجعل الهمزة الثانية بين بين: أي بين مخرج الهمزة والياء. وقرئ بإخلاص الياء وهو لحن. كما قال الزمخشري: قوله: "إنهم لا أيمان لهم" هذه الجملة تعليل لما قبلها: والأيمان: جمع يمين في قراءة الجمهور. وقرأ ابن عامر " لا أيمان لهم " بكسر الهمزة. والمعنى على قراءة الجمهور: أن أيمان الكافرين وإن كانت في الصورة يميناً فهي في الحقيقة ليست بيمين، وعلى القراءة الثانية: أن هؤلاء الناكثين للأيمان الطاعنين في الدين ليسوا من أهل الإيمان بالله حتى يستحقوا العصمة لدمائهم وأموالهم، فقتالهم واجب على المسلمين. قوله: "لعلهم ينتهون" أي عن كفرهم ونكثهم وطعنهم في دين الإسلام. والمعنى: أن قتالهم يكون إلى الغاية هي الانتهاء عن ذلك. وقد استدل بهذه الآية على أن الذمي إذا طعن في الدين لا يقتل حتى ينكث العهد كما قال أبو حنيفة، لأن الله إنما أمر بقتلهم بشرطين: أحدهما: نقض العهد، والثاني: الطعن في الدين، وذهب مالك والشافعي وغيرهما إلى أنه إذا طعن في الدين قتل لأنه ينتقض عهده بذلك، قالوا: وكذلك إذا حصل من الذمي مجرد النكث فقط من دون طعن في الدين فإنه يقتل.

أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ

قوله: 13- "ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم" الهمزة الداخلة على حرف النفي للاستفهام التوبيخي مع ما يستفاد منها من التحضيض على القتال والمبالغة في تحققه، والمعنى: أن من كان حاله كحال هؤلاء من نقض العهد وإخراج الرسول من مكة والبداءة بالقتال، فهو حقيق بأن لا يترك قتاله، وأن يوبخ من فرط في ذلك: ثم زاد في التوبيخ فقال: "أتخشونهم" فإن هذا الاستفهام للتوبيخ والتقريع: أي تخشون أن ينالكم منهم مكروه فتتركون قتالهم لهذه الخشية، ثم بين ما يجب أن يكون الأمر عليه، فقال: "فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين" أي هو أحق بالخشية منكم، فإنه الضار النافع بالحقيقة، ومن خشيتكم له أن تقاتلوا من أمركم بقتاله، فإن قضية الإيمان توجب ذلك عليكم.

قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ

ثم زاد في تأكيد الأمر بالقتال فقال: 14- "قاتلوهم" ورتب على هذا الأمر فوائد: الأولى: تعذيب الله للكفار بأيدي المؤمنين بالقتل والأسر، والثانية: إخزاؤهم، قيل بالأسر، وقيل بما نزل بهم من الذل والهوان، والثالثة: نصر المسلمين عليهم وغلبتهم لهم، والرابعة: أن الله يشفي بالقتال صدور قوم مؤمنين ممن لم يشهد القتال ولا حضره.

وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ

والخامسة: أنه سبحانه يذهب بالقتال غيظ قلوب المؤمنين الذي نالهم بسبب ما وقع من الكفار من الأمور الجالبة للغيظ وحرج الصدر. فإن قيل: شفاء الصدور وإذهاب غيظ القلوب كلاهما بمعنى فيكون تكراراً، قيل في الجواب: إن القلب أخص من الصدر، وقيل: إن شفاء الصدر إشارة إلى الوعد بالفتح، ولا ريب أن الانتظار لنجاز الوعد مع الثقة به فيهما شفاء للصدر، وأن إذهاب غيظ القلوب إشارة إلى وقوع الفتح، وقد وقعت للمؤمنين ولله الحمد هذه الأمور كلها، ثم قال: "ويتوب الله على من يشاء" وهو ابتداء كلام يتضمن الإخبار بما سيكون، وهو أن بعض الكافرين يتوب عن كفره كما وقع من بعض أهل مكة يوم الفتح، فإنهم أسلموا وحسن إسلامهم، وهذا على قراءة الرفع في يتوب، وهي قراءة الجمهور: وقرئ بنصب يتوب بإضمار أن، ودخول التوبة في جملة ما أجيب به الأمر من طريق المعنى. قرأ بذلك ابن أبي إسحاق وعيسى الثقفي والأعرج. فإن قيل: كيف تقع التوبة جزاء للمقاتلة؟ وأجيب أن القتال قد يكون سبباً لها إذا كانت من جهة الكفار، وأما إذا كانت من جهة المسلمين فوجهه أن النصر والظفر من جهة الله يكون سبباً لخلوص النية والتوبة عن الذنوب.

أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ

قوله: 16- "أم حسبتم أن تتركوا" أم هذه هي المنقطعة التي بمعنى بل، والهمزة والاستفهام للتوبيخ، وحرف الإضراب للدلالة على الانتقال من كلام إلى آخر. والمعنى: كيف يقع الحسبان منكم بأن تتركوا على ما أنتم عليه، وقوله: أن تتركوا في موضع مفعولي الحسبان عند سيبويه. وقال المبرد: إنه حذف الثاني، والتقدير: أم حسبتم أن تتركوا من غير أن تبتلوا بما يظهر به المؤمن والمنافق الظهور الذي يستحق به الثواب والعقاب، وجملة "ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم" في محل نصب على الحال، والمراد من نفي العلم نفي المعلوم، والمعنى كيف تحسبون أنكم تتركون ولما يتبين المخلص منكم في جهاده من غير المخلص، وجملة "ولم يتخذوا" معطوفة على جاهدوا داخلة معه في حكم النفي واقعة في حيز الصلة، والوليجة من الولوج: وهو الدخول، ولج يلج ولوجاً: إذا دخل: فالوليجة: الدخيلة. قال أبو عبيدة: كل شيء أدخلته في شيء ليس منه فهو وليجة. قال أبان بن ثعلب: فبئس الوليجة للهاربيــ ـن والمعتدين وأهل الريب وقال الفراء: الوليجة البطانة من المشركين، والمعنى واحد: أي كيف تتخذون دخيلة أو بطانة من المشركين تفشون إليهم بأسراركم وتعلمونهم أموركم من دون الله "والله خبير بما تعملون" أي بجميع أعمالكم. وقد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد في قوله: "وإن نكثوا أيمانهم" قال: عهدهم. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال: يقول الله لنبيه وإن نكثوا العهد الذي بينك وبينهم فقاتلهم إنهم أئمة الكفر. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله أئمة الكفر قال: أبو سفيان بن حرب وأمية بن خلف وعتبة بن ربيعة وأبو جهل بن هشام وسهيل بن عمرو، وهم الذين نكثوا عهد الله وهموا بإخراج الرسول من مكة. وأخرج ابن عساكر عن مالك بن أنس مثله. وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس "فقاتلوا أئمة الكفر" قال: رؤوس قريش. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عمر قال: أبو سفيان بن حرب منهم. وأخرج أبو الشيخ عن الحسن أنهم الديلم. وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن حذيفة أنهم ذكروا عند هذه الآية فقالوا: ما قوتل أهل هذه الآية بعد. وأخرج ابن مردويه عن علي نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة والبخاري وابن مردويه عن حذيفة قال: ما بقي من أهل هذه الآية إلا ثلاثة، ولا من المنافقين إلا أربعة، فقال أعرابي: إنكم أصحاب محمد تخبروننا لا ندري فما بال هؤلاء الذين ينقرون بيوتنا ويسترقون أعلاقنا، قال: أولئك الفساق، أجل لم يبق منهم إلا أربعة، أحدهم شيخ كبير لو شرب الماء البارد لما وجد برده. والأولى: أن الآية عامة في كل رؤساء الكفار من غير تقييد بزمن معين أو بطائفة معينة اعتباراً بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ومما يفيد ذلك ما أخرجه ابن أبي حاتم عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير أنه كان في عهد أبي بكر الصديق إلى الناس حين وجههم إلى الشام قال: إنكم ستجدون قوماً مجوفة رؤوسهم، فاضربوا مقاعد الشيطان منهم بالسيوف، فوالله لأن أقتل رجلاً منهم أحب إلي من أن أقتل سبعين من غيرهم، وذلك بأن الله يقول: "فقاتلوا أئمة الكفر". وأخرج أبو الشيخ عن حذيفة "لا أيمان لهم" قال: لا عهود لهم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عمار مثله. وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم" قال: قتال قريش حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم وهمهم بإخراج الرسول. زعموا أن ذلك عام عمرة النبي صلى الله عليه وسلم في العام التابع للحديبية، نكثت قريش العهد عهد الحديبية، وجعلوا في أنفسهم إذا دخلوا مكة أن يخرجوا منها، فذلك همهم بإخراجه، فلم تتابعهم خزاعة على ذلك. فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة قالت قريش لخزاعة: عميتمونا عن إخراجه، فقاتلوهم فقتلوا منهم رجالاً. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عكرمة قال: نزلت في خزاعة "قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم" الآية. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي نحوه. وأخرج أبو الشيخ عن قتادة نحوه أيضاً، وقد ساق القصة ابن إسحاق في سيرته، وأورد فيها النظم الذي أرسلته خزاعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأوله: يا رب إني ناشد محمداً حلف أبينا وأبيه الأتلدا وأخرج القصة البيهقي في الدلائل. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس قال: الوليجة: البطانة من غير دينهم. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة قال: وليجة أي خيانة.

مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ

قرأ الجمهور 17- "يعمروا" بفتح حرف المضارعة وضم الميم من عمر يعمر. وقرأ ابن السميفع بضم حرف المضارعة من أعمر يعمر: أي يجعلون لها من يعمرها. وقرأ ابن عباس وسعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح ومجاهد وابن كثير وأبو عمرو وابن محيصن وسهم ويعقوب " مساجد الله " بالإفراد. وقرأ الباقون "مساجد" بالجمع، واختارها أبو عبيدة. قال النحاس: لأنها أعم، والخاص يدخل تحت العام. وقد يحتمل أن يراد بالجمع المسجد الحرام خاصة، وهذا جائز فيما كان من أسماء الأجناس كما يقال فلان يركب الخيل وإن لم يركب إلا فرساً قال: وقد أجمعوا على الجمع في قوله: "إنما يعمر مساجد الله" وروي عن الحسن البصري أنه تعالى إنما قال مساجد والمراد المسجد الحرام لأنه قبلة المساجد كلها وإمامها، فعامره كعامر جميع المساجد. قال الفراء: العرب قد تضع الواحد مكان الجمع كقولهم: فلان كثير الدرهم وبالعكس كقولهم فلان يجالس الملوك ولعله لم يجالس إلا ملكاً واحداً، والمراد بالعمارة إما المعنى الحقيقي أو المعنى المجازي، وهو ملازمته والتعبد فيه، وكلاهما ليس للمشركين، أما الأول: فلأنه يستلزم المنة على المسلمين بعمارة مساجدهم، وأما الثاني: فلكون الكفار لا عبادة لهم مع نهيهم عن قربان المسجد الحرام، ومعنى "ما كان للمشركين" ما صح لهم وما استقام أن يفعلوا ذلك، و "شاهدين على أنفسهم بالكفر" حال: أي ما كان لهم ذلك حال كونهم شاهدين على أنفسهم بالكفر بإظهار ما هو كفر من نصب الأوثان والعبادة لها وجعلها آلهة، فإن هذا شهادة منهم على أنفسهم بالكفر وإن أبوا ذلك بألسنتهم، فكيف يجمعون بين أمرين متنافيين: عمارة المساجد التي هي من شأن المؤمنين، والشهادة على أنفسهم بالكفر التي ليست من شأن من يتقرب إلى الله بعمارة مساجده. وقيل: المارد بهذه الشهادة قولهم في طوافهم: لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك، وقيل: شهادتهم على أنفسهم بالكفر: إن اليهودي يقول: هو يهودي والنصراني يقول: هو نصراني والصابئ يقول: هو صابئ، والمشرك يقول هو مشرك "أولئك حبطت أعمالهم" التي يفتخرون بها ويظنون أنها من أعمال الخير: أي بطلت ولم يبق لها أثر "وفي النار هم خالدون" وفي هذه الجملة الإسمية مع تقديم الظرف المتعلق بالخبر تأكيد لمضمونها.

إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ

ثم بين سبحانه من هو حقيق بعمارة المسجد فقال: 18- "إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر" وفعل ما هو من لوازم الإيمان من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة "ولم يخش" أحداً "إلا الله" فمن كان جامعاً بين هذه الأوصاف فهو الحقيق بعمارة المساجد، لا من كان خالياً منها أو من بعضها، واقتصر على ذكر الصلاة والزكاة والخشية تنبيهاً بما هو من أعظم أمور الدين على ما عداه مما افترضه الله على عباده، لأن كل ذلك من لوازم الإيمان، وقد تقدم الكلام في وجه جمع المساجد وفي بيان ماهية العمارة، ومن جوز الجمع بين الحقيقة والمجاز حمل العمارة هنا عليهما، وفي قوله: "فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين" حسم لأطماع الكفار في الانتفاع بأعمالهم، فإن الموصوفين بتلك الصفات إذا كان اهتداؤهم مرجواً فقط، فكيف بالكفار الذين لم يتصفوا بشيء من تلك الصفات، وقيل عسى من الله واجبة، وقيل هي بمعنى خليق: أي فخليق أن يكونوا من المهتدين، وقيل: إن الرجاء راجع إلى العباد.

أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ

والاستفهام في 19- "أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام" للإنكار، والسقاية والعمارة مصدران كالسعاية والحماية، وفي الكلام حذف، والتقدير: أجعلتم أصحاب سقاية الحاج وعمارة المسجد، أو أهلهما "كمن آمن" حتى يتفق الموضوع والمحمول أو يكون التقدير في الخبر: أي جعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كعمل من آمن أو كإيمان من آمن. وقرأ ابن أبي وجزة السعدي وابن الزبير وسعيد بن جبير أجعلتم سقاة الحاج وعمرة المسجد الحرام، جمع ساق وعامر، وعلى هذه القراءة لا يحتاج إلى تقدير محذوف، والمعنى: أن الله أنكر عليهم التسوية بين ما كان تعمله الجاهلية من الأعمال التي صورتها صورة الخير، وإن لم ينتفعوا بها وبين إيمان المؤمنين وجهادهم في سبيل الله، وقد كان المشركون يفتخرون بالسقاية والعمارة ويفضلونهما على عمل المسلمين، فأنكر الله عليهم ذلك، ثم صرح سبحانه بالمفاضلة بين الفريقين وتفاوتهم وعدم استوائهم فقال: " لا يستون عند الله " أي لا تساوي تلك الطائفة الكافرة الساقية للحجيج العامرة للمسجد الحرام هذه الطائفة المؤمنة بالله واليوم الآخر المجاهدة في سبيله، ودل سبحانه بنفي الاستواء على نفي الفضيلة التي يدعيها المشركون: أي إذا لم تبلغ أعمال الكفار إلى أن تكون مساوية لأعمال المسلمين، فكيف تكون فاضلة عليها كما يزعمون، ثم حكم عليهم بالظلم وأنهم مع ظلمهم بما هم فيه من الشرك لا يستحقون الهداية من الله سبحانه، وفي هذا إشارة إلى الفريق.

الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ

ثم صرح بالفريق الفاضل فقال: 20- "الذين آمنوا" إلى آخره: أي الجامعون بين الإيمان والهجرة والجهاد بالأموال والأنفس "أعظم درجة عند الله" وأحق بما لديه من الخير من تلك الطائفة المشركة المفتخرة بأعمالها المحيطة الباطلة، وفي قوله: "عند الله" تشريف عظيم للمؤمنين، والإشارة بقوله: "أولئك" إلى المتصفين بالصفات المذكورة "هم الفائزون" أي المختصون بالفوز عند الله.

يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ

ثم فسر الفوز بقوله: 21- "يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم" والتنكير في الرحمة والرضوان والجنات للتعظيم، والمعنى أنها فوق وصف الواصفين وتصور المتصورين. والنعيم المقيم: الدائم المستمر الذي لا يفارق صاحبه.

خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ

وذكر الأبد بعد الخلود تأكيد له، وجملة 22- "إن الله عنده أجر عظيم" مؤكدة لما قبلها مع تضمنها للتعليل: أي أعطاهم الله سبحانه هذه الأجور العظيمة لكون الأجر الذي عنده عظيم يهب منه ما يشاء لمن يشاء، وهو ذو الفضل العظيم. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله" وقال: "إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر" فنفى المشركين من المسجد "من آمن بالله" يقول: من وحد الله وآمن بما أنزل الله: "وأقام الصلاة" يعني الصلوات الخمس "ولم يخش إلا الله" يقول: لم يعبد إلا الله "فعسى أولئك" يقول: أولئك هم المهتدون كقوله لنبيه صلى الله عليه وسلم: "عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً" يقول: إن ربك سيبعثك مقاماً محموداً، وهي الشفاعة، وكل عسى في القرآن فهي واجبة. وأخرج أحمد وعبد بن حميد والدارمي والترمذي وحسنه وابن ماجه وابن المنذر والبيهقي في سننه عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان". قال الله تعالى: "إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر". وقد وردت أحاديث كثيرة في استحباب ملازمة المساجد وعمارتها والتردد إليها للطاعات. وأخرج مسلم وأبو داود وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عن النعمان بن بشير قال:" كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه فقال رجل منهم: ما أبالي أن لا أعمل لله عملاً بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج، وقال آخر: بل عمارة المسجد الحرام، وقال آخر: بل جهاد في سبيل الله خير مما قلتم، فزجرهم عمر، وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك يوم الجمعة، ولكن إذا صليت الجمعة دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيه فيما اختلفتم فيه، فأنزل الله: "أجعلتم سقاية الحاج" إلى قوله: "لا يهدي القوم الظالمين"". وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "أجعلتم سقاية الحاج" الآية. وذلك أن المشركين قالوا عمارة بيت الله وقيام على السقاية خير ممن آمن وجاهد، فكانوا يفخرون بالحرم ويستكبرون به من أجل أنهم أهله وعماره، فذكر الله سبحانه استكبارهم وإعراضهم، فقال لأهل الحرم من المشركين: " قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون * مستكبرين به سامرا تهجرون " يعني أنهم كانوا يستكبرون بالحرم، وقال به سامراً: كانوا به يسمرون ويهجرون بالقرآن والنبي صلى الله عليه وسلم، فخير الإيمان بالله والجهاد مع نبي الله على عمران المشركين البيت وقيامهم على السقاية ولم يكن لينفعهم عند الله مع الشرك به وإن كانوا يعمرون بيته ويخدمونه قال الله: " لا يستون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين " يعني الذين زعموا أنهم أهل العمارة فسماهم ظالمين بشركهم فلم تغن عنهم العمارة شيئاً، وفي إسناده العوفي وهو ضعيف. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: قال العباس حين أسر يوم بدر: إن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد لقد كنا نعمر المسجد الحرام ونسقي الحاج ونفك العاني، فأنزل الله: "أجعلتم سقاية الحاج" الآية: يعني أن ذلك كان في الشرك فلا أقبل ما كان في الشرك. وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً في الآية قال: نزلت في علي بن أبي طالب والعباس. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الشعبي قال: تفاخر علي والعباس وشيبة في السقاية والحجابة فأنزل الله: "أجعلتم سقاية الحاج" الآية، وقد روي معنى هذا من طرق.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آَبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ

23- " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون " الخطاب للمؤمنين كافة، وهو حكم باق إلى يوم القيامة يدل على قطع الولاية بين المؤمنين والكافرين، وقالت طائفة من أهل العلم: إنها نزلت في الحض على الهجرة ورفض بلاد الكفر، فيكون الخطاب لمن كان من المؤمنين بمكة وغيرها من بلاد العرب، نهوا أن يوالوا الآباء والإخوة فيكونون لهم تبعاً في سكنى البلاد والكفر إن استحبوا: أي أحبوا، كما يقال: استجاب بمعنى أجاب، وهو في الأصل طلب المحبة، وقد تقدم تحقيق المقام في سورة المائدة في قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء" ثم حكم على من يتولى من استحب الكفر على الإيمان من الآباء والإخوان بالظلم، فدل ذلك على أن تولي من كان كذلك من أعظم الذنوب وأشدها.

قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَر

ثم أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم: 24- "إن كان آباؤكم" إلى آخره، والعشيرة: الجماعة التي ترجع إلى عقد واحد، وعشيرة الرجل قرابته الأدنون، وهم الذين يعاشرونه وهي اسم جمع. وقرأ أبو بكر وحماد " عشيرتكم " بالجمع. قال الأخفش لا تكاد العرب تجمع عشيرة على عشيرات، وإنما يجمعونها على عشائر. وقرأ الحسن " عشيرتكم ". وقرأ الباقون "عشيرتكم" والاقتراف: الاكتساب، وأصله اقتطاع الشيء من مكانه، والتركيب يدور على الدنو، والكاسب يدني الشيء من نفسه ويدخله تحت ملكه، والتجارة الأمتعة التي يشترونها ليربحوا فيها، والكساد عدم النفاق لفوات وقت بيعها بالهجرة ومفارقة الأوطان. ومن غرائب التفسير ما روي عن ابن المبارك أنه قال: إن المراد بالتجارة في هذه الآية البنات والأخوات إذا كسدن في البيت لا يجدن لهن خاطباً، واستشهد لذلك بقول الشاعر: كسدن من الفقر في قومهن وقد زادهن مقامي كسادا وهذا البيت وإن كان فيه إطلاق الكساد على عدم وجود الخاطب لهن فليس فيه جواز إطلاق اسم التجارة عليهن، والمراد بالمساكن التي يرضونها: المنازل التي تعجبهم وتميل إليها أنفسهم ويرون الإقامة فيها أحب إليهم من المهاجرة إلى الله ورسوله، وأحب خبر كان: أي كانت هذه الأشياء المذكورة في الآية أحب إليكم من الله ورسوله ومن الجهاد في سبيل الله "فتربصوا" أي انتظروا "حتى يأتي الله بأمره" فيكم وما تقتضيه مشيئته من عقوبتكم، وقيل المراد بأمر الله سبحانه: القتال، وقيل فتح مكة وفيه بعد، فقد روي أن هذه السورة نزلت بعد الفتح. وفي هذا وعيد شديد ويؤكده إبهام الأمر وعدم التصريح به لتذهب أنفسهم كل مذهب وتتردد بين أنواع العقوبات "والله لا يهدي القوم الفاسقين" أي الخارجين عن طاعته، النافرين عن امتثال أوامره ونواهيه. وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد قال: أمروا بالهجرة فقال العباس بن عبد المطلب: أنا أسقي الحاج. وقال طلحة أخو بني عبد الدار: أنا أحجب الكعبة فلا نهاجر، فأنزلت: "لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم" الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل في هذه الآية قال: هي الهجرة. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة "اقترفتموها" قال: أصبتموها. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "حتى يأتي الله بأمره" قال: بالفتح في أمره بالهجرة، هذا كله قبل فتح مكة. وأخرج البيهقي من حديث عبد الله بن شوذب قال: جعل أبو أبي عبيدة بن الجراح ينعت له الآلهة يوم بدر، وجعل أبو عبيدة يحيد عنه، فلما أكثر الجراح قصده ابنه أبو عبيدة فقتله، فأنزل الله: "لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر" الآية، وهي تؤكد معنى هذه الآية، وقد تقدم بيان حكم الهجرة في سورة النساء.

لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ

المواطن جمع موطن، ومواطن الحرب: مقاماتها، والمواطن التي نصر الله المسلمين فيها هي يوم بدر وما بعد من المواطن التي نصر الله المسلمين على الكفار فيها قبل يوم حنين، 25- "ويوم حنين" معطوف على مواطن بتقدير مضاف: إما في الأول وتقديره في أيام مواطن، أو في الثاني وتقديره وموطن يوم حنين، لئلا يعطف الزمان على المكان. ورد بأنه لا استبعاد في عطف الزمان على المكان فلا يحتاج إلى تقدير، وقيل: إن يوم حنين منصور بفعل مقدر معطوف على "نصركم" أي ونصركم يوم حنين، ورجح هذا صاحب الكشاف، قال: وموجب ذلك أن قوله: "إذ أعجبتكم" بدل من يوم حنين، فلو جعلت ناصبة هذا الظاهر لم يصح، لأن كثرتهم لم تعجبهم في جميع تلك المواطن، ولم يكونوا كثيراً في جميعها. ورد بأن العطف لا يجب فيه تشارك المتعاطفين في جميع ما ثبت للمعطوف، كما تقول: جاءني زيد وعمرو مع قومه، أو في ثيابه أو على فرسه، وقيل إن "إذ أعجبتكم كثرتكم" ليس ببدل من يوم حنين، بل منصوب بفعل مقدر: أي اذكروا إذ أعجبتكم كثرتكم، وحنين: واد بين مكة والطائف، وانصرف على أنه اسم للمكان، ومن العرب من يمنعه على أنه اسم للبقعة، ومنه قول الشاعر: نصروا نبيهم وشدوا أزره بحنين يوم تواكل الأبطال وإنما أعجب من أعجب من المسلمين بكثرتهم لأنهم كانوا إثني عشر ألفاً، وقيل: أحد عشر ألفاً، وقيل: ستة عشر ألفاً، فقال بعضهم: لن نغلب اليوم من قلة، فوكلوا إلى هذه الكلمة فلم تغن الكثرة شيئاً عنهم، بل انهزموا وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبت معه طائفة يسيرة منهم عمه العباس وأبو سفيان بن الحارث، ثم تراجع المسلمون فكان النصر والظفر. والإغناء: إعطاء ما يدفع الحاجة: أي لم تعطكم الكثرة شيئاً يدفع حاجتكم ولم تفدكم. قوله: "بما رحبت" الرحب بضم الراء: السعة، والرحب بفتح الراء: المكان الواسع، والباء بمعنى مع، وما مصدرية، ومحل الجار والمجرور النصب على الحال. والمعنى: أن الأرض مع كونها واسعة الأطراف ضاقت عليهم بسبب ما حل بهم من الخوف والوجل، وقيل إن الباء بمعنى على: أي على رحبها "ثم وليتم مدبرين" أي انهزمتم حال كونكم مدبرين: أي مولين أدباركم جاعلين لها إلى جهة عدوكم.

ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ

قوله: 26- "ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين": هم الذين لم ينهزموا، وقيل الذين انهزموا، والظاهر جميع من حضر منهم لأنهم ثبتوا بعد ذلك وقاتلوا وانتصروا. قوله: "وأنزل جنوداً لم تروها" هم الملائكة. وقد اختلف في عددهم على أقوال: قيل خمسة آلاف، وقيل ثمانية آلاف، وقيل ستة عشر ألفاً، وقيل غير ذلك، وهذا لا يعرف إلا من طريق النبوة. واختلفوا أيضاً هل قاتلت الملائكة في هذا اليوم أم لا؟ وقد تقدم أن الملائكة لم تقاتل إلا يوم بدر، وأنهم إنما حضروا في غير بدر لتقوية قلوب المؤمنين، وإدخال الرعب في قلوب المشركين "وعذب الذين كفروا" بما وقع عليهم من القتل والأسر وأخذ الأموال وسبي الذرية، والإشارة بقوله: "وذلك" إلى التعذيب المفهوم من عذب، وسمي ما حل بهم من العذاب في هذا اليوم جزاء مع أنه غير كاف بل لا بد من عذاب الآخرة مبالغة في وصف ما وقع عليهم وتعظيماً له.

ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ

27- "ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء" أي من بعد هذا التعذيب على من يشاء ممن هداه منهم إلى الإسلام "والله غفور" يغفر لمن أذنب فتاب "رحيم" بعباده يتفضل عليهم بالمغفرة لما اقترفوه. وقد أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة قال: حنين ما بين مكة والطائف، قاتل نبي الله هوازن وثقيف، وعلى هوازن مالك بن عوف، وعلى ثقيف عبد ياليل بن عمرو الثقفي. وأخرج ابن المنذر عن الحسن قال: " لما اجتمع أهل مكة وأهل المدينة قالوا: الآن نقاتل حين اجتمعنا، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قالوا وما أعجبهم من كثرتهم، فالتقوا فهزموا حتى ما يقوم أحد منهم على أحد حتى جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي أحياء العرب: إلي إلي، فوالله ما يعرج عليه أحد حتى أعرى موضعه، فالتفت إلى الأنصار وهم ناحية فناداهم: يا أنصار الله وأنصار رسوله، إلي عباد الله أنا رسول الله، فجثوا يبكون وقالوا: يا رسول الله ورب الكعبة إليك والله، فنكسوا رؤوسهم يبكون وقدموا أسيافهم يضربون بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى فتح الله عليهم". وأخرج البيهقي في الدلائل عن الربيع "أن رجلاً قال يوم حنين: لن نغلب من قلة، فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله: " ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم " قال الربيع: وكانوا إثني عشر ألفاً، منهم ألفان من أهل مكة". وأخرج الطبراني والحاكم وصححه وأبو نعيم والبيهقي في الدلائل عن ابن مسعود قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، فولى عنه الناس وبقيت معه في ثمانين رجلاً من المهاجرين والأنصار، فكنا على أقدامنا نحواً من ثمانين قدماً ولم نولهم الدبر، وهم الذين أنزل الله عليهم السكينة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء يمضي قدماً، فقال: ناولني كفاً من تراب، فناولته فضرب به وجوههم فامتلأت أعينهم تراباً، وولى المشركون أدبارهم، ووقعة حنين مذكورة في كتب السير والحديث بطولها وتفاصيلها فلا نطول بذلك. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله: "وأنزل جنوداً لم تروها" قال: هم الملائكة "وعذب الذين كفروا" قال: قتلهم بالسيف. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: في يوم حنين أمد الله رسوله بخمسة آلاف من الملائكة مسومين، ويومئذ سمى الله الأنصار مؤمنين قال: فأنزل سكينته على رسوله وعلى المؤمنين. وأخرج ابن إسحاق وابن المنذر وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي عن جبير بن مطعم قال: رأيت قبل هزيمة القوم والناس يقتتلون مثل النجاد الأسود أقبل من السماء حتى سقط بين القوم، فنظرت فإذا نمل أسود مبثوث قد ملأ الوادي، لم أشك أنها الملائكة، ولم تكن إلا هزيمة القوم.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ

النجس: مصدر لا يثنى ولا يجمع، يقال: رجل نجس، وامرأة نجس، ورجلان نجس، وامرأتان نجس، ورجال نجس، ونساء نجس، ويقال: نجس ونجس بكسر الجيم وضمها، ويقال: نجس بكسر النون وسكون الجيم وهو تخفيف من المحرك، قيل: لا تستعمل إلا إذا قيل معه رجس، وقيل ذلك أكثري لا كلي. والمشركون مبتدأ، وخبره المصدر مبالغة في وصفهم بذلك حتى كأنهم عين النجاسة، أو على تقدير مضاف: أي ذوو نجس، لأن معهم الشرك وهو بمنزلة النجس. وقال قتادة ومعمر وغيرهما: إنهم وصفوا بذلك لأنهم لا يتطهرون ولا يغتسلون ولا يتجنبون النجاسات. وقد استدل بالآية من قال بأن المشرك نجس الذات كما ذهب إليه بعض الظاهرية والزيدية. وروي عن الحسن البصري وهو محكي عن ابن عباس. وذهب الجمهور من السلف والخلف ومنهم أهل المذاهب الأربعة إلى أن الكافر ليس بنجس الذات، لأن الله سبحانه أحل طعامهم، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك من فعله وقوله ما يفيد عدم النجاسة ذواتهم، فأكل في آنيتهم وشرب منها وتوضأ فيها وأنزلهم في مسجده. قوله: 28- "فلا يقربوا المسجد الحرام" الفاء للتفريع، فعدم قربانهم للمسجد الحرام متفرع على نجاستهم. والمراد بالمسجد الحرام جميع الحرم، روي ذلك عن عطاء، فيمنعون عنده من جميع الحرم، وذهب غيره من أهل العلم إلى أن المراد المسجد الحرام نفسه فلا يمنع المشرك من دخول سائر الحرم. وقد اختلف أهل العلم في دخول المشرك غير المسجد الحرام من المساجد، فذهب أهل المدينة إلى منع كل مشرك عن كل مسجد. وقال الشافعي: الآية عامة في سائر المشركين خاصة في المسجد الحرام، فلا يمنعون من دخول غيره من المساجد. قال ابن العربي: وهذا جمود منه على الظاهر، لأن قوله تعالى: "إنما المشركون نجس"، تنبيه على العلة بالشرك والنجاسة، ويجاب عنه بأن هذا القياس مردود بربطه صلى الله عليه وسلم لثمامة بن أثال في مسجده، وإنزال وفد ثقيف فيه. وروي عن أبي حنيفة مثل قول الشافعي، وزاد أنه يجوز دخول الذمي سائر المساجد من غير حاجة، وقيده الشافعي بالحاجة. وقال قتادة: إنه يجوز ذلك للذمي دون المشرك. وروي عن أبي حنيفة أيضاً أنه يجوز لهم دخول الحرم والمسجد الحرام وسائر المساجد، ونهى المشركين عن أن يقربوا المسجد الحرام هو نهي للمسلمين عن أن يمكنوهم من ذلك، فهو من باب قولهم: لا أرينك هاهنا. قوله: "بعد عامهم هذا" فيه قولان: أحدهما: أنه سنة تسع، وهي التي حج فيها أبو بكر على الموسم. الثاني: أنه سنة عشر قاله قتادة، قال ابن العربي: وهو الصحيح الذي يعطيه مقتضى اللفظ، ومن العجب أن يقال إنه سنة تسع، وهو العام الذي وقع فيه الأذان، ولو دخل غلام رجل داره يوماً فقال له مولاه: لا تدخل هذه الدار بعد يومك لم يكن المراد اليوم الذي دخل فيه انتهى. ويجاب عنه بأن الذي يعطيه مقتضى اللفظ هو خلاف ما زعمه، فإن الإشارة بقوله: "بعد عامهم هذا" إلى العام المذكور قبل اسم الإشارة وهو عام النداء، وهكذا في المثال الذي ذكره المراد النهي عن دخولها بعد يوم الدخول الذي وقع فيه الخطاب، والأمر ظاهر لا يخفى، ولعله أراد تفسير ما بعد المضاف إلى عامهم ولا شك أنه عام عشر، وأما تفسير العام المشار إليه بهذا، فلا شك ولا ريب أنه عام تسع، وعلى هذا يحمل قول قتادة. وقد استدل من قال بأنه يجوز للمشركين دخول المسجد الحرام وغيره من المساجد بهذا القيد، أعني قوله: "بعد عامهم هذا" قائلاً إن النهي مختص بوقت الحج والعمرة، فهم ممنوعون عن الحج والعمرة فقط لا عن مطلق الدخول. ويجاب عنه بأن ظاهر النهي عن القربان بعد هذا العام يفيد المنع من القربان في كل وقت من الأوقات الكائنة بعده، وتخصيص بعضها بالجواز يحتاج إلى مخصص. قوله: "وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله" العيلة الفقر، يقال: عال الرجل يعيل: إذا افتقر، قال الشاعر: وما يدري الفقير متى غناه وما يدري الغني متى يعيل وقرأ علقمة وغيره من أصحاب ابن مسعود عايلة وهو مصدر كالقايلة والعافية والعاقبة، وقيل معناه: خصلة شاقة، يقال: عالني الأمر يعولني: أي شق علي واشتد. وحكى ابن جرير الطبري أنه يقال عال يعول: إذا افتقر، وكان المسلمون لما منعوا المشركين من الموسم وهم كانوا يجلبون إليه الأطعمة والتجارات، قذف الشيطان في قلوبهم الخوف من الفقر وقالوا: من أين نعيش؟ فوعدهم الله أن يغنيهم من فضله. قال الضحاك: ففتح الله عليهم باب الجزية من أهل الذمة بقوله: "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله" الآية. وقال عكرمة: أغناهم بإدرار المطر والنبات وخصب الأرض، وأسلمت العرب فحملوا إلى مكة ما أغناهم الله به. وقيل أغناهم بالفيء، وفائدة التقييد بالمشيئة التعليم للعباد بأن يقولوا ذلك في كل ما يتكلمون به مما له تعلق بالزمن المستقبل، ولئلا يفتروا عن الدعاء والتضرع "إن الله عليم" بأحوالكم "حكيم" في إعطائه ومنعه، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.

قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ

قوله: 29- "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله" الآية، فيه الأمر بقتال من جمع بين هذه الأوصاف. قال أبو الوفاء بن عقيل: إن قوله: "قاتلوا" أمر بالعقوبة، ثم قال: "الذين لا يؤمنون بالله" فبين الذنب الذي توجبه العقوبة، ثم قال: "ولا باليوم الآخر" فأكد الذنب في جانب الاعتقاد، ثم قال: "ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله" فيه زيادة للذنب في مخالفة الأعمال، ثم قال: "ولا يدينون دين الحق" فيه إشارة إلى تأكيد المعصية بالانحراف والمعاندة والأنفة عن الاستسلام، ثم قال: "من الذين أوتوا الكتاب" تأكيد للحجة عليهم لأنهم كانوا يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل، ثم قال: "حتى يعطوا الجزية" فبين الغاية التي تمتد إليها العقوبة انتهى. قوله: "من الذين أوتوا الكتاب" بيان للموصول مع ما في خبره وهم أهل التوراة والإنجيل. قوله: "حتى يعطوا الجزية عن يد" الجزية وزنها فعلة من جزى يجزي: إذا كافأ عما أسدي إليه، فكأنهم أعطوها جزاء عما منحوا من الأمن، وقيل: سميت جزية لأنها طائفة مما على أهل الذمة أن يجزون: أي يقضوه، وهي في الشرع ما يعطيه المعاهد على عهده، و "عن يد" في محل نصب على الحال. والمعنى: عن يد مواتية غير ممتنعة وقيل معناه: يعطونها بأيديهم غير مستنيبين فيها أحداً، وقيل معناه: نقد غير نسيئة، وقيل عن قهر، وقيل معناه: عن إنعام منكم عليهم، لأن أخذها منهم نوع من أنواع الإنعام عليهم، وقيل معناه: مذمومون. وقد ذهب جماعة من أهل العلم منهم الشافعي وأحمد وأبو حنيفة وأصحابه والثوري وأبو ثور إلى أنها لا تقبل الجزية إلا من أهل الكتاب. وقال الأوزاعي ومالك: إن الجزية تؤخذ من جميع أجناس الكفرة كائناً من كان، ويدخل في أهل الكتاب على القول الأول المجوس. قال ابن المنذر: لا أعلم خلافاً في أن الجزية تؤخذ منهم. وقد اختلف أهل العلم في مقدار الجزية، فقال عطاء: لا مقدار لها، وإنما تؤخذ على ما صولحوا عليه، وبه قال يحيى بن آدم وأبو عبيد وابن جرير إلا أنه قال: أقلها دينار وأكثرها لا حد له. وقال الشافعي: دينار على الغني والفقير من الأحرار البالغين لا ينقص منه شيء، وبه قال أبو ثور. قال الشافعي: وإن صولحوا على أكثر من دينار جاز، وإذا زادوا وطابت بذلك أنفسهم قبل منهم. وقال مالك: إنه أربعة دنانير على أهل الذهب، وأربعون درهماً على أهل الورق، الغني والفقير سواء، ولو كان مجوسياً لا يزيد ولا ينقص. وقال أبو حنيفة وأصحابه ومحمد بن الحسن وأحمد بن حنبل: إثنا عشر وأربعة وعشرون وثمانية وأربعون. والكلام في الجزية مقرر في مواطنه، والحق من هذه الأقوال قد قررناه في شرحنا للمنتقي وغيره من مؤلفاتنا. قوله: "وهم صاغرون" في محل نصب على الحال، والصغار الذل. والمعنى: إن الذمي يعطي الجزية حال كونه صاغراً، قيل: وهو أن يأتي بها بنفسه ماشياً غير راكب ويسلمها وهو قائم، والمتسلم قاعد. وبالجملة ينبغي للقابض للجزية أن يجعل المسلم لها حال قبضها صاغراً ذليلاً. وقد أخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن جابر بن عبد الله في قوله: "إنما المشركون نجس" الآية قال: إلا أن يكون عبداً أو أحداً من أهل الذمة. وقد روي مرفوعاً من وجه آخر. أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل مسجدنا هذا بعد عامنا هذا مشرك إلا أهل العهد وخدمكم". قال ابن كثير: تفرد به أحمد مرفوعاً، والموقوف أصح. وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان المشركون يجيئون إلى البيت ويجيئون معهم بالطعام يتجرون به، فلما نهوا عن أن يأتوا البيت، قال المسلمون: فمن أين لنا الطعام؟ فأنزل الله: "وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء" قال: فأنزل الله عليهم المطر، وكثر خيرهم حيث ذهب المشركون عنهم. وأخرج ابن مردويه عنه قال: فأغناهم الله من فضله وأمرهم بقتال أهل الكتاب. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله: "وإن خفتم عيلة" قال: الفاقة. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: "فسوف يغنيكم الله من فضله" قال: بالجزية. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن الضحاك مثله. وأخرج نحوه عبد الرزاق عن قتادة. وأخرج أبو الشيخ عن الحسن في قوله: "إنما المشركون نجس" قال: قذر. وأخرج أبو الشيخ عنه أيضاً قال: من صافحهم فليتوضأ. وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صافح مشركاً فليتوضأ أو ليغسل كفيه". وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي في سننه عن مجاهد في قوله: "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله" قال: نزلت هذه الآية حين أمر محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه بغزوة تبوك. وأخرج ابن المنذر عن ابن شهاب قال: نزلت في كفار قريش والعرب "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة" وأنزلت في أهل الكتاب: "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله" الآية إلى قوله: "حتى يعطوا الجزية" فكان أول من أعطى الجزية أهل نجران. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير في قوله: "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله" يعني الذين لا يصدقون بتوحيد الله "ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله" يعني الخمر والحرير "ولا يدينون دين الحق" يعني دين الإسلام "من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون" يعني مذللون. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: "عن يد" قال: عن قهر. وأخرج ابن أبي حاتم عن سفيان بن عيينة في قوله: "عن يد" قال: من يده ولا يبعث بها غيره. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أبي سنان في قوله: "عن يد" قال: عن قدرة. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "وهم صاغرون" قال: يمشون بها متلتلين. وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال: يلكزون. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن سلمان في الآية قال: غير محمودين.

وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ

قوله: 30- " وقالت اليهود عزير ابن الله " كلام مبتدأ لبيان شرك أهل الكتابين، وعزير مبتدأ وابن الله خبره، وقد قرأ عاصم والكسائي "عزير" بالتنوين، وقرأ الباقون بترك التنوين لاجتماع العجمة والعلمية فيه. ومن قرأ بالتنوين فقد جعله عربياً، وقيل إن سقوط التنوين ليس لكونه ممتنعاً بل لاجتماع الساكنين، ومنه قراءة من قرأ: " قل هو الله أحد * الله الصمد ". قال أبو علي الفارسي وهو كثير في الشعر، وأنشد ابن جرير الطبري: لتجديني بالأمير براً وبالقناة لامرا مكراً إذا غطيت السلمي فرا وظاهر قوله: "وقالت اليهود" إن هذه المقالة لجميعهم، وقيل: هو لفظ خرج على العموم، ومعناه الخصوص لأنه لم يقل ذلك إلا البعض منهم. وقال النقاش: لم يبق يهودي يقولها؟ بل قد انقرضوا، وقيل: إنه قال ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم جماعة منهم، فنزلت الآية متضمنة لحكاية ذلك عن اليهود، لأن قول بعضهم لازم لجميعهم. قوله: "وقالت النصارى المسيح ابن الله" قالوا هذا لما رأوا من إحيائه الموتى مع كونه من غير أب، فكان ذلك سبباً لهذه المقالة. والأولى: أن يقال: إنهم قالوا هذه المقالة لكون في الإنجيل وصفه تارة بابن الله وتارة بابن الإنسان، كما رأينا ذلك في مواضع متعددة من الإنجيل، ولم يفهموا أن ذلك لقصد التشريف والتكريم، أو لم يظهر لهم أن دلك من تحريف سلفهم لغرض من الأغراض الفاسدة، قيل: وهذه المقالة إنما هي لبعض النصارى لا لكلهم. قوله: "ذلك قولهم بأفواههم" الإشارة إلى ما صدر عنهم من هذه المقالة الباطلة. ووجه قولهم بأفواههم مع العلم بأن القول لا يكون إلا الفم، بأن هذا القول لما كان ساذجاً ليس فيه بيان ولا عضده برهان كان مجرد دعوى، لا معنى تحتها فارغة صادرة عنهم صدور المهملات التي ليس فيها إلا كونها خارجة من الأفواه، غير مفيدة لفائدة يعتد بها، وقيل: إن ذكر الأفواه لقصد التأكيد كما في كتبت بيدي ومشيت برجلي، ومنه قوله تعالى: "يكتبون الكتاب بأيديهم". وقوله: "ولا طائر يطير بجناحيه". وقال بعض أهل العلم: إن الله سبحانه لم يذكر قولاً مقروناً بذكر الأفواه والألسن إلا وكان قولاً زوراً كقوله: "يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم". وقوله: "كبرت كلمة تخرج من أفواههم". وقوله: "يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم". قوله: "يضاهئون قول الذين كفروا" المضاهاة: المشابهة، قيل: ومنه قول العرب امرأة ضهياء، وهي التي لا تحيض لأنها شابهت الرجال. قال أبو علي الفارسي: من قال "يضاهئون" مأخوذ من قولهم امرأة ضهياء فقوله خطأ، لأن الهمزة في ضاهأ أصلية، وفي ضهياء زائدة كحمراء، وأصله يضاهئون وامرأة ضهياء. ومعنى مضاهاتهم لقول الذين كفروا فيه أقوال لأهل العلم: الأول: أنهم شابهوا بهذه المقالة عبدة الأوثان في قولهم واللات والعزى ومناة بنات الله. القول الثاني: أنهم شابهوا أسلافهم القائلين بأن عزير ابن الله وأن المسيح ابن الله. قوله: "قاتلهم الله" دعاء عليهم بالهلاك، لأن من قاتله الله هلك، وقيل: هو تعجب من شناعة قولهم، وقيل معنى قاتلهم الله: لعنهم الله، ومنه قول أبان بن ثعلب: قاتلها الله تلحاني وقد علمت أني لنفسي إفسادي وإصلاحي وحكى النقاش أن أصل (قاتل الله): الدعاء، ثم كثر في استعمالهم حتى قالوه على التعجب في الخير والشر وهم لا يريدون الدعاء، وأنشد الأصمعي: يا قاتل الله ليلى كيف تعجبني وأخبر الناس أني لا أباليها "أنى يؤفكون" أي كيف يصرفون عن الحق إلى الباطل.

اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ

قوله: 31- "اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله" الأحبار: جمع حبر، وهو الذي يحسن القول، ومنه ثوب محبر، وقيل: جمع حبر بكسر الحاء. قال يونس: لم أسمعه إلا بكسر الحاء. وقال الفراء: الفتح والكسر لغتان. وقال ابن السكيت: الحبر بالكسر العالم، والحبر بالفتح العالم. والرهبان جمع راهب مأخوذ من الرهبة، وهم علماء النصارى كما أن الأحبار علماء اليهود. ومعنى الآية أنهم لما أطاعوهم فيما يأمرونهم به وينهونهم عنه كانوا بمنزلة المتخذين لهم أرباباً لأنهم أطاعوهم كما تطاع الأرباب. قوله: "والمسيح ابن مريم" معطوف على رهبانهم: أي اتخذه النصارى رباً معبوداً، وفيه إشارة إلى أن اليهود لم يتخذوا عزير رباً معبوداً. وفي هذه الآية ما يزجر من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد عن التقليد في دين الله، وتأثير ما يقوله الأسلاف على ما في الكتاب العزيز والسنة المطهرة، فإن طاعة المتمذهب لمن يقتدي بقوله ويستن بسنته من علماء هذه الأمة مع مخالفته لما جاءت به النصوص وقامت به حجج الله وبراهينه ونطقت به كتبه وأنبياؤه، هو كاتخاذ اليهود والنصارى للأحبار والرهبان أرباباً من دون الله، للقطع بأنهم لم يعبدوهم بل أطاعوهم وحرموا ما حرموا وحللوا ما حللوا، وهذا هو صنيع المقلدين من هذه الأمة، وهو أشبه به من شبه البيضة بالبيضة، والتمرة بالتمرة، والماء بالماء، فيا عباد الله ويا أتباع محمد بن عبد الله ما بالكم تركتم الكتاب والسنة جانباً، وعمدتم إلى رجال هم مثلكم في تعبد الله لهم بهما وطلبه منهم للعمل بما دلا عليه وأفاده، فعلتم بما جاءوا به من الآراء التي لم تعمد بعماد الحق، ولم تعضد بعضد الدين ونصوص الكتاب والسنة، تنادي بأبلغ نداء وتصوت بأعلى صوت بما يخالف ذلك ويباينه، فأعرتموهما آذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، وأفهاماً مريضة، وعقولاً مهيضة، وأذهاناً كليلة، وخواطر عليلة، وأنشدتم بلسان الحال: وما أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد فدعوا أرشدكم الله وإياي كتباً كتبها لكم الأموات من أسلافكم، واستبدلوا بها كتاب الله خالقهم وخالقكم ومتعبدهم ومتعبدكم ومعبودهم ومعبودكم، واستبدلوا بأقوال من تدعونهم بأئمتكم وما جاءوكم به من الرأي بأقوال إمامكم وإمامهم وقدوتكم وقدوتهم، وهو الإمام الأول محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم. دعوا كل قول عند قول محمد فما آبن في دينه كمخاطر اللهم هادي الضال، مرشد التائه، موضح السبيل، اهدنا إلى الحق وأرشدنا إلى الصواب، وأوضح لنا منهج الهداية. قوله: "وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً" هذه الجملة في محل نصب على الحال: أي اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً، والحال أنهم ما أمروا إلا بعبادة الله وحده، أو وما أمر الذين اتخذوهم أرباباً من الأحبار والرهبان إلا بذلك، فكيف يصلحون لما أهلوهم له من اتخاذهم أرباباً. قوله: "لا إله إلا هو" صفة ثانية لقوله إلهاً "سبحانه عما يشركون" أي تنزيهاً له عن الإشراك في طاعته وعبادته.

يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ

قوله: 32- "يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم" هذا كلام يتضمن ذكر نوع آخر من أنواع ضلالهم وبعدهم عن الحق وهو ما راموه من إبطال الحق بأقاويلهم الباطلة التي هي مجرد كلمات ساذجة ومجادلات زائفة، وهذا تمثيل لحالهم في محاولة إبطال دين الحق ونبوة نبي الصدق، بحال من يريد أن ينفخ في نور عظيم قد أنارت به الدنيا وانقشعت به الظلمة ليطفئه ويذهب أضواءه "ويأبى الله إلا أن يتم نوره" أي دينه القويم، وقد قيل: كيف دخلت إلا الاستثنائية على يأبى، ولا يجوز كرهت أو بغضت إلا زيداً. قال الفراء: إنما دخلت لأن في الكلام طرفاً من الجحد. وقال الزجاج: إن العرب تحذف مع أبى، والتقدير ويأبى الله كل شيء إلا أن يتم نوره. وقال علي بن سليمان: إنما جاز هذا في أبى، لأنها منع أو امتناع فضارعت النفي. قال النحاس: وهذا أحسن كما قال الشاعر: وهل لي أم غيرها إن تركتها أبى الله إلا أن أكون لها إبنا وقال صاحب الكشاف: إن أبر قد أجري مجرى لم يرد: أي ولا يريد إلا أن يتم نوره. قوله: "ولو كره الكافرون" معطوف على جملة قبله مقدرة: أي أبى الله إلا أن يتم نوره، ولو لم يكره الكافرون ذلك ولو كرهوا.

هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ

ثم أكد هذا بقوله: 33- "هو الذي أرسل رسوله بالهدى" أي بما يهدي به الناس من البراهين والمعجزات والأحكام التي شرعها الله لعباده "ودين الحق" وهو الإسلام "ليظهره" أي ليظهر رسوله، أو دين الحق بما اشتمل عليه من الحجج والبراهين، وقد وقع ذلك ولله الحمد "ولو كره المشركون" الكلام فيه كالكلام في "ولو كره الكافرون" كما قدمنا ذلك. وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم سلام بن مشكم ونعمان بن أوفى وأبو أنس وشاس بن قيس ومالك بن الصيف فقالوا: كيف نتبعك وقت تركت قبلتنا وأنت لا تزعم أن عزير ابن الله؟ فأنزل الله: "وقالت اليهود عزير ابن الله" الآية. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عنه قال: كن نساء بني إسرائيل يجتمعن بالليل فيصلين ويعتزلن ويذكرون ما فضل الله به ني إسرائيل وما أعطاهم، ثم سلط عليهم شر خلقه بختنصر، فحرق التوراة وخرب بيت المقدس، وعزير يومئذ غلام، فقال عزير: أو كان هذا؟ فلحق بالجبال والوحش فجعل يتعبد فيها، وجعل لا يخالط الناس، فإذا هو ذات يوم بامرأة عند قبر وهي تبكي، قال: يا أمه، اتقي الله واحتسبي واصبري أما تعلمين أن سبيل الناس إلى الموت؟ فقالت: يا عزير أتنهاني أن أبكي وأنت قد خلفت بني إسرائيل ولحقت بالجبال والوحش؟ ثم قالت: إني لست بامرأة ولكني الدنيا، وإنه سينبع في مصلاك عين وتنبت شجرة، فاشرب من ماء العين وكل من ثمر الشجرة، فإنه سيأتيك ملكان فاتركهما يصنعان ما أرادا، فلما كان من الغد نبعت العين ونبتت الشجرة، فشرب من ماء العين وأكل من ثمرة الشجرة، وجاء ملكان ومعهما قارورة فيها نور فأوجراه ما فيها فألهمه الله التوراة، فجاء فأملاه على الناس، فعند ذلك قالوا عزير ابن الله، تعالى الله عن ذلك. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً فذكر قصة وفيها: أن عزير سأل الله بعد ما أنسى بني إسرائيل التوراة ونسخها من صدورهم أن يرد الذي نسخ من صدره، فبينما هو يصلي نزل نور من الله عز وجل فدخل جوفه، فعاد إليه الذي كان ذهب من جوفه من التوراة، فأذن في قومه فقال: يا قوم قد آتاني الله التوراة وردها إلي. وأخرج أبو الشيخ عن كعب قال: دعاء عزير ربه أن يلقي التوراة كما أنزل على موسى في قلبه، فأنزلها الله عليه، فبعد ذلك قالوا: عزير ابن الله. وأخرج ابن مردويه وابن عساكر عن ابن عباس قال: ثلاث أشك فيهن: فلا أدري عزير كان نبياً أم لا؟ ولا أدري ألعن تبع أم لا؟ قال: ونسيت الثالثة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله: "يضاهئون" قال: يشبهون. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه في قوله: "قاتلهم الله" قال: لعنهم الله وكل شيء في القرآن قتل فهو لعن. وأخرج ابن سعد وعبد بن حميد والترمذي وحسنه وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في سننه عن عدي بن حاتم قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ في سورة براءة: "اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله" فقال: أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئاً استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئاً حرموه. وأخرجه أيضاً أحمد وابن جرير. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي في سننه عن أبي البحتري قال: سأل رجل حذيفة فقال: أرأيت قوله: "اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله" أكانوا يعبدونهم؟ قال: لا ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئاً استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئاً حرموه. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن الضحاك قال: أحبارهم قراؤهم، ورهبانهم علماؤهم. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال: الأحبار من اليهود، والرهبان من النصارى. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي مثله. وأخرج أيضاً عن الفضيل بن عياض قال: الأحبار العلماء، والرهبان العباد. وأخرج أيضاً عن السدي في قوله: "يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم" قال: يريدون أن يطفئوا الإسلام بأقوالهم. وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك في قوله: "يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم" يقول: يريدون أن يهلك محمد وأصحابه. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة في الآية قال: هم اليهود والنصارى. وأخرج أبو الشيخ عن السدي "هو الذي أرسل رسوله بالهدى" يعني بالتوحيد والإسلام والقرآن.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّ

لما فرغ سبحانه من ذكر حال أتباع الأحبار والرهبان المتخذين لهم أرباباً ذكر حال المتبوعين فقال: 34- "إن كثيراً من الأحبار" إلى آخره، ومعنى أكلهم لأموال الناس بالباطل أنهم يأخذونها بالوجوه الباطلة كالرشوة، وأثبت هذا للكثير منهم، لأن فيهم من لم يتلبس بذلك، بل بقي على ما يوجبه دينه من غير تحريف ولا تبديل ولا ميل إلى حطام الدنيا، ولقد اقتدى بهؤلاء الأحبار والرهبان من علماء الإسلام من لا يأتي عليه الحصر في كل زمان، فالله المستعان. "ويصدون عن سبيل الله" أي عن الطريق إليه وهو دين الإسلام، أو عن ما كان حقاً في شريعتهم قبل نسخها بسبب أكلهم لأموال الناس بالباطل. قوله: "والذين يكنزون الذهب والفضة" قيل: هم المتقدم ذكرهم من الأحبار والرهبان، وإنهم كانوا يصنعون هذا الصنع، وقيل: هم من يفعل ذلك من المسلمين، والأولى حمل الآية على عموم اللفظ فهو أوسع من ذلك، وأصل الكنز في اللغة الضم والجمع، ولا يختص بالذهب والفضة. قال ابن جرير: الكنز كل شيء مجموع بعضه إلى بعض في بطن الأرض كان أو على ظهرها انتهى. ومنه ناقة كناز: أي مكتنزة اللحم، واكتنز الشيء: اجتمع. واختلف أهل العلم في المال الذي أديت زكاته هل يسمى كنزاً أم لا؟ فقال قوم: هو كنز، وقال آخرون: ليس بكنز. ومن القائلين بالقول الأول أبو ذر، وقيده بما فضل عن الحاجة. ومن القائلين بالقول الثاني عمر بن الخطاب وابن عمر وابن عباس وجابر وأبو هريرة وعمر بن عبد العزيز وغيرهم، وهو الحق لما سيأتي من الأدلة المصرحة بأن ما أديت زكاته فليس بكنز. قوله: "ولا ينفقونها في سبيل الله". اختلف في وجه إفراد الضمير مع كون المذكور قبله شيئين، هما الذهب والفضة، فقال ابن الأنباري: إنه قصد إلى الأعم الأغلب وهو الفضة قال: ومثله قوله تعالى: "واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة" رد الكناية إلى الصلاة لأنها أعم، ومثله قوله: "وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها" أعاد الضمير إلى التجارة، لأنها الأهم، وقيل إن الضمير راجع إلى الذهب والفضة معطوفة عليه، والعرب تؤنث الذهب وتذكره، وقيل إن الضمير راجع إلى الكنوز المدلول عليها بقوله: "يكنزون" وقيل إلى الأموال، وقيل للزكاة، وقيل إنه اكتفى بضمير أحدهما عن ضمير الآخر مع فهم المعنى، وهو كثير في كلام العرب، وأنشد سيبويه: نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأي مختلف ولم يقل راضون، ومثله قول الآخر: رماني بأمر كنت منه ووالدي برياً ومن أجل الطوى رماني ولم يقل بريين، ومثله قول حسان: إن شرخ الشباب والشعر الأسـ ـود ما لم يعاض كان مجنونا ولم يقل يعاضا، وقيل إن إفراد الضمير من باب الذهاب إلى المعنى دون اللفظ، لأن كل واحد من الذهب والفضة جملة وافية، وعدة كثيرة، ودنانير ودراهم، فهو كقوله: "وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا" وإنما خص الذهب والفضة بالذكر دون سائر الأموال لكونهما أثمان الأشياء، وغالب ما يكنز وإن كان غيرهما له حكمهما في تحريم الكنز. قوله: "فبشرهم بعذاب أليم" وهو خبر الموصول، وهو من باب التهكم بهم كما في قوله: تحية بينهم ضرب وجيع وقيل: إن البشارة هي الخبر الذي يتغير له لون البشرة لتأثيره في القلب، سواء كان في الفرح أو في الغم.

يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ

ومعنى 35- "يوم يحمى عليها في نار جهنم" أن النار توقد عليها وهي ذات حمى وحر شديد، ولو قال يوم تحمى: أي الكنوز لم يعط هذا المعنى، فجعل الإحماء للنار مبالغة، ثم حذف النار وأسند الفعل إلى الجار كما تقول رفعت القصة إلى الأمير، فإن لم تذكر القصة قلت رفع إلى الأمير. وقرأ ابن عامر " يحمى " بالمثناة الفوقية. وقرأ أبو حيوة فيكوى بالتحتية. وخص الجباه والجنوب والظهور لكون التألم بكيها أشد لما في داخلها من الأعضاء الشريفة، وقيل ليكون الكي في الجهات الأربع: من قدام، وخلف، وعن يمين، وعن يسار، وقيل: لأن الجمال في الوجه، والقوة في الظهر والجنبين، والإنسان إنما يطلب المال للجمال والقوة، وقيل غير ذلك مما لا يخلو عن تكلف. قوله: "هذا ما كنزتم لأنفسكم" أي يقال لهم هذا ما كنزتم لأنفسكم: أي كنزتموه لتنتفعوا به فهذا نفعه على طريقة التهكم والتوبيخ "فذوقوا ما كنتم تكنزون" ما مصدرية أو موصولة: أي ذوقوا وباله، وسوء عاقبته، وقبح مغبته، وشؤم فائدته. وقد أخرج أبو الشيخ عن الضحاك في قوله: "إن كثيراً من الأحبار والرهبان" يعني علماء اليهود والنصارى "ليأكلون أموال الناس بالباطل" والباطل كتب كتبوها لم ينزلها الله فأكلوا بها أموال الناس، وذلك قول الله تعالى: "فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله". وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "والذين يكنزون الذهب والفضة" قال: هؤلاء الذين لا يؤدون الزكاة من أموالهم، وكل مال لا تؤدى زكاته كان على ظهر الأرض أو في بطنها فهو كنز، وكل مال أديت زكاته فليس بكنز، كان على ظهر الأرض أو في بطنها. وأخرجه عنه ابن أبي شيبة وابن المنذر وأبو الشيخ من وجه آخر. وأخرج مالك وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عمر نحوه. وأخرج ابن مردويه عنه نحوه مرفوعاً. وأخرج ابن عدي والخطيب عن جابر نحوه مرفوعاً أيضاً. وأخرجه ابن أبي شيبة عنه موقوفاً. وأخرج أحمد في الزهد والبخاري وابن ماجه وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عمر في الآية قال: إنما كان هذا قبل أن تنزل الزكاة، فلما نزلت الزكاة جعلها الله طهرة للأموال، ثم قال: ما أبالي لو كان عندي مثل أحد ذهباً أعلم عدده وأزكيه وأعمل فيه بطاعات الله؟. وأخرج ابن أبي شيبة وأبو الشيخ عن عمر بن الخطاب قال: ليس بكنز ما أدى زكاته. وأخرج ابن مردويه والبيهقي عن أم سلمة مرفوعاً نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة في مسنده وأبو داود وأبو يعلى وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال:" لما نزلت هذه الآية "والذين يكنزون الذهب والفضة" كبر ذلك على المسلمين، وقالوا: ما يستطيع أحد منا لولوده ما لا يبقى بعده، فقال عمر: أنا أفرج عنكم، فانطلق عمر واتبعه ثوبان فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله إنه قد كبر على أصحابك هذه الآية، فقال: إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب بها ما بقي من أموالكم، وإنما فرض المواريث من أموال تبقى بعدكم، فكبر عمر، ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ألا أخبركم بخير ما يكنز المرء؟ المرأة الصالحة التي إذا نظر إليها سرته، وإذا أمرها أطاعته، وإذا غاب عنها حفظته". وقد أخرجه أحمد والترمذي وحسنه وابن ماجه عن سالم بن أبي الجعد من غير وجه عن ثوبان. وحكى البخاري أن سالماً لم يسمعه من ثوبان. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "والذين يكنزون الذهب والفضة" قال: هم أهل الكتاب، وقال: هي خاصة وعامة. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن علي بن أبي طالب قال: أربعة آلاف فما دونها نفقة وما فوقها كنز. وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني عن أبي أمامة قال: حلية السيوف من الكنوز ما أحدثكم إلا ما سمعت. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عراك بن مالك وعمر بن عبد العزيز أنهما قالا في قوله: "والذين يكنزون الذهب والفضة" إنها نسختها الآية الأخرى "خذ من أموالهم صدقة" الآية. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي زكاتها إلا جعلها يوم القيامة صفائح، ثم أحمى عليها في نار جهنم، ثم يكوى بها جنباه وجبهته وظهره في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضي بين الناس فيرى سبيله، إما إلى الجنة، وإما إلى النار". وأخرج ابن أبي شيبة والبخاري وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن زيد بن وهب قال: مررت على أبي ذر بالزبدة فقلت: ما أنزلك بهذه الأرض؟ فقال: كنا بالشام فقرأت: "والذين يكنزون الذهب والفضة" الآية، فقال معاوية: ما هذه فينا، ما هذه إلا في أهل الكتاب، قلت: إنها لفينا وفيهم.

إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا

قوله: 36- " إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا " هذا كلام مبتدأ يتضمن ذكر نوع آخر من قبائح الكفار وذلك أن الله سبحانه لما حكم في كل وقت بحكم خاص غيروا تلك الأوقات بالنسيء والكبيسة فأخبرنا الله بما هو حكمه فقال: "إن عدة الشهور" أي عدد شهور السنة عند الله في حكمه وقضائه وحكمته إثنا عشر شهراً. قوله: "في كتاب الله" أي فيما أثبته في كتابه. قال أبو علي الفارسي: لا يجوز أن يتعلق في كتاب الله بقوله: عدة الشهور، للفصل بالأجنبي وهو الخبر: أعني إثنا عشر شهراً، فقوله: في كتاب الله، وقوله: يوم خلق بدل من قوله من عند الله، والتقدير: إن عدة الشهور عند الله في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض، وفائدة الإبدالين تقرير الكلام في الأذهان لأنه يعلم منه أن ذلك العدد واجب عند الله في كتاب الله، وثابت في علمه في أول ما خلق الله العالم. ويجوز أن يكون في كتاب الله صفة إثنا عشر: أي إثنا عشر مثبتة في كتاب الله وهو اللوح المحفوظ. وفي هذه الآية بيان أن الله سبحانه وضع هذه الشهور وسماها بأسمائها على هذا الترتيب المعروف يوم خلق السموات والأرض، وأن هذا هو الذي جاءت به الأنبياء ونزلت به الكتب، وأنه لا اعتبار بما عند العجم والروم والقبط من الشهور التي يصطلحون عليها ويجعلون بعضها ثلاثين يوماً، وبعضها أكثر، وبعضها أقل. قوله: "منها أربعة حرم" هي ذي القعدة، وذي الحجة، والمحرم، ورجب: ثلاثة سرد، وواحد فرد، كما ورد بيان ذلك في السنة المطهرة. قوله: "ذلك الدين القيم" أي كون هذه الشهور كذلك، ومنها أربعة حرم هو الدين المستقيم، والحساب الصحيح، والعدد المستوفي. قوله: "فلا تظلموا فيهن أنفسكم" أي في هذه الأشهر الحرم بإيقاع القتال فيها والهتك لحرمتها، وقيل: إن الضمير يرجع إلى الشهور كلها الحرم وغيرها، وإن الله نهى عن الظلم فيها، والأول أولى. وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن تحريم القتال في الأشهر الحرم ثابت محكم لم ينسخ لهذه الآية، ولقوله: "يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام" ولقوله: "فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين" الآية. وقد ذهب جماعة آخرون إلى أن تحريم القتال في الأشهر الحرم منسوخ بآية السيف. ويجاب عنه بأن الأمر بقتل المشركين ومقاتلتهم مقيد بانسلاخ الأشهر الحرم كما في الآية المذكورة، فتكون سائر الآيات المتضمنة للأمر بالقتال مقيدة بما ورد في تحريم القتال في الأشهر الحرم، كما هي مقيدة بتحريم القتال في الحرم للأدلة الواردة في تحريم القتال فيه، وأما ما استدلوا به من أنه صلى الله عليه وسلم حاصر أهل الطائف في شهر حرام وهو ذو القعدة كما ثبت في الصحيحين وغيرهما، فقد أجيب عنه أنه لم يبتد محاصرتهم في ذي القعدة بل في شوال، والمحرم إنما هو ابتداء القتال في الأشهر الحرم لا إتمامه وبهذا يحصل الجمع. قوله: "وقاتلوا المشركين كافة" أي جميعاً، وهو مصدر في موضع الحال. قال الزجاج: مثل هذا من المصادر كعامة وخاصة لا يثنى ولا يجمع "كما يقاتلونكم كافة" أي جميعاً. وفيه دليل على وجوب قتال المشركين، وأنه فرض على الأعيان إن لم يقم به البعض "واعلموا أن الله مع المتقين" أي ينصرهم ويثبتهم، ومن كان الله معه فهو الغالب، وله العاقبة والغلبة.

إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْق

قوله: 37- "إنما النسيء زيادة في الكفر". قرأ نافع في رواية ورش عنه "النسيء" بياء مشددة بدون همز. وقرأ الباقون بياء بعدها همزة. قال النحاس: ولم يرو أحد عن نافع هذه القراءة إلا ورش وحده، وهو مشتق من نسأه وأنسأه: إذا أخره، حكى ذلك الكسائي. قال الجوهري: النسيء فعيل بمعنى مفعول من قولك: نسأت الشيء فهو منسوء: إذا أخرته، ثم تحول منسوء إلى نسيء كما تحول مقتول إلى قتيل. قال ابن جرير: في النسيء بالهمزة معنى الزيادة يقال: نسأ ينسأ: إذا زاد، قال: ولا يكون بترك الهمزة إلا من النسيان كما قال تعالى: "نسوا الله فنسيهم"، ورد على نافع قراءته. وكانت العرب تحرم القتال في الأشهر الحرم المذكورة، فإذا احتاجوا إلى القتال فيها قاتلوا فيها وحرموا غيرها، فإذا قاتلوا في المحرم حرموا بدله شهر صفر، وهكذا في غيره، وكان الذي يحملهم على هذا أن كثيراً منهم إنما كانوا يعيشون بالغارة على بعضهم البعض، ونهب على ما يمكنهم نهبه من أموال من يغيرون عليه، ويقع بينهم بسبب ذلك القتال، وكانت الأشهر الثلاثة المسرودة يضر بهم تواليها وتشتد حاجتهم وتعظم فاقتهم، فيحللون بعضها ويحرمون مكانه بقدره من غير الأشهر الحرم، فهذا هو معنى النسيء الذي كانوا يفعلونه. وقد وقع الخلاف في أول من فعل ذلك فقيل: هو رجل من بني كنانة يقال له حذيفة بن عتيد، ويلقب القلمس، وإليه يشير الكميت بقوله: ألسنا الناسئين على معد شهور الحل نجعلها حراما وفيه يقول قائلهم: ومنا ناسئ الشهر القلمس وقيل هو عمرو بن لحي، وقيل هو نعيم بن ثعلبة من بني كنانة، وسمى الله سبحانه النسيء زيادة في الكفر لأنه نوع من أنواع كفرهم، ومعصية من معاصيهم المنضمة إلى كفرهم بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر. قوله: "يضل به الذين كفروا". قرأ أهل الحرمين وأبو عمرو وابن عامر "يضل" على البناء للمعلوم. وقرأ الكوفيون على البناء للمجهول، ومعنى القراءة الأولى أن الكفار يضلون بما يفعلونه من النسيء، ومعنى القراءة الثانية، أن الذي سن لهم ذلك يجعلهم ضالين بهذه السنة السيئة، وقد اختار القراءة الأولى أبو حاتم، واختار القراءة الثانية أبو عبيد. وقرأ الحسن وأبو رجاء ويعقوب "يضل" بضم الياء وكسر الضاد على أن فاعله الموصول ومفعوله محذوف، ويجوز أن يكون فاعله هو الله سبحانه ومفعوله الموصول. وقرئ بفتح الياء والضاد من ضل يضل. وقرئ نضل بالنون. قوله: "يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً" الضمير راجع إلى النسيء: أي يحلون النسيء عاماً ويحرمونه عاماً، أو إلى الشهر الذي يؤخرونه ويقاتلون فيه: أي يحلونه عاماً بإبداله بشهر آخر من شهور الحل، يحرمونه عاماً: أي يحافظون عليه فلا يحلون فيه القتال، بل يبقونه على حرمته. قوله: "ليواطئوا عدة ما حرم الله" أي لكي يواطئوا، والمواطأة الموافقة، يقال: تواطأ القوم على كذا: أي توافقوا عليه واجتمعوا. والمعنى: إنهم لم يحلوا شهراً إلا حرموا شهراً لتبقى الأشهر الحرم أربعة. قال قطرب: معناه عمدوا إلى صفر فزادوه في الأشهر الحرم وقرنوه بالمحرم في التحريم. وكذا قال الطبري. قوله: "فيحلوا ما حرم الله" أي من الأشهر الحرم التي أبدلوها بغيرها "زين لهم سوء أعمالهم" أي زين لهم الشيطان الأعمال السيئة التي يعملونها، ومن جملتها النسيء. وقرئ على البناء الفاعل "والله لا يهدي القوم الكافرين" أي المصرين على كفرهم المستمرين عليه فلا يهديهم هداية توصلهم إلى المطلوب، وأما الهداية بمعنى الدلالة على الحق والإرشاد إليه فقد نصبها الله سبحانه لجميع عباده. وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي بكر أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب في حجته فقال: "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً، منها أربعة حرم، ثلاث متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان". وأخرج نحوه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه من حديث ابن عمر: وأخرج نحوه ابن المنذر وأبو الشيخ وابن مردويه من حديث ابن عباس. وأخرج نحوه أيضاً البزار وابن جرير وابن مردويه من حديث أبي هريرة. وأخرجه أحمد وابن مردويه من حديث أبي حرة الرقاشي عن عمه مرفوعاً مطولاً. وأخرج سعيد بن منصور وابن مردويه عن ابن عباس "منها أربعة حرم" فقال: المحرم، ورجب، وذو القعدة، وذو الحجة. وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك قال: إنما سمين حرماً لئلا يكون فيهن حرب. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله: " إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله " ثم اختص من ذلك أربعة أشهر فجعلهن حرماً، وعظم حرماتهن، وجعل الدين فيهن أعظم، والعمل الصالح والأجر أعظم "فلا تظلموا فيهن أنفسكم" قال: في كلهن "وقاتلوا المشركين كافة" يقول جميعاً. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مقاتل في قوله: "وقاتلوا المشركين كافة" قال: نسخت هذه الآية كل آية فيها رخصة. وأخرج الطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: كانت العرب يحلون عاماً شهراً وعاماً شهرين، ولا يصيبون الحج إلا في كل عشرين سنة مرة، وهي النسيء الذي ذكره الله في كتابه، فلما كان عام حج أبو بكر بالناس وافق ذلك العام، فسماه الله الحج الأكبر، ثم حج رسول الله صلى الله عليه وسلم من العام المقبل. واستقبل الناس الأهلة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض". وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عمر قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعقبة فقال: "إنما النسيء من الشيطان زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً" فكانوا يحرمون المحرم عاماً ويستحلون صفر، ويحرمون صفر عاماً ويستحلون المحرم. وهي النسيء. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال: كان جنادة بن عوف الكناني يوافي الموسم كل عام، وكان يكنى أبا ثمامة، فينادي ألا إن أبا ثمامة لا يخاب ولا يعاب، ألا وإن صفر الأول العام حلال فيحله للناس، فيحرم صفر عاماً، ويحرم المحرم عاماً فذلك قوله تعالى: "إنما النسيء زيادة في الكفر" الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عنه في الآية قال: المحرم كانوا يسمونه صفر، وصفر يقولون صفران الأول والآخر، يحل لهم مرة الأول، ومرة الآخر. وأخرج ابن مردويه عنه قال: كانت النساءة حي من بني مالك من كنانة من بني فقيم، فكان آخرهم رجلاً يقال له القلمس، وهو الذي أنسأ المحرم.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ

قوله: 38- "يا أيها الذين آمنوا" لما شرح معايب أولئك الكفار عاد إلى ترغيب المؤمنين في قتالهم، والاستفهام في "ما لكم" للإنكار والتوبيخ: أي أي شيء يمنعكم من ذلك، ولا خلاف أن هذه الآية نزلت عتابا لمن تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، وكانت سنة تسع من الهجرة بعد الفتح بعام، والنفر: هو الانتقال بسرعة من مكان إلى مكان لأمر يحدث. قوله: "اثاقلتم إلى الأرض" أصله تثاقلتم أدغمت التاء في الثاء لقربها منها، وجيء بألف الوصل ليتوصل بها إلى النطق بالساكن، ومثله: اداركوا، و اطيرتم، واطيروا، وأنشد الكسائي: توالى الضجيع إذا ما اشتاقها حضرا عذب المذاق إذا ما اتابع القبل وقرأ الأعمش " اثاقلتم " على الأصل، ومعناه تباطأتم، وعدي بإلى لتضمنه معنى الميل والإخلاد، وقيل معناه: ملتم إلى الإقامة بأرضكم والبقاء فيها وقرئ " اثاقلتم " على الاستفهام، ومعناه التوبيخ والعامل في الظرف ما في "ما لكم" من معنى الفعل، كأنه قيل ما يمنعكم، أو ما تصنعون إذا قيل لكم؟ و "إلى الأرض" متعلق باثاقلتم وكما مر. قوله: "أرضيتم بالحياة الدنيا" أي بنعيمها بدلاً من الآخرة كقوله تعالى: "ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون" أي بدلاً منكم، ومثله قول الشاعر: قلبت لنا من ماء زمزم شربة مبردة باتت على طهيان أي بدلاً من ماء زمزم، والطهيان عود ينصب في ناحية الدار للهواء يعلق عليه الماء ليبرد، ومعنى "في الآخرة" أي في جنب الآخرة، وفي مقابلها "إلا قليل" أي إلا متاع حقير لا يعبأ به، ويجوز أن يراد بالقليل العدم، إذ لا نسبة للمتناهي الزائل إلى غير المتناهي الباقي، والظاهر أن هذا التثاقل لم يصدر من الكل، إذ من البعيد أن يطبقوا جميعاً على التباطؤ والتثاقل، وإنما هو من باب نسبة ما يقع من البعض إلى الكل، وهو كثير شائع.

إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ

قوله: 39- "إلا تنفروا يعذبكم" هذا تهديد شديد، ووعيد مؤكد لمن ترك النفير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم "يعذبكم عذاباً أليماً" أي يهلككم بعذاب شديد مؤلم، قيل في الدنيا فقط، وقيل هو أعم من ذلك. قوله: "ويستبدل قوماً غيركم" أي يجعله لرسله بدلاً منكم ممن لا يتباطأ عند حاجتهم إليهم. واختلف في هؤلاء القوم من هم؟ فقيل أهل اليمن، وقيل أهل فارس، ولا وجه للتعيين بدون دليل. قوله: "ولا تضروه شيئاً" معطوف على "يستبدل"، والضمير قيل لله، وقيل للنبي صلى الله عليه وسلم: أي ولا تضروا الله بترك امتثال أمره بالنفير شيئاً، أو لا تضروا رسول الله بترك نصره والنفير معه شيئاً "والله على كل شيء قدير" ومن جملة مقدوراته تعذيبكم والاستبدال بكم.

إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَ

قوله: 40- "إلا تنصروه فقد نصره الله" أي إن تركتم نصره فالله متكفل به، فقد نصره في مواطن القلة، وأظهره على عدوه بالغلبة والقهر، أو فسينصره من نصره حين لم يكن معه إلا رجل واحد وقت إخراج الذين كفروا له حال كونه "ثاني اثنين" أي أحد اثنين، وهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر الصديق رضي الله عنه. وقرئ بسكون الياء. قال ابن جني: حكاها أبو عمرو بن العلاء، ووجهها أن تسكن الياء تشبيهاً بالألف. قال ابن عطية: فهي كقراءة الحسن "ما بقي من الربا"، وكقول جرير: هو الخليفة فارضوا ما رضيه لكم ماضي العزيمة ما في حكمه جنف قوله: "إذ هما في الغار" بدل من "إذ أخرجه" بدل بعض، والغار: ثقب في الجبل المسمى ثوراً، وهو المشهور بغار ثور، وهو جبل قريب من مكة، وقصة خروجه صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة هو وأبو بكر ودخولهما الغار مشهورة مذكورة في كتب السير والحديث. قوله: "إذ يقول لصاحبه" بدل ثان: أي وقت قوله لأبي بكر: "لا تحزن إن الله معنا" أي دع الحزن فإن الله بنصره وعونه وتأييده معنا، ومن كان الله معه فلن يغلب، ومن لا يغلب فيحق له أن لا يحزن. قوله: "فأنزل الله سكينته عليه" السكينة: تسكين جأشه وتأمينه حتى ذهب روعه وحصل له الأمن، على أن الضمير في "عليه" لأبي بكر، وقيل: هو للنبي صلى الله عليه وسلم، ويكون المراد بالسكينة النازلة عليه عصمته عن حصول سبب من أسباب الخوف له، ويؤيد كون الضمير في "عليه" للنبي صلى الله عليه وسلم الضمير في "أيده بجنود لم تروها" فإنه للنبي صلى الله عليه وسلم لأنه المؤيد بهذه الجنود التي هي الملائكة كما كان في يوم بدر، وقيل: إنه لا محذور في رجوع الضمير من "عليه" إلى أبي بكر ومن "وأيده" إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإن ذلك كثير في القرآن وفي كلام العرب "وجعل كلمة الذين كفروا السفلى" أي كلمة الشرك، وهي دعوتهم إليه ونداؤهم للأصنام " وكلمة الله هي العليا ". قرأ الأعمش ويعقوب بنصب "كلمة" حملاً على "جعل"، وقرأ الباقون برفعها على الاستئناف. وقد ضعف قراءة النصب الفراء وأبو حاتم، وفي ضمير الفصل، أعني "هي" تأكيد لفضل كلمته في العلو وأنها المختصة به دون غيرها، وكلمة الله هي كلمة التوحيد، والدعوة إلى الإسلام "والله عزيز حكيم" أي غالب قاهر لا يفعل إلا ما فيه حكمة وصواب.

انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ

ثم لما توعد من لم ينفر مع الرسول صلى الله عليه وسلم وضرب له من الأمثال ما ذكره عقبه بالأمر الجزم فقال: 41- "انفروا خفافاً وثقالاً" أي حال كونكم خفافاً وثقالاً، قيل المراد منفردين أو مجتمعين، وقيل نشاطاً وغير نشاط، وقيل فقراء وأغنياء، وقيل شباباً وشيوخاً، وقيل رجالاً وفرساناً، وقيل من لا عيال له ومن له عيال، وقيل من يسبق إلا الحرب كالطلائع، ومن يتأخر كالجيش، وقيل غير ذلك. ولا مانع من حمل الآية على جميع هذه المعاني، لأن معنى الآية: انفروا خفت عليكم الحركة أو ثقلت. قيل: وهذه الآية منسوخة بقوله تعالى: "ليس على الضعفاء ولا على المرضى"، وقيل الناسخ لها قوله: "فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة" الآية، وقيل هي محكمة وليست بمنسوخة، ويكون إخراج الأعمى والأعرج بقوله: "ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج" وإخراج الضعيف والمريض بقوله: "ليس على الضعفاء ولا على المرضى" من باب التخصيص، لا من باب النسخ على فرض دخول هؤلاء تحت قوله: "خفافاً وثقالاً" والظاهر عدم دخولهم تحت العموم. قوله: "وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله" فيه الأمر بالجهاد بالأنفس والأموال وإيجابه على العباد، فالفقراء يجاهدون بأنفسهم، والأغنياء بأموالهم وأنفسهم. والجهاد من آكد الفرائض وأعظمها، وهو فرض كفاية مهما كان البعض يقوم بجهاد العدو وبدفعه، فإن كان لا يقوم بالعدو إلا جميع المسلمين في قطر من الأرض أو أقطار وجب عليهم ذلك وجوب عين، والإشارة بقوله: "ذلكم" إلى ما تقدم من الأمر بالنفير والأمر بالجهاد "خير لكم" أي خير عظيم في نفسه، وخير من السكون والدعة "إن كنتم تعلمون" ذلك وتعرفون الأشياء الفاضلة وتميزونها عن المفضولة.

لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ

قوله: 42- "لو كان عرضاً قريباً وسفراً قاصداً لاتبعوك". قال الزجاج: لو كان المدعو إليه فحذف لدلالة ما تقدم عليه، والعرض: ما يعرض من منافع الدنيا. والمعنى: غنيمة قريبة غير بعيدة "وسفراً قاصداً" عطف على ما قبله: أي سفراً متوسطاً بين القرب والبعد، وكل متوسط بين الإفراط والتفريط فهو قاصد "ولكن بعدت عليهم الشقة". قال أبو عبيدة وغيره: إن الشقة السفر إلى أرض بعيدة، يقال منه شقة شاقة. قال الجوهري: الشقة بالضم من الثياب، والشقة أيضاً: السفر البعيد، وربما قالوه بالكسر، والمراد بهذا غزوة تبوك فإنها كانت سفرة بعيدة شاقة. وقرأ عيسى بن عمر بعدت عليهم الشقة بكسر العين والشين "وسيحلفون بالله" أي المتخلفون عن غزوة تبوك حال كونكم قائلين "لو استطعنا لخرجنا معكم" أي لو قدرنا على الخروج ووجدنا ما نحتاج إليه فيه مما لا بد منه "لخرجنا معكم" هذه الجملة سادة مسد جواب القسم والشروط. قوله: "يهلكون أنفسهم" هو بدل من قوله: "سيحلفون" لأن من حلف كاذباً فقد أهلك نفسه أو يكون حالاً: أي مهلكين أنفسهم موقعين لها موقع الهلاك "والله يعلم إنهم لكاذبون" في حلفهم الذي سيحلفون به لكم. وقد أخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا" الآية، قال هذا حين أمروا بغزوة تبوك بعد الفتح، وحين أمرهم بالنفير في الصيف وحين خرفت النخل وطابت الثمار واشتهوا الظلال وشق عليهم المخرج، فأنزل الله: "انفروا خفافاً وثقالاً". وأخرج أبو داود وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله: "إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً" قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استنفر حياً من أحياء العرب فتثاقلوا عنه، فأنزل الله هذه الآية فأمسك عنهم المطر فكان ذلك عذابهم. وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: لما نزلت: "إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً" وقد كان تخلف عنه أناس في البدو يفقهون قومهم، فقال المؤمنون: قد بقي ناس في البوادي وقالوا هلك أصحاب البوادي فنزلت: "وما كان المؤمنون لينفروا كافة". وأخرج أبو داود وابن أبي حاتم والنحاس والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله: "إلا تنفروا" الآية قال: نسختها "وما كان المؤمنون لينفروا كافة". وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "إلا تنصروه فقد نصره الله" قال: ذكر ما كان من أول شأنه حين بعث، يقول: فأنا فاعل ذلك به، وناصره كما نصرته إذ ذاك وهو ثاني اثنين. وأخرج أبو نعيم والبيهقي في الدلائل عن ابن شهاب وعروة: أنهم ركبوا في كل وجه يعني المشركين يطلبون النبي صلى الله عليه وسلم، وبعثوا إلى أهل المياه يأمرونهم ويجعلون لهم الحمل العظيم، وأتوا على ثور، الجبل الذي فيه الغار والذي فيه النبي صلى الله عليه وسلم حتى طلعوا فوقه، وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر أصواتهم، فأشفق أبو بكر وأقبل عليه الهم والخوف، فعند ذلك يقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحزن إن الله معنا" ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت عليه السكينة من الله فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين الآية. وأخرج ابن شاهين وابن مردويه وابن عساكر عن حبشي بن جنادة قال:" قال أبو بكر: يا رسول الله لو أن أحداً من المشركين رفع قدمه لأبصرنا، فقال: يا أبا بكر لا تحزن إن الله معنا". وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن الزهري في قوله: "إذ هما في الغار" قال: هو الغار الذي في الجبل الذي يسمى ثوراً. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الدلائل وابن عساكر في تاريخه عن ابن عباس في قوله: "فأنزل الله سكينته عليه" قال: على أبي بكر لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم تزل معه السكينة. وأخرج ابن مردويه عن أنس قال: "دخل النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر غار حراء، فقال أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم: لو أن أحدهم يبصر موضع قدمه لأبصرني وإياك، فقال صلى الله عليه وسلم: ما ظنك باثنين الله ثالثهما يا أبا بكر؟ إن الله أنزل سكينته عليك وأيدني بجنود لم يروها". وأخرج الخطيب في تاريخه عن حبيب بن أبي ثابت "فأنزل الله سكينته عليه" قال: على أبي بكر، فأما النبي صلى الله عليه وسلم فقد كانت عليه السكينة. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس في قوله: "وجعل كلمة الذين كفروا السفلى" قال: هي الشرك بالله "وكلمة الله هي العليا" قال: لا إله إلا الله. وأخرج الفريابي وأبو الشيخ عن أبي الضحى قال: أول ما أنزل من براءة "انفروا خفافاً وثقالاً" ثم نزل أولها وآخرها. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن أبي مالك نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "خفافاً وثقالاً" قال: نشاطاً وغير نشاط. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحكم في الآية قال: مشاغيل وغير مشاغيل. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الحسن قال: في العسر واليسر. وأخرج ابن المنذر عن زيد بن أسلم قال: فتياناً وكهولاً. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن عكرمة قال: شباباً وشيوخاً. أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد قال: قالوا إن فينا الثقيل وذا الحاجة والضيعة والشغل فأنزل الله: "انفروا خفافاً وثقالاً" وأبى أن يعذرهم دون أن ينفروا خفافاً وثقالاً، وعلى ما كان منهم. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي قال: جاء رجل زعموا أنه المقداد، وكان عظيماً سميناً، فشكا إليه وسأله أن يأذن له فأبى، فنزلت: "انفروا خفافاً وثقالاً" فلما نزلت هذه الآية اشتد على الناس شأنها فنسخها الله، فقال: "ليس على الضعفاء ولا على المرضى" الآية. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل له: ألا تغزو بني الأصفر لعلك أن تصيب ابنة عظيم الروم؟ فقال رجلان: قد علمت يا رسول الله أن النساء فتنة فلا تفتنا بهن فأذن لنا، فأذن لهما، فلما انطلقنا قال أحدهما: إن هو إلا شحمة لأول آكل، فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينزل عليه شيء في ذلك، فلما كان بعض الطريق نزل عليه وهو على بعض المناة "لو كان عرضاً قريباً وسفراً قاصداً لاتبعوك" ونزل عليه: "عفا الله عنك لم أذنت لهم" ونزل عليه: "إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر" ونزل عليه: "إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون". وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس: "لو كان عرضاً قريباً" قال: غنيمة قريبة، "ولكن بعدت عليهم الشقة". قال: المسير. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة في قوله: "والله يعلم إنهم لكاذبون" قال: لقد كانوا يستطيعون الخروج ولكن كان تبطئة من عند أنفسهم وزهادة في الجهاد.

عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ

الاستفهام في 43- "عفا الله عنك لم أذنت لهم" للإنكار من الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم حيث وقع منه اإذن لمن استأذنه في القعود قبل أن يتبين من هو صادق منهم في عذره الذي أبداه، ومن هو كاذب فيه. وفي ذكر العفو عنه صلى الله عليه وسلم ما يدل على أن هذا الإذن الصادر منه كان خلاف الأولى، وفي هذا عتاب لطيف من الله سبحانه، وقيل إن هذا عتاب له صلى الله عليه وسلم في إذنه للمنافقين بالخروج معه، لا في إذنه لهم بالقعود عن الخروج. والأول أولى، وقد رخص له سبحانه في سورة النور بقوله: "فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم" ويمكن أن يجمع بين الآيتين بأن العتاب هنا موجه إلى الإذن قبل الاستثبات حتى يتبين الصادق من الكاذب، والإذن هنالك متوجه إلى الإذن بعد الاستثبات والله أعلم. وقيل: إن قوله: "عفا الله عنك" هي افتتاح كلام كما تقول: أصلحك الله وأعزك ورحمك كيف فعلت كذا، وكذا حكاه مكي والنحاس والمهدوي، وعلى هذا التأويل يحسن الوقف على "عفا الله عنك"، وعلى التأويل الأول لا يحسن. ولا يخافك أن التفسير الأول هو المطابق لما يقتضيه اللفظ على حسب اللغة العربية، ولا وجه لإخراجه عن معناه العربي. وفي الآية دليل على جواز الاجتهاد منه صلى الله عليه وسلم، والمسألة مدونة في الأصول، وفيها أيضاً دلالة على مشروعية الاحتراز عن العجلة والاغترار بظواهر الأمور، و حتى في "حتى يتبين لك الذين صدقوا" للغاية، كأنه قيل: لما سارعت إلى الإذن لهم، وهلا تأنيث حتى يتبين لك صدق من هو صادق منهم في العذر الذي أبداه، وكذب من هو كاذب منهم في ذلك؟.

لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ

ثم ذكر سبحانه أنه ليس من عادة المؤمنين أن يستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في القعود عن الجهاد، بل كان من عادتهم أنهم صلى الله عليه وسلم إذا أذن لواحد منهم بالقعود شق عليه ذلك. فقال: 44- "لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا" وهذا على أن معنى الآية أن لا يجاهدوا على حذف حرف النفي، وقيل المعنى: لا يستأذنك المؤمنون في التخلف كراهة الجهاد، وقيل: إن معنى الاستئذان في الشيء الكراهة له، وأما على ما يقتضيه ظاهر اللفظ فالمعنى: لا يستأذنك المؤمنون في الجهاد بل دأبهم أن يبادروا إليه من غير توقف ولا ارتقاب منهم لوقوع الإذن منك فضلاً عن أن يستأذنوك في التخلف. قال الزجاج: أن يجاهدوا في موضع نصب بإضمار في: أي في أن يجاهدوا "والله عليم بالمتقين" وهم هؤلاء الذين لم يستأذنوا.

إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ

45- "إنما يستأذنك" في القعود عن الجهاد، والتخلف عنه "الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر" وهم المنافقون، وذكر الإيمان بالله أولاً، ثم باليوم الآخر ثانياً في الموضعين، لأنهما الباعثان على الجهاد في سبيل الله. قوله: "وارتابت قلوبهم" عطف على قوله: "الذين لا يؤمنون" وجاء بالماضي للدلالة على تحقق الريب في قلوبهم، وهو الشك. قوله: "فهم في ريبهم يترددون" أي في شكهم الذي حل بقلوبهم يتحيرون، والتردد التحير. والمعنى: فهؤلاء الذين يستأذنوك ليسوا بمؤمنين بل مرتابين حائرين لا يهتدون إلى طريق الصواب، ولا يعرفون الحق.

وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ

قوله: 46- "ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة" أي لو كانوا صادقين فيما يدعونه ويخبرونك به من أنهم يريدون الجهاد معك، ولكن لم يكن معهم من العدة للجهاد ما يحتاج إليه لما تركوا إعداد العدة وتحصيلها قبل وقت الجهاد كما يستعد لذلك المؤمنون، فمعنى هذا الكلام: أنهم لا يريدوا الخروج أصلاً ولا استعدوا للغزو. والعدة ما يحتاج إليه المجاهد من الزاد والراحلة والسلاح. قوله: "ولكن كره الله انبعاثهم" أي ولكن كره الله خروجهم فتثبطوا عن الخروج، فيكون المعنى: ما خرجوا ولكن تثبطوا، لأن كراهة الله انبعاثهم تستلزم تثبطهم عن الخروج، والانبعاث الخروج: أي حبسهم الله عن الخروج معك وخذلهم، لأنهم قالوا: إن لم يؤذن لنا في الجلوس أفسدنا وحرضنا على المؤمنين، وقيل المعنى: لو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة، ولكن ما أرادوه لكراهة الله له قوله: "وقيل اقعدوا مع القاعدين" قيل القائل لهم هو الشيطان بما يلقيه إليهم من الوسوسة، وقيل قاله بعضهم لبعض، وقيل قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم غضباً عليهم، وقيل هو عبارة عن الخذلان: أي أوقع الله في قلوبهم القعود خذلاناً لهم. ومعنى "مع القاعدين" أي مع أولي الضرر من العميان والمرضى والنساء والصبيان، وفيه من الذم لهم والإزراء عليهم والتنقص بهم ما لا يخفى.

لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ

قوله: 47- "لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً" هذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين عن تخلف المنافقين. والخبال: الفساد والنميمة وإيقاع الاختلاف والأراجيف. قيل هذا الاستثناء منقطع: أي ما زادوكم قوة، ولكن طلبوا الخبال، وقيل المعنى: لا يزيدونكم فيما ترددون فيه من الرأي إلا خبالاً فيكون متصلاً، وقيل هو استثناء من أعم العام: أي ما زادوكم شيئاً إلا خبالاً، فيكون الاستثناء من قسم المتصل، لأن الخبال من جملة ما يصدق عليه الشيء. قوله: "ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة" الإيضاع: سرعة السير، ومنه قول ورقة بن نوفل: يا ليتني فيها جذع أخب فيها وأضع يقال: أوضع البعير: إذا أسرع السير، وقيل: الإيضاع سير الخبب، والخلل الفرجة بين الشيئين، والجمع الخلال: أي الفرج التي تكون بين الصفوف. والمعنى: لسعوا بينكم بالإفساد بما يختلقونه من الأكاذيب المشتملة على الإرجاف والنمائم الموجبة لفساد ذات البين. قوله: "يبغونكم الفتنة" يقال: بغيته كذا: طلبته له، وأبغيته كذا: أعنته على طلبه. والمعنى: يطلبون لكم الفتنة في ذات بينكم بما يصنعونه من التحريش والإفساد، وقيل: الفتنة هنا الشرك. وجملة "وفيكم سماعون لهم" في محل نصب على الحال: أي والحال أن فيكم من يستمع ما يقولونه من الكذب فينقله إليكم فيتأثر من ذلك الاختلاف بينكم، والفساد لإخوانكم "والله عليم بالظالمين" وبما يحدث منهم لو خرجوا معكم، فلذلك اقتضت حكمته البالغة أن لا يخرجوا معكم، وكره انبعاثهم معكم، ولا ينافي حالهم هذا لو خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تقدم من عتابه على الإذن لهم في التخلف، لأنه سارع إلى الإذن لهم، ولم يكن قد علم من أحوالهم لو خرجوا أنهم يفعلون هذه الأفاعيل، فعوتب صلى الله عليه وسلم على تسرعه إلى الإذن لهم قبل أن يتبين له الصادق منهم في عذره من الكاذب، ولهذا قال الله سبحانه فيما يأتي في هذه السورة: "فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبداً" الآية، وقال في سورة الفتح: "سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم" إلى قوله: "قل لن تتبعونا".

لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ

قوله: 48- "لقد ابتغوا الفتنة من قبل" أي لقد طلبوا الإفساد والخبال وتفريق كلمة المؤمنين وتشتيت شملهم من قبل هذه الغزوة التي تخلفوا عنك فيها. كما وقع من عبد الله بن أبي وغيره "ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون". قوله: "وقلبوا لك الأمور" أي صرفوها من أمر إلى أمر، ودبروا لك الحيل والمكائد، ومنه قول العرب حول قلب إذا كان دائراً حول المكائد والحيل يدير الرأي فيها ويتدبره. وقرئ وقلبوا بالتخفيف "حتى جاء الحق" أي إلى غاية هي مجيء الحق، وهو النصر لك والتأييد "وظهر أمر الله" بإعزاز دينه وإعلام شرعه وقهر أعدائه، وقيل: الحق القرآن "وهم كارهون" أي والحال أنهم كارهون لمجيء الحق وظهور أمر الله، ولكن كان ذلك على رغم منهم.

وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ

49- "ومنهم" أي من المنافقين "من يقول" لرسول الله صلى الله عليه وسلم "ائذن لي" في التخلف عن الجهاد "ولا تفتني" أي لا توقعني في الفتنة: أي الإثم إذا لم تأذن لي فتخلفت بغير إذنك، وقيل معناه: لا توقعني في الهلكة بالخروج "ألا في الفتنة سقطوا" أي في نفس الفتنة سقطوا، وهي فتنة التخلف عن الجهاد، والاعتذار الباطل. والمعنى: أنهم ظنوا أنهم بالخروج أو بترك الإذن لهم يقعون في الفتنة، وهم بهذا التخلف سقطوا في الفتنة العظيمة. وفي التعبير بالسقوط ما يشعر بأنهم وقعوا فيها وقوع من يهوي من أعلى إلى أسفل، وذلك أشد من مجرد الدخول في الفتنة، ثم توعدهم على ذلك فقال: "وإن جهنم لمحيطة بالكافرين" أي مشتملة عليهم من جميع الجوانب لا يجدون عنها مخلصاً، ولا يتمكنون من الخروج منها بحال من الأحوال. وقد أخرج عبد الرزاق في المصنف وابن جرير عن عمرو بن ميمون قال: اثنتان فعلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يؤمر فيهما بشيء: إذنه للمنافقين، وأخذه من الأسارى، فأنزل الله: "عفا الله عنك لم أذنت لهم". وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عون بن عبد الله قال: سمعتم بمعاتبة أحسن من هذا؟ بدأ بالعفو قبل المعاتبة، فقال: "عفا الله عنك لم أذنت لهم". وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "عفا الله عنك" الآية قال: ناس قالوا استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن أذن لكم فاقعدوا، وإن لم يأذن لكم فاقعدوا. وأخرج النحاس في ناسخه عن ابن عباس في قوله: "عفا الله عنك لم أذنت لهم" الثلاث الآيات، قال: نسخها "فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس في ناسخه عنه في قوله: "لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله" الآية. قال: هذا تعبير للمنافقين حين استأذنوا في القعود عن الجهاد بغير عذر، وعذر الله المؤمنين فقال: "فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم". وأخرج أبو عبيد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في سننه عنه أيضاً في قوله: "لا يستأذنك" الآيتين قال: نسختها الآية التي في سورة النور: "إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله" إلى "إن الله غفور رحيم" فجعل الله النبي صلى الله عليه وسلم بأعلى النظرين في ذلك، من غزا غزا في فضيلة، ومن قعد قعد في غير حرج إن شاء الله. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الضحاك في قوله: "ولكن كره الله انبعاثهم" قال: خروجهم. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "فثبطهم" قال: حبسهم. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن زيد في قوله: "لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً" قال: هؤلاء المنافقون في غزوة تبوك. وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "ولأوضعوا خلالكم" قال: لأسرعوا بينكم. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "ولأوضعوا خلالكم" قال: لارفضوا "يبغونكم الفتنة" يبطئونك عبد الله بن نبتل، وعبد الله بن أبي بن سلول، ورفاعة بن تابوت، وأوس بن قيظي "وفيكم سماعون لهم" محدثون لهم بأحاديثكم غير منافقين، وهم عيون للمنافقين. وأخرج ابن المنذر والطبراني وابن مردويه وأبو نعيم في المعرفة عن ابن عباس قال: لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرج إلى غزوة تبوك قال لجد بن قيس: يا جد بن قيس ما تقول في مجاهدة بني الأصفر؟ فقال: يا رسول الله إني امرؤ صاحب نساء، ومتى أرى نساء بني الأصفر أفتتن، فأذن لي ولا تفتني، فأنزل الله: "ومنهم من يقول ائذن لي" الآية. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن جابر بن عبد الله نحوه. وأخرج ابن مردويه عن عائشة نحوه أيضاً. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ولا تفتني" قال: لا تخرجني "ألا في الفتنة سقطوا" يعني في الخروج. وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: "ولا تفتني" قال: لا تؤثمني "ألا في الفتنة" قال: ألا في الإثم، وقصة تبوك مذكورة في كتب الحديث والسير فلا نطول بذكرها.

إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ

قوله: 50- "إن تصبك حسنة" أي حسنة كانت بأي سبب اتفق كما يفيده وقوعها في حيز الشرط، وكذلك القول في المصيبة، وتدخل الحسنة والمصيبة الكائنة في القتال كما يفيده السياق دخولاً أولياً، فمن جملة ما تصدق عليه الحسنة الغنيمة والظفر، ومن جملة ما تصدق عليه المصيبة الخيبة والانهزام، وهذا ذكر نوع آخر من خبث ضمائر المنافقين وسوء أفعالهم، والإخبار بعظيم عداوتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، فإن المساءة بالحسنة، والفرح بالمصيبة من يعظم ما يدل على أنهم في العداوة قد بلغوا إلى الغاية، ومعنى "يتولوا" رجعوا إلى أهلهم عن مقامات الاجتماع ومواطن التحدث حال كونهم فرحين بالمصيبة التي أصابت المؤمنين، ومعنى قولهم: "قد أخذنا أمرنا من قبل" أي احتطنا لأنفسنا وأخذنا بالحزم، فلم نخرج إلى القتال كما خرج المؤمنون حتى نالهم ما نالهم من المصيبة.

قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ

ثم لما قالوا هذا القول أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يجيب عليهم بقوله: 51- "لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا" أي في اللوح المحفوظ، أو في كتابه المنزل علينا، وفائدة هذا الجواب أن الإنسان إذا علم أن ما قدره الله كائن، وأن كل ما ناله من خير أو شر إنما هو بقدر الله وقضائه هانت عليه المصائب، ولم يجد مرارة شماتة الأعداء وتشفي الحسدة "هو مولانا" أي ناصرنا وجاعل العاقبة لنا ومظهر دينه على جميع الأديان، والتوكل على الله تفويض الأمور إليه، والمعنى: أن من حق المؤمنين أن يجعلوا توكلهم مختصاً بالله سبحانه لا يتوكلون على غيره. وقرأ طلحة بن مصرف "يصيبنا" بتشديد الياء. وقرأ أعين قاضي الري يصيبنا بنون مشددة، وهو لحن لأن الخبر لا يؤك، ورد بمثل قوله تعالى: "هل يذهبن كيده ما يغيظ". وقال الزجاج: معناه لا يصيبنا إلا ما اختصنا الله من النصرة عليكم أو الشهادة.

قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ

وعلى هذا القول يكون قوله: 52- "قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين" تكريراً لغرض التأكيد، والأول أولى حتى يكون كل واحد من الجوابين اللذين أمر الله سبحانه رسوله بأن يجيب عليهم بهما مفيداً لفائدة غير فائدة الآخر، والتأسيس خير من التأكيد، ومعنى "هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين" هل تنتظرون بنا إلا إحدى الخصلتين الحسنيين: إما النصرة أو الشهادة، وكلاهما مما يحسن لدينا، والحسنى تأنيث الأحسن، ومعنى الاستفهام التقريع والتوبيخ "ونحن نتربص بكم" إحدى المساءتين لكم: إما "أن يصيبكم الله بعذاب من عنده" أي قارعة نازلة من السماء فيسحتكم بعذابه، "أو" بعذاب لكم "بأيدينا" أي بإظهار الله لنا عليكم بالقتل والأسر والنهب والسبي. والفاء في فتربصوا فصيحة، والأمر للتهديد كما في قوله: "ذق إنك أنت العزيز الكريم" أي تربصوا بنا ما ذكرنا من عاقبتنا فنحن معكم متربصون ما هو عاقبتكم فستنظرون عند ذلك ما يسرنا يسوءكم. وقرأ البزي وابن فليح هل تربصون بإظهار اللام وتشديد التاء. وقرأ الكوفيون بإدغام اللام في التاء. وقرأ الباقون بإظهار اللام وتخفيف التاء.

قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ

قوله: 53- "قل أنفقوا طوعاً أو كرهاً لن يتقبل منكم" هذا الأمر معناه الشرط والجزاء، لأن الله سبحانه لا يأمرهم بما لا يتقبله منهم، والتقدير: إن أنفقتم طائعين أو مكرهين فلن يتقبل منكم، وقيل هو أمر في معنى الخبر: أي أنفقتم طوعاً أو كرهاً لن يتقبل منكم، فهو كقوله: "استغفر لهم أو لا تستغفر لهم" وفيه الإشعار بتساوي الأمرين في عدم القبول، وانتصاب طوعاً أو كرهاً على الحال فهما مصدران في موقع المشتقين: أي أنفقوا طائعين في غير أمر من الله ورسوله أو مكرهين بأمر منهما. وسمي الأمر منهما إكراهاً لأنهم منافقون لا يأتمرون بالأمر، فكانوا بأمرهم الذي لا يأتمرون به كالمكرهين على الإنفاق، أو طائعين من غير إكراه من رؤسائكم أو مكرهين منهم، وجملة "إنكم كنتم قوماً فاسقين" تعليل لعدم قبول إنفاقهم. والفسق: التمرد والعتو، وقد سبق بيانه لغة وشرعاً.

وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ

ثم بين سبحانه السبب المانع من قبول نفقاتهم فقال: 54- "وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله" أي كفرهم بالله وبرسوله جعل المانع من القبول ثلاثة أمور: الأول: الكفر، الثاني: أنهم لا يصلون في حال من الأحوال إلا في حال الكسل والتثاقل، لأنهم لا يرجون ثواباً ولا يخافون عقاباً، فصلاتهم ليست إلا رياء للناس وتظهراً بالإسلام الذي يبطنون خلافه، والثالث: أنهم لا ينفقون أموالهم إلا وهم كارهون، ولا ينفقونها طوعاً لأنهم يعدون إنفاقها وضعاً لها في مضيعة لعدم إيمانهم بما وعد الله ورسوله.

فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ

قوله: 55- "فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم" الإعجاب بالشيء: أن يسر به سروراً راض، متعجب من حسنه، قيل مع نوع من الافتخار واعتقاد أنه ليس لغيره ما يساويه، والمعنى: لا تستحسن ما معهم من الأموال والأولاد "إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا" بما يحصل معهم من الغم والحزن عند أن يغنمها المسلمون ويأخذوها قسراً من أيديهم مع كونها زينة حياتهم وقرة أعينهم، وكذا في الآخرة يعذبهم بعذاب النار بسبب عدم الشكر لربهم الذي أعطاهم ذلك، وترك ما يجب عليهم من الزكاة فيها، والتصدق بما يحق التصدق به وقيل في الكلام تقديم وتأخير، والمعنى: فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا، إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة لأنهم منافقون، فهم ينفقون كارهين فيعذبون بما ينفقون. قوله: "وتزهق أنفسهم وهم كافرون" الزهوق: الخروج بصعوبة، والمعنى: أن الله يريد أن تزهق أنفسهم وتخرج أرواحهم حال كفرهم لعدم قبولهم لما جاءت به الأنبياء وأرسلت به الرسل، وتصميمهم على الكفر وتماديهم في الضلالة.

وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ

ثم ذكر الله سبحانه نوعاً آخر من قبائح المنافقين فقال: 56- "ويحلفون بالله إنهم لمنكم" أي من جملتكم في دين الإسلام والانقياد لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولكتاب الله سبحانه "وما هم منكم" في ذلك إلا بمجرد ظواهرهم دون بواطنهم "ولكنهم قوم يفرقون" أي يخافون أن ينزل بهم ما نزل بالمشركين من القتل والسبي، فيظهرون لكم الإسلام تقية منهم لا عن حقيقة.

لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ

57- " لو يجدون ملجأ " يلتجئون إليه ويحفظون نفوسهم فيه منكم من حصن أو غيره "أو مغارات" جمع مغارة، من غار يغير. قال الأخفش: ويجوز أن يكون من أغار يغير، والمغارات: الغيران والسراديب، وهي المواضع التي يستتر فيها، ومنه غار الماء وغارت العين، والمعنى: لو وجدوا أمكنة يغيبون فيا أشخاصهم هرباً منكم "أو مدخلاً" من الدخول: أي مكاناً يدخلون فيه من الأمكنة التي ليست مغارات. قال النحاس: الأصل فيه متدخل قلبت التاء دالاً، وقيل أصله مدتخل. وقرأ أبي متدخلاً وروي عنه أنه قرأ مندخلاً بالنون. وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وابن محيصن أو مدخلاً بفتح الميم وإسكان الدال. قال الزجاج: ويقرأ أو مدخلاً بضم الميم وإسكان الدال. وقرأ الباقون بتشديد الدال مع ضم الميم "لولوا إليه" أي لالتجئوا إليه وأدخلوا أنفسهم فيه "و" الحال أنـ " وهم يجمحون " أي يسرعون إسراعاً لا يردهم شيء، من جمح الفرس: إذا لم يرده اللجام، ومنه قول الشاعر: سبوح جموح وإحضــارها كمعمعة السعف الموقد والمعنى: لو وجدوا شيئاً من هذه الأشياء المذكورة لولوا إليه مسرعين هرباً من المسلمين. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن جابر بن عبد الله قال: جعل المنافقون الذين تخلفوا بالمدينة يخبرون عن النبي صلى الله عليه وسلم أخبار السوء يقولون: إن محمداً وأصحابه قد جهدوا في سفرهم وهلكوا، فبلغهم تكذيب حديثهم وعافية النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فساءهم ذلك فأنزل الله: "إن تصبك حسنة تسؤهم" الآية. وأخرج سنيد وابن جرير عن ابن عباس "إن تصبك حسنة تسؤهم" يقول: إن يصبك في سفرك هذه الغزوة تبوك حسنة تسؤهم قال: الجد وأصحابه، يعني الجد بن قيس. وأخرج أبو الشيخ عن السدي "قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا" قال: إلا ما قضى الله لنا. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: "هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين" قال: فتح أو شهادة. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله: "أو بأيدينا" قال: القتل بالسيوف. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: قال الجد بن قيس إني إذا رأيت النساء لم أصبر حتى أفتتن ولكن أعينك بمالي، قال: ففيه نزلت: "قل أنفقوا طوعاً أو كرهاً" الآية. وأخرج وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: "فلا تعجبك أموالهم" قال: هذه من تقاديم الكلام، يقول: لا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا، إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس قال: إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله: "وتزهق أنفسهم وهم كافرون" قال: تزهق أنفسهم في الحياة الدنيا "وهم كافرون" قال: هذه آية فيها تقديم وتأخير. وأخرج أبو حاتم وأبو الشيخ عن الضحاك في قوله: "فلا تعجبك" يقول: لا يغررك "وتزهق" قال: تخرج أنفسهم، قال في الدنيا وهم كافرون. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: " لو يجدون ملجأ " الآية قال: الملجأ الحرز في الجبال، والمغارات: الغيران، والمدخل: السرب. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي "وهم يجمحون" قال: يسرعون.

وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ

قوله: 58- "ومنهم من يلمزك" هذا ذكر نوع آخر من قبائحهم، يقال: يلمزه: إذا عابه. قال الجوهري: اللمز العيب، وأصله الإشارة بالعين ونحوه، وقد لمزه يلمزه ويلمزه، ورجل لماز، ولمزة: أي عياب. قال الزجاج: لمزت الرجل ألمزه وألمزه، بكسر الميم وضمها: إذا عبته، وكذا همزته. ومعنى الآية: ومن المنافقين من يعيبك في الصدقات: أي في تفريقها وقسمتها. وروي عن مجاهد أنه قال: معنى "يلمزك" يرزؤك ويسألك، والقول عند أهل اللغة هو الأول كما قال النحاس. وقرى يلمزك بضم الميم، ويلمزك بكسرها مع التشديد. وقرأ الجمهور بكسرها مخففة "فإن أعطوا منها" أي من الصدقات بقدر ما يريدون "رضوا" بما وقع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعيبوه، وذلك لأنه لا مقصد لهم إلا حطام الدنيا، وليسوا من الدين في شيء "وإن لم يعطوا منها" أي من الصدقات ما يريدونه ويطلبونه "إذا هم يسخطون" أي وإن لم يعطوا فاجئوا السخط، وفائدة إذا الفجائية أن الشرط مفاجئ للجزاء وهاجم عليه. وقد نابت إذا الفجائية مناب فاء الجزاء.

وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ

59- " ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله " أي ما فرضه الله لهم وما أعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصدقات، وجواب لو محذوف: أي لكان خيراً لهم فإن فيما أعطهم الخير العاجل والآجل "وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله" أي قالوا هذه المقالة عند أن أعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هو لهم: أي كفانا الله، سيعطينا من فضله ويعطينا رسوله بعد هذا ما نرجوه ونؤمله "إنا إلى الله راغبون" في أن يعطينا من فضله ما نرجوه.

إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ

قوله: 60- "إنما الصدقات للفقراء" لما لمز المنافقون رسول الله صلى الله عليه وسلم في قسمة الصدقات بين الله لهم مصرفها دفعاً لطعنهم وقطعاً لشغبهم، و "إنما" من صيغ القصر، وتعريف الصدقات للجنس: أي جنس هذه الصدقات مقصور على هذه الأصناف المذكورة لا يتجاوزها، بل هي لهم لا لغيرهم. وقد اختلف أهل العلم هل يجب تقسيط الصدقات على هذه الأصناف الثمانية، أو يجوز صرفها إلى البعض دون البعض على حسب ما يراه الإمام أو صاحب الصدقة؟ فذهب إلى الأول الشافعي وجماعة من أهل العلم، وذهب إلى الثاني مالك وأبو حنيفة، وبه قال عمر وحذيفة وابن عباس وأبو العالية وسعيد بن جبير وميمون بن مهران. قال ابن جرير وهو قول عامة أهل العلم: احتج الأولون بما في الآية من القصر وبحديث زياد بن الحرث الصدائي عند أبي داود والدارقطني قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فبايعته، فأتى رجل فقال: أعطني من الصدقة، فقال له: "إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو فجزأها ثمانية أصناف، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك". وأجاب الآخرون بأن ما في الآية من القصر إنما هو لبيان الصرف والمصرف، لا لوجوب استيعاب الأصناف، وبأن في إسناد الحديث عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي وهو ضعيف. ومما يؤيد ما ذهب إليه الآخرون قوله تعالى: "إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم" والصدقة تطلق على الواجبة كما تطلق على المندوبة. وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردها في فقرائكم". وقد ادعى مالك الإجماع على القول الآخر. قال ابن عبد البر: يريد إجماع الصحابة فإنه لا يعلم له مخالفاً منهم. قوله: "للفقراء" قدمهم لأنهم أحوج من البقية على المشهور لشدة فاقتهم وحاجتهم. وقد اختلف أهل العلم في الفرق بين الفقير والمسكين على أقوال: فقال يعقوب بن السكيت والقتيبي ويونس بن حبيب: إن الفقير أحسن حالاً من المسكين، قالوا: لأن الفقير هو الذي له بعض ما يكفيه ويقيمه، والمسكين الذي لا شيء له، وذهب إلى هذا قوم من أهل الفقه منهم أبو حنيفة. وقال آخرون بالعكس، فجعلوا المسكين أحسن حالاً من الفقير، واحتجوا بقوله تعالى: "أما السفينة فكانت لمساكين" فأخبر أن لهم سفينة من سفن البحر، وربما ساوت جملة من المال، ويؤيده تعوذ النبي صلى الله عليه وسلم من الفقر مع قوله: "اللهم أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً" وإلى هذا ذهب الأصمعي وغيره من أهل اللغة، وحكاه الطحاوي عن الكوفيين، وهو أحد قولي الشافعي وأكثر أصحابه. وقال قوم: إن الفقير والمسكين سواء لا فرق بينهما وهو أحد قولي الشافعي، وإليه ذهب ابن القاسم وسائر أصحاب مالك، وبه قال أبو يوسف. وقال قوم: الفقير المحتاج المتعفف، والمسكين السائل. قاله الأزهري، واختاره ابن شعبان، وهو مروي عن ابن عباس. وقد قيل غير هذه الأقوال مما لا يأتي الاستكثار منه بفائدة يعتد بها. والأولى في بيان ماهية المسكين ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس المسكين بهذا الطواف الذي يطوف على الناس فترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان، قالوا: فما المسكين يا رسول الله؟ قال: الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يسأل الناس شيئاً". قوله: "والعاملين عليها" أي السعاة والجباة الذين يبعثهم الإمام لتحصيل الزكاة فإنهم يستحقون منها قسطاً. وقد اختلف في القدر الذي يأخذونه منها، فقيل الثمن، روي ذلك عن مجاهد والشافعي. وقيل على قدر أعمالهم من الأجرة، روي ذلك عن أبي حنيفة وأصحابه. وقيل: يعطون من بيت الله قدر أجرتهم، روي ذلك عن مالك، ولا وجه لهذا، فإن الله قد أخبر بأن لهم نصيباً من الصدقة فكيف يمنعون منها ويعطون من غيرها؟ واختلفوا هل يجوز أن يكون العامل هاشمياً أم لا؟ فمنعه قوم، وأجازه آخرون. قالوا: ويعطى من غير الصدقة. قوله: "والمؤلفة قلوبهم" هم قوم كانوا في صدر الإسلام، فقيل: هم الكفار الذين كان النبي صلى الله عليه وسلم يتألفهم ليسلموا، وكانوا لا يدخلون في الإسلام بالقهر والسيف، بل بالعطاء، وقيل: هم قوم أسلموا في الظاهر ولم يحسن إسلامهم، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتألفهم بالعطاء، وقيل: هم من أسلم من اليهود والنصارى، وقيل: هم قوم من عظماء المشركين لهم أتباع أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم ليتألفوا أتباعهم على الإسلام. وقد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم جماعة ممن أسلم ظاهراً كأبي سفيان بن حرب والحرث بن هشام وسهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزى، أعطى كل واحد منهم مائة من الإبل تألفهم بذلك، وأعطى آخرين دونهم. وقد اختلف العلماء هل سهم المؤلفة قلوبهم باق بعد ظهور الإسلام أم لا؟ فقال عمر والحسن والشعبي: قد انقطع هذا الصنف بعزة الإسلام وظهوره، وهذا مشهور من مذهب مالك وأصحاب الرأي، وقد ادعى بعض الحنفية أن الصحابة أجمعت على ذلك. وقال جماعة من العلماء: سهمهم باق لأن الإمام ربما احتاج أن يتألف على الإسلام، وإنما قطعهم عمر لما رأى من إعزاز الدين. قال يونس: سألت الزهري عنهم فقال: لا أعلم نسخ ذلك وعلى القول الأول يرجع سهمهم لسائر الأصناف. قوله: "وفي الرقاب" أي في فك الرقاب بأن يشتري رقاباً ثم يعتقها. روي ذلك عن ابن عباس وابن عمر، وبه قال مالك وأحمد بن حنبل وإسحاق وأبو عبيد. وقال الحسن البصري ومقاتل بن حيان وعمر بن عبد العزيز وسعيد بن جبير والنخعي والزهري وابن زيد: إنهم المكاتبون يعانون من الصدقة على مال الكتابة، وهو قول الشافعي وأصحاب الرأي ورواية عن مالك، والأولى حمل ما في الآية على القولين جميعاً لصدق الرقاب على شراء العبد وإعتاقه، وعلى إعانة المكاتب على مال الكتابة. قوله: "والغارمين" هم الذين ركبتهم الديون ولا وفاء عندهم بها، ولا خلاف في ذلك إلا من لزمه دين في سفاهة فإنه لا يعطى منها ولا من غيرها إلا أن يتوب. وقد أعان النبي صلى الله عليه وسلم من الصدقة من تحمل حمالة وأرشد إلى إعانته منها. قوله: "وفي سبيل الله" هم الغزاة والمرابطون يعطون من الصدقة ما ينفقون في غزوهم ومرابطتهم وإن كانوا أغنياء، وهذا قول أكثر العلماء. وقال ابن عمر: هم الحجاج والعمار، وروي عن أحمد وإسحاق أنهما جعلا الحج من سبيل الله. وقال أبو حنيفة وصاحباه: لا يعطى الغازي إلا إذا كان فقيراً منقطعاً به. قوله: "وابن السبيل" هو المسافر، والسبيل الطريق، ونسب إليها المسافر لملازمته إياها، والمراد الذي انقطعت به الأسباب في سفره عن بلده ومستقره فإنه يعطى منها وإن كان غنياً في بلده، وإن وجد من يسلفه. وقال مالك: إذا وجد من يسلفه فلا يعطى. قوله: "فريضة من الله" مصدر مؤكد، لأن قوله: "إنما الصدقات للفقراء" معناه: فرض الله الصدقات لهم. والمعنى: أن كون الصدقات مقصورة على هذه الأصناف هو حكم لازم فرضه الله على عباده ونهاهم عن مجاوزته "والله عليم" بأحوال عباده "حكيم" في أفعاله، وقيل: إن فريضة منتصبة بفعل مقدر: أي فرض الله ذلك فريضة. قال في الكشاف: فإن قلت لم عدل عن اللام إلى في في الأربعة الآخرة؟ قلت: للإيذان بأنها أرسخ في استحقاق التصدق عليهم ممن سبق ذكره، وقيل: النكتة في العدول أن الأصناف الأربعة الأول يصرف المال إليهم حتى يتصرفوا به كما شاءوا، وفي الأربعة الأخيرة لا يصرف المال إليهم، بل يصرف إلى جهات الحاجات المعتبرة في الصفات التي لأجلها استحقوا سهم الزكاة، كذا قيل. وقد أخرج البخاري والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال:" بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم قسماً إذ جاءه ابن ذي الخويصرة التيمي فقال: اعدل يا رسول الله، فقال:ويحك، ومن يعدل إذا لم أعدل؟ فقال عمر بن الخطاب: ائذن لي فأضرب عنقه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعه فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية" الحديث حتى "قال: وفيهم نزلت: "ومنهم من يلمزك في الصدقات"". وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "ومنهم من يلمزك" قال: يرزأك يسألك. وأخرج ابن المنذر عن قتادة قال: يطعن عليك. وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال:" لما قسم النبي صلى الله عليه وسلم غنائم حنين سمعت رجلاً يقول: إن هذه لقسمة ما أريد بها الله، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم وذكرت ذلك له، فقال: رحمة الله على موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر"، ونزل: "ومنهم من يلمزك في الصدقات"، وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: نسخت هذه الآية كل صدقة في القرآن "إنما الصدقات للفقراء" الآية. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وأبو الشيخ عن حذيفة في قوله: "إنما الصدقات للفقراء" الآية قال: إن شئت جعلتها في صنف واحد من الأصناف الثمانية التي سمى الله أو صنفين أو ثلاثة. وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي العالية والحسن وعطاء وإبراهيم وسعيد بن جبير نحوه. وأخرج ابن المنذر والنحاس عن ابن عباس قال: الفقراء فقراء المسلمين، والمساكين الطوافون. وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس وأبو الشيخ عن قتادة قال: الفقير الذي به زمانة، والمسكين المحتاج الذي ليس به زمانة. وأخرج ابن أبي شيبة عن عمر في قوله: "إنما الصدقات للفقراء" قال: هم زمنى أهل الكتاب. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "والعاملين عليها" قال: السعاة أصحاب الصدقة. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "والمؤلفة قلوبهم" قال: هم قوم كانوا يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أسلموا، وكان يرضخ لهم من الصدقات، فإذا أعطاهم من الصدقة فأصابوا منها خيراً قالوا: هذا دين صالح، وإن كان غير ذلك عابوه وتركوه. وأخرج البخاري وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي سعيد قال: " بعث علي بن أبي طالب من اليمن إلى النبي صلى الله عليه وسلم بذهيبة فيها تربتها، فقسمها بين أربعة من المؤلفة: الأقرع بن حابس الحنظلي وعلقمة بن علاثة العامري، وعيينة بن بدر الفزاري، وزيد الخيل الطائي، فقالت قريش والأنصار: يقسم بين صناديد أهل نجد ويدعنا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم:إنما أتألفهم". وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الزهري أنه سئل عن المؤلفة قلوبهم قال: من أسلم من يهودي أو نصراني، قلت: وإن كان موسراً؟ قال: وإن كان موسراً. وأخرج هؤلاء عن أبي جعفر قال: ليس اليوم مؤلفة قلوبهم. وأخرج هؤلاء أيضاً عن الشعبي مثله. وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل في قوله: "وفي الرقاب" قال: هم المكاتبون. وأخرج ابن المنذر عن النخعي نحوه. أخرج أيضاً عن عمر بن عبد الله قال: سهم الرقاب نصفان: نصف لكل مكاتب ممن يدعي الإسلام، والنصف الآخر يشتري به رقاب ممن صلى وصام وقدم إسلامه من ذكر وأنثى يعتقون لله. وأخرج ابن أبي شيبة وأبو عبيد وابن المنذر عن ابن عباس أنه كان لا يرى بأساً أن يعطي الرجل من زكاته في الحج وأن يعتق منها رقبة. وأخرج ابن أبي شيبة عن الزهري أنه سئل عن الغارمين قال: أصحاب الدين. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أبي جعفر في قوله: "والغارمين" قال: هو الذي يسأل في دم أو جائحة تصيبه "وفي سبيل الله" قال: هم المجاهدون "وابن السبيل" قال: المنقطع به يعطى قدر ما يبلغه. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: ابن السبيل هو الضيف الفقير الذي ينزل بالمسلمين. وأخرج ابن أبي شيبة وأبو داود وابن ماجه وابن المنذر وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: العامل عليها، أو الرجل اشتراها بماله، أو غارم، أو غاز في سبيل الله، أو مسكين تصدق عليه فأهدى منها لغني". وأخرج ابن أبي شيبة وأبو داود والترمذي عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي". وأخرج أحمد عن رجل من بني هلال قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر مثله. وأخرج ابن أبي شيبة وأبو داود والنسائي عن عبد الله بن عدي بن الخيار قال: "أخبرني رجلان أنهما أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وهو يقسم الصدقة فسألاه منها، فرفع فينا البصر وخفضه فرآنا جلدين، فقال:إن شئتما اعطيتكما ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب".

وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ

قوله: 61- "ومنهم" هذا نوع آخر بما حكاه الله من فضائح المنافقين وقبائحهم، وذلك أنهم كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم على وجه الطعن والذم هو أذن. قال الجوهري: يقال رجل أذن: إذا كان يسمع مقال كل أحد، يستوي فيه الواحد والجمع ومرادهم، أقمأهم الله، أنهم إذا آذوا النبي وبسطوا فيه ألسنهم، وبلغه ذلك اعتذروا له وقبل ذلك منهم، لأنه يسمع كل ما يقال له فيصدقه، وإنما أطلقت العرب على من يسمع ما يقال له فيصدقه أنه أذن مبالغة، لأنهم سموه بالجارحة التي هي آلة السماع، حتى كأن جملته أذن سامعة، ونظيره قولهم للربيئة عين، وإيذاؤهم له هو قولهم: "هو أذن" لأنهم نسبوه إلى أنه يصدق كل ما يقال له ولا يفرق بين الصحيح والباطل اغتراراً منهم بحلمه عنهم وصفحه عن جناياتهم كرماً وحلماً وتغاضياً، ثم أجاب الله عن قولهم هذا، فقال: "قل أذن خير لكم" بالإضافة على قراءة الجمهور. وقرأ الحسن بالتنوين، وكذا قرأ عاصم في رواية أبي بكر عنه، كأنه قيل: نعم هو أذن، ولكن نعم الأذن هو لكونه أذن خير لكم وليس بأذن في غير ذلك، كقولهم رجل صدق، يريدون الجودة والصلاح. والمعنى أنه يسمع الخير ولا يسمع الشر. وقرئ أذن بسكون الذال وضمها، ثم فسر كونه أذن خير بقوله: "يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين" أي يصدق بالله ويصدق المؤمنين لما علم فيهم من خلوص الإيمان فتكون اللام في "للمؤمنين" للتقوية، كما قال الكوفيون، أو متعلقة بمصدر محذوف، كما قال المبرد. وقرأ الجمهور ورحمة بالرفع عطف على أذن. وقرى حمزة بالخفض عطفاً على خير. والمعنى على القراءة الأولى: هو أنه أذن خير وأنه هو رحمة للمؤمنين، وعلى القراءة الثانية: أنه أذن خير وأذن رحمة. قال النحاس: وهذا عند أهل العربية بعيد، يعني قراءة الجر لأنه قد تباعد بين الإسمين، وهذا يقبح في المخفوض. والمعنى: أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن خير للمنافقين "ورحمة" لهم حيث لم يكشف أسرارهم ولا فضحهم، فكأنه قال: هو أذن كما قلتم لكنه أذن خير لكمن لا أذن سوء، فسلم لهم قولهم فيه إلا أنه فسره بما هو مدح له وثناء عليه، وإن كانوا قصدوا به المذمة والتقصير بفطنته، ومعنى "للذين آمنوا منكم" أي الذين أظهروا الإيمان وإن لم يكونوا مؤمنين حقيقة "والذين يؤذون رسول الله" صلى الله عليه وسلم بما تقدم من قولهم: هو أذن. ونحو ذلك مما يصدق عليه أنه أذية لرسول الله صلى الله عليه وسلم "لهم عذاب أليم" أي شديد الألم. وقرأ ابن أبي عبلة ورحمة للمؤمنين بالنصب على أنها علة لمعلل محذوف: أي ورحمة لكم يأذن لكم.

يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ

ثم ذكر أن من قبائح المنافقين إقدامهم على الأيمان الكاذبة، فقال: 62- "يحلفون بالله لكم ليرضوكم" والخطاب للمؤمنين. وذلك أن المنافقين كانوا في خلواتهم يطعنون على المؤمنين وعلى النبي صلى الله عليه وسلم فإذا بلغ ذلك إلى رسول الله وإلى المؤمنين جاء المنافقون فحلفوا على أنهم لم يقولوا ما بلغ عنهم قاصدين بهذه الأيمان الكاذبة أن يرضوا رسول الله ومن معه من المؤمنين فنعى الله ذلك عنهم، وقال: "والله ورسوله أحق أن يرضوه" أي هما أحق بذلك من إرضاء المؤمنين بالأيمان الكاذبة، فإنهم لو اتقوا الله وآمنوا به وتركوا النفاق لكان ذلك أولى لهم، وإفراد الضمير في يرضوه إما للتعظيم للجناب الإلهي بإفراده بالذكر أو لكون لا فرق بين إرضاء الله وإرضاء رسوله، فإرضاء الله إرضاء لرسوله، أو المراد: الله أحق أن يرضوه ورسوله كذلك كما قال سيبويه، ورجحه النحاس، أو لأن الضمير موضوع موضع اسم الإشارة فإنه يشار به إلى الواحد والمتعدد، أو الضمير راجع إلى المذكور، وهو يصدق عليهما. وقال الفراء: المعنى ورسوله أحق أن يرضوه، والله افتتاح كلام كما تقول ما شاء الله وشئت، وهذه الجملة أعني "والله ورسوله أحق أن يرضوه" في محل نصب على الحال، وجواب "إن كانوا مؤمنين" محذوف: أي إن كانوا مؤمنين فليرضوا الله ورسوله.

أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ

قوله: 63- " ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم ". قرأ الحسن وابن هرمز ألم تعلموا بالفوقية. وقرأ الباقون بالتحتية: والمحاددة وقوع هذا في حد، وذلك في حد كالمشاقفة: يقال حاد فلان فلاناً: أي صار في حد غيره حده "فإن له نار جهنم". قرأ الجمهور بفتح الهمزة على أنه خبر مبتدأ محذوف: أي فحق أن له نار جهنم. وقال الخليل وسيبويه: إن أن الثانية مبدلة من الأولى، وزعم المبرد أن هذا القول مردود، وأن الصحيح ما قال الجرمي: أن الثانية مكررة للتوكيد لما طال الكلام. وقال الأخفش: المعنى فوجوب النار له، وأنكره المبرد وقال: هذا خطأ من أجل أن أن المفتوحة المشددة لا يبتدأ بها ويضمر الخبر. وقرئ بكسر الهمزة. قال سيبويه، وهي قراءة جيدة، وأنشد: وإني إذا ملت ركابي مناخها فإني على حظي من الأمر جامح وانتصاب خالداً على الحال، والإشارة بقوله: "ذلك" إلى ما ذكر من العذاب، وهو مبتدأ وخبره "الخزي العظيم" أي الخزي البالغ إلى الغاية التي لا يبلغ إليها غيره، وهو الذل والهوان.

يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ

قوله: 64- "يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة" قيل: هو خبر وليس بأمر. وقال الزجاج: معناه ليحذر. فالمعنى على القول الأول: أن المنافقين كانوا يحذرون نزول القرآن فيهم، وعلى الثاني: الأمر لهم بأن يحذروا ذلك، وأن تنزل في موضع نصب: أي من أن تنزل، ويجوز على قول سيبويه أن يكون في موضع خفض على تقدير من وإعمالها، ويجوز أن يكون النصب على المفعولين. وقد أجاز سيبويه حذرت زيداً، وأنشد: حذر أموراً لا تضير وآمن ما ليس ينجيه من الأقدار ومنع من النصب على المفعولية المبرد. ومعنى "عليهم" أي على المؤمنين في شأن المنافقين، على أن الضمير للمؤمنين، والأولى أن يكون الضمير للمنافقين: أي في شأنهم "تنبئهم" أي المنافقين "بما في قلوبهم" مما يسرونه فضلاً عما يظهرونه، وهم وإن كانوا عالمين بما في قلوبهم فالمراد من إنباء السورة لهم إطلاعهم على أن المؤمنين قد علموا بما في قلوبهم، ثم أمر الله رسوله بأن يجيب عليهم، فقال: "قل استهزئوا إن الله مخرج ما تحذرون" هو أمر تهديد: أي افعلوا الاستهزاء إن الله مخرج ما تحذرون من ظهوره حتى يطلع عليه المؤمنون، إما بإنزال سورة، أو بإخبار رسوله بذلك أو نحو ذلك.

وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ

قوله: 65- "ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب" أي ولئن سألتهم عما قالوه من الطعن في الدين وثلب المؤمنين بعد أن يبلغ إليه ذلك ويطلعك الله عليه ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب، ولم نكن في شيء من أمرك ولا أمر المؤمنين. ثم أمره الله يجيب عنهم فقال: "قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون" والاستفهام للتقريع والتوبيخ، وأثبت وقوع ذلك منهم ولم يعبأ بإنكارهم، لأنهم كانوا كاذبين في الإنكار، بل جعلهم كالمعترفين بوقوع ذلك منهم حيث جعل المستهزأ به، والباء لحرف النفي، فإن ذلك إنما يكون بعد وقوع الاستهزاء وثبوته.

لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ

ثم قال: 66- "لا تعتذروا" نهيا لهم عن الاشتغال بالاعتذارات الباطلة، فإن ذلك غير مقبول منهم. وقد نقل الواحدي عن أئمة اللغة أن معنى الاعتذار محو أثر الذنب وقطعه، من قولهم اعتذر المنزل إذا درس، واعتذرت المياه إذا انقطعت "قد كفرتم" أي أظهرتم الكفر بما وقع منكم من الاستهزاء المذكور "بعد إيمانكم" أي بعد إظهاركم الإيمان مع كونكم تبطنون الكفر "إن نعف عن طائفة منكم" وهم من أخلص الإيمان وترك النفاق وتاب عنه. قال الزجاج: الطائفة في اللغة الجماعة. قال ابن الأنباري: ويطلق لفظ الجمع على الواحد عند العرب " نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين " سبب "أنهم كانوا مجرمين" مصرين على النفاق لم يتوبوا منه، قرئ نعذب بالنون وبالتاء الفوقية على البناء للمفعول وبالتحتية على البناء للفاعل وهو الله سبحانه. وقد أخرج ابن إسحاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان نبتل بن الحارث يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيجلس إليه فيسمع منه، ثم ينقل حديثه إلى المنافقين، وهو الذي قال لهم: إنما محمد أذن، من حدثه بشيء صدقه، فأنزل الله فيه: "ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن" الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال: اجتمع ناس من المنافقين فيهم خلاس بن سويد بن صامت ومخشي بن حمير ووديعة بن ثابت، فأرادوا أن يقعوا في النبي صلى الله عليه وسلم فنهى بعضهم بعضاً وقالوا: إنا نخاف أن يبلغ محمداً فيقع بكم، فقال بعضهم: إنما محمد أذن نحلف له فيصدقنا، فنزل: "ومنهم الذين يؤذون النبي" الآية. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "هو أذن" يعني أنه يسمع من كل أحد. قال الله تعالى: "أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين" يعني يصدق بالله ويصدق المؤمنين. وأخرج الطبراني وابن عساكر وابن مردويه عن عمير بن سعد قال: في أنزلت هذه الآية "ويقولون هو أذن" وذلك أن عمير بن سعد كان يسمع أحاديث أهل المدينة، فيأتي النبي صلى الله عليه وسلم فيساره حتى كانوا يتأذون بعمير بن سعد وكرهوا مجالسته، وقال: "هو أذن" فأنزل فيه. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال: ذكر لنا أن رجلاً من المنافقين قال: والله إن هؤلاء لخيارنا وأشرافنا، ولئن كان ما يقول محمد حقاً لهم شر من الحمير، فسمعها رجل من المسلمين فقال: والله إن ما يقول محمد لحق ولأنت شر من الحمار، فسعى بها الرجل إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فأرسل إلى الرجل فدعاه فقال: ما حملك على الذي قلت؟ فجعل يلتعن ويحلف بالله ما قال ذلك، وجعل الرجل المسلم يقول: اللهم صدق الصادق وكذب الكاذب، فأنزل الله في ذلك: "يحلفون بالله لكم ليرضوكم" الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي مثله، وسمى الرجل المسلم عامر بن قيس من الأنصار. وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك "ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله" يقول: يعادي الله ورسوله. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "يحذر المنافقون" الآية قال: يقولون القول فيما بينهم، ثم يقولون عسى الله أن لا يفشي علينا هذا. وأخرج أبو نعيم في الحلية عن شريح بن عبيد أن رجلاً قال لأبي الدرداء: يا معشر القراء ما بالكم أجبن منا وأبخل إذا سئلتم وأعظم لقماً إذا أكلتم؟ فأعرض عنه أبو الدرداء ولم يرد عليه بشيء فأخبر بذلك عمر بن الخطاب، فانطلق عمر إلى الرجل الذي قال ذلك، فقال بثوبه وخنقه وقاده إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال الرجل: إنما كنا نخوض ونلعب، فأوحى الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم "ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن عبد الله بن عمر قال: قال رجل في غزوة تبوك في مجلس يوماً: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء لا أرغب بطوناً ولا أكذب ألسنة ولا أجبن عند اللقاء، فقال رجل في المجلس: كذبت ولكنك منافق، لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل القرآن. قال عبد الله: فأنا رأيته متعلقاً بحقب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم والحجارة تنكبه وهو يقول: يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون". وأخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم والعقيلي في الضعفاء وأبو الشيخ وابن مردويه والخطيب في رواية مالك عن ابن عمر، فقال: رأيت عبد الله بن أبي وهو يشتد قدام النبي صلى الله عليه وسلم والأحجار تنكبه وهو يقول: يا محمد إنما كنا نخوض ونلعب، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون". وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في الآية قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة إلى تبوك وبين يديه أناس من المنافقين، فقالوا: أيرجو هذا الرجل أن تفتح له قصور الشام وحصونها؟ هيهات هيهات، فأطلع الله نبيه على ذلك، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: "احبسوا علي هؤلاء الركب"، فأتاهم فقال: قلتم كذا، قالوا: يا نبي الله إنما كنا نخوض ونلعب، فأنزل الله فيهم ما تسمعون. وقد روي نحو هذا من طرق عن جماعة من الصحابة. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "إن نعف عن طائفة" قال: الطائفة الرجل والنفر.

الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ

قوله: 67- "المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض" ذكر هاهنا جملة أحوال المنافقين، وأن ذكورهم في ذلك كإناثهم، وأنهم متناهون في النفاق والبعد عن الإيمان، وفيه إشارة إلى نفي أن يكونوا من المؤمنين، ورد لقولهم: "ويحلفون بالله إنهم لمنكم"، ثم فصل ذلك المجمل ببيان مضادة حالهم لحال المنافقين فقال: "يأمرون بالمنكر" وهو كل قبيح عقلاً أو شرعاً "وينهون عن المعروف" وهو كل حسن عقلاً أو شرعاً. قال الزجاج: هذا متصل بقوله: "ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم" أي ليسوا من المؤمنين، ولكن بعضهم من بعض: أي متشابهون في الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف "ويقبضون أيديهم" أي يشحون فيما ينبغي إخراجه من المال في الصدقة والصلة والجهاد فالقبض كناية عن الشح، كما أن البسط كناية عن الكرم. والنسيان الترك: أي تركوا ما أمرهم به، فتركهم من رحمته وفضله، لأن النسيان الحقيقي لا يصح إطلاقه على الله سبحانه، وإنما أطلق عليه هنا من باب المشاكلة المعروفة في علم البيان، ثم حكم عليهم بالفسق: أي الخروج عن طاعة الله إلى معاصيه، وهذا التركيب يفيد أنهم هم الكاملون في الفسق.

وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ

ثم بين مآل حال أهل النفاق والكفر بأنه 68- "نار جهنم" و "خالدين فيها" حال مقدرة: أي مقدرين الخلود، وفي هذه الآية دليل على أن وعد يقال في الشر كما يقال في الخير: "هي حسبهم" أي كافيتهم لا يحتاجون إلى زيادة على عذابها، "و" مع ذلك فقد "لعنهم الله" أي طردهم وأبعدهم من رحمته "ولهم عذاب مقيم" أي نوع آخر من العذاب دائم لا ينفك عنهم.

كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ

قوله: 69- "كالذين من قبلكم" شبه حال المنافقين بالكفار الذين كانوا من قبلهم ملتفتاً من الغيبة إلى الخطاب، والكاف محلها رفع على خبرية مبتدأ محذوف: أي أنتم مثل الذين من قبلكم، أو محلها نصب: أي فعلتم مثل فعل الذين من قبلكم من الأمم. وقال الزجاج: التقدير وعد الله الكفار نار جهنم وعداً كما وعد الذين من قبلكم، وقيل المعنى: فعلتم كأفعال الذين من قبلكم في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فحذف المضاف. ثم وصف حال أولئك الكفار الذين من قبلهم، وبين وجه تشبيههم بهم وتمثيل حالهم بحالهم بأنهم كانوا أشد من هؤلاء المنافقين والكفار المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم "قوة وأكثر أموالاً وأولاداً فاستمتعوا" أي تمتعوا "بخلاقهم" أي نصيبكم الذي قدره الله لهم من ملاذ الدنيا "فاستمتعتم" أنتم "بخلاقكم" أي نصيبكم الذي قدره الله لكم "كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم" أي انتفعتم به كما انتفعوا به، والغرض من هذا التمثيل ذم هؤلاء المنافقين والكفار بسبب مشابهتهم لمن قبلهم من الكفار في الاستمتاع بما رزقهم الله. وقد قيل: ما فائدة ذكر الاستمتاع بالخلاق في حق الأولين مرة، ثم في حق المنافقين ثانياً، ثم تكريره في حق الأولين ثالثاً؟ وأجيب: بأنه تعالى ذم الأولين بالاستمتاع بما أوتوا من حظوظ الدنيا، وحرمانهم عن سعادة الآخرة بسبب استغرقهم في تلك الحظوظ، فلما قرر تعالى هذا عاد فشبه حال المنافقين بحالهم فيكون ذلك نهاية في المبالغة. قوله: "وخضتم كالذي خاضوا" معطوف على ما قبله: أي كالفوج الذي خاضوا، أو كالخوض الذي خاضوا، وقيل: أصله كالذين فحذفت النون، والأولى أن يقال: إن الذي اسم موصول مثل من وما، يعبر به عن الواحد والجمع، يقال: خضت الماء أخوضه خوضاً وخياضاً، والموضع مخاضة، وهو ما جاز الناس فيه مشاة وركباناً، وجمعها المخاض والمخاوض، ويقال: منه خاض القوم في الحديث وتخاوضوا فيه أي تفاوضوا فيه، والمعنى: خضتم في أسباب الدنيا واللهو اللعب، وقيل في أمر محمد صلى الله عليه وسلم بالتكذيب: أي دخلتم في ذلك، والإشارة بقوله: "أولئك" إلى المتصفين بهذه الأوصاف من المشبهين، والمشبه بهم "حبطت أعمالهم" أي بطلت، والمراد بالأعمال ما عملوه مما هو في صورة طاعة، لا هذه الأعمال المذكورة هنا فإنها من المعاصي، ومعنى "في الدنيا والآخرة" أنها باطلة على كل حال: أما بطلانها في الدنيا فلأن ما يترتب على أعمالهم فيها لا يحصل لهم بل يصير ما يرجونه من الغنى فقراً، ومن العز ذلاً، ومن القوة ضعفاً، وأما في الآخرة فلأنهم يصيرون إلى عذاب النار ولا ينتفعون بشيء مما عملوه من الأعمال التي يظنونها طاعة وقربة "وأولئك هم الخاسرون" أي المتمكنون في الخسران الكاملون فيه فيه الدنيا والآخرة.

أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُ

70- "ألم يأتهم" أي المنافقين "نبأ الذين من قبلهم" أي خبرهم الذي له شأن، وهو ما فعلوه وما فعل بهم، ولما شبه حالهم بحالهم فيما سلف عن الإجمال في المشبه بهم ذكر منهم ههنا ست طوائف قد سمع العرب أخبارهم، لأن بلادهم وهي الشام قريبة من بلاد العرب، فالاستفهام للتقرير، وأولهم: قوم نوح وقد أهلكوا بالإغراق، وثانيهم: قوم عاد وقد أهلكوا بالريح العقيم، وثالثهم: قوم ثمود وقد أخذوا بالصيحة، ورابعهم: قوم إبراهيم وقد سلط الله عليهم البعوض، وخامسهم: أصحاب مدين وهم قوم شعيب وقد أخذتهم الرجفة، وسادسهم: أصحاب المؤتفكات وهي قرى قوم لوط وقد أهلكهم الله بما أمطر عليهم من الحجارة، وسميت مؤتفكات لأنها انقلبت بهم حتى صار عاليها سافلها، والائتفاك الانقلاب "أتتهم رسلهم بالبينات" أي رسل هذه الطوائف الست، وقيل: رسل أصحاب المؤتفكات لأن رسولهم لوط وقد بعث إلى كل قرية من قراهم رسولاً، والفاء في "فما كان الله ليظلمهم" للعطف على مقدر يدل عليه الكلام: أي فكذبوهم فأهلكهم الله فما ظلمهم بذلك، لأنه قد بعث إليهم رسله فأنذروهم وحذروهم "ولكن كانوا أنفسهم يظلمون" بسبب ما فعلوه من الكفر بالله وعدم الانقياد لأنبيائه، وهذا التركيب يدل على أن ظلمهم لأنفسهم كان مستمراً. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "يأمرون بالمنكر" قال: هو التكذيب، قال: وهو أنكر المنكر "وينهون عن المعروف" شهادة أن لا إله إلا الله والإقرار بما أنزل الله، وهو أعظم المعروف. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "ويقبضون أيديهم" قال: لا يبسطونها بنفقة فيحق. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "نسوا الله فنسيهم" قال: تركوا الله فتركهم من كرامته وثوابه. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "كالذين من قبلكم" قال: صنيع الكفار كالكفار. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس قال: ما أشبه الليلة بالبارحة "كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة" إلى قوله: "وخضتم كالذي خاضوا" هؤلاء بنو إسرائيل أشبهناهم، والذي نفسي بيده لنتبعنهم حتى لو دخل رجل جحر ضب لدخلتموه. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه في قوله: "بخلاقهم" قال: بدينهم. وأخرجا أيضاً عن أبي هريرة قال الخلاق: الدين. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله: "فاستمتعوا بخلاقهم" قال: بنصيبهم في الدنيا. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة في قوله: "وخضتم كالذي خاضوا" قال: لعبتم كالذي لعبوا. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "والمؤتفكات" قال: قوم لوط ائتفكت بهم أرضهم، فجعل عاليها سافلها.

وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ

قوله: 71- "بعضهم أولياء بعض" أي قلوبهم متحدة في التوادد والتحابب والتعاطف بسبب ما جمعهم من أمر الدين وضمهم من الإيمان بالله، ثم بين أوصافهم الحميدة كما بين أوصاف من قبلهم من المنافقين فقال: "يأمرون بالمعروف" أي بما هو معروف في الشرع غير منكر، ومن ذلك توحيد الله سبحانه وترك عبادة غيره "وينهون عن المنكر" أي عما هو منكر في الدين غير معروف، وخصص إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة بالذكر من جملة العبادات لكونهما الركنين العظيمين فيما يتعلق بالأبدان والأموال، وقد تقدم معنى هذا "ويطيعون الله" في صنع ما أمرهم بفعله أو نهاهم عن تركه، والإشارة بـ "أولئك" إلى المؤمنين والمؤمنات المتصفين بهذه الأوصاف، والسين في "سيرحمهم الله" للمبالغة في إنجاز الوعد "إن الله عزيز" لا يغالب "حكيم" في أقواله وأفعاله.

وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ

ثم ذكر تفصيل ما يدخل تحت الرحمة إجمالاً باعتبار الرحمة في الدار الآخرة فقال: 72- "وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار" والإظهار في موقع الإضمار لزيادة التقرير، ومعنى جري الأنهار من تحت الجنات أنها تجري تحت أشجارها وغرقها، وقد تقدم تحقيقه في البقرة "ومساكن طيبة" أي منازل يسكنون فيها من الدر والياقوت، و "جنات عدن" يقال: عدن بالمكان: إذا أقام به، ومنه المعدن، قيل هي أعلى الجنة، وقيل أوسطها، وقيل قصور من ذهب لا يدخلها إلا نبي أو صديق أو شهيد، وصف الجنة بأوصاف: الأول: جري الأنهار من تحتها، والثاني: أنهم فيها خالدون، والثالث: طيب مساكنها، والرابع: أنها دار عدن: أي إقامة غير منقطعة، هذا على ما هو معنى عدن لغة، وقيل هو علم، والتنكير في رضوان للتحقير: أي "ورضوان" حقير يستر "من" رضوان "الله أكبر" من ذلك كله الذي أعطاهم الله إياه، وفيه دليل على أنه لا شيء من النعم وإن جلت وعظمت يماثل رضوان الله سبحانه، وأن أدنى رضوان منه لا يساويه شيء من اللذات الجسمانية وإن كانت على غاية ليس وراءها غاية، اللهم ارض عنا رضاً لا يشوبه سخط ولا يكدره نكد، يا من بيده الخير كله دقه وجله، والإشارة بقوله: "ذلك" إلى ما تقدم مما وعد الله به المؤمنين والمؤمنات "هو الفوز العظيم" دون كل فوز مما يعده الناس فوزاً. وقد أخرج أبو الشيخ عن الضحاك في قوله: "يأمرون بالمعروف" قال: يدعون إلى الإيمان بالله ورسوله والنفقات في سبيل الله وما كان من طاعة الله "وينهون عن المنكر" عن الشرك والكفر قال: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة من فرائض الله كتبها الله على المؤمنين. وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "بعضهم أولياء بعض" قال: إخاؤهم في الله يتحابون بجلال الله والولاية لله، وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الأحاديث ما هو معروف. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن الحسن قال: سألت عمران بن حصين وأبا هريرة عن تفسير قوله تعالى: "ومساكن طيبة في جنات عدن" قالا: على الخبير سقطت، سألنا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قصر من لؤلؤة في الجنة، في ذلك القصر سبعون داراً من ياقوتة حمراء، في كل دار سبعون بيتاً من زمردة خضراء، في كل بيت سبعون سريراً، على كل سرير سبعون فراشاً من كل لون، على كل فراش امرأة من الحور العين، في كل بيت سبعون مائدة، في كل مائدة سبعون لوناً من كل طعام، في كل بيت سبعون وصيفاً فيعطى المؤمن من القوة في كل غداة ما يأتي على ذلك كله. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: "جنات عدن" قال: معدن الرجل الذي يكون فيه. وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال: معدنهم فيها أبداً. وأخرج أبو الشيخ عن سعيد بن جبير في قوله: "ورضوان من الله أكبر" يعني: إذا أخبروا أن الله عنهم راض، فهو أكبر عندهم من التحف والتسنيم. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: ربنا وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعطه أحداً من خلقك، فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ قالوا: يا ربنا وأي شيء أفضل من ذلك؟ قال: أحل عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم بعده أبداً".

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ

الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بهذا الجهاد أمر لأمته من بعده، وجهاد الكفار يكون بمقاتلتهم حتى يسلموا، وجهاد المنافقين يكون بإقامة الحجة عليهم حتى يخرجوا عنه ويؤمنوا بالله. وقال الحسن: إن جهاد المنافقين بإقامة الحدود عليهم، واختاره قتادة. قيل في توجيهه إن المنافقين كانوا أكثر من يفعل موجبات الحدود. قال ابن العربي: إن هذه دعوى لا برهان عليها، وليس العاصي بمنافق، إنما المنافق بما يكون في قلبه من النفاق دائماً لا بما تتلبس به الجوارح ظاهراً، وأخبار المحدودين تشهد بسياقتها أنهم لم يكونوا منافقين. قوله: 73- "واغلظ عليه" الغلظ: نقيض الرأفة، وهو شدة القلب وخشونة الجانب، قيل: وهذه الآية نسخت كل شيء من العفو والصلح والصفح.

يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَو

ثم ذكر من خصال المنافقين أنهم يحلفون الأيمان الكاذبة، فقال: 74- "يحلفون بالله ما قالوا". وقد اختلف أئمة التفسير في سبب نزول هذه الآية، فقيل: نزلت في الجلاس بن سويد بن الصامت ووديعة بن ثابت، وذلك أنه لما كثر نزول القرآن في غزوة تبوك في شأن المنافقين وذمهم، فقالا: لئن كان محمد صادقاً على إخواننا الذين هم ساداتنا وخيارنا لنحن شر من الحمير، فقال له عامر بن قيس: أجل والله إن محمداً لصادق مصدق، وإنك لشر من الحمار، وأخبر عامر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء الجلاس فحلف بالله إن عامراً لكاذب، وحلف عامر لقد قال، وقال: اللهم أنزل على نبيك شيئاً فنزلت. وقيل: إن الذي سمع ذلك عاصم بن عدي، وقيل حذيفة، وقيل بل سمعه ولد امرأته: أي امرأة الجلاس، واسمه عمير بن سعد، فهم الجلاس بقتله لئلا يخبر بخبره. وقيل: إن هذه الآية نزلت في عبد الله بن أبي رأس المنافقين لما قال: ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل: سمن كلبك يأكلك، و "لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل" فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فجاء عبد الله بن أبي فحلف أنه لم يقله. وقيل: إنه قول جميع المنافقين وأن الآية نزلت فيهم، وعلى تقدير أن القائل واحد أو اثنان فنسبة القول إلى جميعهم هي باعتبار موافقة من لم يقل ولم يحلف من المنافقين لمن قد قال وحلف. ثم رد الله على المنافقين وكذبهم وبين أنهم حلفوا كذباً، فقال: "ولقد قالوا كلمة الكفر" وهي ما تقدم بيانه على اختلاف الأقوال السابقة "وكفروا بعد إسلامهم" أي كفروا بهذه الكلمة بعد إظهارهم للإسلام وإن كانوا كفاراً في الباطن. والمعنى: أنهم فعلوا ما يوجب كفرهم على تقدير صحة إسلامهم. قوله: "وهموا بما لم ينالوا" قيل: هو همهم بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة في غزوة تبوك، وقيل: هموا بعقد التاج على رأس عبد الله بن أبي، وقيل: هو هم الجلاس بقتل من سمعه يقول تلك المقالة، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: "وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله" أي وما عابوا وأنكروا إلا ما هو حقيق بالمدح والثناء، وهو إغناء الله لهم من فضله، والاستثناء مفرغ من أعم العام، وهو من باب قول النابغة: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب ومن باب قول الشاعر: ما نقموا من بني أمية إلا أنهم يحلمون إن غضبوا فهو من تأكيد المدح بما يشبه الذم. وقد كان هؤلاء المنافقون في ضيق من العيش، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة اتسعت معيشتهم وكثرت أموالهم. قوله: "فإن يتوبوا يك خيراً لهم" أي فإن تحصل منهم التوبة والرجوع إلى الحق يكن ذلك الذي فعلوه من التوبة خيراً لهم في الدين والدنيا. وقد تاب الجلاس بن سويد وحسن إسلامه، وفي ذلك دليل على قبول التوبة من المنافق والكافر. وقد اختلف العلماء في قبولها من الزنديق، فمنع من قبولها مالك وأتباعه، لأنه لا يعلم صحة توبته إذ هو في كل حين يظهر التوبة والإسلام "وإن يتولوا" أي يعرضوا عن التوبة والإيمان "يعذبهم الله عذاباً أليماً في الدنيا" بالقتل والأسر ونهب الأموال "و" في "الآخرة" بعذاب النار "وما لهم في الأرض من ولي" يواليهم "ولا نصير" ينصرهم. وقد أخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم عن كعب بن مالك قال: لما نزل القرآن فيه ذكر المنافقين. قال الجلاس: والله لئن كان هذا الرجل صادقاً لنحن شر من الحمير، فسمعها عمير بن سعد، فقال: والله يا جلاس إنك لأحب الناس إلي وأحسنهم عندي أثراً وأعزهم علي أن يدخل عليه شيء يكرهه، ولقد قلت مقالة لئن ذكرتها لتفضحنك، ولئن سكت عنها لتهلكني، ولإحداهما أشد علي من الأخرى، فمشى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ما قال الجلاس، فحلف بالله ما قال ولكن كذب علي عمير، فأنزل الله: "يحلفون بالله ما قالوا" الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن أنس بن مالك قال:" سمع زيد بن أرقم رجلاً من المنافقين يقول والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب: إن كان هذا صادقاً لنحن شر من الحمير، قال زيد: هو والله صادق وأنت شر من الحمار، فرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجحد القائل، فأنزل الله: "يحلفون بالله ما قالوا" الآية". وأخرج ابن جرير والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس قال:" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً في ظل شجرة فقال: إنه سيأتيكم إنسان ينظر إليكم بعيني شيطان، فإذا جاءكم فلا تكلموه، فلم يلبثوا أن طلع رجل أزرق، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:علام تشتمني أنت وأصحابك، فانطلق الرجل فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما قالوا حتى تجاوز عنهم، وأنزل الله: "يحلفون بالله ما قالوا" الآية". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال: ذكر لنا أن رجلين اقتتلا، أحدهما من جهينة والآخر من غفار، وكانت جهينة حلفاء الأنصار، فظهر الغفاري على الجهني، فقال عبد الله بن أبي للأوس: انصروا أخاكم، والله ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل: سمن كلبك يأكلك والله "لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل" فسعى بها رجل من المسلمين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل إليه فسأله فجعل يحلف بالله ما قاله، فأنزل الله: "يحلفون بالله" الآية، وفي الباب أحاديث مختلفة في سبب هذه الآية، وفيما ذكرناه كفاية. وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "وهموا بما لم ينالوا" قال: هم رجل يقال له الأسود بقتل النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله: "وهموا بما لم ينالوا" قال: أرادوا أن يتوجوا عبد الله بن أبي بتاج. وأخرج ابن ماجه وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال: قتل رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل ديته اثني عشر ألفاً، وذلك قوله: "وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله" قال: بأخذهم الدية.

وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آَتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ

اللام الأولى، وهي 75- "لئن آتانا" الله "من فضله" لام القسم، واللام الثانية، وهي "لنصدقن" لام الجواب للقسم والشرط. ومعنى "لنصدقن" لنخرج الصدقة، وهي أعم من المفروضة وغيرها "ولنكونن من الصالحين" أي من جملة أهل الصلاح من المؤمنين القائمين بواجبات الدين التاركين لمحرماته.

فَلَمَّا آَتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ

76- " فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون " أي لما أعطاهم ما طلبوا من الرزق بخلوا به: أي بما آتاهم من فضله فلم يتصدقوا بشيء منه كما حلفوا به "وتولوا" أي أعرضوا عن طاعة الله وإخراج صدقات ما أعطاهم الله من فضله، "و" الحال أنـ " وهم معرضون " في جميع الأوقات قبل أن يعطيهم الله ما أعطاهم من الرزق وبعده.

فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ

قوله: 77- "فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه" الفاعل هو الله سبحانه: أي فأعقبهم الله بسبب البخل الذي وقع منهم والإعراض نفاقاً كائناً في قلوبهم، متمكناً منها، مستمراً فيها "إلى يوم يلقون" الله عز وجل، وقيل: إن الضمير يرجع إلى البخل: أي فأعقبهم البخل بما عاهدوا الله عليه نفاقاً كائناً في قلوبهم إلى يوم يلقون بخلهم: أي جزاء بخلهم. ومعنى "فأعقبهم" أن الله سبحانه جعل النفاق المتمكن في قلوبهم إلى تلك الغاية عاقبة ما وقع منهم من البخل، والباء في "بما أخلفوا الله ما وعدوه" للسببية: أي بسبب إخلافهم لما وعدوه من التصدق والصلاح، وكذلك الباء في "وبما كانوا يكذبون" أي وبسبب تكذيبهم بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ

ثم أنكر عليهم فقال: 78- "ألم يعلموا" أي المنافقون، وقرئ بالفوقية خطاباً للمؤمنين "أن الله يعلم سرهم ونجواهم" أي جميع ما يسرونه من النفاق وجميع ما يتناجون به فيما بينهم من الطعن على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه، وعلى دين الإسلام "وأن الله علام الغيوب" فلا يخفى عليه شيء من الأشياء المغيبة كائناً ما كان، ومن جملة ذلك ما يصدر عن المنافقين.

الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ

قوله: 79- "الذين يلمزون المطوعين" الموصول محله النصب، أو الرفع على الذم، أو الجر بدلاً من الضمير في سرهم ونجواهم ومعنى "يلمزون" يعيبون. وقد تقدم تحقيقه، والمطوعين: أي المتطوعين، والتطوع: التبرع. والمعنى: أن المنافقين كانوا يعيبون المسلمين إذا تطوعوا بشيء من أموالهم وأخرجوه للصدقة فكانوا يقولون: ما أغنى الله عن هذا، ويقولون: ما فعلوا هذا إلا رياء، ولم يكن لله خالصاً، و "في الصدقات" متعلق بيلمزون: أي يعيبونهم في شأنها. قوله: "والذين لا يجدون إلا جهدهم" معطوف على المطوعين: أي يلمزون المتطوعين، ويلمزون الذين لا يجدون إلا جهدهم، وقيل معطوف على المؤمنين: أي يلمزون المتطوعين من المؤمنين، ومن الذين لا يجدون إلا جهدهم، وقرئ جهدهم بفتح الجيم، والجهد بالضم الطاقة، وبالفتح المشقة، وقيل هما لغتان ومعناهما واحد وقد تقدم بيان ذلك. والمعنى: أن المنافقين كانوا يعيبون فقراء المؤمنين الذين كانوا يتصدقون بما فضل عن كفايتهم. قوله: "فيسخرون منهم" معطوف على يلمزون: أي يستهزئون بهم لحقارة ما يخرجونه في الصدقة مع كون ذلك جهد المقل وغاية ما يقدر عليه ويتمكن منه. قوله: "سخر الله منهم" أي جازاهم على ما فعلوه من السخرية بالمؤمنين بمثل ذلك فسخر الله منهم بأن أهانهم وأذلهم وعذبهم، والتعبير بذلك من باب المشاكلة كما في غيره، وقيل هو دعاء عليهم بأن يسخر الله بهم كما سخروا بالمسلمين "ولهم عذاب أليم" أي ثابت مستمر شديد الألم. وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والعسكري في الأمثال والطبراني وابن منده والبارودي وأبو نعيم وابن مردويه والبيهقي وابن عساكر عن أبي أمامة الباهلي قال: "جاء ثعلبة بن حاطب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالاً، قال:ويلك يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه، قال: يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالاً، قال:ويحك يا ثعلبة: أما تحب أن تكون مثلي، فلو شئت أن يسير ربي هذه الجبال معي ذهباً لسارت، فقال: يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالاً، فوالذي بعثك بالحق إن آتاني الله مالاً لأعطين كل ذي حق حقه، قال:ويحك يا ثعلبة قليل تطيق شكره خير من كثير لا تطيقه، قال: يا رسول الله ادع الله تعالى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم ارزقه مالاً، قال: فاتخذ غنماً فنمت كما تنمو الدود حتى ضاقت بها المدينة، فتنحى بها فكان يشهد الصلاة بالنهار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يشهدها بالليل، ثم نمت كما تنمو الدود فتنحى بها، فكان لا يشهد الصلاة بالليل ولا بالنهار إلا من جمعة إلى جمعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم نمت كما تنمو الدود فضاق بها مكانه، فتنحى بها فكان لا يشهد جمعة ولا جنازة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يتلقى الركبان ويسألهم عن الأخبار، وفقده رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عنه. فأخبروه أنه اشترى غنماً، وأن المدينة ضاقت به وأخبروه خبره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:ويح ثعلبة بن حاطب ويح ثعلبة بن حاطب، ثم إن الله تعالى أمر رسوله أن يأخذ الصدقات، وأنزل: "خذ من أموالهم صدقة" الآية، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين، رجلاً من جهينة ورجلاً من بني سلمة يأخذان الصدقات، وكتب لهما أسنان الإبل والغنم كيف يأخذانها ووجوهها، وأمرهما أن يمرا على ثعلبة بن حاطب وبرجل من بني سليم، فخرجا فمرا بثعلبة فسألا الصدقة، فقال: أرياني كتابكما، فنظر فيه فقال: ما هذه إلا جزية انطلقا حتى تفرعا ثم مرا إلي، فانطلقا، وسمع بهما السلمي فاستقبلهما بخيار إبله، فقالا: إنما عليك دون هذا، فقال ما كنت أتقرب إلى الله إلا بخير مالي، فقبلا، فلما فرغا مرا بثعلبة، فقال: أرياني كتابكما، فنظر فيه فقال: ما هذه إلا جزية انطلقا حتى أرى رأيي، فانطلقا حتى قدما المدينة، فلما رآهما رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قبل أن يكلمهما: ويح ثعلبة بن حاطب، ودعا للسلمي بالبركة، وأنزل الله: "ومنهم من عاهد الله" الثلاث الآيات، قال: فسمع بعض أقارب ثعلبة، فأتى ثعلبة فقال: ويحك يا ثعلبة أنزل فيك كذا وكذا، قال: فقدم ثعلبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله هذه صدقة مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله قد منعني أن أقبل منك، فجعل يبكي ويحثي التراب على رأسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا عملك بنفسك أمرتك فلم تطعني، فلم يقبل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مضى، ثم أتى أبا بكر، فقال: يا أبا بكر: اقبل مني صدقتي فقد عرفت منزلتي من الأنصار، فقال أبو بكر: لم يقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبلها؟ فلم يقبلها أبو بكر، ثم ولي عمر بن الخطاب فأتاه فقال: يا أبا حفص يا أمير المؤمنين اقبل مني صدقتي، قال: ويثقل عليه بالمهاجرين والأنصار وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: لم يقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر أقبلها أنا؟ فأبى أن يقبلها، ثم ولي عثمان فسأله أن يقبل صدقته، فقال: لم يقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ولا عمر وأنا أقبلها منك؟ فلم يقبلها منه، فهلك في خلافة عثمان، وفيه نزلت: " الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات " "قال: وذلك في الصدقة، وهذا الحديث هو مروي من حديث معاذ بن رفاعة عن علي بن زيد عن أبي عبد الرحمن القاسم بن عبد الرحمن مولى عبد الله بن يزيد بن معاوية عن أبي أمامة الباهلي. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس في قوله: "ومنهم من عاهد الله" الآية، وذلك أن رجلاً كان يقال له ثعلبة من الأنصار أتى مجلساً فأشهدهم فقال: لئن آتاني الله من فضله آتيت كل ذي حق حقه، وتصدقت منه، وجعلت منه للقرابة، فابتلاه الله فآتاه من فضله فأخلف ما وعده، فأغضب الله بما أخلفه ما وعده، فقص الله شأنه في القرآن. وأخرج أبو الشيخ عن الحسن أن رجلاً من الأنصار هو الذي قال هذا، فمات ابن عم له فورث منه مالاً فبخل به ولم يف بما عاهد الله عليه، فأعقبه بذلك نفاقاً في قلبه إلى أن يلقاه. قال ذلك: "بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون". وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود قال: لما نزلت آية الصدقة كنا نتحامل على ظهورنا، فجاء رجل فتصدق بشيء كثير، فقالوا: مراء، وجاء أبو عقيل بنصف صاع، فقال المنافقون: إن الله لغني عن صدقة هذا، فنزلت: "الذين يلمزون المطوعين" الآية، وفي الباب روايات كثيرة. وأخرج أبو الشيخ عن قتادة في قوله: " الذين يلمزون المطوعين " أي يطعنون على المطوعين.

اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ

أخبر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بأن صدور الاستغفار منه للمنافقين وعدمه سواء، وذلك لأنهم ليسوا بأهل لاستغفاره صلى الله عليه وسلم ولا للمغفرة من الله سبحانه لهم، فهو كقوله تعالى: "قل أنفقوا طوعاً أو كرهاً لن يتقبل منكم"، ثم قال: 80- "إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم" وفيه بيان لعدم المغفرة من الله سبحانه للمنافقين وإن أكثر النبي صلى الله عليه وسلم من الاستغفار لهم، وليس المراد من هذا أنه لو زاد على السبعين لكان ذلك مقبولاً كما في سائر مفاهيم الأعداد، بل المراد بهذا المبالغة في عدم القبول. فقد كانت العرب تجري ذلك مجرى المثل في كلامها عند إرادة التكثير، والمعنى: أنه لن يغفر الله لهم وإن استغفرت لهم استغفاراً بالغاً في الكثرة غاية المبالغ. وقد ذهب بعض الفقهاء إلى أن التقييد بهذا العدد المخصوص يفيد قبول الزيادة عليه، ويدل لذلك ما سيأتي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لأزيدن على السبعين". وذكر بعضهم لتخصيص السبعين وجهاً فقال: إن السبعة عدد شريف، لأنها عدد السموات والأرضين والبحار والأقاليم والنجوم السيارة والأعضاء وأيام الأسبوع، فصير كل واحد من السبعة إلى عشرة، لأن الحسنة بعشر أمثالها. وقيل: خصت السبعون بالذكر لأنه صلى الله عليه وسلم كبر على عمه الحمزة سبعين تكبيرة، فكأنه قال: إن تستغفر لهم سبعين مرة بإزاء تكبيراتك على حمزة. وانتصاب سبعين على المصدر كقولهم: ضربته عشرين ضربة. ثم علل عدم المغفرة لهم بقوله: "ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله" أي ذلك الامتناع بسبب كفرهم بالله ورسوله "والله لا يهدي القوم الفاسقين" أي المتمردين الخارجين عن الطاعة المتجاوزين لحدودها، والمراد هنا الهداية الموصلة إلى المطلوب، لا الهداية التي بمعنى الدلالة وإراءة الطريق.

فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ

ثم ذكر سبحانه نوعاً آخر من قبائح المنافقين فقال: 81- "فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله" المخلفون المتروكون، وهم الذين استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنافقين، فأذن لهم وخلفهم بالمدينة في غزوة تبوك، أو الذين خلفهم الله وثبطهم، أو الشيطان أو كسلهم أو المؤمنون، ومعنى "بمقعدهم" أي بقعودهم يقال: قعد قعوداً ومقعداً: أي جلس، وأقعده غيره، ذكر معناه الجوهري فهو متعلق بفرح: أي فرح المخلفون بقعودهم، وخلاف رسول الله منتصب على أنه ظرف لمقعدهم. قال الأخفش ويونس: الخلاف بمعنى الخلف: أي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أن جهة الإمام التي يقصدها الإنسان تخالفها جهة الخلف. وقال قطرب والزجاج: معنى خلاف رسول الله مخالفة الرسول حين سار وأقاموا، فانتصابه على أنه مفعول له: أي قعدوا لأجل المخالفة، أو على الحال مثل وأرسلها العراك: أي مخالفين له، ويؤيد ما قاله الأخفش ويونس قراءة أبي حيوة خلف رسول الله. قوله: "وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله" سبب ذلك الشح بالأموال والأنفس، وعدم وجود باعث الإيمان وداعي الإخلاص ووجود الصارف عن ذلك، وهو ما هم فيه من النفاق، وفيه تعريض بالمؤمنين الباذلين لأموالهم وأنفسهم في سبيل الله لوجود الداعي معهم وانتفاء الصارف عنهم "وقالوا لا تنفروا في الحر" أي قال المنافقون لإخوانهم: هذه المقالة تثبيطاً لهم وكسراً لنشاطهم وتواصياً بينهم بالمخالفة لأمر الله ورسوله، ثم أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم: "نار جهنم أشد حراً لو كانوا يفقهون" والمعنى: أنكم أيها المنافقون كيف تفرون من هذا الحر اليسير، ونار جهنم التي ستدخلونها خالدين فيها أبداً أشد حراً مما فررتم منه فإنكم إنما فررتم من حر يسير في زمن قصير، ووقعتم في حر كثير في زمن كبير، بل غير متناه أبد الآبدين ودهر الداهرين. فكنت كالساعي إلى مثعب موائلاً من سبل الراعد وجواب لو في "لو كانوا يفقهون" مقدر: أي لو كانوا يفقهون أنها كذلك لما فعلوا ما فعلوا.

فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ

قوله: 82- "فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيراً" هذان الأمران معناهما الخبر، والمعنى: فسيضحكون قليلاً ويبكون كثيراً، وإنما جيء بهما على لفظ الأمر للدلالة على أن ذلك أمر محتوم لا يكون غيره، وقليلاً وكثيراً منصوبان على المصدرية أو الظرفية: أي ضحكاً قليلاً وبكاء كثيراً، أو زماناً قليلاً وزماناً كثيراً "جزاء بما كانوا يكسبون" أي جزاء بسبب ما كانوا يكسبونه من المعاصي، وانتصاب جزاء على المصدرية: أي يجزون جزاء.

فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ

83- "فإن رجعك الله إلى طائفة منهم" الرجع متعد كالرد والرجوع لازم، والفاء لتفريع ما بعدها على ما قبلها وإنما قال "إلى طائفة" لأن جميع من أقام بالمدينة لم يكونوا منافقين بل كان فيهم غيرهم من المؤمنين لهم أعذار صحيحة، وفيهم من المؤمنين من لا عذر له، ثم عفا عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتاب الله عليهم كالثلاثة الذين خلفوا، وسيأتي بيان ذلك. وقيل إنما قال: إلى طائفة، لأن منهم من تاب عن النفاق وندم على التخلف "فاستأذنوك للخروج" معك في غزوة أخرى بعد غزوتك هذه "فقل" لهم "لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدواً" أي قل لهم ذلك عقوبة لهم، ولما في استصحابهم من المفاسد كما تقدم في قوله: "لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً". وقرئ بفتح الياء من معي في الموضعين. وقرئ بسكونها فيهما، وجملة "إنكم رضيتم بالقعود أول مرة" للتعليل: أي لن تخرجوا معي ولن تقاتلوا لأنكم رضيتم بالقعود والتخلف أول مرة، وهي غزوة تبوك، والفاء في "فاقعدوا مع الخالفين" لتفريع ما بعدها على ما قبلها، والخالفين جمع خالف كأنهم خلفوا الخارجين، والمراد بهم من تخلف عن الخروج. وقيل المعنى: فاقعدوا مع الفاسدين، من قولهم: فلان خالف أهل بيته إذا كان فاسداً فيهم، من قولك خلف اللبن: أي فسد بطول المكث في السقاء. ذكر معناه الأصمعي. وقرئ "فاقعدوا مع الخالفين" وقال الفراء: معناه المخالفين. وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم "عن عروة أن عبد الله بن أبي قال: لولا أنكم تنفقون على محمد وأصحابه لانفضوا من حوله، وهو القائل: "ليخرجن الأعز منها الأذل" فأنزل الله: "استغفر لهم أو لا تستغفر لهم" فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لأزيدن على السبعين، فأنزل الله: " سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم "". وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس نحوه. وأخرج أحمد والبخاري والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن أبي حاتم والنحاس وابن حبان وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية عن ابن عباس قال: سمعت عمر يقول: لما توفي عبد الله بن أبي دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة عليه فقام عليه، فلما وقف قلت: أعلى عدو الله عبد الله بن أبي القائل كذا وكذا، والقائل كذا وكذا؟ أعدد أيامه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتبسم حتى إذا أكثرت قال: يا عمر أخر عني، إني قد خيرت، قد قيل لي: "استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم" فلو أعلم أني إن زدت على السبعين غفر له لزدت عليها، ثم صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومشى معه حتى قام على قبره حتى فرغ منه، فعجبت لي ولجرأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ورسوله أعلم، فوالله ما كان إلا يسيراً حتى نزلت هاتان الآيتان: "ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره" فما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على منافق بعد حتى قبضه الله عز وجل. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: "فرح المخلفون" الآية قال: عن غزوة تبوك. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الناس أن ينبعثوا معه، وذلك في الصيف، فقال رجال: يا رسول الله الحر شديد ولا نستطيع الخروج فلا تنفروا في الحر، فقال الله: "قل نار جهنم أشد حراً لو كانوا يفقهون" فأمره بالخروج. وأخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد الله نحوه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيراً" قال: هم المنافقون والكفار الذين اتخذوا دينهم هزواً ولعباً، يقول الله: فليضحكوا قليلاً في الدنيا وليبكوا كثيراً في الآخرة. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: "فإن رجعك الله إلى طائفة منهم" قال: ذكر لنا أنهم كانوا اثني عشر رجلاً من المنافقين وفيهم قيل ما قيل. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "فاقعدوا مع الخالفين" قال: هم الرجال الذين تخلفوا عن الغزو.

وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ

قوله: 84- "مات" صفة لأحد، و "أبداً" ظرف لتأبيد النفي. قال الزجاج: معنى قوله: "ولا تقم على قبره" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا دفن الميت وقف على قبره ودعا له فمنع هاهنا منه، وقيل معناه: لا تقم بمهمات إصلاح قبره، وجملة "إنهم كفروا" تعليل للنهي، وإنما وصفهم بالفسق بعد وصفهم بالكفر، لأن الكافر قد يكون عدلاً في دينه، والكذب والنفاق والخداع والجبن والخبث مستقبحة في كل دين.

وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ

85- "ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون" ثم نهى رسوله عن أن تعجبه أموالهم وأولادهم، وهو تكرير لما سبق في هذه السورة وتقرير لمضمونه، وقيل: إن الآية المتقدمة في قوم، وهذه في آخرين، وقيل هذه في اليهود، والأولى في المنافقين، وقيل غير ذلك. وقد تقدم في الآية الأولى جميع ما يحتاج إليه في تفسير هذه الآية.

وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آَمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ

ثم عاد الله سبحانه إلى توبيخ المنافقين، فقال: 86- "وإذا أنزلت سورة" أي من القرآن، ويجوز أن يراد بعض السورة، وأن يراد تمامها، وقيل هي هذه السورة: أي سورة براءة، و أن في أن آمنوا بالله مفسرة لما في الإنزال من معنى القول، أو مصدرية حذف منها الجار: أي بأن آمنوا، وإنما قدم الأمر بالإيمان لأن الاشتغال بالجهاد لا يفيد إلا بعد الإيمان " استأذنك أولو الطول منهم " أي ذوو الفضل والسعة، من طال عليه طولاً، كذا قال ابن عباس والحسن، وقال الأصم: الرؤساء والكبراء المنظور إليهم، وخصهم بالذكر لأن الذم لهم ألزم، إذ لا عذر لهم في القعود "وقالوا ذرنا" أي اتركنا "نكن مع القاعدين" أي المتخلفين عن الغزو من المعذورين كالضعفاء والزمنى.

رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ

والخوالف: النساء اللاتي يخلفن الرجال في القعود في البيوت، جمع خالفة، وجوز بعضهم أن يكون جمع خالف، وهو من لا خير فيه 87- "وطبع على قلوبهم" وهو كقوله: "ختم الله على قلوبهم" وقد مر تفسيره "فهم لا يفقهون" شيئاً مما فيه نفعهم وضرهم، بل هم كالأنعام. وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عمر قال: لما توفي عبد الله بن أبي بن سلول أتى ابنه عبد الله رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه قميصه ليكفنه فيه فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام عمر فأخذ ثوبه فقال: يا رسول الله أتصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي على المنافقين؟ فقال: إن ربي خيرني وقال: "استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم" وسأزيد على السبعين، فقال: إنه منافق، فصلى عليه فأنزل الله: "ولا تصل على أحد منهم مات أبداً" الآية، فترك الصلاة عليهم. وأخرج ابن ماجه والبزار وابن جرير وابن مردويه عن جابر قال: مات رأس المنافقين بالمدينة فأوصى أن يصلي عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأن يكفنه في قميصه، فجاء ابنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إن أبي أوصى أن يكفن في قميصك، فصلى عليه وألبسه قميصه وقام على قبره، فأنزل الله: "ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: " أولو الطول " قال: أهل الغنى. وأخرج هؤلاء عن ابن عباس في قوله: "رضوا بأن يكونوا مع الخوالف" قال: مع النساء. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في الآية قال: رضوا بأن يقعدوا كما قعدت النساء، وأخرج أبو الشيخ عن قتادة قال: الخوالف النساء.

لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ

المقصود من الاستدراك بقوله: 88- "لكن الرسول" إلى آخره الإشعار بأن تخلف هؤلاء غير ضائر، فإنه قد قام بفريضة الجهاد من هو خير منهم وأخلص نية كما في قوله: "فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين". وقد تقدم بيان الجهاد بالأموال والأنفس، ثم ذكر منافع الجهاد فقال: "وأولئك لهم الخيرات" وهي جمع خير فيشمل منافع الدنيا والدين، وقيل المراد به: النساء الحسان كقوله تعالى: "فيهن خيرات حسان" ومفردة خيرة بالتشديد ثم خففت مثل هينة وهينة. وقد تقدم معنى الفلاح والمراد به هنا الفائزون بالمطلوب وتكرير اسم الإشارة لتفخيم شأنهم وتعظيم أمرهم.

أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ

والجنات: البساتين. وقد تقدم بيان جري الأنهار من تحتها، وبيان الخلود والفوز، والإشارة بقوله: 89- "ذلك" إلى ما تقدم من الخيرات والفلاح، وإعداد الجنات الموصوفة بتلك الصفة، ووصف الفوز بكونه عظيماً يدل على أنه الفرد الكامل من أنواع الفوز. وقد أخرج القرطبي في تفسيره عن الحسن أنه قال الخيرات: هن النساء الحسان.

وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ

قرأ الأعرج والضحاك 90- "المعذرون" بالتخفيف، من أعذر، ورواها أبو كريب عن أبي بكر عن عاصم، ورواها أصحاب القراءات عن ابن عباس. قال في الصحاح: وكان ابن عباس يقرأ: "وجاء المعذرون" مخففة من أعذر، ويقول: والله هكذا أنزلت. قال النحاس: إلا أن مدارها على الكلبي، وهي من أعذر: إذا بالغ في العذر، ومنه من أنذر فقد أعذر أي بالغ في العذر. وقرأ الجمهور المعذرون بالتشديد ففيه وجهان، أحدهما أن يكون أصله المعتذرون فأدغمت التاء في الذال، وهم الذين لهم عذر، ومنه قول لبيد: إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر فالمعذرون على هذا: هم المحقون في اعتذارهم. وقد روي هذا عن الفراء والزجاج ابن الأنباري، وقيل هو من عذر، وهو الذي يعتذر ولا عذر له، يقال عذر في الأمر: إذا قصر واعتذر بما ليس بعذر، ذكره الجوهري وصاحب الكشاف، فالمعذرون على هذا: هم المبطلون، لأنهم اعتذروا بأعذار باطلة لا أصل لها. وروي عن الأخفش والفراء وأبي حاتم وأبي عبيدة أنه يجوز كسر العين لالتقاء الساكنين وضمها للاتباع. والمعنى: أنه جاء هؤلاء من الأعراب بما جاءوا به من الأعذار بحق أو بباطل على كلا التفسيرين لأجل أن يأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتخلف عن الغزو، وطائفة أخرى لم يعتذروا، بل قعدوا عن الغزو لغير عذر، وهم منافقو الأعراب الذين كذبوا الله ورسوله ولم يؤمنوا ولا صدقوا، ثم توعدهم الله سبحانه، فقال: "سيصيب الذين كفروا منهم" أي من الأعراب، وهم الذين اعتذروا بالأعذار الباطلة، والذين لم يعتذروا، بل كذبوا الله ورسوله "عذاب أليم" أي كثير الأليم فيصدق على عذاب الدنيا وعذاب الآخرة. وقد أخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "وجاء المعذرون من الأعراب" أي أهل العذر منهم. وروى ابن أبي حاتم عنه نحو ذلك. وأخرج ابن الأنباري في كتاب الأضداد عنه أيضاً أنه كان يقول: لعن الله المعذرين ويقرأ بالتشديد كأن الأمر عنده أن المعذر بالتشديد: هو المظهر للعذر اعتلالاً من غير حقيقة. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن إسحاق في قوله: "وجاء المعذرون من الأعراب" قال: ذكر لي أنهم نفر من بني غفار جاءوا فاعتذروا، منهم خفاف بن إيماء، وقيل لهم: رهط عامر بن الطفيل قالوا: إن غزونا معك أغارت أعراب طيئ على أهالينا ومواشينا.

لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ

لما ذكر سبحانه المعذرون ذكر بعدهم أهل الأعذار الصحيحة المسقطة للغزو، وبدأ بالعذر في أصل الخلقة، فقال: 91- "ليس على الضعفاء" وهم أرباب الزمانة والهرم والعمى والعرج ونحو ذلك، ثم ذكر العذر العارض فقال: "ولا على المرضى" والمراد بالمرض: كل ما يصدق عليه اسم المرض لغة أو شرعاً، وقيل إنه يدخل في المرض الأعمى والأعرج ونحوهما. ثم ذكر العذر الراجع إلى المال لا إلى البدن فقال: "ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون" أي ليست لهم أموال ينفقونها فيما يحتاجون إليه من التجهز للجهاد، فنفى سبحانه عن هؤلاء الحرج، وأبان أن الجهاد مع هذه الأعذار ساقط عنهم غير واجب عليهم مقيداً بقوله: "إذا نصحوا لله ورسوله" وأصل النصح إخلاص العمل من الغش، ومنه التوبة النصوح. قال نفطويه نصح الشيء: إذا خلص، ونصح له القول: أي أخلصه له، والنصح لله: الإيمان به والعمل بشريعته، وترك ما يخالفها كائناً ما كان، ويدخل تحته دخولاً أولياً نصح عباده، ومحبة المجاهدين في سبيله وبذل النصيحة لهم في أمر الجهاد، وترك المعاونة لأعدائهم بوجه من الوجوه، ونصيحة الرسول صلى الله عليه وسلم: التصديق بنبوته وبما جاء به، وطاعته في كل ما يأمر به أو ينهى عنه، وموالاة من والاه ومعاداة من عاداه، ومحبته وتعظيم سنته، وإحياؤها بعد موته بما تبلغ إليه القدرة. وقد ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم" قال: الدين النصيحة ثلاثاً قالوا: لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم" وجملة "ما على المحسنين من سبيل" مقررة لمضمون ما سبق: أي ليس على المعذورين الناصحين من سبيل: أي طريق عقاب ومؤاخذة، ومن مزيدة للتأكيد، وعلى هذا فيكون لفظ "المحسنين" موضوعاً في موضع الضمير الراجع إلى المذكورين سابقاً، أو يكون المراد: ما على جنس المحسنين من سبيل وهؤلاء المذكورون سابقاً من جملتهم، فتكون الجملة تعليلية، وجملة "والله غفور رحيم" تذييلية، وفي معى هذه الآية قوله تعالى: "لا يكلف الله نفساً إلا وسعها"، وقوله: "ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج"، وإسقاط التكليف عن هؤلاء المعذورين لا يستلزم عدم ثبوت ثواب الغزو لهم الذي عذرهم الله عنه مع رغبتهم إليه لولا حبسهم العذر عنه، ومنه حديث أنس عند أبي داود وأحمد، وأصله في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لقد تركتم بعدكم قوماً ما سرتم من مسير ولا أنفقتم من نفقة ولا قطعتم وادياً إلا وهم معكم فيه، قالوا: يا رسول الله وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة؟ فقال: حبسهم العذر". وأخرجه أحمد ومسلم من حديث جابر.

وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ

ثم ذكر الله سبحانه من جملة المعذورين من تضمنه قوله: "ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه" والعطف على جملة "ما على المحسنين" أي ولا على الذين إذا ما أتوك إلى آخره من سبيل، ويجوز أن تكون عطفاً على الضعفاء: أي ولا على إذا ما أتوك إلى آخره حرج. والمعنى: أن من جملة المعذورين هؤلاء الذين أتوك لتحملهم على ما يركبون عليه في الغزو فلم تجد ذلك الذي طلبوه منك. قيل: وجملة "لا أجد ما أحملكم عليه" في محل نصب على الحال من الكاف في أتوك بإضمار قد: أي إذا ما أتوك قائلاً لا أجد، وقيل هي بدل من أتوك، وقيل جملة معترضة بين الشرط والجزاء، والأول أولى. وقوله: "تولوا" جواب إذا، وجملة "وأعينهم تفيض من الدمع" في محل نصب على الحال: أي تولوا عنك لما قلت لهم لا أجد ما أحملكم عليه حال كونهم باكين، و "حزناً" منصوب على المصدرية، أو على العلية، أو الحالية، و " أن لا يجدوا " مفعول له، وناصبه "حزناً". وقال الفراء: أن لا بمعنى ليس: أي حزناً أن ليس يجدوا، وقيل المعنى: حزناً على أن لا يجدوا، وقيل المعنى: حزناً أنهم لا يجدون ما ينفقون لا عند أنفسهم ولا عندك.

إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ

ثم ذكر الله سبحانه من عليه السبيل من المتخلفين فقال: 93- "إنما السبيل" أي طريق العقوبة المؤاخذة "على الذين يستأذنونك" في التخلف عن الغزو، "و" الحال أنـ " وهم أغنياء " أي يجدون ما يحملهم وما يتجهزون به، وجملة "رضوا بأن يكونوا مع الخوالف" مستأنفة كأنه قيل ما بالهم استأذنوا وهم أغنياء. وقد تقدم تفسير الخوالف قريباً. وجملة "وطبع الله على قلوبهم" معطوفة على "رضوا" أي سبب الاستئذان مع الغنى أمران: أحدهما: الرضا بالصفقة الخاسرة، وهي أن يكونوا مع الخوالف، والثاني: الطبع من الله على قلوبهم "فهم" بسبب هذا الطبع "لا يعلمون" ما فيه الربح لهم حتى يختاروه على ما فيه الخسر. وقد أخرج ابن أبي حاتم والدارقطني في الإفراد وابن مردويه عن زيد بن ثابت قال: كنت أكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت براءة، فكنت أكتب ما أنزل عليه، فإني لواضع القلم عن أذني إذ أمرنا بالقتال، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر ما ينزل عليه إذ جاء أعمى فقال: كيف بي يا رسول الله وأنا أعمى؟ فنزلت: "ليس على الضعفاء" الآية. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة قال: أنزلت هذه الآية في عابد بن عمر المزني. وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قال: نزل من عند قوله: "عفا الله عنك" إلى قوله: "ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم" في المنافقين. وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك في قوله: "ما على المحسنين من سبيل" قال: ما على هؤلاء من سبيل بأنهم نصحوا لله ورسوله ولم يطيقوا الجهاد، فعذرهم الله وجعل لهم من الأجر ما جعل للمجاهدين، ألم تسمع أن الله يقول: "لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر" فجعل الله للذين عذر من الضعفاء، وأولي الضرر، والذين لا يجدون ما ينفقون من الأجر مثل ما جعل للمجاهدين. وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "ما على المحسنين من سبيل "قال "والله" لأهل الإساءة "غفور رحيم" وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "ولا على الذين إذا ما أتوك" الآية، قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينبعثوا غازين معه، فجاءت عصابة من أصحابه فيهم عبد الله بن مغفل المزني، فقالوا: يا رسول الله احملنا، فقال: والله ما أجد ما أحملكم عليه، فتولوا ولهم بكاء وعزيز عليهم أن يجلسوا عن الجهاد ولا يجدون نفقة ولا محملاً، فأنزل الله عذرهم "ولا على الذين إذا ما أتوك" الآية. وأخرج ابن سعد وابن أبي حاتم وابن مردويه عن عبد الله بن مغفل قال: إني لا أجد الرهط الذين ذكر الله "ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم" الآية. وأخرج ابن جرير عن محمد بن كعب قال: هم سبعة نفر من بني عمر بن عوف سالم بن عمير، ومن بني واقف حرمي بن عمرو، ومن بني مازن بن النجار عبد الرحمن بن كعب يكنى أبا ليلى، ومن بني المعلى سلمان بن صخر، ومن بني حارثة عبد الرحمن بن زيد أبو عبلة، ومن بني سلمة عمرو بن غنمة وعبد الله بن عمرو المزني. وقد اتفق الرواة على بعض هؤلاء السبعة. واختلفوا في البعض ولا يأتي التطويل في ذلك بكثير فائدة. وأخرج ابن إسحاق وابن المنذر وأبو الشيخ عن الزهري ويزيد بن رومان وعبد الله بن أبي بكر وعاصم بن عمر بن قتادة وغيرهم أن رجالاً من المسلمين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم البكاءون، وهم سبعة نفر من الأنصار وغيرهم، ثم ذكروا أسماءهم، وفيه فاستحملوا رسول الله، وكانوا أهل حاجة. قال: "لا أجد ما أحملكم عليه". وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن الحسن قال: كان معقل بن يسار من البكائين الذين قال الله: "ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم" الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن أنس بن مالك في قوله: "لا أجد ما أحملكم عليه" قال: الماء والزاد. وأخرج ابن المنذر عن علي بن صالح قال: حدثني مشيخة من جهينة قالوا: أدركنا الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الحملان، فقالوا: ما سألناه إلا الحملان على النعال. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن إبراهيم بن أدهم عمن حدثه في قوله: "ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم" قال: ما سألوه الدواب ما سألوه إلا النعال. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن بن صالح في الآية قال: استحملوه النعال. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "إنما السبيل على الذين يستأذنونك" قال: هي وما بعدها إلى قوله: "إن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين" في المنافقين.

يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِم

قوله: 94- "يعتذرون إليكم" إخبار من الله سبحانه عن المنافقين المتعذرين بالباطل بأنهم يعتذرون إلى المؤمنين إذا رجعوا من الغزو، وهذا كلام مستأنف. وإنما قال: "إليهم" أي إلى المعتذرين بالباطل ولم يقل إلى المدينة، لأن مدار الاعتذار هو الرجوع إليهم لا الرجوع إلى المدينة، وربما يقع الاعتذار عند الملاقاة قبل الوصول إليها، ثم أخبر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بما يجيب به عليهم، فقال: "قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم" فنهاهم أولاً عن الاعتذار بالباطل، ثم علله بقوله: "لن نؤمن لكم" أي لن نصدقكم، كأنهم ادعوا أنهم صادقون في اعتذارهم، لأن غرض المعتذر أن يصدق فيما يعتذر به، فإذا عرف أنه لا يصدق ترك الاعتذار، وجملة "قد نبأنا الله من أخباركم" تعليلية للتي قبلها: أي لا يقع منا تصديق لكم لأن الله قد أعلمنا بالوحي ما هو مناف لصدق اعتذاركم، وإنما خص الرسول صلى الله عليه وسلم بالجواب عليهم، فقال: "قل لا تعتذروا" مع أن الاعتذار منهم كائن إلى جميع المؤمنين، لأنه صلى الله عليه وسلم رأسهم، والمتولي لما يرد عليهم من جهة الغير، ويحتمل أن يكون المراد بالضمير في قوله: "إليكم" هو الرسول صلى الله عليه وسلم على التأويل المشهور في مثل هذا. قوله: "وسيرى الله عملكم" أي ما ستفعلونه من الأعمال فيما بعد هل تقلعون عما أنتم عليه الآن من الشر أم تبقون عليه؟. وقوله: "ورسوله" معطوف على الاسم الشريف، ووسط مفعول الرؤية إيذاناً، بأن رؤية الله سبحانه لما سيفعلونه من خير أو شر هي التي يدور عليها الإثابة أو العقوبة، وفي جملة "ثم تردون إلى عالم الغيب" إلى آخرها تخويف شديد، لما هي مشتملة عليه من التهديد، ولا سيما ما اشتملت عليه من وضع الظاهر موضع المضمر، لإشعار ذلك بإحاطته بكل شيء يقع منهم مما يكتمونه ويتظاهرون به، وإخباره لهم به ومجازاتهم عليه.

سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ

ثم ذكر أن هؤلاء المعتذرين بالباطل سيؤكدون ما جاءوا به من الأعذار الباطلة بالحلف عند رجوع المؤمنين إليهم من الغزو، وغرضهم من هذا التأكيد هو أن يعرض المؤمنون عنهم فلا يوبخونهم ولا يؤاخذونهم بالتخلف ويظهرون الرضا عنهم كما يفيده ذكر الرضا من بعد، وحذف المحلوف عليه لكون الكلام يدل عليه، وهو اعتذارهم الباطل، وأمر المؤمنين بالإعراض عنهم المراد به تركهم والمهاجرة لهم، لا الرضا عنهم والصفح عن ذنوبهم، كما تفيده جملة 95- "إنهم رجس" الواقعة علة للأمر بالإعراض. والمعنى: أنهم في أنفسهم رجس لكون جميع أعمالهم نجسة، فكأنها قد صيرت ذواتهم رجساً، أو أنهم ذوو رجس: أي ذوو أعمال قبيحة، ومثله "إنما المشركون نجس" وهؤلاء لما كانوا هكذا كانوا غير متأهلين لقبول الإرشاد إلى الخير والتحذير من الشر، فليس لهم إلا الترك. وقوله: "ومأواهم جهنم" من تمام التعليل، فإن من كان من أهل النار لا يجدي فيه الدعاء إلى الخير، والمأوى كل مكان يأوي إليه الشيء ليلاً أو نهاراً. وقد أوى فلان إلى منزله يأوي أوياً وإيواء، و "جزاء" منصوب على المصدرية، أو على العلية، والباء في "بما كانوا يكسبون" للسببية.

يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ

وجملة 96- "يحلفون لكم" بدل مما تقدم. وحذف هنا المحلوف به لكونه معلوماً مما سبق، والمحلوف عليه لمثل ما تقدم، وبين سبحانه أن مقصدهم بهذا الحلف هو رضا المؤمنين عنهم، ثم ذكر ما يفيد أنه لا يجوز الرضا عن هؤلاء المعتذرين بالباطل، فقال: "فإن ترضوا عنهم" كما هو مطلوبهم مساعدة لهم "فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين" وإذا كان هذا هو ما يريده الله سبحانه من عدم الرضا على هؤلاء الفسقة العصاة، فينبغي لكم أيها المؤمنون أن لا تفعلوا خلاف ذلك بل واجب عليكم أن لا ترضوا عنهم على أن رضاكم عنهم لو وقع لكان غير معتد به ولا مفيد لهم، والمقصود من إخبار الله سبحانه بعدم رضاه عنهم نهي المؤمنين عن ذلك لأن الرضا على من لا يرضى الله عليه مما لا يفعله مؤمن.

الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ

قوله: 97- "الأعراب أشد كفراً ونفاقاً" لما ذكر الله سبحانه أحوال المنافقين بالمدينة ذكر حال من كان خارجاً عنها من الأعراب، وبين أن كفرهم ونفاقهم أشد من كفر غيرهم ومن نفاق غيرهم، لأنهم أقسى قلباً وأغلظ طبعاً وأجفى قولاً، وأبعد عن سماع كتب الله وما جاءت به رسله، والأعراب: هم من سكن البوادي بخلاف العرب، فإنه عام لهذا النوع من بني آدم سواء سكنوا البوادي أو القرى، هكذا قال أهل اللغة، ولهذا قال سيبويه: إن الأعراب صيغة جمع وليست بصيغة جمع العرب. قال النيسابوري: قال أهل اللغة: رجل عربي إذا كان نسبه إلى العرب ثابتاً، وجمعه عرب كالمجوسي والمجوس، واليهودي واليهود، فالأعرابي إذا قيل له يا عربي فرح، وإذا قيل للعربي يا أعرابي غضب. وذلك أن من استوطن القرى العربية فهو عربي، ومن نزل البادية فهو أعرابي، ولهذا لا يجوز أن يقال للمهاجرين والأنصار أعراب، وإنما هم عرب. قال: قيل إنما سمي العرب عرباً لأن أولاد إسماعيل عليه السلام نشأوا بالعرب، وهي من تهامة فنسبوا إلى بلدهم، وكل من يسكن جزيرة العرب وينطق بلسانهم فهو منهم، وقيل: لأن ألسنهم معربة عما في ضمائرهم، ولما في لسانهم من الفصاحة والبلاغة انتهى. "وأجدر" معطوف على أشد، ومعناه أخلق، يقال: فلان جدير بكذا: أي خليق به، وأنت جدير أن تفعل كذا، والجمع جدر أو جديرون، واصله من جدر الحائط، وهو رفعه بالبناء. والمعنى: أنهم أحق وأخلق بـ " أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله " من الشرائع والأحكام، لبعدهم عن مواطن الأنبياء وديار التنزيل "والله عليم" بأحوال مخلوقاته على العموم، وهؤلاء منهم "حكيم" فيما يجازيهم به من خير وشر.

وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ

قوله: 98- "ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرماً" هذا تنويع لجنس أو نوعين، الأول هؤلاء، والثاني "ومن الأعراب من يؤمن بالله" والمغرم الغرامة والخسران، وأصل الغرم والغرامة ما ينفقه الرجل وليس بلازم له في اعتقاده ولكنه ينفقه للرياء والتقية، وقيل أصل الغرم اللزوم كأنه اعتقد أنه يلزمه لأمر خارج لا تنبعث له النفس. و "الدوائر" جمع دائرة، وهي الحالة المنقلبة عن النعمة إلى البلية، وأصلها ما يحيط بالشيء، ودوائر الزمان: نوبه وتصاريفه ودوله، وكأنها لا تستعمل إلا في المكروه، ثم دعا سبحانه عليهم بقوله: "عليهم دائرة السوء" وجعل ما دعا به عليهم مماثلاً لما أرادوه بالمسلمين، والسوء بالفتح عند جمهور القراء مصدر أضيفت إليه الدائرة للملابسة كقولك رجل صدق. وقرأ أبو عمرو وابن كثير بضم السين، وهو المكروه. قال الأخفش: أي عليهم دائرة الهزيمة والشر. وقال الفراء: "عليهم دائرة السوء" العذاب والبلاء. قال: والسوء بالفتح مصدر سوءته سوءاً ومساءة، وبالضم اسم لا مصدر، وهو كقولك دائرة البلاء والمكروه "والله سميع" لما يقولونه "عليم" بما يضمرونه.

وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ

قوله: 99- "ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر" هذا النوع الثاني من أنواع الأعراب كما تقدم: أي يصدق بهما "ويتخذ ما ينفق" أي يجعل ما ينفقه في سبيل الله "قربات" وهي جمع قربة، ويه ما يتقرب به إلى الله سبحانه، تقول منه قربت لله قرباناً، والجمع قرب وقربات. والمعنى: أنه يجعل ما ينفقه سبباً لحصول القربات "عند الله و" سبباً لـ " صلوات الرسول " أي لدعوات الرسول لهم، لأنه صلى الله عليه وسلم كان يدعو للمتصدقين، ومنه قوله: " وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم "، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم صل على آل أبي أوفى" ثم إنه سبحانه بين بأن ما ينفقه هذا النوع من الأعراب تقرباً إلى الله مقبول واقع على الوجه الذي أرادوه فقال: "ألا إنها قربة لهم" فأخبر سبحانه بقبولها خبراً مؤكداً بإسمية الجملة وحرفي التنبيه والتحقيق، وفي هذا من التطييب لخواطرهم والتطمين لقلوبهم ما لا يقادر قدره مع ما يتضمنه من النعي على من يتخذ ما ينفق مغرماً، والتوبيخ له بأبلغ وجه، والمضير في إنها راجع إلى ما في ما ينفق وتأنيثه باعتبار الخبر. وقرأ نافع، في رواية عنه قربة بضم الراء، وقرأ الباقون بسكونها تخفيفاً، ثم فسر سبحانه القربة بقوله: "سيدخلهم الله في رحمته" والسين لتحقيق الوعد. وقد أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله: "قد نبأنا الله من أخباركم" قال: أخبرنا أنكم لو خرجتم ما زدتمونا إلا خبالاً، و"في قوله: "فأعرضوا عنهم" قال: لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم قال للمؤمنين: لا تكلموهم ولا تجالسوهم، فأعرضوا عنهم كما أمر الله". وأخرج أبو الشيخ عنه في قوله: "لتعرضوا عنهم" قال: لتجاوزوا عنهم. وأخرج أبو الشيخ عنه في قوله: "الأعراب أشد كفراً ونفاقاً" قال: من منافقي المدينة " وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله " يعني الفرائض وما أمر به من الجهاد. وأخرج أبو الشيخ عن الكلبي أن هذه الآية نزلت في أسد وغطفان. وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من سكن البادية جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى السلطان افتتن" وإسناد أحمد هكذا: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا سفيان عن أبي موسى عن وهب بن منبه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره. قال في التقريب: وأبو موسى عن وهب بن منبه مجهول من السادسة، ووهم من قال إنه إسرائيل بن موسى، وقال الترمذي بعد إخراجه: حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث الثوري. وأخرج أبو داود والبيهقي من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من بدا جفا ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى أبواب السلطان افتتن، وما ازداد أحد من سلطانه قرباً إلا ازداد من الله بعداً". وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك في قوله: "ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرماً" قال: يعني بالمغرم أنه لا يرجو له ثواباً عند الله ولا مجازاة، وإنما يعطي من يعطي من الصدقات كرهاً "ويتربص بكم الدوائر" الهلكات. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد في الآية قال: هؤلاء المنافقون من الأعراب الذين إنما ينفقون رياء اتقاء على أن يغزوا ويحاربوا ويقاتلوا ويرون نفقاتهم مغرماً. وأخرج ابن جرير وابن المنذر ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "ومن الأعراب من يؤمن بالله" قال: هم بنو مقرن من مزينة، وهم الذين قال الله: "ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم" الآية. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن عبد الرحمن بن معقل قال: كنا عشرة ولد مقرن، فنزلت فينا: "ومن الأعراب من يؤمن بالله" الآية. وأخرج ابن جرير وابن المنذر ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "وصلوات الرسول" يعني استغفار النبي صلى الله عليه وسلم.

وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ

لما ذكر سبحانه أصناف الأعراب ذكر المهاجرين والأنصار، وبين أن منهم السابقين إلى الهجرة، وأن منهم التابعين لهم. وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قرأ 100- "والأنصار" بالرفع عطفاً على "والسابقون" وقرأ سائر القراء من الصحابة فمن بعدهم بالجر. قال الأخفش: الخفض في الأنصار الوجه، لأن السابقين منهم يدخلون في قوله: "والسابقون" وفي الآية تفضيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وهم الذين صلوا القبلتين في قول سعيد بن المسيب وطائفة، أو الذين شهدوا بيعة الرضوان، وهي بيعة الحديبية في قول الشعبي، أو أهل بدر في قول محمد بن كعب وعطاء بن يسار، ولا مانع من حمل الآية على هذه الأصناف كلها، قال أبو منصور البغدادي: أصحابنا مجمعون على أن أفضلهم الخلفاء الأربعة، ثم الستة الباقون، ثم البدريون، ثم أصحاب أحد، ثم أهل بيعة الرضوان بالحديبية. قوله: "والذين اتبعوهم بإحسان" قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "الذين اتبعوهم" محذوف الواو وصفاً للأنصار على قراءته برفع الأنصار، فراجعه في ذلك زيد بن ثابت، فسأل أبي بن كعب فصدق زيداً فرجع عمر عن القراءة المذكورة كما رواه أبو عبيد وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه، ومعنى الذين اتبعوهم بإحسان: الذين اتبعوا السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، وهم المتأخرون عنهم من الصحابة فمن بعدهم إلى يوم القيامة، وليس المراد بهم التابعين اصطلاحاً، وهم كل من أدرك الصحابة ولم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم، بل هم من جملة من يدخل تحت الآية، فتكون من في قوله: "من المهاجرين" على هذا للتبعيض، وقيل إنها للبيان، فيتناول المدح جميع الصحابة ويكون المراد بالتابعين من بعدهم من الأمة إلى يوم القيامة. وقوله: "بإحسان" قيد للتابعين: أي والذين اتبعوهم متلبسين بإحسان في الأفعال والأقوال اقتداء منهم بالسابقين الأولين. قوله: "رضي الله عنهم" خبر للمبتدأ وما عطف عليه، ومعنى رضاه سبحانه عنهم: أنه قبل طاعاتهم وتجاوز عنهم ولم يسخط عليهم "ورضوا عنه" بما أعطاهم من فضله، ومع رضاه عنهم فقد "أعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار" في الدار الآخرة. وقرأ ابن كثير "تجري من تحتها الأنهار" بزيادة من. وقرأ الباقون بحذفها والنصب على الظرفية، وقد تقدم تفسير جري الأنهار من تحت الجنات وتفسير الخلود والفوز.

وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ

قوله: 101- "وممن حولكم من الأعراب منافقون" هذا عود إلى شرح أحوال المنافقين من أهل المدينة ومن يقرب منها من الأعراب، وممن حولكم خبر مقدم، ومن الأعراب بيان، وهو في محل نصب على الحال، ومنافقون هو المبتدأ، قيل: وهؤلاء الذين هم حول المدينة من المنافقين هم جهينة ومزينة وأشجع وغفار، وجملة "ومن أهل المدينة مردوا على النفاق" معطوفة على الجملة الأولى عطف جملة على جملة. وقيل: إن "من أهل المدينة" عطف على الخبر في الجملة الأولى، فعلى الأول يكون المبتدأ مقدراً: أي ومن أهل المدينة قوم مردوا على النفاق، وعلى الثاني يكون التقدير: وممن حولكم من الأعراب ومن أهل المدينة منافقون مردوا، ولكون جملة مردوا على النفاق مستأنفة لا محل لها، وأصل مرد وتمرد اللين والملاسة والتجرد، فكأنهم تجردوا للنفاق، ومنه غصن أمرد: لا ورق عليه، وفرس أمرد: لا شعر فيه، وغلام أمرد: لا شعر بوجهه، وأرض مرداء: لا نبات فيها، وصرح ممرد: مجرد، فالمعنى: أنهم أقاموا على النفاق وثبتوا عليه ولم ينثنوا عنه. قال ابن زيد: معناه لجوا فيه وأتوا غيره، وجملة "لا تعلمهم" مبينة للجملة الأولى، وهي مردوا على النفاق: أي ثبتوا عليه ثبوتاً شديداً ومهروا فيه حتى خفي أمرهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف سائر المؤمنين؟ والمراد عدم علمه صلى الله عليه وسلم بأعيانهم لا من حيث الجملة، فإن للمنافق دلائل لا تخفى عليه صلى الله عليه وسلم، وجملة "نحن نعلمهم" مقررة لما قبلها لما فيها من الدلالة على مهارتهم في النفاق ورسوخهم فيه على وجه يخفى على البشر، ولا يظهر لغير الله سبحانه لعلمه بما يخفى وما تجنه الضمائر وتنطوي عليه السرائر، ثم توعدهم سبحانه فقال: "سنعذبهم مرتين" قيل المراد بالمرتين: عذاب الدنيا بالقتل والسبي، وعذاب الآخرة، وقيل: الفضيحة بانكشاف نفاقهم، والعذاب في الآخرة، وقيل: المصائب في أموالهم وأولادهم، وعذاب القبر، وقيل: غير ذلك مما يطول ذكره مع عدم الدليل على أنه المراد بعينه. والظاهر أن هذا العذاب المكرر هو في الدنيا بما يصدق عليه اسم العذاب، وأنهم يعذبون مرة بعد مرة، ثم يردون بعد ذلك إلى عذاب الآخرة، وهو المراد بقوله: "ثم يردون إلى عذاب عظيم" ومن قال إن العذاب في المرة الثانية هو عذاب الآخرة قال معنى قوله: "ثم يردون إلى عذاب عظيم" أنهم يردون بعد عذابهم في النار كسائر الكفار إلى الدرك الأسفل منها، أو أنهم يعذبون في النار عذاباً خاصاً بهم دون سائر الكفار، ثم يردون بعد ذلك إلى العذاب الشامل لهم ولسائر الكفار.

وَآَخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآَخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ

ثم ذكر سبحانه حال طائفة من المسلمين وهم المخلطون في دينهم فقال: 102- "وآخرون اعترفوا بذنوبهم" وهو معطوف على قوله: منافقون: أي وممن حولكم من الأعراب ومن أهل المدينة قوم آخرون، ويجوز أن يكون آخرون مبتدأ، واعترفوا بذنوبهم صفته، وخلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً خبره، والمعنى: أن هؤلاء الجماعة تخلفوا عن الغزو لغير عذر مسوغ للتخلف ثم ندموا على ذلك، ولم يعتذروا بالأعذار الكاذبة كما اعتذر المنافقون، بل تابوا واعترفوا بالذنب ورجوا أن يتوب الله عليهم. والمراد بالعمل الصالح: ما تقدم من إسلامهم وقيامهم بشرائع الإسلام وخروجهم إلى الجهاد في سائر المواطن. والمراد بالعمل السيء: هو تخلفهم عن هذه الغزوة، وقد أتبعوا هذا العمل السيء عملاً صالحاً، وهو الاعتراف به والتوبة عنه. وأصل الاعتراف الإقرار بالشيء، ومجرد الإقرار لا يكون في توبة إلا إذا اقترن به الندم على الماضي والعزم على تركه في الحال والاستقبال، وقد وقع منهم ما يفيد هذا كما سيأتي بيانه إن شاء الله. ومعنى الخلط: أنهم خلطوا كل واحد منهما بالآخر كقولك خلطت الماء باللبن واللبن بالماء، ويجوز أن تكون الواو بمعنى الباء كقولك: بعت الشاة شاة ودرهماً: أي بدرهم، وفي قوله: "عسى الله أن يتوب عليهم" دليل على أنه قد وقع منهم مع الاعتراف ما يفيد التوبة، أو أن مقدمة التوبة وهي الاعتراف قامت مقام التوبة، وحرف الترجي وهو عسى هو في كلام الله سبحانه يفيد تحقيق الوقوع، لأن الإطماع من الله سبحانه إيجاب لكونه أكرم الأكرمين "إن الله غفور رحيم" أي يغفر الذنوب ويتفضل على عباده.

خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ

قوله: 103- "خذ من أموالهم صدقة" اختلف أهل العلم في هذه الصدقة المأمور بها، فقيل: هي صدقة الفرض، وقيل: هي مخصوصة بهذه الطائفة المعترفة بذنوبها، لأنهم بعد التوبة عليهم عرضوا أموالهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية، و "من" للتبعيض على التفسيرين، والآية مطلقة مبينة بالسنة المطهرة، والصدقة مأخوذة من الصدق، إذ هي دليل على صدق مخرجها في إيمانه. قوله: "تطهرهم وتزكيهم بها" الضمير في الفعلين للنبي صلى الله عليه وسلم: أي تطهرهم وتزكيهم يا محمد بما تأخذه من الصدقة منهم. وقيل الضمير في تطهرهم للصدقة: أي تطهرهم هذه الصدقة المأخوذة منهم، والضمير في تزكيهم للنبي صلى الله عليه وسلم: أي تزكيهم يا محمد بالصدقة المأخوذة، والأول أولى لما في الثاني من الاختلاف في الضميرين في الفعلين المتعاطفين، وعلى الأول فالفعلان منتصبان على الحال، وعلى الثاني فالفعل الأول صفة لصدقة والثاني حال منه صلى الله عليه وسلم. ومعنى التطهير: إذهاب ما يتعلق بهم من أثر الذنوب، ومعنى التزكية: المبالغة في التطهير. قال الزجاج: والأجود أن تكون المخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم: أي فإنك يامحمد تطهرهم وتزكيهم بها على القطع والاستئناف، ويجوز الجزم على جواب الأمر. والمعنى: أن تأخذ من أموالهم صدقة تطهرهم. وقد قرأ الحسن بجزم تطهرهم، وعلى هذه القراءة فيكون "وتزكيهم" على تقدير مبتدأ: أي وأنت تزكيهم بها. قوله: "وصل عليهم": أي ادع لهم بعد أخذك لتلك الصدقة من أموالهم. قال النحاس: وحكى أهل اللغة جميعاً فيما علمناه أن الصلاة في كلام العرب الدعاء، ثم علل سبحانه أمره لرسوله صلى الله عليه وسلم بالصلاة على من يأخذ منه الصدقة فقال: " إن صلاتك سكن لهم ". قرأ حفص وحمزة والكسائي "صلاتك" بالتوحيد. وقرأ الباقون بالجمع، والسكن ما تسكن إليه النفس وتطمئن به.

أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ

قوله: 104- "ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده" لما تاب الله سبحانه على هؤلاء المذكورين سابقاً. قال الله: " ألم يعلموا " أي غير التائبين، أو التائبون قبل أن يتوب الله عليهم ويقبل صدقاتهم "أن الله هو يقبل التوبة" لاستغنائه عن طاعة المطيعين، وعدم مبالاته بمعصية العاصين. وقرئ "ألم تعلموا" بالفوقية، وهو إما خطاب للتائبين، أو لجماعة من المؤمنين، ومعنى "ويأخذ الصدقات": أي يتقبلها منهم، وفي إسناد الأخذ إليه سبحانه بعد أمره لرسوله صلى الله عليه وسلم بأخذها تشريف عظيم لهذه الطاعة ولمن فعلها. وقوله: "وأن الله هو التواب الرحيم" معطوف على قوله: "أن الله هو يقبل التوبة عن عباده" مع تضمنه لتأكيد ما اشتمل عليه المعطوف عليه: أي أن هذا شأنه سبحانه. وفي صيغة المبالغة في التواب وفي الرحيم مع توسيط ضمير الفصل، والتأكيد من التبشير لعباده والترغيب لهم ما لا يخفى.

وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ

قوله: 105- "وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون" فيه تخويف وتهديد: أي إن عملكم لا يخفى على الله ولا على رسوله ولا على المؤمنين، فسارعوا إلى أعمال الخير وأخلصوا أعمالكم لله عز وجل، وفيه أيضاً ترغيب وتنشيط، فإن من علم أن عمله لا يخفى سواء كان خيراً أو شراً رغب إلى أعمال الخير، وتجنب أعمال الشر، وما أحسن قول زهير: ومهما تكن عند امرئ من خليقة وإن خالها تخفى على الناس تعلم والمراد بالرؤية هنا العلم بما يصدر منهم من الأعمال، ثم جاء سبحانه بوعيد شديد فقال: "وستردون إلى عالم الغيب والشهادة" أي وستردون بعد الموت إلى الله سبحانه الذي يعلم ما تسرونه وما تعلنونه وما تخفونه وما تبدونه، وفي تقديم الغيب على الشهادة إشعار بسعة علمه عز وجل، وأنه لا يخفى عليه شيء ويستوي عنده كل معلوم. ثم ذكر سبحانه ما سيكون عقب ردهم إليه فقال: "فينبئكم" أي يخبركم "بما كنتم تعملون" في الدنيا، فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، ويتفضل على من يشاء من عباده.

وَآَخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ

قوله: 106- "وآخرون مرجون لأمر الله" ذكر سبحانه ثلاثة أقسام في المتخلفين: الأول: المنافقون الذين مردوا على النفاق، والثاني: التائبون المعترفون بذنوبهم، الثالث: الذين بقي أمرهم موقوفاً في تلك الحال، وهم المرجون لأمر الله، من أرجيته وأرجأته: إذا أخرته. قرأ حمزة والكسائي ونافع وحفص "مرجون" بالواو من غير همز. وقرأ الباقون بالهمزة المضمومة بعد الجيم. والمعنى: أنهم مؤخرون في تلك الحال لا يقطع لهم بالتوبة ولا بعدمها، بل هم على ما يتبين من أمر الله سبحانه في شأنهم "إما يعذبهم" إن بقوا على ما هم عليه ولم يتوبوا "وإما يتوب عليهم" إن تابوا توبة صحيحة وأخلصوا إخلاصاً تاماً والجملة في محل نصب على الحال، والتقدير "وآخرون مرجون لأمر الله" حال كونهم، إما معذبين، وإما متوباً عليهم "والله عليم" بأحوالهم "حكيم" فيما يفعله بهم من خير أو شر. وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وأبو نعيم في المعرفة عن أبي موسى أنه سئل عن قوله: "والسابقون الأولون" فقال: هم الذين صلوا القبلتين جميعاً. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو نعيم عن سعيد بن المسيب مثله. وأخرج ابن المنذر وأبو نعيم عن الحسن ومحمد بن سيرين مثله أيضاً. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: هم أبو بكر وعمر وعلي وسلمان وعمار بن ياسر. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه وأبو نعيم في المعرفة عن الشعبي قال: هم من أدرك بيعة الرضوان. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "والذين اتبعوهم بإحسان" قال: التابعون. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد قال: هم من بقي من أهل الإسلام إلى أن تقوم الساعة. وأخرج أبو الشيخ وابن عساكر عن أبي صخر حميد بن زياد قال: قلت لمحمد بن كعب القرظي: أخبرني عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما أريد الفتن، قال: إن الله قد غفر لجميع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأوجب لهم الجنة في كتابه محسنهم ومسيئهم، قلت له: وفي أي موضع أوجب الله لهم الجنة في كتابه؟ قال: ألا تقرأون قوله تعالى: "والسابقون الأولون" الآية. أوجب لجميع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الجنة والرضوان، وشرط على التابعين شرطاً لم يشرطه فيهم. قلت: وما اشترط عليهم؟ قال: اشترط عليهم أن يتبعوهم بإحسان. يقول: يقتدون بهم في أعمالهم الحسنة، ولا يقتدون بهم في غير ذلك. قال أبو صخر: فوالله لكأني لم أقرأها قبل ذلك وما عرفت تفسيرها حتى قرأها علي ابن كعب. وأخرج ابن مردويه من طريق الأوزاعي قال: حدثني يحيى بن أبي كثير والقسم ومكحول وعبدة بن أبي لبابة وحسان بن عطية أنهم سمعوا جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقولون لما أنزلت هذه الآية "والسابقون الأولون" إلى قوله: "ورضوا عنه" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا لأمتي كلهم، وليس بعد الرضا سخط". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "وممن حولكم من الأعراب" الآية. قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم جمعة خطيباً، فقال: قم يا فلان فاخرج فإنك منافق، اخرج يا فلان فإنك منافق، فأخرجهم بأسمائهم ففضحهم، ولم يكن عمر بن الخطاب يشهد تلك الجمعة لحاجة كانت له، فلقيهم عمر وهم يخرجون من المسجد فاختبأ منهم استحياء أنه لم يشهد الجمعة، وظن الناس قد انصرفوا، واختبأوا هم من عمر، وظنوا أنه قد علم بأمرهم، فدخل عمر المسجد فإذا الناس لم ينصرفوا، فقال له رجل: أبشر يا عمر فقد فضح الله المنافقين اليوم، فهو العذاب الأول، والعذاب الثاني عذاب القبر. وأخرج ابن المنذر عن عكرمة في قوله: "وممن حولكم من الأعراب" قال: جهينة ومزينة وأشجع وأسلم وغفار. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله: "مردوا على النفاق" قال: أقاموا عليه ولم يتوبوا كما تاب آخرون. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في الآية قال: ماتوا عليه: عبد الله بن أبي، وأبو عامر الراهب، والجد بن قيس. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "سنعذبهم مرتين" قال: بالجوع والقتل. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أبي مالك قال: بالجوع وعذاب القبر. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي عن قتادة قال: عذاب في القبر، وعذاب في النار. وقد روي عن جماعة من السلف نحو هذا في تعيين العذابين، والظاهر ما قدمنا. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس في قوله: "وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملاً صالحاً" قال: كانوا عشرة رهط تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فلما حضر رجوع رسول الله صلى الله عليه وسلم أوثق سبعة منهم أنفسهم بسواري المسجد، وكان ممر النبي صلى الله عليه وسلم إذا رجع عليهم فلما رآهم قال: من هؤلاء الموثقون أنفسهم؟ قالوا: هذا أبو لبابة وأصحاب له تخلفوا عنك يا رسول الله حتى تطلقهم وتعذرهم، قال: وأنا أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم حتى يكون الله هو الذي يطلقهم، رغبوا عني وتخلفوا عن الغزو مع المسلمين، فلما بلغهم ذلك قالوا: ونحن لا نطلق أنفسنا حتى يكون الله هو الذي يطلقنا، فنزلت: "عسى الله أن يتوب عليهم" وعسى من الله واجب، فلما نزلت أرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم فأطلقهم وعذرهم، فجاءوا بأموالهم فقالوا: يا رسول الله هذه أموالنا فتصدق بها عنا واستغفر لنا، قال: ما أمرت أن آخذ أموالكم، فأنزل الله عز وجل: "خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم" يقول: استغفر لهم " إن صلاتك سكن لهم " يقول: رحمة لهم، فأخذ منهم الصدقة واستغفر لهم، وكانوا ثلاثة نفر لم يوثقوا أنفسهم بالسواري فأرجئوا سنة لا يدرون أيعذبون أو يتاب عليهم؟ فأنزل الله عز وجل: "لقد تاب الله على النبي" إلى قوله: "وعلى الثلاثة الذين خلفوا" إلى قوله: "ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم" يعني: إن استقاموا. وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك مثله سواء. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن مجاهد في قوله: "اعترفوا بذنوبهم" قال: هو أبو لبابة إذ قال لقريظة ما قال، وأشار إلى حلقه بأن محمداً يذبحكم إن نزلتم على حكمه، والقصة مذكورة في كتب السير. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله: "خلطوا عملاً صالحاً" قال: غزوهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم "وآخر سيئاً" قال: تخلفهم عنه. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "وصل عليهم" قال: استغفر لهم من ذنوبهم التي كانوا أصابوها " إن صلاتك سكن لهم " قال: رحمة لهم. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عبد الله بن أبي أوفى قال:" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتي بصدقة قال:اللهم صل على آل فلان، فأتاه أبي بصدقته فقال:اللهم صل على آل أبي أوفى". وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله" قال: هذا وعيد من الله عز وجل. وأخرج أحمد وأبو يعلى وابن حبان والحاكم والبيهقي في الشعب وابن أبي الدنيا والضياء في المختارة عن أبي سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة، لأخرج الله عمله للناس كائناً ما كان". وأخرج ابن المنذر عن عكرمة في قوله: "وآخرون مرجون لأمر الله" قال: هم الثلاثة الذين خلفوا. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في الآية قال: هم هلال بن أمية ومرارة بن الربيع وكعب بن مالك من الأوس والخزرج. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله: "إما يعذبهم" يقول: يميتهم على معصية "وإما يتوب عليهم" فأرجأ أمرهم ثم نسخها فقال: "وعلى الثلاثة الذين خلفوا".

وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ

لما ذكر الله أصناف المنافقين وبين طرائقهم المختلفة عطف على ما سبق هذه الطائفة منهم، وهم الذين اتخذوا مسجداً ضراراً، فيكون التقدير: ومنهم الذين اتخذوا على أن الذين متبدأ، وخبره منهم المحذوف، والجملة معطوفة على ما تقدمها، ويجوز أن يكون الموصول في محل نصب على الذم. وقرأ المدنيون وابن عامر "الذين اتخذوا" بغير واو، فتكون قصة مستقلة، الموصول مبتدأ، وخبره "لا تقم" قاله الكسائي. وقال النحاس: إن الخبر هو "لا يزال بنيانهم الذي بنوا" وقيل الخبر محذوف، والتقدير يعذبون، وسيأتي بيان هؤلاء البانين لمسجد الضرار، و "ضراراً" منصوب على المصدرية، أو على العلية " وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا " معطوفة على "ضراراً". فقد أخبر الله سبحانه أن الباعث لهم على بناء هذا المسجد أمور أربعة: الأول: الضرار لغيرهم، وهو المضاررة. الثاني: الكفر بالله والمباهاة لأهل الإسلام، لأنهم أرادوا ببنائه تقوية أهل النفاق. الثالث: التفريق بين المؤمنين، لأنهم أرادوا أن لا يحضروا مسجد قباء فتقل جماعة المسلمين، وفي ذلك من اختلاف الكلمة وبطلان الألفة ما لا يخفى. الرابع: الإرصاد لمن حارب الله ورسوله: أي الإعداد لأجل من حارب الله ورسوله. قال الزجاج: الإرصاد الانتظار. وقال ابن قتيبة: الإرصاد الانتظار مع العداوة. وقال الأكثرون: هو الإعداد، والمعنى متقارب، يقال: أرصدت لكذا: إذا أعددته مرتقباً له به. وقال أبو زيد: يقال رصدته وأرصدته في الخير، وأرصدت له في الشر. وقال ابن الأعرابي: لا يقال إلا أرصدت، ومعناه ارتقبت، والمراد بمن حارب الله ورسوله: المنافقون، ومنهم أبو عامر الراهب: أي أعدوه لهؤلاء وارتقبوا به وصولهم وانتظروهم ليصلوا فيه حتى يباهوا بهم المؤمنين، وقوله: "من قبل" متعلق باتخذوا: أي اتخذوا مسجداً من قبل أن ينافق هؤلاء ويبنوا مسجد الضرار، أو متعلق بحارب: أي لمن وقع منه الحرب لله ولرسوله من قبل بناء مسجد الضرار. قوله: "وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى" أي ما أردنا إلا الخصلة الحسنى، وهي الرفق بالمسلمين، فرد الله عليهم بقوله: "والله يشهد إنهم لكاذبون" فيما حلفوا عليه.

لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ

ثم نهى الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في مسجد الضرار، فقال: 108- "لا تقم فيه أبداً" أي في وقت من الأوقات، والنهي عن القيام فيه يستلزم النهي عن الصلاة فيه. وقد يعبر عن الصلاة بالقيام، يقال فلان يقوم الليل: أي يصلي، ومنه الحديث الصحيح: "من قام رمضان إيماناً به واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه". ثم ذكر الله سبحانه علة النهي عن القيام فيه بقوله: "لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه" واللام في "لمسجد" لام القسم، وقيل لام الابتداء، وفي ذلك تأكيد لمضمون الجملة، وتأسيس البناء: تثبيته ورفعه. ومعنى تأسيسه على التقوى: تأسيسه على الخصال التي تتقي بها العقوبة. واختلف العلماء في المسجد الذي أسس على التقوى، فقالت طائفة: هو مسجد قباء كما روي عن ابن عباس والضحاك والحسن والشعبي وغيرهم. وذهب آخرون إلى أنه مسجد النبي صلى الله عليه وسلم. والأول: أرجح لما سيأتي قريباً إن شاء الله، و "من أول يوم" متعلق بأسس: أي أسس على التقوى من أول يوم من أيام تأسيسه. قال بعض النحاة: إن "من" هنا بمعنى منذ: أي منذ أول يوم ابتدئ ببنائه، وقوله: "أحق أن تقوم فيه" خبر المبتدأ. والمعنى: لو كان القيام في غيره جائزاً لكان هذا أولى بقيامك فيه للصلاة ولذكر الله، لكونه أسس على التقوى من أول يوم، ولكون "فيه رجال يحبون أن يتطهروا" وهذه الجملة مستأنفة لبيان أحقية قيامه صلى الله عليه وسلم فيه: أي كما أن هذا المسجد أولى من جهة المحل فهو أولى من جهة الحال فيه، ويجوز أن تكون هذه الجملة في محل نصب على الحال: أي حال كون فيه رجال يحبون أن يتطهروا، ويجوز أن تكون صفة أخرى لمسجد. ومعنى محبتهم للتطهر: أنهم يؤثرونه ويحرصون عليه عند عروض موجبه، وقيل معناه: يحبون التطهر من الذنوب بالتوبة والاستغفار. والأول أولى. وقيل: يحبون أن يتطهروا بالحمى المطهرة من الذنوب فحموا جميعاً، وهذا ضعيف جداً. ومعنى محبة الله لهم الرضا عنهم، والإحسان إليهم كما يفعل المحب بمحبوبه.

أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ

ثم بين سبحانه أن بين الفريقين بوناً بعيداً، فقال: 109- "أفمن أسس بنيانه" والهمزة للإنكار التقريري، والبنيان مصدر كالعمران، وأريد به المبني، أسس دينه على ضد ذلك، وهو الباطل والنفاق، والموصول مبتدأ، وخبره خير، وقرئ أسس بنيانه على بناء الفعل للفاعل، ونصب بنيانه، واختار هذه القراءة أبو عبيدة، وقرئ على البناء للمجهول، وقرئ أساس بنيانه بإضافة أساس إلى بنيانه، وقرى أس بنيانه والمراد: أصول البناء، وحكى أبو حاتم قراءة أخرى، ويه آساس بنيانه على الجمع، ومنه: أصبح الملك ثابت الآساس بالبهاليل من بني العباس والشفا: الشفير، والجرف: ما يتجرف بالسيول، وهي الجوانب التي تنجرف بالماء، والاجتراف: اقتلاع الشيء من أصله، وقرئ بضم الراء من جرف وبإسكانها. والهار: الساقط، يقال هار البناء: إذا سقط، وأصله هائر كما قالوا: شاك السلاح وشائك كذا قال الزجاج. وقال أبو حاتم: إن أصله هاور. قال في شمس العلوم: الجرف ما جرف السيل أصله، وأشرف أعلاه فإن انصدع أعلاه فهو الهار اهـ، جعل الله سبحانه هذا مثلاً لما بنوا عليه دينهم الباطل المضمحل بسرعة، ثم قال: "فانهار به في نار جهنم" وفاعل فانهار ضمير يعود إلى الجرف: أي فانهار الجرف بالبنيان في النار، ويجوز أن يكون الضمير في "به" يعود إلى من، وهو الباني. والمعنى: أنه طاح الباطل بالبناء، أو الباني في نار جهنم، وجاء بالانهيار الذي هو للجرف ترشيحاً للمجاز، وسبحان الله ما أبلغ هذا الكلام، وأقوى تراكيبه، وأوقع معناه، وأفصح مبناه.

لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ

ثم ذكر سبحانه أن بنيانهم هذا موجب لمزيد ريبهم، واستمرار ترددهم وشكهم فقال: 110- "لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم" أي شكاً في قلوبهم ونفاقاً، ومنه قول النابغة: حلفت فلم أترك لنفسك ريبة وليس وراء الله للمرء مذهب وقيل معنى الريب: الحسرة والندامة، لأنهم ندموا على بنيانه. وقال المبرد: أي حرارة وغيظاً. وقد كان هؤلاء الذين بنوا مسجد الضرار منافقين شاكين في دينهم، ولكنهم ازدادوا بهدم رسول الله صلى الله عليه وسلم نفاقاً وتصميماً على الكفر، ومقتاً للإسلام لما أصابهم من الغيظ الشديد والغضب العظيم بهدمه، ثم ذكر سبحانه ما يدل على استمرار هذه الريبة ودوامها، وهو قوله: "إلا أن تقطع قلوبهم" أي لا يزال هذا إلا أن تتقطع قلوبهم قطعاً، وتتفرق أجزاء: إما بالموت أو بالسيف، والمقصود أن هذه الريبة دائمة لهم ما داموا أحياء، ويجوز أن يكون ذكر التقطع تصويراً لحال زوال الريبة. وقيل معناه: إلا أن يتوبوا توبة تتقطع بها قلوبهم ندماً وأسفاً على تفريطهم. وقرأ ابن عامر وحمزة وحفص ويعقوب وأبو جعفر بفتح حرف المضارعة. وقرأ الجمهور بضمها. وروي عن يعقوب أنه قرأ تقطع بالتخفيف، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم: أي إلا أن تقطع يا محمد قلوبهم. وقرأ أصحاب عبد الله بن مسعود: ولو تقطعت قلوبهم. وقرأ الحسن ويعقوب وأبو حاتم إلى أن تقطع على الغاية. أي لا يزالون كذلك إلى أن يموتوا. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس في قوله: "والذين اتخذوا مسجداً ضراراً" قال: هم أناس من الأنصار ابتنوا مسجداً، فقال لهم أبو عامر الراهب: ابنوا مسجدكم واستمدوا بما استطعتم من قوة وسلاح فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم، فآتي بجند من الروم، فأخرج محمداً وأصحابه، فلما فرغوا من مسجدهم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: قد فرغنا من بناء مسجدنا فيجب أن تصلي فيه وتدعو بالبركة، فأنزل الله "لا تقم فيه أبداً". وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عنه قال:" لما بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجد قباء خرج رجال من الأنصار منهم بجدح جد عبد الله بن حنيف ووديعة بن حزام ومجمع بن جارية الأنصاري فبنوا مسجد النفاق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبجدح: ويلك يا بجدح ما أردت إلى ما أرى، فقال: يا رسول الله والله ما أردت إلا الحسنى وهو كاذب، فصدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأراد أن يعذره، فأنزل الله تعالى: " والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله " يعني رجلاً يقال له أبو عامر كان محارباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكان قد انطلق إلى هرقل، وكانوا يرصدون إذا قدم أبو عامر أن يصلي فيه، وكان قد خرج من المدينة محارباً لله ولرسوله". وأخرج ابن إسحاق وابن مردويه عنه أيضاً قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك بن الدخشم، فقال مالك لعاصم: أنظرني حتى أخرج إليك بنار من أهلي، فدخل على أهله فأخذ سعفات من نار ثم خرجوا يشتدون حتى دخلوا المسجد وفيه أهله فحرقوه وهدموه، وخرج أهله فتفرقوا عنه، فأنزل الله هذه الآية. ولعل في هذه الرواية حذفاً بين قوله صلى الله عليه وسلم دعا رسول الله مالك بن الدخشم وبين قوله فقال مالك لعاصم، ويبين ذلك ما أخرج ابن إسحاق وابن مردويه عن أبي رهم كلثوم بن الحصين الغفاري، وكان من الصحابة الذين بايعوا تحت الشجرة قال: "أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل بذي أوان: بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار، وكان أصحاب مسجد الضرار قد كانوا أتوه وهو يتجهز إلى تبوك، فقالوا: يا رسول الله إنا بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة والليلة الشاتية والليلة المطيرة، وإنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه، قال: إني على جناح سفر، ولو قدمنا إن شاء الله أتيناكم فصلينا لكم فيه، فلما نزل بذي أوان أتاه خبر المسجد، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك بن الدخشم أخا بني سالم بن عوف ومعن بن عدي، وأخاه عاصم بن عدي أحد بني العجلان، فقال:انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه وحرقاه، فخرجا سريعين حتى أتيا بني سالم بن عوف، وهم رهط مالك بن الدخشم، فقال مالك لمعن: أنظرني حتى أخرج إليك، فدخل إلى أهله فأخذ سعفاً من النخل فأشعل فيه ناراً، ثم خرجا يشتدان، وفيه أهله فحرقاه وهدماه وتفرقوا عنه، ونزل فيهم من القرآن ما نزل: "والذين اتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً" "إلى آخر القصة. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم إن الذين بنوا مسجد الضرار كانوا إثني عشر رجلاً، وذكرا أسماءهم. وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد ومسلم والترمذي والنسائي وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن خزيمة وابن حبان وأبو الشيخ والحاكم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن أبي سعيد الخدري قال: اختلف رجلان: رجل من بني خدرة، وفي لفظ: تماريت أنا ورجل من بني عمرو بن عوف في المسجد الذي أسس على التقوى، فقال الخدري: هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال العمري: هو مسجد قباء، فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألاه عن ذلك فقال: هو هذا المسجد لمسجد رسول الله، وقال في ذلك خير كثير، يعني مسجد قباء. وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد والزبير بن بكار في أخبار المدينة وأبو يعلى وابن حبان والطبراني والحاكم في الكنى، وابن مردويه عن سهل بن سعد الساعدي نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وابن المنذر وأبو الشيخ وابن مردويه والخطيب والضياء في المختارة عن أبي بن كعب قال: "سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن المسجد الذي أسس على التقوى قال:هو مسجدي هذا". وأخرج الطبراني والضياء المقدسي في المختارة عن زيد بن ثابت مرفوعاً مثله. وأخرج ابن أبي شيبة وابن مردويه والطبراني من طريق عروة بن الزبير عن زيد بن ثابت قال: المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم مسجد النبي صلى الله عليه وسلم. قال عروة: مسجد النبي صلى الله عليه وسلم خير منه، إنما أنزلت في مسجد قباء وأخرج ابن أبي شيبة وابن مردويه عن ابن عمر قال: المسجد الذي أسس على التقوى: مسجد النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرج المذكوران عن أبي سعيد الخدري مثله. وقد روي عن جماعة غير هؤلاء مثل قولهم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس أنه مسجد قباء. وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك مثله. ولا يخفاك أن النبي صلى الله عليه وسلم قد عين هذا المسجد الذي أسس على التقوى، وجزم بأنه مسجده صلى الله عليه وسلم كما قدمنا من الأحاديث الصحيحة، فلا يقاوم ذلك قول فرد من الصحابة ولا جماعة منهم ولا غيرهم ولا يصح لإيراده في مقابلة ما قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا فائدة في إيراد ما ورد في فضل الصلاة في مسجد قباء، فإن ذلك لا يستلزم كونه المسجد الذي أسس على التقوى، على أن ما ورد في فضائل مسجده صلى الله عليه وسلم أكثر مما ورد في فضل مسجد قباء بلا شك ولا شبهة تعم. وأخرج أبو داود والترمذي وابن ماجه وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: نزلت هذه الآية في أهل قباء "فيه رجال يحبون أن يتطهروا" "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عويم بن ساعدة فقال: ما هذا الطهور الذي أثنى الله عليكم؟، فقالوا: يا رسول الله ما خرج منا رجل ولا امرأة من الغائط إلا غسل فرجه، أو قال: مقعدته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:هو هذا". وأخرج أحمد وابن خزيمة والطبراني والحاكم وابن مردويه "عن عويم بن ساعدة الأنصارى أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاهم في مسجد قباء فقال: إن الله قد أحسن عليكم الثناء في الطهور في قصة مسجدكم، فما هذا الطهور الذي تتطهرون به؟، قالوا: والله يا رسول الله ما نعلم شيئاً إلا أنه كان لنا جيران من اليهود، فكانوا يغسلون أدبارهم من الغائط فغسلنا كما غسلوا"، رواه أحمد عن حسن بن محمد. حدثنا أبو أويس حدثنا شرحبيل عن عويم بن ساعدة فذكره. وقد أخرجه ابن خزيمة في صحيحه. وأخرج ابن ماجه وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الجارود في المنتقى والدارقطني والحاكم وابن مردويه وابن عساكر عن طلحة بن نافع قال: حدثني أبو أيوب وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك أن هذه الآية لما نزلت: "فيه رجال يحبون أن يتطهروا" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الأنصار إن الله قد أثنى عليكم خيراً في الطهور فما طهوركم هذا؟، قالوا: نتوضأ للصلاة ونغتسل من الجنابة، قال:فهل مع ذلك غيره؟، قالوا: لا، غير أن أحدنا إذا خرج إلى الغائط أحب أن يستنجي بالماء، قال:هو ذاك فعليكموه". وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والبخاري في تاريخه وابن جرير والبغوي في معجمه والطبراني وابن مردويه وأبو نعيم في المعرفة عن محمد بن عبد الله بن سلام عن أبيه قال:" لما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد الذي أسس على التقوى مسجد قباء فقال:إن الله قد أثنى عليكم في الطهور خيراً أفلا تخبروني؟ يعني قوله تعالى: "فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين" فقالوا: يا رسول الله إنا لنجده مكتوباً علينا في التوراة الاستنجاء بالماء، ونحن نفعله اليوم". وإسناد أحمد في هذا الحديث هكذا: حدثنا يحيى بن آدم حدثني مالك يعني ابن مغول سمعت سياراً أبا الحكم عن شهر بن حوشب عن محمد بن عبد الله بن سلام. وقد روي عن جماعة من التابعين في ذكر سبب نزول الآية نحو هذا. ولا يخفاك أن بعض هذه الأحاديث ليس فيه تعيين مسجد قباء وأهله، وبعضها ضعيف، وبعضها لا تصريح فيه بأن المسجد الذي أسس على التقوى هو مسجد قباء، وعلى كل حال لا تقاوم تلك الأحاديث المصرحة بأن المسجد الذي أسس على التقوى هو مسجد النبي صلى الله عليه وسلم في صحتها وصراحتها. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "فانهار به في نار جهنم" قال: يعني قواعده في نار جهنم. وأخرج مسدد في مسنده وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال: لقد رأيت الدخان يخرج من مسجد الضرار حيث انهار على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأخرج ابن المنذر والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس في قوله: "لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم" قال: يعني الشك "إلا أن تقطع قلوبهم" يعني الموت. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن حبيب بن أبي ثابت في قوله: "ريبة في قلوبهم" قال: غيظاً في قلوبهم "إلا أن تقطع قلوبهم" قال: إلى أن يموتوا. وأخرج ابن أبي حاتم عن سفيان في قوله: "إلا أن تقطع قلوبهم" قال: إلا أن يتوبوا.

إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ

لما شرح فضائح المنافقين وقبائحهم بسبب تخلفهم عن غزوة تبوك، وذكر أقسامهم، وفرع على كل قسم منها ما هو لائق به عاد على بيان فضيلة الجهاد والترغيب فيه، وذكر الشراء تمثيل كما في قوله: "أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى" مثل سبحانه إثابة المجاهدين بالجنة على بذلهم أنفسهم وأموالهم في سبيل الله بالشراء، وأصله الشراء بين العباد هو إخراج الشيء عن الملك بشيء آخر مثله أو دونه أو أنفع منه، فهؤلاء المجاهدون باعوا أنفسهم من الله بالجنة التي أعدها للمؤمنين: أي بأن يكونوا من جملة أهل الجنة، وممن يسكنها فقد جادوا بأنفسهم، وهي أنفس الأعلاق، والجود بها غاية الجود: يجود بالنفس إن ضن الجبان بها والجود بالنفس أقصى غاية الجود وجاد الله عليهم بالجنة، وهي أعظم ما يطلبه العباد، ويتوسلون إليه بالأعمال، والمراد بالأنفس هن أنفس المجاهدين، وبالأموال ما ينفقونه في الجهاد. قوله: 111- "يقاتلون في سبيل الله" بيان للبيع الذي يقتضيه الاشتراء المذكور كأنه قيل كيف يبيعون أنفسهم وأموالهم بالجنة؟ فقيل: يقاتلون في سبيل الله، ثم بين هذه المقاتلة في سبيل الله بقوله: "فيقتلون ويقتلون" والمراد أنهم يقدمون على قتل الكفار في الحرب ويبذلون أنفسهم في ذلك، فإن فعلوا فقد استحقوا الجنة، وإن لم يقع القتل عليهم بعد الإبلاء في الجهاد والتعرض للموت بالإقدام على الكفار. قرأ الأعمش والنخعي وحمزة والكسائي وخلف بتقديم المبني للمفعول على المبني للفاعل. وقرأ الباقون بتقديم المبني للفاعل على المبني للمفعول. وقوله: "وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن" إخبار من الله سبحانه أن فريضة الجهاد واستحقاق الجنة بها قد ثبت الوعد بها من الله في التوراة والإنجيل كما وقع في القرآن، وانتصاب وعداً وحقاً على المصدرية أو الثاني نعت للأول، وفي التوراة متعلق بمحذوف: أي وعداً ثابتاً فيها. قوله: "ومن أوفى بعهده من الله" في هذا من تأكيد الترغيب للمجاهدين في الجهاد والتنشيط لهم على بذل الأنفس والأموال ما لا يخفى فإنه أولاً أخبر بأنه قد اشترى منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، وجاء بهذه العبارة الفخيمة، وهي كون الجنة قد صارت ملكاً لهم، ثم أخبر ثانياً بأنه قد وعد بذلك في كتبه المنزلة، ثم أخبر بأنه بعد هذا الوعد الصادق لا بد من حصول الموعود به فإنه لا أحد أوفى بعهده من الله سبحانه، وهو صادق الوعد لا يخلف الميعاد، ثم زادهم سروراً وحبوراً، فقال: "فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به" أي أظهروا السرور بذلك، والبشارة هي إظهار السرور، وظهوره يكون في بشرة الوجه، ولذا يقال أسارير الوجه: أي التي يظهر فيها السرور. وقد تقدم إيضاح هذا، والفاء لترتيب الاستبشار على ما قبله. والمعنى: أظهروا السرور بهذا البيع الذي بايعتم به الله عز وجل فقد ربحتم فيه ربحاً لم يربحه أحد من الناس إلا من فعل مثل فعلكم، والإشارة بقوله: "ذلك" إلى الجنة، أو إلى نفس البيع الذي ربحوا فيه الجنة، ووصف الفوز وهو الظفر بالمطلوب بالعظم يدل على أنه فوز لا فوز مثله.

التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ

قوله: 112- "التائبون" خبر مبتدأ محذوف: أي هم التائبون، يعني المؤمنون، والتائب الراجع: أي هم الراجعون إلى طاعة الله عن الحالة المخالفة للطاعة. وقال الزجاج: الذي عندي أن قوله: "التائبون العابدون" رفع بالابتداء وخبره مضمر: أي التائبون ومن بعدهم إلى آخر الآية لهم الجنة أيضاً وإن لم يجاهدوا. قال: وهذا أحسن، إذ لو كانت هذه أوصافاً للمؤمنين المذكورين في قوله: "اشترى من المؤمنين" لكان الوعد خاصاً بمجاهدين. وقد ذهب إلى ما ذهب إليه الزجاج من أن هذا الكلام منفصل عما قبله طائفة من المفسرين، وذهب آخرون إلى أن هذه الأوصاف راجعة إلى المؤمنين في الآية الأولى. وأنها على جهة الشرط: أي لا يستحق الجنة بتلك المبايعة إلا من كان من المؤمنين على هذه الأوصاف. وفي مصحف عبد الله بن مسعود: التائبين العابدين إلى آخرها. وفيه وجهان: أحدهما: أنها أوصاف للمؤمنين. الثاني: أن النصب على المدح. وقيل: إن ارتفاع هذه الأوصاف على البدل من ضمير يقاتلون، وجوز صاحب الكشاف أن يكون التائبون مبتدأ، وخبره العابدون، وما بعده أخبار كذلك: أي التائبون من الكفر على الحقيقة الجامعون لهذه الخصال، وفيه من البعد ما لا يخفى، والعابدون القائمون بما أمروا به من عبادة الله مع الإخلاص، و "الحامدون" الذين يحمدون الله سبحانه على السراء والضراء، و "السائحون" قيل: هم الصائمون، وإليه ذهب جمهور المفسرين، ومنه قوله تعالى: "عابدات سائحات" وإنما قيل للصائم سائح، لأنه يترك اللذات كما يتركها السائح في الأرض، ومنه قول أبي طالب بن عبد المطلب: وبالسائحين لا يذوقون فطرة لربهم والراكدات العوامل وقال آخر: تراه يصلي ليله ونهاره يظل كثير الذكر لله سائحا قال الزجاج: ومذهب الحسن أن السائحين هاهنا هم الذين يصومون الفرض، وقيل: إنهم الذين يديمون الصيام. وقال عطاء: السائحون المجاهدون. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: السائحون المهاجرون. وقال عكرمة: هم الذين يسافرون لطلب الحديث والعلم. وقيل: هم الجائلون بأفكارهم في توحيد ربهم وملكوته وما خلق من العبر. والسياحة في اللغة أصلها الذهاب على وجه الأرض كما يسيح الماء، وهي مما يعين العبد على الطاعة لانقطاعه عن الخلق، ولما يحصل له من الاعتبار بالتفكر في مخلوقات الله سبحانه، و "الراكعون الساجدون" معناه المصلون، و " الآمرون بالمعروف " القائمون بأمر الناس بما هو معروف في الشريعة "والناهون عن المنكر" القائمون بالإنكار على من فعل منكراً: أي شيئاً ينكره الشرع "والحافظون لحدود الله" القائمون بحفظ شرائعه التي أنزلها في كتبه وعلى لسان رسله، وإنما أدخل الواو في الوصفين الآخرين، وهما "والناهون عن المنكر والحافظون" إلخ، لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمنزلة خصلة واحدة، ثم عطف عليه الحافظون بالواو لقربه، وقيل: إن العطف في الصفات يجيء بالواو وبغيرها كقوله: "غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب"، وقيل: إن الواو زائدة، وقيل: هي واو الثمانية المعروفة عند النحاة، كما في قوله تعالى: "ثيبات وأبكاراً" وقوله: "وفتحت أبوابها"، وقوله: "سبعة وثامنهم كلبهم"، وقد أنكر واو الثمانية أبو علي الفارسي وناظره في ذلك ابن خالويه "وبشر المؤمنين" الموصوفين بالصفات السابقة. وقد أخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي وغيره قالوا: "قال عبد الله بن رواحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: اشترط لربك ولنفسك ما شئت، قال: أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم. قالوا: فإذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال: الجنة، قال: ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل، فنزلت: "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم" الآية". وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال:" أنزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم" فكبر الناس في المسجد، فأقبل رجل من الأنصار ثانياً طرفي ردائه على عاتقه فقال: يا رسول الله أنزلت هذه الآية؟ قال: نعم، فقال الأنصاري: بيع ربيح لا نقيل ولا نستقيل". وقد أخرج ابن سعد عن عبادة بن الصامت "أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترط في بيعة العقبة على من بايعه من الأنصار: أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأنه رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، والسمع والطاعة، ولا ينازعوا في الأمر أهله، ويمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم وأهليهم، قالوا: نعم، قال قائل الأنصار: نعم، هذا لك يا رسول الله، فما لنا؟ قال:الجنة". وأخرجه ابن سعد أيضاً من وجه آخر وليس في قصة العقبة ما يدل على أنها سبب نزول الآية. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن ابن عباس قال: من مات على هذه التسع فهو في سبيل الله "التائبون العابدون" إلى آخر الآية. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ وابن المنذر عن ابن عباس قال: الشهيد من كان فيه التسع الخصال المذكورة في هذه الآية. وأخرج أبو الشيخ عنه قال: العابدون الذين يقيمون الصلاة. وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عنه أيضاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أول من يدعى إلى الجنة الحمادون الذين يحمدون الله على السراء والضراء". وأخرج ابن جرير عن عبيد بن عمير قال: "سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن السائحين فقال:هم الصائمون". وأخرج الفريابي وابن جرير والبيهقي في شعب الإيمان من طريق عبيد بن عمير عن أبي هريرة مرفوعاً مثله. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ وابن مردويه وابن النجار من طريق أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعاً مثله. وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود مرفوعاً مثله. وقد روي عن أبي هريرة موقوفاً، وهو أصح من المرفوع من طريقه، وحديث عبيد بن عمير مرسل، وقد أسنده منطريق أبي هريرة في الرواية الثانية. وقد روي من قول جماعة من الصحابة مثل هذا: منهم عائشة عند ابن جرير وابن المنذر، ومنهم ابن عباس عند ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ، ومنهم ابن مسعود عند هؤلاء المذكورين قبله. وروي نحو ذلك عن جماعة من التابعين. وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني والحاكم والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي أمامة "أن رجلاً استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في السياحة فقال:إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله" وصححه عبد الحق. وأخرج أبو الشيخ عن الربيع في هذه الآية قال: هذه أعمال قال فيها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله قضى على نفسه في التوراة والإنجيل والقرآن لهذه الأمة أن من قتل منهم على هذه الأعمال كان عند الله شهيداً، ومن مات منهم عليها فقد وجب أجره على الله. وأخرج ابن المنذر عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: الشهيد من لو مات على فراشه دخل الجنة. قال: وقال ابن عباس من مات وفيه تسع فهو شهيد. وقرأ هذه الآية. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم" يعني بالجنة، ثم قال: "التائبون" إلى قوله: "والحافظون لحدود الله" يعني القائمون على طاعة الله، وهو شرط اشترطه الله على أهل الجهاد، وإذا وفوا لله بشرطه وفي لهم بشرطهم.

مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ

لما بين الله سبحانه في أول السورة وما بعده أن البراءة من المشركين والمنافقين واجبة بين سبحانه هنا ما يزيد ذلك تأكيداً، وصرح بأن ذلك متحتم، ولوكانوا أولي قربى، وأن القرابة في مثل هذا الحكم لا تأثير لها. وقد ذكر أهل التفسير أن ما كان في القرآن يأتي على وجهين: الأول: على النفي نحو "ما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله". والآخر: على معنى النهي نحو "ما كان لكم أن تؤذوا رسول الله" و 113- "ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين" وهذه الآية متضمنة لقطع الموالاة للكفار، وتحريم الاستغفار لهم، والدعاء بما لا يجوز لمن كان كافراً، ولا ينافي هذا ماثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه" قال يوم أحد حين كسر المشركون رباعيته وشجوا وجهه:اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون"، لأنه يمكن أن يكون ذلك قبل أن يبلغه تحريم الاستغفار للمشركين، وعلى فرض أنه قد كان بلغه كما يفيده سبب النزول، فإنه قبل يوم أحد بمدة طويلة، وسيأتي، فصدور هذا الاستغفار منه لقومه إنما كان على سبيل الحكاية عمن تقدمه من الأنبياء كما في صحيح مسلم عن عبد الله، قال:" كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحكي نبياً من الأنبياء ضربه قومه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون". وفي البخاري "أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر نبياً قبله شجه قومه، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يخبر عنه بأنه قال:اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون". قوله: "من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم" هذه الجملة تتضمن التعليل للنهي عن الاستغفار. والمعنى أن هذا التبين موجب لقطع الموالاة لمن كان هكذا، وعدم الاعتداد بالقرابة لأنهم ماتوا على الشرك. وقد قال سبحانه: "إن الله لا يغفر أن يشرك به" فطلب المغفرة لهم في حكم المخالفة لوعد الله ووعيده.

وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ

قوله: 114- "وما كان استغفار إبراهيم لأبيه" الآية: ذكر الله سبحانه السبب في استغفار إبراهيم لأبيه أنه كان لأجل وعد تقدم من إبراهيم لأبيه بالاستغفار له. ولكنه ترك ذلك وتبرأ منه لما تبين له أنه عدو الله، وأنه غير مستحق للاستغفار، وهذا يدل على أنه إنما وعده قبل أن يتبين له أنه من أهل النار. ومن أعداء الله، فلا حاجة إلى السؤال الذي يورده كثير من المفسرين أنه كيف خفي ذلك على إبراهيم فإنه لم يخف عليه تحريم الاستغفار لمن أصر على الكفر ومات عليه، وهو لم يعلم ذلك إلا بإخبار الله سبحانه له بأنه عدو الله، فإن ثبوت هذه العداوة تدل على الكفر، وكذلك لم يعلم نبينا صلى الله عليه وسلم بتحريم ذلك إلا بعد أن أخبره الله بهذه الآية، وهذا حكم إنما يثبت بالسمع لا بالعقل. وقيل: المراد من استغفار إبراهيم لأبيه دعاؤه إلى الإسلام، وهو ضعيف جداً. وقيل: المراد بالاستغفار في هذه الآية النهي عن الصلاة على جنائز الكفار، فهو كقوله: "ولا تصل على أحد منهم مات أبداً" ولا حاجة إلى تفسير الاستغفار بالصلاة ولا ملجئ إلى ذلك، ثم ختم الله سبحانه هذه الآية بالثناء العظيم على إبراهيم، فقال: "إن إبراهيم لأواه" وهو كثير التأوه كما تدل على ذلك صيغة المبالغة. وقد اختلف أهل العلم في معنى الأواه، فقال ابن مسعود وعبيد بن عمير: إنه الذي يكثر الدعاء. وقال الحسن وقتادة: إنه الرحيم بعباد الله. وروي عن ابن عباس: أنه المؤمن بلغة الحبشة. وقال الكلبي: إنه الذي يذكر الله في الأرض القفر. وروي مثله عن ابن المسيب، وقيل: الذي يكثر الذكر لله من غير تقييد، روي ذلك عن عقبة بن عامر. وقيل: هو الذي يكثر التلاوة، حكي ذلك عن ابن عباس. وقيل: إنه الفقيه، قاله مجاهد والنخعي. وقيل: المتضرع الخاضع، روي ذلك عن عبد الله بن شداد بن الهاد. وقيل: هو الذي إذا ذكر خطاياه استغفر لها، روي ذلك عن أبي أيوب. وقيل: هو الشفيق قاله عبد العزيز بن يحيى. وقال: إنه المعلم للخير. وقيل: إنه الراجع عن كل ما يكرهه الله قاله عطاء. والمطابق لمعنى الأواه لغة أن يقال إنه الذي يكثر التأوه من ذنوبه، فيقول مثلاً: آه من ذنوبي آه مما أعاقب به بسببها ونحو ذلك، وبه قال الفراء، وهو مروي عن أبي ذر، ومعنى التأوه هو أن يسمع للصدر صوت من تنفس الصعداء. قال في الصحاح: وقد أوه الرجل تأويهاً، وتأوه تأوهاً إذا قال أوه، والاسم منه آهة بالمد، قال: إذا ما قمت أرحلها بليل تأوه آهة الرجل الحزين و "حليم" الكثير الحلم كما تفيده صيغة المبالغة، وهو الذي يصفح عن الذنوب ويصبر على الأذى، وقيل الذي لا يعاقب أحداً قط إلا الله. وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال:" لما حضرت الوفاة أبا طالب دخل النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل وعبد الله بن أمية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أي عم قل لا إله إلا الله أحاج لك بها عند الله، فقال أبو جهل وعبد الله بن أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه وأبو جهل وعبد الله يعاندانه بتلك المقالة. فقال أبو طالب آخر ما كلمهم: هو على ملة عبد المطلب وأبى أن يقول لا إله إلا الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:لأستغفرن لك ما لم أنه عنك، فنزلت: "ما كان للنبي" الآية وأنزل الله في أبي طالب "إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء"." وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والترمذي والنسائي وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان والضياء في المختارة عن علي قال: سمعت رجلاً يستغفر لأبويه وهما مشركان، فقلت: تستغفر لأبويك وهما مشركان؟ فقال: أو لم يستغفر إبراهيم لأبيه؟ فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت: "ما كان للنبي" الآية. وأخرج ابن سعد وابن عساكر عن علي قال: "أخبرت النبي صلى الله عليه وسلم بموت أبي طالب، فبكى، فقال:اذهب فغسله وكفنه وواره غفر الله له ورحمه، ففعلت، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر له أياماً ولا يخرج من بيته حتى نزل عليه "ما كان للنبي" الآية". وقد روي كون سبب نزول الآية استغفار النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب من طرق كثيرة: منها عن محمد بن كعب عند ابن أبي حاتم وأبي الشيخ مرسل. ومنها عن عمرو بن دينار عند ابن جرير وهو مرسل أيضاً. ومنها عن سعيد بن المسيب عند ابن جرير، وهو مرسل أيضاً. ومنها عن عمر بن الخطاب عند ابن سعد وأبي الشيخ وابن عساكر. ومنها عن الحسن البصري عند ابن عساكر وهو مرسل. وروي أنها نزلت بسبب زيارة النبي صلى الله عليه وسلم لقبر أمه واستغفاره لها من طريق ابن عباس عند الطبراني وابن مردويه ومن طريق ابن مسعود عند ابن أبي حاتم والحاكم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل، وعن بريدة عند ابن مردويه وما في الصحيحين مقدم على ما لم يكن فيهما على فرض أنه صحيح، فكيف وهو ضعيف غالبه. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: " وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه " إلى قوله: "كما ربياني صغيراً" قال: ثم استثنى فقال: "ما كان للنبي" إلى قوله: "إلا عن موعدة وعدها إياه". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: " فلما تبين له أنه عدو لله " قال: تبين له حين مات وعلم أن التوبة قد انقطعت منه. وأخرج الفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وأبو بكر الشافعي في فوائده والضياء في المختارة عن ابن عباس قال: لم يزل إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات، فلما مات تبين له أنه عدو الله فتبرأ منه. وأخرج ابن مردويه عن جابر "أن رجلاً كان يرفع صوته بالذكر، فقال رجل: لو أن هذا خفض صوته؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعه فإنه أواه". وأخرج الطبراني وابن مردويه عن عقبة بن عامر" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل يقال له ذو النجادين: إنه أواه"، وذلك أنه كان يكثر ذكر الله بالقرآن والدعاء. وأخرجه أيضاً أحمد قال: حدثنا موسى بن لهيعة عن الحارث بن يزيد عن علي بن رباح عن عقبة بن عامر فذكره. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن عبد الله بن شداد بن الهاد قال: قال رجل: يا رسول الله ما الأواه؟ قال: الخاشع المتضرع الدعاء. وهذا إن ثبت وجب المصير إليه وتقديمه على ما ذكره أهل اللغة في معنى الأواه، وإسناده عند ابن جرير هكذا: حدثني المثنى، حدثني الحجاج بن منهال، حدثنا عبد الحميد بن بهرام، حدثنا شهر بن حوشب عن عبد الله بن شداد فذكره. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "إن إبراهيم لأواه حليم" قال: كان من حلمه أنه كان إذا أذاه الرجل من قومه قال له: هداك الله.

وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ

لما نزلت الآية المتقدمة في النهي عن الاستغفار للمشركين، خاف جماعة ممن كان يستغفر لهم من العقوبة من الله بسبب ذلك الاستغفار، فأنزل الله سبحانه: 115- "وما كان الله ليضل قوماً" إلخ: أي أن الله سبحانه لا يوقع الضلال على قوم، ولا يسميهم ضلالاً بعد أن هداهم إلى الإسلام، والقيام بشرائعه ما لم يقدموا على شيء من المحرمات بعد أن يتبين لهم أنه محرم، وأما قبل أن يتبين لهم ذلك فلا إثم عليهم ولا يؤاخذون به، ومعنى "حتى يبين لهم ما يتقون" حتى يتبين لهم ما يجب عليهم اتقاؤه من محرمات الشرع "إن الله بكل شيء عليم" مما يحل لعباده ويحرم عليهم، ومن سائر الأشياء التي خلقها.

إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ

116- " إن الله له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير " ثم بين لهم أن له سبحانه ملك السموات والأرض لا يشاركه في ذلك مشارك، ولا ينازعه منازع يتصرف في ملكه بما شاء من التصرفات التي من جملتها أنه يحيي من قضت مشيئته بإحيائه، ويميت من قضت مشيئته بإماتته، وما لعباده من دونه من ولي يواليهم ولا نصير ينصرهم، فلا يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى، فإن القرابة لا تنفع شيئاً ولا تؤثر أثراً، بل التصرف في جميع الأشياء لله وحده.

لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ

قوله: 117- "لقد تاب الله على النبي" فيما وقع منه صلى الله عليه وسلم من الإذن في التخلف، أو فيما وقع منه من الاستغفار للمشركين، وليس من لازم التوبة أن يسبق الذنب ممن وقعت منه أو له، لأن كل العباد محتاج إلى التوبة والاستغفار، وقد تكون التوبة منه تعالى على النبي من باب أنه ترك ما هو الأولى والأليق كما في قوله: "عفا الله عنك لم أذنت لهم"، ويجوز أن يكون ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لأجل التعريف للمذنبين بأن يتجنبوا الذنوب ويتوبوا عما قد لابسوه منها، وكذلك تاب الله سبحانه على المهاجرين والأنصار فيما قد اقترفوه من الذنوب. ومن هذا القبيل ما صح عنه صلى الله عليه وسلم من قوله: "إن الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" ثم وصف سبحانه المهاجرين والأنصار بأنهم الذين اتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم فلم يتخلفوا عنه، وساعة العسرة هي غزوة تبوك، فإنهم كانوا في عسرة شديدة، فالمراد بالساعة جميع أوقات تلك الغزاة، ولم يرد ساعة بعينها، والعسرة صعوبة الأمر. قوله: " من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم " في كاد ضمير الشأن، وقلوب مرفوع بتزيغ عند سيبويه، وقيل: هي مرفوعة بكاد، ويكون التقدير من بعد ما كاد قلوب فريق منهم تزيغ. وقرأ الأعمش وحمزة وحفص "يزيغ" بالتحتية. قال أبو حاتم: من قرأ بالياء التحتية، فلا يجوز له أن يرفع القلوب بكاد. قال النحاس: والذي لم يجزه جائز عند غيره على تذكير الجمع، ومعنى " يزيغ " تتلف بالجهد والمشقة والشدة، وقيل معناه: تميل عن الحق وتترك المناصرة والممانعة، وقيل معناه: تهم بالتخلف عن الغزو لما هم فيه من الشدة العظيمة. وفي قراءة ابن مسعود من بعد ما زاغت وهم المتخلفون على هذه القراءة، وفي تكرير التوبة عليهم بقوله: "ثم تاب عليهم ليتوبوا" تأكيد ظاهر واعتناء بشأنها، هذا إن كان الضمير راجعاً إلى من تقدم ذكر التوبة عنهم، وإن كان الضمير إلى الفريق فلا تكرار.

وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ

قوله: 118- "وعلى الثلاثة الذين خلفوا" أي وتاب على الثلاثة الذين خلفوا: أي أخروا ولم تقبل توبتهم في الحال كما قبلت توبة أولئك المتخلفين المتقدم ذكرهم. قال ابن جرير: معنى خلفوا تركوا، يقال: خلفت فلاناً فارقته. وقرأ عكرمة بن خالد خلفوا بالتخفيف: أي أقاموا بعد نهوض رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين إلى الغزو. وقرأ جعفر بن محمد خالفوا وهؤلاء الثلاثة: هم كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع أو ابن ربيعة العامري، وهلال بن أمية الواقفي، وكلهم من الأنصار لم يقبل النبي صلى الله عليه وسلم توبتهم حتى نزل القرآن بأن الله قد تاب عليهم، وقيل معنى خلفوا فسدوا، مأخوذ من خلوف الفم. قوله: "حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت" معناه: أنهم أخروا عن قبول التوبة إلى هذه الغاية، وهي وقت أن ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وما مصدرية: أي برحبها، لإعراض الناس عنهم وعدم مكالمتهم من كل أحد، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى الناس أن يكالموهم، والرحب: الواسع، يقال: منزل رحب ورحيب ورحاب. وفي هذه الآية دليل على جواز هجران أهل المعاصي تأديباً لهم لينزجروا عن المعاصي. ومعنى ضيق أنفسهم عليهم: أنها ضاقت صدورهم بما نالهم من الوحشة وبما حصل لهم من الجفوة، وعبر بالظن في قوله: "وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه" عن العلم: أي علموا أن لا ملجأ يلجئون إليه قط إلا إلى الله سبحانه بالتوبة والاستغفار. قوله: "ثم تاب عليهم ليتوبوا" أي رجع عليهم بالقبول والرحمة، وأنزل في القرآن التوبة عليهم ليستقيموا أو وفقهم للتوبة فيما يستقبل من الزمان إن فرطت منهم خطيئة ليتوبوا عنها ويرجعوا إلى الله فيها ويندموا على ما وقع منهم "إن الله هو التواب" أي الكثير القبول لتوبة التائبين، "الرحيم" أي الكثير الرحمة لمن طلبها من عباده.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ

قوله: 119- "وكونوا مع الصادقين" هذا الأمر بالكون مع الصادقين بعد قصة الثلاثة فيه الإشارة إلى أن هؤلاء الثلاثة حصل لهم بالصدق ما حصل من توبة الله، وظاهر الآية الأمر للعباد على العموم. وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم" قال: نزلت حين أخذوا الفداء من المشركين يوم الأسارى. قال: لم يكن لكم أن تأخذوه حتى يؤذن لكم، ولكن ما كان الله ليعذب قوماً بذنب أذنبوه "حتى يبين لهم ما يتقون" قال: حتى ينهاهم قبل ذلك. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في الآية قال: بيان الله للمؤمنين في الاستغفار للمشركين خاصة، وفي بيانه طاعته ومعصيته غامض ما فعلوا أو تركوا. وأخرج ابن جرير وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي والضياء في المختارة عن ابن عباس أنه قال لعمر بن الخطاب: حدثنا من شأن ساعة العسرة، فقال: خرجنا مع رسول الله إلى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا منزلاً فأصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، حتى إن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه ويجعل ما بقي على كبده، فقال أبو بكر الصديق: يا رسول الله إن الله قد عودك في الدعاء خيراً فادع لنا، فرفع يديه فلم يرجعهما حتى قالت السماء، فأهطلت ثم سكبت، فملأوا ما معهم ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت المعسكر. وقد وقع الاتفاق بين الرواة أن ساعة العسرة هي غزوة تبوك. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن منده وأبو الشيخ وابن مردويه وابن عساكر عن جابر بن عبد الله في قوله: "وعلى الثلاثة الذين خلفوا" قال: كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع، وكلهم من الأنصار. وأخرج ابن منده وابن عساكر عن ابن عباس مثله. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن كعب بن مالك قال: لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها قط إلا في غزوة تبوك، غير أني كنت تخلفت في غزوة بدر ولم يعاتب أحداً تخلف عنها، إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد، ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين توافقنا على الإسلام وما أحب أن لي بها مشهد بدر، وإن كانت بدر أذكر منها في الناس وأشهر، ثم ذكر القصة الطويلة المشهورة في كتب الحديث والسير، وهي معلومة عند أهل العلم فلا نطول بذكرها. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الضحاك في قوله: "وعلى الثلاثة الذين خلفوا" قال: يعني خلفوا عن التوبة لم يتب عليهم حين تاب الله على أبي لبابة وأصحابه. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ وابن عساكر عن عكرمة نحوه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن نافع في قوله: "وكونوا مع الصادقين" قال: نزلت في الثلاثة الذين خلفوا، قيل لهم: كونوا مع محمد وأصحابه. وأخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير في قوله: "وكونوا مع الصادقين" قال: مع أبي بكر وعمر. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن عساكر عن الضحاك في الآية قال: مع أبي بكر وعمر وأصحابهما. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: مع علي بن أبي طالب. وأخرج ابن عساكر عن أبي جعفر قال: مع الثلاثة الذين خلفوا.

مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَط

في قوله: 120- "ما كان لأهل المدينة" إلخ زيادة تأكيد لوجوب الغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحريم التخلف عنه: أي ما صح وما استقام لأهل المدينة "ومن حولهم من الأعراب" كمزينة وجهينة وأشجع وأسلم وغفار "أن يتخلفوا عن رسول الله" صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، وإنما خصهم الله سبحانه لأنهم قد استنفروا فلم ينفروا، بخلاف غيرهم من العرب فإنهم لم يستنفروا مع كون هؤلاء لقربهم وجوارهم أحق بالنصرة والمتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم "ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه" أي وما كان لهم أن يرغبوا بأنفسهم عن نفسه فيشحون بها ويصونونها، ولا يشحون بنفس رسول الله ويصونونها كما شحوا بأنفسهم وصانوها، يقال: رغبت عن كذا: أي ترفعت عنه، بل واجب عليهم أن يكابدوا معه المشاق، ويجاهدوا بين يديه أهل الشقاق، ويبذلوا أنفسهم دون نفسه، وفي هذا الإخبار معنى الأمر لهم مع ما يفيده إيراده على هذه الصيغة من التوبيخ لهم والتقريع الشديد، والتهييج لهم، والإزراء عليهم. والإشارة بقوله: "ذلك" إلى ما يفيده السياق من وجوب المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي ذلك الوجوب عليهم بسبب أنهم مثابون على أنواع المتاعب وأصناف الشدائد. والظمأ: العطش، والنصب: التعب، والمخمصة: المجاعة الشديدة التي يظهر عندها ضمور البطن. وقرأ عبيد بن عمير ظماء بالمد. وقرأ غيره بالقصر، وهما لغتان مثل خطأ وخطاء. و "لا" في هذه المواضع زائدة للتأكيد. ومعنى "في سبيل الله" في طاعة الله. قوله: " ولا يطؤون موطئا يغيظ الكفار " أي لا يدوسون مكاناً من أمكنة الكفار بأقدامهم أو بحوافر خيولهم أو بأخفاف رواحلهم، فيحصل بسبب ذلك الغيظ للكفار. والموطئ: اسم مكان، ويجوز أن يكون مصدراً "ولا ينالون من عدو نيلاً" أي يصيبون من عدوهم قتلاً أو أسراً أو هزيمة أو غنيمة، وأصله من نلت الشيء أنال: أي أصيب. قال الكسائي: هو من قولهم أمر مثيل منه، وليس هو من التناول، إنما التناول من نلته بالعطية. قال غيره: نلت أنول من العطية، ونلته أناله: أدركته. والضمير في "به" يعود إلى كل واحد من الأمور المذكورة، والعمل الصالح: الحسنة المقبولة: أي إلا كتبه الله لهم حسنة مقبولة يجازيهم بها، وجملة "إن الله لا يضيع أجر المحسنين" في حكم التعليل لما سبق مع كونه يشمل كل محسن ويصدق على المذكورين هنا صدقاً أولياً.

وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ

قوله: 121- "ولا ينفقون نفقة" معطوف على ما قبله: أي ولا يقع منهم الإنفاق في الحرب وإن كان شيئاً صغيراً يسيراً "ولا يقطعون وادياً" وهو في الأصل كل منفرج بين جبال وآكام يكون منفذاً للسيل. والعرب تقول: واد وأودية على غير قياس. قال النحاس: ولا يعرف فيما علمت فاعل وأفعلة "إلا كتب لهم" أي كتب لهم ذلك الذي عملوه من النفقة والسفر في الجهاد "ليجزيهم الله" به "أحسن ما كانوا يعملون" أي أحسن جزاء ما كانوا يعملون من الأعمال، ويجوز أن يكون في قوله: "إلا كتب لهم" ضمير يرجع إلى عمل صالح. وقد ذهب جماعة إلى أن هذه الآية منسوخة بالآية المذكورة بعدها وهي قوله: "وما كان المؤمنون لينفروا كافة" فإنها تدل على جواز التخلف من البعض مع القيام بالجهاد من البعض، وسيأتي. وقد أخرج ابن أبي حاتم من طريق عمر بن مالك عن بعض الصحابة قال:" لما نزلت "ما كان لأهل المدينة" الآية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي بعثني بالحق لولا ضعفاء الناس ما كانت سرية إلا كنت فيها". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله: "ما كان لأهل المدينة" قال هذا حين كان الإسلام قليلاً لم يكن لأحد أن يتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما كثر الإسلام وفشا قال الله: "وما كان المؤمنون لينفروا كافة". وأخرج ابن أبي حاتم عن الأوزاعي وعبد الله بن المبارك وإبراهيم بن محمد الفزاري وعيسى بن يونس السبيعي أنهم قالوا في قوله تعالى: "ولا ينالون من عدو نيلاً" قالوا: هذه الآية للمسلمين إلى أن تقوم الساعة.

وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ

اختلف المفسرون في معنى 122- "وما كان المؤمنون لينفروا كافة" فذهب جماعة إلى أنه من بقية أحكام الجهاد، لأنه سبحانه لما بالغ في الأمر بالجهاد والانتداب إلى الغزو كان المسلمون إذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية من الكفار ينفرون جميعاً ويتركون المدينة خالية، فأخبرهم الله سبحانه بأنه ما كان لهم ذلك: أي ما صح لهم ولا استقام أن ينفروا جميعاً، بل ينفر من كل فرقة منهم طائفة من تلك الفرقة ويبقى من عدا هذه الطائفة النافرة. قالوا: ويكون الضمير في قوله: "ليتفقهوا" عائداً إلى الفرقة الباقية. والمعنى: أن الطائفة من هذه الفرقة تخرج إلى الغزو، ومن بقي من الفرقة يقفون لطلب العلم، ويعلمون الغزاة إذا رجعوا إليهم من الغزو، أو يذهبون في طلبه إلى المكان الذي يجدون فيه من يتعلمون منه ليأخذوا عنه الفقه في الدين وينذروا قومهم وقت رجوعهم إليهم، وذهب آخرون إلى أن هذه الآية ليست من بقية أحكام الجهاد، وهي حكم مستقل بنفسه في مشروعية الخروج لطلب العلم والتفقه في الدين، جعله الله سبحانه متصلاً بما دل على إيجاب الخروج إلى الجهاد، فيكون السفر نوعين: الأول: سفر الجهاد، والثاني: السفر لطلب العلم، ولا شك أن وجوب الخروج لطلب العلم إنما يكون إذا لم يجد الطالب من يتعلم منه في الحضر من غير سفر. والفقه: هو العلم بالأحكام الشرعية، وبما يتوصل به إلى العلم بها من لغة ونحو وصرف وبيان وأصول. ومعنى "فلولا نفر" فهلا نفر، والطائفة في اللغة الجماعة. وقد جعل الله سبحانه الغرض من هذا هو التفقه في الدين، وإنذار من لم يتفقه، فجمع بين المقصدين الصالحين والمطلبين الصحيحين، وهما تعلم العلم وتعليمه، فمن كان غرضه بطلب العلم غير هذين، فهو طالب لغرض دنيوي لا لغرض ديني، فهو كما قلت: وطالب الدنيا بعلم الدين أي بائس كمن غدا لنعله يمسح بالقلانس ومعنى "لعلهم يحذرون" الترجي لوقوع الحذر منهم عن التفريط فيما يجب فعله فيترك، أو فيما يجب تركه فيفعل.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ

ثم أمر سبحانه المؤمنين بأن يجتهدوا في مقاتلة من يليهم من الكفار، وأن يأخذوا في حربهم بالغلظة والشدة، والجهاد واجب لكل الكفار، وإن كان الابتداء بمن يلي المجاهدين منهم أهم وأقدم، ثم الأقرب فالأقرب، ثم أخبرهم الله بما يقوي عزائمهم ويثبت أقدامهم فقال: 123- "واعلموا أن الله مع المتقين" أي بالنصرة لهم وتأييدهم على عدوهم ومن كان الله معه لم يقم له شيء. وقد أخرج أبو داود في ناسخه وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال: نسخ هؤلاء الآيات "انفروا خفافاً وثقالاً" و " إلا تنفروا يعذبكم " قوله: "وما كان المؤمنون لينفروا كافة" يقول: لتنفر طائفة وتمكث طائفة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالماكثون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم هم الذين يتفقهون في الدين وينذرون إخوانهم إذا رجعوا إليهم من الغزو، ولعلهم يحذرون ما نزل من بعدهم من قضاء الله في كتابه وحدوده. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي عنه نحوه من طريق أخرى بسياق أتم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضاً في هذه الآية قال: ليست هذه الآية في الجهاد، ولكن لما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على مضر بالسنين أجدبت بلادهم، فكانت القبيلة منهم تقبل بأسرها حتى يخلوا بالمدينة من الجهد ويقبلوا بالإسلام وهم كاذبون، فضيقوا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجهدوهم، فأنزل الله يخبر رسوله أنهم ليسوا بمؤمنين، فردهم إلى عشائرهم وحذر قومهم أن يفعلوا فعلهم، فذلك قوله: "ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون" وفي الباب روايات عن جماعة من التابعين. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "قاتلوا الذين يلونكم من الكفار" قال: الأدنى، فالأدنى. وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك مثله. وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر أنه سئل عن غزو الديلم فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قاتلوا الذين يلونكم من الكفار" قال: الروم. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "وليجدوا فيكم غلظة" قال: شدة.

وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ

قوله: 124- "وإذا ما أنزلت سورة" حكاية منه سبحانه لبقية فضائح المنافقين: أي إذا ما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم سورة من كتابه العزيز فمن المنافقين "من يقول" لإخوانه منهم "أيكم زادته هذه" السورة النازلة "إيماناً" يقولون هذا استهزاء بالمؤمنين، ويجوز أن يقولوه لجماعة من المسلمين قاصدين بذلك صرفهم عن الإسلام وتزهيدهم فيه، وأيكم مرفوع بالابتداء وخبره زادته. وقد تقدم بيان معنى السورة. ثم حكى الله سبحانه بعد مقالتهم هذه أن المؤمنين زادتهم إيماناً إلى إيمانهم، والحال أنهم يستبشرون مع هذه الزيادة بنزول الوحي وما يشتمل عليه من المنافع الدينية والدنيوية.

وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ

125- "وأما الذين في قلوبهم مرض" وهم المنافقون "فزادتهم" السورة المنزلة "رجساً إلى رجسهم" أي خبثاً إلى خبثهم الذين هم عليه من الكفر وفساد الاعتقاد، وإظهار غير ما يضمرونه وثبتوا على ذلك واستمروا عليه إلى أن ماتوا كفاراً منافقين، والمراد بالمرض هنا الشك والنفاق، وقيل المعنى: زادتهم إثماً إلى إثمهم.

أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ

قوله: 126- "أو لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين". قرأ الجمهور "يرون" بالتحتية. وقرأ حمزة ويعقوب بالفوقية خطاباً للمؤمنين. وقرأ الأعمش أو لم يروا. وقرأ طلحة بن مصرف أو لا ترى خطاباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي قراءة ابن مسعود. ومعنى "يفتنون" يختبرون، قاله ابن جرير وغيره أو يبتليهم الله سبحانه بالقحط والشدة، قاله مجاهد. وقال ابن عطية بالأمراض والأوجاع. وقال قتادة والحسن بالغزو والجهاد مع النبي صلى الله عليه وسلم ويرون ما وعد الله من النصر "ثم لا يتوبون" بسبب ذلك "ولا هم يذكرون" وثم لعطف ما بعدها على يرون، والهمزة في أو لا يرون للإنكار والتوبيخ، والواو للعطف على مقدر: أي لا ينظرون ولا يرون، وهذا تعجيب من الله سبحانه للمؤمنين من حال المنافقين وتصلبهم في النفاق وإهمالهم للنظر والاعتبار.

وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ

ثم ذكر الله سبحانه ما كانوا يفعلونه عند نزول السورة بعد ذكره لما كانوا يقولونه، فقال: 127- "وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض" أي نظر بعض المنافقين إلى البعض الآخر قائلين "هل يراكم من أحد" من المؤمنين لننصرف عن المقام الذي ينزل فيه الوحي، فإنه لا صبر لنا على استماعه، ولنتكلم بما نريد من الطعن والسخرية والضحك، وقيل المعنى: وإذا أنزلت سورة ذكر الله فيها فضائح المنافقين ومخازيهم. قال بعض من يحضر مجلس رسول الله للبعض الآخر منهم: هل يراكم من أحد؟ ثم انصرفوا إلى منازلهم. وحكى ابن جرير عن بعض أهل العلم أنه قال: "نظر" في هذه الآية موضوع موضع قال: أي قال بعضهم لبعض هل يراكم من أحد. قوله: "ثم انصرفوا" أي عن ذلك المجلس إلى منازلهم، أو عن ما يقتضي الهداية والإيمان إلى ما يقتضي الكفر والنفاق، ثم دعا الله سبحانه عليهم، فقال: "صرف الله قلوبهم" أي صرفها عن الخير وما فيه الرشد لهم والهداية، وهو سبحانه مصرف القلوب ومقلبها، وقيل المعنى: أنه خذلهم عن قبول الهداية، وقيل: هو عن دعاء لا يراد به وقوع مضمونه كقولهم: قاتله الله. ثم ذكر سبحانه السبب الذي لأجله انصرفوا عن موطن الهداية، أو السبب الذي لأجله استحقوا الدعاء عليهم بقوله: "صرف الله قلوبهم" فقال: "بأنهم قوم لا يفقهون" ما يسمعونه لعدم تدبرهم وإنصافهم.

لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ

ثم ختم الله سبحانه هذه السورة بما يهون عنده بعض ما اشتملت عليه من التكاليف الشاقة، فقال: 128- "لقد جاءكم" يا معشر العرب "رسول" أرسله الله إليكم له شأن عظيم "من أنفسكم" من جنسكم في كونه عربياً وإلى كون هذه الآية خطاباً للعرب ذهب جمهور المفسرين. وقال الزجاج: هي خطاب لجميع العالم. والمعنى "لقد جاءكم رسول من" جنسكم في البشرية "عزيز عليه ما عنتم" ما مصدرية. والمعنى: شاق عليه عنتكم لكونه من جنسكم ومبعوثاً لهدايتكم، والعنت: التعب لهم والمشقة عليهم بعذاب الدنيا بالسيف ونحوه، أو بعذاب الآخرة بالنار، أو بمجموعهما "حريص عليكم" أي شحيح عليكم بأن تدخلوا النار، أو حريص على إيمانكم. والأول أولى، وبه قال الفراء: والرؤوف: الرحيم، قد تقدم بيان معناهما: أي هذا الرسول "بالمؤمنين" منكم أيها العرب أو الناس "رؤوف رحيم".

فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ

ثم قال مخاطباً لرسوله ومسلياً له، ومرشداً له إلى ما يقوله عند أن يعصى 129- "فإن تولوا" أي أعرضوا عنك ولم يعملوا بما جئت به ولا قبلوه "فقل" يا محمد "حسبي الله" أي كافي الله سبحانه المنفرد بالألوهية "عليه توكلت" أي فوضت جميع أموري "وهو رب العرش العظيم" وصفه بالعظم، لأنه أعظم المخلوقات. وقد قرأ الجمهور بالجر على أنه صفة لعرش. وقرأ ابن محيصن بالرفع صفة لرب. وقد رويت هذه القراءة عن ابن كثير. وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً" قال: كان إذا نزلت سورة آمنوا بها فزادهم الله إيماناً وتصديقاً وكانوا بها يستبشرون. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله: "رجساً إلى رجسهم" قال: شكاً إلى شكهم. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "أو لا يرون أنهم يفتنون" قال: يقتلون. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد نحوه وقال: بالسنة والجوع. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال: بالعدو. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال: بالغزو في سبيل الله. وأخرج أبو الشيخ عن بكار بن مالك قال: يمرضون في كل عام مرة أو مرتين. وأخرج ابن مردويه عن أبي سعيد قال: كانت لهم في كل عام كذبة أو كذبتان. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن حذيفة قال: كنا نسمع في كل عام كذبة أو كذبتين، فيض بها فئام من الناس كثير. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "نظر بعضهم إلى بعض" قال: هم المنافقون. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس قال: لا تقولوا انصرفنا من الصلاة، فإن قوماً انصرفوا صرف الله قلوبهم ولكن قولوا قضينا الصلاة. وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عمر نحوه. وأقول: الانصراف يكون عن الخير كما يكون عن الشر، وليس في إطلاقه هنا على رجوع المنافقين عن مجلس الخير ما يدل على أنه لا يطلق إلا على نحو ذلك وإلا لزم أن كل لفظ يستعمل في لغة العرب في الأمور المتعددة إذا استعمل في القرآن في حكاية ما وقع من الكفار لا يجوز استعماله في حكاية ما وقع عن أهل الخير كالرجوع والذهاب والدخول والخروج والقيام والقعود. واللازم باطل بالإجماع، فالملزوم مثله، ووجه الملازمة ظاهر لا يخفى. وأخرج عبد بن حميد والحارث بن أبي أسامة في مسنده وابن المنذر وابن مردويه وأبو نعيم في دلائل النبوة وابن عساكر عن ابن عباس في قوله: "لقد جاءكم رسول من أنفسكم" قال: ليس من العرب قبيلة إلا وقد ولدت النبي صلى الله عليه وسلم مضريها وربيعها ويمانيها. وأخرج ابن سعد عنه في قوله: "من أنفسكم" قال: قد ولدتموه يا معشر العرب. وأخرج عبد الرزاق في المصنف وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه وأبو الشيخ عن جعفر بن محمد عن أبيه في قوله: "لقد جاءكم رسول من أنفسكم" قال: لم يصبه شيء من ولادة الجاهلية، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح" وهذا فيه انقطاع، ولكنه قد وصله الحافظ الرامهرمزي في كتابه الفاصل بين الراوي والواعي، فقال: حدثنا أبو أحمد يوسف بن هارون بن زياد، حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا محمد بن جعفر بن محمد قال: أشهد على أبي يحدثني عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح من لدن آدم إلى أن ولدني أبي وأمي". وأخرج ابن مردويه عن أنس قال: "قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم "لقد جاءكم رسول من أنفسكم" فقال علي بن أبي طالب: يا رسول الله ما معنى من أنفسكم؟ قال:نسباً وصهراً وحسباً، ليس في ولا في آبائي من لدن آدم سفاح كلنا نكاح". وأخرج الحاكم عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ "لقد جاءكم رسول من أنفسكم" يعني من أعظمكم قدراً. وأخرج ابن سعد عنه نحو حديث علي الأول. وأخرج الطبراني عنه أيضاً نحوه. وأخرج ابن سعد وابن عساكر عن عائشة نحوه. وفي الباب أحاديث بمعناه، ويؤيده ما في صحيح مسلم وغيره من حديث واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من ولد إسماعيل بني كنانة، واصطفى من بني كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم". وأخرج أحمد والترمذي وحسنه وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي عن العباس بن عبد المطلب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله حين خلق الخلق جعلني من خير خلقه، ثم خير أنفسهم، ثم حين خلق البيوت جعلني من خير بيوتهم، فأنا خيرهم بيتاً وخيرهم نفساً" وفي الباب أحاديث. وأخرج ابن أبي شيبة وإسحاق بن راهويه وابن منيع وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الدلائل من طريق يوسف بن مهران عن ابن عباس عن أبي بن كعب قال: آخر آية أنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم، وفي لفظ: آخر ما أنزل من القرآن "لقد جاءكم رسول من أنفسكم" إلى آخر الآية، وروي عنه نحوه من طريق أخرى أخرجها عبد الله بن أحمد في زوائد المسند، وابن الضريس في فضائله، وابن أبي داود في المصاحف وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الدلائل والخطيب في تلخيص المتشابه والضياء في المختارة. وأخرج ابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة جاءته جهينة فقالوا له: إنك قد نزلت بين أظهرنا فأوثق لنا نأمنك وتأمنا قال: ولم سألتم هذا؟ قالوا: نطلب الأمن، فأنزل الله هذه الآية "لقد جاءكم رسول من أنفسكم". وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "فإن تولوا فقل حسبي الله" يعني الكفار تولوا عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال: إنما سمي العرش عرشاً لارتفاعه، وقد رويت أحاديث كثيرة في صفة العرش وماهيته وقدره. وإلى هنا انتهى الثلث الأول من التفسير المسمى فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير بقلم مؤلفه: محمد بن علي الشوكاني، غفر الله لهما. وكان تمام هذا الثلث في نهار يوم الثلاثاء لعله يوم عشرين من شهر محرم سنة 1227هـ. والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وآله وصحبه أجمعين. الحمد له: انتهى سماعاً على مؤلفه. أطال الله مدته في شهر جمادى الأولى من عام 1235هـ. يحيى بن علي الشوكاني غفر الله لهما آمين


1-الفاتحة 2-البقرة 3-آل-عمران 4-النساء 5-المائدة 6-الأنعام 7-الأعراف 8-الأنفال 9-التوبة 10-يونس 11-هود 12-يوسف 13-الرعد 14-إبراهيم 15-الحجر 16-النحل 17-الإسراء 18-الكهف 19-مريم 20-طه 21-الأنبياء 22-الحج 23-المؤمنون 24-النور 25-الفرقان 26-الشعراء 27-النمل 28-القصص 29-العنكبوت 30-الروم 31-لقمان 32-السجدة 33-الأحزاب 34-سبأ 35-فاطر 36-يس 37-الصافات 38-ص 39-الزمر 40-غافر 41-فصلت 42-الشورى 43-الزخرف 44-الدخان 45-الجاثية 46-الأحقاف 47-محمد 48-الفتح 49-الحجرات 50-ق 51-الذاريات 52-الطور 53-النجم 54-القمر 55-الرحمن 56-الواقعة 57-الحديد 58-المجادلة 59-الحشر 60-الممتحنة 61-الصف 62-الجمعة 63-المنافقون 64-التغابن 65-الطلاق 66-التحريم 67-الملك 68-القلم 69-الحاقة 70-المعارج 71-نوح 72-الجن 73-المزمل 74-المدثر 75-القيامة 76-الإنسان 77-المرسلات 78-النبأ 79-النازعات 80-عبس 81-التكوير 82-الانفطار 83-المطففين 84-الانشقاق 85-البروج 86-الطارق 87-الأعلى 88-الغاشية 89-الفجر 90-البلد 91-الشمس 92-الليل 93-الضحى 94-الشرح 95-التين 96-العلق 97-القدر 98-البينة 99-الزلزلة 100-العاديات 101-القارعة 102-التكاثر 103-العصر 104-الهمزة 105-الفيل 106-قريش 107-الماعون 108-الكوثر 109-الكافرون 110-النصر 111-المسد 112-الإخلاص 113-الفلق 114-الناس