مائة وعشرون آية، نزلت بالمدينة كلها إلا قوله: " اليوم أكملت لكم دينكم " الآية، فإنها نزلت بعرفات. بسم الله الرحمن الرحيم روي عن أبي ميسرة قال : أنزل الله تعالى في هذه السورة ثمانية عشر حكماً لم ينزلها في غيرها ، قوله : " والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام " " وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن " ، " وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم " ، وتمام الطهور في قوله تعالى : " إذا قمتم إلى الصلاة " ، " والسارق والسارقة "، " لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم " الآية ، " ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام " ، وقوله : " شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت ". 1-قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود" ، أي بالعهود ، قال الزجاج : هي أوكد العهود ، يقال : عاقدت فلاناً وعقدت عليه أي : ألزمته ذلك باستيثاق، وأصله من عقد الشيء بغيرة ووصله به كما يعقد الحبل بالحبل [ إذا وصل ]. واختلفوا في هذه العقود ، قال ابن جريج : هذا خطاب لأهل الكتاب ،يعني: يا أيها الذين آمنوا بالكتب المتقدمة أوفوا بالعهود التي عهدتها إليكم في شأن محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو قوله : " وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس "( سورة آل عمران ، 187) وقال الآخرون : هو عام ، وقال قتادة : أراد بها الحلف الذين تعاقدو عليه في الجاهلية ، وقال ابن مسعود رضي الله عنه : هي عهود الأبمان والقرآن ، هي العقود التي يتعاقدها الناس بينهم . "أحلت لكم بهيمة الأنعام "، قال / الحسن و قتادة : هي الأنعام كلها ، وهي الأبل والبقر والغنم ، وأراد تحليل ما حرم أهل الجاهلية على أنفسهم من الأنعام . وروىأبوظبيان عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : بهيمة الأنعام هي الأجنة ، ومثله عن الشعبي قال : هي الأجنة التي توجد ميتة في بطون أمهاتها إذا ذبحت أو نحرت، ذهب أكثر أهل العلم إلى تحليله . [ قال الشيخ الأمام ] : قرأت على أبي عبد الله محمد بن الفضل الخرقي فقلت : قرىء على أبي سهل محمد بن عمر بن طرفة وأنت حاضر ، فقيل له : حدثكم أبو سليمان الخطابي أنا أبو بكر ابن داسة أنا أبو داود السجستاني أنا مسدد أنا هشيم عن مجالد عن أبي الوداك عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنهم قال قلنا :" يا رسول الله ننحر الناقة ونذبح البقرة والشاة فنجد في بطنها الجنين ، أنلقيه أم نأكله ؟ فقال :كلوه إن شئتم فإن ذكاته ذكاة أمه " وروى أبو الزبير عن جابر عن الرسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ذكاة الجنين ذكاة أمة " . وشرط بعضهم الإشعار ، قال ابن عمر : ذكاة ما في يطنها في ذكاتها إذا تم خلقه ونبت شعره ، ومثله عن السعيد بن المسيب . وعند أبي حنيفة رضي الله عنه لا يحل أكل الجنين إذا خرج ميتاً بعد ذكاة الأم. وقال الكلبي : بهيمة الأنعام : وحشيها ، وهي الظباء وبقر الوحش ، سميت بهيمةً لأنها أبهمت عن التمييز، وقيل : لأنها لا نطق لها . " إلا ما يتلى عليكم " أي : ما ذكر في قوله " حرمت عليكم الميتة " إلى قوله " :وما ذبح على النصب " . " غير محلي الصيد " وهو نصب على الحال ، أي : لا محلي الصيد ، ومعنى الآية : أحلت لكم بهيمة الأنعام كلها إلا ما كان منها وحشيا فإنه صيد لا يحل لكم في حال الإحرام فذلك قولة تعالى: " وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد ".
2. قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله "، نزلت في الحطم واسمه شريح بن ضبيعة البكري ، أتى المدينة،وخلف خيله خارج المدينة ، ودخل وحده على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: إلى ما تدعو الناس ؟ فقال : إلى شهادة أن لا إله إلا الله ، [ وأن محمداً رسول الله ] ، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، فقال : [ حسن ] ، إلا أن لي أمراء لا أقطع أمراً دونهم ، ولعلي أسلم وآتي بهم ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه : يدخل عليكم رجل من ربيعة يتكلم [ بلسان ] شيطان ، ثم خرج شريح من عنده ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لقد دخل بوجه كافر وخرج بقفا غادر وما الرجل بمسلم فمر بسرح المدينة فاستاقه وانطلق ، فاتبعوه فلم يدركوه ، فلما كان العام القابل خرج حاجا في حجاج بكر بن وائل من اليمامة و معه تجارة عظيمة ، وقد قلد الهدي ، فقال المسلمون للنبي صلى الله عليه وسلم : هذا الحطم قد خرج حاجاً فخل بيننا وبينه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إنه قد قلد الهدي ، فقالوا : يا رسول الله هذا شيء كنا نفعله في الجاهليه ، فأبى النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل : " يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله " قال ابن عباس و مجاهد : هي مناسك الحج ، وكان المشركون يحجون ويهدون ، فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم فنهاهم الله عن ذلك. وقال أبو عبيدة : شعائر الله هي الهدايا المشعرة ، والإشعار من الشعار ، وهي العلامة ، وإشعارها : إعلامها بما يعرف أنها هدي ، والإشعار ها هنا : أن يطعن في صفحة سنام البعير بحديدة حتى يسيل الدم ، فيكون بذلك علامة أنها هدي ، وهي سنة في الهدايا إذا كانت من الأبل ، لما أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن أسماعيل ثنا أبو نعيم أنا أفلح عن القاسم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : "فتلت قلائد بدن النبي صلى الله عليه وسلم بيدي ، ثم قلدها وأشعرها وأهداها ، فما حرم عليه شيء كان أحل له " وقاس الشافعي البقر على الإبل في الإشعار ، وأما الغنم فلا تشعر بالجرح، فإنها لا تحتمل الجرح لضعفها ، وعند أبي حنيفة : لا يشعر الهدي . وقال عطية عن ابن عباس رضي الله عنهما : لا تحلوا شعائر الله هي أن تصيد وأنت محرم ، بدليل قوله تعالى : " وإذا حللتم فاصطادوا " وقال السدي : أراد حرم الله ، وقيل : المراد منه النهي عن القتل في الحرم ، وقال عطاء : شعائر الله حرمات الله واجتناب سخطه واتباع طاعته. قوله : " ولا الشهر الحرام " أي : القتال فيه ، وقال ابن زيد : هو النسيء ، وذلك أنهم كانوا يحلونه في الجاهليه عاما ويحرمونه عاماً ، " ولا الهدي " وهو كل ما يهدى إلى بيت الله من بعير أو بقرة أو شاة ، " ولا القلائد " أي الهدايا المقلدة ، يريد ذوات القلائد ، وقال عطاء : أراد أصحاب القلائد ، وذلك أنهم كانوا في الجاهلية إذا أرادوا الخروج من الحرم قلدوا أنفسهم ,إبلهم بشيء من لحاء شجر الحرم كيلا يتعرض لهم ، فنهى الشرع عن استحلال شيء منها . وقال مطرف بن الشخير : هي القلائد نفسها وذلك أن المشركين كانوا يأخذون من لحاء شجر مكة ويتقلدونها فنهوا عن نزع شجرها . قوله تعالى : " ولا آمين البيت الحرام " ، أي : قاصدين البيت الحرام ، يعني الكعبة فلا تتعرضوا لهم ، " يبتغون " يطلبون " فضلاً من ربهم " يعني الرزق بالتجارة ، " ورضواناً "أي : على زعمهم ، لأن الكافرين لا نصيب لهم في الرضوان ، وقال قتادة : هو أن يصلح معاشهم في الدنيا ولا يعجل لهم العقوبة فيها ، وقيل : ابتغاء الفضل للمؤمنين والمشركين عامة ، وابتغاء الرضوان للمؤمنين خاصة ، لأن المسلمين والمشركين كانوا يحجون ، وهذه الآية إلى ها هنا منسوخة بقوله : " فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم " ( سورة التوبة ، 5 ) وبقوله : " فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا " ( سورة التوبة ، 28) ، فلا يجوز أن يحج مشرك ولا أن يأمن كافر بالهدي والقلائد. قوله عز وجل : " وإذا حللتم " من إحرامكم ، " فاصطادوا " ، أمر إباحة ، أباح للحلال أخذ الصيد، كقوله تعالى : " فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض " ( الجمعة ، 10 ) . " ولا يجرمنكم " ، قال ابن عباس و قتادة : لا يحملنكم ، يقال : جرمني فلان على أن صنعت كذا ، أي حملني ، وقال الفراء : لا يكسبنكم ، يقال : جرم أي : كسب ، وفلان جريمة أهله ، أي كاسبهم ، وقيل : لا يدعونكم ، " شنآن قوم "اي بغضهم وعداوتهم ، وهو مصدر شنئت ، قرأ ابن عامر و أبو بكر شنآن قوم بسكون النون الأولى ، وقرأ الآخرون بفتحها ، وهما لغتان ، والفتح أجود ، لأن المصادر أكثرها فعلان ، بفتح العين مثل الضربان والسيلان والنسلان ونحوها ، " أن صدوكم عن المسجد الحرام " ، قرأ ابن كثير وأبوعمرو بكسر الألف على الإستئناف ، وقرأ الآخرون بفتح الألف ، أي : لأن صدوكم ، ومعنى الآية : ولايحملنكم عداوة قوم على الإعتداء لأنهم صدوكم . وقال محمد بن جرير : لأن السورة نزلت بعد قضية الحديبية ، وكان الصد قد تقدم ، " أن تعتدوا " ، عليهم بالقتل وأخذا لأموال ، " وتعاونوا " ، أي : ليعن بعضكم بعضاً ، " على البر والتقوى " ، قيل البر متابعة الأمر ، والتقوى مجانبة النهي ، وقيل البر : الإسلام ، والتقوى: السنة ، " ولا تعاونوا على الإثم والعدوان " ، قيل :الإثم : الكفر ، والعدوان : الظلم ، وقيل الإثم : المعصية ، والعدوان : البدعة .
أخبرنا أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري أنا أبوعبد الله محمدبن أحمد بن محمد بن أبي طاهر الدقاق ببغداد أخبرنا أبوالحسن علي بن محمد بن الزبير القرشي أنا الحسن بن علي بن عفان أنا زيد بن الحباب عن معاوية بن صالح حدثني عبد الرحمن بن جبير بن نفير بن مالك الحضرمي عن أبيه عن النواس بن سمعان الأنصاري قال :" سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم ، قال : البر حسن الخلق ، والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس " . " واتقوا الله إن الله شديد العقاب ". 3- قوله عز وجل " حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به " ، أي : ما ذكر على ذبحه اسم غير الله تعالى ، " والمنخنقة " ، وهي التي تختنق فتموت ، قال ابن عباس : كان أهل الجاهلية يخنقون الشاة حتى إذا ماتت أكلوها ، " والموقوذة " هي المقتولة بالخشب ، قال قتادة : كانوا يضربونها بالعصا فإذا ماتت أكلوها ، " والمتردية " ، هي التي تتردى من مكان عال أو في بئر فتموت ، " والنطيحة " وهي التي تنطحها أخرى فتموت ، وهاء التأنيث تدخل في الفعيل إذا كان بمعنى الفاعل ، فإذا كان بمعنى المفعول استوى فيه المذكر والمؤنث ، نحو عين كحيل وكف خضيب، فإذا حذفت الاسم وأفردت الصفة ، أدخلوا الهاء فقالوا :رأينا كحيلة وخضيبة، وهنا أدخل الهاء لأنه لم يتقدمها الاسم ، فلو أسقط الهاء لم يدر أنها صفة مؤنث أم مذكر ، ومثله الذبيحة والنسيكة ، وأكيلة السبع " وما أكل السبع " ، يريد ما بقي مما أكل السبع ، وكان أهل الجاهلية يأكلونه، " إلا ما ذكيتم " ، يعني : إلا ما أدركتم ذكاته من هذه الأشياء . وأصل التذكية الإتمام ، يقال : ذكيت النار إذا أتممت إشعالها والمراد هنا : إتمام فري الأوداج وإنهار الدم ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل غير السن والظفر ". وأقل الذكاة قي الحيوان المقدور عليه قطع المري والحلقوم وكما له أن يقطع الوجدين معهما ،ويجوز بكل محدد يقطع من حديد أو قصب أو زجاج أو حجر إلا السن والظفر ، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الذبح بهما ، وإنما يحل ما ذكيته بعدما جرحه السبع أو أكل شيئا منه إذا أدركته والحياة فيه مستقرة فذبحته، فأما ما صار بجرح السبع إلى حالة المذبوح ، فهو في حكم الميتة ، فلا يكون حلالاً وإن ذبحته، وكذلك المتردية والنطيحة إذا أدركتها حيةً قبل أن تصير إلى حالة المذبوح فذبحتها تكون حلالاً ، ولو رمى إلى صيد في الهواء فأصابه فسقط على الأرض فمات كان حلالا لأن الوقوع على الأرض من ضرورته ، فإن سقط على جبل أو شجر أو سطح ثم تردى منه فمات فلا يحل ، وهو من المتردية إلا أن يكون السهم أصاب مذبحه في الهواء فيحل كيف ما وقع ، لان الذبح قد حصل بإصابة السهم المذبح . " وما ذبح على النصب " ، قيل : النصب جمع واحدة نصاب ، هو واحد وجمعه أنصاب مثل عنق وأعناق ، وهو الشيء المنصوب . واختلفوا فيه ، فقال مجاهد و قتادة : كانت حول البيت ثلاثمائة وستون حجراً منصوبة ، كان أهل الجاهلية يعبدونها ويعظمونها ويذبحون لها ، وليست هي بأصنام ، إنما الأصنام هي المصورة المنقوشة ، وقال الآخرون : هي الأصنام المنصوبة ، ومعناه : وما ذبح على اسم النصب ، قال ابن زيد : وما ذبح على النصب وما أهل لغير الله به : هما واحد ، قال قطرب : على بمعنى اللام أي : وما ذبح لأجل النصب . " وأن تستقسموا بالأزلام " ، أي : ويحرم عليكم الاستقسام بالأزلام ، والاستقسام هو طلب القسم والحكم من الأزلام والأزلام هي : القداح التي لا ريش لها ولا نصل ، واحدها : زلم ، زلم بفتح الزاي وضمها ، وكانت أزلامهم سبعة قداح مستوية من شوحط ، يكون عند سادن الكعبة ، مكتوب على واحد :نعم ، وعلى واحد : لا وعلى واحد منكم ، وعلى واحد :من غيركم وعلى واحد :ملصق ، وعلى واحد : العقل ، وواحد غفل ليس عليه شيء ، فكانوا إذا أرادوا أمراً من سفر أو نكاح أو ختان أو غيره ، أو تدارؤوا في نسب أو اختلفوا في تحمل عقل جاؤو إلى هبل وكان أعظم أصنام قريش بمكة ، وجاؤو بمائة درهم فأعطوها صاحب القداح حتى يجيل القداح ، ويقولون : يا إلهنا إنا أردنا كذا وكذا ، فإن خرج نعم ، فعلوا ، وإن خرج لا، لم يفعلوا ذلك حولاً ، ثم عادوا إلى القداح ثانيةً ، فإذا أجالوا على نسب ، فإن خرج منكم كان وسطاً منهم ، وإن خرج غيركم كان حليفاً ، وإن خرج ملصق كان على منزلته لا نسب له ولا حلف ، وإذا اختلفوا في عقل فمن خرج عليه قدح العقل حمله ، وإن خرج الغفل أجالوا ثانياً حتى يخرج المكتوب ، فنهى الله عز وجل عن ذلك وحرمه وقال : " ذلكم فسق " قال سعيد بن جبير : الأزلام حصى بيض كانوا يضربون ، بها ، وقال مجاهد : هي كعاب فارس والروم التي يتقامرون بها ، وقال الشعبي وغيره : الأزلام للعرب ، والكعاب للعجم ، وقال سفيان بن وكيع : هي الشطرنج ، وروينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " العيافة والطرق والطيرة من الجبت " ، والمراد من الطرق : الضرب بالحصى . أخبرنا أبو سعيد الشريحي أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي أنا ابن فنجوية أنا ابن الفضل الكندي أخبرنا الحسن بن داود الخشاب أنا سويد بن سعيد أنا [ أبو المختار ] عن عبد الملك بن عمير عن رجاء بن حيوة عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من تكهن أو استقسم أو تطير طيرة ترده عن سفره لم ينظر إلى الدرجات العلى من الجنة يوم القيامة " . قوله عز وجل " اليوم يئس الذين كفروا من دينكم " ، يعني : أن ترجعوا إلى دينهم كفاراوذلك أن الكفار كانوا يطمعون في عود المسلمين إلى دينهم فلما قوي الإسلام يئسوا ، ويئس وأيس بمعنى واحد . " فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً" ، نزلت هذه الآية يوم الجمعة ، يوم عرفة بعد العصر في حجة الوداع ، والنبي صلى الله عليه وسلم واقف بعرفات على ناقته العضباء ، فكادت عضد الناقة تندق من ثقلها فبركت. أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمدبن أسماعيل حدثني الحسن بن الصباح سمع جعفر بن عون أنا أبو العميس أنا قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلاً من اليهود قال له: (( يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرؤونها ، لو علينا معشر اليهود نزلت لا تخذنا ذلك اليوم عيداً ، قال أية آية ؟ قال : " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً " قال عمر : قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائم بعرفة يوم الجمعة . أشار عمر إلى أن ذلك اليوم كان عيداً لنا )). قال ابن عباس : كان في ذلك اليوم خمسة أعياد : جمعة وعرفة وعيد اليود / والنصارى والمجوس ، ولم تجتمع أعياد أهل الملل في يوم قبله ولا بعده . روى هارون بن عنترة عن أبيه قال :" لما نزلت هذه الآية بكى عمر رضي الله عنه ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ما يبكيك يا عمر ؟ فقال : أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا ، فأما إذا كمل فإنه لم يكمل شيء قط إلا نقص ، قال : صدقت" . وكانت هذه الآية نعي النبي صلى الله عليه وسلم وعاش بعدها إحدى وثمانين يوماً، ومات يوم الإثنين بعدما زاغت الشمس لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول [ سنة إحدى عشرة من الهجرة ، وقيل : توفي يوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول ] وكانت هجرته في الثاني عشر . قوله عز وجل : " اليوم أكملت لكم دينكم " يعني : يوم نزول هذه الآية أكملت لكم دينكم، يعني الفرائض والسنن والحدود والجهاد والأحكام والحلال والحرام ، فلم ينزل بعد هذه الآية حلال ولا حرام ، ولا شيء من الفرائض . هذا معنى قول ابن عباس رضي عنهما ، وروي عنه أن آية الربا نزلت بعدها . وقال سعيد بن جبير و قتادة : أكملت لكم دينكم فلم يحج معكم مشرك ووقيل :أظهرت دينكم وأمنتكم من العدو. قوله عز وجل : " وأتممت عليكم نعمتي " ، يعني : وأنجزت وعدي في قول ((ولأتم نعمتي عليكم)) ( سورة البقرة ، 150) ، فكان من تمام نعمته أن دخلوا مكة آمنين وعليها ظاهرين ، وحجوا مطمئنين لم يخالطهم أحد من المشركين ، " ورضيت لكم الإسلام ديناً " ، سمعت عبد الواحد المليحي قال : سمعت أبا محمد بن أبي حاتم ، قال : سمعت أبا بكر النيسابوري سمعت أبا بكر محمد بن الحسن بن المسيب المروزي ، سمعت أبا حاتم محمد بن إدريس الحنظلي ، سمعت عبد الملك بن مسلمة أبا مروان المصري سمعت إبراهيم بن أبي بكر بن المنكدر رضي الله عنه سمعت عمي محمد بن المنكدر سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنه يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " قال جبريل عليه السلام قال الله تعالى : هذا دين إرتضيته لنفسي ولن يصلحه إلا السخاء وحسن الخلق، فأكرموه بهما ما صحبتموه " . قوله عز وجل : " فمن اضطر في مخمصة "، أي : اجهد في مجاعة ، والمخمصة خلو البطن من الغذاء ، يقال رجل خميص البطن إذا كان طاوياً خاوياً ، " غير متجانف لإثم " أي : مائل إلى إثم وهو أن يأكل فوق الشبع ، وقال قتادة غير متعرض لمعصية في مقصده ، " فإن الله غفور رحيم " وفيه إضمار ، أي : فأكله فإن الله غفور رحيم . أخبرنا أبو عبد الله مجمد بن حسن المزوري أنا أبو العباس أحمد بن محمد بن سراج الطحان أنا أبو أحمد محمد بن قريش بن سليمان أنا أبو الحسن علي بن عبد العزيز المكي أنا أبو عبيد القاسم بن سلام أنا محمد بن كثير عن الأوزاعي عن حسان بن عطية عن أبي واقد الليثي "قال رجل : يا رسول الله إنا نكون بالأرض فتصيبنا بها المخمصة فمتى تحل لنا الميتة ؟ فقال : ما لم تصطحبوا أو تغتبقوا أو تحتفئوا بها بقلاً فشأنكم بها " .
4-قوله عز وجل " يسألونك ماذا أحل لهم " الآية ، قال سعيد بن جبير نزلت هذه الآية في عدي بن حاتم وزيد بن المهلهل الطائيين وهو زيد الخيل الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد الخير ، قالا يا رسول الله إنا قوم نصيد بالكلاب والبزاة فماذا يحل لنا منها ؟ فنزلت هذه الآية . وقيل : سبب نزولها أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر بقتل الكلاب قالوا : يا رسول الله ماذا يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها ؟ فنزلت هذه الآية فلما نزلت أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في إقتناء الكلاب التي ينتفع بها، ونهى عن إمساك مالا نفع فيه منها . أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أنا أبو الحسين علي بن محمد بن عبد الله بن بشران أنا إسماعيل بن محمد الصفار أنا أحمد بن منصور الرمادي أنا معمر عن أبي هريرة رضي الله عنه أ النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من اتخذ كلباً إلا كلب ماشية أو صيد أو زرع انتقص من أجره كل يوم قيراط " ، والأول أصح في نزول الآية . " قل أحل لكم الطيبات " ، يعني الذبائح على أسم الله تعالى ، وقيل كل ما تستطيبه العرب وتستلذه من غير أن يرد بتحريمه نص من كتاب أو سنة " وما علمتم من الجوارح " ، يعني : وأحل لكم صيد ما علمتم من الجوارح . واختلفوا في هذه الجوارح ، فقال الضحاك و السدي : هي الكلاب دون غيرها ، ولا يحل ما صاده غير الكلب إلا أن يدرك ذكاته ، وهذا غير معمول به ، بل عامة أهل العلم على أن المراد بالجوارح الكواسب من السباع البهائم كالفهد والنمر والكلب ، ومن سباع الطير كالبازي والعقاب والصقر ونحو مما يقبل التعليم، فيحل صيد جميعها، سميت جارحة: لجرحها لأربابها أقواتهم من الصيد، أي: كسبها، يقال: فلان جارحة أهله، أي: كاسبهم " مكلبين"، والمكلب الذي يغري الكلاب على الصيد، ويقال للذي يعلمها أيضاً كلاب ، ونصب مكلبين على كل خال ، أي: في حال تكليبهم هذه الجوارح أي إغرائكم إياها على الصيد، وذكر الكلاب لأنها أكثر وأعم، والمراد جميع جوارح الصيد،" تعلمونهن"، تؤدبونهن آداب أخذ الصيد، " مما علمكم الله"، أي: من العلم الذي علمكم، وقال السدي: أي كما علمكم الله ، ((من)) بمعنى الكاف ، "فكلوا مما أمسكن عليكم". أراد أن الجارحة المعلمة إذا خرجت بإرسال صاحبها فأخذت الصيد وقتلته كان حلالاً، والتعليم هو أن يوجد بها ثلاث أشياء: إذا أشليت استشلت، وأذا زجرت إنزجرت، وإذا أخذت الصيد أمسكت ولم تأكل، وإذا وجد ذلك منه مراراً وأقله ثلاث مرات كانت معلمة، يحل قتلها بارسال صاحبها. أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن اسماعيل أنا ثابت بن زيد عن عاصم عن الشعبي عن عدي بن حاتم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا أرسلت كلبك المعلم وسميت فأمسك وقتل فكل، وإن أكل فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه، وإذا خالط كلاباً لم يذكر اسم الله عليها فأمسكن وقتلن فلا تأكل فإنك لا تدري أيها قتل، وإذا رميت الصيد فوجدته بعد يوم أو يومين ليس به إلا أثر سهمك فكل وإن وقع في الماء فلا تأكل ". واختلفوا فيما إذا أخذت الصيد وأكلت منه شيئاً : فذهب أكثر أهل العلم إلى أهل تحريمه ، وروي ذلك عن ابن عباس ، وهو قول عطاء و طاووس والشعبي ، وبه قال الثوري و ابن المبارك وأصحاب الرأي وهو أصح قول الشافعي لقوله : " وإن أكل فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه " . ورخص بعضهم في أكله ، روي ذلك عن ابن عمر ، وسلمان الفارسي ، وسعد بن أبي وقاص ، وبه قال مالك : لما روي عن أبي ثعلبة الخشني قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله تعالى فكل وإن أكل منه " . أما غير المعلم من / الجوارح إ ذا أخذ صيداً ، أ, المعلم إذا خرج بغير إرسال فأخذ وقتل فلا يكون حلالاً إلا أن يدركه صاحبه حياً فيذبحه ، فيكون حلالاً . أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا عبد الله بن يزيد أنا حيوة أخبرني ربيعة بن يزيد الدمشقي عن أبي إدريس عن أبي ثعلبة الخشني قال قلت :" يا نبي الله إنا بأرض قوم أهل كتاب أفنأكل في آنيتهم ، وبأرض صيد أصيد بقوسي وبكلبي المعلم فما يصح لي ؟ قال : أما ما ذكرت من آنية أهل الكتاب فإن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها وإن لم تجدوا فاغسلوها وكلوا فيها وما صدت بقوسك فذكرت اسم الله عليه فكل وما صدت بكلبك غير المعلم فأدركت ذكاته فكل ". قوله عز وجل : " واذكروا اسم الله عليه . واتقوا الله إن الله سريع الحساب " ، ففيه بيان أن ذكر اسم الله عز وجل على الذبيحة شرط حالة ما يذبح ، وفي الصيد حالة ما يرسل الجارحة أو السهم . أخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد الداودي أنا أبو الحسن علي بن محمد بن إبراهيم بن الحسن بن علوية الجوهري قال : حدثنا أبو العباس محمد بن أحمد بن الأثرم المقري بالبصرة حدثنا عمر بن شيبة أنا أبي عدي عن أنس قال : " ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده وسمى وكبر ، قال : رأيته واضعاً قدمه على صفاحهما ويذبحهما بيده ويقول بسم الله و الله أكبر" .
5- قوله عز وجل : " اليوم أحل لكم الطيبات " ، يعني : الذبائح على اسم الله عز وجل ، " وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم " ، يريد ذبائح اليهود والنصارى ومن دخل غي دينهم من سائر الأمم قبل مبعث النبي محمد صلى الله عليه وسلم حلال لكم ، فأما من دخل في دينهم بعد مبعث محمد صلى الله عليه وسلم فلا تحل ذبيحته ، ولو ذبح يهودي أو نصراني على اسم غير الله كالنصراني يذبح باسم المسيح فاخلفوا فيه ، قال عمر : لا يحل ، وهو قول ربيعة ، وذهب أكثر أهل العلم إلى أنه يحل ، وهو قول الشعبي و عطاء و الزهري و مكحول ، سئل الشعبي و مكحول عن النصراني يذبح باسم المسيح ، قالا : يحل فإن الله تعالى قد أحل ذبائحهم و هو يعلم ما يقولون ، وقال الحسن : إذا ذبح اليهودي أو النصراني فذكر اسم غير الله و أنت تسمع فلا تأكله فإذا غاب عنك فكل فقد أحل الله لك . قوله عز وجل : " وطعامكم حل لهم " ، فإذا قيل : كيف شرع لهم حل طعامنا وهم كفار ليسوا من أهل الشرع ؟ قال الزجاج : معناه حلال لكم أن تطعموهم فيكون خطاب الحل مع المسلمين ، وقيل : لأنه ذكر عقيبه حكم النساء ، ولم يذكر حل المسلمات لهم فكأنه قال حلال لكم أن تطعموهم حرام عليكم أن تزوجوهم . قوله عز وجل : " والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم " ، هذا راجع إلى الأول منقطع عن قوله : " وطعامكم حل لهم " . اختلفوا في معنى" المحصنات " : فذهب أكثر العلماء إلى أن المراد منهن الحرائر ، وأجازوا نكاح كل حرة ، مؤمنة كانت أو كتابية ، فاجرة كانت أو عفيفة ، وهو قول مجاهد ، وقال هؤلاء : لا يجوز للمسلم نكح الأمة الكتابية لقوله تعالى : " فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات " ( سورة النساء ، 25) جوز نكاح الأمة بشرط أن تكون مؤمنة ، وجوز أكثرهم نكاح الأمة الكتابية الحربية ، وقال ابن عباس : لا يجوز وقرأ " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله " إلى قوله " حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون " ( التوبة ، 29) ، فمن أعطى الجزية حل لنا نساؤه ومن لم يعطها فلا يحل لنا نساؤه. وذهب قوم إلى أن المراد من المحصنات في الآية : العفائف من الفريقين حرائر كن أو إماء وأجاز نكاح الأمة الكتابية ، وحرموا البغايا من المؤمنات والكتابيات ، وهو قول الحسن ، وقال الشعبي : إحصان الكتابية أن تستعف وتغتسل م الجنابة . " إذا آتيتموهن أجورهن " مهورهن " محصنين غير مسافحين " غير معالنين بالزنا، " ولا متخذي أخدان " ، أي : يسرون بالزنا ، قال الزجاج : حرم الله الجماع على جهة السفاح وعلى جهة اتخاذ الصديقة ، وأحله على جهة الإحصان وهو التزوج. " ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين " ، قال مقاتل بن حيان : يقول ليس إحصان المسلمين من الكفر أو يغني عنهن شيئاً وهي للناس عامة : " ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين " . قال ابن عباس و مجاهد في معنى قوله تعالى : " ومن يكفر بالإيمان " أي : بالله الذي يجب الإيمان به . وقال الكلبي : بالإيمان أي : بكلمة التوحيد وهي شهادة أن لا أله إلا الله . وقال مقاتل : بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وهو القرآن ، وقيل : من يكفر بالإيمان أي : يستحل الحرام ويحرم الحلال فقد حبط عمله ، وهو في الآخرة من الخاسرين قال ابن عباس : خسر الثواب .
6- قوله عز وجل : " يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة " ، أي : إذا أردتم القيام إلى الصلاة ، كقوله تعالى : " فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله " ، ( سورة النحل ، 98) ، أي : إذا أردت القراءة . وظاهر الآية يقتضي وجوب الوضوء عند كل مرة يريد القيام إلى الصلاة ، لك أعلمنا ببيان السنة وفعل النبي صلى الله عليه وسلم أن المراد من الآية : " إذا قمتم إلى الصلاة " وأنتم على غير طهر ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ ". وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق بين أربع صلوات بوضوء واحد ، أخبرنا أبو القاسم عبد الله بن محمد الحنيفي أنا أبو الحارث طاهر بن محمد الطاهري أنا أبو محمد الحسن بن محمد بن حليم أنا أبو الموجه محمد بن عمرو بن الموجه أنا عبدان أنا سفيان عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة الصلوات الخمس بوضوء واحد ، ومسح على خفيه . وقال زيد بن أسلم : معنى الآية إذا قمتم إلى الصلاة من النوم . وقال بعضهم : هو أمر على طريق الندب ، ندب من قام إلى الصلاة أن يجدد لها طهارتها وإن كان على طهر ، روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من توضأ على طهر كتب الله له عشر حسنات ". وروي عن عبد الله بن حنظلة بن عامر (( أن الرسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء عند كل صلاة طاهراً أو غير طاهر ، فلما شق ذلك عليه أمر بالسواك لكل صلاة )) . وقال بعضهم : هذا إعلام من الله سبحانه وتعالى لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا وضوء عليه إلا إذا قام إلى الصلاة دون غيرها من الأعمال ، فأذن له أن يفعل بعد الحدث ما له من الأفعال غير الصلاة ، أخبرنا أبو القاسم الحنيفي أنا أبو الحارث الطاهري أنا الحسن بن محمد بن حليم أنا أبو الموجه أنا صدقة أنا ابن عيينة عن عمرو بن دينار سمع سعيد بن الحويرث سمع ابن عباس رضي الله عنهما يقول : (( كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فرجع من الغائط فأتي بطعام فقيل له : ألا تتوضأ ؟ فقال :" لم ؟ أأصلي فأتوضأ " ؟)) . قوله عز وجل : " فاغسلوا وجوهكم " وحد الوجه من منابت شعر الرأس / إلى منتهى الذقن طولاً وما بين الأذنين عرضاً يجب غسل جميعه في الوضوء ، ويجب أيضاً إيصال الماء إلى ما تحت الحاجبين وأهداب العينين والشارب والعذار أو العنفقة و إن كانت كثيفة وأما العارض واللحية فإن كانت كثيفة لا ترى البشرة من تحتها لا يجب غسل باطنها في الوضوء ، بل يجب غسل ظاهرها. وهل يجب إمرار الماء على ظاهر ما استرسل من اللحية عن الذقن ؟ فيه قولان : أحدهما : لا يجب ، وبه قال أبو حنيفة ، لأن الشعر النازل عن حد الرأس لا يكون حكمه حكم الرأس في جواز المسح عليه ، كذلك النازل عن حد الوجه في وجوب غسله . والقول الثاني : يجب إمرار الماء على ظاهره ، لأن الله تعالى أمر بغسل الوجه ، والوجه ما يقع في المواجهة من هذا العضو ، ويقال في اللغة بقل وجه فلان وخرج وجهه: إذا نبتت لحيته. قوله تعالى : " وأيديكم إلى المرافق " ، أي : مع المرافق ، كما قال الله تعالى : " ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم " ( سورة النساء ، 2) أي : مع أموالكم ، وقال : " من أنصاري إلى الله " ( سورة آل عمران ، 52 وسورة الصف ، 14) ، أي : مع الله . وأكثر العلماء على أنه يجب غسل المرفقين ، وفي الرجل يجب غسل الكعبين ، وقال الشعبي و محمد بن جرير : لا يجب غسل المرفقين والكعبين في اليد والرجل لأن حرف (( إلى )) للغاية والحد ، فلا يدخل في المحدود . قلنا : ليس هذا بحد ولكنه بمعنى مع كما ذكرنا ، وقيل : الشيء إذا حد إلى جنسه يدخل فيه الغاية ، وإذا حد إلى غير جنسه لا يدخل ، كقوله تعالى : " ثم أتموا الصيام إلى الليل " ( سورة البقرة، 187) ، لم يدخل الليل فيه لأنه ليس من جنس النهار . قوله تعالى : " وامسحوا برؤوسكم " ، اختلف العلماء في قدر الواجب من مسح الرأس ، قال مالك : يجب مسح جميع الرأس كما مسح جميع الوجه في التيمم، وقال أبو حنيفة : يجب مسح ربع الرأس ، وعند الشافعي رحمه الله : يجب قدر ما يطلق عليه اسم المسح . واحتج من أجاز مسح بعض الرأس بما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أنا أبو العباس الأصم أنا الشافعي أنا يحيى بن حسان عن حماد بن زيد و ابن علية عن أيوب السختياني عن ابن سيرين عن عمرو بن وهب الثقفي عن المغيرة بن شعبة " أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح بناصيته وعلى عمامته وخفيه " ، فأجاز بعض أهل العلم المسح على العمامة بهذا الحديث ، وبه قال الأوزاعي و أحمد و إسحاق . ولم يجوز أكثر أهل العلم المسح على العمامة بدلاً من مسح الرأس ، وقالوا : في حديث المغيرة أن فرض المسح سقط عنه بمسح الناصية ، وفيه دليل على أن مسح جميع الرأس غير واجب . قوله عز وجل : " وأرجلكم إلى الكعبين " ، قرأ نافع و ابن عامر و الكسائي و يعقوب و حفص (( وأرجلكم )) بنصب اللام ، وقرأ الآخرون (( وأرجلكم )) بالخفض ، فمن قرأ (( وأرجلكم )) بالنصب فيكون عطفاً على قوله : " فاغسلوا وجوهكم وأيديكم " أي : واغسلوا أرجلكم ، ومن قرأ بالخفض فقد ذهب قليل من أهل العلم إلى أنه يمسح على الرجلين ، وروي عن ابن عباس أنه قال : الوضوء غسلتان ومسحتان ، ويروى ذلك عن عكرمة و قتادة ، وقال الشعبي : نزل جبريل بالمسح وقال : ألا ترى المتيمم يمسح ما كان غسلاً ويلغي ما كان مسحاً ؟ وقال محمد بن جرير الطبري يتخير المتوضىء بين المسح على الخفين وبين غسل الرجلين . وذهب عامة أهل العلم من الصحابة والتابعين وغيرهم إلى وجوب غسل الرجلين ، وقالوا : خفض اللام في الأرجل على مجاورة اللفظ لا على موافقة الحكم ، كما قال تبارك وتعالى : " عذاب يوم أليم " فالأليم صفة العذاب ، ولكنه أخذ إعراب اليوم للمجاورة ، وكقولهم : جحر ضب خرب ، فالخرب نعت للحجر وأخذ إعراب الضب للمجاورة . والدليل على وجوب غسل الرجلين : ما أخبرنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن العباس الحميدي الخطيب أنا أبو عبد الله الحافظ أنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب أنا يحيى بن محمد بن يحيى أنا الحجبي و مسدد قالا:أخبرنا أبو عوانة عن أبي بشر عن يوسف بن ماهك عن عبد الله بن عمرو قال : " تخلف عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر سافرناه فأدركنا وقد أرهقتنا الصلاة صلاة العصر ، ونحن نتوضأ فجعلنا نمسح على أرجلنا فنادانا بأعلى صوته : ويل للأعقاب من النار " . أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل حدثنا عبدان أنا معمر حدثني الزهري عن عطاء بن يزيد عن حمران مولى عثمان قال : " رأيت عثمان رضي الله عنه توضأ فأفرغ على يديه ثلاثاً ثم مضمض واستنشق واستنثر ، ثم غسل وجهه ثلاثاً ، ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاثاً ، ثم غسل يده اليسرى إلى المرافق ثلاثاً ، ثم مسح رأسه ، ثم غسل رجله اليمنى ثلاثا ثم اليسرى ثلاثاً ، ثم قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ نحو وضوئي هذا ، ثم قال : من توضأ وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث نفسه فيهما بشيء غفر الله ما تقدم من ذنبه ". وقال بعضهم : أراد بقوله " وأرجلكم " المسح على الخفين كما روي (( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ركع وضع يديه على ركبتيه )) وليس المراد منه أنه لم يكن بينهما حائل ، ويقال : قبل فلان رأس الأمير ويده ، وإن كانت العمامة على رأسه ، ويده في كمه. أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا أبو نعيم أنا زكريا عن عروة بن المغيرة عن أبيه رضي الله عنهما قال : "كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة في سفر فقال : (( أمعك ماء )) فقلت : نعم ، فنزل عن راحلته فمشى حتى توارى عني في سواد الليل ، ثم جاء فأفرغت عليه من الإداوة فغسل وجهه ويديه ، وعليه جبة من صوف فلم يستطع أن يخرج ذراعيه منها حتى أخرجهما من أسفل الجبة فغسل ذراعيه ، ثم مسح برأسه ، ثم أهويت لأنزع خفيه فقال : دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين " فمسح عليهما . قوله تعالى : " إلى الكعبين " فالكعبان هما العظمان الناتئان من جانبي القدمين ، وهما مجتمع مفصل الساق والقدم ، فيجب غسلهما مع القدمين كما ذكرنا في المرفقين . وفرائض الوضوء : غسل الأعضاء الثلاثة كما ذكر الله تعالى ، ومسح الرأس ، واختلف أهل العلم في وجوب النية : فذهب أكثرهم إلى وجوبها لأن الوضوء عبادة فيفتقر إلى النية كسائر العبادات ، وذهب بعضهم إلى أنها غير واجبة وهو قول الثوري وأصحاب الرأي . واختلفوا في وجوب الترتيب ، وهو أن يغسل أعضاءه على الولاء كما ذكر الله تبارك وتعالى : فذهب جماعة إلى وجوبه ، وهو قول مالك و الشافعي و أحمد و إسحاق رحمهم الله ، ويروي ذلك عن أبي هريرة رضي الله عنه. واحتج الشافعي بقوله تعالى : " إن الصفا والمروة من شعائر الله " ، ( سورة البقرة ، 158) وبدأ النبي صلى الله عليه وسلم بالصفا ، وقال : " نبدأ بما بدأ الله به " ، وكذلك ههنا بدأ الله تعالى بذكر غسل الوجه فيجب علينا أن نبدأ فعلاً بما بدأ الله تعالى به ذكراً. وذهب جماعة إلى أن الترتيب / سنة ، وقالوا الواوات المذكورة في الآية للجمع لا للترتيب كما قال الله تعالى : " إنما الصدقات للفقراء والمساكين " الآية ( سورة التوبة ، 60) ، واتفقوا على أنه لا تجب مراعاة الترتيب في صرف الصدقات إلى أهل السهمان ، ومن أوجب الترتيب أجاب بأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه راعى الترتيب بين أهل السهمان ، وفي الوضوء لم ينقل أنه توضأ إلا مرتباً كما ذكر الله تعالى ، وبيان الكتاب يؤخذ من السنة كما قال الله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا " ( سورة الحج ، 77)، لما قدم ذكر الركوع على السجود ، ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعل إلا كذلك فكان مراعاة الترتيب فيه واجبة ، كذلك الترتيب هنا . قوله عز وجل : " وإن كنتم جنباً فاطهروا " ، أي : اغتسلوا . أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد أنا أبو مصعب عن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اغتسل من الجنابة بدأ فغسل يديه ، ثم توضأ كما يتوضأ للصلاة ، ثم يدخل أصابعه في الماء فيخلل بها أصول شعره ، ثم يصب على رأسه ثلاث غرفات بيديه ، ثم يفيض الماء على جلده كله ". قوله تعالى : " وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماءً فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه"، فيه دليل على أنه يجب مسح الوجه واليدين بالصعيد وهو التراب ،" ما يريد الله ليجعل عليكم " ، بما فرض عليكم من الوضوء والغسل والتيمم ، " من حرج " ، ضيق ، " ولكن يريد ليطهركم " ، من الأحداث والجنابات والذنوب ، " وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون " . قال محمد بن كعب القرظي :إتمام النعمة تكفير الخطايا بالوضوء كما قال الله تعالى : " ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر " ( سورة الفتح ، 2) ، فجعل تمام نعمته غفران ذنوبه. أخبرنا أبو الحسن عبد الوهاب بن محمد الكسائي أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أنا أبو العباس الأصم أنا الربيع أنا الشافعي أنا سفيان عن هشام بن عروة عن أبيه عن حمران : "أن عثمان توضأ بالمقاعد ثلاثاً ثلاثاً ثم قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من توضأ وضوئي هذا خرجت خطاياه من وجهه ويديه ورجليه ". أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمدأنا أبو إسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن حمران مولى عثمان : أن عثمان بن عفان رضي الله عنه جلس على المقاعد يوماً فجاءه العصر فدعا بماء فتوضأ ، ثم قال : والله لأحدثنكم حديثاً لولا آية في كتاب الله ما حدثتكموه ، ثم قال إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ما من امرىء [ مسلم ] يتوضأ فيحسن وضوءه ثم يصلي الصلاة إلا غفر له ما بينه وما بين الصلاة الأخرى حتى يصليها " قال مالك : أراه يريد هذه الآية " أقم الصلاة لذكري " ، ورواه ابن شهاب ، وقال عروة : الآية " إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات " ( سورة البقرة ، 159). أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا يحيى بن بكير أنا الليث عن خالد عن سعيد بن أبي هلال عن نعيم المجمر قال رقيت مع أبي هريرة رضي الله عنه على ظهر المسجد ، فتوضأ قال : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء ، فمن استطاع أن يطيل منكم غرته فليفعل ".
7- قوله تعالى : " واذكروا نعمة الله عليكم " ، يعني : النعم كلها ، " وميثاقه الذي واثقكم به " ، عهده الذي عاهدكم به أيها المؤمنون ، " إذ قلتم سمعنا وأطعنا " وذلك حين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة فيما أحبوا وكرهوا ، هذا قول أكثر المفسرين ، وقال مجاهد و مقاتل : يعني الميثاق الذي أخذ عليهم حين أخرجهم من صلب آدم عليه السلام ، " واتقوا الله إن الله عليم بذات الصدور " ، بما في القلوب من خير وشر .
8- قوله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط " ، أي : كونوا قائمين بالعدل [ قوالين ] بالصدق ، أمرهم بالعدل والصدق في أفعالهم وأقوالهم ، " ولا يجرمنكم " ، يحملنكم ، " شنآن قوم " ، بغض قوم ، " على أن لا تعدلوا " ، أي : على ترك العدل فيهم لعداوتهم . ثم قال : " اعدلوا " ، يعني في أوليائكم وأعدائكم ، " هو أقرب للتقوى " ، يعني : إلى التقوى ، " واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون " .
9- " وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم " ، وهذا في موضع النصب ، لأن فعل الوعد واقع على المغفرة ، ورفعها على تقدير أي : وقال لهم مغفرة وأجر عظيم .
10- " والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم " .
11- قوله عز وجل : " يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم " ، بالدفع عنكم ، " إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم " بالقتل . قال قتادة : نزلت هذه الآية ورسول الله صلى الله عليه وسلم ببطن نخل فأرادوا بنو ثعلبة وبنو محارب أن يفتكوا به وبأصحابه إذا اشتغلوا بالصلاة فأطلع الله تبارك وتعالى نبيه على ذلك ، وأنزل الله صلاة الخوف . وقال الحسن : كان النبي صلى الله عليه وسلم محاصراً غطفان بنخل ، فقال رجل من المشركين : هل لكم في أن أقتل محمداً ؟ قالوا : وكيف تقتله ؟ قال : وددنا أنك قد فعلت ذلك ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم والنبي صلى الله عليه وسلم متقلداً سيفه ، فقال : يا محمد أرني سيفك فأعطاه إياه فجعل الرجل يهز السيف وينظر مرة إلى السيف ومرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال من يمنعك مني يا محمد ؟ قال : الله ، فتهدده أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فشام السيف ومضى ، فأنزل الله تعالى هذه الآية . وقال مجاهد و عكرمة و الكلبي و ابن يسار عن رجاله : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المنذر بن عمرو الساعدي، وهو أحد النقباء ليلة العقبة، في ثلاثين راكباً من المهاجرين والأنصار إلى بني عامر بن صعصعة، فخرجوا فلقوا عامر بن الطفيل على بئر معونة، وهي من مناه بني عامر، فألقوا، فقتل المنذر بن عمرو وأصحابه إلا ثلاثة نفر كانوا في طلب ضالة لهم، أحدهم عمرو بن أمية الضمري، فلم يرعهم ألا الطير تحوم في السماء، يسقط من بين خراطيمها علق الدم، فقال أحد النفر: فقتل أصحابنا، ثم تولى يشتد حتى لقي رجلاً فاختلفا ضربتين فلما خالطته الضربة رفع [رأسه] إلى السماء وفتح عينيه وقال: الله أكبر الجنة ورب العالمين، فرجع صاحباه فلقيا رجلين من بني سليم وكان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قومهما موادعة، فانتسبا لهما إلى بني عامر فقتلاهما وقدم قومهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلبون الدية، فخرج ومعه أبو بكر وعمر و عثمان وعلي وطلحة وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم، حتى دخلوا على كعب بن الأشرف و بني النضير يستعينهم في عقلهما، وكانوا قد عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم على ترك القتال وعلى أن يعينوه في الديات، قالوا : نعم يا أبا القاسم قد آن لك أن تأتينا وتسأل حاجة اجلس حتى نطعمك ونعطيك الذي سألته/، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فخلا بعضهم ببعض وقالوا: إنكم لن تجدوا محمداً أقرب منه الآن فمن يظهر على هذا البيت فيطرح عليه صخرة فيريحنا منه؟ فقال عمر بن جحاش: أنا ، فجاء إلى رحى عظيمة ليطرحها عليه فأمسك الله تعالى يده وجاء جبريل وأخبره، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم راجعاً إلى المدينة ثم دعا علياً فقال: لا تبرح مقامك، فمن خرج عليك من أصحابي فسألك عني فقل: توجه إلى المدينة، ففعل ذلك علي رضي الله عنه حتى تناهوا إليه ثم تبعوه، فأنزل الله تعالى هذه الآية وقال: " فكف أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون " .
12- قوله عز وجل :" ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا " ، وذلك أن الله عز وجل وعد موسى عليه السلام أن يورثه وقومه الأرض المقدسة وهي الشام، وكان يسكنها الكنعانيون الجبارون، فلما استقر لبني إسرائيل الدار بمصر أمرهم الله تعالى بالسير إلى أريحا من أرض الشام وهي الأرض المقدسة، وكانت لها ألف قرية في كن قرية ألف بستان، وقال: يا موسى إني كتبتها لكم داراً وقراراً فاخرج إليها وجاهد من فيها من العدو فإني ناصرك عليهم، وخذ من قومك اثني عشر نقيباً من كل سبط نقيباً يكون كفيلاً على قومه بالوفاء منهم على ما أمروا به، فاختار موسى النقباء وسار موسى ببني إسرائيل حتى قربوا من أريحا فبعث هؤلاء النقباء يتجسسون له الأخبار ويعلمون علمها، فلقيهم رجل من الجبابرة يقال له عوج بن عنق، وكان طوله ثلاثة آلاف وثلثمائة وثلاث وثلاثين ذراعاً وثلث ذراع، وكان يحتجز بالسحاب ويشرب منه ويتناول الحوت من قرار البحر فيشويه بعين الشمس يرفعه أليها ثم يأكله. ويروى أن الماء طبق ما على الأرض من جبل وما جاوز ركبتي عوج وعاش ثلاثة آلاف سنة حتى أهلكه الله على يدي موسى عليه السلام، وذلك أنه جاء [وقلع] صخرة من الجبل على قدر عسكر موسى عليه السلام،وكان فرسخاً في فرسخ، وحملها ليطبقها عليه فبعث الله الهدهد فقور الصخرة بمنقاره فوقعت في عنقه فرصعته، فأقبل موسى عليه السلام وهو مصروع فقتله، وكانت أمه[عنق] إحدى بنات آدم وكان مجلسها[جريباً] من الأرض، فلما لقي عوج النقباء وعلى رأسه حزمة من حطب أخذ الاثني عشر وجعلهم في حجزته وانطلق بهم إلى امرأته، وقال انظري إلى هؤلاء الذين يزعمون أنهم يريدون قتالنا، وطرحهم بين يديها وقال: ألا أطحنهم برجلي؟ فقالت امرأته: لا بل خل عنهم حتى يخبروا قومهم بما رأوا، ففعل ذلك. وروي أنه جعلهم في كمه وأتى بهم إلى الملك فطرحهم بين يديه، فقال الملك:ارجعوا فأخبرهم بما رأيتم، وكان لا يحمل عنقوداً من عنبهم إلا خمسة أنفس منهم في خشبة، ويدخل في شطر الرمانة إذا نزع منها حبها خمسة أنفس، فرجع النقباء وجعلوا يتعرفون أحوالهم، وقال بعضهم لبعض يا قوم: إنكم إن أخبرتم بني إسرائيل خبر القوم ارتدوا عن نبي الله ولكن اكتموا، وأخبروا موسى وهارون فيريان رأيهما وأخذ بعضهم على بعضهم الميثاق بذلك، ثم إنهم نكثوا العهد وجعل كل واحد منهم ينهي سبطه عن قتالهم ويخبرهم بما رأى: إلا رجلان فذلك قوله تعالى:" ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا ". " وقال الله إني معكم " ، ناصركم على عدوكم، ثم ابتدأ الكلام فقال:" لئن أقمتم الصلاة " يا معشر بني إسرائيل، " وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم " ، نصرتموهم، وقيل: ووقرتموهم وعظمتموهم، " وأقرضتم الله قرضاً حسناً " قيل: هو إخراج الزكاة، وقيل: هو النفقة على الأهل، " لأكفرن عنكم سيئاتكم"، لأمحون عنكم سيئاتكم، " ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار، فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل "، أي: أخطأ قصد السبيل، يريد طريق [الحق]، وسواء كل شيء: وسطه.
13-" فبما نقضهم " أي: فبنقضهم، و " ما " صلة ، " ميثاقهم " ، قال قتادة: نقضوه من وجوه لأنهم كذبوا الرسل الذين جاؤوا بعد موسى وقتلوا أنبياء الله ونبذوا كتابه وضيعوا فرائضه، " لعناهم " ، قال [عطاء]: أبعدناهم من رحمتنا، قال الحسن و مقاتل : عذبناهم بالمسخ، " وجعلنا قلوبهم قاسية "، قرأ حمزة الكسائي قسية بتشديد الباء من غير ألف، وهما لغتان مثل الذاكية والذكية، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: قاسية أي يابسة،وقيل:غليظة لا تلين، وقيل معناه:إن قلوبهم ليست بخالصة للإيمان بل إيمانهم مشوب بالكفر والنفاق، ومنه الدراهم القاسية وهي الردية المغشوشة. " يحرفون الكلم عن مواضعه "، قيل : هو تبديلهم نعت النبي صلى الله عليه وسلم ، وقيل : تحريفهم بسوء التأويل، " ونسوا حظاً مما ذكروا به "، أي: وتركوا نصيب أنفسهم مما أمروا به من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبيان نعته، " ولا تزال " ، [يا محمد]، " تطلع على خائنة منهم " ، أي: على خيانة، فاعلة بمعنى المصدر كالكاذبة واللاغية، وقيل: هو بمعنى الفاعل والهاء للمبالغة مثل [رواية] ونسابة وعلامة وحسابة، وقيل: على فرقة خائنة ، قال ابن عباس رضي الله عنهما: على خائنة أي: على معصية، وكانت خيانتهم نقضهم العهد ومظاهرتهم المشركين على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهمهم بقتله وسمه، ونحوهما من خياناتهم التي ظهرت ، " إلا قليلاً منهم " ، لم يخونوا ولم ينقضوا العهد وهم الذين أسلموا من أهل الكتاب ، " فاعف عنهم واصفح "، أي: أعرض عنهم ولا تتعرض لهم ، " إن الله يحب المحسنين "، وهذا منسوخ بآية السيف.
14-قوله عز وجل :" ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم "، قيل: أراد بهم اليهود والنصارى فاكتفى بذكر أحدهما ، والصحيح أن الآية في النصارى خاصة لأنه قد تقدم ذكر اليهود ، وقال الحسن : فيه دليل على أنهم نصارى بتسميتهم لا بتسمية الله تعالى ، أخذنا ميثاقهم في التوحيد والنبوة، " فنسوا حظاً مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة "، بالأهواء المختلفة والجدال في الدين، قال مجاهد و قتادة : يعني بين اليهود والنصارى، وقال قوم: هم النصارى وحدهم صاروا فرقاً منهم اليعقوبية والنسطورية و الملكانية، و كل فرقة تكفر الأخرى، " وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون " في الآخرة.
15-قوله عز وجل : " يا أهل الكتاب "، يريد الكتابين، " قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب "، أي : من التوراة والإنجيل مثل صفقة محمد صلى الله عليه وسلم وآية الرجم وغير ذلك ، " ويعفو عن كثير "، أي: يعرض عن كثير مما أخفيتم فلا يتعرض له ولايؤاخذكم به ، " قد جاءكم من الله نور "، يعني : محمداً صلى الله عليه وسلم ، وقيل: الإسلام، " وكتاب مبين "، أي: بين ، وقيل: مبين وهو القرآن.
16-" يهدي به الله من اتبع رضوانه "، رضاه، " سبل السلام "، قيل السلام هو الله عز وجل ، وسبيله دينه الذي شرع لعباده، وبعث به رسله ، وقيل : السلام هو السلامة ، كاللذاذ واللذاذة بمعنى واحد، والمراد به طرق السلامة، " و يخرجهم من الظلمات إلى النور "، أي : من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، " بإذنه "،بتوفيقه وهدايته، " ويهديهم إلى صراط مستقيم "، / وهو الإسلام.
17-قوله عز وجل : " لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم "، و هم اليعقوبية من النصارى يقولون المسيح هو الله تعالى، " قل فمن يملك من الله شيئاً "، أي: من يقدر أن يدفع من أمر الله شيئاً إذا قضاه؟ " إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعاً ولله ملك السماوات والأرض و ما بينهما يخلق ما يشاء و الله على كل شيء قدير ".
18-قوله عز وجل : " و قالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه "، قيل:أرادوا أن الله تعالى لنا كالأب في الحنو والعطف، ونحن كالأبناء له في القرب والمنزلة ، وقال إبراهيم النخعي : إن اليهود وجدوا في التوراة يا أبناء أحباري، فبدلوا يا أبناء أبكاري، فمن ذلك قالوا :نحن أبناء الله ، وقيل: معناه نحن أبناء رسل الله. قوله تعالى: " قل فلم يعذبكم بذنوبكم " ، يريد إن كان الأمر كما زعمتم أنكم أبناؤه وأحباؤه فإن الأب لا يعذب ولده ، والحبيب لا يعذب حبيبه، وأنتم مقرون أنه معذبكم؟ وقيل : فلم يعذبكم أي : لم عذب من قبلكم بذنوبهم فمسخهم قردة وخنازير ؟ " بل أنتم بشر ممن خلق "، كسائر بني آدم مجزيون بالإساءة و الإحسان، " يغفر لمن يشاء " فضلاً، " ويعذب من يشاء "، عدلاً، " ولله ملك السموات والأرض وما بينهما وإليه المصير ".
19-قوله عز وجل :" يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا "، محمد صلى الله عليه وسلم ، " يبين لكم " أعلام الهدى وشرائع الدين ، " على فترة من الرسل " أي انقطاع من الرسل. واختلفوا في مدة الفترة بين عيسى عليه السلام و محمد صلى الله عليه وسلم ، قال أبو عثمان النهدي :ستمائة سنة، وقال قتادة : خمسمائة وستون سنة ، وقال معمر و الكلبي : خمسمائة واربعون سنة، وسميت فترة لأن الرسل كانت تترى بعد موسى عليه السلام من غير انقطاع إلى زمن عيسى عليه السلام ، ولم يكن بعد عيسى عليه السلام سوى رسولنا صلى الله عليه وسلم . " أن تقولوا "، كيلا تقولوا، " ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير و نذير و الله على كل شيء قدير " .
20-قوله عز وجل : " وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء " [أي: منكم أنبياء] " وجعلكم ملوكاً "، قال ابن عباس رضي الله عنهما: يعني أصحاب خدم وحشم، قال قتادة : كانوا أول من ملك الخدم ولم يكن لمن قبلهم خدم. وروي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " كان بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم وامرأة ودابة يكتب ملكاً ". وقال أبو عبد الرحمن الحبلي: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص ، وسأله رجل فقال : ألسنا من فقراء المهاجرين؟ فقال له عبد الله : ألك امرأة تأوي إليها؟ قال: نعم . قال ألك مسكن تسكنه؟ قال: بعم ، قال فأنت من الأغنياء، قال: فإن لي خادماً، قال: فأنت من الملوك. قال السدي : وجعلكم ملوكاً أحراراً تملكون أمر أنفسكم بعدما كنتم في أيدي القبط يستعبدونكم، قال الضحاك : كانت منازلهم واسعة فيها مياه جارية فمن كان مسكنه واسعاً وفيه ماء جار فهو ملك " وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين "، يعني عالمي زمانكم، قال مجاهد : يعني المن والسلوى والحجر وتظليل الغمام.
21-قوه تعالى:" يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم "، اختلفوا في الأرض المقدسة ، قال مجاهد :هي الطور وما حوله، وقال الضحاك : إيليا وبيت المقدس ، وقال عكرمة و السدي : هي أريحاء ، وقال الكلبي : هي دمشق و فلسطين وبعض الأردن ، وقال قتادة هي الشام كلها ، قال كعب : وجدت في كتاب الله المنزل أن الشام كنز الله في أرضه [وبها أكثر] عباده. قوله عز وجل " كتب الله لكم " يعني : كتب في اللوح المحفوظ أنها مساكن لكم، وقال ابن إسحاق : وهب الله لكم ، وقيل: جعلها لكم ، وقال السدي : أمركم الله بدخولها، [وقال قتادة]: أمروا بها كما أمروا بالصلاة ، أي : فرض عليكم . " ولا ترتدوا على أدباركم "،أعقابكم بخلاف أمر الله ، " فتنقلبوا خاسرين " ، قال الكلبي : صعد إبراهيم عليه السلام
22-" قالوا يا موسى إن فيها قوماً جبارين " ، وذلك أن النقباء الذين خرجوا يتجسسون الأخبار لما رجعوا إلى موسى وأخبروه بما عاينوا ، قال لهم موسى : اكتموا شأنهم ولا تخبروا به أحداً من أهل العسكر فيفشلوا، فأخبر كل رجل منهم قريبه وابن عمه إلا رجلين وفيا بما قال لهما موسى،أحدهما يوشع بن نون بن أفرائيم بن يوسف عليهم السلام فتى موسى ، والآخر كالب بن يوقنا ختن موسى عليه السلام على أخته مريم بنت عمران، وكان من سبط يهود وهما من النقباء فعلمت جماعة من بني إسرائيل ذلك ورفعوا أصواتهم بالبكاء وقالوا يا ليتنا في أرض مصر، وليتنا نموت في هذه [البرية] ولا يدخلنا الله أرضهم فتكون نساؤنا وأولادنا وأثقالنا غنيمةً لهم ، وجعل الرجل يقول لصاحبه : تعال نجعل علينا رأسا وننصرف إلى مصر ، فذلك قوله تعالى إخباراً عنهم " قالوا يا موسى إن فيها قوماً جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون "، أصل الجبار: المتعظم الممتنع عن القهر، يقال: نخلة جبارة إذا كانت طويلة ممتنعة عن وصول الأيدي إليها ، وسمي أولئك القوم جبارين لامتناعهم بطولهم وقوة أجسادهم ، وكانوا من العمالقة وبقية قوم عاد ، فلما قال بنو إسرائيل ما قالوا وهموا بالانصراف إلى مصر خر موسى وهارون ساجدين، وخرق يوشع وكالب ثيابهما وهما اللذان أخبر الله تعالى عنهما في قوله تعالى :
23-" قال رجلان من الذين يخافون "، أي: يخافون الله تعالى ، قرأ سعيد بن جبير يخافون بضم الياء ، وقال: الرجلان كانا من الجبارين فأسلما واتبعا موسى ، " أنعم الله عليهما " بالتوفيق والعصمة قالا : " ادخلوا عليهم الباب " يعني قرية الجبارين، " فإذا دخلتموه فإنكم غالبون "، لأن الله تعالى منجز وعده، وإنا رأيناهم وأجسامهم عظيمة وقلوبهم ضعيفة، فلا تخشوهم ، " وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين "، فأراد بنو إسرائيل أن يرجموهما بالحجارة وعصوهما.
24-" قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ", أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا أبو نعيم أنا إسرائيل عن مخارق عن طارق بن شهاب قال سمعت ابن مسعود يقول : لقد شهدت من المقداد بن الأسود مشهداً لأن أكون صاحبه أحب إلي مما عدل به ، أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدعو على الشركين ، فقال : لا نقول كما قال قوم موسى عليه السلام : اذهب أنت وربك فقاتلا، ولكنا نقاتل عن يمينك وعن شمالك وبين يديك ومن خلفك ، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم أشرق وجهه وسره ما قال . فلما فعلت بنو إسرائيل ما فعلت من مخالفتهم أمر ربهم وهمهم بيوشع وكالب غضب موسى عليه السلام ودعا عليهم:
25- " قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي " [قيل: معناه وأخي/ لا يملك إلا نفسه، وقيل: معناه لا يعطيني إلا نفسي وأخي] " فافرق "، فافصل، " بيننا "، قيل: فاقض بيننا، " وبين القوم الفاسقين "، العاصين.
26-" قال "، الله تعالى " فإنها محرمة عليهم "، قيل: هاهنا تم الكلام معناه تلك البلدة محرمة عليهم أبداً لم يرد به تحريم تعبد، وإنما أراد تحريم منع، فأوحى الله تعالى إلى موسى: [بي حلفت] لأحرمن عليهم دخول الأرض المقدسة غير عبدي يوشع و كالب، ولأتيهنهم في هذه البرية " أربعين سنة "، [يتيهون]مكان كل يوم من الأيام التي تحبسون فيها سنة ، ولألقين جيفهم في هذه القفار، وأما بنوهم الذين لم يعلموا الشر فيدخلونها، فذلك قوله تعالى: " فإنها محرمة عليهم أربعين سنة "، " يتيهون " ، يتحيرون، " في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين "، أي لا تحزن على مثل هؤلاء القوم ، فلبثوا أربعين سنة في ستة فراسخ وهم ستمائة ألف مقاتل ، وكانوا يسيرون كل يوم جادين فإذا أمسوا كانوا في الموضع الذي ارتحلوا عنه. وقيل: إن موسى و هارون عليهما السلام لم يكونا فيهم، والأصح أنهما كانا فيهم ولم يكن لهما عقوبة إنما كانت العقوبة لأولئك القوم، ومات في التيه كل من دخلها ممن جاوز عشرين سنة غير يوشع وكالب، ولم يدخل أريحاء أحد ممن قالوا إنا لن ندخلها أبداً فلما هلكوا وانقضت الأربعون سنة، ونشأت النواشئ من ذراريهم ساروا إلى حرب الجبارين. واختلفوا فيمن تولى تلك الحرب وعلىيدي من كان الفتح، فقال قوم: إنما فتح موسى أريحاء وكان يوشع على مقدمته، فسار موسى عليه السلام إليهم فيمن بقي من بني إسرائيل ، فدخلها يوشع فقاتل الجبابرة ثم دخلها موسى عليه السلام فأقام فيها ما شاء الله تعالى ، ثم قبضه الله تعالى إليه، ولا يعلم قبره أحد ، وهذا أصح الأقاويل لاتفاق العلماء أن عوج بن عنق قتله موسى عليه السلام . وقال الآخرون : إنما قاتل الجبارين يوشع ولم يسر إليهم بعد موت موسى عليه السلام ، [وقالوا : مات موسى] وهارون جميعاً في التيه. (قصة وفاة هارون ) قال السدي : أوحى الله عز وجل إلى موسى أني متوفي هارون فأت به جبل كذا وكذا، فانطلق موسى وهارون عليهما السلام نحو ذلك الجبل فإذا هما بشجرة لم ير مثلها وإذا ببيت مبني وفيه سرير عليه فرش و إذا فيه ريح طيبة، فلما نظر هارون إلى ذلك أعجبه، فقال : يا موسى إني أحب أن أنام على هذا السرير قال : فنم عليه، فقال : إني أخاف أن يأتي رب هذا البيت فيغضب علي، قال له موسى: لا ترهب إني أكفيك أمر رب هذا البيت فنم ، قال: موسى نم أنت معي فإن جاء رب البيت غضب علي و عليك جميعاً فلما ناما أخذ هارون الموت فلما وجد منيته قال : يا موسى خدعتني ، فلما قبض رفع البيت وذهب تلك الشجرة ورفع السرير به إلى السماء ، فلما رجع موسى إلى بني إسرائيل وليس معه هارون قالوا : إن موسى قتل هارون وحسده لحب بني إسرائيل له ، فقال موسى عليه السلام : ويحكم كان أخي فكيف أقتله، فلما أكثروا عليه قام فصلى ركعتين ثم دعا الله تعالى ونزل السرير حتى نظروا إليه بين السماء والأرض فصدقوه. و عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : صعد موسى وهارون عليهما السلام الجبل فمات هارون [وبقي موسى] ، فقالت بنو إسرائيل لموسى عليه السلام أنت قتلته فآذوه فأمر الله الملائكة فحملوه حتى مروا قالوا به على بني إسرائيل وتكلمت الملائكة بموته حتى عرف بنو إسرائيل أنه قد مات ، فبرأه الله تعالى مما قالوا، ثم إن الملائكة حملوه ودفنوه فلم يطلع على موضع قبره أحد إلا الرخم فجعله الله أصم وأبكم. قال عمرو بن ميمون : مات هارون قبل موت موسى عليه السلام في التيه، وكانا قد خرجا إلى بعض الكهوف فمات هارون ودفنه موسى وانصرف إلى بني إسرائيل ، فقالوا: قتله لحبنا إياه، وكان محبباً في بني إسرائيل ، فتضرع موسى عليه السلام إلى ربه عز وجل فأوحى الله إليه أن انطلق بهم إلى قبره فإني باعثه، فانطلق بهم إلى قبره [ فناداه موسى ] فخرج من قبره ينفض رأسه ، فقال : أنا قتلتك ؟ قال : لا ولكني مت ، قال : فعد إلى مضجعك، وانصرفوا. وأما وفاة موسى عليه السلام ، قال ابن إسحاق : كان موسى عليه الصلاة و السلام قد كره الموت وأعظمه فأراد الله أن يحبب أليه الموت ، فنبأ يوشع بن نون فكان يغدو ويروح عليه، قال : فيقول له موسى عليه السلام يا بني الله ما أحدث الله إليك؟ [ فيقول له يوشع: يا نبي الله ألم أصحبك كذا وكذا سنة ، فهل كنت أسألك شيئاً مما أحدث الله إليك ] حتى تكون أنت الذي تبتدئ به وتذكره؟ ولا يذكر له شيئاً ، فلما رأى ذلك كره موسى الحياة وأحب الموت. أخبرنا أبو علي حسان بن سعيد المنيعي أنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي أنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان أنا أحمد بن يوسف السلمي أنا عبد الرزاق أنا معمر عن همام بن منبه قال : أخبرنا أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" جاء ملك الموت إلى موسى بن عمران ، فقال له : أجب ربك ، قال : فلطم موسى عليه السلام عين ملك الموت ففقأها ، قال :فرجع ملك الموت إلى الله تعالى فقال : إنك أرسلتني إلى عبد لك لا يريد الموت وقد فقأ عيني قال فرد الله إليه عينه ، وقال : ارجع إلى عبدي فقل له: الحياة تريد ؟ فإن كنت تريد الحياة فضع يدك على متن ثور فما وارت يدك من شعرة فإنك تعيش بها سنة ، قال : ثم مه؟ قال: ثم تموت، قال: فالآن من قريب رب أدنني من الأرض المقدسة رمية بحجر ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والله لو أني عنده لأريتكم قبره إلى جنب الطريق عند الكثيب الأحمر " . وقال وهب : خرج موسى لبعض حاجته فمر برهط من الملائكة يحفرون قبراً لم ير شيئاً قط أحسن منه ولا مثل ما فيه من الخضرة والنضرة والبهجة، فقال لهم : يا ملائكة الله لم تحفرون هذا القبر؟ قالوا: لعبد كريم على ربه ، فقال : إن هذا العبد من الله لهو بمنزلة ما رأيت كاليوم مضجعاً قط، فقالت الملائكة : يا صفي الله تحب أن يكون لك ؟ قال : وددت، قالوا: فانزل واضطجع فيه وتوجه إلى ربك، قال فاضطجع فيه وتوجه إلى ربه ثم بنفس أسهل تنفس فقبض الله تبارك و تعالى روحه، ثم سوت عليه الملائكة. وقيل : إن ملك الموت أتاه بتفاحة من الجنة فشمها فقبض روحه. وكان عمر موسى مائة وعشرين سنة فلما مات موسى عليه السلام وانقبضت الأربعون سنة بعث الله يوشع نبياً فأخبرهم أن الله قد أمره بقتال الجبابرة، فصدقوه وتابعوا فتوجه ببني إسرائيل إلى أريحاء ومعه تابوت الميثاق، فأحاط بمدينة أريحاء ستة أشهر فلما كان السابع نفخوا في القران وضج الشعب ضجة واحدة فسقط سور المدينة ، ودخلوا فقاتلوا الجبارين وهزموهم وهجموا عليهم يقتلونهم، وكانت العصابة من بني إسرائيل يجتمعون على عنق الرجل يضربونها حتى يقطعوها ، فكان القتال يوم الجمعة فبقيت منهم بقية وكادت الشمس تغرب وتدخل ليلة السبت، فقال:اللهم اردد الشمس علي وقال للشمس : إنك في طاعة الله سبحانه وتعالى وأنا في طاعته فسأل الشمس أن تقف والقمران أن يقيم حتى ينتقم من أعداء الله تعالى قبل دخول السبت ، فردت عليه الشمس وزيدت في النهار ساعة حتى قتلهم أجمعين، وتتبع ملوك الشام فاستباح منهم أحداً وثلاثين ملكاً حتى غلب على جميع أرض الشام، وصارت الشام كلها لبني إسرائيل وفرق عماله في نواحيها/ وجمع الغنائم ، فلم تنزل النار، فأوحى الله إلى يوشع أن فيها غلولاً فمرهم فليبايعوا فبايعوه فالتصقت يد رجل منهم بيده فقال : هلم ما عندك فأتاه برأس ثور من ذهب مكلل بالياقوت والجواهر كان قد غله، فجعله في القربان وجعل الرجل معه فجاءت النار فأكلت الرجل والقربان ، ثم مات يوشع ودفن في جبل أفرائيم، وكان عمره مائة وستاً وعشرين سنة، وتدبيره أمر بني إسرائيل من بعد موسى عليه السلام سبعاً وعشرين سنة.
27-قوله تعالى" واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق "، وهما هابيل وقابيل، ويقال له قابين، " إذ قربا قرباناً "، وكان سبب قربانهما على ما ذكره أهل العلم أن حواء كانت تلد لآدم عليه السلام في كل بطن غلاماً وجاريةً، وكان جميع ما ولدته أربعين ولداً في عشرين بطناً أولهم قابيل وتوأمته أقليما، و آخرهم عبد المغيث، وتوأمته أمة المغيث، ثم بارك الله عز وجل في نسل آدم عليه السلام ، قال ابن عباس : لم يمت آدم حتى بلغ ولده وولد ولده أربعين ألفاً. واختلفوا في مولد قابيل وهابيل، فقال بعضهم: غشي آدم حواء بعد مهبطهما إلى الأرض بمائة سنة ، فولدت له قابيل وتوأمته أقليما في بطن واحد ، ثم ولدت هابيل وتوأمته لبودا في بطن. وقال محمد بن إسحاق عن بعض أهل العلم بالكتاب الأول : إن آدم كان يغشى حواء في الجنة قبل أن يصيب الخطيئة، فحملت فيها بقابيل وتوأمته أقليما، فلم تجد عليهما وحماً ولا وصباً ولا طلقاً حتى ولدتهما ، ولم تر معهما دماً فلما هبط إلى الأرض تغشاها فحملت بهابيل وتوأمته، فوجدت عليهما الحم والوصب والطلق والدم ، وكان آدم إذا شب أولاده يزوج غلام هذا البطن جارية بطن أخرى ، فكان الرجل منهم يتزوج أية أخواته شاء إلا توأمته التي ولدت معه لأنه لم يكن يومئذ نساء إلا أخواتهم، فلما ولد قابيل وتوأمته أقليما ثم هابيل وتوأمته لبودا، وكان بينهما سنتان في قول الكلبي وأدركوا ، أمر الله تعالى آدم عليه السلام أن ينكح قابيل لبودا أخت هابيل وينكح هابيل أقليما أخت قابيل، وكانت أخت قابيل أحسن من أخت هابيل ، فذكر ذلك آدم لولده فرضي هابيل وسخط قابيل ، وقال : هي أختي أنا أحق بها ، ونحن من [ ولادة ] الجنة وهما من [ ولادة ] الأرض ، فقال له أبوه:إنها لا تحل لك فأبى أن يقبل ذلك ، وقال : إن الله لم يأمره بهذا وإنما هو من رأيه، فقال لهما آدم عليه السلام: فقربا قرباناً فأيكما يقبل قربانه فهو أحق بها، وكانت القرابين إذا كانت مقبولة نزلت نار من السماء بيضاء فأكلتها، وإذا لم تكن مقبولة لم تنزل النار وأكلته الطير والسباع، فخرجا ليقربا [ قرباناً ] وكان قابيل صاحب زرع فقرب صبرة من الطعام من أرادأ زرعه وأضمر في نفسه ما أبالي أيقبل مني أم لا ،لا يتزوج أختي أبداً، وكان هابيل صاحب غنم فعمد إلى أحسن كبش في غنمه فقرب به وأضمر في نفسه رضا الله عز وجل فوضعا قربانهما أعلى الجبل ، ثم دعا آدم عليه السلام فنزلت نار من السماء وأكلت قربان هابيل ولم تأكل قربان قابيل، فذلك قوله عز وجل " فتقبل من أحدهما " ، [يعني هابيل] " ولم يتقبل من الآخر " ، يعني: قابيل فنزلوا عن الجبل وقد غضب قابيل لرد قربانه وكان يضمر الحسد إلى أن أتى آدم مكة لزيارة البيت ، فلما غاب آدم أتى قابيل هابيل وهو في غنمه ، " قال لأقتلنك " قال : لأن ولم ؟ قال: لأن الله تعالى قبل قربانك ورد قرباني،وتنكح أختي الحسناء وأنكح أختك الدميمة ، فيتحدث الناس أنك خير مني ويفتخر ولدك على ولدي، " قال "، هابيل : وما ذنبي؟" إنما يتقبل الله من المتقين ".
28-" لئن بسطت "، أي : مددت، " إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين "، قال عبد الله بن عمر : وايم الله إن كان المقتول لأشد الرجلين ولكن منعه الحرج أن يبسط إلى أخيه يده ، وهذا في شرع آدم جائز لمن أريد قتله أن ينقاد ويستسلم طلباً للأجر كما فعل عثمان رضي الله عنه ، قال مجاهد : كتب عليهم في ذلك الوقت إذا أراد رجل قتل رجل أن لا يمتنع ويصبر.
29-" إني أريد أن تبوء "، ترجع ، وقيل : تحتمل، " بإثمي وإثمك "، أي : بإثم قتلي إلى إثمك ، أي إثم مصاعبك التي علمت من قبل، هذا قول أكثر المفسرين. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: معناه إني أريد أن يكون عليك خطيئتي التي عملتها أنا إذا قتلتني وإثمك فتبوء بخطيئتي ودمي جميعاً، وقيل : معناه أن ترجع بإثم قتلي وإثم معصيتك التي لم يتقبل لأجلها قربانك ، أو إثم حسدك. فإن قيل: كيف قال إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك، وإرادة القتل والمعصية لا تجوز؟ قيل ليس ذلك بحقيقة إرادة ولكنه لما علم أنه يقتله لا محالة وطن نفسه على الاستسلام طلباً للثواب فكأنه صار مريداً لقتله مجازاً ، وإن لم يكن مريداً حقيقة ، وقيل : معناه إني أريد أن تبوء بعقاب قتلي فتكون إرادة صحيحة، لأنها موافقة لحكم الله عز وجل ، فلا يكون هذا إرادة للقتل، بل لموجب القتل من الإثم و العقاب، " فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين ".
30-قوله عز وجل :" فطوعت له نفسه "،أي: طاوعته وشايعته وعاونته، " قتل أخيه "، أي في قتل أخيه،[وقال مجاهد : فشجعته ، وقال قتادة : فزينت له نفسه، وقال يمان : سهلت له نفسه ذلك ، أي جعلته سهلاً] تقديره: صورت له نفسه أن قتل أخيه طوع له أي سهل عليه ، فقتله فلما قصد قابيل قتل هابيل لم يدر كيف يقتله، قال ابن جريج : فتمثل له إبليس وأخذ طيراً فوضع رأسه على حجر ثم شدخ رأسه بحجر آخر وقابيل ينظر إليه فعلمه القتل، فرضخ قابيل رأسه هابيل بين حجرين ،قتل وهو مستسلم ، وقيل : اغتياله وهو في النوم فشدخ رأسه فقتله، وذلك قوله تعالى:" فقتله فأصبح من الخاسرين " ، وكان لهابيل يوم قتل عشرون سنة . واختلفوا في موضع قتله [قيل : بالبصرة في موضع المسجد الأعظم فاسود جسم القاتل وسأله آدم عليه السلام عن أخيه فقال لم أكن عليه وكيلاً فقال: بل قالته ولذلك اسود جسدك ، مكث آدم مائة سنة لم يضحك قط منذ قتله]. قال ابن عباس رضي الله عنهما: على جبل [ثور] وقيل عند عقبة حراء ،فلما قتله تركه بالعراء ولم يدر ما يصنع به لأنه كان أول ميت على وجه الأرض من بني آدم ، وقصدته السباع ، فحمله في جراب على ظهره أربعين يوماً، وقال ابن عباس سنةً، حتى أروح ، وعكفت عليه الطير والسباع تنتظر متى يرمي به فتأكله ، فبعث الله غرابين فاقتتلا ،فقتل أحدهما صاحبه ثم حفر له بمنقاره وبرجله حتى مكن له ثم ألقاه في الحفرة وواراه، و قابيل ينظر إليه، فذلك قوله تعالى:/
31-" فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوآة أخيه "، فلما رأى قابيل ذلك قال يا ويلتا كلمة تحسر فقيل لما رأى الدفن من الغراب أنه أكبر علماً منه وأن ما فعله كان جهلاً فندم وتحسر " قال يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوآة أخي "، أي جيفته،وقيل: عورته لأنه كان قد سلب ثيابه ، " فأصبح من النادمين "، على حمله على عاتقه لا على قتله، وقيل:على فراق أخيه، وقيل: ندم لقلة النفع بقتله فإنه أسخط والديه، وما انتفع بقتله شيئاً ولم يكن ندمه على القتل وركوب الذئب. قال عبد المطلب بن عبد الله بن حنطب : لما قتل ابن آدم أخاه رجفت الأرض بما عليها سبعة أيام ثم شربت الأرض دمه كما يشرب الماء ، فناداه الله أين أخوك هابيل ؟ قال : ما أدري ما كنت عليه رقيباً ، فقال الله تعالى : إن دم أخيك ليناديني من الأرض ، فلم قتلت أخاك؟ قال : فأين دمه إن كنت قتلته؟ فحرم الله عز وجل على الأرض يومئذ أن تشرب دماً بعده أبداً. وقال مقاتل بن سليمان عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما : لما قتل قابيل هابيل وآدم عليه السلام بمكة اشتباك الشجر وتغيرت الأطعمة وحمضت الفواكه، وأمر الماء وأغبرت الأرض ، فقال آدم عليه السلام : قد حدث في الأرض حدث ، فأتى الهند فإذا قابيل قد قتل هابيل فأنشأ يقول وهو أول من قال الشعر: تغيرت البلاد ومن عليها فوجه الأرض مغبر قبيح تغير كل ذي لون وطعم وقل بشاشة الوجه الصبيح وروي : المليح . وروي عن ميمون بن مهران عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : من قال إن آدم عليه السلام قال شعراً فقد كذب، إن محمداً صلى الله عليه وسلم والأنبياء كلهم عليهم السلام في النهي عن الشعر سواء، ولكن لما قتل قابيل هابيل رثاه آدم وهو سرياني، فلما قال آدم مرثيته قال لشيث :يا بني إنك وصي احفظ هذا الكلام ليتوارث فيرق الناس عليه ، لم يزل ينقل حتى وصل إلى يعرب بن قحطان ، وكان يتكلم بالعربية والسريانية وهو أول من خط بالعربية ، وكان يقول الشعر فنظر في المرثية فرد المقدم إلى المؤخر والمؤخر إلى المقدم، فوزنه شعراً وزاد فيه أبيات منها: ومالي لا أجود بسكب دمع وهابيل تضمنه الضريح أرى طول الحياة علي غما فهل أنا من حياتي مستريح فلما مضى من عمر آدم عليه السلام مائة وثلاثون سنة، وذلك بعد قتل هابيل بخمس سنين ولدت له حواء شيثاً، وتفسيره : هبة الله ، يعني إنه خلف من هابيل علمه الله تعالى ساعات الليل والنهار، وعلمه عبادة الخلق في كل ساعة منها، وأنزل عليه خمسين صحيفة فصار وصي آدم وولي عهده ، وأما قابيل فقيل له اذهب طريداً شريداً فزعاً مرعوباً لا تأمن من تراه، فأخذ بيد أخته إقليما وهرب بها إلى عدن من أرض اليمن، فأتاه إبليس فقال له إنما أكلت النار قربان هابيل لأنه كان يعبد النار فانصب أنت نارا ًأيضاً تكون لك ولعقبك ، فبنى بيتاً للنار فهو أول من عبد النار ، وكان لا يمر به أحد إلا رماه، فأقبل ابن له أعمى ومعه ابن له، فقال ابنه: هذا أبوك قابيل، فرمى الأعمى أباه فقتله، فقال ابن الأعمى: قتلت أباك ؟ فرفع يده فلطم ابنه، فمات فقال الأعمى: ويل لي قتلت أبي برميتي وقتلت ابني بلطمتي. قال مجاهد : فعلقت إحدى رجلي قابيل إلى فخذها ساقها وعلقت من يومئذ إلى يوم القيامة ووجهه إلى الشمس ما دارت عليه ، في الصيف حظيرة من نار وفي الشتاء حظيرة من ثلج . قال : واتخذ أولاد آلات اللهو من اليراع والطبول والمزامير ولعيدان والطنابير، وانهمكوا في اللهو وشرب الخمر وعبادة النار والزنا والفواحش حتى عرقهم الله بالطوفان أيام نوح عليه السلام ، وبقي نسل شيث. أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل أنا عمر بن حفص بن غياث ثنا أبي ثنا الأعشى حدثني عبد الله بن مرة عن مسروق عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أول من سن القتل ".
32-قوله عز وجل : " من أجل ذلك " ،قرأ أبو جعفر من أجل بكسر النون موصولاً وقراءة العامة بجزم النون ، أي : من جراء ذلك القاتل وجنايته، يقال : أجل يأجل أجلاً ، إذا جنى ، مثل أخذ يأخذ أخذ،" كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس " ، قتلها فيقاد منه ، " أو فساد في الأرض " يريد بغير نفس وبغير فساد في الأرض من كفر أو زنا أو قطع طريق، أو نحو ذلك " فكأنما قتل الناس جميعاً "، اختلفوا في ابن عباس رضي الله عنهما في رواية عكرمة : من قتل نبياً أو إماماً عدلاً فكأنما قتل الناس جميعاً ، ومن شد على عصبة بني أو إمام عدل فكأنما أحيا الناس جميعاً. قال مجاهد : من قتل نفساً محرمة يصلى النار بقتلها ، كما يصلاها لو قتل الناس جميعاً ومن أحياها من سلم من قتلها فقد سلم من قتل الناس جميعاً. قال قتادة عظم الله أجرها وعظم وزرها، معناه من استحل قتل مسلم بغير حق فكأنما قتل الناس جميعاً في الإثم لأنهم لا يسلمون منه ، " ومن أحياها " ،وتورع عن قتلها، " فكأنما أحيا الناس جميعاً " [ في الثواب لسلامتهم منه.قال الحسن : فكأنما قتل الناس جميعاً ] يعني: أنه يجب عليه من القصاص بقتلها مثل الذي يجب عليه لو قتل الناس جميعاً، ومن أحياها: أي عفي عمن وجب عليه القصاص له فلم يقتله فكأنما أحيا الناس جميعاً ، قال سليمان بن علي قلت ل الحسن : يا أبا سعيد : هي لنا كما كانت لبني إسرائيل ؟ قال: إي والذي لا إله غيره ما كانت دماء بني إسرائيل أكرم على الله من دمائنا، " ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيراً منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون ".
33- " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادً " ، الآية.قال الضحاك : نزلت في قوم من أهل الكتاب كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد ، فنقضوا العهد وقطعوا السبيل وأفسدوا في الأرض . وقال الكلبي : نزلت في قوم هلال بن عويمر ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم وادع هلال بن عويمر وهو أبو بردة الأسلمي على أن لا يعينه ولا يعين عليه ، ومن مر بهلال بن عويمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو آمن لا يهاج، فمر قوم من بني كنانة يريدون الإسلام بناس من أسلم من قوم هلال بن عويمر ، ولم يكن هلال شاهداً [ فشدوا ] عليهم فقتلوهم وأخذوا أموالهم فنزل جبريل عليه السلام بالقضية فيهم، وقال سعيد بن جبير : نزلت في ناس من عرينة و عكل أتوا النبي صلى الله عليه وسلم وبايعوه على الإسلام وهم كذبة فبعثهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى إبل الصدقة، فارتدوا وقتلوا الراعي/ واستاقوا الإبل. [ أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ثنا علي بن عبد الله ثنا الوليد بن مسلم ثنا الأوزاعي حدثني أبو قلابة الجرمي ] عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قدم علي النبي صلى الله عليه وسلم نفر من عكل فأسلموا واجتووا المدينة فأمرهم [ النبي صلى الله عليه وسلم ] أن يأتوا إبل الصدقة فيشربوا من أبوالها وألبانها ، ففعلوا فصحوا فارتدوا وقتلوا رعاتها واستاقوا الإبل ، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في آثارهم، فأتى بهم فقطع أيديهم أرجلهم وسمل أعينهم ثم لم يحسمهم حتى ماتوا. ورواه أيوب عن قلابة عن أنس رضي الله عنه قال: فقطع أيديهم وأرجلهم ثم أمر بمسامير فكحلهم بها وطرحهم بالحرة يستسقون فما يسقون حتى ماتوا ، قال أبو قلابة : قتلوا وسرقوا وحاربوا الله ورسوله وسعوا في الأرض فساداً [ وهو المراد من قوله تعالى: " ويسعون في الأرض فساداً " ]. واختلفوا في حكم هؤلاء العرنيين، فقال بعضهم: هي منسوخة لأن المثلة لا تجوز، وقال بعضهم:حكمه ثابت إلا السمل [ والمثلة ] ، و روى قتادة عن ابن سيرين أن ذلك كان قبل أن [ ينزل الحد ] وقال أبو الزناد : فلما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك بهم أنزل الله الحدود ونهاه عن المثلة فلم يعد. وعن قتادة قال : بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بعد ذلك يحث على الصدقة وينهى عن المثلة. وقال سليمان التيمي عن أنس : إنما سمل النبي صلى الله عليه وسلم أعين أولئك لأنهم سلموا أعين الرعاة.و قال الليث بن سعد : نزلت هذه الآية معاتبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعليماً منه إياه عقوبتهم، وقال : إنما جزاؤهم هذا لا المثلة، ولذلك ما قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيباً إلا نهى عن المثلة. واختلفوا في المحاربين الذين يستحقون هذا الحد، فقال قوم: هم الذين يقطعون الطريق ويحملون السلاح ، والمكابرون في الأمصار، وهو قول الأوزاعي و مالك و الليث بن سعد و الشافعي رحمهم الله. وقال قوم: المكابرون في الأمصار ليس لهم حكم المحاربين في استحقاق هذه الحدود وهو قول أبي حنيفة رضي الله عنه . وعقوبة المحاربين ما ذكر الله سبحانه وتعالى: " أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض "، فذهب قوم إلى أن الإمام بالخيار في أمر المحاربين بين القتل والقطع والصلب ، [ والنفي ] كما هو ظاهر الآية، وهو قول سعيد بن المسيب و الحسن و النخعي و مجاهد . وذهب الأكثر إلى أن هذه العقوبات على ترتيب الجرائم لا على التخيير، [ لما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أنا أبو العباس الأصم أنا الربيع أنا الشافعي أنا إبراهيم بن محمد عن صالح مولى التوأمة ] عن ابن عباس رضي الله عنهما في قطاع الطريق إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا ، و إذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا ، و إذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف ، فإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا مالاً نفوا من الأرض. وهو قول قتادة و الأوزاعي و الشافعي وأصحاب الرأي رحمهم الله تعالى . [ وإذا قتل قاطع الطريق يقتل ] حتماً حتى لا يسقط بعفو ولي الدم ، وإذا أخذ من المال نصاباً وهو ربع دينار تقطع يده اليمنى ورجله اليسرى، وإذا قتل و أخذ المال يقتل ويصلب. واختلفوا في كيفيته : فظاهر مذهب الشافعي رضي الله عنه أن يقتل ثم يصلب وقيل: يصلب حياً ثم يطعن حتى يموت مصلوباً ، وهو قول الليث بن سعد ، و قيل : يصلب ثلاثة أيام حياً ثم ينزل فيقتل ، وإذا أخاف السبيل ينفى. واختلفوا في النفي : فذهب قوم إلى أن الإمام يطلبه ففي كل بلدة يوجد ينفى عنه ، وهو قول سعيد بن جبير وعمر بن عبد العزيز ، وقيل: يطلب لتقام الحدود عليه ، وهو قول ابن عباس و الليث بن سعد ، وبه قال الشافعي ، وقال أهل الكوفة: النفي هو الحبس، وهو نفي من الأرض، وقال محمد بن جرير : ينفي من بلده إلى غيره ويحبس في السجن [ في البلد الذي نفي إليه حتى تظهر توبته . كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه أول من حبس في السجون ] ، وقال : أحبسه حتى أعلم منه التوبة، ولا أنفيه إلى بلد فيؤذيهم، " ذلك "، الذي ذكرت من الحد ، " لهم خزي " عذاب وهوان وفضيحة، " في الدنيا و لهم في الآخرة عذاب عظيم ".
34-" إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم " ، فمن ذهب إلى أن الآية نزلت في الكفار، قال معناه: إلا الذين تابوا من شركهم وأسلموا قبل القدرة عليهم فلا سبيل عليهم بشيء من الحدود ولا تبعة عليهم فيما أصابوا في حال الكفر من دم أو مال ، وأما المسلمون المحاربون فمن [ تاب ] منهم قبل القدرة عليهم وهو قبل أن يظفر به الإمام تسقط عنه كل عقوبة وجبت حقاً لله ، ولا يسقط عنه بالتوبة قبل القدرة عليه تحتم القتل ، ويبقى عليه القصاص لولي القتيل فإن شاء عفا عنه وإن شاء استوفاه، و إن كان قد أخذ المال يسقط عنه [ القطع ] ، وإن كان قد جمع بينهما يسقط عنه تحتم القتل والصلب ، ويجب ضمان المال وهو قول الشافعي رضي الله عنه . وقال بعضهم : إذا جاء تائباً قبل القدرة عليه لا يكون لأحد عليه تبعة في دم ولا مال إلا أن يوجد معه مال بعينه إلى صاحبه. وروي عن علي رضي الله عنه في حارثة بن يزيد كان خرج محارباً فسفك الدماء وأخذ المال ، ثم جاء تائباً قبل أن يقدر عليه فلم يجعل علي رضي الله عنه عليه تبعة [ في دم ولا مال ، إلا أن يوجد معه مال فيرد صاحبه ]، أما من تاب بعد القدرة عليه فلا يسقط عنه شيء منها. وقيل : كل عقوبة تجب حقاً لله عز وجل من عقوبات قطع الطريق وقطع السرقة وحد الزنا و الشرب تسقط بالتوبة بكل حال ، و الأكثرون على أنها لا تسقط.
35- " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا "، اطلبوا ، " إليه الوسيلة "، أي : القربة ، فعيلة من توسل إلى فلان بكذا ، أي : تقرب إليه وجمعها وسائل، " وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون " [ تلخيصه: امتثلوا أمر الله تنجوا ].
36-" إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعاً ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم " ، أخبر أن الكافر لو ملك الدنيا كلها ومثلها معها ثم فدى بذلك نفسه من العذاب لم يقبل منه ذلك الفداء، " ولهم عذاب أليم ".
37-" يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها "، فيه وجهان، أحدهما: أنهم يقصدون ويطلبون المخرج منها ، كما قال الله تعالى :" كلما أرادوا أن يخرجوا منها " ( الحج ـ 22) والثاني : أنهم يتمنون ذلك بقلوبهم ، كما قال تعالى إخبارا عنهم : " ربنا أخرجنا منها " ( المؤمنون-107 ) " ولهم عذاب مقيم ".
38-" والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما "،أراد به أيمانهما ، وكذلك هو في مصحف عبد بن مسعود رضي الله عنه . وحكمه أن من سرق [ نصاباً ]من المال من حرز لا شبهة له فيه تقطع يده اليمنى من الرسغ، ولا يجب القطع في سرقة ما دون النصاب عند عامة أهل العلم، حكي عن ابن الزبير أنه كان يقطع في الشيء القليل ، وعامة العلماء على خلافه. واختلفوا في القدر الذي يقطع به: فذهب أكثرهم إلى أنه لا يقطع في أقل من ربع دينار ، فإن سرق ربع دينار أو متاعاً قمته ربع دينار يقطع، وهو قول أبي بكر و عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم ، وبه قال عمر بن عبد العزيز و الأوزاعي و الشافعي رحمهم الله ، لما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الكسائي أنا عبد العزيز أحمد الخلال أنا أبو العباس الأصم أنا الربيع أنا الشافعي أنا ابن عيينة عن ابن شهاب عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " القطع في ربع دينار فصاعداً " . أخبرنا أبو الحسن الشيرزي أخبرنا زاهر بن أحمد أنا أبو إسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن نافع عن عبد الله رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع سارقاً في مجن [ ثمنه ] ثلاثة دراهم. وروي عن عثمان أنه قطع سارقاً في أترجة قومت بثلاثة دراهم من صرف اثني عشر درهماً بدينار. وهذا قول مالك رحمه الله تعالى أنه يقطع في ثلاثة دراهم. وذهب قوم إلى أنه لا تقطع في أقل من دينار أو عشرة دراهم، يروى ذلك عن ابن مسعود رضي الله عنه ، وإليه ذهب سفيان الثوري وأصحاب الرأي. وقال قوم لا يقطع إلا في خمسة دراهم يروى ذلك عن أبي هريرة رضي الله عنه وبه قال ابن أبي ليلى ، أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا عمر بن حفص بن غياث أخبرني أبي أنا الأعمش قال: سمعت أبا صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ، ويسرق الحبل فتقطع يده "، وقال الأعمش : كانوا يرون أنه بيض الحديد و الحبل . يرون أن منها ما يساوي دراهم. ويحتج بهذا الحديث من يرى القطع في الشيء القليل ، وهو عند الأكثرين محمول على ما قاله الأعشى ]، / لحديث عائشة رضي الله عنها " وإذا سرق شيئاً من غير حرز كثمر في حائط لا حارس له أو حيوان في برية لا حافظ له ، أو متاع في بيت منقطع عن البيوت لا قطع عليه ". وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا قطع في ثمر معلق ولا في حريسة جبل فإذا آواه المراح أو الجرين فالقطع فيما بلغ ثمن المجن ". وروي عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ليس على خائن ولا منتهب ولا مختلس قطع ". و إذا سرق مالاً له فيه شبهة كالعبد يسرق من مال سيده أو الولد يسرق من مال والده أو الوالد يسرق من مال ولده أو أحد الشريكين يسرق من المال المشترك شيئاً : لا قطع عليه. إذا سرق السارق أول مرة تقطع يده اليمنى من الكوع ، ثم إذا سرق ثانياً تقطع رجله اليسرى من مفصل القدم. واختلفوا فيما إذا سرق ثالثاً : أكثرهم إلى أنه تقطع يده اليسرى، ثم إذا سرق رابعاً تقطع رجله اليمنى ، ثم إذا سرق بعده يعزر ويحبس حتى تظهر توبته ، وهو المروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وهو قول قتادة ، وبه قال مالك و الشافعي لما روي عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " في السارق يسرق إن سرق فاقطعوا رجله، ثم إن سرق فاقطعوا يده ، ثم إن سرق فاقطعوا رجله ". وذهب قوم إلى أنه إن سرق ثالثاً بعدما قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى لا يقطع ، بل يحبس، وروي ذلك عن علي رضي الله عنه ، وقال : " إني لأستحي أن لا أدع له يداً يستنجي بها ولا رجلاً يمشي بها " وهو قول الشعبي و النخعي ، وبه قال الأوزاعي و أحمد وأصحاب الرأي. قوله تعالى: " جزاءً بما كسبا " ، نصب على الحال والقطع ، ومثله: " نكالاً " ، أي عقوبة، " من الله والله عزيز حكيم ".
39- " فمن تاب من بعد ظلمه "،أي سرقته، " وأصلح " العمل، " فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم "،هذا فيما بينه وبين الله تعالى ، فأما القطع فلا يسقط عنه بالتوبة عند الأكثرين ، قال مجاهد : قطع السارق توبته ، فإذا قطع حصلت التوبة. والصحيح أن القطع للجزاء على الجناية، كما قال:" جزاءً بما كسبا "، فلا بد من التوبة بعد ، وتوبته الندم على ما مضى والعزم على تركه في المستقبل، وإذا قطع السارق يجب عليه غرم ما سرق من المال عند أكثر أهل العلم، وقال سفيان الثوري وأصحاب الرأي: لا غرم عليه و بالاتفاق إن كان المسروق باقياً عنده يسترد وتقطع يده لأن القطع حق الله تعالى والغرم حق العبد ، فلا يمنع أحدهما الآخر ، كاسترداد العين.
40-قوله تعالى " ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض "، الخطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم و المراد به الجميع، وقيل : معناه ألم تعلم أيها الإنسان فيكون خطاباً لكل أحد من الناس ، " يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء "،قال السدي و الكلبي : يعذب من يشاء : من مات على كفره، ويغفر لمن يشاء : [ الكبيرة ]، من تاب من كفره، وقال ابن عباس رضي الله عنهما :يعذب من يشاء على الصغيرة، ويغفر لمن يشاء الكبيرة، " والله على كل شيء قدير ".
41- قوله تعالى : " يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر "، أي : في مولاة الكفار فإنهم لن يعجزوا الله ، " من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم "، وهم المنافقون، " ومن الذين هادوا "، يعني : اليهود ،" سماعون " ، أي : قوم سماعون، " للكذب "، كقوله المصلي: سمع الله لمن حمده، أي : قبل الله، وقيل : سماعون لأجل الكذب ، أي يسمعون من الرسول صلى الله عليه وسلم ثم يخرجون ويقولون سمعنا منه كذا ولم يسمعوا ذلك منه، " سماعون لقوم آخرين لم يأتوك " ، أي هم جواسيس ، يعني: بني قريظة لقوم آخرين، وهم أهل خيبر. وذلك "أن رجلاً وامرأةً من أشراف أهل خيبر زنيا وكانا محصنين، وكان حدهما الرجم في التوراة، فكرهت اليهود رجمهما لشرفهما، فقالوا :إن هذا الرجل بيثرب ليس في كتابه الرجم ولكنه الضرب ، فأرسلوا إلى إخوانكم من بني قريظة فإنهم جيرانه وصلح له فليسألوه عن ذلك . فبعثوا رهطاً منهم مستخفين وقالوا لهم : سلوا محمداً عن الزانين إذا أحصنا ما حدهما ؟ فصل : ، فأرسلوا إلى إخوانكم من بني قريظة فإنهم جيرانه وصلح له فليسألوه عن ذلك . فبعثوا رهطاً منهم مستخفين وقالوا لهم : سلوا محمداً عن الزانين إذا أحصنا ما حدهما ؟ فإن أمركم بالجلد فاقبلوا منه ، وإن أمركم بالرجم فاحذروه ولا تقبلوا منه ، وأرسلوا معهم الزانين فقدم الرهط حتى نزلوا على بني قريظة و النضير فقالوا لهم: إنكم جيران هذا الرجل ومعه في بلده وقد حدث، فينا حدث فلان وفلانة قد فجرا أحصنا، فنحب أن تسألوا لنا محمداً عن قضائه فيه، فقالت لهم قريظة والنضير : إذاً والله يأمركم بما تكرهون. ثم انطلق قوم ، منهم كعب بن الأشرف وكعب بن أسد وسعية بن عمرو ومالك بن الصيف وكنانة بن أبي الحقيق وغيرهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا محمد أخبرنا عن الزاني والزانية إذا أحصنا ما حدهما في كتابك؟ فقال صلى الله عليه وسلم : هل ترضون بقضائي ؟ قالوا : نعم ، فنزل جبريل عليه السلام بالرجم فأخبرهم بذلك فأبوا أن يأخذوا به . فقال له جبريل عليه السلام : اجعل بينك وبينهم ابن صوريا ، ووصفه له . فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل تعرفون شاباً أمرد أعور يسكن فدك يقال له ابن صوريا ؟ قالوا : نعم ، قال : فأي رجل هو فيكم ؟ فقالوا : هو أعلم يهودي بقي على وجه الأرض بما أنزل الله سبحانه وتعالى على موسى عليه السلام في التوراة . قال : فأرسلوا اليه ، ففعلوا فأتاهم ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : أنت ابن صوريا ؟ قال : نعم ، قال : وأنت أعلم اليهود ؟ قال : كذلك يزعمون ، قال : أتجعلونه بيني وبينكم ؟ قالوا : نعم . فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : أنشدك بالله الذي لا إله إلا هو ، الذي نزل التوراة على موسى عليه السلام و أخرجكم من مصر ، وفلق لكم البحر وأنجاكم وأغرق آل فرعون ، و الذي ظلل عليكم الغمام وأنزل عليكم المن و السلوى ، وأنزل عليكم كتابه وفيه حلاله و حرامه هل تجدون في كتابكم الرجم على من أحصن ؟ . قال ابن صوريا : نعم والذي ذكرتني به لولا خشية أن تحرقني التوراة إن كذبت أو غيرت ما اعترفت لك ، ولكن كيف هي في كتابك يا محمد ؟ قال : إذا شهد أربعة رهط عدول أنه قد أدخله فيها كما يدخل الميل في المكحلة وجب عليه الرجم ، فقال ابن صوريا : والذي أنزل التوراة على موسى هكذا أنزل الله عز وجل في التوراة على موسى عليه السلام ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : فما كان أول ما ترخصتم به أمر الله ؟ ، قال : كنا إذا أخذنا الشريف تركناه وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد ، فكثر الزنا في أشرافنا حتى زنا ابن عم ملك لنا فلم نرجمه ، ثم زنى رجل آخر من الناس فأراد ذلك الملك رجمه فقام دونه قومه ، فقالوا : والله لا ترجمه حتى يرجم فلان - لابن عم الملك - فقلنا : تعالوا نجتمع فلنضع شيئاً دون الرجم يكون على الوضيع و الشريف ، فوضعنا الجلد و التحميم ، وهو أن يجلد أربعين جلدة بحبل مطلي بالقار ثم يسود وجوههما ، ثم يحملان على حمارين و وجوههما من قبل دبر الحمار ويطاف بهما ، فجعلوا هذا مكان الرجم ، فقالت اليهود [ لابن صوريا ] : ما أسرع ما أخبرته به ، وما كنت لما أثنينا عليك بأهل ولكنك كنت غائباً فكرهنا أن نغتابك ، فقال لهم : إنه قد أنشدني بالتوراة ولولا خشية التوراة أن تهلكني لما أخبرته ، فأمر بهما النبي صلى الله عليه وسلم فرجما عند باب مسجده ، وقال : اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه ، فأنزل الله عز وجل " يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر " ". أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد أبو إسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم قال : إن اليهود جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له أن رجلاً منهم وامرأة زنيا ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما تجدون في التوراة في شأن الرجم ؟ " فقالوا : نفضحهم ويجلدون ، قال عبد الله بن سلام : [ كذبتم ] إن فيها لآية الرجم ، فأتوا بالتوراة فنشروها فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها ، فقال له عبد الله : ارفع يدك ، فرفع يده فإذا فيها آية الرجم ، قالوا : صدق يا محمد فيها آية الرجم ، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما ، فقال عبد الله بن عمر : فرأيت الرجل يحني على المرأة يقيها الحجارة . وقيل : سبب نزول هذه الآية القصاص ، وذلك "أن بني النضير كان لهم فضل على بني قريظة فقال بنو قريظة : يا محمد إخواننا بنو النضير وأبونا واحد وديننا واحد ونبينا واحد ، إذا قتلوا منا قتيلاً واحداً لم يقيدونا وأعطونا ديته سبعين وسقاً من تمر ، وإذا قتلنا منهم قتلوا القاتل وأخذوا منا الضعف مائة وأربعين وسقاً من تمر ، وإن كان القتيل امرأة قتلوا بها الرجل منا وبالرجل منهم الرجلين منا ، وبالعبد الحر منا ، وجراحتنا على التضعيف من جراحاتهم ، فاقض بيننا وبينهم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية" . والأول أصح لأن الآية في الرجم . قوله :" ومن الذين هادوا سماعون للكذب " ، قيل : اللام بمعنى إلى ، وقيل : هي لام كي أي : يسمعون لكي يكذبوا عليك ، واللام في قوله : " لقوم " أي : لأجل قوم " آخرين لم يأتوك " وهم أهل خيبر ، " يحرفون الكلم " ، [جمع الكلمة] ، " من بعد مواضعه " ، أي : من بعد وضعه مواضعه ، ذكر الكناية رداً على لفظ الكلم ،" يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه " ، أي : [إن] أفتاكم محمد صلى الله عليه وسلم بالجلد و التحميم فاقبلوا ، " وإن لم تؤتوه فاحذروا ومن يرد الله فتنته " ، كفره وضلالته ، قال الضحاك : هلاكه ، وقال قتاده : عذابه ، " فلن تملك له من الله شيئاً " ، فلن تقدر على دفع أمر الله فيه ، " أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم " ، وفيه رد على من ينكر القدر ، " لهم في الدنيا خزي " أي : للمنافقين و اليهود ، فخزي المنافقين الفضيحة وهتك الستر بإظهار نفاقهم ، وخزي اليهود الجزية و القتل و السبي و النفي ، ورؤيتهم من محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيهم ما يكرهون ، " ولهم في الآخرة عذاب عظيم " ، الخلود في النار .
42-قوله تعالى " سماعون للكذب أكالون للسحت "، قرأ ابن كثير و أبو جعفر وأهل البصرة و الكسائي " للسحت " بضم الحاء ، والآخرون بسكونها ، وهو الحرام، وأصله الهلاك والشدة ، قال الله تعالى : " فيسحتكم بعذاب " ( طه، 61 )، نزلت في حكام اليهود كعب بن الأشرف وأمثاله ، كانوا يرتشون لمن رشاهم. قال الحسن : كان الحاكم منهم إذا أتاه أحد برشوة جعلها في كمه فيريها إياه ويتكلم بحاجته فيسمع منه ولا ينظر إلى خصمه، فيسمع الكذب ويأكل الرشوة. وعنه أيضاً قال : إنما ذلك في الحكم إذا رشوته ليحق لك باطلاً أو يبطل [ عنك ] حقاً . فأما أن يعطي الرجل الوالي يخاف ظلمه ليدرأ به عن نفسه فلا بأس ، فالسحت هو الرشوة في الحكم على قول الحسن و مقاتل وقتادة و الضحاك ، وقال ابن مسعود : هو الرشوة في كل شيء ، وقال ابن مسعود : من شفع شفاعة ليرد بها حقاً أو يدفع بها [ ظلماً ] فأهدي له فقبل فهو سحت ، فقيل له : يا أبا عبد الرحمن ما كنا نرى ذلك إلا الأخذ على الحكم ، فقال : الأخذ على الحكم كفر ، قال الله تعالى : " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " ( سورة المائدة ،44). أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا عبد الرحمن بن أبي شريح أنا أبو القاسم البغوي ثنا علي بن الجعد أنا ابن أبي ذئب عن الحارث بن عبد الرحمن عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لعن الله الراشي و المرتشي ". و السحت كل كسب لا يحل . قوله عز وجل : " فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا " ، خير الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم في الحكم بينهم إن شاء حكم وإن شاء ترك . واختلفوا في حكم الآية اليوم هل للحاكم الخيار في الحكم بين أهل الذمة إذا تحاكموا إلينا ؟ فقال أكثر أهل العلم : هو حكم ثابت ، وليس في سورة المائدة منسوخ ، وحكام المسلمين بالخيار في الحكم بين أهل الكتاب إن شاؤوا حكموا وإن شاؤوا لم يحكموا ، وإن حكموا حكموا بحكم الإسلام ، وهو قول النخعي و الشعبي و عطاء و قتادة . وقال قوم : يجب على حاكم المسلمين أن يحكم بينهم ، والآية منسوخة نسخها قوله تعالى : " وأن احكم بينهم بما أنزل الله " (سورة المائدة، 49) ، وهو قول مجاهد و عكرمة ، وروي ذلك عن ابن عباس ، وقال : لم ينسخ من المائدة إلا آيتان ، قوله تعالى : " لا تحلوا شعائر الله " نسخها قوله تعالى " اقتلوا المشركين " وقوله : " فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم " نسخها قوله تعالى : " وأن احكم بينهم بما أنزل الله " فأما إذا تحاكم إلينا مسلم وذمي فيجب علينا الحكم بينهما لا يختلف القول فيه ، لأنه لا يجوز للمسلم الانقياد لحكم أهل الذمة . قوله " وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط " ، أي : بالعدل ، " إن الله يحب المقسطين " أي العادلين ، روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " المقسطون عند الله على منابر من نور " .
43-قوله تعالى:" وكيف يحكمونك وعندهم التوراة "، هذا تعجيب للنبي صلى الله عليه وسلم ، وفي اختصار، أي : كيف يجعلونك حكماً بينهم فيرضون بحكمك وعندهم التوراة؟ " فيها حكم الله "، وهو الرجم، " ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين "، أي بمصدقين لك .
44-قوله عز وجل : " إنا أنزلنا التوراة فيها هدىً ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا "، أي : أسلموا وانقادوا [ لأمر ] الله تعالى ، كما أخبر عن إبراهيم عليه السلام : " إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين " ( سورة البقرة، 131 )، وكما قال : " وله أسلم من في السموات والأرض " سورة آل عمران،83، وأراد بهم النبيين الذين بعثوا من بعد موسى عليه السلام ليحكموا بما في التوراة ، وقد أسلموا لحكم التوراة وحكموا بها ، فإن من النبيين من لم يؤمر بحكم التوراة منهم عيسى عليه السلام ، قال الله سبحانه وتعالى، " لكل جعلنا منكم شرعةً ومنهاجاً " ( سورة المائدة ، 48 ). قال الحسن و السدي : أراد به محمداً صلى الله عليه وسلم حكم على اليهود بالرجم، ذكر بلفظ الجمع كما قال :" إن إبراهيم كان أمةً قانتاً " ( سورة النحل،120 ). وقوله تعالى: " للذين هادوا "، فيه تقديم وتأخير، تقديره: فيها هدى ونور للذين هادو. ثم قال : يحكم بها النبيون الذين أسلموا والربانيون، وقيل: هو على موضعه، ومعناه: يحكم بها النبيون الذين أسلموا على الذين هادوا، كما قال " و إن أسأتم فلها "( سورة الإسراء ) أي : فعليها، وقال: " أولئك لهم اللعنة "( سورة الرعد،25 ) أي: عليهم ، وقيل : فيه حذف ، كأنه قال : للذين هادوا وعلى الذين هادوا فحذف أحدهما اختصارً. " الربانيون و الأحبار "، يعني العلماء، واحدهم حبر، بفتح الحاء وكسرها، الكسر أفصح، وهو العالم المحكم للشيء، قال الكسائي و أبو عبيد : هو في الحديث " يخرج من النار رجل قد ذهب حبره وسبره " ، أي حسنه وهيئته ، ومنه التحبير وهو التحسين، فسمى العالم حبراً لما عليه من جمال العلم وبهائه، وقيل: الربانيون هاهنا من النصارى ، والأحبار من اليهود، وقيل كلاهما من اليهود. قوله عز وجل : " بما استحفظوا من كتاب الله "أي ، استودعوا من كتاب الله ، " وكانوا عليه شهداء "، أنه كذلك. " فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون "، قال قتادة و الضحاك : نزلت هذه الآيات الثلاث في اليهود دون من أساء من هذه الأمة. روي عن البراء بن عازب رضي الله عنه في قوله: " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " والظالمون والفاسقون كلها في الكافرين، وقيل: هي على الناس كلهم.وقال ابن عباس و طاووس : ليس بكفر ينقل عن الملة، بل إذا فعله به [ كافر ] وليس كمن كفر بالله واليوم الآخر. قال عطاء : هو كفر دون كفر ، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق، وقال عكرمة مناه: ومن لم يحكم بما أنزل الله جاحداً به فقد كفر، ومن أقر به ولم يحكم به فهو ظالم فاسق. وسئل عبد العزيز بن يحيى الكناني عن هذه الآيات، فقال : إنها تقع على جميع ما أنزل الله لا على بعضه، فكل من لم يحكم بجميع ما أنزل الله فهو كافر ظالم فاسق، فأما من حكم بما أنزل الله من التوحيد وترك الشرك، ثم لم يحكم [ بجميع ] ما أنزل الله من الشرائع لم يستوجب حكم هذه الآيات . وقال العلماء: هذا إذا رد نص حكم الله عياناً عمدً ، فأما من خفي عليه أو أخطأ في تأويل فلا.
45-قوله تعالى" وكتبنا عليهم فيها "،أي :أوجبنا على بني إسرائيل في التوراة، " أن النفس بالنفس "، يعني: نفس القاتل بنفس المقتول وفاءً به، " والعين بالعين " ، تفقأ بها ، " والأنف بالأنف "،يجدع به ، " والأذن بالأذن " ، تقطع بها ، قال ابن عباس : أخبر الله تعالى بحكمه في التوراة وهو: أن النفس بالنفس إلى آخرها، فما بالهم يخافون فيقتلون بالنفس النفيس ، ويفقؤون بالعين العينين، وخفف نافع الأذن في جميع القرآن الآخرون، " والسن بالسن " ، تقلع بها وسائر الجوارح قياس عليها في القصاص، " والجروح قصاص "، فهذا تعميم بعد تخصيص، لأنه ذكر العين والأنف والأذن والسن ،ثم قال: " والجروح قصاص " أي فيما يمكن الاقتصاص منه كاليد والرجل واللسان ونحوها ، وأما ما لا يمكن الاقتصاص منه من كسر عظم أو جرح لكم كالجائفة ونحوها فلا قصاص فيه، لأنه لا يمكن الوقوف على نهايته، وقرأ الكسائي " والعين " وما بعدها بالرفع، وقرأ ابن كثير و ابن عامر و أبو جعفر و أبو عمرو " والجروح " بالرفع فقط وقرأ الآخرون كلها بالنصب كالنفس . قوله تعالى : " فمن تصدق به " ، أي بالقصاص " فهو كفارة له " ، قيل : الهاء في" له " كناية عن المجروح وولي القتيل، أي: كفارة للمتصدق وهو قول عبد الله بن عمرو بن العاص و الحسن و الشعبي و قتادة . أخبرنا أبو سعيد أحمد بن إبراهيم الشريحي أنا أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي أنا أبو عبد الله الحسين بن محمد الدينوري أنا عمر بن الخطاب أنا عبد الله بن الفضل أخرنا أبو خيثمة أنا جرير عن مغيرة عن الشعبي عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من تصدق من جسده بشيء كفر الله عنه بقدره من ذنوبه " وقال جماعة : هي كناية عن الجارح والقاتل، يعني : إذا عفا الجني عليه عن الجاني فعفوه كفارة لذنب الجاني لا يؤاخذه به في الآخرة ،كما أن القصاص كفارة له ، فأما أجر العافي فعلى الله عز وجل ، قال الله تعالى : " فمن عفا وأصلح فأجره على الله " ( الشورى- 40 ) ، روى ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وهو قول إبراهيم و مجاهد و زيد بن أسلم ، " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ".
46-قوله تعالى " وقفينا على آثارهم " ، أي:على آثار النبيين الذي أسلموا ، " بعيسى ابن مريم مصدقاً لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه " ، أي : في الإنجيل، " هدىً ونور ومصدقاً " ، يعني الإنجيل ، " لما بين يديه من التوراة و هدىً وموعظةً للمتقين ".
47-" و ليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه "، قرأ الأعمش و حمزة " وليحكم " بكسر اللام وفتح الميم ، أي : لكي يحكم ، وقرأ الآخرون بسكون اللام وجزم الميم على الأمر ، قال مقاتل بن حيان : أمر الله الربانيين والأحبار أن يحكموا بما في التوراة ، وأمر القسيسين والرهبان أن يحكموا بما في الإنجيل ، فكفروا وقالوا عزير ابن الله والمسيح ابن الله ،" ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون " ، الخارجون عن أمر الله تعالى :
48-قوله سبحانه وتعالى :" وأنزلنا إليك "، يا محمد " الكتاب " ، القرآن،" بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب " ، أي من الكتب المنزلة من قبل ، " ومهيمناً عليه "، روى الوالبي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أي شاهداً عليه ، وهو قول مجاهد و قتادة و السدي و الكسائي . قال حسان: أن الكتاب مهيمن لنبينا و الحق يعرفه ذوو الألباب يريد: شاهداً ومصدقاً. وقال عكرمة : دالاً ، وقال سعيد بن جبير و أبو عبيدة : مؤتمناً عليه، وقال الحسن : أميناً ، وقيل: أصله مؤيمن ، مفيعل من أمين ، كما قالوا : مبيطر من البيطار ، فقبلت الهمزة هاءً ، كما قالوا : أرقت الماء وهرقته، و إيهات وهيهات ونحوها. ومعنى أمانة القرآن ما قال ابن جريج : القرآن أمين على ما قبله من الكتب ، فما أخبر أهل الكتاب عن [ كتابهم ] فإن كان في القرآن فصدقوا وإلا فكذبوا . وقال سعيد بن المسيب و الضحاك قاضياً ، وقال الخليل ، رقيباً وحافظاً ، والمعاني متقاربة، ومعنى الكل: أن كتاب يشهد بصدقه القرآن فهو كتاب الله تعالى ، وما لا فلا. " فاحكم "، يا محمد ، " بينهم " بين أهل الكتاب إذا ترافعوا إليك ، " بما أنزل الله " بالقرآن ، " ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق " ، أي لا تعرض عما جاءك من الحق ولا تتبع أهواءهم ، " لكل جعلنا منكم شرعةً ومنهاجاً "، قال ابن عباس و الحسن و مجاهد : أي سبيلاً وسنةً ، فالشرعة والمنهاج الطريق الواضح ، وكل ما شرعت فيه فهو شريعة وشرعة، ومنه شرائع الإسلام لشروع أهلها فيها ، وأراد بهذا أن الشرائع مختلفة ، ولكل أهل ملة شريعة. قال قتادة الخطاب للأمم الثلاث : أمة موسى وأمة عيسى وأمة محمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين ، للتوراة شريعة وللإنجيل شريعة وللفرقان شريعة، والدين واحد وهو التوحيد. " ولو شاء الله لجعلكم أمةً واحدة " ،أي على ملة واحدة، " ولكن ليبلوكم "، ليختبركم، " في ما آتاكم "، من الكتب وبين لكم من الشرائع فيتبين المطيع من العاصي والموافق من المخالف ، " فاستبقوا الخيرات "، فبادروا إلى الأعمال الصالحة ، " إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون ".
49-قوله عز وجل ، " وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك " ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : قال كعب بن [ أسد]وعبد الله بن [صوريا] وشاس بن قيس من رؤساء اليهود بعضهم لبعض : اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتيه عن دينه ، فأتوه فقالوا يا محمد قد عرفت أنا أحبار اليهود وأشرافهم وإنا إن اتبعناك لم يخالفنا اليهود ، وإن بيننا وبين الناس خصومات فنحاكمهم إليك فقض لنا عليهم نؤمن بك ، ويتبعنا غيرنا. ولم يكن قصدهم الإيمان، وإنما كان قصدهم التلبيس ودعوته إلى الميل في الحكم فأنزل الله عز وجل الآية. " فإن تولوا " أي أعرضوا عن الإيمان والحكم بالقرآن، " فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم "، أي: فاعلم أن إعراضهم من أجل أن الله يريد أن يجعل لهم العقوبة في الدنيا ببعض ذنوبهم ، " وإن كثيراً من الناس "، يعني اليهود، " لفاسقون ".
50-" أفحكم الجاهلية يبغون " قرأ ابن عامر " تبغون " بالتاء وقرأ الآخرون بالياء، أي: يطلبون، " ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون ".
51-" يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء " ، اختلفوا في نزول هذه الآية وإن كان حكمها عاماً لجميع المؤمنين. فقال قوم : نزلت في عبادة بن الصامت و عبد الله بن أبي سلول ، وذلك أنهما اختصما ، فقال عبادة : إن لي أولياء من اليهود كثير عددهم شديدة شوكتهم ، وإني أبرأ إلى الله و إلى رسوله من ولايتهم وولاية اليهود ، ولا مولى لي إلا الله و رسوله، فقال عبد الله : لكني لا أبرأ من ولاية اليهود ، لأني أخاف الدوائر ، ولا بد لي منهم ،فقال النبي صلى الله عليه وسلم : يا أبا الحباب ما نفست به من ولاية اليهود على عبادة بن الصامت فهو لك دونه ، قال إذا أقبل ، فأنزل الله تعالى هذه الآية. قال السدي : لما كانت وقعة أحد اشتدت على طائفة من الناس وتخوفوا أن يدال عليهم الكفار فقال رجل من المسلمين :أنا ألحق بفلان اليهودي وآخذ منه أماناً إني أخاف أن يدال علينا اليهود ، وقال رجل آخر : أما أنا فألحق بفلان النصراني من أهل الشام وآخذ منه أماناً ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ينهاهما. قال عكرمة : نزلت في [ أبي لبابة ] بن عبد المنذر بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة [ حين حاصرهم ] فاستشاروه في النزول ،وقالوا: ماذا يصنع بنا إذا نزلنا، فجعل أصبعه على حلقه أنه الذبح ، أي : يقتلكم. فنزلت هذه الآية. " بعضهم أولياء بعض "، في العون والنصرة ويدهم واحدة على المسلمين ، " ومن يتولهم منكم " ، [ فيوافقهم و يعنه ] ، " فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين ".
52-قوله تعالى:" فترى الذين في قلوبهم مرض " ، أي : نفاق يعني عبد الله بن أبي وأصحابه من المنافقين الذين يوالون اليهود ، " يسارعون فيهم " ، في معونتهم وموالاتهم ، " يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة " ، دولة ، بعني : أن يدول الدهر دولة فنحتاج إلى نصرهم إيانا، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : معناه نخشى أن لا يتم أمر محمد فيدور الأمر علينا، وقيل نخشى أن يدور الدهر علينا بمكروه من جدب وقحط فلا يعطونا الميرة والقرض، " فعسى الله أن يأتي بالفتح " ، قال قتادة و مقاتل : بالقضاء الفصل من نصر محمد صلى الله عليه وسلم على من خالفه ، وقال الكلبي و السدي : فتح مكة ، وقال الضحاك فتح قرى اليهود مثل خيبر وفدك ، " أو أمر من عنده " ، قيل : بإتمام أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، وقيل: هو عذاب لهم ، وقيل : إجلاء بني النضير، " فيصبحوا " يعني هؤلاء المنافقين، " على ما أسروا في أنفسهم " ، من موالاة اليهود ودس الأخبار إليهم ، " نادمين ".
53- " و " حينئذ ، " يقول الذين آمنوا " [ قرأ أهل الكوفة : ( ويقول ) ، بالواو والرفع ] وقرأ أهل البصرة بالواو ونصب اللام عطفاً على " أن يأتي " أي : وعسى أن يقول الذين آمنوا ، وقرا الآخرون بحذف الواو ورفع اللام ، وكذلك هو في مصاحف أهل [ العالية ] ، استغناء عن حرف العطف بملابسة هذه الآية بما قبلها ، يعني يقول الذين آمنوا في وقت إظهار الله تعالى نفاق المنافقين ، " أهؤلاء الذين أقسموا بالله " ، حلفوا بالله ، " جهد أيمانهم " ، أي : حلفوا بأغلظ الأيمان ، " إنهم لمعكم ، " أي: إنهم مؤمنون ، يريد : أن المؤمنين حينئذ يتعجبون من كذبهم وحلفهم بالباطل . قال الله تعالى " حبطت أعمالهم " ،بطل كل خير عملوه ، " فأصبحوا خاسرين " ، خسروا الدنيا بافتضاحهم ، والآخرة بالعذاب وفوات الثواب .
54-قوله عز وجل : " يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه "، قرأ أهل المدينة والشام يرتدد بدالين على إظهار التضعيف " عن دينه "فيرجع إلى الكفر. قال الحسن : علم الله تبارك وتعالى أن قوماً يرجعون عن الإسلام بعد موت نبيهم صلى الله عليه وسلم فأخبر أنه يأتي بقوم يحبهم الله ويحبونه. واختلفوا في أولئك القوم من هم؟ قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه و الحسن و قتادة : هم أبو بكر وأصحابه الذين قاتلوا أهل الردة ومانعي الزكاة ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قبض ارتد عامة العرب إلا أهل مكة والمدينة والبحرين من عبد القيس، ومنع بعضهم من الزكاة ، وهم أبو بكر رضي الله عنه بقتالهم فكرة ذلك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال عمر رضي الله عنه : كيف نقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قالها فقد عصم مني ماله و نفسه إلا بحقه وحسابه على الله عز وجل ؟ " فقال أبو بكر:والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة حق المال ، والله لو منعوني[عناقاً] كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها . قال أنس بي مالك رضي الله عنه : كرهت الصحابة قتال مانعي الزكاة ، وقالوا : أهل القبلة، فتقلد أبو بكر سيفه وخرج وحده، فلم يجدوا بداً من الخروج على أثره. قال ابن مسعود : كرهنا ذلك في الابتداء ثم حمدناه عليه في الانتهاء. قال أبو بكر بن عياش : سمعت أبا حصين يقول : ما ولد بعد النبيين مولود أفضل من أبي بكر رضي الله عنه ، لقد قام مقام نبي من الأنبياء في قتال أهل الردة. وكان قد ارتد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث فرق: منهم[بنو مذحج] ورئيسهم ذو الخمار، عبهلة بن كعب ، العنسي، ويلقب بالأسود ، وكان كاهناً مشعبذاً فتنبأ باليمن واستولى على بلادها،فكيف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى معاذ بن جبل ومن معه من المسلمين ،وأمرهم أن يحثوا الناس على التمسك بدينهم ، وعلى النهوض إلى حرب الأسود، فقتله فيروز الديلمي على فراشه، قال ابن عمر رضي الله عنه فأتى الخبر النبي صلى الله عليه وسلم من السماء الليلة التي فيها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قتل الأسود البارحة قتله رجل مبارك ، قيل: ومن هو ؟ قال: فيروز، [فاز فيروز]"،فبشر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بهلاك الأسود ، وقبض صلى الله عليه وسلم من الغد ، وأتى [خبر ] مقتل العنسي المدينة في آخر شهر ربيع الأول بعدما خرج أسامة وكان ذلك أول فتح جاء أبا بكر رضي الله عنه . والفرقة الثانية : بنو حنيفة باليمامة ، ورئيسهم مسيلمة الكذاب ، [واسمه ثمامة بن قيس ]، وكان قد تنبأ في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر سنة عشر، وزعم أنه أشرك مع محمد صلى الله عليه وسلم في النبوة ، و"كتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله ، أما بعد فإن الأرض نصفها لك، وبعث[بذلك]إليه مع رجلين من أصحابه ، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم :[ أتشهدان أن مسيلمة رسول الله؟ قالا:نعم . قال النبي صلى الله عليه وسلم ] لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما ثم أجاب : من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مسيلمة الكذاب ، أما بعد فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده ، و العاقبة للمتقين ، ومرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوفي، فبعث أبو بكر خالد بن الوليد إلى مسيلمة الكذاب في جيش كثير حتى أهلكه الله على يدي وحشي غلام مطعم بن عدي الذي قتل حمزة بن عبد المطلب ، بعد حرب شديد" ، وكان وحشي يقول : قتلت خير الناس في الجاهلية وشر الناس في الإسلام. والفرقة الثالثة: بنو أسد ورئيسهم طليحة بن خويلد بن الوليد، وكان طليحة آخر من ارتد، وادعى النبوة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ، وأول من قوتل بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم من أهل / الردة ، فبعث أبو بكر خالد بن الوليد إليه، فهزمهم خالد بعد قتال شديد ، وأفلت طليحة فمر على وجهه هارباً نحو الشام ، ثم إنه أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه. وارتد بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم [في خلافة أبي بكر رضي الله عنه ]خلق كثير، حتى كفى الله المسلمين أمرهم في نصر دينه على يدي أبي بكر رضي الله عنه . قالت عائشة : توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتدت العرب واشرأب النفاق ، ونزل بأبي بكر ما لو نزل بالجبال الراسيات لهاضها. وقال قوم : المراد بقوله: " فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه " هم الأشعريون،روي عن عياض بن غنم الأشعري قال :" لما نزلت هذه الآية : " فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه "، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هم قوم هذا ، وأشار إلى أبي موسى الأشعري " وكانوا من اليمن. أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي أنا أبو الحسن الطيسفوني أنا عبد الله بن عمر الجوهري أنا أحمد بن [علي الكشميهني، حدثنا علي بن ] حجر أنا إسماعيل بن جعفر أنا محمد بن عمرو بن علقمة عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أتاكم أهل اليمن هم أضعف قلوباً وأرق أفئدةً ، الإيمان يمان والحكمة يمانية ". وقال الكلبي : هم أحياء من اليمن ألفان من النخع وخمسة آلاف من كندة وبجيلة ، وثلاثة آلاف من أفياء الناس ، فجاهدوا في سبيل الله يوم القادسية في أيام عمر رضي الله عنه . قوله عز وجل " أذلة على المؤمنين "، يعني : أرقاء رحماء، كقوله عز وجل : " واخفض لهما جناح الذل من الرحمة "، ولم يرد به الهوان ، بل أراد به أن جانبهم لين على المؤمنين .وقيل هو من الذل من قولهم دابة ذلول، أنهم متواضعون كما قال الله تعالى : " وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً "، " أعزة على الكافرين "، أي : أشداء غلاظ على الكفار يعادونهم ويغالبونهم، من قولهم : عزه أي غلبه. قال عطاء أذلة على المؤمنين: كالولد لوالده وكالعبد لسيده، أعزة على الكافرين: كالسبع على فريسته ، نظيره قوله تعالى: " أشداء على الكفار رحماء بينهم ". " يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم "، يعني : لا يخافون في الله لوم الناس ، وذلك أن المنافقين كانوا يراقبون الكفار ويخافون لومهم، وروينا عن عبادة بن الصامت قال : بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع و الطاعة وأن نقوم أو نقول بالحق حيثما كنا لا نخاف في الله لومة لائم " ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء "، أي محبتهم لله ولين جانبهم للمسلمين ، وشدتهم على الكافرين،من فضل الله عليهم ، " و الله واسع عليم ".
55-" إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا "،[روي عن لبن عباس رضي الله عنهما أنها نزلت في عبادة بن الصامت وعبد الله بن أبي بن سلول حين تبرأ عبادة من اليهود ، وقال : أتولى الله ورسوله والذين آمنوا، فنزل فيهم من قوله: " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء "، إلى قوله : " إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا "] ، يعني عبادة بن الصامت وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال جابر بن عبد الله : جاء عبد الله بن سلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إن قومنا قريظة و النضير قد هجرونا وفارقونا وأقسموا أن لا يجالسونا، فنزلت هذه الآية ، فقرأها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال يا رسول الله رضينا بالله وبرسوله وبالمؤمنين أولياء . وعلى هذا التأويل أراد بقوله : " وهم راكعون " صلاة التطوع بالليل والنهار، قاله ابن عباس رضي الله عنهما . وقال السدي : قوله : " والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون "، أراد به علي ابن أبي طالب رضي الله عنه ، مر به سائل وهو راكع في المسجد فأعطاه خاتمه. وقال جويبر عن الضحاك في قوله : " إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا "، قال : هم المؤمنون بعضهم أولياء بعض ، وقال أبو جعفر محمد بن علي الباقر : " إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا "، نزلت في المؤمنين، فقيل له إن أناساً يقولون إنها نزلت في علي رضي الله عنه ، فقال : هو من المؤمنين .
56-" ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا " ،يعني: يتولى القيام بطاعة الله ونصرة رسوله والمؤمن،قال ابن عباس رضي الله عنهما : يريد المهاجرين والأنصار، " فإن حزب الله "، يعني : أنصار دين الله ، " هم الغالبون ".
57-قوله عز وجل : " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعباً " قال ابن عباس كان رفاعة بن زيد بن التابوت وسويد بن الحارث قد أظهرا الإسلام ، ثم نافقا وكانا رجال من المسلمين يوادونهما ، فأنزل الله عز وجل هذه الآية: " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعباً "، بإظهار ذلك بألسنتهم قولاً وهم مستبطنون الكفر، " من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم " ،يعني: اليهود ، " والكفار "، قرأ أهل البصرة و الكسائي " الكفار " بخفض الراء، [ يعني: ومن الكفار ] ، وقرأ الآخرون بالنصب ، أي : لا تتخذوا الكفار ، " أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين ".
58-قوله تعالى: " وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزواً ولعباً ذلك بأنهم قوم لا يعقلون "، قال الكلبي : كان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نادى إلى الصلاة وقام المسلمون إليها ، قالت اليهود : قد قاموا لا قاموا ، وصلوا ، على طريق الاستهزاء ، وضحكوا ، فأنزل الله عز وجل هذه الآية . وقال السدي نزلت في رجل من النصارى بالمدينة كان إذا سمع المؤذن يقول: أشهد أن محمداً رسول الله ، قال : حرق الكاذب ، فدخل خادمه ذات ليلة بنار [وهو وأهله نيام] فتطايرت منها شرارة فاحترق البيت واحترق هو وأهله. وقال الآخرون: إن الكفار لما سمعوا الأذان حسدوا المسلمين فدخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقالوا : يا محمد لقد أبدعت شيئاً لم نسمع به فيما مضى من الأمم فإن كنت تدعي النبوة فقد خالفت - فيما أحدثت - الأنبياء قبلك، ولو كان فيه خير لكان أولى الناس به الأنبياء، فمن أين لك صياح كصياح [ العنز] ؟ فما أقبح من صوت وما أسمج من أمر ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، ونزل " ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله "، الآية.
59-قوله عز وجل : " قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا " ، الآية . قرأ الكسائي : " هل تنقمون " ، بإدغام اللام في التاء، وكذلك يدغم لام هل في التاء والثاء والنون، ووافقه حمزة في التاء والثاء وأبو عمرو في " هل ترى " في موضعين. قال ابن عباس: "أتى النبي صلى الله عليه وسلم نفر من اليهود ، أبو ياسر بن أخطب ورافع بن أبي رافع وغيرهما، فسألوه عمن يؤمن به من الرسل ، فقال : أومن " بالله و ما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل " إلى قوله : " ونحن له مسلمون " ، فلما ذكر عيسى عليه السلام جحدوا نبوته ، وقالوا: والله ما نعلم أهل دين أقل حظاً في الدنيا والآخرة منكم، ولا ديناً شراً من دينكم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية: " قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا " "، أي: تكرهون منا ، " إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون "، أي : هل تكرهون منا إلا إيماننا وفسقكم ، أي : إنما كرهتم إيماننا وأنتم تعلمون أنا على حق ، لأنكم فسقتم بأن أقمتم على دينكم لحب الرياسة وحب الأموال.
60-ثم قال : " قل "، يا محمد، " هل أنبئكم "، أخبركم، " بشر من ذلك " ، الذي ذكرتم،يعني قولهم لم نر أهل دين أقل حظاً في الدنيا والآخرة منكم ولا ديناً شراً من دينكم ، فذكر الجواب بلفظ الابتداء ، وإن لم يكن الابتداء شراً كقوله تعالى : " أفأنبئكم بشر من ذلكم النار " ( الحج، 72 )، " مثوبةً " ثواباً وجزاءاً ، نصب على التفسير ، " عند الله من لعنه الله " أي : هو من لعنه الله ، " وغضب عليه "، يعني: اليهود، " وجعل منهم القردة والخنازير " ، فالقردة أصحاب السبت ، والخنازير كفار مائدة عيسى عليه السلام . وروي عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن الممسوخين كلاهما من أصحاب السبت ، فشبانهم مسخوا قردة ومشايخهم مسخوا خنازير . " وعبد الطاغوت " ، أي : جعل منهم من عبد الطاغوت ، أي : أطاع الشيطان فيما سول له ، وتصديقها قراءة ابن مسعود: ومن عبدوا الطاغوت ، وقرأ حمزة " وعبد " بضم الباء " الطاغوت " بجر التاء ، أراد العبد وهما لغتان عبد بجزم الباء وعبد بضم الباء ، مثل سبع وسبع، وقيل هو جمع العباد ، وقرأ الحسن وعبد الطاغوت، على الواحد ، " أولئك شر مكاناً وأضل عن سواء السبيل " أي: عن طريق الحق.
61-" وإذا جاؤوكم قالوا "، يعني :هؤلاء المنافقين ، وقيل : هم الذين قالوا: " آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره "، دخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا : آمنا بك وصدقناك فيما قلت ، وهم يسرون الكفر، " وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به "، يعني : دخلا كافرين وخرجوا كافرين ، " والله أعلم بما كانوا يكتمون ".
62-" وترى كثيراً منهم " ، يعني : من اليهود " يسارعون في الإثم والعدوان "، قيل : الإثم المعاصي والعدوان الظلم، وقيل : الإثم ما كتموا من التوراة ، والعدوان ما زادوا فيها ، " وأكلهم السحت " ، الرشا، " لبئس ما كانوا يعملون ".
63-" لولا " ، هلا ، " ينهاهم الربانيون والأحبار "، يعني : العلماء ، قيل : الربانيون علماء النصارى والأحبار علماء اليهود ، " عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون ".
64- قوله تعالى ، " وقالت اليهود يد الله مغلولة "، قال ابن عباس و عكرمة و الضحاك و قتادة : إن الله تعالى كان قد بسط على اليهود حتى كانوا من أكثر الناس مالاً وأخصبهم ناحية فلما عصوا لله في أمر محمد صلى الله عليه وسلم وكذبوا به كف الله عنهم ما بسط عليهم من السعة ، فعند ذلك قال فنحاص بن عازوراء : يد الله مغلولة ، أي : محبوسة مقبوضة عن الرزق نسبوه إلى البخل،تعالى الله عن ذلك . قيل : إنما قال هذه المقالة فنحاص ، فلما لم ينه الآخرون ورضوا بقوله أشركهم الله فيها . وقال الحسن : معناه يد الله مكفوفة عن عذابنا فليس يعذبنا إلا بما تبر به قسمه قدر ما عبد آباؤنا العجل. والأول أولى لقوله: ينفق كيف يشاء . " غلت أيديهم "، أي : [ أمسكت ] أيديهم عن الخيرات .وقال الزجاج : أجابهم الله تعالى فقال: أنا الجواد وهم البخلاء وأيديهم هي المغلولة الممسكة. وقيل : هو من الغل في النار يوم القيامة، كقوله تعالى: " إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل " ( غافر، 71 ) . " ولعنوا " ، عذبوا، " بما قالوا "، فمن لعنهم أنهم مسخوا قردة وخنازير وضربت عليهم الذلة و المسكنة في الآخرة بالنار ، " بل يداه مبسوطتان " ، ويد الله صفة من [ صفاته ] كالسمع ، والبصر والوجه، وقال جل ذكره : " لما خلقت بيدي " ( ص،75 ) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " كلتا يديه يمين "، والله أعلم بصفاته، فعلى العباد فيها الإيمان والتسليم. وقال أئمة السلف من أهل السنة في هذه الصفات : أمروها كما جاء بلا كيف. " ينفق "، يرزق، " كيف يشاء وليزيدن كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً "، أي : كلما نزلت آية كفروا بها وازدادوا طغياناً وكفراً ، [كلما نزلت آية ]" وألقينا بينهم العداوة والبغضاء "، يعني : بين اليهود والنصارى، قاله الحسن و ومجاهد :وقيل بين طوائف اليهود جعلهم الله مختلفين في دينهم متباغضين " إلى يوم القيامة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله " يعني : اليهود أفسدوا وخالفوا حكم التوراة ، فبعث الله عليهم بختنصر ، ثم أفسدوا فبعث الله طيطوس الرومي ، ثم أفسدوا فسلط الله عليهم المجوس ، ثم أفسدوا فبعث الله عليهم المسلمين. وقيل : كلما أجمعوا أمرهم ليفسدوا أمر محمد صلى الله عليه وسلم وأوقدوا نار المحاربة أطفأها الله ، فردهم وقهرهم ونصر نبيه ودينه ، هذا معنى قول الحسن وقال قتادة : هذا عام في كل حرب طلبته اليهود فلا تلقى اليهود في بلد إلا وجدتهم من أذل الناس، " ويسعون في الأرض فساداً والله لا يحب المفسدين ".
65-" ولو أن أهل الكتاب آمنوا "، بمحمد صلى الله عليه وسلم ، " واتقوا "، الكفر ، " لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم " .
66- " ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل "، يعني : أقاموا أحكامهما وحدودهما وعملوا بما فيهما ، " وما أنزل إليهم من ربهم " ، يعني : القرآن ، وقيل : كتب أنبياء بني إسرائيل ، " لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم " ، قيل : من فوقهم هو المطر ، ومن تحت أرجلهم نبات الأرض . قال ابن عباس رضي الله عنهما : لأنزلت عليهم القطر وأخرجت لهم من نبات الأرض . وقال الفراء أراد به التوسعة في الرزق كما يقال فلان في الخير من قرنه إلى قدمه ، ونظيره قوله تعالى : " ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض " ( الأعراف ،96 ) . " منهم أمة مقتصدة " ، يعني : مؤمني أهل الكتاب ، عبد الله بن سلام وأصحابه ، مقتصدة أي عادلة غير غالية ، ولا مقصرة جافيه ، ومعنى الاقتصاد في اللغة : الاعتدال في العمل من غير غلو ولا تقصير . " وكثير منهم " ، كعب بن الأشرف وأصحابه ، " ساء ما يعملون "، بئس شيئاً عملهم ، قال ابن عباس رضي الله عنهما :عملوا القبيح مع التكذيب بالنبي صلى الله عليه وسلم .
67- قوله عز وجل : " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك " الآية ، روي عن مسروق قال : قالت عائشة رضي الله عنها من حدثك أن محمداً صلى الله عليه وسلم كتم شيئاً مما أنزل الله عليه فقد كذب ، وهو يقول : " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك " الآية . روى الحسن : أن الله تعالى لما بعث رسوله ضاق ذرعاً وعرف أن من الناس من يكذبه ، فنزلت هذه الآية وقيل : نزلت في عيب اليهود ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم دعاهم إلى الإسلام ، فقالوا أسلمنا قبلك وجعلوا يستهزؤون به ، فيقولون له : تريد أن نتخذك حناناً كما اتخذت النصارى عيسى بن مريم حناناً ، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك سكت فنزلت هذه الآية ، وأمره أن يقول لهم : " يا أهل الكتاب لستم على شيء " الآية . وقيل : بلغ ما انزل إليك من الرجم والقصاص ، نزلت في قصة اليهود . وقيل : نزلت في أمر زينب بنت جحش ونكاحها . وقيل : في الجهاد ، وذلك أن المنافقين كرهوه ، كما قال الله تعالى : " فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت " ( محمد-20 ) وكرهه بعض المؤمنين قال الله تعالى : " ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم " الآية ( النساء ، 70 ) فكان النبي صلى الله عليه وسلم يمسك في بعض الأحايين عن الحث على الجهاد لما يعلم من كراهة بعضهم ، فأنزل الله هذه الآية . قوله تعالى : " وإن لم تفعل فما بلغت رسالته " ، قرا أهل المدينة " رسالاته " ، على الجمع والباقون رسالته على التوحيد . ومعنى الآية : إن لم تبلغ الجميع وتركت بعضه ، فما بلغت شيئاً ، أي : جرمك في ترك تبليغ البعض كجرمك في ترك تبليغ الكل ، كقوله : " ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا * أولئك هم الكافرون حقا " ( النساء ، 150-151 ) اخبر أن كفرهم بالبعض محبط للإيمان بالبعض . وقيل : بلغ ما أنزل إليك أي : أظهر تبليغه ، كقوله : " فاصدع بما تؤمر " ( الحجر ،94 ) وإن لم تفعل : فإن لم تظهر تبليغه فما بلغت رسالته ، أمره بتبليغ ما أنزل إليه مجاهراً محتسباً صابراً ، غير خائف ، فإن أخفيت منه شيئاً لخوف يلحقك فما بلغت رسالته . " والله يعصمك من الناس "، يحفظك ويمنعك من الناس ، فإن قيل : أليس قد شج رأسه وكسرت رباعيته وأوذي بضروب من الأذى ؟ قيل : معناه يعصمك من القتل فلا يصلون إلى قتلك . وقيل : نزلت هذه الآية بعد ما شج رأسه لأن سورة المائدة من آخر ما نزل من القرآن . وقيل : والله يخصك بالعصمة من بين الناس ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم . " إن الله لا يهدي القوم الكافرين " ، أخبرنا عبد الواحد بن احمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن اسماعيل أنا أبو اليمان أنا شعيب عن الزهري أنا سنان بن أبي سنان الدولي و ابو سلمة بن عبد الرحمن أن جابر بن عبد الله أخبره "أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نجد ، فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قفل معه وأدركتهم القائلة في واد كثير العضاة ، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرق الناس يستظلون بالشجر ، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة وعلق بها سيفه ونمنا نومة ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا وإذا عنده أعرابي ، فقال : إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم ، فاستيقظت وهو في يده صلتاً ، فقال : من يمنعك مني ؟ فقلت : الله ( ثلاثاً) " ولم يعاقبه وجلس . وروى محمد بن كعب القرظي عن أبي هريرة رضي الله عنه "أن الأعرابي سل سيفه وقال : من يمنعك مني يا محمد قال : الله ، فرعدت يد الأعرابي وسقط السيف من يده وجعل يضرب برأسه الشجرة حتى انتثر دماغه ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ". أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا إسماعيل بن خليل أخبرنا علي بن مسهر أنا يحيى بن سعيد أنا عبد الله بن عامر بن ربيعة قال : سمعت عائشة رضي الله عنها تقول : "كان النبي صلى الله عليه وسلم سهر فلما قدم المدينة قال : ليت رجلاً صالحاً من أصحابي يحرسني الليلة ، إذ سمعنا صوت سلاح ، فقال : من هذا ؟ قال : أنا سعد بن أبي وقاص جئت لأحرسك ، فنام النبي صلى الله عليه وسلم " . وقال عبد الله بن شقيق عن عائشة رضي الله عنها قالت : "كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرس حتى نزلت هذه الآية " والله يعصمك من الناس " ، فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من القبة فقال لهم : أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله سبحانه وتعالى " .
68- قوله عز وجل : "قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم " ، أي : تقيموا أحكامهما وما يجب عليكم فيهما ، " وليزيدن كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً فلا تأس " ، فلا تحزن " على القوم الكافرين " .
69- " إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى " ، وكان حقه " والصابئين " وقد ذكرنا في سورة البقرة وجه ارتفاعه . وقال سيبويه : فيه تقديم وتأخير تقديره : إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى من آمن بالله إلى آخر الآية ، والصابئون كذلك ، وقوله : " إن الذين آمنوا " أي : باللسان ، وقوله : " من آمن بالله " أي : بالقلب ، وقيل : الذين آمنوا على حقيقة الإيمان " من آمن بالله " ، أي ثبت على الإيمان ، " واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون " .
70- قوله تعالى " لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل "في التوحيد والنبوة ، " وأرسلنا إليهم رسلاً كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقاً كذبوا " ، عيسى ومحمداً صلوات الله وسلامه عليهما ، " وفريقا يقتلون " يحيى و زكريا .
71- " وحسبوا " ، ظنوا " أن لا تكون فتنة " ، أي : عذاب وقتل ، وقيل : ابتلاء واختبار ، أي : ظنوا أن لا يبتلوا ولا يعذبهم الله ، قرأ أهل البصرة و حمزة و الكسائي " تكون " برفع النون على معنى أنها لا تكون ، ونصبها الآخرون كما لو لم يكن قبله لا ، " فعموا "، عن الحق فلم يبصروه " وصموا " ، عنه فلم يسمعوه ، يعني عموا وصموا بعد موسى صلوات الله وسلامه عليه ، " ثم تاب الله عليهم " ، ببعث عيسى عليه السلام ، " ثم عموا وصموا كثير منهم " ، بالكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم ، " والله بصير بما يعملون " .
72- قوله تعالى : " لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم " ، وهم الملكانية واليعقوبية منهم ، " وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار "
73-" لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة " ، يعني : المرقوسية ، وفيه إضمار معناه : ثالث ثلاثة آلهة ، لأنهم يقولون : الإلهية مشتركة بين الله تعالى ومريم وعيسى ، وكل واحد من هؤلاء إله فهم ثلاثة آلهة ، يبين هذا قوله عز وجل للمسيح : " أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله " ؟ ( المائدة 116 ) ، ومن قال : إن الله ثالث ثلاثة لم يرد به الإلهية لا يكفر ، فإن الله يقول : " ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم " ( المجادلة ، 7 ) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه : " ما ظنك بإثنين الله ثالثهما " . ثم قال رداً عليهم : " وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن " ، [ ليصيبن ] ، " الذين كفروا منهم عذاب أليم " ، خص الذين كفروا لعلمه أن بعضهم يؤمنون .
74- " أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه " ؟ قال الفراء : هذا أمر بلفظ الاستفهام كقوله تعالى : " فهل أنتم منتهون " ( المائدة ، 91 ) ، أي : انتهوا ، والمعنى : أن الله [ يأمركم ] بالتوبة والاستغفار من هذا الذنب العظيم ، " والله غفور رحيم " .
75- قوله تعالى : " ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت " ، [ مضت ] ، " من قبله الرسل " ، أي : ليس هو بإله بل هو كالرسل الذين مضوا لم يكونوا آلة ، " وأمه صديقة " ، أي : كثيرة الصدق . وقيل : سميت صديقة لأنها صدقت بآيات الله ، كما قال عز وجل في وصفها : " وصدقت بكلمات ربها " ( التحريم، 12 ) ، " كانا يأكلان الطعام " ، أي كانا يعيشان بالطعام والغذاء كسائر الآدميين ، فكيف يكون إلها من لا يقيمه إلا أكل الطعام ؟ وقيل : هذا كناية عن الحدث ، وذلك أن من أكل وشرب لا بد له من البول والغائط ، ومن هذه صفته كيف يكون إلهاً ؟ ثم قال : " انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون " ، أي يصرفون عن الحق .
76- " قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضراً ولا نفعاً والله هو السميع العليم " .
77- " قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق " ، أي : لا تتجاوزوا الحد ، والغلو والتقصير كل واحد منهما مذموم في الدين ، وقوله : " غير الحق " ، أي : في دينكم المخالف للحق ، وذلك انهم خالفوا الحق في دينهم ، ثم غلوا فيع بالإصرار عليه ، " ولا تتبعوا أهواء قوم " ، والأهواء جمع الهوى وهو ما تدعو إليه شهوة النفس " قد ضلوا من قبل " ، يعني : رؤساء الضلالة في فريقي اليهود والنصارى والخطاب للذين كانوا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم نهوا عن اتباع أسلافهم فيما ابتدعوه بأهوائهم " وأضلوا كثيراً " ، يعني : من اتبعهم ( على أهوائهم ) ، " وضلوا عن سواء السبيل " ، عن قصد الطريق ، أي : بالإضلال ، فالضلال الأول من الضلالة ، والثاني بإضلال من اتبعهم .
78- قوله تعالى " لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود " ، يعني : أهل أيلة لما اعتدوا في السبت ، وقال داود عليه السلام : اللهم العنهم واجعلهم آية فمسخوا قردةً ، " وعيسى ابن مريم " ، أي : على لسان عيسى عليه السلام ، يعني : كفار أصحاب المائدة ، لما لم يؤمنوا ، قال عيسى : اللهم العنهم واجعلهم آية فمسخوا خنازير ، " ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون " .
79- " كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه " ، ( أي لا ينهى بعضهم بعضاً ) " لبئس ما كانوا يفعلون " . أخبرنا أبو سعيد الشريحي أنا أبو إسحاق الثعلبي أنا الحسن محمد بن الحسين أنا أحمد بن محمد بن إسحاق أنا أبو يعلى الموصلي أنا وهب بن بقية أنا خالد - يعني ابن عبد الله الوسطي - عن العلاء بن المسيب عن عمرو بن مرة عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل إذا عمل العامل منهم الخطيئة نهاه الناهي تعذيراً فإذا كان من الغد جالسه وآكله وشاربه كأنه لم يره على الخطيئة بالأمس ، فلما رأى الله تبارك وتعالى ذلك منهم ضرب قلوب بعضهم على بعض ، وجعل منهم القردة والخنازير ، ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم عليهما السلام ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ، والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ، ولتأخذن على يد السفيه ولتأطرنه على الحق أطراً أو ليضربن الله قلوب بعضكم على بعض ويلعنكم كما لعنهم " .
80- قوله تعالى " ترى كثيراً منهم " ، قيل : من اليهود كعب بن الأشرف وأصحابه ، " يتولون الذين كفروا " ، مشركي مكة حين خرجوا إليهم يجيشون على النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال ابن عباس ومجاهد والحسن : منهم يعني من المنافقين : يتولون اليهود ، " لبئس ما قدمت لهم أنفسهم" ، بئس ما قدموا من العمل لمعادهم في الآخرة ، " أن سخط الله عليهم " ، غضب الله عليهم ، " وفي العذاب هم خالدون " .
81- قوله تعالى " لو كانوا يؤمنون بالله والنبي " محمد صلى الله عليه وسلم ، " وما أنزل إليه " ، يعني القرآن ، " ما اتخذوهم " يعني الكفار ، " أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون " ، أي خارجون عن أمر الله سبحانه وتعالى .
82- قوله عز وجل : " لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا " ، يعني : مشركي العرب ، " ولتجدن أقربهم مودةً للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى " ، لم يرد به جميع النصارى لأنهم في عدواتهم المسلمين كاليهود في قتلهم المسلمين وأسرهم وتخريب بلادهم وهدم مساجدهم وإحراق مصاحفهم ، لا ولاء ، ولا كرامة لهم ، بل الآية فيمن أسلم منهم مثل النجاشي وأصحابه ، ( وقيل : نزلت في جميع اليهود وجميع النصارى ، لأ، اليهود أقسى قلباً والنصارى ألين قلباً منهم ، وكانوا أقل مظاهرة للمشركين من البيهود ) . قال أهل التفسير : ائتمرت قريش أن يفتنوا المؤمنين عن دينهم ، فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين يؤذونهم ويعذبونهم ، فافتتن من افتتن ، وعصم الله منهم من شاء ، ومنع الله تعالى رسوله بعمه أبي طالب ، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بأصحابه ولم يقدر على منعهم ولم يؤمر بعد بالجهاد أمرهم بالخروج إلى أرض الحبشة ، قال : " إن بها ملكاً صالحاً لا يظلم ولا يظلم عنده أحد ، فاخرجوا إليه حتى يجعل الله للمسلمين فرجاً " وأراد به النجاشي ، واسمع أصحمة وهو بالحبشة عطية ، وإنما النجاشي اسم الملك ، كقولهم قيصر وكسرى ، فخرج إليها سراً أحد عشر رجلاً وأ{بع نسوة ، وهم عثمان بن عفان وامرأته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والزبير بن العوام وعبد الله وعبد الله بن مسعود ،( وعبد الرحمن بن عوف ) وأبو حذيفة بت عتبة وامرأته سهلة بنت سهيل بن عمرو ، ومصعب بن عمير وأبو سلمة بن عبد الأسد وامراته أم سلمة بنت أبي أمية ، وعثمان بن مظعون وعامر بن ربيعة وامرأته ليلى بنت أبي ( حثمه ) ، وحاطب بن عمرو و ( سهل ) بن بيضاء رضي الله عنهم ، فخرجوا إلى البحر وأخذوا سفينة إلى أرض الحبشة بنصف دينار وذلك في رجب في السنة الخامسة من مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذه الهجرة الأولى ثم خرج جعفر بن أبي طالب ، وتتابع المسلمون إليها وكان جميع من هاجر إلى الحبشة من المسلمين اثنين وثمانين رجلاً سوى النساء والصبيان . فلما علمت قريش بذلك وجهوا عمرو بن العاص وصاحبه بالهدايا إلى النجاشي وبطارقته ليردوهم إليهم ، فعصمهم الله ، وذكرت القصة في سورة آل عمران . فلما انصرفا خائبين ، أقام المسلمون هناك بخير دار وأحسن جوار إلى أن هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلا أمره ، وذلك في سنة ست من الهجرة كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي على يد عمرو بن أمية الضمري ليزوجه أم حبيبه بنت أبي سفيان - وكانت قد هاجرت إليه مع زوجها فمات زوجها - ويبعث إليه من عنده من المسلمين فأرسل النجاشي إلى أم حبيبه جارية يقال لها أبرهة تخبرها بخطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها ، فأعطتها أوضاحاً لها سروراً بذلك ، فأذنت لخالد بن سعيد بن العاص حتى أنكحها على صداق أربعمائة دينار ، وكان الخاطب لرسول الله صلى الله عليه وسلم النجاشي رحمه الله فأنفذ إليها النجاشي أربعمائة دينار على يد أبرهة ، فلما جاءتها بها أعطتها خمسين ديناراً فردته وقالت : أمرني الملك أن لا آخذ منك شسئاً ، وقالت : أنا صاحبة دهن الملك وثيابه ، وقد صدقت محمداً صلى الله عليه وسلم وآمنت به ، وحاجتي منك أن تقرئيه مني السلام ، قالت نعم : وقد أمر الملك نساءه أن يبعثن إليك بما عندهن من عود وعنبر ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يراه عليها وعندها فلا ينكر . قالت أم حبيبه فخرجنا إلى المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر ، فخرج من خرج إليه وأقمت بالمدينة حتى قدم النبي صلى الله عليه وسلم ، فدخلت عليه وكان يسألني عن النجاشي فقرأت عليه من أبرهة السلام فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهما السلام ، وأنزل الله عز وجل :" عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودةً " يعني : أبا سفيان مودة ، يعني : بتزويج أم حبيبه ، ولما جاء أبا سفيان تزويج أم حبيبه ، قال : ذلك الفحل لا يقرع أنفه . وبعث النجاشي بعد قدوم جعفر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ابنه ازهى بن أصحمة بن أبجر في ستين رجلاً من الحبشة ، وكتب إليه : يا رسول الله أشهد أنك رسول الله صادقاً مصدقاً وقد بايعتك وبايعت ابن عمك وأسلمت لله رب العالمين ، وقد بعثت إليك ابني أزهى ، وإن شئت أن آتيك بنفسي فعلت والسلام عليك يا رسول الله ، فركبوا سفينة في أثر جعفر وأصحابه حتى إذا كانوا في وسط البحر غرقوا ، ووافى جعفر وأصحابه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعين رجلاً عليهم ثياب الصوف ، منهم اثنان وستون من الحبشة وثمانية من ( أهل ) الشام ، فقرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة يس إلى آخرها ، فبكوا حين سمعوا القرآن وآمنوا ، وقال : آمنوا ، وقالوا : ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى عليه السلام ، فأنزل الله سبحانه وتعالى هذه الآية : " ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى " ، يعني : وفد النجاشي الذين قدموا مع جعفر وهم السبعون ، وكانوا أصحاب الصوامع . قال مقاتل والكلبي كانوا أربعين رجلاً اثنان وثلاثون من الحبشة ، وثمانية روميون من أهل الشام . ( وقال عطاء : كانوا ثمانين رجلاً أربعون من أهل نجران من بني الحرث بن كعب ، واثنان وثلاثون من الحبشة وثمانية روميون من أهل الشام ) . وقال قتادة : نزلت في ناس من أهل الكتاب كانوا على شريعة من الحق مما جاء به عيسى عليه السلام ، فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم صدقوه وآمنوا به فأثنى الله عز وجل بذلك عليهم . " ذلك بأن منهم قسيسين " ، أي علماء ، قال قطرب : القس والقسيس العالم بلغة الروم ، " ورهباناً " ، الرهبان العباد أصحاب الصوامع ، واحدهم راهب ، مثل فارس وفرسان ، وراكب وركبان ، وقد يكون واحداً وجمعه رهابين ، مثل فربان وقرابين ، " وأنهم لا يستكبرون " ، لا يتعظمون عن الإيمان والإذعان للحق .
83- " وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول " ، محمد صلى الله عليه وسلم ، " ترى أعينهم تفيض " ، تسيل ، " من الدمع مما عرفوا من الحق " ، قال ابن عباس رضي الله عنه رضي الله عنهما في رواية عطاء : يريد النجاشي وأصحابه قرأ عليهم جعفر بالحبشة كهيعص ، فما زالوا يبكون حتى فرغ جعفر من القراءة . " يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين " ، يعني أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، دليله قوله تعالى " لتكونوا شهداء على الناس " ( البقرة 143 ) . " وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق " ، وذلك أن اليهود عيروهم وقالوا لهم : لم آمنتم ؟ فأجابوهم بهذا ، " ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين " ، أي : في أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، بيانه " أن الأرض يرثها عبادي الصالحون " ( الأنبياء 105 ) .
85- " فأثابهم الله " ، أعطاهم الله ، " بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها " ، وإنما انجح قولهم وعلق الثواب بالقول لاقترانه بالإخلاص ، بدليل قوله : " وذلك جزاء المحسنين " ، يعني : الموحدين المؤمنين ، وقوله من قبل : " ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق " ، يدل على أن الأخرص والمعرفة بالقلب مع القول يكون إيماناً .
86- " والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم " .
87 - قوله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم " ، الآية قال أهل التفسير : "ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الناس يوماً ووصف القيامة ، فرق له الناس وبكوا ، فاجتمع عشرة من أصحابه في بيت عثمان بن مظعون الجمحي ، وهم أبو بكر رضي الله عنه وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر ، وأبو ذر الغفاري وسالم مولى أبي حذيفة ، والمقداد بن الأسود وسلمان الفارسي ، ومعقل بن مقرن رضي الله عنهم ، وتشاوروا واتفقوا على أن يترهبوا ويلبسوا المسوح ويجبوا مذاكيرهم ، ويصوموا الدهر ، ويقوموا الليل ولا يناموا على الفرش ، ولا يأكلوا اللحم والودك ، ولا يقربوا النساء والطيب ، ويسيحوا في الأرض ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتى دار عثمان بن مظعون فلم يصادفه ، فقال لامرأته أم حكيم بنت أبي أمية ، واسمها الخولاء ، وكانت عطارة : أحق ما بلغني عن زوجك وأصحابه ؟ فكرهت أن تكذب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكرهت أن تبدي على زوجها ، فقالت : يا رسول الله إن كان أخبرك عثمان بشيء فقد صدقك . فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما دخل عثمان أخبرته بذلك فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو وأصحابه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألم أنبأ أنكم اتفقتم على كذا وكذا ؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، وما أردنا إلا الخير ، فقال صلى الله عليه وسلم : إنى لم أؤمر بذلك ، ثم قال : إن لأنفسكم عليكم حقاً فصوموا وأفطروا وقوموا وناموا ، فإني أقوم وأنام وأصوم وأفطر ، وآكل اللحم والدسم ، وآتي النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني ، ثم جمع الناس وخطبهم فقال : ما بال أقوام حرموا النساء والطعام والطيب والنوم وشهوات ( النساء ) ؟ أما إني لست آمركم أن تكونوا قسيسين ورهباناً فإنه ليس في ديني ترك اللحم والنساء ، ولا اتخاذ الصوامع ، وإن سياحة أمتي الصوم ورهبانيتهم الجهاد ، اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً ، وحجوا واعتمروا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ، وصوموا رمضان واستقيموا يستقم لكم ، فإنما هلك من كان قبلكم بالتشديد ، شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم ، فأولئك بقاياهم في الديار والصوامع " ، فأنزل الله عز وجل هذه الآية . أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة الكشميهني أنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن الحارث أنا أبو الحسن محمد بن يعقوب الكسائي أنا عبد الله بن محمود أنا إبراهيم بن عبد الله الخلال أنا عبد الله بن المبارك عن رشدين بن سعد حدثني ابن أنعم عن سعد بن مسعود ان عثمان ابن مظعون رضي الله عنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ائذن لنا في الإختصاء ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ليس منا من خصى ولا اختصى ، خصاء أمتي الصيام " ، فقال : يا رسول الله ائذن لنا في السياحة ، فقال : " إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله " ، فقال : يا رسول الله ائذن لنا في الترهب ، فقال :" إن ترهب أمتي الجلوس في المساجد وانتظار الصلاة " . وروي عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً قال : يا رسول الله إني أصبت من اللحم فانتشرت وأخذتني شهوة ، فحرمت اللحم ، فأنزل الله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم " ، يعني : اللذات التي تشتهيها النفوس ، مما أحل الله لكم من المطاعم الطيبة والمشارب اللذيذة ، " ولا تعتدوا " أي : ولا تتجاوزوا الحلال إلى الحرام . وقيل : هو جب المذاكير " إن الله لا يحب المعتدين " .
88- " وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا " ، قال عبد الله بن المبارك : الحلال ما أخذته من وجهه ، والطيب ما غذى وأنمى ، فأما الجوامد كالطين والتراب وما لا يغذي فمكروه إلا على وجه التداوي . " واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون " ، أخبرنا أبو محمد عبد الله بن عبد الصمد الجوزجاني أنا أبو القاسم علي بن أحمد الخزاعي أنا أبو سعيد الهيثم بن كليب أنا أبو عيسى أخبرنا أحمد بن إبراهيم الدروقي و سلمة بن شبيب و محمود بن غيلان قالوا : أخبرنا أبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت : ( " كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب الحلواء والعسل" ) .
89- قوله عز وجل : " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " قال ابن عباس رضي الله عنهما : لما نزلت :( لا تحرموا طيبات ما احل الله لكم ) ، قالوا: يا رسول الله كيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها ؟ وكانوا حلفوا على ما أتفقوا عليه ، فأنزل الله :" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " " ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان " ، قرأ حمزة و الكسائي ( وأبو بكر ) " عقدتم " بالتخفيف ، وقرأ ابن عامر ( عاقدتم ) بالألف وقرأ الآخرون ( عقدتم ) بالتشديد ، أي : وكدتم ، والمراد من الآية قصدتم وتعمدتم ، " فكفارته " ، أي : كفارة ما عقدتم الإيمان إذا حنثتم ، " إطعام عشرة مساكين " ، واختلفوا في قدره : فذهب قوم إلىة أنه يطعم كل مسكين مداً من الطعام بمد النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو رطل وثلث من غالب قوت البلد ، وكذلك في جميع الكفارات ، وهو قول زيد بن ثابت و ابن عمر ، وبه قال سعيد بن المسيب و القاسم و سليمان بن يسار و عطاء والحسن . وقال أهل العراق : عليه لكل مسكين مدان ، وهو نصف صاع ، يروى ذلك عن عمر وعلي رضي الله عنهما . وقال ابو حنيفه : إن أطعم من الحنطة فنصف صاع ، وإن أطعم من غيرها فصاع ، وهو قول الشعبي و النخعي و سعيد بن جبير و مجاهد و الحكم . ولو غداهم وعشاهم لا يجوز ، وجوز أبو خنيفه ، ويروى ذلك عن علي رضي الله عنه . ولا تجوز الدراهم والدنانير ولا الخبز ولا الدقيق ، بل يجب إخراج الحب إليهم ، وجوز أبو حنيفه رضي الله عنه كل ذلك . ولو صرف الكل إلى مسكين واحد ( لا يجوز ) ، وجوز أبو حنيفه أن يصرف طعام عشرة إلى مسكين واحد في عشرة أيام ، ولا يجوز ان يصرف إلا إلى مسلم حر محتاج ، فإن إلى ذمي أو عبد أو غني لا يجوز ، وجوز أبو حنيفه صرفها إلى أهل الذمة . واتفقوا على أن تصرف الزكاة إلى أهل الذمة لا يجوز . وقوله تعالى :" من أوسط ما تطعمون أهليكم " ، أي من خير قوت عيالكم ، وقال عبيدة السلماني : الأوسط الخبز والخل ، والأعلى الخبز واللحم ، والأدنى الخبز البحت والكل ( يجزىء ) . قوله تعالى : " أو كسوتهم " ، كل من لزمته كفارة اليمين فهو فيها مخير إن شاء أطعم عشرة من المساكين ، وإن شاء كساهم ، وإن شاء اعتق رقبة ، فإن اختار الكسوة فاختلفوا في قدرها : فذهب قوم إلى أنه يكسو كل مسكين ثوباً واحداً مما يقع عليه اسم الكسوة ، إزار أو رداء او قميص أو سراويل أو عمامة او كساء ونحوها ، وهو قول ابن عباس و الحسن و مجاهد و عطاء و طاووس ، وإليه ذهب الشافعي رحمه الله تعالى . وقال مالك : يجب لكل إنسان ما تجوز فيه صلاته ، فيكسو ثوباً واحداً والنساء ثوبين درعاً وخماراً . وقال سعيد بن المسيب لكل مسكين ثوبان . قوله عز وجل : " أو تحرير رقبة " ، وإذا اختار العتق يجب إعتاق رقبة مؤمنة ، وكذلك جميع الكفارات مثل كفارة القتل والظهار والجماع في نهار رمضان يجب فيها إعتاق الرقبة الكافرة في جميعها إلا في كفارة القتل ، لن الله تعالى قيد الرقبة فيها بالإيمان ، قلنا : المطلق يحمل على المقيد { كما أن الله تعالى قيد الشهادة بالعدالة في موضع فقال : " وأشهدوا ذوي عدل منكم " ، و( والطلاق ، 2 ) ، وأطلق في موضع ، فقال : " واستشهدوا شهيدين من رجالكم " ( البقرة ،282 ) ، ثم العدالة شرط في جميعها حملاً للمطلق على المقيد } ، وكذلك ها هنا ، ولا يجوز إعتاق المرتد بالاتفاق عن الكفارة . ويشترط أن يكون سليم الرق حتى لو أعتق عن كفارته مكاتباً أوأم ولد أو عبداً اشتراه بشرط العتق أو اشترى قريبه الذي يعتق عليه بنية الكفارة ، يعتق ولكن لا يجوز عن الكفارة ، وحو. أصحاب الرأي عتق المكاتب إذا لم يكن أدى شيئاً من النجوم ، وعتق القريب عن الكفارة ويشترط ان تكون الرقبة سليمة من كل عيب يضر بالعمل ضرراً بيناً حتى لا يجوز مقطوع إحدى اليدين ، او إحدى الرجلين ، ولا الأعمى ولا الزمن ولا المجنون المطبق ، ويجوز الأعور والأصم ومقطوع الأذنين والأنف لأن هذه العيوب لا تضر بالعمل ضرراً بيناً . وعند أبي حنيفة رضي الله عنه كل عيب يفوت جنساً من المنفعة( على الكمال ) يمنع الجواز ، حتى جوز مقطوع إحدى اليدين ، ولم يجوز مقطوع الأذنين . قوله عز وجل : " فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام " ، إذا عجز الذي لزمته كفارة اليمين عن الإطعام والكسوة وتحرير اللرقبة ، يجب عليه صوم ثلاثة أيام ، والعجز أن لا يفضل من ماله عن قوته وقوت عياله وحاجته ما يطعم او يعتق فإنه يصوم ثلاثة أيام . وقال بعضهم : إذا ملك ما يمكنه الإطعام وإن لم يفضل عن كفايته فليس له الصيام ، وهو قول الحسن و سعيد بن جبير . واختلفوا في وجوب التتابع في هذا الصوم : فذهب جماعة إلى انه لا يجب فيه التتابع بل إن شاء تابع وإن شاء فرق ، والتتابع أفضل وهو أحد قولي الشافعي ، وذهب قوم إلى انه يجب فيه التتابع قياساً على كفارة القتل والظهار ، وهو قول الثوري و أبي حنيفة ، ويدل على قراءة ابن مسعود رضي الله عنه فصيام ثلاثة أيام متتابعات . " ذلك " ، أي : ذلك الذي ذكرت ، " كفارة أيمانكم إذا حلفتم " ، وحنثتم ، فإن الكفارة لا تجب إلا بعد الحنث . واختلفوا في تقديم الكفارة على الحنث : فذهب قوم إلى جوازه ، لما روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليكفر عن يمينه ، وليفعل الذي هو خير " . وهو قول عمر { وابن عمر } و ابن عباس وعائشة وبه قال الحسن و ابن سيرين ، وإليه ذهب مالك و الاوزاعي و الشافعي ، إلا أن الشافعي يقول : إن كفر بالصوم قبل الحنث لا يجوز لأنه بدني ، وإنما يجوز بالإطعام أو الكسوة أو العتق كما يجوز تقديم الزكاة على الحول ، ولا يجوز تعجيل صوم رمضان قبل وقته ، وذهب قوم إلى أنه لا يجوز تقديم الكفارة على الحنث ، وبه قال أبو حنيفه رضي الله عنه . قوله عز وجل : " واحفظوا أيمانكم " ، قيل : أراد به ترك الحلف ، أي: لا تحلفوا ، وقيل : وهو الأصح ، أراد به : إذا حلفتم فلا تحنثوا ، فالمراد منه حفظ اليمين من الحنث هذا إذا لم تكن يمينه على ترك مندوب أو فعل مكروه ، فإن حلف على فعل مكروه أو ترك مندوب ، فالأفضل أن يحنث نفسه ويكفر / لما أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليجي أنا احمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا حجاج بن منهال أنا جرير بن حازم عن الحسن عن عبد الرحمن بن سمرة قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم :" يا عبد الرحمن بن سمرة لا تسأل الإمارة ، فإنك إن أوتيتها عن مسألة وكلت إليها ، و إن أوتيتها من غير مسألة أعنت عليها ، وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فكفر عن يمينك وأت الذي هو خير " . قوله تعالى :" كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون " .
90- قوله عز و جل : " يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر " ، أي : القمار " والأنصاب " ، يعني : الاوثان ، سميت بذلك لأنهم كانوا ينصبونها ، واحدها نصب بفتح النون وسكون الصاد ، ونصب بضم النون مخففاً ومثقلاً ، " والأزلام" ، يعني : القداح التي كانوا يستقسمون بها واحدها زلم " رجس " ، خبيث مستقذر ، " من عمل الشيطان " ، من تزيينه ، " فاجتنبوه " ، رد الكناية إلى الرجس ، " لعلكم تفلحون " .
91 - " إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر " ، أما العداوة في الخمر فإن الشاربين سكروا وعربدوا وتشاجروا ، كما فعل الأنصاري الذي شج سعد بن أبي وقاص بلحي الجمل أما العداوة في الميسر ، قال قتادة : كان الرجل يقامر على الأهل والمال ثم يبقى حزيناً مسلوب الأهل والمال مغتاظاً على { حرفائه } . " ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة " ، ذلك أن من اشتغل بشرب الخمر أو القمار ألهاه ذلك عن ذكر الله ، وشوش عليه صلاته كما فعل بأضياف عبد الرحمن بن عوف ، تقدم رجل ليصلي بهم صلاة المغرب بعدما شربوا فقرأ " قل يا أيها الكافرون " : أعبد ما تعبدون ، بحذف لا ، " فهل أنتم منتهون " ؟ أي : انتهوا ، استفهام ومعناه أمر ، كقوله تعالى :" فهل أنتم شاكرون " ( سورة الأنبياء -80 ) .
92- " وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا " ، المحارم والمناهي ، " فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين " . وفي وعيد شارب الخمر أخبرنا أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد الفوراني أنا أبو الحسن علي بن عبد الله الطيسفوني ثنا أبو الحسن محمد بن محمود المحمودي أنا أبو العباس الماسرجسي بنيسابوراخبرنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي أخبرنا صالح بن قدامة حدثنا أخي عبد الملك بن قدامة عن عبد الله بن دينار عن إبن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :" كل مسكر حرام ، إن حتماً على الله أن لا يشربه عبد في الدنيا إلا سقاه الله تعالى يوم القيامة من طينة الخبال ، هل تدرون ما طينة الخبال ؟ قال عرق أهل النار " . وأخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد أنا أبوإسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من شرب الخمر في الدنيا ثم لم يتب منها حرمها في الآخرة " وأخبرنا أبو سعيد الشريحي أنا أبو إسحاق الثعلبي أنا أحمد بن أبي أخبرنا أبو العباس الأصم أنا محمد بن إسحاق الصغاني حدثنا أبو نعيم عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز عن عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي من أهل مصر عن عبد الله بن عمر أنه قال : أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول :" لعن الله الخمر وشاربها وساقيها ومبتاعها وعاصرها معتصرها وحاملها إليه وآكل ثمنها " .
93- قوله عز وجل : " ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا " ، سبب نزول هذه الآية أن الصحابة رضوان الله عليهم قالوا لما نزل تحريم الخمر : يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر { ويأكلون } من مال الميسر ؟ فأنزل الله تعالى :" ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا " ، وشربوا من الخمر وأكلوا من مال الميسر " إذا ما اتقوا " الشرك ، " وآمنوا " ، وصدقوا ، " وعملوا الصالحات ثم اتقوا " ، الخمر والميسر بعد تحريمهما ، " وآمنوا ثم اتقوا " ، ما حرم الله عليهم أكله وشربه ، " وأحسنوا والله يحب المحسنين " ، وقيل : معنى الأول إذا ما اتقوا الشرك ، وآمنوا وصدقوا ثم اتقوا ، أي : داوموا على ذلك التقوى ، " وآمنوا " ازدادوا إيماناً ، ثم اتقوا المعاصي كلها واحسنوا ، وقيل : أي : اتقوا بالإحسان ، وكل محسن متق ، " والله يحب المحسنين " .
94- قوله عز وجل :" يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد " ، الآية نولت عام الحديبية وكانوا محرمين ابتلاهم الله بالصيد ، وكانت الوحوش تغشى رحالهم من كثرتها فهموا بأخذها فنزلت :" يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله " ليختبرهم اله ، وفائدة البلوى إظهار المطيع من العاصي ، وإلا فلا حاجة له إلى البلوى بشيء من الصيد ، وإنما بعض ، فقال " بشيء " لأنه ابتلاهم بصيد البر خاصةً " تناله أيديكم " ، يعني : الفرخ والبيض وما لا يقدر ان يفر من صغار الصيد ، " ورماحكم " ، يعني : الكبار من الصيد ، " ليعلم الله " ، ليرى الله ، لأنه قد علمه ، " من يخافه بالغيب " ، أي : يخاف الله ولم يره ، كقوله تعالى :" الذين يخشون ربهم بالغيب " ( الأنبياء 49 ) أي : يخافه فلا يصطاد في حال الإحرام " فمن اعتدى بعد ذلك " ، أي : صاد بعد تحريمه ، " فله عذاب أليم " ، روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : { يوجع } ظهره جلداً ، ويسلب ثيابه .
95. قوله عز وجل: " يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم "، أي: محرمون بالحج والعمرة ، وهو جمع حرام ، يقال : رجل حرام وامرأة حرام، وقد يكون(من ) دخول الحرم ، يقال : أحرم الرجل إذا عقد الإحرام ، وأحرم إذا دخل الحرم . نزلت في رجل يقال له أبو اليسر شد على حمار وحش وهو محرم فقتله. قوله تعالى : "ومن قتله منكم متعمداً " اختلفوا في هذا العمد فقال قوم : هو العمد بقتل الصيد مع نسيان الإحرام ، أما إذا قتله عمداً وهو ذاكر لإحرامه فلاحكم عليه ، وأمره إلى الله لأنه أعظم من أن يكون له كفارة، وهو قول مجاهد و الحسن. وقال آخرون : أن يعمد المحرم قتل الصيد ذاكرا ً لإحرامه فعليه الكفارة .واختلفوا فيما لو قتله خطأ ، فذهب أكثر الفقهاء إلى أن العمد والخطأ سواء في لزوم الكفارة، قال الزهري : على المتعمد بالكتاب وعلى المخطئ بالسنة ، وقال سعيد بن [ جبير ] : لا تجب كفارة الصيد بقتل الخطأ بل يختص بالعمد . قوله عز وجل "فجزاء مثل " قرأ أهل الكوفة و يعقوب " فجزاء " منون ، " مثل " ، رفع على البدل من الجزاء ، وقرأ الآخرون بالإضافة " فجزاء مثل " ، " ما قتل من النعم " ، معناه أنه يجب عليه مثل ذلك الصيد من النعم ، وأراد به ما يقرب من الصيد المقتول شبها من حيث الخلقة لا من حيث القيمة . " يحكم به ذوا عدل منكم " أي : يحكم بالجزاء رجلان عدلان ، وينبغي أن يكونا فقيهين ينظران إلى أشبه الأشياء من النعم فيحكمان به ، وممن ذهب إلى إيجاب المثل من النعم عمر وعثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف وابن عمر وابن عباس ، وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم ، حكموا في بلدان مختلفة وأزمان شتى بالمثل من النعم ، يحكم حاكم في النعامة ببدنه وهي لا تساوي بدنه ، وفي حمار الوحش ببقرة (وهي لا تساوي بقرة ) وفي الضبع بكبش وهي لا تساوي كبشاً ، فدل على أنهم نظروا إلى ما يقرب من الصيد شبهاً من حيث الخلقة (لا من حيث القيمة) ، وتجب في الحمام شاة، وهو كل ما عب وهدر من الطير ، كالفاختة و القمري . وروي عن عمر وعثمان وابن عباس رضي الله عنهم أنهم قضوا في حمام مكة بشاة ، أخبرنا أبو الحسن السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد أنا أبو إسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن أبي الزبير المكي عن جابر بن عبد الله أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قضى في الضبع بكبش ، وفي الغزال بعنز ، وفي الأرنب بعناق ، وفي اليربوع بجفرة قوله تعالي : " هدياً بالغ الكعبة " ، أي : يهدي تلك الكفارة إلى الكعبة ، فيذبحها بمكة ويتصدق بلحمها على مساكين الحرم ، " أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياماً " ، قال الفراء رحمه الله : العدل بالكسر : المثل من جنسه ، والعدل بالفتح : المثل من غير جنسه ، وأراد به : أنه في جزاء الصيد مخير بين أن يذبح المثل من النعم ، فيتصدق بلحمه على مساكين الحرم ، وبين أن يقوم المثل دراهم ، والدراهم طعاماً ، فيتصدق بالطعام على مساكين الحرم ،أو يصوم عن كل مد من الطعام يوماً وله أن يصوم حيث شاء لأنه لا نفع فيه للمساكين . وقال مالك : إن لم يخرج المثل يقوم الصيد ثم يجعل القيمة طعاماً فيتصدق به ، أو يصوم . وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : لا يجب المثل من النعم ، بل يقوم الصيد فإن شاء صرف تلك القيمة إلى شئ من النعم ، وإن شاء إلى الطعام فيتصدق به ، وأن شاء صام عن كل نصف صاع من بر أو صاع من غيره يوماً. وقال الشعبي و النخعي جزاء الصيد على الترتيب والآية حجة لمن ذهب إلى التخيير. قوله تعالى: " ليذوق وبال أمره " أي : جزاء معصيته ، "عفا الله عما سلف " ، يعني : قبل التحريم ، ونزول الآية ، قال السدي : عفا الله عما سلف في الجاهلية ، " و من عاد فينتقم الله منه " في الاخرة . " والله عزيز ذو انتقام " ، وإذا تكرر من المحرم قتل الصيد فيتعدد عليه الجزاء عند عامة أهل العلم ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : إذا قتل المحرم صيداً متعمداً يسأل هل قتلت قبله شيئاً من الصيد ؟ فإن قال نعم لم يحكم عليه ، وقيل له : اذهب ينتقم الله منك ، وإن قال لم أقتل قبله شيئاً حكم عليه ، فإن عاد بعد ذلك لم يحكم عليه ، ولكن يملأ ظهره وصدره ضرباً وجيعاً ، وكذلك حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في وج وهو واد بالطائف . واختلفوا في المحرم هل يجوز له أكل لحم الصيد أم لا ؟ فذهب قوم إلى أنه لا يحل له بحال ، ويروى ذلك عن ابن عباس ، وهو قول طاووس وبه قال سفيان الثوري ، واحتجوا بما أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن احمد أنا أبو إسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن عبد الله بن عباس عن الصعب بن جثامة الليثي "أنه أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم حماراً وحشياً ، وهو بالأبواء أو بودان ، فرده عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما في وجهي ، قال: إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم" وذهب الأكثرون إلى أنه يجوز للمحرم أكله إذا لم يصطد بنفسه ولا اصطيد لأجله أو بإشارته ، وهو قول عمر وعثمان وأبي هريرة ، وبه قال عطاء و مجاهد و سعيد بن جبير ، وهو مذهب مالك و الشافعي و أحمد و إسحاق وأصحاب الرأي ، وإنما رد النبي صلى الله عليه وسلم على الصعب بن جثامة لأنه ظن أنه صيد من أجله . والدليل على جوازه ما أخبرنا ابو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد أنا أبو إسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن ابي النضر مولى عمر بن عبيد الله التيمي عن نافع مولى أبي قتادة " عن أبي قتادة بن ربعي الأنصاري رضي الله عنه أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان ببعض طريق مكة ، تخلف مع أصحاب له محرمين وهو غير محرم فرأى حماراً وحشياً فاستوى على فرسه وسأل أصحابه أن يناولوه سوطه فأبوا فأخذه ثم شد على الحمار فقتله، فأكل منه بعض أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم ، وأبى بعضهم فلما أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوه عن ذلك ، فقال : إنما هي طعمة أطعمكموها الله تعالى ." أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب أنا عبد العزيز بن احمد الخلال أنا أبو العباس الأصم أخبرنا الربيع أنا الشافعي أنا إبراهيم بن محمد عن عمرو بن أبي عمرو عن المطلب بن حنطب عن جابربن عبدالله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لحم الصيد لكم في الإحرام حلال ، مالم تصيدوه أو يصاد لكم " ، قال أبو عيسى : المطلب لا نعرف له سماعاً من جابر بن عبد الله رضى الله عنه. وإذا أتلف المحرم شيئاً من الصيد لا مثل له من النعم مثل بيض أو طائر دون الحمام ففيه قيمة يصرفها إلى الطعام ، فيتصدق به أو يصوم عن كل مد يوما ً، واختلفوا في الجراد فرخص فيه قوم للمحرم وقالوا هو من صيد البحر ، روى ذلك عن كعب الأحبار ، والأ كثرون على أنها لا تحل ، فإن أصابها فعليه صدقه ، قال عمر : في الجراد تمرة ، وروي عنه وعن ابن عباس قبضة من طعام.
96. قوله عز وجل: " أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم وللسيارة " ، والمراد بالبحر جميع المياه ، قال عمر رضى الله عنه : (صيده ما اصطيد وطعامه ما رمي به ) وعن ابن عباس وابن عمر وأبي هريرة : طعامه ما قذفه الماء إلى الساحل ميتاً . وقال قوم : هو المالح منه وهو قول سعيد بن جبير وعكرمة و سعيد بن المسيب و قتادة والنخعي . وقال مجاهد : صيده : طريه ، وطعامه :مالحة ، متاعاً لكم أي : منفعة لكم ، وللسيارة يعني: المارة وجملة حيوانات الماء على قسمين : سمك وغيره ، أما السمك فميتته حلال على اختلاف أنواعها ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " أحلت لنا ميتتان ودمان (الميتتان :الحوت والجراد ،والدمان: الكبد والطحال ) "ولا فرق بين أن يموت بسبب أو بغير سبب ،وعند أبي حنيفة لا يحل إلا أن يموت بسبب من وقوع على حجر أو انحسار الماء عنه ونحو ذلك. أما غير السمك فقسمان : قسم يعيش في البر كالضفدع والسرطان ، فلا يحل أكله، وقسم يعيش في الماء ولا يعيش في البر إلا عيش المذبوح ، فاختلف القول فيه ،فذهب قوم إلى أنه لا يحل شئ منها إلا السمك ، وهو معنى قول أبي حنيفة رضى الله عنه وذهب قوم إلى أن (ميت الماء كلها حلال ) ، لأن كلها سمك ،وإن اختلفت صورها ، (كالجريث ) يقال له حية الماء ،وهو على شكل الحية وأكله مباح بالاتفاق ، وهو قول أبي بكر وعمر وابن عمر وابن عباس وزيد بن ثابت وأبي هريرة . وبه قال شريح والحسن وعطاء وهو قول مالك وظاهر مذهب الشافعي . وذهب قوم إلى أن ما له نظير في البر يؤكل ، فميتته من حيوانات البحر حلال ، مثل بقر الماء ونحوه ، ومالا يؤكل نظيره في البر لا يحل ميتته من حيوانات البحر ، مثل كلب الماء والخنزير والحمار ونحوها . وقال الأوزاعي كل شئ عيشه في الماء فهو حلال قيل : فالتمساح ؟ قال نعم . وقال الشعبي : لو أن أهلي أكلوا الضفادع لأطعمتهم ، وقال سفيان الثوري أرجو أن لا يكون بالسرطان بأساً . وظاهر الآية حجة لمن أباح جميع حيوانات البحر ، وكذلك الحديث . أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد أنا أبو إسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن صفوان بن سلمان أنا سعيد بن سلمه من آل بني الأزرق أن المغيرة بن بردة وهو من بني عبد الدار أخبره أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " يا رسول الله إنا نركب في البحر ونحمل معنا القليل من الماء ، فإن توضأنا به عطشنا ، أفتتوضأ بماء البحر ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هو الطهور ماؤه الحل ميتته". أخبرنا عبدالواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا مسدد أنا يحيى عن ابن جريج أخبرني عمر أنه سمع جابراً رضي الله عنه يقول : "غزوت جيش الخبط وأمر أبو عبيدة ، فجعنا جوعاً شديدا فألقى البحر حوتاً ميتاً لم نر مثله ، يقال له العنبر، فأكلنا منه نصف شهر ، فأخذ أبو عبيدة عظماً من عظامه ، فمر الراكب تحته" . وأخبرني أبو الزبير أنه سمع جابراً يقول : "قال أبو عبيدة : كلوا فلما قدمنا المدينة ذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال كلوا رزقا أخرجه الله إليكم ، أطعمونا إن كان معكم فأتاه بعضهم بشيء منه فأكلوا" . قوله تعلى : " وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما واتقوا الله الذي إليه تحشرون " ، صيد البحر حلال للمحرم ، كما هو حلال لغير المحرم ، أما صيد البر فحرام على المحرم وفي الحرم والصيد هو الحيوان الوحشي الذي يحل أكله ، أما ما لا يحل أكله فلا يحرم بسبب الإحرام ، وللمحرم أخذه وقتله ،ولا جزاء على من قتله إلا المتولد بين مالا يؤكل لحمه وما يؤكل، كالمتولد بين الذئب والظبي لا يحل أكله ويجب بقتله الجزاء على المحرم ، لأن فيه جزاء من الصيد . أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد أنا أبو إسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن نافع عن عبد لله بن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جناح : الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور" وروي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " : يقتل المحرم السبع العادي " ، وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "خمس قتلهن حلال في الحرم :الحية والعقرب والحدأة والفأرة والكلب العقور " وقال سفيان بن عيينة : الكلب العقور كل سبع يعقر ، ومثله عن مالك وذهب أصحاب الرأي إلى وجوب الجزاء في قتل مالا يؤكل لحمه ، من الفهد والنمر والخنزير ونحوها إلا الأعيان المذكورة في الخبر ، وقاسوا عليها الذئب فلم يوجبوا فيه الكفار ، وقاس الشافعي رحمه الله عليها جميع ما لا يؤكل لحمه لأن الحديث يشتمل على أعيان بعضها سباع ضارية وبعضها هوام قاتلة وبعضها طير لا يدخل في معنى السباع ولا هي من جمله( الهوام ) ، وإنما هي حيوان مستخبث اللحم ، وتحريم الأكل يجمع الكل فاعتبره ورتب الحكم عليه.
98- قوله عز وجل : " جعل الله الكعبة البيت الحرام " ، قال مجاهد : سميت كعبة لتربيعها ، والعرب تسمي كل بيت مربع كعبةً ، قال مقاتل : سميت كعبة لانفرادها من البناء ، وقيل : سميت كعبة لارتفاعها من الأرض ، وأصلها من الخروج والارتفاع ، وسمي الكعب كعباً لنتوئه ، وخروجه من جانبي القدم ، ومنه قيل للجارية إذا قاربت البلوغ وخرج ثديها : تكعبت . وسمي البيت الحرام : لأن الله تعالى حرمه وعظم حرمته ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الله تعالى حرم مكة يوم خلق السموات والأرض " ." قياماً للناس " ، قرأ ابن عامر " قيماً " بلا ألف والآخرون : (( قياماً )) بالألف ، أي قواماً لهم في أمر دينهم ودنياهم ، أما الدين لأن به يقوم الحج والمناسك ، وأما الدنيا فيما يجبى إليه من الثمرات ، وكانوا يأمنون فيه من النهب والغارة فلا يتعرض لهم أحد في الحرم ، قال الله تعالى : " أولم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم " ( العنكبوت -67) " والشهر الحرام " ، أراد به الأشهر الحرم وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب ، أراد أنه جعل الأشهر الحرم قياماً للناس يأمنون فيها القتال ، " والهدي والقلائد " أراد أنهم كانوا يأمنون بتقليد الهدي ، فذلك القوام فيه .
97- " ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم " ، فإن قيل : أي اتصال لهذا الكلام بما قبله ؟ قيل : أراد أن الله عز وجل جعل الكعبة قياماً للناس لأنه يعلم صلاح العباد كما يعلم ما في السموات وما في الأرض ، وقال الزجاج : قد سبق في هذه السورة الإخبار عن العيوب والكشف عن الأسرار ، مثل قوله ( سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين ) ، ومثل إخباره بتحريفهم الكتب ونحو ذلك ، فقوله " ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض " راجع إليه .
98- وقوله عز وجل " اعلموا أن الله شديد العقاب ، وأن الله غفور رحيم " .
99- " ما على الرسول إلا البلاغ " ، [ التبليغ ] " والله يعلم ما تبدون وما تكتمون " .
100- " قل لا يستوي الخبيث والطيب " ، أي الحلال والحرام ، " ولو أعجبك " ، سرك " كثرة الخبيث " ، نزلت في شريح بن [ ضبيعة ] البكري ، وحجاج بن بكر بن وائل ، " فاتقوا الله " ولا تتعرضوا للحجاج وإن كانوا مشركين ، وقد مضت القصة في أول السورة ، " يا أولي الألباب لعلكم تفلحون " .
101- قوله عز وجل " يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم " ،الآية أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا حفص بن عمر أنا هشام عن قتادة عن أنس رضي الله عنه : "سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه بالمسألة ، فغضب فصعد المنبر فقال : لا تسألوني اليوم عن شيء إلا بينته لكم فجعلت أنظر يميناً وشمالاً فإذا كل رجل لاف رأسه في ثوبه يبكي ، فإذا رجل كان إذا لا حى الرجال يدعى لغير أبيه ، فقال : يا رسول الله من أبي؟ قال: حذافة : ثم أنشأ عمر، فقال: رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً، نعوذ بالله من الفتن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما رأيت في الخير والشر كاليوم قط، إني صورت لي الجنة والنار حتى رأيتهما وراء الحائط "، وكان قتادة يذكر عند هذا الحديث هذه الآية " يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم " . قال يونس عن ابن شهاب :أخبرني عيد الله بن عبد الله قال: قالت أم عبد الله بن حذافة لعبد الله بن حذافة: ما سمعت بابن قط أعمق منك، أأمنت أن تكون أمك قد قارفت بعض ما تقارف نساء أهل الجاهلية فتفضحها على أعين الناس؟ قال عبد الله بن حذافة والله لو الحقني بعبد أسود للحقته. وروي عن عمر قال: يا رسول الله إنا حديثو عهد بجاهلية فاعف عنا يعف الله سبحانه وتعالى عنك، فسكن غضبه. أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا الفضل بن سهل أخبرنا أبو النضر أنا أبو خيثمة أنا أبو جويرية عن ابن عباس قال:كان قوم يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم استهزاءً، فيقول الرجل: من أبي؟ ويقول الرجل تضل ناقته: أين ناقتي؟ فأنزل الله فيهم هذه الآية " يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم " حتى فرغ من الآية كلها .وروي عن علي رضي الله عنه قال:" لما نزلت: " ولله على الناس حج البيت " قال رجل: يا رسول الله أفي كل عام فأعرض عنه حتى عاد مرتين أو ثلاثاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ما يؤمنك أن أقول نعم ؟ والله لو قلت نعم لوجبت، ولو وجبت ما استطعتم، فاتركوني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه "، فأنزل الله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم" أي: إن تظهر لكم تسؤكم،أي: إن أمرتم بالعمل بها فإن من سأل عن الحج لم يأمن أن يؤمر به في كل عام فيسوءه،ومن سأل عن نسبه لم يأمن من أن يلحقه بغيره فيفتضح . وقال مجاهد : نزلت حين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البحيرة والسائبة والوصيلة والحمام، ألا تراه ذكرها بعد ذلك؟ " وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم "، / معناه صبرتم حتى ينزل القرآن بحكم من فرض أو نهى أو حكم، وليس في ظاهره شرح ما بكم إليه حاجة ومست حاجاتكم إلية، فإذا سألتم عنها حينئذ تبد لكم ،" عفا الله عنها والله غفور حليم "
102- " قد سألها قوم من قبلكم "، كما سألت ثمود صالحاً الناقة وسأل قوم عيسى المائدة " ثم أصبحوا بها كافرين "، فأهلكوا، قال أبو ثعلبةالخشني (إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها وحد حدوداً فلا تعتدوها، وعفا عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها).
103- قوله عز وجل :" ما جعل الله من بحيرة "أي: ما أنزل الله ولا أمر به، " ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام "، قال ابن عباس في بيان هذه [الأوضاع]: البحيرة هي الناقة كانت إذا ولدت خمسة أبطن بحروا أذنها، أي: شقوها وتركوا الحمل عليها وركوبها، ولم يجزوا وبرها ولم يمنعوها الماء والكلأ، ثم نظروا إلى خامس ولدها فإن كان ذكراً نحروه وأكله الرجال والنساء، وإن كان أنثى بحروا أذنها، أي: شقوها وتركوها وحرم على النساء لبنها ومنافعها، وكانت منافعها خاصة للرجال، فإذا ماتت حلت للرجال والنساء . وقيل: كانت الناقة إذا تابعت اثنتي عشرة سنة إناثاً سيبت فلم يركب ظهرها ولم يجز وبرها ولم يشرب لبنها إلا ضيف، فما نتجت بعد ذلك من أنثى شق أذنها ثم خلي سبيلها مع أمها في الإبل، فلم تركب ولم يجز وبرها ولم يشرب لبنها إلا ضيف، كما فعل بأمها ، فهي البحيرة بنت السائبة . وقال أبو عبيد : السائبة البعير الذي يسيب، وذلك أن الرجل من أهل الجاهلية كان إذا مرض وغاب له قريب نذر فقال إن شفاني الله تعالى أو شفي مريض أو رد غائبي فناقتي هذه سائبة، ثم يسيبها فلا تحبس عن رعي ولا ماء ولا يركبها أحد فكانت بمنزلة البحيرة . وقال علقمه : هو العبد يسيب على أن لا ولاء عليه ولا عقل ولا ميراث.وقال صلى الله عليه وسلم: " إنما الولاء لمن أعتق" . والسائبة فاعلة بمعنى المفعولة، وهي المسيبة، كقوله تعالى " ماء دافق " أي: مدفوق " عيشة راضية " . وأما الوصيلة: فمن الغنم كانت الشاة إذا ولدت سبعة أبطن نظروا فإن كان السابع ذكرأ ذبحوه فأكل منه الرجال والنساء، وإن كانت انثى تركوها في الغنم وإن كان ذكراً وأنثى استحيوا الذكر من أجل الأنثى، وقالوا: وصلت أخاها فلم يذبحوه، وكان لبن الأنثى حراماً على النساء، فإن مات منها شيء أكله الرجال والنساء جميعا . وأما الحام: فهو الفحل إذا ركب ولده، ويقال: إذا نتج من صلبه عشرة أبطن ، قالوا حمي ظهره فلا يركب ولا يحمل عليه ولا يمنع من كلأ ولا ماء، فإذا مات أكله الرجال والنساء . أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا إبراهيم بن سعد عن صالح بن كيسانعن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب قال: البحيرة التي يمنح درها للطواغيت فلا يحلبها أحد من الناس، والسائبة كانوا يسيبونها لآلهتهم لا يحمل عليها شيء . قال أبو هريرة: [قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " رأيت عمر بن عامر الخزاعي يجر قصبة في النار ، وكان أول من سيب السوائب " . روى محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم التيميعن أبي صالح السمان عن أبي هريرة]:قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لاكثم بن جون الخزاعي: "يا أكثم رأيت عمرو بن لحي بن قمعة [بن خندق] يجر قصبه في النار فما رأيت من رجل أشبه برجل منك به ولا به منك وذلك أنه أول من غير دين إسماعيل ونصب الأوثان وبحر البحيرة وسيب السائبة، ووصل الوصيلة وحمى الحام، فلقد رأيته في النار يؤذي أهل النار بريح قصبه ، فقال أكثم: أيضرني شبهه يا رسول الله ؟ فقال : لا إنك مؤمن وهو كافر" . قوله عز وجل: " ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب "، في قولهم الله أمرنا بها " وأكثرهم لا يعقلون " .
104- " وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول "، في تحليل الحرث والأنعام وبيان الشرائع والأحكام، "قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا " من الدين، قال الله تعالى: : " أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون " .
105- قوله عز وجل " يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم "روينا عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية " يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم "، وتضعونها في غير موضعها ولا تدرون ما هي، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الناس إذا رأوا منكر فلم يغيروه يوشك أن يعمهم الله تعالى بعقابه ". وفي رواية " لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليستعملن الله سبحانه وتعالى عليكم شراركم فليسومونكم سوء العذاب، ثم ليدعون الله عز وجل خياركم فلا يستجاب [لكم]". قال أبو عبيد: خاف الصديق أن يتأول الناس الآية على غير متأولها فيدعوهم إلى ترك الأمر بالمعروف[والنهي عن المنكر]، فأعلمهم أنها ليست كذلك وأن الذي أذن في الإمساك عن تغييره من المنكر، هو الشرك الذي ينطق به المعاهدون من أجل أنهم يتدينون به، وقد صولحوا عليه ، فأما الفسوق والعصيان والريب من أهل الإسلام فلا يدخل فيه . وقال مجاهد و سعيد بن جبير : الآية في اليهود والنصارى، يعني: عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل من أهل الكتاب فخذوا منهم الجزية واتركوهم . وعن ابن مسعود قال في هذه الآية : مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر ما قبل منكم فإن رد عليكم فعليكم أنفسكم،ثم قال: إن القرآن قد نزل منه آي :قد مضى تأويلهن قبل أن ينزلن، ومنه آي: قد وقع تأويلهن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومنه آي يقع بأولهن بعد رسول الله بيسير، ومنه آي يقع تأويلهن في آخر الزمان، ومنه آي: يقع تأويلهن يوم القيامة، ما ذكر من الحساب والجنة والنار، فما دامت قلوبكم وأهواؤكم واحدة ولم تلبسوا شيعا ولم يذق بعضكم بأس بعض، فأمروا وانهوا، وإذا اختلفت القلوب والأهواء وألبستم شيعا، وذاق بعضكم بأس بعض، فأمرؤ ونفسه، فعند ذلك جاء تأويل هذه الآية . أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا أبو جعفر أحمد بن محمد العنزي أخبرنا عيسى بن نصر أنا عبد الله بن المبارك أنا عتبة بن أبي حكيم حدثني عمر بن جاريه اللخمي أنا أبو أمنه الشعباني قال: أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت:" يا أبا ثعلبة كيف تصنع في هذه الآية ؟ قال: أية آية؟ قلت: قول الله عز وجل " عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم "، فقال: أما والله لقد سألت عنها خبيراً، سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، ورأيت أمرا لا بد لك منه فعليك نفسك ودع أمر العوام، فإن من ورائكم أيام الصبر، فمن صبر فيهن قبض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله " قال ابن المبارك : وزادني غيره "قالوا: يا رسول الله أجر خمسين منهم ؟ قال: أجر خمسين منكم " . وقيل: نزلت في أهل الأهواء، قال أبو جعفر الرازي : دخل على صفوان بن محرز شاب من أهل الأهواء فذكر شيئا من أمره، فقال صفوان ألا أدلك على خاصة الله التي خص بها أولياءه: " يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم " . قولة عز وجل: " إلى الله مرجعكم جميعا "، الضال والمهتدي، " فينبئكم بما كنتم تعملون ".
106- قولة عز وجل " يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم "، سبب نزول هذه الآية ما روي أن تميم بن أوس الداري وعدي بن [بداء] قد خرجا من المدينة للتجارة إلى أرض الشام، وهما نصرانيان، ومعهما بديل مولى عمر بن العاص ، وكان مسلما فلما اشتد وجعه أوصى إلى تميم وعدي، وأمرهما أي يدفعا متاعه إذا رجعا إلى أهله، ومات بديل ففتشا متاعه وأخذ منه إناء من فضة منقوشا بالذهب فيه ثلاثمائة مثقال فضة فغيباه، ثم قضيا حاجتهما، فانصرفا إلى المدينة، فدفعا المتاع إلى أهل البيت، ففتشوا وأصابوا الصحيفة فيها تسمية ما كان معه فجاؤوا تميما وعديا فقالوا: هل باع صاحبنا شيئا من متاعه، قالا: لا، قالوا فهل اتجر تجارة ؟ قالا: لا، قالوا: هل طال مرضه فأنفق على نفسه ؟ قالا: لا، فقالوا: إنا وجدنا في متاعه صحيفة فيها تسمية ما كان معه وإنا قد فقدنا منها إناء من فضة مموها بالذهب فيه ثلاثمائة مثقال فضة، قالا: ما ندري إنما أوصى لنا بشيء فامرنا أن ندفعه إليكم فدفعناه وما لنا علم بالإناء، فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأصر على الإنكار ، وحلفا فأنزل الله عز وجل هذه الآية " يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان " أي: ليشهد اثنان، لفظه خبر ومعناه أمر قيل: معناه: أن الشهادة فيما بينكم على الوصية عند الموت اثنان، واختلفوا في هذين الاثنين، فقال قوم هما الشاهدان اللذان يشهدان على وصية الموصي. وقال آخرون: هما الوصيان، لأن الآية نزلت فيهما ولأنه قال: " تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان "، ولا يلزم الشاهد يمين، وجعل الوصي اثنين تأكيدا فعلى هذا تكون الشهادة بمعنى الحضور، كقولك: شهدت وصية فلان، بمعنى حضرت، قال الله تعالى:" وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين " (النور-2)، يريد الحضور، " ذوا عدل " أي: أمانة وعقل،" منكم "،أي: من أثل دينكم يا معشر المؤمنين، " أو آخران من غيركم "، أي: من غير دينكم وملتكم في قول أكثر المفسرين، قاله أبن عباس و أبو موسى الأشعري وهو قول سعيد بن المسيب و أبراهيم النخعي و سعيد بن جبير و مجاهد و وعبيد . ثم أختلف هؤلاء في حكم الآية فقال النخعي وجماعة: هي منسوخة وكانت شهادة أهل الذمة مقبولة في الابتداء ثم نسخت . وذهب قوم إلى أنها ثابتة، وقالوا: إذا لم نجد مسلمين فنشهد كافرين . وقال شريح : من كان بأرض غربة ولم يجد مسلما يشهده على وصيته فأشهد كافرين على أي دين كانا من دين أثل الكتاب أو عبدة الأوثان ، فشهادتهم جائزة، ولا تجوز شهادة كافر على مسلم إلا على وصية في سفر. وعن الشعبي أن رجلا من المسلمين حضرته الوفاة بدقوقا ولم يجد مسلما يشهده على وصيته فأشهد رجلين من أهل الكتاب، فقدما الكوفة بتركته وأتيا الأشعري فقال الأشعري : هذا أمر لم يكن بعد الذي كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فأحلفهما، وأمضى شهادتهما . وقال آخرون: قوله " ذوا عدل منكم " أي: من حي الموصي أو آخران من غير حيكم وعشيرتكم، وهو قول الحسن و الزهري و عكرمة ، وقالوا: لا تجوز شهادة كافر في شيء من الأحكام، " إن أنتم ضربتم "، أي سرتم وسافرتم، "في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت "، فأوصيتم إليهما ودفعتم إليهما مالكم فاتهمهما بعض الورثة وادعوا عليهما خيانة فاحكم فيه أن " تحبسونهما "، أي: تستوقفونهما، " من بعد الصلاة "، أي: بعد الصلاة، و " من " صلة يريد بعد الصلاة، هذا قول الشعبي و النخعي و سعيد بن جبير و قتادة وعامة المفسرين، لأن جميع أهل الأديان يعظمون ذلك الوقت، ويجتنبون فيه الحلف الكاذب، وقال الحسن : أراد من صلاة الظهر، وقال السدي : من بعد صلاة أهل دينهما وملتهما لأنهما لا يباليان بصلاة العصر، " فيقسمان "، يحلفان، " بالله إن ارتبتم " ، أي : شككتم ووقعت لكم الريبة في قول الشاهدين وصدقهما، أي: في قول اللذين ليسا من أهل ملتكم، فإن كانا مسلمين فلا يمين عليهما، " لا نشتري به ثمنا "، أي: لا نحلف بالله كاذبين على عوض نأخذه أو مال نذهب به أو حق نجحده ، " ولو كان ذا قربى "، ولو كان المشهود له ذا قرابة منا، " ولا نكتم شهادة الله " أضاف الشهادة إلى الله لأنه أمر بإقامتها ونهى عن كتمانها، وقرأ يعقوب " شهادة" بتنوين " الله " ممدود ، وجعل الاستفهام عوضا عن حرف القسم ، ويروى عن أبي جعفر " شهادة "، بتنوين " الله " بقطع الألف وكسر الهاء من غير استفهام على ابتداء اليمين، أي: والله، " إنا إذا لمن الأثمين "، أي إن كتمناها كنا من الآثمين . فلما نزلت هذه الآية صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العصر ودعا تميما وعديا فاستحلفهما عند المنبر بالله الذي لا إله إلا هو أنهما لم يختانا شيئا مما دفع إليهما فحلفا على ذلك ، وخلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سبيلهما . ثم ظهر الإناء واختلفوا في كيفية ظهوره، فروى سعيد بن جبير عن أبن عباس رضي الله عنهم أنه وجد بمكة ، فقالوا: إنا اشتريناه من تميم وعدي، وقال آخرون: لما طالت المدة أظهروه فبلغ ذلك بني سهم فأتوهما في ذلك، فقالا: إنا كنا قد اشتريناه منه فقالوا، لهما: ألم تزعما أن صاحبنا لم يبع شيئا من متاعه ؟ قالا: لم يكن عندنا بينه وكرهنا/أن نقر لكم به فكتمناه لذلك، فرفعهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
107- فأنزل الله عز وجل " فإن عثر "، أي: اطلع على خيانتهما، وأصل العثور: الوقوع على الشيء ، "على أنهما "، يعني: الوصيين " استحقا "، استوجبا " إثما "، بخيانتهما وبإيمانهما الكاذبة، " فآخران " من أولياء الميت، "يقومان مقامهما "، يعني: مقام الوصيين،" من الذين استحق "، بضم التاء على المجهول، هذه قراءة العامة، يعني: الذين استحق " عليهم " ، أي فيهم ولأجلهم الإثم وهم ورثة الميت استحق الحالفان بسببهم الإثم و (على) بمعنى في، كما قال الله "على ملك سليمان" (البقرة -102) أي: في ملك سليمان، وقرأ حفص (أستحق) بفتح التاء والحاء، وهي قراءة علي والحسن، أي: حق ووجب عليهم الإثم، يقال: حق واستحق بمعنى واحد، " الأوليان "، نعت للآخران ، أي: فآخران الأوليان، وإنما جاز ذلك و" الأوليان " معرفة والآخران نكرة لأنه لما وصف ال آخران فقال " من الذين " صار كالمعرفة و" الأوليان " تثنية الأولى، ولأولى هو الأقرب، وقرأ حمزة وأبوبكر مع عاصم و يعقوب " الأولين " بالجمع فيكون بدلا من الذين، والمراد منهم أيضا أولياء الميت . ومعنى الآية: إذا ظهرت خيانة الحالفين يقوم اثنان آخران من أقارب الميت،" فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما "، يعني: يميننا أحق من يمينهما، نظيرة قوله تعالى في اللعان: " فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله ".(النور-6).والمراد بها الأيمان، فهو كقول القائل: أشهد بالله، أي: أقسم بالله، " وما اعتدينا "، في أيماننا، وقولنا أن شهادتنا أحق من شهادتهما، " إنا إذا لمن الظالمين " . فلما نزلت هذه الآية قام عمرو بن العاص والمطلب بن أبي وداعة السهميان، فحلفا بالله بعد العصر فدفعا الإناء إليهما وإلى أولياء الميت، وكان تميم الداري بعدما أسلم يقول صدق الله ورسوله أنا أخذت الإناء، فأتوب إلى الله وأستغفره، وإنما انتقل اليمين إلى الأولياء لأن الوصيين ادعيا أنهما ابتاعاه . والوصي إذا أخذ شيئا من مال الميت وقال: إنه أوصى لي به حلف الوارث، إذا أنكر ذلك، وكذلك لو ادعى رجل سلعة في يد رجل فاعترف ثم ادعى أنه اشتراها من المدعي، حلف المدعي أنه لم يبعها منه . ويروى عن ابن عباس رضي الله عنهما عن تميم الداري قال:كنا بعنا الإناء بألف درهم فقسمتها أنا وعدي، فلما أسلمت تأثمت فأتيت موالي الميت فأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها فأتوا به إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وحلف عمرو والمطلب فنزعت الخمسمائة من عدي، ورددت أنا الخمسمائة .
108- فذلك قوله تعالى " ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها "، أي: ذلك الذي حكمنا به من رد اليمين أجدر وأحرى أن يأتي الوصيان بالشهادة على وجهها وسائر الناس أمثالهم، أي أقرب إلى الإتيان بالشهادة على ما كانت، " أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم "، أي: أقرب إلى أن يخافوا رد اليمين بعد يمينهم على [المدعي] فيحلفوا على خيانتهم وكذبهم فيفتضحوا ويغرموا فلا يحلفون كاذبين إذا خافوا هذا الحكم، " واتقوا الله "، أن تحلفوا أيمانا كاذبة أو تخونوا أمانة، " واسمعوا"، الموعظة،" والله لا يهدي القوم الفاسقين " .
109- قوله عز وجل " يوم يجمع الله الرسل "، وهو يوم القيامة، "فيقول ماذا أجبتم "، أي: ماذا أجابتكم أمتكم؟ وما الذي رد عليكم قومكم حين دعوتموهم إلى توحيدي وطاعتي ؟ " قالوا "، أي فيقولون " لا علم لنا "، قال أبن عباس معناه: لا علم لنا إلا العلم الذي أنت أعلم به منا وقيل : لا علم لنا بوجه الحكمة عن سؤالك إيانا عن أمر أنت أعلم به منا، وقال ابن جريح :لا علم لنا بعاقبة أمرهم وبما أحدثوا من بعد، دليله أنه قال: " إنك أنت علام الغيوب "، أي: أنت الذي تعلم ما غاب ونحن لا نعلم إلا ما نشاهد . أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا مسلم بن إبراهيم أنا وهيب أنا عبد العزيز عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وليردن علي ناس من أصحابي الحوض حتى إذا عرفتهم اختلجوا دوني، فأقول: أصحابي، فيقال: لا تدري ما أحدثوا بعدك " . وقال ابن عباس والحسن ومجاهد والسدي: إن للقيامة أهوالاً وزلازل تزول فيها القلوب عن مواضعها، فيفزعون من هول ذلك اليوم ويذهلون عن الجواب، ثم بعدما ثابت إليهم عقولهم يشهدون على أممهم .
110- قوله تعالى:" إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك "، قال الحسن : ذكر النعمة شكرها، وأراد بقوله " نعمتي "، أي نعمي،[ قال الحسن]: لفظه واحد ومعناه جمع، كقوله تعالى " وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها "،" وعلى والدتك "، مريم ثم ذكر النعم فقال: " إذ أيدتك "، قويتك، "بروح القدس "، يعني جبريل عليه السلام، "تكلم الناس"، يعني :وتكلم الناس، "في المهد "، صبيا، "وكهلاً"، نبياً قال أبن عباس: أرسله الله وهو ابن ثلاثين سنة، فمكث في رسالته ثلاثين شهراً ثم رفعه الله إليه، " وإذ علمتك الكتاب "، يعني الخط، " والحكمة "، يعني: العلم والفهم، " والتوراة والإنجيل وإذ تخلق "، تجعل وتصور، " من الطين كهيئة الطير "، كصورة الطير " بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا " حيا يطير ، " بإذني وتبرئ " وتصحح " الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى "، من قبورهم أحياء، " بإذني وإذ كففت "، منعت وصرفت، " بني إسرائيل "، يعني اليهود، " عنك "، حين هموا بقتلك، " إذ جئتهم بالبينات "، يعني: الدلالات والمعجزات، وهي التي ذكرنا . " فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين "، يعني : ما جاءهم به من البينات، قرأ حمزة و الكسائي "ساحر مبين " ها هنا وفي سورة هود والصف، فيكون راجعاً إلى عيسى عليه السلام، وفي هود يكون راجعاً إلى محمد صلى الله عليه وسلم .
111- " وإذ أوحيت إلى الحواريين "، ألهمتهم وقذفت في قلوبهم، وقال أبو عبيد يعني أمرت و" إلى " صلة، والحواريون خواص أصحاب عيسى عليه السلام، "أن آمنوا بي وبرسولي "، [عيسى] " قالوا " حين وفقتهم " آمنا واشهد بأننا مسلمون ".
112- "إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك " قرأ الكسائي (هل تستطيع )بالتاء (ربك )بنصب الباء وهو قراءة علي وعائشة وابن عباس و مجاهد ، أي: هل تستطيع أن تدعو وتسأل ربك، وقرأ الآخرون (هل يستطيع) بالياء و(ربك) برفع الباء، ولم يقولوه شاكين في قدرة الله عز وجل، ولكن معناه: هل ينزل ربك أم لا ؟ كما يقول الرجل لصاحبه هل تستطيع أن تنهض معي وهو يعلم أنه يستطيع، وإنما يريد هل يفعل ذلك أم لا، وقيل: يستطيع بمعنى يطيع، يقال: أطاع واستطاع بمعنى واحد، كقولهم: أجاب واستجاب، معناه: هل يطيعك ربك بإباحة سؤالك ؟ وفي الآثار من أطاع الله أطاعه الله، وأجرى بعضهم على الظاهر، فقالوا: غلط القوم، وقالوه قبل استحكام المعرفة وكانوا بشرا، فقال لهم عيسى عليه السلام عند الغلط، استعظاماً لقولهم " اتقوا الله إن كنتم مؤمنين" أي: لا تشكوا في قدرته . " أن ينزل علينا مائدة من السماء "، المائدة الخوان الذي عليه الطعام، وهي فاعلة من: مادة يميده إذا أعطاه وأطعمه، كقوله مارة يميره ، وامتاد: افتعل منه، والمائدة هي المطعمة للآكلين الطعام، وسمي الطعام أيضاً مائدة على الجواز، لأنه يؤكل على المائدة، وقال أثل الكوفة: سميت مائدة لأنها تميد بالآكلين، أي تميل. وقال أهل البصرة فاعلة بمعنى المفعول، أي تميد بالآكلين إليها، كقوله تعالى " عيشة راضية " أي: مرضية، " قال "، عيسى عليه السلام مجيباً لهم: " اتقوا الله إن كنتم مؤمنين "، فلا تشكوا في قدرته، وقيل: اتقواالله أن تسألوه شيئاً لم يسأله الأمم قبلكم، فنهاهم عن اقتراح الآيات بعد الإيمان .
113- " قالوا نريد "، إنما سألنا لأنا نريد، " أن نأكل منها "، أكل تبرك لا أكل حاجة فنستيقن قدرته، " وتطمئن "، وتسكن، " قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا "، بأنك رسول الله، أي: نزداد إيماناً ويقيناً، وقيل: إن عيسى ابن مريم أمرهم أن يصوموا ثلاثين يوماً، فإذا أفطروا لا يسألون الله شيئاً إلا أعطاهم، ففعلوا وسألوا المائدة، وقالوا: " ونعلم أن قد صدقتنا " في قولك، إنا إذا صمنا ثلاثين يوماً لا نسأل الله تعالى شيئاً إلا أعطانا، " ونكون عليها من الشاهدين " لله بالوحدانية والقدرة، ولك بالنبوة والرسالة، وقيل: ونكون من الشاهدين لك عند بني إسرائيل إذا رجعنا إليهم
114- " قال عيسى ابن مريم "، عند ذلك، " اللهم ربنا أنزل علينا مائدةً من السماء "، وقيل: إنه اغتسل وليس المسح وصلى ركعتين وطأطأ رأسه وغض بصرة وبكى، ثم قال: اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء،" تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا " ، أي: عائدة من الله علينا حجة وبرهاناً، والعيد: يوم السرور، سمي به للعود من الترح إلى الفرح، وهو اسم لما أعتدته ويعود إليك، وسمي يوم الفطر والأضحى عيد لأنهما يعودان كل سنة، قال السدي : معناه نتخذ اليوم الذي أنزلت فيه عيداً لأولنا وآخرنا، أي: نعظمة نحن ومن بعدنا، وقال سفيان: نصلي فيه، قوله " لأولنا " أي : لأهل زماننا " وآخرنا " ، أي: يجيء بعدنا،وقال أبن عباس: يأكل منها آخر الناس كما أكل أولهم، " وآية منك "، دلالة وحجة، " وارزقنا وأنت خير الرازقين " .
115- " قال الله "، تعالى مجيباً لعيسى عليه السلام، " إني منزلها عليكم "، يعني: المائدة وقرأ أهل المدينة و ابن عامر و عاصم (منزلها) بالتشديد لأنها نزلت مرات، والتفعيل يدل على التكرير مرة بعد أخرى، وقرأ الآخرون بالتخفيف لقوله : أنزل علينا، " فمن يكفر بعد منكم "، أي: بعد نزول المائدة " فإني أعذبه عذابا "، أي جنس عذاب، " لا أعذبه أحداً من العالمين "، يعني: عالمي زمانه، فجحد القوم وكفروا بعد نزول المائدة فمسخوا قردة وخنازير، قال عبد الله بن عمرو: إن اشد الناس عذاباً يوم القيامة المنافقون ومن كفر من أصحاب المائدة وآل فرعون . واختلف العلماء في المائدة هل نزلت أم لا ؟ فقال مجاهد و الحسن : لم تنزل لأن الله عز وجل لما أوعدهم على كفرهم بعد نزول المائدة خافوا أن يكفر بعضهم فاستعفوا، وقالوا: لا نريدها، فلم تنزل، وقوله: (إني منزلها عليكم)، يعني: إن سألتم . والصحيح الذي عليه الأكثرون: أنها نزلت، لقوله تعالى:" إني منزلها عليكم "، ولا خلف في خبره، لتواتر الأخبار فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين . واختلفوا في صفتها فروى خلاس بن عمرو عن عمار بن ياسر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها نزلت خبزاً ولحماً، وقيل لهم: إنها مقيمة لكم ما لم تخونوا [وتخبؤوا]فما مضى يومهم حتى خانوا وخبؤوا فمسخوا قردة وخنازير . وقال ابن عباس رضي الله عنهما: إن عيسى عليه السلام قال لهم: صوموا ثلاثين يوماً ثم سلوا الله ما شئتم يعطكموه، فصاموا فلما فرغوا قالوا: يا عيسى إنا لو عملنا لأحد فقضينا عمله لأطعمنا، وسألوا الله المائدة فأقبلت الملائكة بمائدة يحملونها، عليها سبعة أرغفة وسبعة أحوات حتى وضعتها بين أيديهم، فأكل منها آخر الناس كما أكل أولهم . قال كعب الأحبار : نزلت [مائدة ] منكوسة تطير بها الملائكة بين السماء والأرض، عليها كل الطعام إلا اللحم. وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: أنزل على المائدة كل شيء إلا الخبز واللحم، قال قتادة كان عليها ثمر من ثمار الجنة . وقال عطية العوفي : نزلت من السماء سمكة فيها طعم كل شيء . وقال الكلبي : كان عليها خبز ورز ويقل . وقال وهب بن منبه: أنزل الله أقرصة من شعير وحيتاناً وكان قوم يأكلون ثم يخرجون ويجيء آخرون فيأكلون حتى أكلوا جميعهم وفضل . وعن الكلبي و مقاتل : أنزل الله خبزاً وسمكاً وخمسة أرغفة، فأكلوا ما شاء الله تعالى،والناس ألف ونيف فلما رجعوا إلى قراهم، ونشروا الحديث ضحك منهم من لم يشهد، وقالوا: ويحكم إنما ليس فيهم صبي ولا امرأة، فمكثوا بذلك ثلاثة أيام ثم هلكوا، ولم يتوالدوا ولم يأكلوا ولم يشربوا، وكذلك كل ممسوخ. وقال قتادة كانت تنزل عليهم بكرة وعشياً حيث كانوا كالمن والسلوى لبني إسرائيل، وقال عطاء بن أبي رباح عن سلمان الفارسي لما سأل الحواريون المائدة لبس عيسى عليه السلام صوفاً وبكى، وقال: " اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء" الآية فنزلت سفرة حمراء بين غمامين غمامة من فوقها وغمامة من تحتها، وهم ينظرون إليها وهي تهوى منقضة حتى سقطت بين أيديهم فبكى عيسى، وقال: اللهم اجعلني من الشاكرين اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها عقوبة، واليهود ينظرون إلى شيء لم يروا مثله قط ولم يجدوا ريحاً أطيب من ريحه ، فقال عيسى عليه السلام: ليقم أحسنكم عملاً فيكشف عنا ويذكر اسم الله تعالى، فقال شممعون الصفار رأس الحواريين: أنت أولى بذلك منا [فقام عيسى عليه السلام ] فتوضأ وصلى صلاة طويلة وبكى كثيراً ثم كشف المنديل عنا، وقال: بسم الله خير الرازقين فإذا هو سمكة مشوية ليس عليها فلوسها ولا شوك عليها تسيل من الدسم وعند رأسها ملح وعند ذنبها خل، وحولها من ألوان البقول ما خلا الكراث ، وإذا خمسة أرغفة على واحد زيتون، وعلى الثاني عسل، وعلى الثالث سمن، وعلى الرابع جبن، وعلى الخامس قديد، فقال شمعون: يا روح الله أمن طعام الدنيا هذا أم من/طعام الآخرة ؟ فقال: ليس شيء مم ترون من طعام الدنيا ولا من طعام الآخرة، ولكنه شيء افتعله الله تعالى بالقدرة الغالبة ،كلوا مما سألتم يمددكم ويزدكم من فضله، قالوا: يا روح الله كن أول من يأكل مناه،, فقال عيسى عليه السلام: معاذ الله أن آكل منها ولكن يأكل منها من سألها فخافوا أن يأكلوا منها، فدعا لها أهل الفاقة والمرض وأهل البرص والجذام والمقعدين والمبتلين، فقال: كلوا من رزق الله ولكم المهنأ ولغيركم البلاء،فأكلوا وصدر عنها ألف وثلاثمائة رجل وامرأة من فقير ومريض وزمن ومبتلى كلهم شبعان، وإذا السمكة بهيئتها حين نزلت، ثم طارت سفرة المائدة صعداً وهم ينظرون إليها حتى توارت، فلم يأكل منها فلبثت أربعين صباحاً تنزل ضحى، فإذا نزلت اجتمعت الأغنياء والفقراء والصغار والكبار والرجال والنساء،ولا تزال منصوبة يؤكل منها حتى إذا فاء الفيء طارت وهم ينظرون في ظلها حتى توارت عنهم، وكانت تنزل غباً تنزل يوماً ولا تنزل يوماً كناقة ثمود، فأوحى الله تعالى [إلى عيسى عليه السلام ]: اجعل مائدتي ورزقي للفقراء دون الأغنياء فعظم ذلك على الأغنياء حتى شكوا وشككوا الناس فيها، وقالوا: أترون المائدة حقاً تنزل من السماء ؟ فأوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السلام: إني شرطت أن من كفر بعد نزولها عذبته عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين، فقال عيسى عليه السلام: (أن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ) فمسخ منهم ثلاثمائة وثلاثون رجلا باتوا من ليلتهم على فرشهم مع نسائهم فأصبحوا خنازير يسعون في الطرقات والكناسات، ويأكلون العذرة في الحشوش فلما رأى الناس ذلك فزعوا إلى عيسى عليه السلام وبكوا فلما أبصرت الخنازير عيسى عليه السلام بكت وجعلت تطيف بعيسى عليه السلام وجعل عيسى يدعوهم بأسمائهم فيشيرون برؤسهم ويبكون ولا يقدرون على الكلام، فعاشوا ثلاثة أيام ثم هلكوا .
116- قوله عز وجل " وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله "، واختلفوا في أن هذا القول متى يكون، فقال السدي : قال الله تعالى القول لعيسى عليه السلام حين رفعه إلى السماء لأن حرف (إذ) يكون للماضي، وقال سائر المفسرين: إنما يقول الله له هذا القول يوم القيامة بدليل قوله [من قبل]: "يوم يجمع الله الرسل" (المائدة-109). وقال من بعدها "هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم"(المائدة، 119)، وأراد يهما يوم القيامة، وقد تجيء (إذ) كقوله عز وجل:"ولو ترى إذ فزعوا" أي: إذا فزعوا[يوم القيامة]، والقيامة وإن لم تكن بعد ولكنها كالكائنة لأنها آتية لا محالة . قوله: " أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله "؟ فإن قيل: فما وجه هذا السؤال مع علم الله عز وجل أن عيسى لم يقله ؟ قيل هذا السؤال عنه لتوبيخ قومه وتعظيم أمر هذه المقالة كما يقول القائل لآخر: أفعلت كذا وكذا ؟ فيما يعلم أنه لم يفعله، إعلاماً واستعظاماً لا استخباراً واستفهاماً . وأيضاً: أراد الله عز وجل أن يقر [عيسى عليه السلام عن] نفسه بالعبودية، فيسمع قومه، ويظهر كذبهم عليه أنه أمرهم بذلك، قال أبو روق : إذا سمع عيسى عليه السلام هذا الخطاب أرعدت مفاصله وانفجرت من أصل كل شعرة في جسده عين من دم، ثم يقول مجيبا لله عز وجل: " قال سبحانك " ، تنزيهاً وتعظيماً لك " ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك "، قال ابن عباس: تعلم ما في غيبي ولا أعلم ما في غيبك، وقيل معناه: تعلم سري ولا أعلم سرك، وقال أبو روق تعلم ما كان مني في دار الدنيا ولا أعلم ما يكون منك في الآخرة، وقال الزجاج : النفس عبارة عن جملة الشيء وحقيقته، يقول: تعلم جميع ما أعلم من حقيقة أمري ولا أعلم حقيقة أمرك، " إنك أنت علام الغيوب "، ما كان وما يكون .
117- " ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم "، [وحدوه]ولا تشركوا به شيئاً، " وكنت عليهم شهيداً ما دمت "، أقمت " فيهم فلما توفيتني "، قبضتني ورفعتني إليك، " كنت أنت الرقيب عليهم " والحفيظ عليهم، تحفظ أعمالهم،" وأنت على كل شيء شهيد " .
118- قوله تعالى " إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم "، فإن قيل كيف طلب المغفرة لهم وهم كفار، وكيف قال: وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم، وهذا لا يليق بسؤال المغفرة، قيل: أما الأول فمعناه إن تعذبهم بإقامتهم على كفرهم وإن تغفر لهم بعد الإيمان وهذا يستقيم على قول السدي : إن هذا السؤال قبل يوم القيامة لأن الإيمان لا ينفع في القيامة . وقيل: هذا في فريقين منهم، معناه: إن تعذب من كفر منهم وإن تغفر لمن آمن منهم . وقيل: ليس هذا على وجه طلب المغفرة ولو كان كذلك لقال: فإنك أنت الغفور الرحيم، ولكنه على تسليم الأمر وتفويضه إلى مراده . وأما السؤال الثاني: فكان ابن مسعود رضي الله عنه يقرأ وإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم، وكذلك هو في مصحفه، وأما على القراءة المعروفة قيل فيه تقديم وتأخير تقديره: إن تغفر لهم فإنهم عبادك وإن تعذبهم فإنك أنت العزيز الحكيم . وقيل: معناه إن تعذهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز في الملك الحكيم في القضاء لا ينقص من عزك شيء، ولا يخرج من حكمك شيء، ويدخل في حكمته ومغفرته وسعة رحمته ومغفرته الكفار، لكنه أخبر أنه لا يغفر وهو لا يخلف خبره . أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر أنا عبد الغافر بن محمد الفارسي ثنا محمد بن عيسى الجلودي حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان حدثنا مسلم بن الحجاج حدثني يونس بن عبد الأعلى حدثنا ابن وهب أخبرني عمر بن الحارث أن بكر بن سوادة حدثه عن عبد الرحمن بن جبير عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله تعالى في إبراهيم: (رب إنهن أضللن كثيراً من الناس فمن تبعني فإنه مني)، الآية . وقول عيسى عليه السلام: (إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم) فرفع يديه وقال: اللهم أمتي وبكى فقال الله: يا جبريل اذهب إلى محمد، وربك أعلم فسله ما يبكيك ؟ فأتاه جبريل فسأله، فأخبر رسول الله تعالى: يا جبريل اذهب إلى محمد فقل: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك) .
119- " قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم "،قرأ نافع " يوم " بنصب الميم، يعني: تكون هذه الأشياء في يوم، فحذف في فانتصب، وقرأ الآخرون بالرفع على أنه خبر " هذا " أي: ينفع الصادقين في الدنيا صدقهم في الآخرة، ولو كذبوا ختم الله على أفواههم ونطقت به جوارحهم فافتضحوا، وقيل: أراد بالصادقين النبيين. وقال الكلبي : ينفع المؤمنين إيمانهم، قال قتادة : متكلمان لا يخطئان يوم القيامة عيسى عليه السلام، وهو ما قص الله عز وجل، وعدو الله إبليس، وهو قوله: ( وقال الشيطان لما قضي الأمر )، الآية .فصدق عدو الله يومئذ، وكان قبل ذلك كاذباً فلم ينفعه صدقه، وأما عيسى عليه السلام فكان صادقاً في الدنيا والآخرة، فنفعه صدقه . وقال عطاء : هذا يوم من أيام الدنيا لأن الدار الآخرة دار جزاء لا دار عمل، ثم بين ثوابهم فقال: " لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم "، ثم عظم نفسه.
120- فقال: " لله ملك السموات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير " .