{ براءة من الله ورسوله } الآية . أخذت المشركون ينقضون عهودا بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمره الله تعالى أن ينقض عهودهم وينبذها إليهم ، وأنزل هذه الآية ، والمعنى : قد برئ الله ورسوله من إعطائهم العهود والوفاء بها إذ نكثوا ، ثم خاطب المشركين فقال :
{ فسيحوا في الأرض أربعة أشهر } سيروا فيها آمنين حيث شئتم . يعني : شوالا إلى صفر ، وهذا تأجيل من الله سبحانه للمشركين ، فإذا انقضت هذه المدة قتلوا حيثما أدركوا { واعلموا أنكم غير معجزي الله } لا تفوتونه وإن أجلتم هذه المدة { وأن الله مخزي الكافرين } مذلهم في الدنيا بالقتل ، والعذاب في الآخرة .
{ وأذان من الله } إعلام منه { ورسوله إلى الناس } يعني : العرب { يوم الحج الأكبر } يوم عرفة . وقيل : يوم النحر ، والحج الأكبر الحج بجميع أعماله ، والأصغر العمرة { أن الله بريء من المشركين ورسوله } أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يعلم مشركي العرب في يوم الحج الأكبر ببراءته من عهودهم ، فبعث عليا رضي الله عنه حيث قرأ صدر براءة عليهم يوم النحر ، ثم خاطب المشركين ، فقال : { فإن تبتم } رجعتم عن الشرك { فهو خير لكم } من الإقامة عليه { وإن توليتم } عن الإيمان { فاعلموا أنكم غير معجزي الله } لا تفوتونه بأنفسكم عن العذاب ، ثم أوعدهم بعذاب الآخرة فقال : { وبشر الذين كفروا بعذاب أليم } ثم استثنى قوما من براءة العهود ، فقال :
{ إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم } من شروط العهد { شيئا } وهم بني ضمرة وبنو كنانة { ولم يظاهروا عليكم أحدا } لم يعاونوا عليكم عدوا { فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم } إلى انقضاء مدتهم ، وكان قد بقي لهم من مدتهم تسعة أشهر ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإتمامها لهم { إن الله يحب المتقين } من اتقاه بطاعته .
{ فإذا انسلخ الأشهر الحرم } يعني : مدة التأجيل { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } في حل أو حرم { وخذوهم } بالأسر { واحصروهم } إن تحصنوا { واقعدوا لهم كل مرصد } على كل طريق تأخذون فيه { فإن تابوا } رجعوا عن الشرك { وأقاموا الصلاة } المفروضة { وآتوا الزكاة } من العين والثمار والمواشي { فخلوا سبيلهم } فدعوهم وما شاؤوا { إن الله غفور رحيم } لمن تاب وآمن .
{ وإن أحد من المشركين } الذين أمرتك بقتلهم { استجارك } طلب منك الأمان من القتل { فأجره } فاجعله في أمن { حتى يسمع كلام الله } القرآن ، فتقيم عليه حجة الله ، وتبين له دين الله { ثم أبلغه مأمنه } إذا لم يرجع عن الشرك لينظر في أمره { ذلك بأنهم قوم لا يعلمون } يفعلون كل هذا لأنهم قوم جهلة لا يعلمون دين الله وتوحيده .
{ كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله } مع إضمارهم الغدر ونكثهم العهد { إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام } يعني : الذين استثناهم من البراءة { فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم } ما أقاموا على الوفاء بعهدهم فأقيموا أنتم .
{ كيف } أي : كيف يكون لهم عهدهم { و } حالهم أنهم { إن يظهروا عليكم }يظفروا بكم ويقدروا عليكم { لا يرقبوا فيكم } لا يحفظوا فيكم { إلا ولا ذمة } قرابة ولا عهدا { يرضونكم بأفواههم } يقولون بألسنتهم كلاما حلوا { وتأبى قلوبهم } الوفاء به { وأكثرهم فاسقون } غادرون ناقضون للعهد .
{ اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا } استبدلوا بالقرآن متاع الدنيا { فصدوا عن سبيله } فأعرضوا عن طاعته { إنهم ساء } بئس { ما كانوا يعملون } من اشترائهم الكفر بالإيمان .
{ لا يرقبون } يعني : هؤلاء الناقضين للعهد { وأولئك هم المعتدون } المجاوزون للحلال إلى الحرام بنقض العهد .
{ فإن تابوا } عن الشرك { وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم } أي : فهم إخوانكم { في الدين ونفصل الآيات } نبين آيات القرآن { لقوم يعلمون } أنها من عند الله .
{ وإن نكثوا أيمانهم } نقضوا عهودهم { وطعنوا في دينكم } اغتابوكم وعابوا دينكم { فقاتلوا أئمة الكفر } رؤساء الضلالة . يعني : صناديد قريش . { إنهم لا أيمان لهم } لا عهود لهم { لعلهم ينتهون } كي ينتهوا عن الشرك بالله ، ثم حرض المؤمنين عليهم فقال :
{ ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم } يعني : كفار مكة نقضوا العهد ، وأعانوا بني بكر على خزاعة { وهموا بإخراج الرسول } من مكة { وهم بدؤوكم } بالقتال { أول مرة } حين قاتلوا حلفاءكم خزاعة ، فبدؤوا بنقض العهد { أتخشونهم } أن ينالكم من قتالهم مكروه فتتركون قتالهم { فالله أحق أن تخشوه } فمكروه عذاب الله أحق أن يخشى في ترك قتالهم { إن كنتم مؤمنين } مصدقين بعقاب الله وثوابه .
{ قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم } يقتلهم بسيوفكم ورماحكم { ويخزهم } يذلهم بالقهر والأسر { ويشف صدور قوم مؤمنين } يعني : بني خزاعة . أعانت قريش بني بكر عليهم حتى نكثوا فيهم ، فشفى الله صدورهم من بني بكر بالنبي والمؤمنين .
{ ويذهب غيظ قلوبهم } كربها ووجدها بمعونة قريش بكرا عليهم { ويتوب الله على من يشاء } من المشركين ، كأبي سفيان ، وعكرمة بن أبي جهل ،وسهيل بن عمرو . هداهم الله للإسلام .
{ أم حسبتم } أيها المنافقون { أن تتركوا } على ما أنتم عليه من التلبيس ، وكتمان النفاق {ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم } بنية صادقة . يعني : العلم الذي يتعلق بهم بعد الجهاد ، وذلك أنه لما فرض القتال تبين المنافق من غيره ، ومن يوالي المؤمنين ممن يوالي أعداءهم { ولم يتخذوا } أي : ولما يعلم الله الذين لم يتخذوا { من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة } أولياء ودخلا .
{ ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله } نزلت في العباس بن عبد المطلب حين عير بالكفر لما أسر ، فقال : إنا لنعمر المسجد الحرام ، ونحجب الكعبة ، ونسقي الحاج ، فرد الله ذلك عليه بقوله : { ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله } بدخوله والتعوذ فيه ، لأنهم ممنوعون عن ذلك { شاهدين على أنفسهم بالكفر } بسجودهم للأصنام واتخاذها آلهة . { أولئك حبطت أعمالهم } لأن كفرهم أذهب ثوابها .
{ إنما يعمر مساجد الله } بزيارتها والقعود فيها { من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة } والمعنى : إن من كان بهذه الصفة فهو من أهل عمارة المسجد { ولم يخش } في باب الدين { إلا الله فعسى أولئك } أي : فأولئك هم المهتدون والمتمسكون بطاعة الله التي تؤدي إلى الجنة .
{ أجعلتم سقاية الحاج } قال المشركون : عمارة بيت الله ، وقيام على السقاية خير من الإيمان والجهاد ، فأنزل الله تعالى هذه الآية . وسقاية الحاج : سقيهم الشراب في الموسم ، وقوله : { وعمارة المسجد الحرام } يريد : تجميره وتخليقه { كمن آمن } أي : كإيمان من آمن { بالله } ؟ { لا يستون عند الله } في الفضل { والله لا يهدي القوم الظالمين } يعني : الذين زعموا أنهم أهل العمارة سماهم ظالمين بشركهم .
{ الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله } من الذين افتخروا بعمارة البيت وسقي الحاج { وأولئك هم الفائزون } الذين ظفروا بأمنيتهم .
{ يبشرهم ربهم برحمة منه } الآية . أي : يعلمهم في الدنيا ما لهم في الآخرة .
{خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم}.
{ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم } الآية . لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة كان من الناس من يتعلق به زوجته وولده وأقاربه ، ويقولون : ننشدك بالله أن تضيعنا ، فيرق لهم ويدع الهجرة ، فأنزل الله تعالى : { لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء } أصدقاء تؤثرون المقام بين أظهرهم على الشجرة { إن استحبوا } اختاروا { الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون } أي : مشركون مثلهم ، فلما نزلت هذه الآية قالوا : يا نبي الله ، إن نحن اعتزلنا من خالفنا في الدين نقطع آباءنا وعشائرنا ، وتذهب تجارتنا وتخرب ديارنا ، فأنزل الله تعالى :
{ قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها } أي : اكتسبتموها { فتربصوا } مقيمين بمكة { حتى يأتي الله بأمره } فتح مكة ، فيسقط فرض الهجرة ، وهذا أمر تهديد { والله لا يهدي القوم الفاسقين } تهديد لهؤلاء بحرمان الهداية .
{ لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين }وهو واد بين مكة والطائف ، قاتل عليه نبي الله عليه السلام هوازن وثقيفا { إذ أعجبتكم كثرتكم } وذلك أنهم قالوا : لن نغلب اليوم من قلة ، وكانوا اثني عشر ألفا { فلم تغن } لم تدفع عنكم شيئا { وضاقت عليكم الأرض بما رحبت } لشدة ما لحقكم من الخوف ضاقت عليكم الأرض على سعتها ، فلم تجدوا فيها موضعا يصلح لقراركم { ثم وليتم مدبرين } انهزمتم . أعلمهم الله تعالى أنهم ليسوا يغلبون بكثرتهم ، إنما يغلبون بنصر الله .
{ ثم أنزل الله سكينته } وهو ما يسكن إليه القلب من لطف الله ورحمته { على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها } يريد : الملائكة { وعذب الذين كفروا } بأسيافكم ورماحكم { وذلك جزاء الكافرين } .
{ ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء } فيهديهم إلى الإسلام ، من الكفار { والله غفور رحيم } بمن آمن .
{ يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس } لا يغتسلون من جنابة ، ولا يتوضؤون من حدث { فلا يقربوا المسجد الحرام } أي : لا يدخلوا الحرم . منعوا من دخول الحرم ، فالحرم حرام على المشركين { بعد عامهم هذا } يعني : عام الفتح ، فلما منعوا من دخول الحرم قال المسلمون : إنهم كانوا يأتون بالميرة ، فالآن تنقطع عنا المتاجر ، فأنزل الله تعالى : { وإن خفتم عيلة } فقرا { فسوف يغنيكم الله من فضله } فأسلم أهل جدة وصنعاء وجرش ، وحملوا الطعام إلى مكة ، وكفاهم الله ما كانوا يتخوفون { إن الله عليم } بما يصلحكم { حكيم } فيما حكم في المشركين ، ثم نزل في جهاد أهل الكتاب من اليهود والنصارى قوله :
{ قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر } يعني : كإيمان الموحدين ، وإيمانهم غير إيمان إذا لم يؤمنوا بمحمد { ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله } يعني : الخمر والميسر { ولا يدينون دين الحق } لا يتدينون بدين الإسلام { حتى يعطوا الجزية } وهي ما يعطى المعاهد على عهده { عن يد } يعطونها بأيديهم ، يمشون بها كارهين ، ولا يجيئون بها ركبانا ، ولا يرسلون بها { وهم صاغرون } ذليلون مقهورون يجرون إلى الموضع الذي تقبض منهم فيه بالعنف ، حتى يؤدوها من يدهم .
{ وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم } ليس فيه برهان ولا بيان ، إنما هو قول بالفم فقط { يضاهئون } يتشبهون بقول المشركين حين قالوا : الملائكة بنات الله ، وقد أخبر الله عنهم بقوله : { وخرقوا له بنين وبنات } . { قاتلهم الله } لعنهم الله { أنى يؤفكون } كيف يصرفون عن الحق بعد وضوح الدليل حتى يجعلوا لله الولد ، وهذا تعجيب للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين .
{ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم } علماءهم وعبادهم { أربابا } آلهة { من دون الله } حيث أطاعوهم في تحليل ما حرم الله ، وتحريم ما أحل الله { والمسيح ابن مريم } اتخذوه ربا { وما أمروا } في التوراة والإنجيل { إلا ليعبدوا إلها واحدا } وهو الذي لا إله غيره { سبحانه عما يشركون } تنزيها له عن شركهم .
{ يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم } يخمدوا دين الإسلام بتكذيبهم { ويأبى الله إلا أن يتم نوره } إلا أن يظهر دينه .
{ هو الذي أرسل رسوله } محمدا { بالهدى } بالقرآن { ودين الحق } الحنيفية { ليظهره على الدين كله } ليعليه على جميع الأديان .
{ يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان } من فقهاء أهل الكتاب وعلمائهم { ليأكلون أموال الناس بالباطل } يعني : ما يأخذونه من الرشا في الحكم { ويصدون عن سبيل الله } ويصرفون الناس عن الإيمان بمحمد عليه السلام ، ثم أنزل في مانعي الزكاة من أهل القبلة : { والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله } لا يؤدون زكاتها { فبشرهم بعذاب أليم } أخبرهم أن لهم عذابا أليما .
{ يوم يحمى عليها } يوم تدخل كنوزهم النار حتى تحمى وتشتد حرارتها { فتكوى بها } أي : فتلصق بجباههم وجنوبهم وظهورهم حتى يلتقي الحر في أجوافهم ، ويقال لهم : هذا الذي تكوون به ما جمعتم لأنفسكم ، وبخلتم به عن حق الله { فذوقوا } العذاب بـ { ما كنتم تكنزون }
{ إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا } عدد شهور المسلمين التي تعبدوا بأن يجعلوها لسنتهم اثنا عشر شهرا ، على منازل القمر واستهلال الأهلة ، لا كما يعده أهل الروم وفارس { في كتاب الله } في الإمام الذي عند الله كتبه يوم خلق السماوات والأرض { منها أربعة حرم } رجب ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، يعظم انتهاك المحارم فيها بأشد مما يعظم في غيرها { ذلك الدين القيم } الحساب المستقيم { فلا تظلموا فيهن أنفسكم } تحفظوا من أنفسكم في الحرم ، فإن الحسنات فيهن تضعف ، وكذلك السيئات { وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة } قاتلوهم كلهم ، ولا تحابوا بترك القتال ، كما إنهم يستحلون قتال جميعكم { واعلموا أن الله مع المتقين } مع أوليائه الذين يخافونه .
{ إنما النسيء } تأخير حرمة شهر حرمه الله إلى شهر آخر لم يحرمه ، وذلك أن العرب في الجاهلية ربما كانت تستحل المحرم ، وتحرم بدله صفر ، فأخبر الله تعالى أن ذلك كله { زيادة في الكفر } حيث أحلوا ما حرم الله ، وحرموا ما أحل الله { يضل به } بذلك التأخير { الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما } إذا قاتلوا فيه أحلوه وحرموا مكانه صفر ، وإذا لم يقاتلوا فيه حرموه { ليواطئوا } ليوافقوا { عدة ما حرم الله } وهو أنهم لم يحلوا شهرا من الحرم إلا حرموا مكانه شهرا من الحلال ، ولم يحرموا شهرا من الحلال إلا أحلوا مكانه شهرا من الحرم ، لئلا يكون الحرم أكثر من الأربعة كما حرم الله ، فيكون موافقة للعدد . { زين لهم سوء أعمالهم } زين لهم الشيطان ذلك .
{ يا أيها الذين آمنوا ما لكم } نزلت في حث المؤمنين على غزوة تبوك ، وذلك أنهم دعوا إليها في زمان عسرة من الناس ، وجدب من البلاد ، وشدة من الحر ، فشق عليهم الخروج ، فأنزل الله تعالى : { ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله } اخرجوا في الجهاد لحرب العدو { اثاقلتم إلى الأرض } أحببتم المقام { أرضيتم بالحياة الدنيا } بدلا { من الآخرة } يعني : الجنة { فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة } يريد : الدنيا كلها { إلا قليل } عند شئ من الجنة .
{ إلا تنفروا } تخرجوا مع نبيكم إلى الجهاد { يعذبكم عذابا أليما } بالقحط وحبس المطر { ويستبدل قوما غيركم } يأت بقوم آخرين ينصر بهم رسوله { ولا تضروه شيئا } لأن الله عصمه عن الناس ، ولا يخذله أن تثاقلتم ، كما لم يضره قلة ناصريه حين كان بمكة وهم به الكفار ، فتولى الله نصره ، وهو قوله :
{ إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا } أي : اضطروه إلى الخروج لما هموا بقتله ، فكانوا سببا لخروجه من مكة هاربا منهم { ثاني اثنين } أي : واحد اثنين هو صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه ، والمعنى : مصره الله منفردا إلا من أبي بكر : { إذ هما في الغار } هو غار في جبل مكة يقال له : ثور { إذ يقول لصاحبه } أبي بكر : { لا تحزن } وذلك أنه خاف على رسول الله صلى الله عليه وسلم الطلب ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لا تحزن إن الله معنا } يمنعهم منا ، وينصرنا { فأنزل الله سكينته } ألقى في قلب أبي بكر ما سكن به ، { وأيده } أي : رسوله { بجنود لم تروها } قواه وأعانه بالملائكة يوم بدر . أخبر أنه صرف عنه كيد أعدائه ، ثم أظهره : نصره بالملائكة يوم بدر { وجعل كلمة الذين كفروا } وهي كلمة الشرك { السفلى وكلمة الله هي العليا } يعني : كلمة التوحيد لأنها علت وظهرت ، وكان هذا يوم بدر .
{ انفروا خفافا وثقالا } شبابا وشيوخا { وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم } من التثاقل إلى الأرض { إن كنتم تعلمون } ما لكم من الثواب والجزاء ، ثم نزل في المنافقين الذين تخلفوا عن هذه الغزوة :
{ لو كان عرضا قريبا } أي : لو كان ما دعوا إليه غنيمة قريبة { وسفرا قاصدا } قريبا هينا { لاتبعوك } طمعا في الغنيمة { ولكن بعدت عليهم الشقة } المسافة { وسيحلفون بالله } عندك إذا رجعت إليهم { لو استطعنا لخرجنا معكم } لو قدرنا وكان لنا سعة من المال { يهلكون أنفسهم } بالكذب والنفاق { والله يعلم إنهم لكاذبون } لأنهم كانوا يستطيعون الخروج .
{ عفا الله عنك لم أذنت لهم } كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لطائفة في التخلف عنه ، من غير مؤامرة ، ولم يكن له أن يمضي شيئا إلا بوحي ، فعاتبه الله سبحانه وقال : لم أذنت لهم في التخلف { حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين } حتى تعرف من له العذر منهم ، ومن لا عذر له ، فيكون إذنك لمن له العذر .
{ لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر } في القعود والتخلف عن الجهاد كراهة { أن يجاهدوا } في سبيل الله { بأموالهم وأنفسهم } الآية .
{ إنما يستأذنك } في التخلف { الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم } شكوا في دينهم { فهم في ريبهم يترددون } في شكهم يتمادون .
{ ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة } من الزاد والركوب ، لأنهم كانوا مياسير { ولكن كره الله انبعاثهم } لم يرد خروجهم معك { فثبطهم } فخذلهم وكسلهم { وقيل اقعدوا } وحيا إلى قلوبهم . يعني : إن الله ألهمهم أسباب الخذلان { مع القاعدين } الزمنى وأولي الضرر ، ثم بين لم كره خروجهم فقال :
{ لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا } يقول : لو خرجوا لأفسدوا عليكم أمركم { ولأوضعوا خلالكم } لأسرعوا بالنميمة في إفساد ذات بينكم { يبغونكم الفتنة } يثبطونكم ويفرقون كلمتكم حتى تنازعوا فتفتتنوا { وفيكم سماعون لهم } من يسمع كلامهم ويطيعهم ، ولو صحبهم هؤلاء المنافقون أفسدوهم عليكم { والله عليم بالظالمين } المنافقين .
{ لقد ابتغوا الفتنة من قبل } طلبوا لك الشر والعنت قبل تبوك ، وهو أن جماعة منهم أرادوا الفتك به ليلة العقبة { وقلبوا لك الأمور } اجتهدوا في الحيلة عليك ، والكيد بك { حتى جاء الحق } الآية . أي : حتى أخزاهم الله بإظهار الحق ، وإعزاز الدين على كره منهم .
{ ومنهم من يقول ائذن لي } نزلت في جد بن قيس المنافق ، قال لرسول الله رسول صلى الله عليه وسلم : هل لك في جلاد بني الأصفر ، تتحذ منهم سراري وصفاء ، فقال : ائذن لي يا رسول الله في القعود عنك وأعينك بمالي { ولا تفتني } ببنات بني الأصفر ، فإني مستهتر بالنساء ، إني أخشى إن رأيتهن ألا أصبر عنهن ، فقال الله تعالى : { ألا في الفتنة سقطوا } أي : في الشرك وقعوا بنفاقهم وخلفهم أمرك { وإن جهنم لمحيطة بالكافرين } لمحدقة بمن كفر جامعة لهم .
{ إن تصبك حسنة } نصر وغنيمة { تسؤهم وإن تصبك مصيبة } من قتل وهزيمة { يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل } قد أخذنا حذرنا ، وعملنا بالحزم حين تخلفنا { ويتولوا } وينصرفوا { وهم فرحون } معجبون بذلك ، وبما نالك من السوء .
{ قل لن يصيبنا } خير ولا شر { إلا } وهو مقدر مكتوب علينا . { هو مولانا } ناصرنا { وعلى الله فليتوكل المؤمنون } وإليه فليفوض المؤمنون أمورهم على الرضا بتدبيره .
{ قل هل تربصون بنا } هل تنتظرون أن يقع بنا { إلا إحدى الحسنيين } الغنيمة أو الشهادة { ونحن نتربص } ننتظر { بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده } بقارعة من السماء { أو بأيدينا } يأذن لنا في قتلكم فنقتلكم { فتربصوا إنا معكم متربصون } فانتظروا مواعيد الشيطان ، إنا منتظرون مواعيد الله من إظهار دينه وهلاك من خالفه ، ثم ذكر في الآية الثانية والثالثة أنه لا يقبل منهم ما أنفقوا في الجهاد ، لأن منهم من قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : اقعد وأعينك بمالي ، فأخبر الله تعالى أنه لا يقبل ذلك ، فعلوه طائعين أو مكرهين ، وبين أن المانع لقبول ذلك كفرهم بالله ورسوله ، وكسلهم في الصلاة ، لأنهم لا يرجون لها ثوابا ، وكراهتهم الإنفاق في سبيل الله ، لأنهم يعدونه مغرما .
{قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوما فاسقين}.
{وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون}.
{ فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم } لا تستحسن ما أنعمنا عليهم من الأموال الكثيرة والأولاد { إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا } يعني : بالمصائب فيها ، فهي لهم عذاب ، وللمؤمن أجر { وتزهق أنفسهم } وتخرج أرواحهم { وهم } على الكفر .
{ ويحلفون بالله إنهم لمنكم } أي : إنهم مؤمنون ، وليسوا مؤمنين { ولكنهم قوم يفرقون } يخافون فيحلفون تقية لكم .
{ لو يجدون ملجأ} مهربا { أو مغارات } سراديب { أو مدخلا } وجها يدخلونه { لولوا إليه } لرجعوا إليه { وهم يجمحون } يسرعون إسراعا لا يرد وجوههم شيء ، أي : لو أمكنهم الفرار من بين المسلمين بأي وجه كان لفروا ، لوم يقيموا بينهم .
{ ومنهم } ومن المنافقون { من يلمزك } يعيبك وطعن عليك { في } أمر { الصدقات } يقول : إنما يعطيها محمد من أحب ، فإن أكثرت لهم من ذلك فرحوا ، وإن أعطيتهم قليلا سخطوا ، ثم ذكر في الآية الثانية أنهم لو رضوا بذلك وتوكلوا على الله لكان خيرا لهم ، وهو قوله :
{ ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون } ثم بين لمن الصدقات ، فقال :
{ إنما الصدقات للفقراء } وهم المتعففون عن السؤال { والمساكين } الذين يسألون ويطوفون على الناس { والعاملين عليها } السعاة لجباية الصدقة { والمؤلفة قلوبهم } كانوا قوما من أشراف العرب استألفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليردوا عنه قومهم ويعينوه على عدوه { وفي الرقاب } المكاتبين { والغارمين } أهل الدين { وفي سبيل الله } الغزاة والمرابطون { وابن السبيل } المنقطع في سفره { فريضة من الله } افترضها الله على الأغنياء في أموالهم .
{ ومنهم الذين يؤذون النبي } بنقل حديثه وعيبه { ويقولون هو أذن } أنهم قالوا فيما بينهم : نقول ما شئنا ، ثم نأتيه فنحلف له فيصدقنا ، لأنه أذن والأذن : الذي يسمع كل ما يقال له ، فقال الله تعالى { قل أذن خير لكم } أي : مستمع خير وصلاح ، لا مستمع شر وفساد ، ثم أكد هذا وبينه فقال : { يؤمن بالله } أي : يسمع ما ينزله الله عليه ، فيصدق به { ويؤمن للمؤمنين } ويصدق المؤمنين فيما يخبرونه ، لا الكافرين { ورحمة للذين آمنوا منكم } أي : وهو رحمة ، لأنه كان سبب إيمانهم .
{ يحلفون بالله لكم ليرضوكم } يحلف هؤلاء المنافقون فيما بلغكم عنهم من أذى الرسول والطعن عليه أنهم ما أتوا ذلك ، ليرضوكم بيمينهم { والله ورسوله أحق أن يرضوه } فيؤمنوا بهما ويصدقوهما إن كانوا على ما يظهرون .
{ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم خالدا فيها ذلك الخزي العظيم}.
{ يحذر المنافقون أن تنزل عليهم } على المؤمنين { سورة } تخبرهم { بما في قلوبهم } من الحسد لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، وذلك أنهم كانوا يفرقون من هتكهم وفضيحتهم { قل استهزئوا } أمر وعيد { إن الله مخرج } مظهر { ما تحذرون } ظهوره .
{ ولئن سألتهم } عما كانوا فيه من الاستهزاء { ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب} وذلك أن رجلا من المنافقين قال في غزوة تبوك : ما رأيت مثل هؤلاء أرغب بطونا ، ولا أكذب ألسنا ، ولا أجبن عند اللقاء . يعني : رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ، فجاء هذا القائل ليعتذر ، فوجد القرآن قد سبقه ، فقال : يا رسول الله ، إنما كنا نخوض ونلعب ، ونتحدث بحديث الركب نقطع به عنا الطريق ، وهو معنى قوله : { إنما كنا نخوض } أي : في الباطل من الكلام ، كما يخوض الركب ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : { أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون } .
{ لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم } أي : ظهر كفركم بعد إظهاركم الإيمان { إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة } وذلك أنهم كانوا ثلاثة نفر ، فهزئ اثنان وضحك واحد ، وهو المعفو عنه ، فلما نزلت هذه الآية برئ من النفاق .
{ المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض } على دين بعض { يأمرون بالمنكر } بالكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم { وينهون عن المعروف } عن اتباعه { ويقبضون أيديهم } عن النفقة في سبيل الله { نسوا الله فنسيهم } تركوا أمر الله ، فتركهم من كل خير وخذلهم { إن المنافقين هم الفاسقون } الخارجون عما أمر الله .
{ وعد الله المنافقين } الآية ظاهرة ، ثم خاطبهم فقال :
{ كالذين من قبلكم } أي : فعلتم كأفعال الذين من قبلكم { فاستمتعوا بخلاقهم } رضوا بنصيبهم من الدنيا ، ففعلتم أنتم أيضا مثل ما فعلوا { وخضتم } في الطعن على النبي صلى الله عليه وسلم كما خاضوا في الطعن على أنبيائهم { أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة } لأنها لا تقبل منهم ولا يثابون عليها .
{ ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم } ألم يأتهم خبر الذين أهلكوا في الدنيا بذنوبهم ، فيتعظوا ، ثم ذكرهم { قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم } يعني : نمروذ { وأصحاب مدين } قوم شعيب { والمؤتفكات } وأصحاب المؤتفكات ، وهي قرى قوم لوط { فما كان الله ليظلمهم } ليعذبهم قبل بعث الرسول { ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } بتكذيب الرسل .
{ والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض } في الرحمة والمحبة { يأمرون بالمعروف } يدعون إلى الإسلام { وينهون عن المنكر } الشرك بالله . الآية .
{ وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة } يريد قصور الزبرجد والدر والياقوت { في جنات عدن } هي قصبة الجنة ، وسقفها عرش الرحمن { ورضوان من الله أكبر } مما يوصف .
{ يا أيها النبي جاهد الكفار } بالسيف { والمنافقين } باللسان والحجة { واغلظ عليهم } يريد شدة الانتهار ، والنظر بالبغضة والمقت .
{ يحلفون بالله ما قالوا } نزلت حين أساء المنافقون القول في رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وطعنوا في الدين ، وقالوا : إذا قدمنا المدينة عقدنا على رأس عبد الله ابن أبي تاجا يباهي به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فسعي بذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهم ، فحلفوا ما قالوا { ولقد قالوا كلمة الكفر } سبهم الرسول وطعنهم في الدين { وهموا بما لم ينالوا } من عقدهم التاج على رأس ابن أبي . وقيل : من الاغتيال بالرسول { وما نقموا } كرهوا { إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله } بالغنيمة حتى صارت لهم الأموال ، أي : إنهم عملوا بضد الواجب ، فجعلوا موضع شكر الغنى أن نقموه ، ثم عرض عليهم التوبة فقال : { فإن يتوبوا يك خيرا لهم وإن يتولوا } يعرضوا عن الإيمان { يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا } بالقتل { و } في { الآخرة } بالنار { وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير } لا يتولاهم أحد من المسلمين .
{ ومنهم من عاهد الله } يعني : ثعلبة بن حاطب ، عاهد ربه لئن وسع عليه أن يؤتي كل ذي حق حقه ، ففعل الله ذلك فلم يف بما عاهد ، ومنع الزكاة ، فهذا معنى قوله :{ لئن آتانا من فضله لنصدقن } لنعطين الصدقة ، { ولنكونن من الصالحين } ولنعملن ما يعمل أهل الصلاح في أموالهم .
{ فلما آتاهم من فضله بخلوا به } الآية .
{ فأعقبهم نفاقا } صير عاقبة أمرهم إلى ذلك بحرمان التوبة ، حتى ماتوا على النفاق جزاء لإخلافهم الوعد ، وكذبهم في العهد ، وهو قوله : {إلى يوم يلقونه } الآية .
{ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأن الله علام الغيوب}.
{ الذين يلمزون } يعيبون ويغتابون { المطوعين } المتطوعين المتنفلين { من المؤمنين في الصدقات } وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حث على الصدقة ، فجاء بعض الصحابة بالمال الكثير ، وبعضهم _ وهم الفقراء _ بالقليل ، فاغتابهم المنافقون وقالوا : من أكثر رياء ، ومن أقل أراد أن يذكر نفسه ، فأنزل الله تعالى هذه الآية : { والذين لا يجدون إلا جهدهم } وهو القليل الذي يتعيش به { فيسخرون منهم سخر الله منهم } جازاهم سخريتهم حيث صاروا إلى النار ، ثم آيس الله رسول من إيمانهم ومغفرتهم فقال :
{ استغفر لهم أو لا تستغفر لهم } وهذا تخيير لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : { إن تستغفر لهم سبعين مرة } أي : إن اسكتثرت من الدعاء بالاستغفار للمنافقين لن يغفر الله لهم .
{ فرح المخلفون } يعني : الذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنافقين { بمقعدهم } بقعودهم { خلاف رسول الله } مخالفة له { وقالوا لا تنفروا } مع محمد إلى تبوك { في الحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون } يعلمون أن مصيرهم إليها .
{فليضحكوا قليلا } في الدنيا ، لأنها تنقطع عنهم { وليبكوا كثيرا } في النار بكاء لا ينقطع { جزاء بما كانوا يكسبون } في الدنيا من النفاق .
{ فإن رجعك الله } ردك { إلى طائفة منهم } يعني : الذين تخلفوا بالمدينة { فاستأذنوك للخروج } إلى الغزو معك { فقل لن تخرجوا معي أبدا } إلى غزاة { ولن تقاتلوا معي عدوا } من أهل الكتاب { إنكم رضيتم بالقعود أول مرة } حين لم تخرجوا إلى تبوك { فاقعدوا مع الخالفين } يعني : النساء والصبيان والزمنى الذين يخلفون الذاهبين إلى السفر ، ثم نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة عليهم إذا ماتوا ، والدعاء لهم عند الوقوف على القبر ، فقال :
{ ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره } الآية .
{ ولا تعجبك أموالهم } مضى تفسيره .
{ وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولو الطول منهم } يعني : أصحاب الغنى والقدرة يستأذنونك في التخلف .
{ رضوا بأن يكونوا مع الخوالف } النساء اللاتي يخلفن في البيت { وطبع على قلوبهم } بالنفاق { فهم لا يفقهون } لا يفهمون الإيمان وشرائعه وأمر الله .
{لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون}.
{أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم}.
{ وجاء المعذرون } المعتذرون ، وهم قوم { من الأعراب } اعتذروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في التخلف فعذرهم ، وهو قوله { ليؤذن لهم } أي : في القعود { وقعد الذين كذبوا الله ورسوله } لم يصدقوا نبيه ، واتخذوا إسلامهم جنة ، ثم ذكر أهل العذر ، فقال :
{ ليس على الضعفاء } يعني : الزمنى والمشايخ والعجزى { ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله } أخلصوا أعمالهم من الغش لهما { ما على المحسنين من سبيل } من طريق بالعقاب ، لأنه قد سد طريقه بإحسانه { والله غفور رحيم } لمن كان على هذه الخصال .
{ ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم } نزلت في سبعة نفر سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحملهم على الدواب ، فقال : { لا أجد ما أحملكم عليه } فانصرفوا باكين شوقا إلى الجهاد ، وحزنا لضيق ذات اليد .
{إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون}.
{ يعتذرون إليكم } بالأباطيل { إذا رجعتم إليهم } من هذه الغزوة { قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم } لن نصدقكم { قد نبأنا الله من أخباركم } قد أخبرنا الله بسرائركم وما تخفي صدوركم { وسيرى الله عملكم ورسوله } فيما تستأنفون ، تبتم من النفاق أم أقمتم عليه { ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة } إلى من يعلم ما غاب عنا من ضمائركم { فينبئكم بما كنتم تعملون } فيخبركم بما كنتم تكتمون وتسرون .
{ سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم } إذا رجعتم { إليهم } من تبوك أنهم ما قدروا على الخروج { لتعرضوا عنهم } إعراض الصفح { فأعرضوا عنهم } اتركوا كلامهم وسلامهم { إنهم رجس } إن عملهم قبيح من عمل الشيطان ، ثم نزل في أعاريب أسد وغطفان :
{يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين}.
{ الأعراب أشد كفرا ونفاقا } من أهل المدر ، لأنهم أجفى وأقسى { وأجدر } وأولى وأحق { أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله } من الحلال والحرام .
{ ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما } لأنه لا يرجو له ثوابا { ويتربص بكم الدوائر } وينتظر أن ينقلب الأمر عليكم بموت الرسول عليه السلام { عليهم دائرة السوء } عليهم يدور البلاء والخزي ، فلا يرون في محمد ودينه إلا ما يسوءهم ، ثم نزل في من أسلم منهم :
{ ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله } يتقرب بذلك إلى الله عز وجل { وصلوات الرسول } يعني : دعاءه بالخير والبركة ، والمعنى : أنه يتقرب بصدقته ودعاء الرسول إلى الله { ألا إنها قربة لهم } أي : نور ومكرمة عند الله .
{ والسابقون الأولون } يعني : الذين شهدوا بدرا { من المهاجرين والأنصار } يعني : الذين آمنوا منهم قبل قدوم الرسول عليهم ، فهؤلاء السباق من الفريقين . وقيل : أراد كل من أدركه من أصحابه ، فإنهم كلهم سبقوا هذه الأمة بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم ورؤيته { والذين اتبعوهم بإحسان } يعني : ومن اتبعهم على مناهجهم إلى يوم القيامة ممن يحسن القول فيهم .
{ وممن حولكم من الأعراب منافقون } يعني : مزينة وجهينة وغفارا { ومن أهل المدينة } الأوس والخزرج { مردوا على النفاق } لجوا فيه ، وأبوا غيره { سنعذبهم مرتين } بالأمراض والمصائب في الدنيا ، وعذاب القبر { ثم يردون إلى عذاب عظيم } وهو الخلود في النار .
{ وآخرون اعترفوا بذنوبهم } في التخلف عن الغزو { خلطوا عملا صالحا } وهو جهادهم مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل هذا { وآخر سيئا } تقاعدهم عن هذه الغزوة { عسى الله } واجب من الله { أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم } ثم تاب على هؤلاء وعذرهم ، فقالوا : يا رسول الله ، هذه أموالنا التي خلفتنا عنك فخذها منا صدقة وطهرنا ، واستغفر لنا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا ، فأنزل الله سبحانه :
{ خذ من أموالهم صدقة } فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلث أموالهم ، وكانت كفارة للذنوب التي أصابوها ، وهو قوله : { تطهرهم } يعني : هذه الصدقة تطهرهم من الذنوب { وتزكيهم بها } أي : ترفعهم أنت يا محمد بهذه الصدقة من منازل المنافقين { وصل عليهم } ادع لهم { إن صلاتك سكن لهم } إن دعواتك مما تسكن نفوسهم إليه بأن قد تاب الله عليهم { والله سميع } لقولهم { عليم } بندامتهم ، فلما نزلت توبة هؤلاء قال الذين لم يتوبوا من المتخلفين : هؤلاء كانوا بالأمس معنا لا يكلمون ولا يجالسون ، فما لهم ؟ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع إلى المدينة نهى المؤمنين عن مكالمة المنافقين ومجالستهم ، فأنزل الله تعالى سبحانه :
{ ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات } يقبلها { وأن الله هو التواب الرحيم } يرجع على من يرجع إليه بالرحمة والمغفرة .
{ وقل اعملوا } يا معشر عبادي ، المحسن والمسيء { فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون } أي : إن الله يطلعهم على ما في قلوب إخوانهم من الخير والشر ،فيحبون المحسن ويبغضون المسيء بإيقاع الله ذلك في قلوبهم ، وباقي الآية سبق تفسيره .
{ وآخرون مرجون لأمر الله } مؤخرون ليقضي الله فيهم ما هو قاض ، وهم كعب بن مالك ، وهلال بن أمية ، ومرارة بن الربيع ، كانوا تخلفوا من غير عذر ، ثم لم يبالغوا في الاعتذار ، كما فعل أولئك الذين تصدقوا بأموالهم ، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم ، وهم مهجورون حتى نزل قوله : { وعلى الثلاثة الذين خلفوا } الآيات . { إما يعذبهم } بعقابه جزاء لهم { وإما يتوب عليهم } بفضله { والله عليم } بما يؤول إليه حالهم { حكيم } فيما يفعله بهم .
{ والذين اتخذوا } ومنهم الذين اتخذوا مسجدا ، وكانوا اثني عشر رجلا من المنافقين ، بنوا مسجدا يضارون به مسجد قباء ، وهو قوله : { ضرارا وكفرا } بالنبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به { وتفريقا بين المؤمنين } يفرقون به جماعتهم ، لنهم كانوا يصلون جميعا في مسجد قباء ، فبنوا مسجد الضرار ليصلي فيه بعضهم ، فيختلفوا بسبب ذلك { وإرصادا } وانتظارا { لمن حارب الله ورسوله من قبل } يعني : أبا عامر الراهب ، كان قد خرج إلى الشام ليأتي بجند يحارب بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأرسل إلى المنافقين أن ابنوا لي مسجدا { وليحلفن إن أردنا } ببنائه { إلا } الفعلة { الحسنى } وهي الرفق بالمسلمين ، والتوسعة عليهم ، فلما بنوا ذلك المسجد سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم فيصلي بهم في ذلك المسجد ، فنهاه الله عز وجل ، وقال :
{ لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى } بنيت جدره ، ورفعت قواعده على طاعة الله تعالى { من أول يوم } بني وحدث بناؤه ، وهو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقيل : هو مسجد قباء { أحق أن تقوم فيه } للصلاة { فيه رجال } يعني : الأنصار { يحبون أن يتطهروا } يعني : غسل الأدبار بالماء ، وكان من عادتهم في الاستنجاء استعمال الماء بعد الحجر { والله يحب المطهرين } من الشرك والنفاق .
{ أفمن أسس بنيانه } أي : بناءه الذي بناه { على تقوى من الله } مخافة الله ، ورجاء ثوابه ، وطلب مرضاته { خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار } على حرف مهواة { فانهار به } أوقع بنيانه { في نار جهنم } وهذا مثل . والمعنى : إن بناء هذا المسجد كبناء على حرف جهنم يتهور بأهله فيها ، لأنه معصية وفعل لما كرهه الله من الضرار .
{ لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم } شكا في قلوبهم { إلا أن تقطع قلوبهم } بالموت ، والمعنى : لا يزالون في شك منه إلى الموت ، يحسبون أنهم كانوا في بنائه محسنين { والله عليم } بخلقه { حكيم } فيما جعل لكل أحد .
{ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم } الآية . نزلت في بيعة العقبة ، لما بايعت الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئا ، وأن يمنعوه مما يمنعون أنفسهم . قالوا : فإذا فعلنا ذلك يا رسول الله ، فماذا لنا ؟ قال : الجنة . قالوا : ربح البيع ، لا نقيل ولا نستقيل ، فنزلت هذه الآية . ومعنى : { اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة } أن المؤمن إذا قاتل في سبيل الله حتى يقتل ، وأنفق ماله في سبيل الله أخذ من الجنة في الآخرة جزاء لما فعل ، وقوله : { وعدا } أي : وعدهم الله الجنة وعدا { عليه حقا } لا خلف فيه { في التوراة والإنجيل والقرآن } أي : إن الله بين في الكتابين أنه اشترى من أمة محمد أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ، كما بين في القرآن { ومن أوفى بعهده من الله } أي : لا أحد أوفى بما وعد من الله ، ثم مدحهم فقال :
{ التائبون } أي : هم التائبون من الشرك { العابدون } يرون عبادة الله واجبة عليهم { الحامدون } الله على كل حال {السائحون } الصائمون { الراكعون الساجدون } في الفرائض { الآمرون بالمعروف } بالإيمان بالله وفرائضه وحدوده { والناهون عن المنكر } الشرك وترك فرائض الله { والحافظون لحدود الله } العاملون بما افترض الله عليهم .
{ ما كان للنبي } الآية .نزلت في استغفار النبي عليه السلام لعمه أبي طالب ، وأبيه ، وأمه ، واستغفار المسلمين لآبائهم المشركين ، نهوا عن ذلك ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال : لأستغفرن لأبي كما استغفر إبراهيم لأبيه ، فبين الله سبحانه كيف كان ذلك ، فقال :
{ وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه } وذلك أنه كان قد وعده أن يستغفر له رجاء إسلامه ، وأن ينقله الله باستغفاره إياه من الكفر إلى الإسلام ، وهذا ظاهر في قوله : { سأستغفر لك ربي } ، وقوله : { لأستغفرن لك } ، فلما مات أبوه مشركا تبرأ منه وقطع الاستغفار . { إن إبراهيم لأواه } دعاء كثير البكاء { حليم } لم يعاقب أحدا إلا في الله ، ولم ينتصر من أحد إلا لله ، فلما حرم الاستغفار للمشركين بين أنهم لم يأخذهم بما فعلوا ، لأنه لم يكن قد بين لهم أنه لا يجوز ذلك ، فقال :
{ وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم } ليوقع الضلالة في قلوبهم بعد الهدى { حتى يبين لهم ما يتقون } فلا يتقوه ، فعند ذلك يستحقون الإضلال .
{إن الله له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير}.
{ لقد تاب الله على النبي } من إذنه للمنافقين في التخلف عنه ، وهو ما ذكر في قوله : { عفا الله عنك } الآية { والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة } في زمان عسرة الظهر ، وعسرة الماء ، وعسرة الزاد { من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم } من بعد ما هم بعضهم بالتخلف عنه والعصيان ، ثم لحقوا به { ثم تاب عليهم } ازداد عنهم رضا .
{ وعلى الثلاثة الذين خلفوا } أي : عن التوبة عليهم . يعني : من ذكرناهم في قوله : { وآخرون مرجون لأمر الله } { حتى إذا ضاقت عليهم الأرض } لأنهم كانوا مهجورين لا يعاملون ولا يكلمون { وضاقت عليهم أنفسهم } بالهم الذي حصل فيها { ظنوا } أيقنوا { أن لا ملجأ من الله إلا إليه } أن لا معتصم من عذاب الله إلا به { ثم تاب عليهم ليتوبوا } أي : لطف بهم في التوبة ووفقهم لها .
{ يا أيها الذين آمنوا } يعني : أهل الكتاب { اتقوا الله } بطاعته { وكونوا مع الصادقين } محمد وأصحابه . يأمرهم أن يكونوا معهم في الجهاد والشدة والرخاء . وقوله :
{ ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه } لا يرضوا لأنفسهم بالخفض والدعة ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الحر والمشقة . { ذلك } أي : ذلك النهي عن التخلف { بأنهم لا يصيبهم ظمأ } وهو شدة العطش { ولا نصب } إعياء من التعب { ولا مخمصة } مجاعة { ولا يطؤون موطئا } ولا يقفون موقفا { يغيظ الكفار } يغضبهم { ولا ينالون من عدو نيلا } أسرا وقتلا إلا كان ذلك قربة لهم عند الله .
{ ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة } تمرة فما فوقها { ولا يقطعون واديا } يجاوزونه في سيرهم { إلا كتب لهم } آثارهم وخطاهم { ليجزيهم الله أحسن } بأحسن { ما كانوا يعملون } فلما عيب من تخلف عن غزوة تبوك قال المسلمون : والله لا نتخلف من غزوة بعد هذا ، ولا عن سرية أبدا ، فلما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسرايا إلى العدو ، نفر المسلمون جميعا إلى الغزو ، وتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده بالمدينة ، فأنزل الله عز وجل :
{ وما كان المؤمنون لينفروا كافة } ليخرجوا جميعا إلى الغزو { فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة } فهلا خرج إلى الغزو من كل قبيلة جماعة { ليتفقهوا في الدين } ليتعلموا القرآن والسنن والحدود . يعني : الفرقة القاعدين { ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم } وليعلموهم ما نزل من القرآن ويخوفوهم يه { لعلهم يحذرون } فلا يعملون بخلاف القرآن .
{ يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم } يقربون منكم . أمروا بقتال الأدنى فالأدنى من عدوهم من المدينة { وليجدوا فيكم غلظة } شدة وعنفا .
{ وإذا ما أنزلت سورة فمنهم } من المنافقين { من يقول أيكم زادته هذه إيمانا } يقوله المنافقون بعضهم لبعض هزؤا ، فقال الله تعالى : { فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا } تصديقا ، لأنهم صدقوا بالأولى والثانية { وهم يستبشرون } يفرحون بنزول السورة .
{ وأما الذين في قلوبهم مرض } شك ونفاق { فزادتهم رجسا إلى رجسهم } كفرا إلى كفرهم ، لأنهم كلما كفروا بسورة ازداد كفرهم .
{ أو لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين } يمتحنون بالأمراض والأوجاع ، وهن روائد الموت { ثم لا يتوبون } من النفاق ، ولا يتعظون كما يتعظ المؤمن بالمرض .
{ وإذا ما أنزلت سورة } كان إذا نزلت سورة فيها عيب المنافقين ، وتلا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم شق ذلك عليهم ، و { نظر بعضهم إلى بعض } يريدون الهرب من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال بعضهم لبعض : { هل يراكم من أحد } إن قمتم ، فإن لم يرهم أحد خرجوا من المسجد ، وإن علموا أن أحدا يراهم ثبتوا مكانهم حتى يفرغ من خطبته { ثم انصرفوا } على عزم الكفر والتكذيب { صرف الله قلوبهم } عن كل رشد وهدى { بأنهم قوم لا يفقهون } جزاء على فعلهم ، وهو أنهم لا يفقهون عن الله دينه وما دعاهم الله إليه .
{ لقد جاءكم رسول من أنفسكم } من العرب من بني إسماعيل ليفهموا منه { عزيز عليه ما عنتم } شديد عليه مشقتكم وكل مضرة تصيبكم { حريص عليكم } أن تؤمنوا . وهذا خطاب للكفار ومن لم يؤمن به ، ثم ذكر أنه { بالمؤمنين رؤوف رحيم } .
{ فإن تولوا } أعرضوا عن الإيمان . يعني : المشركين والمنافقين { فقل حسبي الله } أي : الذي يكفيني الله { لا إله إلا هو عليه توكلت } وبه وثقت { وهو رب العرش العظيم } خص بالذكر لأنه أعظم ما خلق الله عز وجل .