بسم الله الرحمن الرحيم مكية كلها إلا خمس آيات، أولها " واسألهم عن القرية التي كانت ". 1- " المص "
2- " كتاب "، أي: هذا كتاب، "أنزل إليك "، وهو القرآن، " فلا يكن في صدرك حرج منه "، قال مجاهد : شك، فالخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم والمراد به الأمة. وقال أبو العالية : حرج أي ضيق، معناه لا يضيق صدرك بالإبلاغ وتأدية ما أرسلت به، " لتنذر به "، أي: كتاب أنزل إليك لتنذر به " وذكرى للمؤمنين "،: عظة لهم، وهو رفع، مردود على الكتاب.
3- " اتبعوا "، أي: وقل لهم اتبعوا: " ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء "، أي: لا تتخذوا غيره أولياء تطيعونهم في معصية الله تعالى، " قليلاً ما تذكرون "، تتعظون،وقرأ ابن عامر: " يتذكرون "، بالياء والتاء.
4- " وكم من قرية أهلكناها "، بالعذاب، و " كم " للتكثير و ( رب ) للتقليل، " فجاءها بأسنا "،عذابنا، " بياتاً "، ليلاً " أو هم قائلون "،من القيلولة، تقديره:فجاءها بأسنا ليلاً وهم نائمون، أو نهاراً وهم قائلون، أي نائمون ظهيرة، والقيلولة الاستراحة نصف النهار، وإن لم يكن معها نوم. ومعنى الآية: إنهم جاءهم بأسنا وهم غير متوقعين له إما ليلاً أو نهاراً. قال الزجاج : و(أو) لتصريف العذاب، مرة ليلاً ومرة نهاراً. وقيل: معناه من أهل القرى من أهلكناهم ليلاً، ومنهم من أهلكناهم نهارا. فإن قيل: ما معنا أهلكناها فجاءها بأسنا ؟ فكيف يكون مجيء البأس بعد الهلاك ؟ قيل: معنى قوله: (أهلكنا) أي: حكمنا بإهلاكها فجاءها بأسنا. وقيل: فجاءها بأسنا هو بيان قوله ( أهلكناها )مثل قول القائل: أعطيتني فأحسنت إلي، لا فرق بينه و بين قوله: أحسنت إلي فأعطيني، فيكون أحدهما بدلاً من الآخر.
5- " فما كان دعواهم "، أي: قولهم ودعاؤهم وتضرعهم، والدعوى تكون بمعنى الادعاء وبمعنى الدعاء، قال سيبويه: تقول العرب اللهم أشركنا في صالح دعوى المسلمين أي في دعائهم، " إذ جاءهم بأسنا "، عذابنا، " إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين "، معناه لم يقدروا على رد العذاب، وكان حاصل أمرهم الاعتراف بالجناية حين لا ينفع الاعتراف.
6-" فلنسألن الذين أرسل إليهم "، يعني: الأمم عن إجابتهم الرسل، وهذا سؤال توبيخ لا سؤال استعلام، يعني: لنسألهم عما عملوا فيما بلغتهم الرسل، " ولنسألن المرسلين "، عن الإبلاغ.
7- " فلنقصن عليهم بعلم " أي: لنخبرنهم عن علم . قال ابن عباس رضي الله عنهما: ينطق عليهم كتاب أعمالهم، كقوله تعالى" هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق ".(الجاثية،29)، " وما كنا غائبين "، عن الرسل فيما بلغوا، وعن الأمم فيما أجابوا.
8- قوله عز وجل: " والوزن يومئذ الحق "، يعني: يوم السؤال. قال مجاهد : معناه والقضاء يومئذ العدل. وقال الأكثرون: أراد به وزن الأعمال بالميزان، وذاك أن الله تعالى ينصب ميزاناً له لسان وكفتان كل كفة بقدر ما بين المشرق والمغرب. واختلفوا في كيفية الوزن، فقال بعضهم: توزن صحائف الأعمال: وروينا: ( أن رجلاً ينشر عليه تسعة وتسعون سجلاً، كل سجل مد البصر، فيخرج له بطاقة فيها شهادة أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فتوضع السجلات في كفة، والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات وثقلت البطاقة ). وقيل: توزن الأشخاص ، وروينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة ". وقيل توزن الأعمال، روي ذلك عن ابن عباس، فيؤتى بالأعمال الحسنة على صورة حسنة وبالأعمال السيئة على صورة قبيحة فتوضع في الميزان، والحكمة في وزن الأعمال امتحان الله عباده بالإيمان في الدنيا وإقامة الحجة عليهم في العقبى، " فمن ثقلت موازينه "، قال مجاهد : حسناته، "فأولئك هم المفلحون ".
9- " ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون "، يجحدون، قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه حين حضره الموت في وصيته لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: إنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتباعهم الحق في الدنيا، وثقله عليهم، وحق لميزان يوضع فيه الحق غداً أن يكون ثقيلاً، وإنما خفت موازين من خفت موازينه يوم القيامة باتباعهم الباطل في الدنيا، وخفته عليهم، وحق لميزان يوضع فيه الباطل غدا أن يكون خفيفا. فإن قيل: قد قال: ( من ثقلت موازينه) ذكر بلفظ الجمع، والميزان واحد ؟ قيل: يجوز أن يكون لفظه جمعاً ومعناه واحد كقوله: (يا أيها الرسل)، وقيل: لكل عبد ميزان، وقيل: الأصل ميزان واحد عظيم، ولكل عبد فيه ميزان علق به، وقيل جمعه: لأن الميزان يشتمل على الكفتين والشاهدين واللسان، ولا يتم الوزن إلا باجتماعها.
10- قوله تعالى: " ولقد مكناكم في الأرض"، أي: مكناكم والمراد من التمكين التمليك والقدرة، " وجعلنا لكم فيها معايش "، أي: أسباباً تعيشون بها أيام حياتكم من التجارات والمكاسب والمآكل والمشارب والمعايش جمع المعيشة، " قليلاً ما تشكرون "، فيما صنعت إليكم .
11- قوله عز وجل: " ولقد خلقناكم ثم صورناكم " قال ابن عباس: خلقناكم، أي: أصولكم وآباءكم ثم صورناكم في أرحام أمهاتكم . وقال قتادة و الضحاك و السدي : أما (خلقناكم) فآدم، وأما (صورناكم) فذريته. وقال مجاهد في خلقناكم: آدم، ثم صورناكم في ظهر آدم ثم صورناكم يوم الميثاق حين أخرجكم كالذر. وقال عكرمة : خلقناكم في أصلاب الرجال ثم صورناكم في أرحام النساء . وقال يمان : خلق الإنسان في الرحم ثم صوره وشق سمعه وبصره وأصابعه.وقيل: الكل آدم خلقه وصوره و(ثم) بمعنى الواو. " ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم "، فإن قيل: الأمر بسجود الملائكة كان قيل خلق بني آدم، فما وجه قوله (ثم قلنا) وثم للترتيب وللتراخي ؟ قيل: على قول من يصرف الخلق والتصوير إلى آدم وحده يستقيم هذا الكلام، أما على قول من يصرفه إلى الذرية: فعنه أجوبة: أحدها (ثم) بمعنى الواو، أي: وقلنا للملائكة، فلا تكون للترتيب والتعقيب. وقيل أراد (ثم) أخبركم أنا قلنا للملائكة اسجدوا. وقيل فيه تقديم وتأخير تقديره ولقد خلقناكم، يعني: آدم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ثم صورناكم. قوله تعالى " فسجدوا "، يعني الملائكة، " إلا إبليس لم يكن من الساجدين "، لآدم .
12- " قال "، الله تعالى يا إبليس: " ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك "، أي: وما منعك أن تسجد و(لا) زائدة كقوله تعالى: " وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون "(الأنبياء،95)." قال "، إبليس مجيباً " أنا خير منه " لأنك "خلقتني من نار وخلقته من طين "، والنار خير وأنو من الطين. قال ابن عباس: أول من قاس إبليس فأخطأ القياس، فمن قاس الدين بشيء من رأيه قرنه الله مع إبليس. قال ابن سيرين : ما عبدت الشمس إلا بالقياس. قال محمد بن جرير : ظن الخبيث أن النار خير من الطين ولم يعلم أن الفضل لمن جعل الله له الفضل، وقد فضل الله الطين على النار من وجوه منها: أن من جوهر الطين الرزانة والوقار والحلم والصبر وهو الداعي لآدم بعد السعادة التي سبقت له إلى التوبة والتواضع والتضرع فأورثه الاجتباء والتوبة والهداية، ومن جوهر النار الخفة والطيش والحدة والارتفاع وهو الداعي لإبليس بعد الشقاوة التي سبقت له إلى الاستكبار والإصرار، فأورثه اللعنة والشقاوة، ولأن الطين سبب جمع الأشياء والنار سبب تفرقها ولأن التراب سبب الحياة، فإن حياة الأشجار والنبات به، والنار سبب الهلاك.
13- قوله تعالى: " قال فاهبط منها "، أي: من الجنة، وقيل: من السماء إلى الأرض وكان له ملك الأرض فأخرجه منها إلى جزائر البحر وعرشه في البحر الأخضر، فلا يدخل الأرض إلا خائفاً على هيئة السارق مثل شيخ عليه أطمار يروع فيها حتى يخرج منها . قوله تعالى: " فما يكون لك أن تتكبر "، بمخالفة الأمر، " فيها "،أي: في الجنة، فلا ينبغي أن يسكن في الجنة ولا السماء متكبر مخالف لأمر الله تعالى:" فاخرج إنك من الصاغرين "، من الأذلاء، والصغار: الذل والمهانة.
14- " قال "، إبليس عند ذلك، " أنظرني "، أخرني وأمهلني فلا تمتني، " إلى يوم يبعثون "، من قبورهم وهو النفخة الأخيرة عند قيام الساعة، أراد الخبيث أن لا يذوق الموت.
15- " قال "، الله تعالى، " إنك من المنظرين "، المؤخرين، وبين مدة النظر والمهلة في موضع آخر فقال: "إلى يوم الوقت المعلوم"، (الحجر،38) وهو النفخة الأولى حين يموت الخلف كلهم.
16- " قال فبما أغويتني "، اختلفوا في (ما) قيل: هو استفهام يعني فبأي شيء أغويتني ؟ثم ابتدأ فقال: " لأقعدن لهم "وقيل: ( ما ) الجزاء، أي: لأجل أنك أغويتني لأحقدن لهم. وقيل: هو (ما) المصدرية موضع القسم تقديره: فبإغوائك إياي لأقعدن لهم، كقوله "بما غفر لي ربي" (يس،27)، يعني: لغفران ربي. والمعنى بقدرتك علي ونفاذ سلطانك في . وقال ابن الأنباري : أي فيما أوقعت في قلبي من الغي الذي كان سبب هبوطي من السماء، أغويتني: أضللتني عن الهدى. وقيل: أهلكتني. وقيل: خيبتني، " لأقعدن لهم صراطك المستقيم "، أي: لأجلسن لبني آدم على طريقك القويم وهو الإسلام.
17- " ثم لآتينهم من بين أيديهم "، قال علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس: من بين أيديهم أي من قبل الآخرة فأشككهم فيها، " ومن خلفهم "، أرغبهم في دنياهم، " وعن أيمانهم "، أشبه عليهم أمر دينهم . " وعن شمائلهم "، أشهي لهم المعاصي. وروى عطية عن ابن عباس: " من بين أيديهم " من قبل دنياهم، يعني أزينها في قلوبهم، " ومن خلفهم "، من قبل الآخرة فأقول: لا بعث، ولا نشور، ولا جنة، ولا نار، " وعن أيمانهم " من قبل حسناتهم، " وعن شمائلهم " من قبل سيئاتهم . وقال الحكم : من بين أيديهم: من قبل الدنيا يزينها لهم، ومن خلفهم: من قبل الآخرة يثبطهم عنها،وعن أيمانهم: من قبل الحق يصدهم عنه ، وعن شمائلهم: من قبل الباطل يزينه لهم. وقال قتادة : أتاهم من بين أيديهم فأخبرهم أنه لا بعث ولا جنة ولا نار، ومن خلفهم: من أمور الدنيا يزينها لهم ويدعوهم إليها، وعن إيمانهم: من قبل حسناتهم بطأهم عنها ، وعن شمائلهم: زين لهم السيئات والمعاصي ودعاهم إليها أتاك يا بن آدم من كل وجه غير أنه لم يأتك من فوقك لم يستطع أن يحول بينك وبين رحمة الله. وقال مجاهد : من بين أيديهم وعن أيمانهم من حيث يبصرون، ومن خلفهم وعن شمائلهم حيث لا يبصرون. وقال ابن جريج : معنى قوله حيث لا يبصرون أي لا يخطئون وحيث لا يبصرون أي لا يعلمون أنهم يخطئون. " ولا تجد أكثرهم شاكرين "، مؤمنين، فإن قيل: كيف علم الخبيث ذلك ؟ قيل: قاله ظناً فأصاب، قال الله تعالى " ولقد صدق عليهم إبليس ظنه" (سبأ،20).
18- " قال "، الله تعالى لإبليس، " اخرج منها مذؤوما مدحورا "، أي: معيباً، والذيم والذام أشد العيب، يقال: ذأمه يذأمه ذأماً فهو مذؤوم وذامه يذيمه ذاماً فهو مذيم، مثل سار يسير سيراً. والمدحور: المبعد المطرود، يقال: دحره يدحره دحراً إذا أبعده وطرده. قال ابن عباس: مذؤوماً أي ممقوتاً. وقال قتادة : مذؤوماً مدحوراً أي: لعيناً منفياً. وقال الكلبي : مذؤوماً: ملوماً، مدحوراً: مقصياً من الجنة ومن كل خير. " لمن تبعك منهم "، من بني آدم، " لأملأن جهنم "، اللام لام القسم " منكم أجمعين "، أي: منك ومن ذريتك ومن كفار ذرية آدم أجمعين.
19- " ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين ".
20- " فوسوس لهما الشيطان "، أي: إليهما، والوسوسة: حديث يلقيه الشيطان في قلب الإنسان " ليبدي لهما ما وري عنهما من سوآتهما "، أي: أظهر لهما ما غطي وستر عنهما من عوراتهما، قيل: اللام فيه لام العاقبة وذلك أن إبليس لم يوسوس بهذا ولكن كان عاقبة أمرهم ذلك، وهو ظهور عورتهما، كقوله تعالى: " فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً " (القصص، 8)، ثم بين الوسوسة فقال: " وقال " يعني: إبليس لآدم وحواء " ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين "، يعني: لئلا تكونا، كراهية أن تكونا ملكين من الملائكة يعلمان الخير والشر، " أو تكونا من الخالدين "، من الباقين الذين لا يموتون كما قال في موضع آخر: " هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى " (طه،120).
21- " وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين "، أي: وأقسم وحلف لهما وهذا من المفاعلة التي تختص بالواحد، قال قتادة : حلف لهما بالله حتى خدعهما، وقد يخدع المؤمن بالله، فقال: إني خلقت قبلكما وأنا أعلم منكما فاتبعاني أرشدكما، وإبليس أول من حلف بالله كاذباً، فلما حلف ظن آدم أن أحداً لا يحلف باله كاذباً، فاغتر به .
22- " فدلاهما بغرور "، أي: خدعهما، يقال: ما زال فلان يدلي لفلان بغرور، يعني: ما زال يخدعه ويكلمه بزخرف باطل من القول. وقيل حطهما من منزلة الطاعة إلى حال المعصية، ولا يكون التدلي إلا من علو إلى أسفل والتدلية: إرسال الدلو في البئر، يقال: تدلى بنفسه ودلى غيره، قال الأزهري: أصله تدلية العطشان البئر ليروى من الماء ولا يجد الماء فيكون مدلى بغرور، والغرور: إظهار النصح مع إبطان الغش. " فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما "، قال الكلبي : فلما أكلا منها. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قبل أن ازدردا أخذتهما العقوبة، والعقوبة أن (بدت) ظهرت لهما ( سوآتهما) عوراتهما، وتهافت عنهما لباسهما حتى أبصر كل واحد منهما ما ووري عنه من عورة صاحبه، وكانا لا يريان ذلك، قال وهب : كان لباسهما من النور. وقال قتادة : كان ظفراً ألبسهما الله من الظفر لباساً فلما وقعا في الذنب بدت لهما سوآتهما فاستحيا، " وطفقا "، أقبلا وجعلا " يخصفان "، يرقعان ويلزقان ويصلان، " عليهما من ورق الجنة "، وهو ورق التين حتى صار كهيئة الثوب. قال الزجاج : يجعلان ورقة على ورقة ليسترا سوآتهما. وروي عن أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " كان آدم رجلاً طوالاً كأنه نخلة سحوق كثير شعر الرأس، فلما وقع في الخطيئة بدت له سوأته، وكان لا يراها فانطلق هارباً في الجنة، فعرضت له شجرة من شجر الجنة فحبسته بشعره، فقال لها: أرسليني، قالت: لست بمرسلتك، فناداه ربه: يا آدم أمني تفر ؟قال: لا يا رب، ولكن استحييتك ". " وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة "، يعني: الأكل منها، " وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين "، أي: بين العداوة، قال محمد بن قيس : ناداه ربه يا آدم أكلت منها وقد نهيتك ؟ قال: رب أطعمتني حواء، قال لحواء: لم أطعمتيه ؟ قالت: أمرتني الحية، قال للحية: لم أمرتيها ؟ قالت: أمرني إبليس، فقال الله تعالى: أما أنت يا حواء فكما أدميت الشجرة فتدمين كل شهر، وأما أنت يا حية فأقطع قوائمك فتمشين على بطنك ووجهك، وسيشدخ رأسك من لقيك، وأما أنت يا إبليس فملعون مدحور .
23- " قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين "
24- " قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين ".
25- " قال فيها تحيون "، يعني في الأرض تعيشون، " وفيها تموتون ومنها تخرجون "، أي: من الأرض تخرجون من قبوركم للبعث، قرأ ابن عامر و حمزة و الكسائي : " تخرجون "، بفتح التاء هاهنا وفي الزخرف، وافق يعقوب هاهنا وزاد حمزة و الكسائي : ( وكذلك تخرجون )في أول الروم، والباقون بضم التاء وفتح الراء فيهن .
26- " يا بني آدم قد أنزلنا عليكم "، أي: خلقنا لكم " لباساً "، وقيل: إنما قال: ( أنزلنا ) لأن اللباس إنما يكون من نبات الأرض، والنبات يكون بما ينزل من السماء، فمعنى قوله: " أنزلنا "، أي: أنزلنا أسبابه .وقيل: كل بركات الأرض منسوبة إلى بركات السماء كما قال تعالى: " وأنزلنا الحديد" (سورة الحديد،25) وإنما يستخرج الحديد من الأرض. وسبب نزول هذه الآية: أنهم كانوا في الجاهلية يطوفون بالبيت عراة، ويقولون: لا نطوف في ثياب عصينا الله فيها، فكان الرجال يطوفون بالنهار والنساء بالليل عراة. وقال قتادة : كانت المرأة تطوف وتضع يدها على فرجها وتقول: اليوم يبدو بعضه أو كله وما بدا منه فلا أحله فأمر الله سبحانه بالستر فقال: " قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوآتكم "، يستر عوراتكم، واحدتها سوأة، سميت بها لأنه يسوء صاحبها انكشافها، فلا تطوفوا عراةً، " وريشاً "، يعني: مالاً في قول ابن عباس و مجاهد و الضحاك و السدي ، يقال: تريش الرجل إذا تمول، وقيل: الريش الجمال، أي: ما يتجملون به من الثياب، وقيل: هو اللباس . " ولباس التقوى ذلك خير "، قرأ أهل المدينة و ابن عامر و الكسائي " ولباس " بنصب السين عطفاً على قوله " لباساً " وقرأ الآخرون بالرفع على الابتداء وخبره " خير "، وجعلوا " ذلك " صلة في الكلام، ولذلك قرأ ابن مسعود وأبي بن كعب " ولباس التقوى ذلك خير ". واختلفوا في " لباس التقوى " قال قتادة و السدي : لباس التقوى هو الإيمان . وقال الحسن : هو الحياء لأنه يبعث على التقوى . وقال عطية عن ابن عباس: هو العمل الصالح. وعن عثمان بن عفان، أنه قال: السمت الحسن. وقال عروة بن الزبير: لباس التقوى خشية الله، وقال الكلبي : هو العفاف. والمعنى: لباس التقوى خير لصاحبه إذا أخذ به مما خلق له من اللباس للتجمل . وقال ابن الأنباري : لباس التقوى هو اللباس الأول وإنما أعاده إخباراً أن ستر العورة خير من التعري في الطواف. وقال زيد بن علي : لباس التقوى الآلات التي يتقى بها في الحرب كالدرع والمغفر والساعد والساقين . وقيل: لباس التقوى هو الصوف والثياب الخشنة التي يلبسها أهل الورع. " ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون "
27- " يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان "، لا يضلنكم الشيطان، " كما أخرج أبويكم "، أي: كما فتن أبويكم آدم وحواء فأخرجهما، " من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما "، ليرى كل واحد سوأة الآخر . " إنه يراكم "، يعني أن الشيطان يراكم يا بني آدم، " هو وقبيله " ، جنوده. قال ابن عباس: هو وولده. وقال قتادة : قبيله: الجن والشياطين، " من حيث لا ترونهم "، قال مالك بن دينار : إن عدواً يراك ولا تراه لشديد الخصومة والمؤنه إلا من عصم الله، " إنا جعلنا الشياطين أولياء "، قرناء وأعواناً، " للذين لا يؤمنون " وقال الزجاج : سلطانهم عليهم يزيدون في غيهم كما قال: " أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا "[مريم-83].
28- " وإذا فعلوا فاحشةً " قال ابن عباس و مجاهد : هي طوافهم بالبيت عراة. وقال عطاء : الشرك والفاحشة: اسم لكل فعل قبيح بلغ النهاية في القبح." قالوا وجدنا عليها آباءنا "، وفيه إضمار معناه: وإذا فعلوا فاحشة فنهوا عنها قالوا وجدنا عليها آباءنا. قيل: ومن أين أخذ آباؤكم ؟ قالوا، " والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون ".
29- " قل أمر ربي بالقسط "، قال ابن عباس: بلا إله إلا الله. وقال الضحاك : بالتوحيد. وقال مجاهد و السدي : بالعدل. " وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد " قال مجاهد و السدي : يعني وجهوا وجوهكم حيث ما كنتم في الصلاة إلى الكعبة. وقال الضحاك : إذا حضرت الصلاة وأنتم عند مسجد فصلوا فيه ولا يقولن أحدكم أصلي في مسجدي. وقيل: معناه اجعلوا سجودكم لله خالصاً." وادعوه "، واعبدوه، " مخلصين له الدين "، الطاعة والعبادة، " كما بدأكم تعودون "، قال ابن عباس: إن الله تعالى بدأ خلق بني آدم مؤمناً وكافراً كما قال: "هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن " (التغابن،2) ثم يعيدهم يوم القيامة كما خلقهم مؤمناً وكافراً. قال مجاهد : يبعثون على ما ماتوا عليه. أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي حدثنا أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي أنبأنا محمد بن عبد الله الصفار حدثنا أحمد بن محمد بن عيسى البرتي حدثنا أبو حذيفة حدثنا سفيان الثوري عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يبعث كل عبد على ما مات عليه، المؤمن على إيمانه والكافر على كفره ". وقال أبو العالية : عادوا على عمله فيهم . قال سعيد بن جبير : كما كتب عليكم تكونون. قال محمد بن كعب : من ابتدأ الله خلقه على الشقاوة صار إليها وإن عمل بعمل أهل السعادة، كما أن إبليس كان يعمل بعمل أهل السعادة ثم صار إلى الشقاوة، ومن ابتدأ خلقه على السعادة صار إليها وإن عمل بعمل أهل الشقاء، وكما أن السحرة كانت تعمل بعمل أهل الشقاوة فصاروا إلى السعادة. أخبرنا عبد الواحد المليحي أنبأنا عبد الرحمن بن أبي شريح أنبأنا أبو القاسم البغوي ثنا علي بن الجعد حدثنا أبو غسان عن أبي حازم قال: سمعت سهل بن سعد يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن العبد يعمل فيما يرى الناس بعمل أهل الجنة وإنه من أهل النار، وإنه ليعمل فيما يرى الناس بعمل أهل النار وإنه من أهل الجنة، وإنما الأعمال بالخواتيم ". وقال الحسن و مجاهد : كما بدأكم فخلقكم في الدنيا ولم تكونوا شيئاً، كذلك تعودون أحياء يوم القيامة كما قال الله تعالى: " كما بدأنا أول خلق نعيده " (الأنبياء،104)، قال قتادة : بدأهم من التراب وإلى التراب يعودون، نظيره قوله تعالى: " منها خلقناكم وفيها نعيدكم " (طه،55).
30- قوله عز وجل: " فريقاً هدى "، أي هداكم الله، " وفريقاً حق "، وجب " عليهم الضلالة "، أي: بالإرادة السابقة، " إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون "، فيه دليل على أن الكافر الذي يظن أنه في دينه على الحق والجاحد والمعاند سواء.
31- قوله تعالى: " يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد "، قال أهل التفسير: كانت بنو عامر يطوفون بالبيت عراة، فأنزل الله عز وجل: " يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد"، يعني الثياب. قال مجاهد : ما يواري عورتك ولو عباءة. قال الكلبي : الزينة ما يواري العورة عند كل مسجد لطواف أو صلاة. " وكلوا واشربوا "، قال الكلبي : كانت بنو عامر لا يأكلون في أيام حجهم من الطعام إلا قوتاً ولا يأكلون دسماً، يعظمون بذلك حجهم، فقال المسلمون: نحن أحق أن نفعل ذلك يا رسول الله، فأنزل الله عز وجل: (وكلوا) يعني اللحم والدسم (واشربوا) اللبن " ولا تسرفوا"، بتحريم ما أحل الله لكم من اللحم والدسم، " إنه لا يحب المسرفين "، الذين يفعلون ذلك . قال ابن عباس: كل ما شئت والبس ماشئت ما أخطأتك خصلتان سرف ومخيلة. قال علي بن الحسين بن واقد : قد جمع الله الطب كله في نصف آية فقال: " كلوا واشربوا ولا تسرفوا ".
32- قوله عز وجل: " قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده "، يعني لبس الثياب في الطواف، " والطيبات من الرزق "، يعني اللحم والدسم في أيام الحج. وعن ابن عباس و قتادة : والطيبات من الرزق ما حرم أهل الجاهلية ن البحائر والسوائب. " قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصةً يوم القيامة "، فيه حذف تقديره: هي للذين آمنوا وللمشركين في الحياة الدنيا فإن أهل الشرك يشاركون المؤمنين في طيبات الدنيا،وهي في الآخرة خالصة للمؤمنين لا حظ للمشركين فيها . وقيل: هي خالصة يوم القيامة من التنغيص والغم للمؤمنين، فإنها لهم في الدنيا مع التنغيص والغم . قرأ نافع " خالصة " رفع، أي: قل هي للذين آمنوا مشتركين في الدنيا، وهي في الآخرة خالصة يوم القيامة للمؤمنين. وقرأ الآخرون بالنصب على القطع، " كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون " .
33- " قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن "، يعني: الطواف عراة " ما ظهر "طواف الرجال بالنهار " وما بطن " طواف النساء بالليل. وقيل: هو الزنا سراً وعلانيةً . أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنبأنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا سليمان بن حرب حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي وائل عن عبد الله قال قلت: أنت سمعت هذا من عبد الله ؟ قال: نعم، فرفعه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا أحد أغير من الله، فلذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد أحب إليه المدح من الله فلذلك مدح نفسه ". قوله عز وجل: " والإثم "، يعني: الذنب والمعصية. وقال الضحاك:الذنب الذي لا حد فيه.قال الحسن : الإثم: الخمر. قال الشاعر: شربت الإثم حتى ضل عقلي كذاك الإثم تذهب بالعقول " والبغي "، الظلم والكبر، " بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً "، حجةً وبرهاناً، " وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون "،في تحريم الحرث والأنعام، في قول مقاتل . وقال غيره، هو عام في تحريم القول في الدين من غير يقين .
34- " ولكل أمة أجل "، مدة، وأكل وشرب، وقال ابن عباس و عطاء و الحسن : يعني وقتاً لنزول العذاب بهم، " فإذا جاء أجلهم "، وانقطع أكلهم، " لا يستأخرون ساعةً ولا يستقدمون "، أي: ولا يتقدمون. وذلك حين سألوا العذاب فأنزل هذه الآية.
35- قوله تعالى: " يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم "، أي: يأتيكم. قيل: أراد جميع الرسل. وقال مقاتل : أراد بقوله: " يا بني آدم " مشركي العرب وبالرسل محمداً صلى الله عليه وسلم وحده، " يقصون عليكم آياتي "، قال ابن عباس: فرائضي وأحكامي، " فمن اتقى وأصلح "، أي: اتقى الشرك وأصلح عمله. وقيل: أخلص ما بينه وبين ربه " فلا خوف عليهم "، إذا خاف الناس، " ولا هم يحزنون "، أي: إذا حزنوا.
36- " والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها "،تكبروا على الإيمان بها، وإنما ذكر الاستكبار لأن كل مكذب وكافر متكبر. قال الله تعالى" إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون " (الصافات، 35)، " أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ".
37- " فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً " جعل له شريكاً، " أو كذب بآياته "، بالقرآن " أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب "، أي: حظهم مما كتب لهم في اللوح المحفوظ. واختلفوا فيه، قال الحسن و السدي : ما كتب لهم من العذاب وقضى عليهم من سواد الوجوه وزرقة العيون. قال عطية عن ابن عباس: كتب لمن يفتري على الله أن وجهه مسود، قال الله تعالى: "ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة" (الزمر،60) وقال سعيد بن جبير و مجاهد : ما سبق لهم من الشقاوة والسعادة. وقال ابن عباس و قتادة / و الضحاك : يعني أعمالهم التي عملوها وكتب عليهم من خير وشر يجزي عليها. وقال محمد بن كعب القرظي : ما كتب لهم من الأرزاق والآجال والأعمار والأعمال فإذا فنيت، " جاءتهم رسلنا يتوفونهم "، يقبضون أرواحهم يعني ملك الموت وأعوانه، " قالوا "، يعني يقول الرسل للكافر، " أين ما كنتم تدعون "، تعبدون " من دون الله "، سؤال تبكيت وتقريع، " قالوا ضلوا عنا "، بطلوا وذهبوا عنا، " وشهدوا على أنفسهم "، اعترفوا عند معاينة الموت، " أنهم كانوا كافرين".
38- " قال ادخلوا في أمم "، يعني:يقول الله لهم يوم القيامة ادخلوا في أمم، أي: مع جماعات،" قد خلت "، مضت، " من قبلكم من الجن والإنس في النار "، يعني كفار الأمم الخالية، " كلما دخلت أمة لعنت أختها "، يريد أختها في الدين لا في النسب، فتلعن اليهود اليهود والنصارى النصارى، وكل فرقة تلعن أختها ويلعن الأتباع القادة، ولم يقل أخاها لأنه عنى الأمة والجماعة، " حتى إذا اداركوا فيها "، أي: تداركوا وتلاحقوا واجتمعوا في النار، " جميعاً قالت أخراهم "، قال مقاتل : يعني أخراهم دخولاً النار وهم الأتباع، " لأولاهم "، أي: لأولاها. وقال السدي : أهل آخر الزمان لأولاهم الذين شركوا لهم ذلك الدين، " ربنا هؤلاء "، الذين، " أضلونا "، عن الهدى يعني القادة " فآتهم عذاباً ضعفاً من النار"، أي: ضعف عليهم العذاب، " قال "، الله تعالى، " لكل ضعف "، يعني للقادة والأتباع ضعف من العذاب، " ولكن لا تعلمون " ما لكل فريق منكم من العذاب. قرأ الجمهور: ( ولكن لا تعلمون )، وقرأ أبو بكر ( لا يعلمون ) بالياء، أي: لا يعلم الأتباع ما للقادة ولا القادة ما للأتباع.
39- " وقالت أولاهم "، يعني القادة " لأخراهم "، للأتباع، " فما كان لكم علينا من فضل "، لأنكم كفرتم كما كفرنا فنحن وانتم في الكفر سواء وفي العذاب سواء، " فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون ".
40- " إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم " بالتاء، خفف أبو عمرو ، وبالياء، خفف حمزة و الكسائي ، والباقون بالتاء مشددة، " أبواب السماء "، لأدعيتهم ولا لأعمالهم. وقال ابن عباس: لأرواحهم لأنها خبيثة لا يصعد بها بل يهوى بها إلى سجين، إنما تفتح أبواب السماء لأرواحهم المؤمنين وأدعيتهم وأعمالهم، " ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط "، أي: حتى يدخل البعير في ثقب الإبرة، والخياط والمخيط الإبرة، والمراد منه: أنهم لا يدخلون الجنة أبداً لأن الشيء إذا علق بما يستحيل كونه يدل ذلك على تأكيد المنع، كما يقال: لا أفعل كذا حتى يشيب الغراب أو يبيض القار. يريد لا أفعله أبداً. " وكذلك نجزي المجرمين ".
41- " لهم من جهنم مهاد "، أي: فراش، " ومن فوقهم غواش "، أي: لحف. وهي جمع غاشية، يعني ما غشاهم وغطاهم، يريد إحاطة النار بهم من كل جانب، كما قال الله، "لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل" (الزمر،16)، " وكذلك نجزي الظالمين ".
42- " والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفساً إلا وسعها "، أي: طاقتها وما لا تحرج فيه ولا تضيق عليه، " أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ".
43- " ونزعنا " وأخرجنا، " ما في صدورهم من غل "، من غش وعداوة كانت بينهم في الدنيا فجعلناهم إخوانا على سرر متقابلين لا يحسد بعضهم بعضا على شيء خص الله به بعضهم " تجري من تحتهم الأنهار"، روى الحسن عن علي رضي الله عنه قال: فينا والله أهل بدر نزلت:" ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانًا على سرر متقابلين". وقال علي رضي الله عنه أيضا:إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير من الذين قال لهم الله عز وجل"ونزعنا ما في صدورهم من غل". أخبرنا عبد الواحد المليحي أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنبأنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا الصلت بن محمد حدثنا يزيد بن زريع حدثنا سعيد عن قتادة عن أبي المتوكل الناجي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يخلص المؤمنون من النار، فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة، فوالذي نفس محمد بيده لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله كان في الدنيا". وقال السدي في هذه الآية: إن أهل الجنة إذا سيقوا إلى الجنة وجدوا عند بابها شجرة، في أصل ساقها عينان، فشربوا من إحداهما، فينزع ما في صدورهم من غل، فهو الشراب الطهور، واغتسلوا من الأخرى فجرت عليهم نضرة النعيم فلن يشعثوا ولن يسحنوا بعدها أبدًا، أي إلى هذا، يعني طريق الجنة. وقال سفيان الثوري معناه هدانا لعمل هذا ثوابه، " وما كنا "، قرأ ابن عامر "ما كنا" بلا واو،" لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق"، هذا قول أهل الجنة حين رأوا ما وعدهم الرسل عيانًا، " ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون"، قيل: هذا النداء إذا رأوا الجنة من بعيد نودوا أن تلكم الجنة. أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة الخطيب أنبأنا أبو طاهر محمد بن الحارث أنبأنا محمد بن يعقوب الكسائي أنبأنا عبد الله بن محمد أنبأنا إبراهيم بن عبد الله الخلال حدثنا عبد الله بن المبارك عن سفيان عن أبي إسحاق عن الأغر عن أبي سعيد وعن أبي هريرة قالا: ينادي مناد:إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا، إن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدًا، وإن لكم أن تحيوا قلا تموتوا أبدًا، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدًا، وإن لكم أن تنعموا فالا تبأسوا أبدًا،فذلك قوله : "نودوا أن تلكم الجنة، أورثتموها بما كنتم تعملون" هذا حديث صحيح أخرجه مسلم بن الحجاج عن إسحاق بن إبراهيم وعبد الرحمن بن حميد عن عبد الرازق عن سفيان الثوري بهذا الاسناد مرفوعا. وروي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما من أحد إلا وله منزلة في الجنة ومنزلة في النار، فأما الكافر فإنه يرث المؤمن منزله من النار، والمؤمن يرث الكافر منزله من الجنة"
44- قوله تعالى: " ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا "، من الثواب، "حقًا"، أي صدقا، " فهل وجدتم ما وعد ربكم"، من العذاب، " حقًا قالوا نعم"، قرأ الكسائي بكسر العين حيث كان، والباقون بفتحها وهما لغتان، " فأذن مؤذن بينهم"، أي نادى مناد أسمع الفريقين،" أن لعنة الله على الظالمين"، قرأ أهل المدينة والبصرة وعاصم: ((أن)) خفيف، ((لعنة))، رفع، وقرأ الآخرون بالتشديد، ((لعنة الله)) نصب على الظالمين،أي: الكافرين.
45- " الذين يصدون"، أي يصرفون الناس،" عن سبيل الله"،طاعة الله، "ويبغونها عوجاً "، أي: يطلبونها زيغا وميلاً،أي: يبطلون سبيل الله جائرين عن القصد. قال ابن عباس: يصلون لغير الله، ويعظمون ما لم يعظمه الله. والعوج_بكسر العين_ في الدين والأمر والأرض وكل ما لم يكن قائما، وبالفتح في كل ما كان قائما كالحائط والرمح ونحوهما." وهم بالآخرة كافرون ".
46- " وبينهما حجاب "، يعني: بين الجنة والنار. وقيل: بين أهل الجنة وبين أهل النار حجاب ، وهو السور الذي ذكر الله تعالى في قوله:" فضرب بينهم بسور له باب" (الحديد، 13). قوله تعالى: " وعلى الأعراف رجال"، والأعراف هي ذلك السور الذي بين الجنة والنار، وهي جمع عرف، وهو اسم للمكان المرتفع، ومنه عرف الديك لارتفاعه عما سواه من جسده. وقال السدي :سمي ذلك السور أعرافاً لأن أصحابه يعرفون الناس. واختلفوا في الرجال الذين أخبر الله عنهم على الأعراف: فقال حذيفة وابن عباس : هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، فقصرت بهم سيئاتهم عن الجنة، وتجاوزت بهم حسناتهم عن النار، فوقفوا هناك حتى يقضي الله فيهم ما يشاء، ثم يدخلون الجنة بفضل رحمته، وهم آخر من يدخل الجنة. أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة أنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن الحارث أنا محمد بن يعقوب الكسائي أنا عبد الله بن محمود أنا إبراهيم بن عبد الله الخلال ثنا عبد الله بن المبارك عن أبي بكر الهذلي قال: قال سعيد بن جبير، عن ابن مسعود قال: يحاسب الناس يوم القيامة فمن كانت حسناته أكثر من سيئاته بواحدة دخل الحنة، ومن كانت سيئاته أكثر من حسناته بواحدة دخل النار، ثم قرأ قول الله تعالى:" فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون * ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم " (الأعراف 8-9). ثم قال: إن الميزان يخف بمثقال حبة أو يرجح. قال: ومن استوت حسناته وسيئاته كان من أصحاب الأعراف فوقفوا على الصراط، ثم عرفوا أهل الجنة وأهل النار فإذا نظروا إلى أهل الجنة نادوا سلام عليكم، وإذا صرفوا أبصارهم إلى أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين، فأما أصحاب الحسنات فإنهم يعطون نورًا يمشون به بين أيديهم وبأيمانهم، ويعطى كل عبد (يومئذ)، نورًا فإذا أتوا على الصراط سلب الله نور كل منافق ومنافقة، (فلما) رأى أهل الجنة ما لقي المنافقون قالوا ربنا أتمم لنا نورنا. فأما أصحاب الأعراف فإن النور لم ينزع من بين أيديهم،ومنعتهم سيئاتهم أن يمضوا فبقي في قلوبهم الطمع إذ لم ينزع النور من بين أيديهم ،فهنالك يقول الله: " لم يدخلوها وهم يطمعون"، وكان الطمع النور الذي بين أيديهم، ثم أدخلوا الجنة، وكانوا آخر أهل الجنة دخولاً. وقال شرحبيل بن سعد: أصحاب الأعراف قوم خرجوا في الغزو بغير إذن آبائهم. ورواه مقاتل في تفسيره مرفوعًا: هم رجال غزوا في سبيل الله [ عصاة لآبائهم فقتلوا، فأعتقوا من النار بقتلهم في سبيل الله]، وحبسوا عن الجنة بمعصية آبائهم، فهم آخر من يدخل الجنة. وروي عن مجاهد: أنهم أقوام رضي عنهم أحد الأبوين دون الآخر يحبسون على [الأعراف] إلى أن يقضي الله بين الخلق، ثم يدخلون الجنة. وقال عبد العزيز بن يحيى الكناني: هم الذين ماتوا في الفترة ولم يبدلوا دينهم.\ وقيل : هم أطفال المشركين. وقال الحسن : هم أهل الفضل من المؤمنين علوا على الأعراف فيطلعون على أهل الجنة وأهل النار جميعًا، ويطالعون أحوال الفريقين. قوله تعالى: " يعرفون كلا بسيماهم"، أي يعرفون أهل الجنة ببياض وجوههم وأهل النار بسواد وجوههم. " ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم"، أي: إذا رأوا أهل الجنة قالوا سلام عليكم، " لم يدخلوها "، يعني: أصحاب الأعراف لم يدخلوا الجنة،" وهم يطمعون"، في دخولها، قال أبوالعالية:ما جعل الله ذلك الطمع فيهم إلا كرامة[ يريد] بهم، قال الحسن الذي جعل الطمع في قلوبهم يوصلهم إلى ما يطمعون.
47-" وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار"، تعوذوا بالله، " قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين"، يعني: الكافرين في النار.
48-" ونادى أصحاب الأعراف رجالاً" كانوا عظماء في الدنيا من أهل النار، " يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم "، في الدنيا من المال والولد، " وما كنتم تستكبرون"، عن الإيمان. قال الكلبي: ينادون وهم على السور: يا وليد بن المغيرة ويا أبا جهل بن هشام ويا فلان، ثم ينظرون إلى الجنة فيرون فيها الفقراء والضعفاء ممن كانوا يستهزؤون بهم، مثل سلمان وصهيب وخباب وبلال وأشباههم، فيقول أصحاب الأعراف لأولئك الكفار:
49- "أهؤلاء الذين أقسمتم "، حلفتم، " لا ينالهم الله برحمة"، أي: حلفتم أنهم لا يدخلون الجنة. ثم يقال لأهل الأعراف:" ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون"، وفيه قول آخر:أن أصحاب الأعراف إذا قالوا لأهل النار ما قالوا، قال لهم أهل النار: إن دخل أولئك الجنة وأنتم لم تدخلوها. فيعيرونهم بذلك، ويقسمون أنهم يدخلون النار، فتقول الملائمة الذين حبسوا أصحاب الأعراف، الذين أقسمتم يا أهل النار لا ينالهم الله برحمة، ثم قالت الملائكة لأصحاب الأعراف: " ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون" فيدخلون الجنة.
50- قوله تعالى" ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا "، أي صبوا، " علينا من الماء أو مما رزقكم الله"، أي أوسعوا علينا مما رزقكم الله من طعام الجنة. قال عطاء عن ابن عباس لما صار أصحاب الأعراف إلى الجنة طمع أهل النار في الفرج، وقالوا يا رب إن لنا قرابات من أهل الجنة، فأذن لنا حتى نراهم ونكلمهم، فينظرون إلى قرابتهم في الجنة وما هم فيه من النعيم فيعرفونهم ولم يعرفهم أهل الجنة لسواد وجوههم، فينادي أصحاب النار أصحاب الجنة بأسمائهم، وأخبروهم بقراباتهم: أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله،" قالوا إن الله حرمهما على الكافرين"، يعني: الماء والطعام،
51- " الذين اتخذوا دينهم لهوًا ولعبًا" وهو ما زين لهم الشيطان من تحريم البحيرة أخواتها، والمكاء والتصدية حول البيت، وسائر الخصال الذميمة، التي كانوا يفعلونهافي الجاهلية. وقيل : دينهم أي عيدهم، " وغرتهم الحياة الدنيا فاليوم ننساهم" ، نتركهم في النار، " كما نسوا لقاء يومهم هذا" أي كما تركوا العمل للقاء يومهم هذا،" وما كانوا بآياتنا يجحدون".
52- "ولقد جئناهم بكتاب"، يعني القرآن" فصلناه" بيناه " على علم"، منا لما يصلحهم، " هدىً ورحمةً" أي جعلنا القرآن هاديًا وذا رحمة،" لقوم يؤمنون".
53- " هل ينظرون" أي: هل ينتظرون، "إلا تأويله " قالمجاهد : جزاءه. وقال السدي : عاقبته. ومعناه: هل ينتظرون إلا ما يؤول إليه أمرهم، في العذاب ومصيرهم إلى النار. " يوم يأتي تأويله" أي جزاؤه وما يؤول إليه أمرهم،" يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق"، اعترفوا به حين لا ينفعهم الإعتراف، " فهل لنا"، اليوم، " من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد" ، إلى الدنيا،" فنعمل غير الذي كنا نعمل قد خسروا أنفسهم"، أهلكوها بالعذاب، " وضل " ، [وبطل]، " عنهم ما كانوا يفترون".
54- قوله تعالى " إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام "، أراد به في مقدار ستة أيام لأن اليوم من لدن طلوع الشمس إلى غروبها، ولم يكن يومئذ يوم ولا شمس ولا سماء. قيل: ستة أيام كأيام الآخرة وكل يوم كألف سنة. وقيل: كأيام الدنيا. قال سعيد بن جبير : كان الله عز وجل قادراً على خلق السموات والأرض في لمحة ولحظة، فخلقهن في ستة أيام [تعليماً] لخلقه التثبت والتأني في الأمور وقد جاء في الحديث: " التأني من الله والعجلة من الشيطان ". " ثم استوى على العرش "، قال الكلبي و مقاتل : استقر. وقال أبو عبيدة: صعد. وأولت المعتزلة الاستواء بالاستيلاء، وأما أهل السنة فيقولون: الاستواء على العرش صفة لله تعالى، بلا كيف، يجب على الرجل الإيمان به، ويكل العلم فيه إلى الله عز وجل . وسأل رجل مالك بن أنس عن قوله: "الرحمن على العرش استوى"[طه-5]، كيف استوى ؟ فأطرق رأسه ملياً، وعلاه الرحضاء، ثم قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أظنك إلا ضالاً، ثم أمر به فأخرج. وروي عن سفيان الثوري و الأوزاعي و الليث بن سعد و سفيان بن عيينة و عبد الله بن المبارك وغيرهم من علماء السنة في هذه الآيات التي جاءت في الصفات المتشابهة: أمروها كما جاءت بلا كيف . والعرش في اللغة: هو السرير. وقيل: هو ما علا فأظل، ومنه عرش الكروم. وقيل: العرش الملك. " يغشي الليل النهار "، قرأ حمزة و الكسائي و أبو بكر و يعقوب : (يغشي) بالتشديد هاهنا وفي سورة الرعد، والباقون بالتخفيف، أي: يأتي الليل على النهار فيغطيه، وفيه حذف أي: ويغشي النهار الليل، ولم يذكره لدلالة الكلام عليه وذكر في آية أخرى فقال: "يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل" [الزمر-5]، " يطلبه حثيثاً "، أي: سريعاً، وذلك أنه إذا كان يعقب أحدهم الآخر ويخلفه، فكأنه يطلبه. " والشمس والقمر والنجوم مسخرات "، قرأ ابن عامر كلها بالرفع على الابتداء والخبر، والباقون بالنصب، وكذلك في سورة النحل عطفاً على قوله: (خلق السموات والأرض)، أي: خلق هذه الأشياء مسخرات، أي: مذللات " بأمره ألا له الخلق والأمر"، له الخلق لأنه [خلقهم]،وله الأمر، يأمر في خلقه بما يشاء. قال سفيان بن عيينة : فرق الله بين الخلق والأمر فمن جمع بينهما فقد كفر. " تبارك الله "، أي: تعالى الله وتعظم. وقيل: ارتفع . والمبارك المرتفع. وقيل: تبارك تفاعل من البركة وهي النماء والزيادة أي: البركة تكتسب وتنال بذكره. وعن ابن عباس قال: جاء بكل بركة. وقال الحسن: تجيء البركة من قبله وقيل: تبارك: تقدس . والقدس: الطهارة. وقيل: تبارك الله أي: باسمه يتبرك في كل شيء. وقال المحققون : معنى هذه [ الصفة]ثبت ودام بما لم يزل ولا يزال. وأصل البركة الثبوت. ويقال: تبارك لله،ولا يقال: متبارك ولا مبارك، لأنه لم يرد به التوقيف. " رب العالمين ".
55- " ادعوا ربكم تضرعا "، تذللا واستكانة، " وخفية" أي سرًا . قال الحسن بين دعوة السر ودعوة العلانية سبعون ضعفاً، ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت، وإن كان، إلا همسا بينهم وبين ربهم، وذلك أن الله سبحانه يقول" ادعوا ربكم تضرعا وخفية " وإن الله ذكر عبدا صالحا ورضي فعله فقال " إذ نادى ربه نداءً خفيًا" [ سورة مريم ]. " إنه لا يحب المعتدين" قيل: المعتدين في الدعاء. وقال أبو مجلز هم الذين يسألون منازل الأنبياء عليهم السلام أخبرنا محمد بن عبد العزيز القاشاني ، أنبأنا القاسم بن جعفر الهاشمي ، أنبأنا أبو علي محمد بن أحمد اللؤلؤي ، ثنا أبو داود السجستاني ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد يعني ابن سلمة،أنبأنا الجريري ، عن أبي نعامة "أن عبد الله بن مغفل سمع ابنه يقول: اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها، فقال: يا بني سل الله الجنة وتعوذ من النار، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنه سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطهور والدعاء". وقيل: أراد به الاعتداء بالجهر [ والصياح ] قال ابن جريج : من الاعتداء رفع الصوت والنداء بالدعاء والصياح. وروينا عن أبي موسى قال لما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر أشرف الناس على واد فرفعوا أصواتهم بالتكبير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم": اربعوا على أتفسكم، إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، إنكم تدعون سميعًا قريبًا". وقال عطية هم الذين يدعون على المؤمنين فيما لا يحل، فيقولون: اللهم أخزهم اللهم العنهم.
56- " ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها"، أي لا تفسدوا فيها بالمعاصي والدعاء إلى غير طاعة الله بعد إصلاح الله ببعث الرسل وبيان الشريعة، والدعاء إلى طاعة الله وهذا معنى قول الحسن والسدي والضحاك والكلبي. قال عطية: لا تعصوا في الأرض فيمسك الله المطر ويهلك الحرث بمعاصيكم. فعلى هذا معنى قوله:" بعد إصلاحها " أي بعد إصلاح الله إياها بالمطر والخصب. " وادعوه خوفًا وطمعًا " أي خوفًا فيما عنده من مغفرته وثوابه. وقال ابن جريج : خوف العدل وطمع الفضل. " إن رحمة الله قريب من المحسنين " ولم يقل قريبة، قال سعيد بن جبير: الرحمة هاهنا الثواب فرجع النعت إلى المعنى دون اللفظ كقوله" وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه " [النساء-8] ولم يقل منها لأنه أراد الميراث والمال. وقال الخليل بن أحمد : القريب والبعيد فيهما في اللغة: المذكر والمؤنث والواحد والجمع. قال أبو عمر بن العلاء : القريب في اللغة يكون بمعنى القرب وبمعنى المسافة، تقول العرب: هذه امرأة قريبة منك إذا كانت بمعنى القرابة، وقريب منك إذا كانت بمعنى المسافة.
57- قوله تعالى: " وهو الذي يرسل الرياح بشرًا " قرأ بالباء وضمها وسكون الشين هاهنا وفي الفرقان وسورة الفرقان وسورة النمل، ويعني: أنها تبشر بالمطر بدليل قوله تعالى:" الرياح مبشرات " [ الروم-46] [ وقرأ حمزة الكاساني (( نشرًا )) والنون وفتحها، وهي الريح الطيبة اللينة، قال الله تعالى ] " والناشرات نشرًا " [المرسلات-3] قرأ ابن عامر بضم النون وسكون الشين، وقرأ الآخرون بضم النون والشين، جمع نشور، مثل صبور ورسول ورسل، أي متفرقة وهي الرياح التي تهب من كل ناحية " بين يدي رحمته " أي: قدام المطر. أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب أنبأنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أنبأنا أبو العباس الأصم أنبأنا الربيع أنبأنا الثقة عن الزهري عن ثابت قيس عن أبي هريرة قال: أخذت الناس ريح بطريق مكة وعمر حاج فاشتدت، فقال عمر رضي الله عنه لمن حوله: ما بلغكم في الريح فلم يرجعوا إليه شيئًا، فبلغني الذي سأل [ عمر عنه من أمر الريح ] فاستحثثت راحلتي حتى أدركت عمر رضي الله عنه وكنت في مؤخر الناس، فقلت: يا أمير المؤمنين أخبرت أنك سألت عن الريح وإنني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ": الريح من روح الله تأتي بالرحمة وبالعذاب فلا تسبوها، وسلوا الله من خيرها، وتعوذوا به من شرها " ورواه عند الرزاق عن معمر عن الزهري بإسناده. "حتى إذا أقلت " حملت الرياح، " سحابًا ثقالاً " بالمطر، " سقناه " ورد الكناية إلى السحاب، " لبلد ميت " أي: إلى بلد ميت محتاج إلى الماء. وقيل: معناه لإحياء بلط ميت لا نبات فيه " فأنزلنا به " أي: بالسحاب . وقيل: بذلك البلد الميت " الماء " يعني: المطر، " فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى "، واستدل لإحياء الأرض بعد موتها على إحياء الموتى، " لعلكم تذكرون " قال أبو هريرة وابن عباس: إذا مات الناس كلهم في النفخة الأولى أرسل الله عليهم مطرًا كمني الرجال من ماء تحت العرش يدعى ماء الحيوان، فينبتون في قبورهم نبات الزرع حتى إذا استكملت أجسادهم نفخ فيهم الروح، ثم يلقي عليهم النوم فينامون في قبورهم، ثم يحشرون في بالنفخة الثانية وهم يجدون طعم النوم في رؤوسهم وأعينهم، فعند ذلك يقولون " : يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا " [ يس-52].
58- قوله عز وجل: " والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه " هذا مثل ضربه الله عز وجل للمؤمن والكافر فمثل المؤمن مثل البلد الطيب، يصيبه المطر فيخرج نباته بإذن، " والذي خبث "، يريد الأرض السبخة التي، " لا يخرج " نباتها، " إلا نكدًا "، قرأ أبو جعفر بفتح الكاف، وقرأ الآخرون بكسرها ، أي: عسرًا قليلاً بعناء ومشقة. فالأول: مثل المؤمن الذي إذا سمع دعاه وعقله وانتفع به، والثاني :مثل الكافر الذي يسمع القرآن فلا يؤثر فيه، كالبلد الخبيث الذي لا يتبين أثر المطر فيه " كذلك نصرف الآيات " نبينها، " لقوم يشكرون ". أخبرنا عبد الواحد بن أحمد بن عبد الله النعيمي أنبأنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا محمد بن العلاء حدثنا حماد بن أسامة عن يزيد بن عبد الله عن أبي بردة عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ": مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضًا فكانت منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به ".
59- قوله تعالى:" لقد أرسلنا نوحا إلى قومه " وهو نوح بن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ وهو إدريس ،وهو أول نبي بعث بعد إدريس، وكان نجارًا بعثه الله إلى قومه وهو ابن خمسين سنة. وقال ابن عباس: ابن أربعين سنة. وقيل: بعث وهو ابن مائتين وخمسين سنة. وقال مقاتل : ابن مائة سنة. وقال ابن عباس: سمي نوحاً لكثرة ما ناح على نفسه. واختلفوا في سبب نوحه فقال بعضهم: لدعوته على قومه بالهلاك. وقيل: لمراجعته ربه في شأن ابنه كنعان. وقيل: لأنه مر بكلب مجذوم، فقال: اخسأ يا قبيح فأوحى الله تعالى إليه: أعبتني أم عبت الكلب؟ " فقال "، لقومه، " يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره "، قرأ أبو جعفر و الكسائي " من إله غيره "، بكسر الراء حيث كان، على نعت الإله، وافق حمزة في سورة فاطر: " هل من خالق غير الله " (فاطر-3)، وقرأ الآخرون برفع الراء على التقديم، تقديره: ما لكم غيره من إله، " إني أخاف عليكم "، إن لم تؤمنوا، " عذاب يوم عظيم ".
60- " قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال " خطأ وزوال عن الحق، " مبين " بين.
61- " قال " نوح " يا قوم ليس بي ضلالة " ولم يقل ليست، لأن معنى الضلالة أو على تقديم الفعل " ولكني رسول من رب العالمين "
62- " أبلغكم " قرأ أبو عمرو: " أبلغكم " بالتخفيف حيث كان من الإبداع. لقوله: " لقد أبلغتكم " [ الأعراف-93 ] " رسالات ربي "، [ " ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم " وقرأ الآخرون بالتشديد من التبليغ لقوله تعالى: " بلغ ما أنزل إليك " [ المائدة-67 ]، رسالات ربي ] " وأنصح لكم "، يقال نصحته ونصحت له. والنصح أن يريد لغيره من الخير ما يريد لنفسه، " وأعلم من الله ما لا تعلمون "، أن عقابه لا يرد عن القوم المجرمين.
63-" أوعجبتم " ألف استفهام دخلت على واو العطف، " أن جاءكم ذكر من ربكم " قال ابن عباس رضي الله عنهما: وقيل: بيان. وقيل: رسالة. " على رجل منكم لينذركم " عذاب الله إن لم تؤمنوا " ولتتقوا "، أي لكي تتقوا الله، " ولعلكم ترحمون " لكي ترحموا.
64- " فكذبوه " يعني: كذبوا نوحًا، " فأنجيناه " من الطوفان، " والذين معه في الفلك "، في السفينة، " وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوما عمين " أي: كفارًا قال ابن عباس: عباس: عميت قلوبهم عن معرفة الله. وقيل: العمي والأعمى كالخضر والأخضر. قال مقاتل : قموات عن نزول العذاب بهم وهو الغرق.
65- قوله تعالى: " وإلى عاد أخاهم هوداً " ، أي : وأرسلنا إلى عاد - وهو عاد بن عوص بن ارم بن سام بن نوح عليه السلام - ، وهي عاد الأولى " أخاهم " في النسب لا في الدين " هوداً " وهو هود بن عبد الله بن رباح بن الجلود بن عاد بن عوص . وقال ابن إسحاق : هود بن شالخ بن ارفخشذ بن سام بن نوح " قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون " ، أفلا تخافون نقمته ؟
65 - " قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك " و يا هود و " في سفاهة " ، في حمق وجهالة. قال ابن عباس رضي الله عنهما: تدعونا إلى دين لا نعرفه ، " وإنا لنظنك من الكاذبين " ، أنك رسول الله إلينا .
67- " قال " ، هود " يا قوم ليس بي سفاهةً ولكني رسول من رب العالمين " .
68 - " أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين " ، ناصح أدعوكم إلى التوبة أمين على الرسالة . قال الكلبي : كنت فيكم قبل اليوم أميناً .
" أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم " ، يعني نفسه ، " لينذركم . واذكروا إذ جعلكم خلفاء " ، يعني في الأرض ، " من بعد قوم نوح " ، أي : من بعد إهلاكهم ، " وزادكم في الخلق بسطة " ، أي : طولاً وقوة . قال الكلبي والسدي : كانت قامة الطويل منهم مائة ذراع ، وقامة القصير منهم ستون ذراعاً . وقال أبو حمزة الثمالي : سبعون ذراعاً . وقال وهب : كان رأس أحدهم مثل القبة العظيمة وكان عين الرجل تفرخ فيها الضباع ، وكذلك مناخرهم . " فاذكروا آلاء الله " ، نعم الله ، واحدها إلى مثل معىً وأمعاء ، وقفا وأقفاء ، ونظيرها : " آناء الليل " ، واحدها أناً وآناء ، " لعلكم تفلحون " .
70 - " قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا " , من الأصنام ، " فأتنا بما تعدنا " ، من العذاب ، " إن كنت من الصادقين " .
71 - " قال " ، هود ، " قد وقع " ، وجب ونزل ، " عليكم من ربكم رجس " أي : عذاب ، والسين مبدلة من الزاي ، " وغضب " ، أي : سخط ، " أتجادلونني في أسماء سميتموها " ، وضعتموها ، " أنتم وآباؤكم " ، قال أهل التفسير : كانت لهم أصنام يعبدونها سموها أسماء مختلفة ، " ما نزل الله بها من سلطان " ، حجة وبرهان ، " فانتظروا " ، نزول العذاب ،" إني معكم من المنتظرين " .
72- " فأنجيناه " ، يعني هوداً عند نزول العذاب ، " والذين معه برحمة منا وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا " ، أي : استأصلناهم وأهلكناهم عن آخرهم ، " وما كانوا مؤمنين " . وكانت قصة عاد على ما ذكر من ابن إسحاق وغيره : أنهم كانوا قوما ينزلون اليمن وكانت مساكنهم بالأحقاف ، وهي رمال بين عمان وحضرموت ، وكانوا قد فضوا في الأرض كلها وقهروا أهلها بفضل قوتهم التي آتاهم الله عز وجل ، وكانوا أصحاب أوثان يعبدونها ، صنم يقال له صدى ، وصنم يقال له صمود ، وصنم يقال له الهباء ، فبعث الله إليهم هوداً نبياً ، وهو من أوسطهم نسباً وأفضلهم حسباً ، فأمرهم أن يوحدوا الله ويكفوا عن ظلم الناس ولم يأمرهم بغير ذلك ، فكذبوه فقالوا من أشد منا قوة فبنوا المصانع وبطشوا بطشة الجبارين ، فلما فعلوا ذلك أمسك الله عنهم المطر ثلاث سنين حتى جهدهم ذلك . وكان الناس في ذلك الزمان إذا نزل بهم بلاء فطلبوا الفرج كانت طلبتهم إلى الله عز وجل عند بيته الحرام بمكة مسلمهم ومشركهم ، فيجتمع بمكة أناس كثير شتى ، مختلفة أديانهم وكلهم معظم لمكة ، وأهل مكة يومئذ العماليق سموا عماليق ، لأن أباهم عمليق بن لاذا بن سام بن نوح ، وكان سيد العماليق إذ ذاك بمكة رجل يقال له معاوية بن بكر وكانت أم معاوية كلهدة بنت الخيبري رجل من عاد ، فلما قحط المطر عن عاد وجهدوا قالوا جهزوا وفداً منكم إلى مكة فليستسقوا لكم ، فبعثوا قيل بن عنز ، ولقيم بن هزال من هزيل ، وعقيل بن صندين بن عاد الأكبر ، ومرثد بن سعد بن عفير وكان مسلماً يكتم إسلامه ، وجلهمة بن الخيبري خال معاوية بن بكر ، ثم بعثوا لقمان بن عاد الأصغر بن صندين بن عاد الأكبر ، فانطلق كل رجل من هؤلاء ومعه رهط من قومه حتى بلغ عدد وفدهم سبعين رجلاً . فلما قدموا مكة نزلوا على معاوية بن بكر وهو بظاهر مكة خارجاً من الحرم ، فأنزلهم وأكرمهم وكانوا أخواله وأصهاره فأقاموا عنده شهراً يشربون الخمر وتغنيهم الجرادتان ، قينتان لمعاوية بن بكر ، وكان مسيرهم شهراً ومقامهم شهراً فلما رأى معاوية بن بكر طول مقامهم وقد بعثهم قومهم يتغوثون بهم من البلاء الذي أصابهم شق ذلك عليه ، وقال هلك أخوالي وأصهاري وهؤلاء مقيمون عندي وهم ضيفي ، والله ما أدري كيف أصنع بهم ، أستحي أن آمرهم بالخروج إلى ما بعثوا إليه ، فيظنون إلى قينتيه الجرادتين ، فقالتا : قل شعراً نغنيهم به ، لا يدرون من قاله ، لعل ذلك أن يحركهم ، فقال معاوية بن بكر : ألا يا قيل ويحــك قم فهينـــم لعل الله يسقينا غمامـــا فيسقى أرض عاد إن عـــــاداً قد أمسوا لا يبينـــون الكلامــــا من العطش الشديد فليس نرجـــو به الشيخ الكبير ولا الغلامـــــا وقد كانت نساؤهم بخيــــــر فقد أمسيـت نساؤهم أيامـــــــي وإن الوحش تأتيهم جهـــــاراً فلا تخشى لعادي سهاما وأنتم هاهنا فيما اشتهيتم نهاركمو وليلكمو التماما فقبح وفدكم من وفد قوم ولا لقوا التحية والسلاما فلما غنتهم الجرادتان هذا قال بعضهم لبعض : يا قوم إنما بعثكم قومكم يتغوثون بكم من البلاء الذي نزل بهم ، وقد أبطأتم عليهم ، فادخلوا هذا الحرم فاستسقوا لقومكم ، فقال مرثد بن سعد بن عفير ، وكان آمن بهود سراً : إنكم والله لا تسقون بدعائكم ، ولكن إن أطعتم نبيكم وأنبتم إلى ربكم سقيتم ، فأظهر إسلامه عند ذلك وقال : عصت عاد رسولهم فأمسوا عطاشاً ما تبلهم السماء لهم صنم يقال له صمود يقابله صداء والهباء فبصرنا الرسول سبيل رشد فأبصرنا الهدى وجلى العماء وإن إله هود هو إلهي على الله التوكل والرجاء فقالوا : لمعاوية بن بكر : احبس عنا مرثد بن سعد فلا يقدمن معنا مكة ، فإنه قد اتبع دين هود ، وترك ديننا ، ثم خرجوا إلى مكة يستسقون لعاد ، فلما ولوا إلى مكة خرج مرثد بن سعد من منزل معوية حتى أدركهم قبل أن يدعوا الله بشئ مما خرجوا له ، فلما انتهى إليهم قام يدعوا الله ، وبها وفد عاد يدعون ، فقال : اللهم أعطني سؤلي وحدي ولا تدخلني في شئ مما يدعوك به وفد عاد ، وكان قيل بن عنز رأس وفد عاد ، فقال وفد عاد : اللهم أعط قيلاً ما سألك واجعل سؤلنا مر سؤله . وكان قد تخلف عن وفد عاد - حين دعوا - لقمان بن عاد ، وكان سيد عاد ، حتى إذا فرغوا من دعوتهم قام ، فقال : الله إني جئتك وحدي في حاجتي فأعطني سؤلي ، وسأل الله طول العمر فعمر عمر سبعة أنسر ، وقل قيل بن عنز حين دعا : يا إلهنا أن كان هود صادقاً فأسقنا فإنا قد هلكنا ، فأنشأ الله سحائب ثلاثاً بيضاء وحمراء وسوداء ، ثم ناداه مناد من السحايب ( يا قيل ) اختر لنفسك وقومك من السحائب ( ما شئت ) ، فقال قيل : اخترت السحابة السوداء فإنها أكثر السحاب ماءً فناداه مناد : اخترت رماداً رمدداً لا تبقي من آل عاد أحداً ، وساق الله سبحانه وتعالى السحابة السوداء التي اختارها قيل بما فيها من النقمة إلى عاد حتى خرجت عليهم من واد لهم يقال له ( المغيث ) ، فلما رأوها استبشروا وقالوا : هذا عارض ممطرنا ، يقول الله تعالى : " بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم * تدمر كل شيء بأمر ربها " ( الأحقاف 24-25 ) أي : كل شئ مرت به . وكان أول من أبصر ما فيها وعرف أنها ريح مهلكة امرأة من عاد يقال لها مهدد ، فلما تبينت ما فيها صاحت ثم صعقت ، فما أفاقت قالوا لها : ماذا رأيت ؟ قالت : رأيت الريح فيها كشهب النار أمامها رجال يقودونها ، فسخرها الله عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوماً ، فلم تدع من عاد أحداً إلا هلك ، واعتزل هود ومن معه من المؤمنين في حظيرة ما يصيبه هو ومن معه من الريح إلا ما تلين عليه الجلود وتلذ الأنفس ، وإنها لتمر من عاد بالظعن فتحملهم بين السماء والأرض وتدمغهم بالحجارة ، وخرج وفد عاد من مكة حتى مروا بمعاوية بن بكر فنزلوا عليه فبينما هم عنده إذا أقبل رجل على ناقة في ليلة مقمرة مساء ثالثة من مصاب عاد فأخبرهم الخبر ، فقالوا له فأين فارقت هوداً وأصحابه ؟ فقال : فارقتهم بساحل البحر فكأنهم شكوا فيما حدثهم به ، فقالت هزيلة بنت بكر : صدق ورب الكعبة . وذكروا أن مرثد بن سعد ولقمان بن عاد ، وقيل بن عنز ، حين دعوا بمكة ، قيل لهم : قد أعطيتكم مناكم فاختاروا لأنفسكم ، إلا أنه لا سبيل إلى الخلود ، ولا بد من الموت ، فقال مرثد : اللهم أعطني صدقاً وبراً فأعطي ذلك ، وقل لقمان : أعطني يا رب عمراً ، فقيل له : اختر ، فاختار عمر سبعة أنسر ، فكان يأخذ الفرخ حين يخرج من بيضه فيأخذ الذكر منها لقوته ، حتى إذا مات أخذ غيره فلم يزل يفعل ذلك حتى أتى على السابع ، وكان كل نسر يعيش ثمانين سنة ، وكان آخرها لبد فلما مات لبد مات لقمان معه . وأما قيل فإنه قال : أختار أن يصيبني ما أصاب قومي فقيل له : إنه الهلاك ، فقال : لا أبالي لا حاجة لي في البقاء بعدهم ، فأصابه الذي أصاب عاداً من العذاب فهلك . قال السدي : بعث الله على عاد الريح العقيم فلما دنت منهم نظروا إلى الإبل والرجال ، تطيربهم الريح بين السماء والأرض ، فلما رأوها فبادروا البيوت فدخلوها وأغلقوا أبوابهم ، فجاءت الريح فقلعت أبوابهم فدخلت عليهم فأهلكتهم فيها ، ثم أخرجتهم من البيوت ، فلما أهلكهم الله أرسل عليهم طيراً سوداء فنقلتهم إلى البحر فألقتهم فيه . وروي أن الله عز وجل أمر الريح فأهالت عليهم الرمال ، فكانوا تحت الرمل سبع ليال وثمانية أيام لهم أنين تحت الرمل ، ثم أمر الريح فكشف عنهم الرمال فاحتملتهم فرمت بهم في البحر ولم تخرج ريح قط إلا بمكيال إلا يومئذ فإنها عتت على الخزنة فغلبتهم فلم يعلموا كم كان مكيالها . وفي الحديث : ( إنها خرجت عليهم على قدر خرق الخاتم ) ، وروي عن علي رضي الله عنه : أن قبر هود عليه السلام بحضرموت في كثيب أحمر . وقال عبدالرحمن بن سابط : بين الركن والمقام وزمزم قبر تسعة وتسعين نبياً ، وإن قبر هود وشعيب وصالح وإسماعيل عليهم السلام في تلك البقعة . ويروى أن النبي من الأنبياء إذا هلك قومه جاء هو والصالحون معه إلى مكة يعبدون الله فيها حتى يموتوا . ا
73- قوله عز وجل : " وإلى ثمود أخاهم صالحاً " ، وهو ثمود بن عابر بن أرم بن سالم بن نوح ، وأراد هاهنا القبيلة . قال أبو عمروا بن العلاء : سميت ثمود لقلة مائها ، والثمد الماء القليل ، وكانت مساكنهم الحجر بين الحجاز والشام إلى وادي القرى " أخاهم صالحاً " ، أي : أرسلنا إلى ثمود أخاهم في النسب ، لا في الدين صالحاً ، وهو صالح بن عبيد بن آسف بن ماشيح بن عبيد بن خادر بن ثمود ، " قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم " ، حجة من ربكم على صدقي ، " هذه ناقة الله " ، أضافها إليه على التفضيل والتخصيص ، كما يقال بيت الله ، " لكم آية " ، نصب على الحال ، " فذروها تأكل " ، العشب ، " في أرض الله ولا تمسوها بسوء " ، لا تصيبوها بعقر ، " فيأخذكم عذاب أليم " .
74- " واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم " ، أسكنكم وأنزلكم ، " في الأرض تتخذون من سهولها قصوراً وتنحتون الجبال بيوتاً " ، كانوا ينقبون في الجبال البيوت ففي الصيف يسكنون بيوت الطين ، وفي الشتاء بيوت الجبال . وقيل : كانوا ينحتون البيوت في الجبل لأن بيوت الطين ما كانت تبقى مدة أعمارهم لطول أعمارهم ، " فاذكروا آلاء الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين " ، والعيث : أشد الفساد .
75- " قال الملأ " ، قرأ ابن عامر : ( وقال الملأ ) بالواو " الذين استكبروا من قومه " ، يعني الأشراف والقادة والذين تعظموا عن الإيمان بصالح ، " للذين استضعفوا " ، يعني الأتباع ، " لمن آمن منهم " ، يعني : قال الكفار للمؤمنين ، " أتعلمون أن صالحاً مرسل من ربه " ، إليكم ، " قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون " .
76- " قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون " ، جاحدون .
77- " فعقروا الناقة " ، قال الأزهري : العقر هو قطع عرقوب البعير ، ثم جعل النحر عقراً لأن ناحر البعير يعقره ثم ينحره . " وعتوا عن أمر ربهم " ، والعتو الغلو في الباطل ، يقال : عتا يعتوا عتواً : إذا استكبروا ، والمعنى عصوا الله وتركوا أمره في الناقة وكذبوا نبيهم ، " وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا " ، أي : من العذاب ، " إن كنت من المرسلين " .
78- " فأخذتهم الرجفة " ، وهي زلزلة الأرض وحركتها وأهلكوا بالصيحة والرجفة ، " فأصبحوا في دارهم " ، قيل : أراد الديار ، وقيل : أراد في أرضهم وبلدتهم ، ولذلك وحد الدار ، " جاثمين " ، خامدين ميتين . قيل : سقطوا على وجوههم موتى عن آخرهم .
79 - " فتولى " ، أعرض صالح ، " عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين " ، فإن قيل : كيف خاطبهم بقوله لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم بعدما هلكوا بالرجفة ؟ قيل : كما "خاطب النبي صلى الله عليه وسلم الكفار من قتلى بجر حين ألقاهم في القليب ، فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم : أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً ، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟ فقال عمر : يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح فيها ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( والذي نفس محمد بيده ) ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكن، لا يجيبون " . وقيل : خاطبهم ليكون عبرة لمن خلفهم . وقيل : في الآية تقديم وتأخير تقديرها : فتولى عنهم ، وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي فأخذتهم الرجفة . وكان قصة ثمود على ما ذكره محمد بن أسحاق و وهب وغيرهما : أن عاداً هلكت وانقضى أمرها عمرت ثمود بعدها ، واستخلفوا في الأرض فدخلوا فيها وكثروا وعمروا ، حتى جعل أحدهم يبني المسكن من المدر فينهدم والرجل حي ، فلما رأوا ذلك اتخذوا من الجبال بيوتاً ، وكانوا في سعة من معاشهم فعتوا وأفسدوا في الأرض وعبدوا غير الله ، فبعثه الله إليهم غلاماً شاباً ، وفدعاهم إلى الله حتى شمط وكبر لا يتبعه منهم إلا قليل مستضعفون ، فلما ألح عليهم صالح بالدعاء والتبليغ وأكثر لهم التحذير والتخويف سألوه أن يريهم آيه تكون مصداقاً لما يقول فقال لهم : أي آية تريدون ؟ قالوا : تخرج معنا غداً إلى عيدنا ، وكان لهم عيد يخرجون فيه بأصنامهم في يوم معلوم من السنة فتدعوا إلهك وندعو آلهتنا ، فإن استجيب لك اتبعناك وإن استجيب لنا اتبعتنا ، فقال لهم صالح : نعم ، فخرجوا بأوثانهم إلى عيدهم ، وخرج صالح معهم فدعوا أوثانهم ، وسألوها أن لا يستجاب لصالح في شئ مما يدعو به ، ثم قال جندع بن عمرو بن حواس وهو يومئذ سيد ثمود : يا صالح أخرج لنا من هذه الصخرة - لصخرة منفرده في ناحية من الحجر يقال لها الكاثبة - ناقة مخترجة جوفاء وبراء عشراء - والخترجة ما شاكل اليخت من الإبل - ، فأن فعلت صدقناك وآمنا بك ، فأخذ عليهم صالح مواثيقهم لئن فعلت لتصدقني ولتؤمنن بي ، قالوا : نعم ، فصلى صالح ركعتين ودعا ربه فتمخضت الصخرة تمخض النتوج بولدها ، ثم تحركت الهضبة فانصدعت عن ناقة عشراء جوفاء وبراء كما وصفوا لا يعلم ما بين جنبيها عظما إلا الله ، وهم ينظرون ثم نتجت سقياً مثلها في العظم ، فآمن به جندع بن عمرو ورهط من قومه ، وأراد أشراف ثمود أن يؤمنوا به ويصدقوه فنهاهم ذؤاب بن عمرو بن لبيد الحباب صاحب أوثانهم ورباب بن صمغر وكان كاهنهم وكانوا من أشراف ثمود . فلما خرجت الناقة قال لهم صالح : هذه ناقة الله ، لها شرب ولكم شرب يوم معلوم ، فمكثت الناقة ومعها سقيها في أرض ثمود ، ترعى الشجر وتشرب الماء ، فكانت ترد الماء غباً ، فإذا كان يومها وضعت رأسها في بئر في الحجر يقال لها بئر الناقة فما ترفر رأسها حتى تشرب كل ماء فيها ، فلا تدع قطرة ، ثم ترفع رأسها فتنفشخ حتى تفحج لهم فيحلبون ماشاؤوا من لبن ، فيشربون ويدخرون ، حتى يملؤوا أوانيهم كلها ثم تصدر من غير الفج الذي وردت منه لا تقدر على أن تصدر من حيث ترد ، يضيق عنها ، حتى إذا كان الغد كان يومهم فيشربون ما شاؤوا من الماء ويدخرون ما شاؤوا ليوم الناقة ، فهم من ذلك في سعة ودعة ، وكانت الناقة تصيف إذا كان الحر بظهر الوادي ، فتهرب منها المواشي ، أغنامهم وبقرهم وإبلهم ، فتهبط إلى بطن الوادي في حره وجدبه ، وتشتو ببطن الوادي إذا كان الشتاء فتهرب مواشيهم إلى (بطن ) الوادي في البرد والجدب فأضر ذلك مواشيهم للبلاء والاختبار ، فكبر ذلك عليهم فعتوا عن أمر ربهم وحملهم ذلك على عقر الناقة ، فأجمعوا على عقرها . وكانت امرأتان من ثمود إحداهما يقال لها عنيزه بنت غنم بن مجلز تكنى بأم غنم ، وكانت امرأة ذؤاب بن عمرو وكانت عجوزا مسنة ، وكانت ذات بنات حسان وذات مال من إبل وبقر وغنم ، وامرأة أخرى يقال لها صدوف بنت المحيا وكانت جميلة غنية ذات مواشي كثيرة ، وكانتا تحبان عقر الناقة ( لما أضرت ) بهما من مواشيهما فتحيلتا في عقر الناقة فدعت صدوف رجلاً من ثمود يقال له الحباب لعقر الناقة ، وعرضت عليه نفسها إن هو فعل فأبى عليها فدعت ابن عم لها يقال له مصدع بن مهرج بن المحيا ، وجعلت له نفسها على أن يعقر الناقة وكانت من أحسن الناس وأكثرهم مالاً ، فأجابها إلى ذلك ودعت عنيزة بنت غنم قدار بن سالف ، وكان رجلاً أحمر أزرق قصيراً ، يزعمون أنه كان لزانية ، ولم يكن لسالف ، ولكنه ولد على فراش سالف ، فقالت : أعطيك أي بناتي شئت على أن تعقر الناقة ، وكان قدار عزيزاً منيعاً في قومه . أخبرنا عبدالواحد المليحي أن أحمد بن عبدالله النعيمي أنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا وهيب حدثنا هشام عن أبيه أنه أخبره عبدالله بن زمعه "أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يخطب وذكر الناقة والذي عقرها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذ انبعث أشقاها "(الشمس -12 ) ، انبعث لها رجل عزيز عارم منيع في قومه مثل أبي زمعه ". رجعنا إلى القصة ، قالوا : فانطلق قدار بن سالف ومصدع بن مهرج فاستغويا غواة ثمود فاتبعهم سبعة نفر فكانوا تسعة رهط فانطلق قدار وصدع وأصحابهما فرصدوا الناقة حين صدرت الماء ، وقد كمن لها قدار في أصل صخرة على طريقها ، وكمن لها مصدع في طريق آخر فمرت على مصدع ، فرماها بسهم فانتظم به في عضلة ساقها ، وخرجت بنت غنم عنيزة ، وأمرت ابنتها ، وكانت من أحسن الناس ، فأسفرت لقدار ثم ذمرته ، فشد على الناقة بالسيف فكشفت عرقوبها فخرت ورغت رغاة واحدة تحذر سقبها ، ثم طعن في لبتها فنحرها ، وخرج أهل البلدة واقتسموا لحمها وطبخوه ، فلما رأى سقبها ذلك انطلق حتى أتى جبلاً منيفاً يقال له : صنو ، وقيل : اسمه قارة ، وأتى صالح فقيل له : أدرك الناقة فقد عقرت ، فأقبل وخرجوا يتلقونه ويعتذرون إليه : يا نبي الله إنما عقرها فلان ولا ذنب لنا ، فقال صالح : انظروا هل تدركون فصيلها ، فإن أدركتموه فعسى أن يرفع عنكم العذاب ، فخرجوا يطلبونه ، فلما رأوه على جبل ذهبوا ليأخذوه ، فأوحى الله تعالى إلى الجبل فتطاول في السماء حتى ما تناله الطير . وجاء صالح فلما رآه الفصيل بكى حتى سالت دموعه ، ثم رغا ثلاثاً وانفجرت الصخرة فدخلها . فقال صالح لكل رغوة أجل يوم فتمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب . وقال ابن إسحاق : اتبع السقب أربعة نفر من التسعة الذين عقروا الناقة ، وفيهم مصدع بن مهرج وأخوه ذاب بن مهرج ، فرماه مصدع بسهم فانتظم قلبه ، ثم جر برجله فأنزله ، فألقوا لحمه مر لحم أمه ، وقال لهم صالح : انتهكتم حرمة الله فأبشروا بعذاب الله ونقمته ، قالوا وهم يهزؤون به : ومتى ذلك يا صالح ؟ وما آية ذلك ؟ وكانوا يسمون الأيام فيهم : الأحد أول ، والاثنين أهون ، والثلاثاء دبار والأربعاء جبار ، والخميس مؤنس والجمعة العروبة ، والسبت شيار ، وكانوا عقروا الناقة يوم الأربعاء ، فقال لهم صالح حين قالوا ذلك : تصبحون غداة يوم مؤنس ووجوهكم مصفرة ، ثم تصبحون يوم العروبة ووجوهكم محمرة ، ثم تصبحون يوم شيار ووجوهكم مسودة ، ثم يصبحكم العذاب يوم أول . فلما قال لهم صالح ذلك قال التسعة الذين عقروا الناقة : هلم فلنقتل صالحاً فإن كان صادقاً عجلناه قبلنا، وإن كان كاذباً قد كنا ألحقناه بناقته ، فأتوه ليلاً ليبيتوه في أهله ، فدمغتهم الملائكة بالحجارة ، فلما أبطؤوا على أصحابهم أتوا منزل صالح فوجدوهم قد رضخوا بالحجارة ، فقالوا لصالح : أنت قتلتهم ، ثم هموا به فقامت عشيرته دونه ولبسوا السلاح ، وقالوا لهم : والله لا تقتلونه أبداً فقد وعدكم أن العذاب نازل بكم بعد ثلاث ، فإن كان صادقاً لم تزيدوا ربكم عليكم إلا غضباً وإن كان كاذباً فأنتم من وراء ما تريدون ، فانصرفوا عنهم ليلتهم فأصبحوا يوم الخميس ووجوههم مصفرة كأنما طليت بالخلوق ، صغيرهم وكبيرهم ، ذكرهم وأنثاهم ، فأيقنوا بالعذاب وعرفوا أن صالحاً قد صدقهم ، فطلبوه ليقتلوه ، وخرج صالح هارباً منهم حتى لجأ إلى بطن من ثمود يقال لهم بني غنم ، فنزل على سيدهم ، رجل يقال له نفيل ويكنى بأبي هدب ، وهو مشرك فغيبه ، ولم يقدروا عليه ، فغدوا على أصحاب صالح يعذبونهم ليدلوهم عليه ، فقال رجل من أصحاب صالح يقال له مبدع بن هرم : يا نبي الله إنهم ليعذبوننا لندلهم عليك ، أفندلهم ؟ قال : نعم فدلهم عليه ، وأتوا أبا هدب فكلموه في ذلك ، فقال : نعم عندي صالح وليم لكم عليه سبيل ، فأعرضوا عنه وتركوه وشغلهم عنه ما أنزل الله بهم من عذاب ، فجعل بعضهم يخبر بعضاً بما يرون في وجوههم فما أمسوا صاحوا بأجمعهم : ألا قد مضى يومان من الأجل وحضركم العذاب ، فما أصبحوا اليوم الثالث إذا وجوههم مسودة كأنما طليت بالقار ، فصاحوا جميعا : ألا قد حضركم العذاب . فلما كان ليلة الأحد خرج صالح من بين أظهرهم ومن أسلم معه إلى الشام ، فنزل رملة فلسطين ، فلما أصبح القوم تكفنوا وتحنطوا وألقوا أنفسهم إلى الأرض يقلبون أبصارهم إلى السماء مرة وإلى الأرض مرة ، لا يدرون من أين يأتيهم العذاب ، فلما اشتد الضحى من يوم الأحد أتتهم صيحة من السماء فيها صوت كل صاعقة ، وصوت كل شئ له صوت في الأرض ، فقطعت قلوبهم في صدورهم ، فلم يبق منهم صغير ولا كبير إلا هلك كما قال الله تعالى : " فأصبحوا في دارهم جاثمين " ، إلا جارية مقعدة يقال لها ذريعة بنت سالف ، وكانت كافرة شديدة الكفر والعداوة لصالح ، فأطلق الله رجليها بعدما عاينت العذاب ، فخرجت كأسرع ما يرى شئ قط حتى أتت قزح ، وهو واد القرى ، فأخبرتهم بما عاينته من العذاب وما أصاب ثمود ، ثم استقت من الماء فسقيت فلما شربت ماتت . وذكر السدي في عقر الناقة وجهاً آخر قال : فأوحى الله تعالى إلى صالح عليه السلام أن قومك سيعقرون ناقتك ، فقال لهم ذلك فقالوا : ما كنا لنفعل : فقال صالح : إنه يولد في شهركم هذا غلام يعقرها فيكون هلاككم على يديه ، فقالوا : لا يولد لنا ولد في هذا الشهر إلا قتلناه ، قال : فولد لتسعة منهم في ذلك الشهر فذبحوا أبناءهم ثم ولد للعاشر فأبى أن يذبح ابنه ، وكان لم يولد له قبل ذلك ، هذا فغضب التسعة على صالح لأنه كان سبب قتل أولادهم ، فتقاسموا بالله لنبيتنه وأهله ، قالوا : نخرج ليرى الناس أنا قد خرجنا إلى سفر فنأتي الغر فنكون فيه ، حتى إذا كان الليل وخرج صالح إلى مسجده أتيناه فقتلناه ، ثم رجعنا إلى الغار فكنا فيه فانصرفنا إلى رحلنا فقلنا : ما شهدنا مهلك أهله ، وإنا لصادقون ، فيصدقوننا ، يظنون أنا قد خرجنا إلى سفر . وكان صالح لا ينام معهم في القرية ، وكان يبيت في مسجد يقال له مسجد صالح ، فإذا أصبح أتاهم فوعظهم وذكرهم وإذا أمسى خرج إلى المسجد فبات فيه فانطلقوا فدخلوا الغار ، فسقط عليهم الغار فقتلهم ، فانطلق رجال ممن قد اطلع على ذلك منهم فإذا هم رضخ ، فرجعوا يصيحون في القرية : أي عباد الله ما رضي صالح أن أمرهم بقتل أولادهم حتى قتلهم ، فاجتمع أهل القرية على عقر الناقة . وقال ابن إسحاق : كان تقاسم التسعة على تبييت صالح بعد عقرهم الناقة كما ذكرنا . قال السدي وغيره : فلما ولد ابن العاشر ، يعني : قذار ، شب في اليوم شباب غيره في الجمعة ، وشب في شهر شباب غيره في السنة ، فلما كبر جلس مر أناس يصيبون من الشراب ، فأرادوا ماءً يمزجون به شرابهم ، وكان ذلك اليوم شرب الناقة ، فوجدوا الماء قد شربته الناقة ، فاشتد ذلك عليهم وقالوا : ما نصنع نحن باللبن ؟ لو كنا نأخذ هذا الماء الذي تشربه الناقة ، فنسقيه أنعامنا وحروثنا كان خيراً لنا ، فقال ابن العاشر : هل لكم في أن أعقرها لكم ؟ قالوا : نعم ، فعقروها . أخبرنا عبد الواحد المليحي أنبأنا عبد الله النعيمي أنبأنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ثنا محمد بن مسكين ثنا يحيى بن حسان بن حيان أبو زكريا ثنا سليمان عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر : "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل الحجر ، في غزوة تبوك ، أمرهم أن لا يشربوا من بئر بها ولا يستقوا منها ، فقالوا : قد عجنا منها واستقينا ، فأمرهم أن يطرحوا ذلك العجين ويهريقوا ذلك الماء ". وقال ابن نافع عن ابن عمر : " فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهريقوا ما استقوا من آبارها وأن يعلفوا الإبل العجين ، وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت تردها الناقة ". وروى أبو الزبير عن جابر قال : لما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجر في غزوة تبوك قال لأصحابه : لا يدخلن أحد منكم القرية ولا تشربوا من مائهم ولا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونا باكين أن يصيبكم مثل ما أصابهم ، ثم قال : أما بعد فلا تسألوا رسولكم الآيات ، هؤلاء قوم صالح سألوا رسولهم ، فبعث الله الناقة فكانت ترد من هذا الفج وتصدر من هذا الفج وتشرب ماءهم يوم ورودها ، وأراهم مرتقى الفصيل من القارة ، فعتوا عن أمر ربهم وعقروها ، فأهلك الله تعالى من تحت أديم السماء منهم في مشارق الأرض ومغاربها إلا رجلاً واحداً يقال له أبو رغال ، وهو أبو ثقيف كان في حرم الله ، فمنعه حرم الله من عذاب الله ، فلما خرج أصابه ما أصاب قومه فدفن ودفن معه غصن من ذهب ، وأراهم قبر أبي رغال ، فنزل القوم فابتدروه بأسيافهم وفحفروا عنه واستخرجوا ذلك الغصن . وكانت الفرقة المؤمنة من قوم صالح أربعة آلاف خرج بهم صالح إلى حضرموت ، فلما دخلوها مات صالح فسمي حضرموت ثم بنى الأربعة آلاف مدينة يقال لها حاصوراء ، قال قوم من أهل العلم توفي صالح بمكة ، وهو ابن ثمان وخمسين سنة ، وأقام في قومه عشرين سنة .
80 - قوله تعالى : " ولوطاً " ، أي : وأرسلنا لوطاً . وقيل : معناه واذكر لوطاً . وهو لوط بن هاران بن تارخ ابن أخي إبراهيم ، " إذ قال لقومه " ، وهم أهل سدوم وذلك أن لوطاً شخص من أرض بابل ( سافر ) مع عمه إبراهيم عليه السلام مؤمناً به مهاجراً معه إلى الشام ، فنزل إبراهيم فلسطين وأنزل لوطاً الأردن ، فأرسله الله عز وجل إلى أهل سدوم فقال لهم ، " أتأتون الفاحشة " ، يعني إتيان الذكران ، " ما سبقكم بها من أحد من العالمين " ، قال عمرو بن دينار ما يرى ذكر على ذكر في الدنيا إلا كان من قوم لوط .
81- " إنكم " ، قرأ أهل المدينة وحفص ( إنكم ) بكسر الألف على الخبر ، وقرأ الآخرون الاستئناف ، " لتأتون الرجال " ، في أدبارهم ، " شهوة من دون النساء " ، فسر تلك الفاحشة يعني أدبار الرجال أشهى عندكم من فروج النساء ، " بل أنتم قوم مسرفون " ، مجازون الحلال إلى الحرام . قال محمد بن إسحاق : كانت لهم ثمار وقرى لم يكن في الأرض مثلها فقصدهم الناس فآذوهم ، فعرض لهم إبليس في صورة شيخ ، فقال : إن فعلتم بهم كذا نجوتم ، فأبوا فما ألح عليهم الناس قصدوهم فأصابوهم غلمانا صباحا ، فأخذوهم وقهروهم على أنفسهم فأخبثوا واستحكم ذلك فيهم . قال الحسن : كانوا لا ينكحون إلا الغرباء . وقال الكلبي : إن أول من عمل قوم لوط إبليس ، لأن بلادهم أخصبت فانتجعها أهل البلدان ، أي فتمثل لهم إبليس في صورة شاب ، ثم دعا إلى دبره ، فنكح في دبره ، فأمر الله تعالى السماء أن تحصبهم وأمر الأرض أن تخسف بهم .
82- قوله عز وجل : " وما كان جواب قومه إلا أن قالوا " ، قال بعضهم لبعض : " أخرجوهم " ، يعني : لوطاً وأهل دينه ، " من قريتكم إنهم أناس يتطهرون " ، يتنزهون عن أدبار الرجال .
83- " فأنجيناه " ، يعني : لوطاً ، " وأهله " ، المؤمنين ، وقيل : أهله : ابنتاه ، "إلا امرأته كانت من الغابرين " ، يعني : الباقين في العذاب . وقيل : معناه كانت من الباقين المعمرين ، قد أتى عليها دهر طويل فهلكت مر من هلك من قوم لوط ، وإنما قال : ( من الغابرين ) لأنه أراد : ممن بقي من الرجال فلما ضم ذكرها إلى ذكر الرجال قال : ( من الغابرين ) .
84 - " وأمطرنا عليهم مطراً " ، يعني حجارة من سجيل . قال وهب : الكبريت والنار ، " فانظر كيف كان عاقبة المجرمين " ، قال أبو عبيدة: يقال في العذاب : أمطر ، وفي الرحمة : مطر .
85- قوله تعالى " وإلى مدين أخاهم شعيبا " ، أي : وأرسلنا إلى ولد مدين - وهو مدين بن إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام -وهم أصحاب الأيكة : أخاهم شعيباً في النسب لا في الدين . قال عطاء هو شعيب بن توبة بن مدين بن إبراهيم . وقال ابن إسحاق : هو شعيب بن ميكائيل بن يسخر بن مدين بن إبراهيم ، وأم ميكائيل بنت لوط . وقيل : هو شعيب بن يثرون بن مدين وكان شعيب أعمى وكان يقال له خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه ، وكان قومه أهل كفر وبخس للمكيال والميزان . " قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم " ، فإن قيل : ما معنى قوله تعالى : ( قد جاءتكم بينة من ربكم ) ولم تكن لهم آية ؟ قيل : قد كانت لهم آية إلا أنها لم تذكر ، وليست كل الآيات مذكورة في القرآن . وقيل : أراد بالبينة مجئ شعيب . " فأوفوا الكيل " ، أتموا الكيل ، " والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم " ، لا تظلموا الناس حقوقهم ولا تنقصوهم إياها ، " ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها " ، أي :ببعث الرسل والأمر بالعدل ، وكل نبي بعث إلى قوم فهو صلاحهم ، " ذلكم "الذي ذكرت لكم وأمرتكم به ، " خير لكم إن كنتم مؤمنين " ، مصدقين بما أقول .
86 - " ولا تقعدوا بكل صراط " ، أي : على كل طريق ، " توعدون " ، تهددون ، " وتصدون عن سبيل الله " ، دين الله ، " من آمن به وتبغونها عوجاً " ، زيغاً ، وقيل : تطلبون الاعوجاج في الدين والعدول عن القصد ، وذلك أنهم كانوا يجلسون على الطريق فيقولون لمن يريد الإيمان بشعيب ، إن شعيب كذاب فلا يفتننك عن دينك ويتوعدون المؤمنين بالقتل ويخوفونهم . وقال السدي : كانوا عشارين . " واذكروا إذ كنتم قليلاً فكثركم " ، فكثر عددهم ، " وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين " ، أي : آخر أمر قوم لوط .
87 - " وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا " ، أي : إن اختلفتم في رسالتي فصرتم فرقتين مكذبين ومصدقين ، " فاصبروا حتى يحكم الله بيننا " ، بتعذيب المكذبين وإنجاء المصدقين ، " وهو خير الحاكمين " .
88 - " قال الملأ الذين استكبروا من قومه " ، يعني الرؤساء الذين تعظموا عن الإيمان به ، " لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا " ، لترجعن إلى ديننا الذي نحن عليه ، " قال " شعيب " أو لو كنا كارهين " ، يعني : لو كنا ، أي : وإن كنا كارهين لذلك فتجبروننا عليه ؟ .
89 - " قد افترينا على الله كذباً إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها " ، بعد إذ أنقذنا الله منها ، " إلا أن يشاء الله ربنا " يقول إلا أن يكون قد سبق لنا في علم الله ومشيئته أنا نعود فيها فحينئذ يمضي قضاء الله فينا وينفذ حكمه علينا . فإن قيل : ما معنى قوله : " أو لتعودن في ملتنا " ، " وما يكون لنا أن نعود فيها " ، ولم يكن شعيب قط على ملتهم حتى يصح قولهم ترجع إلى ملتنا ؟ قيل : معناه : أو لتدخلن في ملتنا ، فقال : وما كان لنا أن ندخل فيها . وقيل : معناه إن صرنا في ملتكم . ومعنى عاد صار . وقيل : أراد به قوم شعيب لأنهم كانوا كفاراً فآمنوا فأجاب شعيب عنهم . قوله تعالى : " وسع ربنا كل شيء علما " ، أحاط علمه بكل شئ ، " على الله توكلنا " ، فيما توعدوننا به ، ثم عاد شعيب بعد ما أيس من فلاحهم فقال : " ربنا افتح بيننا وبين قومنا " ، أي : اقض بيننا ، " بالحق " ، والفتاح : القاضي ، " وأنت خير الفاتحين " ، أي : الحاكمين .
90 - " وقال الملأ الذين كفروا من قومه لئن اتبعتم شعيبا " ، وتركتم دينكم ، " إنكم إذاً لخاسرون " ، مغبونون ، وقال عطاء : جاهدون . قال الضحاك : عجزة .
91- " فأخذتهم الرجفة " ، قال الكلبي : الزلزلة . وقال ابن عباس وغيره : فتح الله عليهم باباً من جهنم ، فأرسل عليهم حراً شديداً ، فأخذ بأنفاسهم ولم ينفعهم ظل ولا ماء ، فكانوا يدخلون الأسراب ليتبردوا فيها ، فإذا دخلوها وحدوها أشد حراً من الظاهر ، فخرجوا هرباً إلى البرية فبعث الله سحابة فيها ريح طيبة فأظلتهم ، وهي الظلة ، فوجدوا لها برداً ونسيماً فنادى بعضهم بعضاً حتى اجتمعوا تحت السحابة ، رجالهم ونساؤهم وصبيانهم ، ألهبها الله عليهم ناراً ، ورجفت بهم الأرض فاحترقوا كما يحترق الجراد المقلي ، وصاروا رماداً . وروي أن الله تعالى حبس عنهم الريح سبعة أيام ثم سلط عليهم الحر . قال يزيد الجريري : سلط الله عليهم الحر سبعة أيام ثم رفع لهم جبل من بعيد ، فأتاه رجل فإذا تحته أنهار وعيون فاجتمعوا تحته كلهم فوقع ذلك الجبل عليهم ، فذلك قوله " عذاب يوم الظلة " ( الشعراء - 89 ) ، قال قتادة : بعث الله شعيباً إلى أصحاب الأيكة وأهل مدين ، أما أصحاب الأيكة فأهلكوا بالظلة ، وأما أصحاب مدين فأخذتهم الصيحة ، صاح بهم جبريل عليه السلام صيحة فهلكوا جميعاً . قال أبو عبدالله البجلي : كان أبو جاد وهوز وحطي وكلمن وسعفص وقرشت ملوك مدين ، وكان ملكهم في زمن شعيب عليه السلام يوم الظلة كلمن ، فلما هلك قالت ابنته تبكيه كلمن قد هد ركني هلكه وسط المحله سيد القوم أتاه الحتف ناراً تحت ظلة جعلت ناراً عليهم دارهم كالمضمحله
92- قوله تعالى : " الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها " ، أي : لم يقيموا ولم ينزلوا فيها ، من قولهم : غنيت بالمكان إذا قمت به ، والمغاني المنازل واحدها مغنى ، وقيل : كأن لم يتنعموا فيها . " الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين " ، لا المؤمنين كما زعموا .
93 - " فتولى " ، أعرض " عنهم " شعيب شاخصاً من بين أظهرهم حين أتاهم العذاب ، " و قال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فكيف آسى " أحزن " على قوم كافرين " ، والأسى : الحزن ، والأسى : الصبر .
94- قوله تعالى : " وما أرسلنا في قرية من نبي " ، فيه إضمار ، يعني : فكذبوه ، " إلا أخذنا" ، عاقبنا " أهلها " ، حين لم يؤمنوا ، " بالبأساء والضراء " ، قال ابن مسعود : البأساء : الفقر ، والضراء : المرض ، وهذا يعني قول من قال : البأساء في المال ، والضراء في النفس . وقيل : البأساء البؤس وضيق العيش ، والضراء والضر سوء الحال . وقيل : البأساء في الحرب والضراء : الجدب ، " لعلهم يضرعون " ، لكي يتضرعوا فيتوبوا .
95 - " ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة " ، يعني : مكان البأساء والضراء الحسنة ، يعني : النعمة والسعة والخصب والصحة ، " حتى عفوا " ، أي كثروا وازدادوا ، وكثرت أموالهم ، ( يقال : عفا الشعر إذا كثر. قال مجاهد : كثرت أموالهم وأولادهم ) " وقالوا " ، من غرتهم وغفلتهم بعد ما صاروا إلى الرخاء ، " قد مس آباءنا الضراء والسراء " ، أي :هكذا كانت عادة الدهر قديماً لنا ولآبائنا ، ولم يكن ما مسنا من الضراء عقوبة من الله ، فكونوا على ما أنتم عليه كما كان آباؤكم فإنهم لم يتركوا دينهم لما أصابهم من الضراء ، قال الله تعالى : " فأخذناهم بغتةً " ، فجأةً آمن ما كانوا " وهم لا يشعرون " بنزول العذاب .
96 - " ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض " ، يعني : المطر من السماء والنبات من الأرض . وأصل البركة : المواظبة على الشئ ، أي تابعنا عليهم المطر والنبات ورفعنا عنهم القحط والجدب ، " ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون " من الأعمال الخبيثة .
97 - " أفأمن أهل القرى " الذين كفروا وكذبوا ، يعني : أهل مكة وما حولها ، " أن يأتيهم بأسنا " ، عذابنا ، " بياتا " ، ليلاً ، " وهم نائمون " .
98- " أو أمن " ، قرأ أهل الحجاز والشام : ( أو أمن ) بسكون الواو ، والباقون بفتحها ، " أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحىً " ، أي : نهاراً ، والضحى : صدر النهار ، ووقت انبساط الشمس ، " وهم يلعبون " ، ساهون لاهون .
99 - " أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون " ، ومكر الله استدراجه إياهم بما أنعم عليهم في دنياهم . وقال عطية : يعني أخذه وعذابه .
100 - " أولم يهد " ، قرأ قتادة و يعقوب : ( نهد ) بالنون على التعظيم ، والباقون بالياء على التفريد ، يعني أو لم نبين ، " للذين يرثون الأرض من بعد " ، هلاك " أهلها " ، الذين كانوا فيها قبلهم " أن لو نشاء أصبناهم " ، أي : أخذناهم وعاقبناهم ، " بذنوبهم " كما عاقبنا من قبلهم ، " ونطبع " ، نختم " على قلوبهم فهم لا يسمعون " ، الإيمان ولا يقبلون الموعظة ، قال الزجاج : قوله " ونطبع على قلوبهم " منقطع عما قبله لأن قوله " أصبناهم " ماض و" نطبع " مستقبل .
101 - " تلك القرى " ، أي : هذه القرى التي ذكرت لك أمرها وأمر أهلها ، يعني : قرى قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وشعيب . " نقص عليك من أنبائها " ، أخبارها لما فيها من الاعتبار ، " ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات " ، بالآيات والمعجزات والعجائب ، " فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل " ، أي : فما كانوا ليؤمنوا بعد رؤية المعجزات والعجائب بما كذبوا من قبل رؤيتهم تلك العجائب ، نظيرة قوله عز وجل :" قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين " ( الأنعام - 28 ) . قال ابن عباس والسدي يعني فما كان هؤلاء الكفار الذين أهلكناهم ليؤمنوا عند إرسال الرسل بما كذبوا من قبل يوم أخذ ميثاقهم حين أخرجهم من ظهر آدم ، فأقروا باللسان وأضمروا التكذيب . وقال مجاهد : معناه فما كانوا لو أحييناهم بعد إهلاكهم ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل هلاكهم ، كقوله عز وجل : " ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه " ( الأنعام ـ 28 ) . قال يمان بن رباب : هذا على معنى أن كل نبي أنذر قومه بالعذاب فكذبوه ، يقول : ما كانوا لؤمنوا بما كذب به أوائلهم من الأمم الخالية ، بل كذبوا بما كذب أوائلهم ، نظيره قوله عز وجل : " كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون " ( الذاريات - 52 ) . " كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين " ، أي : كما طبع الله على قلوب الأمم الخالية التي أهلكها ، كذلك يطبع الله على قلوب الكفار الذين كتب عليهم أن لا يؤمنوا من قومك .
102 - "وما وجدنا لأكثرهم من عهد " ، أي : وفاء بالعهد الذي عاهدهم يوم الميثاق ، حين أخرجهم من صلب آدم " وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين " ، أي : ما وجدنا أكثرهم إلا فاسقين ناقضين للعهد .
103 - قوله تعالى : " ثم بعثنا من بعدهم " ، أي : من بعد نوح وصالح وشعيب ، " موسى بآياتنا " ، بأدلتنا ، " إلى فرعون وملئه فظلموا بها " ، فجحدوا بها . والظلم : وضع الشئ في غير موضعه ، فظلمنهم وضع الكفر موضع الإيمان ، " فانظر كيف كان عاقبة المفسدين " ، وكيف فعلنا بهم .
104 - " وقال موسى " ، لما دخل على فرعون ، " يا فرعون إني رسول من رب العالمين " ، إليك ، فقال فرعون : كذبت فقال موسى :
105 - " حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق " ، أي أنا خليق بأن لا أقول على الله إلا الحق ، فتكون " على " بمعنى الباء كما يقال : رميت بالقوس ورميت على القوس ، وجئت على حال حسنة وبحال حسنة ، يدل عليه قراءة أبي والأعمش " حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق " ، وقال أبو عبيدة : معناه حريص على أن لا على الله إلا الحق ، وقرأ نافع ( علي ) بتشديد الياء أي حق واجب علي أن لا أقول على الله إلا الحق . " قد جئتكم ببينة من ربكم " ، يعني العصا ، " فأرسل معي بني إسرائيل " ، أي : أطلق عنهم وخلهم يرجعون إلى الأرض المقدسة ، وكان فرعون قد استخدمهم في الأعمال الشاقة من ضرب اللبن ونقل التراب ونحوهما ، فقال فرعون مجيباً لموسى :
106 - " قال إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين " .
107 - " فألقى " موسى " عصاه " من يده " فإذا هي ثعبان مبين " ، والثعبان : الذكر العظيم من الحيات ، فإن قيل : أليس قال في موضع : " كأنها جان " ( النمل - 10 ) ، والجان الحية الصغيرة ؟ قيل : إنها كانت كالجان في الحركة والخفة ، وهي في جثتها حية عظيمة . قال ابن عباس و السدي : إنه لما ألقى العصا صارت حية عظيمة صفراء شعراء فاغرةً فاها ما بين لحييها ثمانون ذراعاً وارتفعت من الأرض بقدر ميل ، وقامت له على ذنبها واضعةً لحيها الأسفل في الأرض والأعلى على سور القصر ، وتوجهت نحو فرعون لتأخذه ، وروي أنها أخذت قبة فرعون بين نابيها فوثب فرعون من سريره هارباً وأحدث . قيل : أخذه البطن في ذلك اليوم أربعمائة مرة ، وحملت على الناس فانهزموا وصاحوا ومات منهم خمسة وعشرون أفلاً قتل بعضهم بعضاً ودخل فرعون البيت وساح يا موسى أنشدك بالذي أرسلك خذها وأنا أؤمن بك وأرسل معك بني إسرائيل ، فأخذها موسى فعادت عصاً كما كانت ثم قال فرعون : هل معك آية أخرى ؟ قال : نعم .
108 - " ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين " ، فأدخل يده في جيبه ثم نزعها ، وقيل : أخرجها من تحت إبطه فإذا هي بيضاء لها شعاع غلب نور الشمس ، وكان موسى آدم ، ثم أدخلها جيبه فصارت كما كانت .
109 - " قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم " ، يعنون أنه ليأخذ بأعين الناس حتى يخيل إليهم العصا حية والآدم أبيض ، ويرى الشيء بخلاف ما هو به .
110 - " يريد أن يخرجكم " ، يا معشر القبط ، " من أرضكم " ، مصر ، " فماذا تأمرون " ، أي : تشيرون إليه ، هذا يقوله فرعون وإن لم يذكره ، وقيل : هذا من قول الملأ لفرعون وخاصته .
111- " قالوا " ، يعني الملأ ، " أرجه " قرأ ابن كثير وأهل البصرة وابن عامر بالهمزة وصم الهاء ، وقرأ الآخرون بلا همزة ، ثم نافع برواية ورش و الكسائي يشبعان الهاء كسراً ، ويكنها عاصم وحمزة ، ويختلسها أبو جعفر وقالون . قال عطاء ، معناه أخره . وقيل : احبسه ، " وأخاه " ، معناه أشاروا إليه بتأخير أمره وترك التعرض له بالقتل ، " وأرسل في المدائن حاشرين " ، يعني الشرط والمدائن ، وهي مدائن الصعيد من نواحي مصر ، قالوا : أرسل إلى هذا المدائن رجالاً يحشرون إليك من فيها من السحرة ، وكان رؤساء السحرة بأقصى مدائن الصعيد ، فإن غلبهم موسى صدقناه وإن غلبوا علمنا أنه ساحر .
112- فذلك قوله : " يأتوك بكل ساحر عليم " ، قرأ حمزة و الكسائي : ( سحار ) هاهنا وفي سورة يونس ، ولم يختلفوا في الشعراء أنه ( سحار ) . قيل : الساحر : الذي يعلم سحر ولا يعلم ، والسحار : الذي يعلم وقيل : الساحر من يكون سحره في وقت دون وقت ، والسحار من يديم السحر . قال ابن عباس و ابن إسحاق و السدي : قال فرعون لما رأى من سلطان الله في العصا ما رأى : إنا لا نغالب إلا بمن هو منه ، فاتخذ غلماناً من بني إسرائيل فبعث بهم إلى قرية يقال لها الفرحاء يعلمونهم السحر ، فعلموهم سحراً كثيراً ، وواعد فرعون موسى موعداً فبعث إلى السحرة فجاؤوا ومعلمهم معهم ، فقال له : ماذا صنعت ؟ قال : قد علمتهم سحراً لا يطيقه سحرة أهل الأرض إلا أن يكون أمراً من السماء ، فإنه لا طاقة لهم به ، ثم بعث فرعون في مملكته فلم يترك في سلطانه ساحراً إلا أتى به . واختلفوا في عددهم ، فقال مقاتل : كانوا اثنين وسبعين ، إثنان من القبط ، وهما رأسا القوم ، وسبعون من بني إسرائيل . وقال الكلبي : كان الذين يعلمونهم رجلين مجوسيين من أهل نينوى ، وكانوا سبعين غير رئيسهم . وقال كعب : كانوا اثني عشر ألفاً . وقال السدي : كانوا بضعة وثلاثين ألفاً . قال عكرمة : كانوا سبعين ألفاً . وقال محمد بن المنكدر : كانوا ثمانين ألفاً . وقال مقاتل : كان رئيس السحرة شمعون . وقال ابن جريج : رئيس السحرة يوحنا .
113 - " وجاء السحرة فرعون " ، واجتمعوا ، " قالوا " ، لفرعون " إن لنا لأجراً " ، أي جعلاً ومالاً " إن كنا نحن الغالبين " ، قرأ أهل الحجاز وحفص : ( إن لنا ) على الخبر ، وقرأ الباقون بالاستفهام ، ولم يختلفوا في الشعراء أنه مستفهم .
114 - " قال " فرعون " نعم وإنكم لمن المقربين " ، في المنزلة الرفيعة عندي مر الأجر ، قال الكلبي : يعني أول من يدخل وأخر من يخرج .
115 - " قالوا " يعني السحر ة " يا موسى إما أن تلقي " عصاك " وإما أن نكون نحن الملقين " ، لعصينا وحبالنا .
116 - " قال " موسى بل " ألقوا " أنتم ، " فلما ألقوا سحروا أعين الناس " ، أي : صرفوا أعينهم عن إدراك حقيقة ما فعلوه من التمويه والتخييل ، وهذا هو السحر ، " واسترهبوهم " ، أي : أرهبوهم وأفزعوهم ، " وجاؤوا بسحر عظيم " ، وذلك أنهم ألقوا حبالاً غلاظاً وخشباً طوالاً فإذا هي حيات كأمثال الجبال قد ملأت الوادي يركب بعضها بعضاً . وفي القصة أن الأرض كانت ميلاً في ميل صارت حيات وأفاعي في أعين الناس .
117 - " وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك " ، فألقاها فصارت حية عظيمة حتى سدت الأفق . قال ابن زيد : كان اجتماعهم بالاسكندرية . ويقال : بلغ ذنب الحية من وراء البحيرة ثم فتحت فاها ثمانين ذراعاً ، " فإذا هي تلقف " قرأ حفص : ( تلقف ) ساكنة اللام ، خفيفة ، حيث كان ، وقرأ الآخرون : بفتح اللام وتشديد القاف ، أي تبتلع ، " ما يأفكون " ، يكذبون من التخاييل وقيل : يزورون على الناس . فكانت تلتقم حبالهم وعصيهم واحداً واحداً حتى ابتلعت الكل وقصدت القوم الذين حضروا فوقع الزحام عليهم فهلك منهم في الزحام خمسة وعشرون ألفاً ، ثم أخذها موسى فصارت عصاً كما كانت .
118 - " فوقع الحق " ، قال الحسن ومجاهد : ظهر الحق ، " وبطل ما كانوا يعملون " من السحر ، وذلك أن السحرة قالوا : لو كان ما يصنع موسى سحراً لبقيت حبالنا وعصينا فلما فقدت علموا أن ذلك من أمر الله .
119 - " فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين " ، ذليلين مقهورين .
120 - " وألقي السحرة ساجدين " لله تعالى . قال مقاتل : ألقاهم الله . وقيل : ألهمهم الله أن يسجدوا فسجدوا . وقال الأخفش : من سرعة ما سجدوا كأنهم ألقوا .
121 - " قالوا آمنا برب العالمين " ، فقال : فرعون : إياي تعنون فقالوا ،
122 - " رب موسى وهارون " ، قال مقاتل : قال موسى لكبير السحرة تؤمن بي إن غلبتك ؟ فقال : لآتين بسحر لا يغلبه سحر ، ولئن غلبتني لأومنن بك ، وفرعون ينظر .
123 - " قال " لهم " فرعون " حين آمنوا " آمنتم به " قرأ حفص ( آمنتم ) على الخبر هاهنا وفي طه والشعراء ، وقرأ الآخرون بالاستفهام آمنتم به ، " قبل أن آذن لكم " ، أصدقتم موسى من غير أمري إياكم ، " إن هذا لمكر مكرتموه " ، أي : صنيع صنعتموه أنتم وموسى : " في المدينة " في مصر قبل خروجكم إلى هذا الموضع لتستولوا على مصر ، " لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون " ما أفعل بكم .
124 - " لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف " ، وهو أن يقطع من كل شق طرفاً . قال الكلبي : لأقطعن أيديكم اليمنى وأرجلكم اليسرى ، " ثم لأصلبنكم أجمعين " ، على شاطئ ( نهر ) مصر .
125 - " قالوا " ، يعني السحرة لفرعون ، " إنا إلى ربنا منقلبون " ، راجعون في الآخرة .
126 - " وما تنقم منا " ، أي : ما تكره منا . وقال الضحاك وغيره : وما تطعن علينا . وقال عطاء : مالنا عندك من ذنب تعذبنا عليه ، " إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا " ثم فزعوا إلى الله عز وجل فقالوا : " ربنا أفرغ " اصبب ، " علينا صبراً وتوفنا مسلمين " ، ذكر الكلبي : أن فرعون قطع أيديهم وأرجلهم وصلبهم وذكر غيره : أنه لم يقدر عليهم لقوله تعالى : " فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون " ( القصص - 35 ) .
127 - " وقال الملأ من قوم فرعون " له " أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض " ، وأرادوا بالإفساد في الأرض دعاءهم الناس إلى مخالفة فرعون في عبادته ، " ويذرك " ، أي : وليذرك ، " وآلهتك " ، فلا يعبدك ولا يعبدها . قال ابن عباس : كان لفرعون بقرة يعبدها ، وكان إذا رأى بقرة حسناء أمرهم أن يعبدوها ، فلذلك أخرج السامري لهم عجلاً . وقال الحسن : كان قد علق على عنقه صليباً يعبده . وقال السدي : كان فرعون قد اتخذ لقومه أصناماً وأمرهم بعبادتها ، وقال لقومه هذه آلهتكم وأنا ربها وربكم ، فذلك قوله " أنا ربكم الأعلى " ( النازعات - 24 ) ، وقرأ ابن مسعود وابن عباس و الشعبي و الضحاك : ( ويذرك وإلاهتك ) بكسر الألف ، أي : عبادتك فلا يعبدك ، لأن فرعون كان يعبد ولا يعبد وقيل : أراد بالآلهة الشمس ، وكانوا يعبدونها قال الشاعر : تروحنا من اللعباء قصراً وأعجلنا الإلاهة أن تؤبا " قال " فرعون " سنقتل أبناءهم " ، قرأ أهل الحجاز : ( سنقتل ) بالتخفيف من القتل ، وقرأ آخرون بالتشديد من التقتيل على التكثير ، " ونستحيي نساءهم " نتركهن أحياء ، " وإنا فوقهم قاهرون " ، غالبون . قال ابن عباس : كان فرعون يقتل أبناء بني إسرائيل في العام الذي قيل أنه يولد مولود يذهب بملكك ، فلم يزل يقتلهم حتى أتاهم موسى بالرسالة ، وكان من أمره ما كان ، فقال فرعون : أعيدوا عليهم القتل ، فأعادوا عليهم القتل ، فشكت ذلك بنو إسرائيل .
128 - " قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله " ، يعني أرض مصر ، " يورثها " يعطيها " من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين " ، بالنصر والظفر . وقيل : السعادة والشهادة . وقيل : الجنة .
129 - " قالوا أوذينا " ، قال ابن عباس :لما آمنت السحرة ابتع موسى ستمائة ألف من بني إسرائيل ، فقالوا - يعني قوم موسى - إنا أوذينا ، " من قبل أن تأتينا " ، بالرسالة بقتل الأبناء ، " ومن بعد ما جئتنا " ، بإعادة القتل علينا . وقيل : فالمراد منه أن فرعون كان يستسخرهم قبل مجيء موسى إلى نصف النهار ، فلما جاء موسى استسخرهم جميع النهار بلا أجر . وذكر الكلبي أنهم كانوا يضربون له اللبن بتبن فرعون ، فلما جاء موسى أجبرهم أن يضربوه بتبن من عندهم . " قال " موسى " عسى ربكم أن يهلك عدوكم " ، فرعون ، " ويستخلفكم في الأرض " ، أي يسكنكم أرض مصر من بعدهم " فينظر كيف تعملون " ، فحقق الله ذلك بإغراق فرعون واستخلافهم في ديارهم وأموالهم فعبدوا العجل .
130 - قوله عز وجل : " ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين " ، أي بالجدوب والقحط . تقول العرب : مستهم السنة ، أي : الجدب السنة وشدة السنة . وقيل : أراد بالسنين القحط سنة بعد سنة ، " ونقص من الثمرات " ، والغلات بالآفات والعاهات . وقال قتادة : أما السنين فلأهل البوادي ، وأما نقص الثمرات فلأهل الأمصار ، " لعلهم يتذكرون " ، أي : يتعظون وذلك لأن الشدة ترقق القلوب وترغبها فيما عند الله عز وجل .
131 - " فإذا جاءتهم الحسنة " ، يعني : الخصب والسعة والعافية ، " قالوا لنا هذه " ، أي نحن أهلها ومستحقوها على العادة التي جرت لنا في سعة أرزاقنا ولم يروها تفضلاً من الله عز وجل فيشكروا عليها ، " وإن تصبهم سيئة " ، جدب وبلاء ورأوا ما يكرهون ، " يطيروا " ، يتشاءموا ، " بموسى ومن معه " ، وقالوا : ما أصابنا بلاء حتى رأيناهم ، فهذا من شؤم موسى وقومه . قال سعيد بن جبير و محمد بن المنكدر كان ملك فرعون أربعمائة سنة ، عاش ستمائة وعشرون سنة لا يرى مكروهاً ، ولو كان له في تلك المدة جوع يوم أو حمى ليله ، أو وجع ساعة ، لما ادعى الربوبية قط . قال الله تعالى " ألا إنما طائرهم عند الله " ، أي : انصباؤهم من الخصب والجدب والخير والشر كله من الله . وقال ابن عباس : طائرهم ما قضى الله عليهم وقدر لهم . وفي رواية عنه : شؤمهم عند الله ومن قبل الله . أي : إنما حاءهم الشؤم بكفرهم بالله . وقيل : معناه الشؤم العظيم الذي لهم عند الله من عذاب النار ، " ولكن أكثرهم لا يعلمون " ، أن الذي أصابهم من الله .
132 - " وقالوا " ، يعني : القبط لموسى " مهما تأتنا " ، متى ما كلمة تستعمل للشرط والجزاء ، " تأتنا به من آية " من علامة ، " لتسحرنا بها " ، لتنقلنا عما نحن عليه من الدين ، " فما نحن لك بمؤمنين " بمصدقين .
133 - " فأرسلنا عليهم الطوفان " قال ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة و محمد بن إسحاق - دخل كلام بعضهم في بعض - : لما آمنت السحرة ، ورجع فرعون مغلوباً ، أبى هو وقومه إلا الإقامة على الكفر والتمادي في الشر ،فتابع الله عليهم الآيات وأخذهم بالسنين ونقص من الثمرات ، فلما عالج منهم بالآيات الأربع : العصا ، واليد ، والسنين ، ونقص الثمار ، فأبوا أن يؤمنوا فدعا عليهم ، فقال : يا رب إن عبدك فرعون علا في الأرض وبغى وعتا وإن قومه قد نقضوا عهدك ، رب فخذهم بعقوبة تجعلها لهم نقمة ولقومي عظةً ولمن بعدهم آيةً وعبرة ، فبعث الله عليهم الطوفان ، وهو الماء ، أرسل الله عليهم الماء وبيوت بني إسرائيل وبيوت القبط مشتبكة مختلطة ، فامتلأت بيوت القبط حتى قاموا في الماء إلى تراقيهم ومن جلس منهم غرق ، ولم يدخل بيوت بني إسرائيل من المار قطرة ، وركد الماء على أرضهم لا يقدرون أن يحرثوا ولا يعملوا شيئاً ، ودام ذلك عليهم سبعة أيام من السبت إلى السبت . وقال مجاهد وعطاء : الطوفان الموت . وقال وهب : الطوفان الطاعون بلغة اليمن . وقال أبوقلابة : الطوفان الجدري ، وهم أول من عذبوا به فبقي في الأرض . وقال مقاتل : الطوفان الماء طغى فوق حروثهم . وروى ابن ظبيان عن ابن عباس قال : الطوفان أمر من الله طاف بهم ، ثم قرأ " فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون " ( القلم - 19 ) . قال نحاة الكوفة : الطوفان مصدر لا يجمع ، كالرجحان والنقصان . وقال أهل البصرة : هو جمع ، واحدها طوفانة ، فقال لموسى ادع لنا ربك يكشف عنا المطر فنؤمن بك ونرسل معك بني إسرائيل ، فدعا ربه فرفع عنهم الطوفان ، فأنبت الله لهم في تلك السنة شيئا لم ينبته لهم قبل ذلك من الكلأ والزرع والثمر وأخصبت بلادهم ، فقالوا : ما كان هذا الماء إلا نعمة علينا وخصباً ، فلم يؤمنوا وأقاموا شهراً في عافية ، فبعث الله عليهم الجراد فأكل عامة زروعهم وثمارهم وأوراق الشجر حتى كانت تأكل الأبواب وسقوف البيوت والخشب والثياب والأمتعة ومسامير الأبواب من الحديد حتى تقع دورهم ، وابتلي الجراد بالجوع ، فكان لا يشبع ولم يصب بني إسرائيل شيء من ذلك فعجوا وضجوا ، وقالوا : يا موسى ادع لنا ربك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ، وأعطوه عهد الله وميثاقه ، فدعا موسى عليه السلام فكشف الله عنهم الجراد بعدما أقام عليهم سبعة أيام من السبت إلى السبت . وفي الخبر : ( مكتوب على صدر كل جرادة جند الله الأعظم ) . ويقال إن موسى برز إلى الفضاء فأشار بعصاه نحو المشرق والمغرب فرجعت الجراد من حيث جاءت ، وكانت قد بقيت من زروعهم وغلاتهم بقية ، فقالوا : قد بقي لنا ما هو كافينا فما نحن بتاركي ديننا ، فلم يفوا بما عاهدوا ، وعادوا لأعمالهم السوء ، فأقاموا شهراً في عافية ، ثم بعث الله عليهم القمل . ( واختلفوا في القمل ) فروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : القمل السوس الذي يخرج من الحنطة . وقال مجاهد و السدي و قتادة و الكلبي : القمل الدبي والجراد والطيارة التي لها أجنحة ، والدبي الصغار التي لا أجنحة لها . وقال ( عكرمة : هي بنات ) الجراد . وقال أبو عبيدة : وهو الحمنان وهو ضرب من القراد . وقال عطاء الخرساني : هو القمل . وبه قرأ أبوالحسن ( القمل ) بفتح القاف وسكون الميم . قالوا : أمر الله موسى أن يمشي إلى كثيب أعفر ، بقرية من قرى مصر تدعى عين شمس ، فمشى موسى إلى ذلك الكثيب وكان أهيل فضربه بعصاه فانثال عليهم القمل ، فتتبع ما بقي من حروثهم وأشجارهم ونباتهم فأكله ، ولحس الأرض كلها وكان يدخل بين ثوب أحدهم وجلده فيعضه ، وكان أحدهم يأكل الطعام فيمتلئ قملاً . قال سعيد بن المسيب : القمل السوس الذي يخرج من الحبوب ، وكان الرجل يخرج عشرة أجربة إلى الرحا فلا يرد منها ثلاثة أقفزة ، فلم يصابوا ببلاء كان أشد عليهم من القمل ، وأخذ أشعارهم وأبشارهم وأشفار عيونهم وحواجبهم ولزم جلودهم كأنه الجدري عليهم ومنعهم النوم والقرار فصرخوا وصاحوا إلى موسى أنا نتوب فادع لنا ربك يكشف عنا البلاء ، فدعا موسى عليه السلام الله فرفع الله القمل عنهم بعدما أقام عليهم سبعة أيام من السبت إلى السبت ، فنكثوا وعادوا إلى أخبث أعمالهم . وقالوا : ما كنا قط أحق أن نستيقن أنه ساحر منا اليوم يجعل الرمل دواب . فدعا موسى بعدما أقاموا شهراً في عافية ، فأرسل الله عليهم الضفادع فامتلأت منها بيوتهم وأفنيتهم وأطعمتهم وآنيتهم ، فلا يكشف أحد إناءً ولا طعاماً إلا وجد فيه الضفادع ، وكان الرجل يجلس في الضفادع في ذقنه ،ويهم أن يتكلم فيثب الضفدع في فيه ،وكانت تثب في قدورهم فتفسد عليهم طعامهم وتطفئ نيرانهم ، وكان أحدهم يضطجع فتركبه الضفادع فتكون عليه ركاماً حتى ما يستطيع أن ينصرف إلى شقة الآخر ،ويفتح فاه لأكلته فيسبق الضفدع أكلته إلى فيه ، ولا يعجن عجينا إلا تشدخت فيه ، ولا يفتح قدراً إلا امتلأت ضفادع ، فلقوا منها أذىً شديداً . روى عكرمة عن ابن عباس قال : كانت الضفادع برية ، فلما أرسلها الله على آل فرعون سمعت وأطاعت فجعلت تقذف أنفسها في القدور وهي تغلي ، وفي التنانير وهي تفور ، فأثابها الله بحسن طاعتها برد الماء ، فلما رأوا ذلك بكوا وشكوا ذلك إلى موسى ، وقالوا هذه المرة نتوب ولا نعود ، فأخذ عهودهم ومواثيقهم ، ثم دعا ربه فكشف عنهم الضفادع بعدما أقام سبعاً من السبت إلى السبت ، فأقاموا شهراً في عافية ثم نقضوا العهد وعادوا لكفرهم ، فدعا عليهم موسى فأرسل الله عليهم الدم ، فسال النيل عليهم دماً وصارت مياههم دماً وما يستقون من الآبار والأنهار إلا وجدوه دماً عبيطاً أحمر ، فشكوا إلى فرعون وقالوا ليس لنا شراب ، فقال : إنه سحركم ، فقالوا : من أين سحرنا ونحن لا نجد في أوعيتنا شيئاً من الماء إلا دما عبيطاً ؟ وكان فرعون يجمع بين القبطي والإسرائيلي على الإناء الواحد فيكون ما يلي الإسرائيلي ماءً والقبطي دماً ( ويقومان إلى الجرة فيها الماء فيخرج للإسرائيلي ماء وللقبطي دم ) ، حتى كانت المرأة من آل فرعون تأتي المرأة من بني إسرائيل حين جهدهم العطش فتقول اسقني من مائك فتصب لها من قربتها فيعود في الإناء دماً حتى كانت تقول اجعليه في فيك ثم مجيه في في فتأخذ في فيها ماءً فإذا مجته في فيها صار دماً ، وإن فرعون اعتراه العطش حتى إنه ليضطر إلى مضغ الأشجار الرطبة ، فإذا مضغها يصير ماؤها في فيه ملحاً أجاجاً ، فمكنوا في ذلك سبعة أيام لا يشربون إلا الدم . قال زيد بن أسلم : الدم الذي سلط عليهم كان الرعاف ، فأتوا موسى وقالوا يا موسى ادع لنا ربك يكشف عنا هذا الدم فنؤمن بك ونرسل معك بني إسرائيل ، فدعا ربه عز وجل فكشف عنهم ، فلم يؤمنوا ،فذلك قوله عز وجل : " فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات " ، يتبع بعضها بعضاً . وتفصيلها أن كل عذاب يمتد أسبوعا ، وبين كل عذابين شهراً ، " فاستكبروا وكانوا قوماً مجرمين " .
134 - " ولما وقع عليهم الرجز " ، أي : نزل بهم العذاب وهو ما ذكر الله عز وجل من الطوفان وغيره .. وقال سعيد بن جبير : الرجز الطاعون ، وهو العذاب السادس بعد الآيات ( الخمس ) حتى مات منهم سبعون ألفاً في يوم واحد ، فأمسوا وهو لا يتدافنون " قالوا " لموسى " يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك " أي : بما أوصاك . وقال عطاء : بما نبأك ، وقيل : بما عهد عندك من إجابة دعوتك " لئن كشفت عنا الرجز " وهو الطاعون " لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل " . أخبرنا أبو الحسن السرخسي ثنا زاهر بن أحمد ثنا أبو إسحاق الهاشمي ثنا أبو مصعب عن مالك عن محمد بن المنكدر عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه أنه سمعه يسأل أسامة بن زيد : أسمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطاعون ؟ فقال أسامة بن زيد : ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ) : " الطاعون رجز أرسل على بني إسرائيل أو على من كان قبلكم ، فإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه ، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه " .
135 - قوله عز وجل : " فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه " يعني : إلى الغرق في اليم " إذا هم ينكثون " ينقضون العهد .
136 - " فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم " يعني : البحر " بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين " أي : عن النقمة قبل حلولها غافلين . وقيل : معناه عن آياتنا معرضين .
137 -" وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون " ، يقهرون ويستذلون بذبح الأبناء واستخدام النساء ( والاستعباد وهم بن إسرائيل ) ، " مشارق الأرض ومغاربها " يعني مصر والشام " التي باركنا فيها " بالماء والأشجار والثمار والخصب والسعة " وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل " يعني : وفت كلمة الله وهي وعده إياهم بالنصر والتمكين في الأرض ، وذلك قوله تعالى : " ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض " ( القصص - 5 ) " بما صبروا " على دينهم وعلى عذاب فرعون " ودمرنا " أهلكنا " ما كان يصنع فرعون وقومه " ، في أرض مصر من العمارات ، " وما كانوا يعرشون " قال مجاهد يبنون من البيوت والقصور . وقال الحسن : يعرشون من الأشجار والثمار والأعناب . وقرأ ابن عامر وأبو بكر " يعرشون " بضم الراء هاهنا وفي النحل ، وقرأ آخرون بكسرها .
138 - قوله تعالى : " وجاوزنا ببني إسرائيل البحر " قال الكلبي : عبر بهم موسى البحر يوم عاشوراء بعد مهلك فرعون وقومه فصامه شكراً لله عز وجل " فأتوا " فمروا " على قوم يعكفون " يقيمون قرأ حمزة و الكسائي "يعكفون" بكسر الكاف وقرأ الآخرون بضمها وهما لغتان ، " على أصنام " أوثان " لهم " ، يعبدونها من دون الله . قال ابن جريج : كانت تماثيل بقر ، وذلك أول شأن العجل . قال قتادة : كان أولئك القوم من لخم وكانوا نزولاً بالرقة ، فقالت بنو إسرائيل ما رأوا ذلك : " قالوا يا موسى اجعل لنا إلهاً " أي : مثالاً نعبده " كما لهم آلهة " ، ولم يكن ذلك شكاً من بني إسرائيل في وحدانية الله ، وإنما معناه : اجعل لنا شيئاً نعظمه ونتقرب بتعظيمه إلى الله عز وجل وظنوا أن ذلك لا يضر الديانة وكان ذلك لشدة جهلهم . " قال " موسى " إنكم قوم تجهلون " ، عظمة الله .
139 - " إن هؤلاء متبر " مهلك ، " ما هم فيه " والتتبير الإهلاك ، " وباطل ما كانوا يعملون " .
140 - " قال " يعني موسى " أغير الله أبغيكم " ، أي أبغي لكم وأطلب ، " إلهاً وهو فضلكم على العالمين " أي : على عالمي زمانكم . أخبرنا أبو سعيد عبدالله بن أحمد الطاهري ، أنا جدي أبو سهل عبدالصمد بن عبدالرحمن البزار ، أنا أبوبكر محمد بن زكريا العذافري ، أنا إسحاق بن إبراهيم الديري أنا عبدالرزاق أنا معمر عن الزهري عن سنان بن أبي سنان الديلي عن أبي واقد الليثي ، قال :" خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل حنين ، فمررنا بسدرة ، فقلنا : يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما كان للكفار ذات أنواط ، وكان الكفار ينوطون سلاحهم بسدرة يعكفون حولها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : الله أكبر ، هذا كما قالت بنو إسرائيل لموسى " اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة "إنكم تركبون سنن من قبلكم"
141 - قوله عز وجل : " وإذ أنجيناكم " ، قرأ ابن عامر ( أنجاكم ) وكذلك هو في مصاحف أهل الشام ، " من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يقتلون أبناءكم " ، قرأ نافع ( يقتلون ) خفيفةً ، من القتل ، وقرأ الآخرون بالتشديد على التكثير من التقتيل ، " ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم " .
142- " وواعدنا موسى ثلاثين ليلة " ، ذي القعدة ، " وأتممناها بعشر " ، من ذي الحجة ، " فتم ميقات ربه أربعين ليلة وقال موسى " عند انطلاقه إلى الجبل للمناجاة " لأخيه هارون اخلفني " ، كن خليفتي ، " في قومي وأصلح " ، أي أصلحهم بحملك إياهم على طاعة الله . وقال ابن عباس : يريد الرفق بهم والإحسان إليهم " ولا تتبع سبيل المفسدين " ، أي : لا تطع من عصى الله ولا توافقه على أمره ، وذلك أن موسى عليه السلام وعد بني إسرائيل وهم بمصر : أن الله إذا أهلك عدوهم أتاهم بكتاب فيه بيان ما يأتون وما يذرون ! فلما فعل الله ذلك بهم سأل موسى ربه الكتاب : فأمره الله عز وجل أن يصوم ثلاثين يوماً ، فلما تمت ثلاثون أنكر خلوف فمه ، فتسوك بعود خروب . وقال أبو العالية : أكل من لحاء شجرة ، فقالت له الملائكة : كنا نشم من فيك رائحة المسك ، فأفسدته بالسواك ، فأمره الله تعالى أن يصوم عشرة أيام من ذي الحجة ، وقال : أما علمت أن خلوف فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك ، فكانت فتنتهم في العشر التي زادها .
143 - قوله عز وجل : " ولما جاء موسى لميقاتنا " ، أي : للوقت الذي ضربنا له أن نكلمه فيه . قال أهل التفسير : إن موسى عليه السلام تطهر وطهر ثيابه لميعاد ربه لما أتى طور سيناء . وفي القصة : إن الله عز وجل وأنزل ظلمة على سبعة فراسخ وطرد عنه الشيطان وطرد عنه هوام الأرض ونحى عنه الملكين وكشط له السماء ورأى الملائكة قياماً في الهواء ورأى العرش بارزاً وكلمة الله وناجاه حتى أسمعه ، وكان جبريل عليه السلام معه فلم يسمع ما كلمة ربه وأدناه حتى سمع صرير القلم فاستحلى موسى عليه السلام كلام ربه واشتاق إلى رؤيته " قال رب أرني أنظر إليك " ، قال الزجاج : فيه اختصار تقديره : أرني نفسك أنظر إليك . قال ابن عباس : أعطني انظر إليك . فإن قيل : كيف سأل الرؤية وقد علم أن الله تعالى لا يرى في الدنيا ؟ قال الحسن : هاج به الشوق فسأل الرؤية . وقيل : سأل الرؤية ظناً منه أنه يجوز أن يرى في الدنيا " قال " الله تعالى " لن تراني " وليس لبشر أن يطيق النظر ( إلي في الدنيا من نظر إلي ) في الدنيا مات فقال إلهي سمعت كلامك فاشتقت إلى النظر إليك ولأن انظر إليك ثم أموت أحب إلي من أن أعيش ولا أراك فقال الله عز وجل : " ولكن انظر إلى الجبل " ، وهو أعظم جبل مدين يقال له زبير . قال السدي : لما كلم الله موسى غاص الخبيث إبليس في الأرض حتى خرج بين قدمي موسى ، فوسوس إليه : أن يكلمك شيطان فعند ذلك سأل موسى الرؤية فقال الله عز وجل : " لن تراني " ، وتعلقت نفاة الرؤية بظاهر هذه الآية ، وقالوا : قال الله تعالى : " لن تراني " ، ولن تكون للتأييد ، ولا حجة لهم فيها ومعنى الآية : لن تراني في الدنيا أو في الحال ، لأنه كان يسأل الرؤية في الحال و( لن ) لا تكون للتأييد ، كقوله تعالى " ولن يتمنوه أبداً " ( البقرة - 95 ) ، إخباراً عن اليهود ، ثم أخبر عنهم أنهم يتمنون الموت في الآخرة يقولون " يا مالك ليقض علينا ربك " ( الزخرف - 77 ) ، و" يا ليتها كانت القاضية " ( الحاقة - 27 ) ، والدليل عليه أنه لم ينسبه إلى الجهل بسؤال الرؤية ولم يقل إني لا أرى حتى يكون لهم حجة بل علق الرؤية على استقرار الجبل واستقرار الجبل على التجلي غير مستحيل إذا جعل الله تعالى له تلك القوة ، والمعلق بما لا يستحيل لا يكون محالاً . قال الله تعالى : " ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني " ، قال وهب و ابن إسحاق لما سأل موسى ربه الرؤية أرسل الله الضباب والصواعق والظلمة والرعد والبرق وأحاطت بالجبل الذي عليه موسى أربعة فراسخ من كل جانب ، وأمر الله ملائكة السماء أن يعترضوا على موسى فمرت به ملائكة السماء الدنيا كثيران البقر تنبع أفواههم بالتسبيح والتقديس بأصوات عظيمة كصوت الرعد الشديد ، ثم أمر الله ملائكة السماء الثانية أن اهبطوا على موسى فاعترضوا عليه ، فهبطوا عليه أمثال الأسود لهم لجب بالتسبيح والتقديس ، ففزع العبد الضعيف ابن عمران مما رأى وسمع واقشعرت كل شعرة في رأسه وجسده ، ثم قال : لقد ندمت على مسألتي فهل ينجيني من مكاني الذي أنا فيه شيء ؟ فقال له خير الملائكة ورأسهم : يا موسى اصبر لما سألت ، فقليل من كثير ما رأيت . ثم أمر الله ملائكة السماء الثالثة أن اهبطوا على موسى فاعترضوا عليه ، فهبطوا أمثال النسور فهم قصف ورجف شديد ، وأفواههم تنبع بالتسبيح والتقديس كجلب الجيش العظيم ألوانهم كلهب النار ففزع موسى واشتد نفسه وأيس من الحياة ، فقال له خير الملائكة : مكانك يا بن عمران حتى ترى ما لا تصبر عليه ، ثم أمر الله تعالى ملائكة السماء الرابعة أن اهبطوا فاعترضوا على موسى بن عمران فهبطوا عليه فكان لا يشبههم شيء من الذين مروا به قبلهم ألوانهم كلهب النار ، وسائر خلقهم كالثلج الأبيض أصواتهم عالية بالتقديس والتسبيح لا يقاربهم شيء من أصوات الذين مروا به قبلهم ، فاصطكت ركبتاه وأرعد قلبه واشتد بكاؤه فقال له خير الملائكة ورأسهم : يا بن عمران اصبر لما سألت فقليل من كثير رأيت . ثم أمر الله تعالى ملائكة السماء الخامسة أن اهبطوا فاعترضوا على موسى فهبطوا عليه لهم سبعة ألوان فلم يستطع موسى أن يتبعهم بصره ، لم ير مثلهم ولم يسمع مثل أصواتهم فامتلأ جوفه خوفاً واشتد حزنه وكثر بكاؤه ، فقال له خير الملائكة ورأسهم : يا بن عمران مكانك حتى ترى بعض ما لا تصبر عليه . ثم أمر الله ملائكة السماء السادسة أن اهبطوا على عبدي الذي طلب ليراني ، فهبطوا عليه في يد كل ملك منهم مثل النخلة الطويلة ، نار أشد ضوءاً من الشمس ، ولباسهم كلهب النار إذا سبحوا وقدسوا جاوبهم من كان قبلهم من ملائكة السموات ، كلهم يقولون بشدة أصواتهم : سبوح قدوس ، رب العزة أبداً لا يموت ، في رأس كل ملك منهم أربعة أوجه ، فلما رآهم موسى رفع صوته يسبح معهم ( حين سبحوا ) وهو يبكي ويقول : رب اذكرني ولا تنس عبدك لا أدري أأنفلت مما أنا فيه أم لا ؟ إن خرجت احترقت وإن مكثت مت ، فقال له كبير الملائكة ورأسهم : قد أوشكت يا بن عمران أن يشتد خوفك وينخلع قلبك فاصبر للذي سألت . ثم أمر الله تعالى أن يحمل عرشه في ملائكة السماء السابعة فلما بدا نور العرش انفرج الجبل من عظمة الرب جل جلاله ، ورفعت ملائكة السموات أصواتهم جميعاً يقولون : سبحان القدوس رب العزة أبداً لا يموت بشدة أصواتهم ، فارتج الجبل واندكت كل شجرة كانت فيه وخر العبد الضعيف موسى صعقاً على وجهه ليس معه روحه ، فأرسل الله برحمته الروح فتغشاه ، وقلب عليه الحجر الذي كان عليه موسى وجعله كهيئة القبة لئلا يحترق موسى ، فأقامه الروح مثل اللامة ، فقام موسى يسبح الله تعالى ويقول آمنت بك ربي وصدقت أنه لا يراك أحد فيحيا ، من نظر إلى ملائكتك انخلع قلبه فما أعظمك وأعظم ملائكتك أنت رب الأرباب وإله الآلهة وملك الملوك ، ولا يعدلك شيء ولا يقوم لك شيء ، رب تبت إليك الحمد لك لا شريك لك ما أعظمك وما أجلك رب العالمين ، فذلك قوله تعالى : " فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً " ، قال ابن عباس : ظهر نور ربه للجبل ، جبل الزبير . وقال الضحاك : أظهر الله من نور الحجب مثل منخر ثور . وقال عبدالله بن سلام وكعب الأحبار : ما تجلى من عظمة الله للجبل إلا مثل سم الخياط حتى صار دكاً . وقال السدي : ما تجلى إلا قدر الخنصر ، يدل عليه ما روى ثابت عن أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية وقال : هكذا ووضع الإبهام على المفصل الأعلى من الخنصر ، فساخ الجبل" . وحكي عن سهل بن سعد الساعدي أن الله تعالى أظهر من سبعين ألف حجاب نوراً قدر الدرهم فجعل الجبل دكاً ، أي : مستوياً بالأرض ، قرأ حمزة و الكسائي ( دكاء ) ممدوداً غير منون هاهنا وفي سورة الكهف و ( وافق عاصم في الكهف ) ، وقرأ آخرون ( دكا) مقصوراً منوناً ، فمن قصره فمعناه جعله مدقوقاً : والدك والدق واحد ، وقيل : معناه دكه الله دكاً أي : فتته كما قال : " كلا إذا دكت الأرض دكاً دكاً " ( الفجر - 21 ) ، ومن قرأ بالمد أي : جعله مستوياً أرضاً دكاء . وقيل : معناه جعله مثل دكاء وهي الناقة التي لا سنام لها قال ابن عباس : جعله تراباً. وقال سفيان : ساخ الجبل في الأرض حتى وقع في البحر فهو يذهب فيه . وقال عطية العوفي : صار رملاً هائلاً . وقال الكلبي : جعله دكاً أي كسراً جبالاً صغاراً . ووقع في بعض التفاسير : صار لعظمته ستة أجبل وقعت ثلاثة بالمدينة : أحد وورقان ورضوي ، ووقعت ثلاثة بمكة ثور وثبير وحراء . قوله عز وجل : " وخر موسى صعقاً " . قال ابن عباس والحسن : مغشياً عليه . وقال قتادة : ميتاً . وقال الكلبي : خر موسى صعقاً يوم الخميس يوم عرفة وأعطي التوراة يوم الجمعة يوم النحر . قال الواقدي : لما خر موسى صعقاً قالت ملائكة السموات : ما لابن عمران وسؤال الرؤية ؟ وفي بعض الكتب أن ملائكة السموات أتوا موسى وهو مغشي عليه فجعلوا يركلونه بأرجلهم ويقولون يا ابن النساء الحيض أطمعت في رؤية رب العزة . " فلما أفاق " موسى من صعقته وثاب إليه عقله عرف أنه قد سأل أمراً لا ينبغي له " قال سبحانك تبت إليك " عن سؤال الرؤية " وأنا أول المؤمنين " بأنك لا ترى في الدنيا . وقال مجاهد و السدي : وأنا أول من آمن بك من بني إسرائيل .
144 - " قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس " اخترتك على الناس ، قرأ ابن كثير وأبو عمرو ( إني ) بفتح الياء وكذلك " أخي * اشدد " ( طه - 31 ) ، " برسالاتي " ، قرأ أهل الحجاز برسالتي على التحويد ، والآخرون بالجمع ، " وبكلامي فخذ ما آتيتك " أعطيتك " وكن من الشاكرين " لله على نعمه . فإن قيل : فما معنى قوله " اصطفيتك على الناس برسالاتي " وقد أعطي غيره الرسالة ؟ قيل : لما لم تكن الرسالة على العموم في حق الناس كافة استقام قوله اصطفيتك على الناس وإن شاركه فيه غيره ، كما يقول للرجل : خصصتك بمشورتي وإن شاور غيره إذا لم تكن المشورة على العموم يكون مستقيماً . وفي بعض القصة : إن موسى عليه السلام كان بعدما كلمه ربه لا يستطيع أحد أن ينظر إليه لما غشي وجهه من النور ، ولم يزل على وجهه برقع حتى مات . وقال له امرأته : أنا أيم منك منذ كلمك ربك فكشف لها عن وجهه فأخذها مثل شعاع الشمس فوضعت يدها على وجهها وخرت لله ساجدة ، وقالت : ادع الله أن يجعلني زوجتك في الجنة ، قال : ذاك إن لم تتزوجي بعدي ، فإن المرأة لآخر أزواجها . أخبرنا أبو سعيد الشريحي أنا أبو إسحاق الثعلبي أنا أبو عبدالله محمد بن أحمد بن علي المزكي أنا أبو العباس محمد بن أحمد بن إسحاق السراج حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا راشد بن أسعد بن عبدالرحمن المغافري عن أبيه عن كعب الأحبار : أن موسى نظر في التوراة فقال : إني أجد أمة خير الأمم أخرجت للناس يأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله وبالكتاب الأول وبالكتاب الآخر ، ويقاتلون أهل الضلالة حتى يقاتلوا الأعور الدجال ، رب اجعلهم أمتي ، قال : هي أمة محمد يا موسى ، فقال : ربي إني أجد أمةً هم الحمادون رعاة الشمس المحكمون إذا أرادوا أمراً قالوا نفعل إن شاء الله فاجعلهم أمتي ، قال : هي أمة محمد ، فقال : رب إني أجد أمة يأكلون كفاراتهم وصدقاتهم ، وكان الأولون يحرقون صدقاتهم بالنار ، وهم المستجيبون والمستجاب لهم الشافعون المشفوع لهم فاجعلهم أمتي ، قال : هي أمة محمد ، قال : يا رب إني أجد أمة إذا أشرف أحدهم على شرف كبر الله فإذا هبط وادياً حمد الله ، الصعيد لهم طهور والأرض لهم مسجد حيث ما كانوا ، يتطهرون من الجنابة طهورهم بالصعيد كطهورهم بالماء حيث لا يجدون الماء ، غر محجلون من آثار الوضوء فاجعلهم أمتي ، قال : هي أمة أحمد ، فقال : رب إني أجد أمة إذا هم أحدهم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة مثلها وإن عملها كتبت له ضعف عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، وإذا هم بسيئة ولم يعملها لم تكتب عليه وإن عملها كتبت له سيئة مثلها ، فاجعلهم أمتي ، قال : هي أمة أحمد ، فقال رب إني أجد أمة مرحمةً ضعفاء يرثون الكتاب من الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات ولا أجد أحداً منهم إلا مرحوماً فاجعلهم أمتي ، قال : هي أمة محمد ، فقال : يا رب إني أجد أمة { مصاحفهم } في صدورهم يلبسون ألوان ثياب أهل الجنة يصفون في صلاتهم صفوف الملائكة أصواتهم في مساجدهم كدوي النحل لا يدخل النار أحد منهم أبداً إلا من يرى الحساب مثل ما يرى الحجر من وراء الشجر ، فاجعلهم أمتي ، قال : هي أمة أحمد ، فما عجب موسى من الخير الذي أعطى الله محمداً صلى الله عليه وسلم وأمته قال : يا ليتني من أصحاب محمد أو أمته ، فأوحي الله إليه ثلاث آيات يرضيه بهن : " يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي " إلى قوله : " سأريكم دار الفاسقين " " ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون "، فرضي موسى كل الرضا .
145 - قوله عز وجل : " وكتبنا له " ، يعني موسى ، " في الألواح " ، قال ابن عباس : يريد ألواح التوراة ، وفي الحديث ( كانت من سدر الجنة طول اللوح اثنا عشر ذراعاً ) . وجاء في أحاديث خلق الله آدم بيده : ( وكتب التوراة بيده وغرس شجرة طوبى بيده ) . قال الحسن : كانت الألواح من خشب . قال الكلبي : كانت من زبرجدة خضراء . وقال سعيد بن جبير : كانت من ياقوت أحمر ، وقال الربيع بن أنس : كانت الألواح من برد . قال ابن جريج : كانت من زمرد ، أمر الله جبريل حتى جاء بها من عدن ، وكتبها بالقلم الذي كتب به الذكر واستمد من نهر النور وقال وهب : أمره الله بقطع الألواح من صخرة صماء لينها الله له فقطعها بيده ثم شققها بأصبعه ، وسمع موسى صرير القلم بالكلمات العشرة وكان ذلك في أول يوم من ذي القعدة ، وكانت الألواح عشرة أذرع على طول موسى . وقال مقاتل ووهب : " وكتبنا له في الألواح " ، كنقش الخاتم . وقال الربيع بن أنس : نزلت التوراة وهي سبعون وقر بعير ، يقرأ الجزء منه في سنة ، لم يقرأها إلا أربعة نفر : موسى ، ويوشع ، وعزير ، وعيسى . وقال الحسن : هذه الآية في التوراة ألف آية يعني ( وكتبنا له في الألواح ) " من كل شيء " ، مما أمروا به ونهوا عنه ، " موعظة " نهياً عن الجهل ، وحقيقة الموعظة : التذكرة والتحذير بما يخاف عاقبته ، " وتفصيلاً لكل شيء " ، أي : تبييناً لكل شيء من الأمر والنهي ، والحلال والحرام ، والحدود والأحكام . " فخذها بقوة " ، أي : بجد واجتهاد . وقيل : بقوة القلب وصحة العزيمة ، لأنه إذا أخذه بضعف النية أداه إلى الفتور ، " وأمر قومك يأخذوا بأحسنها " ، قال عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما : يحلوا حلالها ، ويحرموا حرامها ، ويتدبروا أمثالها ، ويعملوا بمحكمها ، ويقفوا عند متشابهها وكان موسى عليه السلام أشد عبادة من قومه ، فأمر بما لم يؤمروا به . قال قطرب : بأحسنها أي بحسنها ، وكلها حسن . وقيل : أحسنها الفرائض والنوافل ، وهي ما يستحق عليها الثواب ، وما دونها المباح ، لأنه لا يستحق عليه الثواب . وقيل : بأحسنها بأحسن الأمرين في كل شيء كالعفو أحسن من القصاص ، والصبر أحسن من الانتصار . " سأريكم دار الفاسقين " ، قال مجاهد : مصيرها في الآخرة . قال الحسن وعطاء : يعني جهنم ، يحذركم أن تكونوا مثلهم . وقال قتادة وغيره : سأدخلكم الشام فأريكم منازل القرون الماضية الذين خالفوا أمر الله لتعتبروا بها . قال عطية العوفي : أراد دار فرعون وقومه وهي مصر ، يدل عليه قراءة قسامة بن زهير : ( سأورثكم دار الفاسقين ) ، وقال السدي : دار الفاسقين مصارع الكفار . وقال الكلبي : ما مروا عليه إذا سافروا من منازل عاد وثمود والقرون الذين أهلكوا .
146 - قوله تعالى : " سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق " قال ابن عباس : يريد الذين يتجبرون على عبادي ويحاربون أوليائي حتى لا يؤمنوا بي ، يعني : سأصرفهم عن قبول آياتي والتصديق بها عوقبوا بحرمان الهداية لعنادهم للحق ، كقوله " فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم " . قال سفيان بن عيينة : سأمنعهم فهم القرآن . قال ابن جريج : يعني عن خلق السموات والأرض وما فيها أي أصرفهم عن أن يتفكروا فيها ويعتبروا بها . وقيل : حكم الآية لأهل مصر خاصة ، وأراد بالآيات الآيات التسع التي أعطاها الله تعالى موسى عليه السلام . والأكثرون على أن الآية عامة " وإن يروا " ( يعني : هؤلاء المتكبرين ) " كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد " قرأ حمزة و الكسائي ( الرشد) بفتح الراء والشين ، والآخرون بضم الراء وسكون الشين وهما لغتان كالسقم والسقم والبخل والبخل والحزن والحزن . وكان أبو عمرو يفرق بينهما ، فيقول : الرشد - بالضم _ الصلاح في الأمر ، وبالفتح الاستقامة في الدين . معنى الآية : أن يروا طريق الهدى والسداد " لا يتخذوه " لأنفسهم " سبيلاً " ، " وإن يروا سبيل الغي " أي طريق الضلال " يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين " عن التفكير فيها والاتعاظ بها غافلين ساهين .
147 - " والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة " ، أي : ولقاء الدار الآخرة التي هي موعد الثواب والعقاب ، " حبطت أعمالهم " ، بطلت وصارت كأن لم تكن ، " هل يجزون " في العقبى " إلا ما كانوا " ، أي إلا جزاء ما كانوا " يعملون " ، في الدنيا .
148 - قوله عز وجل : " واتخذ قوم موسى من بعده " ، أي : بعد انطلاقه إلى الجبل " من حليهم " التي استعاروها من قوم فرعون . قرأ حمزة و الكسائي " من حليهم " بكسر الحاء ( وقرأ يعقوب بفتح الحاء وسكون اللام ) ، واتخذ السامري منها " عجلاً " وألقى في فمه من تراب أثرفرس جبريل عليه السلام فتحول عجلاً ، " جسداً " ، حياً لحماً ودماً " له خوار " . وهو صوت البقر ، وهذا قول ابن عباس والحسن وقتادة وجماعة أهل التفسير . وقيل : كان جسداً مجسداً من ذهب لا روح فيه ،كان يسمع منه صوت . وقيل : كان يسمع صوت حفيف الريح يدخل في جوفه ويخرج ، والأول أصح . وقيل : إنه ما خار إلا مرة واحدة . وقيل : كان يخور كثيراً كلما خار سجدوا له إذا سكت رفعوا رؤوسهم . وقال وهب :كان يسمع منه الخوار وهو لا يتحرك . وقال السدي : كان يخور ويمشي " ألم يروا " يعني : الذين عبدوا العجل " أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلاً " . قال الله عز وجل : " اتخذوه وكانوا ظالمين " أي : اتخذوه إلهاً وكانوا كافرين .
149 - " ولما سقط في أيديهم " ، أي ندموا على عبادة العجل ، تقول العرب لكل نادم على أمر : قد سقط في يديه ، " ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا " ، يتب علينا ربنا ، " ويغفر لنا " يتجاوز عنا ، " لنكونن من الخاسرين " قرأ حمزة و الكسائي : ( ترحمنا وتغفر لنا ) بالتاء فيهما ( ربنا ) بنصب الباء . وكان هذا الندم والاستغفار منهم بعد رجوع موسى إليهم .
150 - قوله عز وجل " ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفاً " قال أبو الدرداء الأسف : شديد الغضب . وقال ابن عباس و السدي : أسفا أي حزيناً . والأسف أشد من الحزن ، " قال بئسما خلفتموني من بعدي " أي: بئس ما عملتم بعد ذهابي ، يقال : خلفه بخير أو بشر إذا أولاه في أهله بعد شخوصه عنهم خيراً أو شراً ، " أعجلتم " أسبقتم " أمر ربكم " ، قال الحسن : وعد ربكم الذي وعدكم من الأربعين ليله . وقال الكلبي : أعجلتم بعبادة العجل قبل أن يأتيكم أمر ربكم . " وألقى الألواح "، التي فيها التوراة وكان حاملاً لها ، فألقاها على الأرض من شدة الغضب . قالت الرواة : كانت التوراة سبعة أسباع ، فلما ألقى الألواح تكسرت فرفعت ستة أسباعها وبقي سبع , فرفع ما كان من أخبار الغيب ، وبقي ما فيه الموعظة والأحكام والحلال والحرام ، " وأخذ برأس أخيه " ، بذوائبه ولحيته " يجره إليه " ، وكان هارون أكبر من موسى بثلاث سنين وأحب إلى بني إسرائيل من موسى ، لأنه كان لين الغضب . " قال " هارون عند ذلك ، " ابن أم " قرأ أهل الكوفة والشام هاهنا وفي طه بكسر الميم ، يريد يا ابن أمي ، فحذف ياء الإضافة وأبقيت الكسرة لتدل على الإضافة كقوله : ( يا عباد ) وقرأ أهل الحجاز والبصرة وحفص : بفتح الميم على معنى يا ابن أماه . وقيل : جعله اسماً واحداً وبناه على الفتح ، كقولهم : حضرموت ، وخمسة عشر ، ونحوهما ، وإنما قال ابن أم وكان هارون أخاه لأبيه وأمه ليرققه ويستعطفه . وقيل : كان أخاه لأمه دون أبيه ، " إن القوم استضعفوني " ، يعني عبدة العجل ، " وكادوا يقتلونني " ، هموا وقاربوا أن يقتلونني ، " فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني " في مؤاخذتك علي " مع القوم الظالمين " ، يعني عبدة العجل .
151 - " قال " موسى لما تبين له عذر أخيه ، " رب اغفر لي " ، ما صنعت إلى أخي ، " ولأخي " ، إن كان منه تقصير في الإنكار على عبدة العجل ، " وأدخلنا" جميعاً " في رحمتك وأنت أرحم الراحمين " .
152 - قوله تعالى : " إن الذين اتخذوا العجل " أي : اتخذوه إلهاً " سينالهم غضب من ربهم " في الآخرة " وذلة في الحياة الدنيا " قال أبو العالية : هو ما أمروا به من قتل أنفسهم . وقال عطية العوفي : " إن الذين اتخذوا العجل " أراد اليهود الذين كانوا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم عيرهم بصنيع آبائهم فنسبه إليهم " سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا " أراد ما أساب بني قريظة والنضير من القتل والجلاء . قال ابن عباس رضي الله عنهما : هو الجزية ، " وكذلك نجزي المفترين " ، الكاذبين ، قال أبو قلابة هو -والله- جزاء كل مفتر إلى يوم القيامة أن يذله الله . قال سفيان بن عيينه : هذا في كل مبتدع إلى يوم القيامة .
153 - قوله عز وجل : " والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وآمنوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم " .
154 - قوله تبارك وتعالى : " ولما سكت " أي : سكن ، " عن موسى الغضب أخذ الألواح " التي كان ألقاها وقد ذهب ستة أسباعها " وفي نسختها " اختلفوا فيه ، قيل أراد بها الألواح ، لأنها نسخت من اللوح المحفوظ . وقيل : إن موسى لم ألقى الألواح تكسرت فنسخ منها نسخة أخرى فهو المراد من قوله : " وفي نسختها " . وقيل : أراد : وفيما نسخ منها . وقال عطاء : فيما بقيى منها . وقال ابن عباس و عمرو بن دينار : لما ألقى موسى الألواح فتكسرت صام أربعين يوماً فردت عليه في لوحين فكان فيه ، " هدىً ورحمة " ، أي : هدى من الضلالة ورحمة من العذاب ، " للذين هم لربهم يرهبون " ، أي : للخائفين من ربهم ، واللام في " لربهم " زيادة توكيد ، كقوله :" ردف لكم " ( النمل - 72 ) ، وقال الكسائي : لما تقدمت قبل الفعل حسنت ، كقوله : " للرؤيا تعبرون " (يوسف - 43 ) ، وقال قطرب : أراد من ربهم يرهبون . وقيل : أراد راهبون . وقيل : أراد راهبون لربهم .
155 - قوله تعالى " واختار موسى قومه " ، أي من قومه ، فانتصب لنزع حرف الصفة ، " سبعين رجلاً لميقاتنا " فيه دليل على أن كلهم لم يعبدوا العجل . قال السدي : أمر الله تعالى موسى أن يأتيه في ناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادة العجل ، فاختار موسى من قومه سبعين رجلاً ، " فلما " أتوا ذلك المكان قالوا : لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة فماتوا . وقال ابن إسحاق : اختارهم ليتوبوا إليه مما صنعوا ويسألوا التوبة على من تركوا وراءهم من قومهم ، فهذا يدل على أن كلهم عبدوا العجل . وقال قتادة ، و ابن جريج ، ومحمد بن كعب : " أخذتهم الرجفة " لأنهم لم يزايلوا قومهم حين عبدوا العجل ، ولم يأمروهم بالمعروف ولم ينهوهم عن المنكر . وقال ابن عباس : إن السبعين الذين قالوا : " لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة " ( البقرة - 55 ) ، كانوا قبل السبعين الذين أخذتهم الرجفة ، وإنما أمر الله سبحانه وتعالى موسى عليه السلام أن يختار من قومه سبعين رجلاً ، فاختارهم وبرز بهم ليدعوا ربهم ، فكان فيما دعوا أن قالوا : اللهم أعطنا ما لم تعطه أحداً قبلنا ، ولا تعطه أحداً بعدنا ، فكره الله ذلك من دعائهم ، فأخذتهم الرجفة . وقال وهب : لم تكن الرجفة صوتاً ، ولكن القوم لما رأوا تلك الهيبة أخذتهم الرعدة وقلقوا ورجفوا ، حتى كادت أن تبين مفاصلهم ، فلما موسى ذلك رحمهم وخاف عليهم الموت ، فاشتد عليه فقدهم ، وكانوا له وزراء على الخير ، سامعين مطيعين ، فعند ذلك دعا وبكى وناشد ربه ، فكشف الله عنهم تلك الرجفة ، فاطمأنوا وسمعوا كلام ربهم ، فذلك قوله عز وجل : " قال " ، يعني موسى "ً رب لو شئت أهلكتهم من قبل " ، يعني عن عبادة العجل ، " وإياي " بقتل القبطي . " أتهلكنا بما فعل السفهاء منا " ، يعني عبدة العجل ، وظن موسى أنهم عوقبوا باتخاذهم العجل ، وقال هذا على طريق السؤال ، يسأل : أتهلكنا بفعل السفهاء ؟ وقال المبرد : قوله ( أتهلكنا بما فعل السفهاء منا ) استفهام استعطاف ، أي : لا تهلكنا ، وقد علم موسى عليه السلام أن الله تعالى أعدل من أن يأخذ بجريرة الجاني غيره . قوله تعالى " إن هي إلا فتنتك " ، أي : التي وقع فيها السفهاء ، لم تكن إلا اختبارك وابتلاءك ، أضللت بها قوماً فافتنوا ، وهديت قوماً فعصمتهم حتى ثبتوا على دينك ، فذلك معنى قوله : " تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا " ، ناصرنا وحافظنا ، " فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين " .
156 - " واكتب لنا " أوجب لنا " في هذه الدنيا حسنة " ، النعمة والعافية " وفي الآخرة " أي : وفي الآخرة " حسنة " المغفرة والجنة ، " إنا هدنا إليك " ، أي : تبنا إليك ، " قال " الله تعالى : " عذابي أصيب به من أشاء " ، من خلقي ، " ورحمتي وسعت كل شيء " ، عمت كل شيء ، قال الحسن وقتادة : وسعت رحمته في الدنيا البر والفاجر ، وهي يوم القيامة للمتقين خاصة . وقال عطية العوفي : وسعت كل شيء ولكن لا تجب إلا للذين يتقون ، وذلك أن الكافر يرزق ، ويدفع عنه بالمؤمنين لسعة رحمة الله للمؤمنين ، فيعيش فيها ، فإذا صار إلى الآخرة وجبت للمؤمنين خاصة ، كالمستضيء بنار غيره إذا ذهب صاحب السراج بسراجه . وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - وقتاده و ابن جريج : لما نزلت : ( ورحمتي وسعت كل شيء ) قال إبليس : أنا من ذلك الشيء ، فقال الله سبحانه وتعالى : " فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون " فتمناها اليهود والنصارى ، وقالوا: نحن نتقي ونؤمن ، ونؤتي الزكاة ، فجعلها الله لهذه الأمة فقال :
157 - " الذين يتبعون الرسول النبي الأمي " الآية . قال نوف البكالي الحميري : لما اختار موسى قومه سبعين رجلاً ، قال الله تعالى لموسى : اجعل لكم الأرض مسجداً وطهوراً ، تصلون حيث أدركتكم الصلاة إلا عند مرحاض أو حمام أو قبر ، وأجعل السكينة في قلوبكم ، وأجعلكم تقرؤون التوراة عن ظهر قلوبكم ، يقرؤها الرجل والمرأة ، والحر والعبد ، والصغير والكبير ، فقال ذلك موسى لقومه ، فقالوا : لا نريد أن نصلي إلا في الكنائس ، ولا نستطيع حمل السكينة في قلوبنا ، ولا نستطيع أن نقرأ التوراة عن ظهور قلوبنا ، ولا نريد أن نقرأها إلا نظراً ، فقال الله تعالى : "فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة " إلى قوله : " أولئك هم المفلحون " ، فجعلها الله لهذه الأمة . فقال موسى عليه السلام : يا رب اجعلني نبيهم ، فقال : نبيهم منهم . قال : يا رب اجعلني منهم فقال : إنك لن تدركهم ، فقال موسى عليه السلام : يا رب إني أتيتك بوفد بني إسرائيل فجعلت وفادتنا لغيرنا ، فأنزل الله تعالى : " ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون " ( الأعراف - 159 ) ، فرضي موسى . قوله تعالى : " الذين يتبعون الرسول النبي الأمي " ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم . قال ابن عباس رضي الله عنهما هو نبيكم كان أمياً لا يكتب ولا يقرأ ولا يحسب . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب " . وهو منسوب إلى الأم ، أي هو على ما ولدته أمه . وقيل هو منسوب إلى أمته ، أصله أمتي فسقطت التاء في النسبة كما سقطت في المكي والمدني وقيل : هو منسوب إلى أم القرى وهي مكة . " الذي يجدونه " أي : يجدون صفته ونعته ونبوته ، " مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل " . أخبرنا عبدالواحد المليحي أنا أحمد بن عبدالله النعيمي أنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا محمد بن سنان حدثنا فليح حدثنا هلال عن عطاء بن يسار قال لقيت عبدالله بن عمرو بن العاص ، فقلت : أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة : قال : أجل ، والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن : يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً ، وحرزاً للأميين ، أنت عبدي ورسولي ، سميتك المتوكل ، ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق ، ولا يدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر ، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء ، يقولوا : لا إله إلا الله ، ويفتح به أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً . تابعه عبدالعزيز بن سلمة ، عن هلال عن عطاء عن ابن سلام أخبرنا الإمام الحسين بن محمد القاضي أنا أبو العباس عبدالله بن محمد بن هارون الطيسفوني أنا أبو الحسن محمد بن أحمد الترابي أنا أبو بكر أحمد بن محمد بن بسطام أنا أبو الحسن بن سيار القرشي حدثنا عبدالله بن عثمان بن أبي حمزة عن الأعمش عن أبي صالح عن عبدالله بن ضمرة بن كعب - رضي الله عنه - قال : إني أجد في التوراة مكتوباً محمد رسول الله لا فظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق ، ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح ، أمته الحمادون يحمدون الله في كل منزلة ويكبرونه على كل نجد ،يأتزرون على أنصافهم ويوضؤون أطرافهم ، صفهم في الصلاة وصفهم في القتال سواء ، مناديهم ينادي في جو السماء ، لهم في جوف الليل دوي النحل ، مولده بمكة ومهاجره بكابة وملكه بالشام . قوله تعالى : " يأمرهم بالمعروف " أي : بالإيمان ، " وينهاهم عن المنكر " أي : عن الشرك ، وقيل : المعروف : الشريعة والسنة ، والمنكر: مالا يعرف في شريعة ولا سنة . وقال عطاء : يأمرهم بالمعروف : بخلع الأنداد ، ومكارم الأخلاق ، وصلة الأرحام ، وينهاهم عن المنكر : عن عبادة الأوثان وقطع الأرحام . " ويحل لهم الطيبات " يعني : ما كانوا يحرمونه في الجاهلية من البحيرة و السائبة و الوصيلة و الحام " ويحرم عليهم الخبائث " يعني : الميتة ، والدم ، ولحم الخنزير ، والزنا وغيرها من المحرمات . " ويضع عنهم إصرهم " ، قرأ ابن عامر ( آصارهم ) بالجمع . والإصر : كل ما يثقل على الإنسان من قول أو فعل . قال ابن عباس و الحسن و الضحاك و السدي و مجاهد : يعني العهد الثقيل كان أخذ على بني إسرائيل بالعمل بما في التوراة . وقال قتادة : يعني التشديد الذي كان عليهم في الدين ، " والأغلال " ، يعني : الأثقال " التي كانت عليهم " ، وذلك مثل : قتل الأنفس في التوبة ، وقطع الأعضاء الخاطئة ، وقرض النجاسة عن الثوب بالمقراض ، وتعيين القصاص في القتل وتحريم أخذ الدية ، وترك العمل في السبت ، وأن صلاتهم لا تجوز إلا في الكنائس وغير ذلكم الشدائد . وشبهت بالأغلال التي تجمع اليد إلى العنق . " فالذين آمنوا به " ، أي : بمحمد صلى الله عليه وسلم . " وعزروه " . وقروه ، " ونصروه " على الأعداء " واتبعوا النور الذي أنزل معه " . يعني : القرآن " أولئك هم المفلحون " .
158 - قوله تعالى : " قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً الذي له ملك السموات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته " ، أي : آياته وهو القرآن . وقال مجاهد و السدي : يعني عيسى بن مريم ، ويقرأ ( كلمته ) " واتبعوه لعلكم تهتدون " .
159 - قوله عز وجل : " ومن قوم موسى " يعني بني إسرائيل " أمة " أي : جماعة " يهدون بالحق " ، أي : يرشدون ويدعون إلى الحق . وقيل : معناه يهتدون ويستقيمون عليه ، " وبه يعدلون " ، أي : بالحق يحكمون وبالعدل يقومون . قال الكلبي و الضحاك و الربيع : هم قوم خلف الصين ، بأقصى الشرق على نهر{ يجري الرمل } يسمى نهر أوداف ، ليس لأحد منهم مال دون صاحبه ، يمطرون بالليل ويصحون بالنهار ، ويزرعون حتى لا يصل إليهم منا أحد ، وهم على الحق . وذكر : أن جبرائيل عليه السلام ذهب بالنبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسرى به ، فكلمهم { فقال لهم جبريل : هل تعرفون من تكلمون ؟ قالوا : لا ، فقال لهم : هذا محمد النبي الأمي فآمنوا به } ، فقالوا : يا رسول الله إن موسى عليه السلام أوصانا أن من أدرك منكم أحمد فليقرأ عليه منا السلام ، فرد النبي صلى الله عليه وسلم على موسى وعليهم ، ثم أقرأهم عشر سور من القرآن أنزلت بمكة ، وأمرهم بالصلاة والزكاة ، وأمرهم أن يقيموا مكانهم ، وكانوا يسبتون ، فأمرهم أن يجمعوا ويتركوا السبت . وقيل : هم الذين أسلموا من اليهود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم . والأول أصح .
160 - قوله عز وجل : " وقطعناهم " ، أي : فرقناهم ، يعني بني إسرائيل ، " اثنتي عشرة أسباطاً أمماً " . قال الفراء : إنما قال : ( اثنتي عشرة ) ، والسبط مذكر لأنه قال : (أمماً ) فرجع التأنيث إلى الأمم ، وقال الزجاج : المعنى وقطعناهم اثنتي عشرة أمماً ، وإنما قال : ( أسباطاً أمماً ) . بالجمع وما فوق العشرة لا يفسر بالجمع ، فلا يقال : أتاني اثنا عشر رجالاً ، لأن الأسباط في الحقيقة نعت المفسر المحذوف وهو الفرقة، أي : وقطعناهم اثنتي عشرة فرقة أمما . وقيل : فيه تقديم وتأخير ، تقديره : وقطعناهم أسباطاً أمما اثنتي عشرة ، والأسباط القبائل واحدها سبط . قوله تعالى : " وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه " في التيه ، " أن اضرب بعصاك الحجر فانبجست " انفجرت . وقال أبو عمرو بن العلاء : عرقت وهو الانبجاس ، ثم انفجرت ، " منه اثنتا عشرة عيناً " لكل سبط عين " قد علم كل أناس " كل سبط " مشربهم " ، وكل سبط بنوأب واحد . قوله تعالى : " وظللنا عليهم الغمام " في التيه تقيهم حر الشمس، " وأنزلنا عليهم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون " .
161 - " وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية وكلوا منها حيث شئتم وقولوا حطةً وادخلوا الباب سجداً نغفر لكم " ، قرأ أهل المدينة وابن عامر ويعقوب : ( تغفر ) بالتاء وضمها وفتح الفاء . وقرأ الآخرون بالنون وفتحها وكسر الفاء ، " خطيئاتكم " ، قرأ ابن عامر ( خطيئتكم ) على التوحيد ورفع التاء ، { وقرأ أبو عمرو : ( خطاياكم ) ، وقرأ أهل المدينة ويعقوب : ( خطيئاتكم ) بالجمع ورفع التاء } . وقرأ الآخرون بالجمع وكسر التاء " سنزيد المحسنين " .
162 - " فبدل الذين ظلموا منهم قولاً غير الذي قيل لهم فأرسلنا عليهم رجزاً " ، عذاباً " من السماء بما كانوا يظلمون " .
163- قوله تعالى : " واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر " قيل : هي ( مدين ) ، { أي : سل يا محمد هؤلاء اليهود الذي هم جيرانك سؤال توبيخ وتقريع عن القرية التي كانت حاضرة البحر } أي : بقربه . قال ابن عباس : هي قرية يقال لها ( إيله ) بين ( مدين ) و ( الطور ) على شاطئ البحر . وقال الزهري : هي ( طبرية الشام ) . " إذ يعدون في السبت " ، أي : يظلمون فيه ويجاوزون أمر الله تعالى بصيد السمك ، " إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعاً " ، أي : ظاهرة على الماء كثيرة ، جمع شارع . وقال الضحاك : متتابعة . وفي القصة : أنها كانت تأتيهم يوم السبت مثل الكباش السمان البيض . " ويوم لا يسبتون لا تأتيهم " كإتيانهم يوم السبت ، قرأ الحسن : ( لا يسبتون ) بضم الياء أي : لا يدخلون في السبت ، والقراءة المعروفة بنصب الياء ، ومعناه : لا يعظمون السبت ، " كذلك نبلوهم " ، نختبرهم ، " بما كانوا يفسقون " ، فوسوس إليهم الشيطان وقال : إن الله لم ينهكم عن الاصطياد وإنما نهاكم عن الأكل ، فاصطادوا . أو قيل : وسوس إليهم أنكم إنما نهيتم عن الأخذ ، فاتخذوا حياضاً على شاطئ البحر ، تسوقون الحيتان إليها يوم السبت ، ثم تأخذونها يوم الأحد . ففعلوا ذلك زماناً ثم تجرؤوا على السبت ، وقالوا : ما نرى السبت إلا قد أحل لنا ، فأخذوا وأكلوا وباعوا ، فصار أهل القرية أثلاثاً ، وكانوا نحوا من سبعين ألفاً ، ثلث نهوا ، وثلث لم ينهوا وسكتوا وقالوا : لم تعظون قوماً الله مهلكهم ؟ وثلث هم أصحاب الخطيئة ، فلما لم ينتهوا قال الناهون : لا نساكنكم في قرية واحدة فقسموا القرية بجدار للمسلمين باب وللمعتدين باب ، ولعنهم داود عليه السلام ، فأصبح الناهون ذات يوم ولم يخرج من المعتدين أحد ، فقالوا : إن لهم شأناً لعل الخمر غلبتهم فعلوا على الجدار ، فإذا هم قردة ، فعرفت القرود أنسابها من الإنس ولم تعرف الإنس أنسابها من القرود ، فجعلت القرود يأتيها نسيبها من الإنس فتشم ثيابه وتبكي ، فيقول : ألم ننهكم فتقول برأسها : نعم ، فما نجا إلا الدين نهوا وهلك سائرهم .
164 - قوله تعالى : " وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوماً الله مهلكهم " ، اختلفوا في الذين قالوا هذا ، قيل : كانوا من الفرقة الهالكه ، وذلك أنهم لم قيل لهم انتهوا عن هذا العمل السئ ، قبل أن ينزل بكم العذاب وأنا نعلم أن الله منزل بكم بأسه إن لم تنتهوا وأجابوا وقالوا : " لم تعظون قوماً الله مهلكهم " ، " أو " علمتم أنه " معذبهم عذاباً شديداً قالوا" أي : قال الناهون " معذرةً " أي : موعظتنا معذرة " إلى ربكم " ، قرأ حفص : ( معذرة ) بالنصب أي نفعل ذلك معذرة إلى ربكم . والأصح إنها من قول الفرقة الساكنة ، قالوا لم تعظون قوماً الله مهلكهم ، قالوا معذرة إلى ربكم ، ومعناه أن الأمر بالمعروف واجب علينا فعلينا موعظة هؤلاء عذراً إلى الله، " ولعلهم يتقون " ، أي : يتقوا الله ويتركوا المعصية ، ولو كان الخطاب مع المعتدين لكان يقول لعلكم تتقون .
165 - " فلما نسوا ما ذكروا به " أي : تركوا ما وعظوا به ، " أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا " ، يعني الفرقة العاصية ، " بعذاب بئيس " ، أي :شديد وجيع ، من البأس وهو الشدة. واختلف القراء فيه قرأ أهل المدينة وابن عامر ( بئيس ) بكسر الباء على وزن فعل ، إلا أن ابن عامر يهمزه ،و أبو جعفر و نافع لا يهمزان ، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر بفتح بفتح الباء وسكون الياء وفتح الهمزة على وزن فيعل مثل صيقل ، وقرأ الآخرون على وزن فعيل مثل بعير وصغير . " بما كانوا يفسقون " ، قال ابن عباس رضي الله عنهما: أسمع الله يقول : " أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس " ، فلا أدري ما فعل بالفرقة الساكتة ؟ قال عكرمة : قلت له : جعلني الله فداك ألا تراهم قد أنكروا وكرهوا ما هم عليه ، وقالوا : لم تعظون قوماً الله مهلكهم ؟ وإن لم يقل الله أنجيتنا فلم يقل : أهلكتهم ، فأعجبه قولي ، فرضي وأمر لي ببردين فكسانيهما . وقال يمان بن رباب : نجت الطائفتان الذين قالوا لم تعظون قوماً والذين قالوا معذرةً إلى ربكم ، وأهلك الله الذين أخذوا الحيتان . وهذا قول الحسن . وقال ابن زيد : نجت الناهية ، وهلكت الفرقتان ، وهذه أشد أية في ترك النهي عن المنكر .
166 - قوله تعالى : " فلما عتوا عن ما نهوا عنه " ، قال ابن عباس : أبوا أن يرجعوا عن المعصية " قلنا لهم كونوا قردةً خاسئين " ، مبعدين فمكثوا ثلاثة أيام ينظر إليهم الناس ثم هلكوا .
167 - " إذ تأذن ربك " ، أي : آذن وأعلم ربك ،يقال : تأذن وآذن ، مثل توعد وأوعد . وقال ابن عباس : تأذن ربك قال ربك . وقال مجاهد : أمر ربك . وقال عطاء : حكم ربك . " ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة " ، أي : على اليهود ، " من يسومهم سوء العذاب " ، بعث الله عليهم محمدا صلى الله عليه وسلم وأمته يقاتلونهم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية ، " إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم " .
168 - " وقطعناهم " ، وفرقناهم " في الأرض أمما " ، فرقا فرقهم الله فتشتت أمرهم لوم تجتمع لهم كلمة ، " منهم الصالحون " ، قال ابن عباس و مجاهد : يريد الذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وآمنوا به " ومنهم دون ذلك " ، يعني الذين بقوا على الكفر . وقال الكلبي : منهم الصالحون هم الذين وراء نهر أوداف من وراء الصين ، ومنهم دون ذلك ، يعني : من هاهنا من اليهود ، " وبلوناهم بالحسنات " ، بالخصب والعافية ، " والسيئات " ، بالجدب والشدة ، " لعلهم يرجعون " ، لكي يرجعوا إلى طاعة ربهم ويتوبوا .
169 - قوله عز وجل : " فخلف من بعدهم " ، أي : جاء من بعد هؤلاء الذين وصفناهم " خلف " ، والخلف : القرن الذي يجيء بعد قرن . قال أبو حاتم : الخلف بسكون اللام الأولاد ، الواحد والجمع فيه سواء ،والخلف بفتح اللام : البدل سواء كان ولداً أو غريباً . وقال ابن الأعرابي : الخلف بالفتح : الصالح ، وبالجزم : الطالح . وقال النضر بن شميل : الخلف بتحريك اللام وإسكانها في القرن السوء واحد ، وأما في القرن الصالح فبتحريك اللام لا غير . وقال محمد بن جرير : أكثر ما جاء في المدح بفتح اللام ، وفي الذم بتسكينها وقد يحرك في الذم ويسكن في المدح . " ورثوا الكتاب " ، أي : انتقل إليهم الكتاب من آبائهم وهو التوراة ، " يأخذون عرض هذا الأدنى " ، فالعرض متاع الدنيا ، والعرض ، بسكون الراء ، ما كان من الأموال سوى الدراهم والدنانير . وأراد الأدنى العالم ، وهو هذه الدار الفانية ، فهو تذكير الدنيا ، وهؤلاء اليهود ورثوا التوراة فقرؤوها وضيعوا العمل بما فيها ، وخالفوا حكمها ، يرتشون في حكم الله وتبديل كلماته ، " ويقولون سيغفر لنا " ، ذنوبنا يتمنون على الله الأباطيل . أخبرنا محمد بن عبدالله بن أبي توبة أنبأنا أبو طاهر ، محمد بن أحمد بن الحارث ، أنبأنا أبو الحسن محمد بن يعقوب الكسائي ، أنبأنا عبدالله بن محمود ، أنبأنا إبراهيم بن عبدالله الخلال ، أنبأنا عبدالله بن المبارك عن أبي بكر بن أبي مريم الغساني عن ضمرة بن حبيب عن شداد بن أوس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله " . " وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه " ، هذا إخبار عن حرصهم على الدنيا وإصرارهم على الذنوب ، يقول إذا أشرف لهم شيء من الدنيا أخذوه حلالاً كان أو حراماً ، ويتمنون على الله المغفرة وإن وجدوا من الغد مثله أخذوه . وقال السدي : كانت بنو إسرائيل لا يستقضون قاضياً إلا ارتشى في الحكم ، فيقال له : ما لك ترتشي ؟ فيقول : سيغفر لي ، فيطعن عليه الآخرون ، فإذا مات أو نزع وجعل مكانه رجل ممن كان يطعن عليه فيرتشي أيضاً . يقول : وإن يأت الآخرين عرض مثله يأخذوه . " ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق " ، أي : أخذ عليهم العهد في التوراة أن لا يقولوا على الله الباطل ، وهي تمني المغفرة مع الإصرار ، وليس في التوراة ميعاد المغفرة مر الإصرار ، " ودرسوا ما فيه " ، قرأوا ما فيه ، فهم ذاكرون لذلك ، ولو عقلوه لعملوا للدار الآخرة ، ودرس الكتاب : قراءته وتدبره مرةً بعد أخرى ، " والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون " .
170- " والذين يمسكون بالكتاب " ، قرأ أبو بكر عن عاصم : ( يمسكون ) بالتخفيف ، وقراءة العامة بالتشديد ، لأنه يقال : مسكت بالشيء ، ولا يقال أمسكت بالشيء ، إنما يقال : أمسكته ، وقرأ أبي بن كعب : ( والذين تمسكوا بالكتاب ) ، على الماضي وهو جيد لقوله تعالى : " وأقاموا الصلاة " إذ قل ما يعطف ماض على مستقبل إلا في المعنى ، { وأراد} الذين يعملون بما في الكتاب، قال مجاهد : هم المؤمنون من أهل الكتاب ، عبدالله بن سلام وأصحابه ، تمسكوا بالكتاب الذي جاء به موسى فلم يحرفوه ولم يكتموه ولم يتخذوه مأكلةً . وقال عطاء : هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم . " وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين " .
171 - قوله تعالى : " وإذ نتقنا الجبل فوقهم " ، أي : فلقنا الجبل ، وقيل : رفعناه " كأنه ظلة " ، قال عطاء : سقيفة . والظلة : كل ما أظلك ، " وظنوا " ، علموا " أنه واقع بهم خذوا " ، أي : وقلنا لهم خذوا ، " ما آتيناكم بقوة " ، بجد واجتهاد ، " واذكروا ما فيه " ، واعملوا به ، " لعلكم تتقون " ، وذلك حين أبوا أن يقبلوا أحكام التوراة ، فرفع الله على رؤوسهم جبلاً . قال الحسن : فلما نظروا إلى الجبل خر كل رجل منهم ساجداً على حاجبه الأيسر ينظر بعينه اليمنى إلى الجبل فرقاً من أن يسقط عليه ، ولذلك لا تجد يهودياً إلا ويكون سجوده على حاجبه الأيسر .
172 - قوله تعالى : " وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم " الآية . أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد ،أنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن زيد بن أبي أنيسة ، عن عبدالحميد بن عبدالرحمن ، عن زيد بن الخطاب أخبره عن مسلم بن يسار الجهني أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سئل عن هذه الآية : " وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم " الآية . قال عمر بن الخطاب : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم { يسأل عنها ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم } " إن الله عز وجل خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه ، فاستخرج منه ذريةً ، فقال : خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون . ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذريةً فقال : خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون ، فقال رجل : ففيم العمل يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله عز وجل إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة ، حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة ، فيدخله به الجنة ، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار ، حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله به النار " ، وقال أبو عيسى : هذا حديث حسن . و مسلم بن يسار لم يسمع من عمر ، وقد ذكر بعضهم في هذا الإسناد بين مسلم بن يسار و عمر رجلاً . قال مقاتل وغيره من أهل التفسير : إن الله مسح صفحة ظهر آدم اليمنى فأخرج منه ذريةً بيضاء كهيئة الذر يتحركون ، ثم مسح صفحة ظهره اليسرى فأخرج منه ذريةً سوداء كهيئة الذر ، فقال : يا آدم هؤلاء ذريتك ، ثم قال لهم : ألست بربكم ؟ قالوا : بلى، فقال : للبيض : هؤلاء في الجنة برحمتي ولا أبالي وهم أصحاب اليمين ، وقال للسود : هؤلاء في النار ولا أبالي ، وهم أصحاب الشمال ، ثم أعادهم جميعاً في صلبه ، فأهل القبور محبوسون حتى يخرج أهل الميثاق كلهم من أصلاب الرجال وأرحام النساء . قال الله تعالى فيمن نقض العهد الأول : " وما وجدنا لأكثرهم من عهد " ( الأعراف - 102 ) . وقال بعض أهل التفسير : إن أهل السعادة أقروا طوعاً وقالوا : بلى ، وأهل الشقاوة قالوه تقيةً وكرهاً ، وذلك معنى قوله : " وله أسلم من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً " ( آل عمران - 83 ) . واختلفوا في موضع الميثاق ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : ببطن نعمان - واد إلى جنب عرفة - وروي عنه أيضاً : أنه بدهناء من أرض الهند ، وهو الموضع الذي هبط آدم عليه السلام عليه . وقال الكلبي : بين مكة والطائف . وقال السدي : أخرج الله آدم عليه السلام من الجنة فلم يهبط من السماء ثم مسح ظهره فأخرج ذريته . وروي : أن الله أخرجهم جميعاً وصورهم وجعل لهم عقولاً يعملون بها وألسناً ينطقون بها ثم كلمهم قبلاً - يعني عياناً - وقال ألست بربكم ؟ وقال الزجاج وجائز أن يكون الله تعالى جعل لأمثال الذر فهما تعقل به ، كما قال تعالى : " قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم " ( النمل -18 ) . وروي أن الله تعالى قال لهم جميعاً : اعلموا أنه لا إله غيري وأنا ربكم لا رب لكم غيري فلا تشركوا بي شيئاً ، فإني سأنتقم ممن أشرك بي ولم يؤمن بي ، وإني مرسل إليكم رسلاً يذكرونكم عهدي وميثاقي ، ومنزل عليكم كتباً . فتكلموا جميعاً ، وقالوا : شهدنا أنك ربنا وإلهنا لا ا رب لنا غيرك ، فأخذ بذلك مواثيقهم ، ثم كتب آجالهم وأرزاقهم ومصائبهم ، فنطر إليهم آدم فرأى منهم الغني والفقير وحسن الصورة ودون ذلك ، فقال : رب لولا سويت بينهم ؟ قال : إني أحب أن أشكر ، فلما قررهم بتوحيده وأشهد بعضهم على بعض أعادهم إلى صلبه فلا تقوم الساعة حتى يولد كل من أخذ ميثاقه ، فذلك قوله تعالى : " وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم " أي : من ظهور بني آدم ذريتهم ، قرأ أهل المدينة وأبو عمرو وابن عامر : ( ذرياتهم ) بالجمع وكسر التاء ، وقرأ آخرون ( ذريتهم ) على التوحيد ، ونصب التاء . فإن قيل : ما معنى قوله تعالى " وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم " وإنما أخرجهم من ظهر آدم ؟ قيل : إن الله أخرج ذرية آدم بعضهم من ظهور بعض على نحو ما يتوالد من الآباء في الترتيب ، فاستغنى عن ذكر ظهر آدم لما علم أنهم كلهم بنوه وأخرجوا من ظهره . قوله تعالى : " وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى " ، أي : أشهد بعضهم على بعض : " شهدنا أن تقولوا " ، قرأ أبو عمرو : ( أن يقولوا ) ويقولوا بالياء فيهما ، وقرأ الآخرون بالتاء فيهما . واختلفوا في قوله : ( شهدنا ) قال السدي : هو خبر من الله عن نفسه وملائكته أنهم شهدوا على إقرار بني آدم . وقال بعضهم : هو خبر عن قول بني آدم حين أشهد الله بعضهم على بعض ، فقالوا بلى شهدنا ، وقال الكلبي : ذلك من قول الملائكة ، وفيه حذف تقديره : لما قالت الذرية : بلى قال الله للملائكة : اشهدوا ، قالوا : شهدنا ، قوله : ( أن يقولوا ) يعني : وأشهدهم على أنفسهم أن يقولوا ، أي : لئلا يقولوا أو كراهية أن يقولوا ، ومن قرأ بالتاء فتقدير الكلام : أخاطبكم : ألست بربكم لئلا تقولوا ، " يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين " ، أي : عن هذا الميثاق والإقرار ، فإن قيل : كيف تلزم الحجة على أحد لا يذكر الميثاق ؟ قيل : قد أوضح الله الدلائل على وحدانيته وصدق رسله فيما أخبروا، فمن أنكره كان معانداً ناقضاً للعهد ولزمته الحجة ، وبنسيانهم وعدم حفظهم لا يسقط الاحتجاج بعد إخبار المخبر الصادق صاحب المعجزة .
173 - قوله تعالى : " أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذريةً من بعدهم " يقول : إنما أخذ الميثاق عليكم لئلا تقولوا أيها المشركون : إنما أشرك آباؤنا من قبل ونقضوا العهد وكنا ذرية من بعدهم ، أي كنا أتباعاً لهم فاقتدينا بهم ، فتجعلوا هذا عذراً لأنفسكم وتقولوا : " أفتهلكنا بما فعل المبطلون " أفتعذبنا بجناية آبائنا المبطلين ، فلا يمكنهم أن يحتجوا بمثل هذا الكلام بعد تذكير الله تعالى بأخذ الميثاق على التوحيد .
174 - " وكذلك نفصل الآيات " أي : نبين الآيات ليتدبرها العباد ، " ولعلهم يرجعون " من الكفر إلى التوحيد .
175 - قوله تعالى : " واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها " الآية . اختلفوا فيه ، قال ابن عباس : هو بلعم بن باعوراء . وقال مجاهد : بلعام بن باعر . وقال عطية عن ابن عباس : كان من بني إسرائيل . وروي عن علي بن أبي طلحة رضي الله عنه أنه كان من الكنعانيين من مدينة الجبارين . وقال مقاتل : هو من مدينة بلقا . وكانت قصته - على ما ذكره ابن عباس و ابن إسحاق و السدي وغيرهم - أن موسى لم قصد حرب الجبارين ونزل أرض بني كنعان من أرض الشام أتي قوم بلعم إلى بلعم - وكان عنده اسم الله الأعظم - فقالوا : إن موسى رجل حديد ومعه جند كثير ، وأنه جاء يخرجنا من بلادنا ويقتلنا ويحلها بني إسرائيل ، وأنت رجل مجاب الدعوة ، فاخرج فادع الله أن يردهم عنا ، فقال : ويلكم نبي الله ومعه الملائكة والمؤمنون كيف أدعو عليهم وأنا أعلم من الله ما أعلم ، وإني إن فعلت هذا ذهبت دنياي وآخرتي ، فراجعوه وألحوا عليه فقال : حتى أؤامر ربي ، وكان لا يدعوه حتى ينظر ما يؤمر به في المنام فآمر في الدعاء عليهم ، فقيل له في المنام لا تدع عليهم ، فقيل له في المنام لا تدع عليهم ، فقال لقومه . إني قد آمرت ربي وإني قد نهيت فأهدوا إليه هدية فقبلها ، ثم راجعوه فقال : حتى أؤامر ، فآمر ، فلم يجز إليه شيء ، فقال : قد أمرت فلم يجز إلي شيء ، فقالوا : لو كره ربك أن تدعو عليهم لنهاك كما نهاك في المرة الأولى ، فلم يزالوا يتضرعون إليه حتى فتنوه فافتتن فركب أتاناً له متوجهاً إلى جبل يطلعه على معسكر بني إسرائيل يقال له حسبان ، فلما سار عليها غير كثير ربضت به ، فنزل عنها فضربها حتى إذا أذلقها قامت فركبها ، فلم تسر به كثيراً حتى ربضت ، ففعل بها مثل ذلك فقامت ، فركبها فلم تسر به كثيراً حتى ربضت ، فضربها حتى أذلقها ، أذن الله لها بالكلام فكلمته حجةً عليه ، فقالت : ويحك يا بلعم أين تذهب بي ؟ ألا ترى الملائكة أمامي تردني عن وجهي هذا ؟ أتذهب بي إلى نبي الله والمؤمنين تدعو عليهم ؟ فلم ينزع ، فخلى الله سبيلها فانطلقت حتى إذا أشرفت به على جبل حسبان جعل يدعو عليهم ولا يدعو عليهم بشيء إلا صرف الله به لسانه إلى قومه ، ولا يدعو لقومه بخير إلا صرف الله به لسانه إلى بني إسرائيل . فقال له قومه : يا بلعم أتدري ماذا تصنع إنما تدعو لهم علينا ؟ ! فقال : هذا ما لا أملكه ، هذا شيء قد غلب الله عليه ، فاندلع لسانه فوقع على صدره ، فقال لهم : قد ذهبت الآن مني الدنيا والآخرة فلم يبق إلا المكر والحيلة ، فسأمكر لكم وأحتال ، جملوا النساء وزينوهن وأعطوهن السلع ثم أرسلوهن إلى المعسكر يبعنها فيه ، ومروهن فلا تمنع امرأة نفسها من رجل أرادها ، فإنهم أن زنا رجل واحد منهم كفيتموهم ، ففعلوا فلما دخل النساء المعسكر مرت امرأة من الكنعانيين ، اسمها كستى بنت صور ، برجل من عظماء بني إسرائيل يقال له زمري بن شلوم رأس سبط شمعون بن يعقوب ، فقام إليها فأخذ بيدها حين { أعجبه جمالها } ثم أقبل بها حتى وقف بها على موسى ، فقال : إني أظنك ستقول هذه حرام عليك ؟ قال : أجل هي حرام عليك لا تقربها ، قال : فوالله لا أطيعك في هذا ، ثم دخل بها قبته فوقع عليها فأرسل الله الطاعون على بني إسرائيل في الوقت ، وكان فنحاص بن العيزار بن هارون صاحب أمر موسى ، وكان رجلاً قد أعطي بسطة في الخلق وقوة في البطش ، وكان غائباً حين صنع زمري بن شلوم ما صنع ، فجاء والطاعون يجوس بني إسرائيل ، فأخبر الخبر ، فأخذ حربته وكانت من حديد كلها ، ثم دخل عليهما القبة ، وهما متضاجعان فانتظمهما بحربته ، ثم خرج بهما رافعهما إلى السماء ، والحربة قد أخذها بذراعه واعتمد بمرفقه على خاصرته ، وأسند الحربة إلى لحيته وكان بكر العيزار ، وجعل يقول : اللهم هكذا نفعل بمن يعصيك . ورفع الطاعون ، فحسب من هلك من بني إسرائيل في الطاعون فيما بين أصاب زمري المرأة إلى أن قتله فنحاص ، فوجدوا قد هلك منهم سبعون ألفاً في ساعة من النهار ، فمن هنالك يعطي بنو إسرائيل ولد فنحاص من كل ذبيحة ذبحوها القبة والذراع واللحى ، لاعتماده بالحربة على خاصرته ، وأخذه إياها بذراعه ، وإسناده إياها إلى لحيته ، والبكر من كل أموالهم وأنفسهم ، لأنه كان بكر العيزار وفي بلعم أنزل الله تعالى " واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا " الآية . وقال مقاتل : إن ملك البلقاء قال لبلعام : ادع الله على موسى ، فقال : إنه من أهل ديني لا أدعو عليه ، فنحت خشبة ليصلبه فلما رأى ذلك خرج على أتان له ليدعو عليه ، فلما عاين عسكرهم قامت به الأتان ووقفت فضربها ، فقالت : لم تضربني ؟ إني مأمورة وهذه نار أمامي قد منعتني أن أمشي فرجع وأخبر الملك فقال : لتدعون عليه أو لأصلبنك ، فدعا على موسى بالاسم الأعظم : أن لا يدخل المدينة ، فاستجيب له ووقع موسى وبنو إسرائيل في التيه بدعائه ، فقال موسى : يا رب بأي ذنب وقعنا في التيه ؟ فقال : بدعاء بلعام . قالم : فكما سمعت دعاءه على فاسمع دعائي عليه ، { فدعا موسى عليه السلام } أن ينزع عنه الاسم الأعظم والإيمان ، فنزع الله عنه المعرفة وسلخه منها فخرجت من صدره كحمامة بيضاء ، فذلك قوله " فانسلخ منها " . وقال عبدالله بن عمرو بن العاص ، و سعيد بن المسيب ، و زيد بن أسلم نزلت هذه الآية في أمية بن أبي الصلت الثقفي ، وكانت قصته : أنه كان قد قرأ الكتب وعلم أن الله مرسل رسولاً فرجا أن يكون هو ذلك الرسول ، فلما أرسل محمد صلى الله عليه وسلم حسده وكفر به ، وكان صاحب حكمة وموعظة حسنة ، وكان قصد بعض الملوك فلما رجع مر على قتلى بدر ، فسأل عنهم فقيل : قتلهم محمد ، فقال : لو كان نبياً ما قتل أقرباءه . فلما مات أمية أتت أخته فارعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسألها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وفاة أخيها فقالت : بينما هو راقد أتاه آتيان فكشفا سقف البيت ، فنزلا فقعد أحدهما عند رجليه والآخر عند رأسه ، فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه : أوعى ؟ قال : وعى ،ل قال : أزكى؟ قال : أبى ، قالت : فسألته عن ذلك فقال : خير أريد بي ، فصرف عني فغشي عليه ، فما أفاق قال : كل عيش وإن تطاول دهراً صائر مرة إلى أن يزولا ليتني كنت قبل ما قد بدا لي في قلال الجبار أرعى الوعولا إن يوم الحساب يوم عظيم شاب فيه الصغير يوماً ثقيلاً ثم قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنشديني من شعر أخيك ، فأنشدته بعض قصائده ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : آمن شعره وكفر قلبه " فأنزل الله عز وجل " واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها " الآية . وفي رواية عن ابن عباس : أنها نزلت في البسوس ، رجل من بني إسرائيل وكان قد أعطي له ثلاث دعوات مستجابات ، وكانت له امرأة منها ولد ، فقالت : اجعل لي منها دعوة ، فقال لك منها واحدة فما تريدين ؟ قالت : ادع الله أن يجعلني أجمل امرأة في بني إسرائيل ، فدعا لها فجعلت أجمل النساء في بني إسرائيل ، فلما علمت أنه ليس فيهم مثلها رغبت عنه ، فغضب الزوج ودعا عليها فصارت كلبةً نباحة ، فذهبت فيها دعوتان ، فجاء بنوها وقالوا : ليس لنا على هذا قرار ، قد صارت أمنا كلبة نباحة ، والناس يعيروننا بها ، ادع الله أن يردها إلى الحال التي كانت عليها ،فدعا الله فعادت كما كانت ، فذهبت فيها الدعوات كلها . والقولان الأولان أظهر . وقال الحسن وابن كيسان : نزلت في منافقي أهل الكتاب الذين كانوا يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم . وقال قتادة : هذا مثل ضربه الله عز وجل لمن عرض عليه الهدى فأبى أن يقبله ، فذلك قوله " واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا " . قال ابن عباس و السدي : اسم الله الأعظم . قال ابن زيد : كان لا يسأل شيئاً إلا أعطاه . وقال ابن عباس في رواية أخرى : أوتي كتاباً من كتب الله فانسلخ ، أي : خرج منها كما تنسلخ ، أي : خرج منها كما تنسلخ الحية من جلدها . " فأتبعه الشيطان " ، أي : لحقه وأدركه ، " فكان من الغاوين " .
176 - " ولو شئنا لرفعناه بها " ، أي : رفعنا درجته ومنزلته بتلك الآيات . وقال ابن عباس رضي الله عنهما : لرفعناه بعلمه بها . وقال مجاهد و عطاء : لرفعنا عنه الكفر وعصمناه بالآيات. " ولكنه أخلد إلى الأرض " ، أي : سكن إلى الدنيا ومال إليها . قال الزجاج : خلد وأخلد واحد. وأصله من الخلود وهو الدوام والمقام ، يقال : أخلد فلان بالمكان إذا أقام به ، والأرض هاهنا عبارة عن الدنيا ، لأن ما فيها من القفار والرباع كلها أرض ، وسائر متاعها مستخرج من الأرض . " واتبع هواه " ، انقاد لما دعاه إليه الهوى . قال ابن زيد : كان هواه مع القوم . قال عطاء : أراد الدنيا وأطاع شيطانه . وهذه أشد آية على العلماء ، وذلك أن الله أخبر أنه آتاه { آية } من اسمه الأعظم والدعوات المستجابة والعلم والحكمة، فاستوجب بالسكون إلى الدنيا واتباع الهوى تغيير النعمة عليه والانسلاخ عنها ، ومن الذي يسلم من هاتين الخلتين إلا من عصمه الله ؟ أخبرنا أبو بكر محمد بن عبدالله بن أبي توبة أنا محمد بن أحمد بن الحارث ، أنا محمد بن يعقوب الكسائي ، أنا عبد الله بن محمود ،أنا إبراهيم بن عبدالله الخلال أنا عبدالله بن المبارك عن زكريا بن أبي زائدة ،عن محمد بن عبدالرحمن بن سعد بن زرارة عن كعب بن مالك الأنصاري عن أبيه ،قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه " . قوله تعالى : " فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث " ، يقال : لهث الكلب يلهث لهثاً : إذا أدلع لسانه . قال مجاهد : هو مثل الذي يقرأ الكتاب ولا يعمل به . والمعنى : إن هذا الكافر إن زجرته لم ينزجر ،وإن تركته لم يهتد ، فالحالتان عنده سواء ، كحالتي الكلب : إن طرد وحمل عليه بالطرد كان لاهثاً ، وإن ترك ورض كان لاهثاً . قال القتيبي : كل شيء يلهث إنما يلهث من إعياء أو عطش إلا الكلب ، فإنه يلهث في حال الكلال وفي حال الراحة وفي حال العطش ، فضربه الله مثلاً لمن كذب بآياته فقال : إن وعظته فهو ضال وإن تركته فهو ضال كالكلب إن طردته لهث ، وإن تركته على حاله لهث ، نظيره قوله تعالى : " وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون " ( الأعراف - 193 ) ، ثم عم بهذا التمثيل جميع من يكذب بآيات الله فقال " ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون " ، وقيل : هذا مثل لكفار مكة وذلك أنهم كانوا يتمنون هادياً يهديهم ويدعوهم إلى طاعة الله ، فلما جاءهم نبي لا يشكون في صدقه كذبوه فلم يهتدوا تركوا أو دعوا .
177 - " ساء مثلاً القوم الذين كذبوا بآياتنا " ، أي : بئس مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا ، وتقديره : ساء مثلاً مثل القوم ، فحذف مثل وأقيم القوم مقامه فرفع ، " وأنفسهم كانوا يظلمون " .
178 - " من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون " .
179 - " ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس " أخبر الله تعالى أنه خلق كثيراً من الجن والإنس للنار ، وهم الذين حقت عليهم الكلمة الأزلية بالشقاوة , ومن خلقه الله لجهنم فلا حيلة له في الخلاص منها . أخبرنا أبو بكر يعقوب بن أحمد بن محمد بن علي الصيرفي ، أنا أبو محمد الحسن بن أحمد المخلدي ، أنا أحمد بن محمد بن أبي حمزة البلخي ، حدثنا موسى بن محمد بن الحكم الشطوي ، حدثنا حفص بن غياث ، عن طلحة بن يحيى ، عن عائشة بنت طلحة ، عن عائشة أم المؤمنين قالت : "أدرك النبي صلى الله عليه وسلم جنازة صبي من صبيان الأنصار ، فقال عائشة :طوبى له عصفور من عصافير الجنة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وما يدريك ؟ إن الله خلق الجنة و خلق لها أهلاً وهم في أصلاب آبائهم ، وخلق النار وخلق لها أهلاً وهم في أصلاب آبائهم " . وقيل : اللام في قوله" لجهنم " لام العاقبة ، أي : ذرأناهم ، وعاقبة أمرهم جهنم ، كقوله تعالى " فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً و حزناً " ( القصص - 8 ) ، ثم وصفهم فقال : " لهم قلوب لا يفقهون " ، أي لا يعلمون بها الخير والهدى . " ولهم أعين لا يبصرون بها " ، طريق الحق وسبيل الرشاد ، " ولهم آذان لا يسمعون بها " مواعظ القرآن فيتفكرون فيها ويعتبرون بها ، ثم ضرب لهم مثلاً في الجهل والاقتصار على الأكل والشرب ، فقال : " أولئك كالأنعام بل هم أضل" أي : كالأنعام في أن همتهم في الأكل والشرب والتمتع بالشهوات ، بل هم أضل لأن الأنعام تميز بين المضار والمنافع ، فلا تقدم على المضار ، وهؤلاء يقدمون على النار معاندةً ، مر العلم بالهلاك ، " أولئك هم الغافلون " .
180 - قوله تعالى : " ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها " ، قال مقاتل : وذلك أن رجلاً دعا الله في صلاته ودعا الرحمن ، فقال بعض مشركي مكة : إن محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه يدعون أنهم يعبدون رباً واحداً ، فما بال هذا يدعو اثنين ؟ فأنزل الله عز وجل : " ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها " . والحسنى تأنيث الأحسن كالكبرى والصغرى ، فادعوه بها . أخبرنا أحمد بن عبدالله الصالحي ، أنا أبو الحسين بن علي بن محمد بن عبدالله بن بشران ، أنا أبو علي إسماعيل بن محمد الصفار ، أنا أحمد بن منصور الرمادي حدثنا عبدالرزاق حدثنا معمر بن همام بن منبه عن أبو هريره عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن لله تسعةً وتسعين اسماً ، مائة إلا واحداً ، من أحصاها دخل الجنة ، إنه وتر يحب الوتر " . " وذروا الذين يلحدون في أسمائه " ، قرأ حمزه : " يلحدون " -بفتح الياء والحاء حيث كان _ وافقه الكسائي في النحل ، والباقون بضم الياء وكسر الحاء ، ومحنى الإلحاد هو : الميل عن { المقصد } ، يقال : ألحد يلحد لحوداً : إذا مال ،قال يعقوب بن السكيت : الإلحاد هو العدول عن الحق ، وإدخال ما ليس منه فيه، يقال : ألحد في الدين ، ولحد ، وبه قرأ حمزه . " وذروا الذين يلحدون في أسمائه " : هم المشركون عدلوا بأسماء الله تعالى عما هي عليه ، فسموا بها أوثانهم فزادوا ونقصوا ، فاشتقوا اللات من ( الله ) والعزى من ( العزيز ) ، ومناة من ( المنان ) ، هذا قول ابن عباس و مجاهد . وقيل : هو تسميتهم الأصنام آلهة . وروي عن ابن عباس : يلحدون في أسمائه أ ي يكذبون وقال أهل المعاني : الإلحاد في أسماء الله : تسميته بما لم يسم به ، ولم ينطق به كتاب الله ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم . وجملته : أن أسماء الله تعالى على التوقيف فإنه يسمى جواداً ولا يسمى سخياً ، وإن كان في معنى الجواد ، ويسمى رحيماً ولا يسمى رفيقاً ، ويسمى عالماً ولا يسمى عاقلاً . وقال تعالى : " يخادعون الله وهو خادعهم " ( النساء - 142) وقال عز من قائل : " ومكروا ومكر الله "( آل عمران - 54 ) ، ولا يقال في الدعاء : يا مخادع ، يا مكار ، بل يدعى بأسمائه التي ورد بها التوقيف على وده التعظيم ، فيقال : يا الله ، يا رحمن ، يا رحيم ، يا عزيز ، يا كريم ونحو ذلك . " سيجزون ما كانوا يعملون " في الآخرة .
181 - قوله تعالى : " وممن خلقنا أمة " ، أي عصابة ، " يهدون بالحق وبه يعدلون " ، قال عطاء عن ابن عباس : يريد أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وهم المهاجرون و التابعون لهم بإحسان . وقال قتاده : بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ هذه الآية قال : " هذه لكم وقد أعطي القوم بين أيديكم مثلها ، ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون " . أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبدالله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا الحميدي ، حدثنا الوليد ، حدثني ابن جابر وهو عبدالرحمن بن يزيد بن جابر ، حدثني عمير بن هانيء أنه سمع معاوية رضي الله عنه يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لا تزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله ، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك " . وقال الكلبي : هم من جميع الخلق .
182- " والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون " ، قال عطاء : سنمكر بهم من حيث لا يعلمون . وقيل : نأتيهم من مأمنهم ، كما : " فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا " ( الحشر - 2 ) ، قال الكلبي : يزين لهم أعمالهم ويهلكهم . وقال الضحاك : كلما جددوا معصيةً جددنا لهم نعمة . قال سفيان الثوري : نسبغ عليهم النعمة وننسيهم الشكر . قال أهل المعاني : الاستدراج أن يتدرج إلى الشيء في خفية قليلاً قليلاً فلا يباغت ولا يجاهر ، ومنه درج الصبي إذا قارب بين خطاه في المشي ، ومنه درج الكتاب إذا طواه شيئاً بعد شيء .
183 - " وأملي لهم " ، أي : أمهلهم وأطيل له مدة عمرهم ليتمادوا في المعاصي ، " إن كيدي متين " ، أي : إن أخذي قوي شديد ، قال ابن عباس : إن مكري شديد . قيل : نزلت في المستهزئين ، فقتلهم الله في ليلة واحدة .
184 - قوله تعالى : " أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة " قال قتادة ذكر لنا " أن النبي صلى الله عليه وسلم قام على الصفا ليلاً ، فجعل يدعو قريشاً فخذاً فخذاً : يابني فلان ، يحذرهم بأس الله ووقائعه ، فقال قائلهم : إن صاحبكم هذا لمجنون ، بات يصوت إلى الصباح ، فأنزل الله تعالى : " أولم يتفكروا ما بصاحبهم "" ، محمد صلى الله عليه وسلم : " من جنة " جنون . " إن هو " ، ما هو ، " إلا نذير مبين " ، ثم حثهم على النظر المؤدي إلى العلم فقال :
185 - " أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله " فيهما " من شيء " ، أي : وينظروا إلى ما خلق الله من شيء ليستدلوا به على وحدانيته . " وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم " أي : لعل أن يكون قد اقترب أجلهم فيموتوا قبل أن يؤمنوا يصيروا إلى العذاب ، " فبأي حديث بعده يؤمنون " ، أي : بعد القرآن يؤمنون ، يقول : بأي كتاب غير ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم يصدقون ، وليس بعده نبي ولا كتاب ، ثم ذكر علة إعراضهم عن الإيمان فقال :
186 - " من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم " قرأ أهل البصرة وعاصم بالياء ورفع الراء ، وقرأ حمزة و الكسائي بالياء وجزم الراء ، لأن ذكر الله قد مر قبله ، وجزم الراء مردود على " يضلل " وقرأ آخرون : بالنون ورفع الراء على أنه كلام مستأنف . " في طغيانهم يعمهون " ، يترددون متحيرين .
187 - قوله تعالى : " يسألونك عن الساعة أيان مرساها " قال قتادة : قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إنبيننا وبينك قرابة فأسر إلينا متى الساعة ؟ فأنزل الله تعالى : " يسألونك عن الساعة " يعني : القيامة ، " أيان مرساها " قال ابن عباس رضي الله عنهما : منتهاها . وقال قتادة : قيامها ، وأصله الثبات ، أي : متى مثبتها ؟ " قل " يامحمد " إنما علمها عند ربي " استأثر بعلمها ولا يعلمها إلا هو ، " لا يجليها " لا يكشفها ولا يظهرها . وقال مجاهد : لا يأتي بها ، " لوقتها إلا هو ، ثقلت في السموات والأرض " ، يعني : ثقل علمها وخفي أمرها على أهل السموات والأرض ، وكل خفي ثقيل . قال الحسن: يقول إذا جاء ثقلت وعظمت على أهل السموات والأرض ، " لا تأتيكم إلا بغتةً " ، فجأة على غفلة . أخبرنا عبدالواحد المليحي ، حدثنا أحمد بن عبدالله النعيمي ، حدثنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا أبو اليمان ، حدثنا شعيب ، حدثنا أبو الزناد عن عبدالرحمن الأعرج ، عن أبي هريره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه ، ولتقومن الساعة وقد انصرف الرحل بلبن لقحته فلا يطعمه ، ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقي فيه ، ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها " . " يسألونك كأنك حفي عنها " ، أي : عالم بها من قولهم أحفيت في المسألة ، أي : بالغت فيها، معناه : كأنك بالغت في السؤال عنها حتى علمتها ، " قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون " ، أن علمها عند الله حتى سألوا محمداً صلى الله عليه وسلم عنها .
188 - " قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله "، قال ابن عباس رضي الله عنهما : إن أهل مكة قالوا : يا محمد ، ألا يخبرك ربك بالسعر الرخيص قبل أن يغلو فتشتريه وتربح فيه عند الغلاء ؟ وبالأرض التي يريد أن تجدب فترتحل إلى ما قد أخصبت ؟ فأنزل الله تعالى " قل لا أملك لنفسي نفعا " أي : لا أقدر لنفسي نفعاً ، أي : اجتلاب نفع بأن أربح ولا ضراً ، أي دفع ضر بأن أرتحل من أرض تريد أن تجدب إلا ماشاء الله أن أملكه . " ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء " ، أي : لو كنت إلم الخصب والجدب لاستكثرت من الخير ، أي : من المال لسنة القحط " وما مسني السوء " أي : الضر والفقر والجوع . وقال ابن جريج : " قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً " يعني : الهدى والضلالة ، ( ولن كنت أعلم الغيب ) أي : متى الموت ، لاستكثرت من الخير ، يعني : من العمل الصالح وما مسني السوء . وقال ابن زيد : واجتنبت ما يكون من الشر واتقيته . وقيل : معناه ولو كنت أعلم الغيب أي متى الساعة لأخبرتكم حتى تؤمنوا وما مسني السوء بتكذيبكم . وقيل : وما مسني السوء : ابتداءً ، يريد : وما مسني الجنون لأنهم كانوا ينسبونه إلى الجنون . " إن أنا إلا نذير " ، لمن لا يصدق بما جئت به ، " وبشير " ، بالجنة ، " لقوم يؤمنون " ، يصدقون .
189 - قوله تعالى : " هو الذي خلقكم من نفس واحدة" ، يعني : آدم ، " وجعل " ، وخلق " منها زوجها " يعني : حواء ، " ليسكن إليها " ، ليأنس بها ويأوي إليها " فلما تغشاها " ، أي واقعها وجامعها " حملت حملاً خفيفاً " ، وهو أول ما تحمل المرأة من النطفة يكون خفيفاً عليها ، " فمرت به " ، أي : استمرت به وقامت وقعدت به ، لم يثقلها ، " فلما أثقلت " ، أي : كبر الولد في بطنها وصارت ذات ثقل بحملها ودنت ولادتها ، " دعوا الله ربهما " ، يعني آدم وحواء ، " لئن آتيتنا " يا ربنا " صالحاً " ، أي : بشراً سوياً مثلنا ، " لنكونن من الشاكرين " ، قال المفسرون : فلما حملت حواء أتاها إبليس في صورة رجل ،فقال لها : ما الذي في بطنك ؟ قالت : ما أدري . قال : إني أخاف أن يكون بهيمة ، أو كلباً ، أو خنزيراً ، وما يدريك من أين يخرج ؟ من دبرك فيقتلك ، أو من { قبلك } وينشق بطنك ، فخافت حواء من ذلك ، وذكرت ذلك لآدم عليه السلام فلم يزالا في هم من ذلك ، ثم عاد إليها فقال : إني من الله بمنزلة ، فإن دعوت الله أن يجعله خلقاً سوياً مثلك ويسهل عليك خروجه تسميه عبدالحارث ؟ وكان اسم إبليس في الملائكة الحارث - فذكرت ذلك لآدم ، فقال لها : لعله صاحبنا الذي قد علمت ، فعاودها إبليس ، فلم يزل بهما حتى غرهما ، فلما ولدت سمياه عبدالحارث . قال الكلبي : قال إبليس لها : إن دعوت الله فولدت إنساناً أتسمينه بي ؟ قالت : نعم ، فملا ولدت قال سميه بي ، قالت : وما اسمك ؟ قال الحارث ، ولو سمى لها نفسه لعرفته فسمته عبدالحارث . وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كانت حواء تلد لآدم فيسميه عبد الله ، وعبيد الله ، وعبد الرحمن ، فيصيبهم الموت ، فأتاهما إبليس وقال : إن سركما إن يعيش لكما ولد فسمياه عبد الحارث ، فولدت فسمياه عبد الحارث فعاش . وجاء في الحديث : ( خدعهما إبليس مرتين مرة في الجنة ومرة في الأرض ) . وقال ابن زيد : ولد لآدم ولد فسماه عبد الله فأتاهما إبليس فقال لهما : ما سميتما ابنكما ؟ قالا : عبد الله - وكان قد ولد لهما قبل ذلك ولد فسمياه عبد الله فمات - فقال إبليس : أتظنان أن الله تارك عبده عندكما ، لا والله ليذهبن به كما ذهب بالآخر ، ولكن أدلكم على اسم يبقى لكما ما بقيتما ، فسمياه عبد شمس ، والأول أصح ، فذلك قوله :
190 - " فلما آتاهما صالحا " ، بشراً سوياً " جعلا له شركاء فيما آتاهما " ، قرأ أهل المدينة و أبو بكر : " شركا " بكسر الشين والتنوين ، أي : شركة . قال أبو عبيدة : أي حظاً ونصيباً ، وقرأ آخرون : " شركاء " بضم الشين ممدوداً على جمع شريك ، يعني : إبليس ، أخبر عن الواحد بلفظ الجمع . أي : جعلا له شريكاً إذ سمياه عبد الحارث ، ولم يكن هذا إشاركاً في العبادة ولا أن الحارث ربهما ، فإن آدم كان نبياً معصوماً من الشرك ، ولكن قصد إلى أن الحارث كان سبب نجاة الولد وسلامة أمه ، وقد يطلق اسم العبد على من لا يراد به أنه مملوك ، كما يطلق اسم الرب على من لا يراد به أنه معبود هذا ، كالرجل إذا نزل به ضيف يسمي نفسه عبد الضيف ، على وجه الخضوع لا على أن الضيف ربه ، ويقول للغير : أنا عبدك . وقال يوسف لعزيز مصر : إنه ربي ، ولم يرد به انه معبوده ، كذلك هذا . وقوله : " فتعالى الله عما يشركون " ، قيل : هذا ابتداء كلام وأراد به إشراك أهل مكة ، ولئن أراد به ما يسبق فمستقيم من حيث أنه كان الأولى بهما أن لا يفعلا ما أتيا به من الإشراك في الاسم . وفي الآية قول آخر : وهو أنه راجع إلى جميع المشركين من ذرية آدم ، وهو قول الحسن وعكرمة ،ومعناه : جعل أولادهما شركاء ، فحذف الأولاد وأقامهما مقامهم ، كما أضاف فعل الآباء إلى الأبناء في تعييرهم بفعل الآباء فقال : " ثم اتخذتم العجل " ، " وإذ قتلتم نفساً " خاطب به اليهود الذين كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان ذلك الفعل من آبائهم . وقيل : هم اليهود والنصارى ، رزقهم الله أولاداً فهودوا ونصروا . وقال ابن كيسان : هم الكفار سموا أولادهم عبد العزى و عبد اللات و عبد مناة ونحوه . وقال عكرمة : خاطب كل واحد من الخلق بقوله خلقكم أي خلق كل واحد من أبيه وجعل منها زوجها ، أي : جعل من جنسها زوجها ، وهذا قول حسن ، لولا قول السلف مثل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما و مجاهد و سعيد بن المسيب وجماعة المفسرين أنه في آدم وحواء . قال الله تعالى : " فتعالى الله عما يشركون " .
191 - قوله تعالى : " أيشركون ما لا يخلق شيئاً " ، يعني : إبليس والأصنام ، " وهم يخلقون " ، أي : هم مخلوقون .
192 - " ولا يستطيعون لهم نصراً " أي : الأصنام لا تنصر من أطاعها . " ولا أنفسهم ينصرون " ، قال الحسن : لا يدفعون عن أنفسهم مكروه من أراد بهم بكسر أو نحوه ثم خاطب المؤمنين فقال :
193 - " وإن تدعوهم إلى الهدى " ، وإن تدعوا المشركين إلى الإسلام ، " لا يتبعوكم " ، قرأ نافع بالتخفيف وكذلك : " يتبعهم الغاوون " ( الشعراء - 244 ) وقرأ آخرون بالتشديد فيهما وهما لغتان ، يقال : تبعه تبعاً وأتبعه إتباعاً . " سواء عليكم أدعوتموهم " ، إلى الدين ، " أم أنتم صامتون " ، عن دعائهم لا يؤمنون ، كما قال : " سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون " ( البقرة - 6 ) وقيل : " وإن تدعوهم إلى الهدى " يعني : الأصنام ، لا يتبعوكم لأنها غير عاقلة .
194 - " إن الذين تدعون من دون الله " ، يعني الأصنام ، " عباد أمثالكم " ،يريد أنها مملوكة أمثالكم . وقيل : أمثالكم في التسخير ، أي : أنهم مسخرون مذللون لما أريد منهم . قال مقاتل : قوله " عباد أمثالكم " أراد به الملائكة ، والخطاب مر قوم كانوا يعبدون الملائكة . والأول أصح . " فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين " ، أنها آلهة . قال ابن عباس : فاعبدوهم ، هل يثيبونكم أو يجازونكم إن كنتم صادقين أن لكم عندها منفعة ؟ ثم بين عجزهم فقال :
195 - " ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها " قرأ أبو جعفر بضم الطاء هنا وفي القصص والدخان ، وقرأ آخرون بكسر الطاء ، " أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها " ، أراد أن قدرة المخلوقين تكون بهذه الجوارح والآلات ، وليست للأصنام هذه الآلات ، فأنتم مفضلون عليهم بالأرجل الماشية والأيدي الباطشة والأعين الباصرة والآذان السامعة ، فكيف تعبدون من أنتم أفضل وأقدر منهم ؟ " قل ادعوا شركاءكم " ، يا معشر المشركين ، " ثم كيدون " ، أنتم وهم ، " فلا تنظرون " ، أي : لا تمهلوني واعجلوا في كيدي .
196 - " إن وليي الله الذي نزل الكتاب " ، يعني القرآن ، أي أنه يتولاني وينصرني كما أيدني بإنزال الكتاب ، " وهو يتولى الصالحين " ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : يريد الذين لا يعدلون بالله شيئا فالله يتولاهم بنصره فلا يضرهم عداوة من عاداهم .
197 - " والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون " .
198 - " وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا " ، يعني الأصنام ، " وتراهم " يا محمد " ينظرون إليك " ، يعني الأصنام ، " وهم لا يبصرون " ، وليس المراد من النظر حقيقة النظر ، إنما المراد منه : المقابلة ، تقول العرب : داري تنظر إلى دارك ، أي : تقابلها ، وقيل : وتراهم ينظرون إليك أي : كأنهم ينظرون إليك ، كقوله تعالى : " وترى الناس سكارى " ( الحج - 2 ) ، أي : كأنهم سكارى هذا قول { أكثر } المفسرين . وقال الحسن : " وإن تدعوهم إلى الهدى" يعني : المشركين لا يسمعوا ولا يفعلون ذلك بقلوبهم ، وتراهم ينظرون إليك بأعينهم وهم لا يبصرون بقلوبهم .
199 - قوله تعالى : " خذ العفو " ، قال عبد الله بن الزبير : أمر الله نبيه عليه الصلاة والسلام أن يأخذ العفو من أخلاق الناس . وقال مجاهد : خذ العفو يعني العفو من أخلاق الناس وأعمالهم من غير تجسس ، وذلك مثل قبول الاعتذار والعفو والمساهلة وترك البحث عن الأشياء ونحو ذلك . وروي أنه لما نزلت هذه الآية قال رسول صلى الله عليه وسلم لجبريل " : ما هذا ؟ قال لا أدري حتى أسأله ، ثم رجع ،فقال : إن ربك يأمرك أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك " . وقال ابن عباس رضي الله عنهما والسدي و الضحاك و الكلبي : يعي خذ ما عفا لك من الأموال وهو الفضل عن العيال ، وذلك معنى قوله : " يسألونك ماذا ينفقون قل العفو " ( البقرة - 219 ) ، ثم نسخت هذه بالصدقات المفروضات . قوله تعالى : " وأمر بالعرف " أي : بالمعروف ، وهو كل ما يعرفه الشرع . وقال عطاء : وأمر بالعرف بلا إله إلا الله . " وأعرض عن الجاهلين " ، أبي جهل وأصحابه ، نسختها آية السيف . وقيل : إذا تسفه عليك الجاهل فلا تقابله بالسفه ، وذلك مثل قوله : " وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً " ( الفرقان - 63 ) ، وذلك سلام المتاركة . قال جعفر الصادق : أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بمكارم الأخلاق ، وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية . أخبرنا عبد الله بن عبد الصمد { الجرجاني} ثنا أبو القاسم علي بن أحمد الخزاعي ، ثنا الهيثم بن كليب ، ثنا أبو عيسى الترمذي ، ثنا محمد بن بشار ثنا محمد بن جعفر ثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن أبي عبد الله الجدلي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : " لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشاً ولا متفحشاً ولا سخاباً في الأسواق ، ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح " . ثنا أبو الفضل زياد بن محمد الحنفي ثنا أبو سعيد عبد الملك بن أبي عثمان الواعظ ثنا عماد بن محمد البغدادي ثنا أحمد بن محمد عن سعيد الحافظ ثنا محمد بن إسماعيل ثنا عمر بن إبراهيم يعني الكوفي ثنا يوسف بن محمد بن المنكدر عن أبيه عن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله بعثني لتمام مكارم ا لأخلاق وتمام محاسن الأفعال " .
200 - قوله تعالى : " وإما ينزغنك من الشيطان نزغ " ، أي : يصيبك ويعتريك ويعرض لك من الشيطان نزغ نخسة . والنزغ من الشيطان الوسوسة . وقال الزجاج : النزغ أدنى حركة تكون من الآدمي ، ومن الشيطان أدنى وسوسة. وقال عبد الرحمن بن زيد : "لما نزلت هذه الآية : " خذ العفو " ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : كيف يارب و الغضب ؟ فنزل : " وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله " "، أي : استجر بالله " إنه سميع عليم " .
201 - " إن الذين اتقوا" ، يعني المؤمنين ، "إذا مسهم طائف من الشيطان " ، قرأ ابن كثير وأهل البصرة و الكسائي : " طيف " ، وقرأ الآخرون " طائف " بالمد والهمز ، وهما لغتان كالميت والمائت ومعناهما : الشيء يلم بك . وفرق قوم بينهما ، فقال ابن عمرو : الطائف ما يطوف حول الشيء ، والطيف :اللمة والوسوسة . وقيل : الطائف ما طاف به من وسوسة الشيطان ، والطيف اللمم والمس . " تذكروا " ، عرفوا ، قال سعيد بن جبير : هو الرجل يغضب الغضبة فيذكر الله تعالى فيكظم الغيظ . وقال مجاهد : هو الرجل يهم بالذنب فيذكر الله فيدعه . " فإذا هم مبصرون " ، أي يبصرون مواقع خطاياهم بالتذكر والتفكر . قال السدي : إذا زلوا تابوا . وقال مقاتل : إن المتقي إذا أصابه نزغ من الشيطان تذكر وعرف أنه معصية ، فأبصر فنزع عن مخالفة الله .
202 - قوله : " وإخوانهم يمدونهم " ، يعني إخوان الشياطين من المشركين يمدونهم ، أي : يمدهم الشيطان . قال الكلبي : لكل كافر أخ من الشياطين . " في الغي " ، أي : يطلبون هم الإغواء حتى يستمروا عليه . وقيل : يزيدونهم في الضلالة . وقرأ أهل المدينة : " يمدونهم " بضم اليا ء وكسر الميم ، من الإمداد ، والآخرون : بفتح الياء وضم الميم وهما لغتان بمعنى واحد . " ثم لا يقصرون " ، أي : لا يكفون . قال ابن عباس رضي الله عنهما : لا الإنس يقصرون عما يعملون من السيئات ، ولا الشياطين يمسكون عنهم ، فعلى هذا قوله : " ثم لا يقصرون " من فعل المشركين والشياطين جميعاً . قال الضحاك و مقاتل : يعني المشركين لا يقصرون عن الضلالة ولا يبصرونها ، بخلاف ما قال في المؤمنين : " تذكروا فإذا هم مبصرون " .
203 - " وإذا لم تأتهم بآية " ، يعني: إذا لم تأت المشركين بآية ،" قالوا لولا اجتبيتها " ، هلا افتعلتها وأنشأتها من قبل نفسك واختيارك ؟ تقول العرب : اجتبيت الكلام إذا اختلقته . قال الكلبي : كان أهل مكة يسألون النبي صلى الله عليه وسلم الآيات تعنتاً فإذا تأخرت اتهموه وقالوا : لولا اجتبيتها ؟ أي : هلا أحدثتها وأنشأتها من عندك ؟ " قل " لهم يا محمد " إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي " ، ثم قال : " هذا " ، يعني : القرآن " بصائر " ، حجج وبيان وبرهان " من ربكم " ، واحدتها بصيرة وأصلها ظهور الشيء واستحكامه حتى يبصره الإنسان ، فيهتدي به يقول :هذا دلائل تقودكم إلى الحق . " وهدىً ورحمة لقوم يؤمنون " .
204 - قوله عز وجل : " وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون " ، اختلفوا في سبب نزول هذه الآية فذهب جماعة إلى أنها في القراءة في الصلاة . روي عن أبي هريرة كانوا يتكلمون في الصلاة بحوائجهم فأمروا بالسكوت والاستماع إلى قراءة القرآن . وقال قوم : نزلت في ترك الجهر بالقراءة خلف الإمام . وروي عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي هريرة قال : نزلت هذه الآية في رفع الأصوات وهم خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة . وقال الكلبي : كانوا يرفعون أصواتهم في الصلاة حين يسمعون ذكر الجنة والنار . وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه سمع أناساً يقرؤون مر الإمام فلما انصرف قال : أما آن لكم أن تفقهوا وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا كما أمركم الله ؟ وهذا قول الحسن و الزهري و النخعي : أن الآية في القراءة في الصلاة . وقال سعيد بن جبير و عطاء و مجاهد : إن الآية في الخطبة ، أمروا بالإنصات لخطبة الإمام يوم الجمعة . وقال سعيد بن جبير : هذا في الإنصات يوم الأضحى والفطر ويوم الجمعة ، وفيما يجهر به الإمام . وقال عمر بن عبد العزيز : { يجب } الإنصات لقول كل واعظ . والأول أولاها ،وهو أنها في القراءة في الصلاة لأن الآية مكية والجمعة وجبت بالمدينة . واتفقوا على أنه مأمور بالإنصات حالة ما يخطب الإمام . أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ثنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ثنا أبو العباس الأصم ثنا الربيع ثنا الشافعي ثنا مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا قلت لصاحبك أنصت والإمام يخطب يوم الجمعة فقد لغوت " . واختلف أهل العلم في القراءة خلف الإمام في الصلاة : فذهب جماعة إلى إيجابها سواء جهر الإمام بالقراءة أو أسر . روي ذلك عن عمر ، وعثمان ، وعلي ، وابن عباس ، ومعاذ ، وهو قول الأوزاعي و الشافعي . وذهب قوم إلى أنه يقرأ فيما أسر الإمام فيه بالقراءه ولا يقرأ إذا جهر ، يروى ذلك عن ابن عمر ، وهو قول عروة بن ا لزبير ، و القاسم بن محمد . وبه قال الزهري و مالك و ابن المبارك و أحمد و إسحاق . وذهب قوم إلى أنه لا يقرأ سواء أسر الإمام أو جهر ، يروى ذلك عن جابر ، وبه قال الثوري وأصحاب الرأي ، ويتمسك من لا يرى القراءة خلف الإمام بظاهر هذه الآية ، ومن أوجبها قال الآية في غير الفاتحة وإذا قرأ الفاتحة يتبع سكتات الإمام ولا ينازع الإمام في القراءة . والدليل عليه : ما أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي ، ثنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي ، ثنا أبو العباس المحبوبي ، ثنا أبو عيسى الترمذي ، ثنا هناد ، ثنا عبدة بن سليمان ،عن محمد بن إسحاق عن مكحول ، عن محمود بن الربيع ، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه ، قال :" صلى النبي صلى الله عليه وسلم الصبح فثقلت عليه القراءة ، فلما انصرف قال : إني أراكم تقرؤون وراء إمامكم ؟ قال : قلنا يا رسول الله إي والله ، قال : لا تفعلوا إلا بأم الكتاب فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها " .
205 - قوله تعالى : " واذكر ربك في نفسك " ، قال ابن عباس : يعني بالذكر : القراءة في الصلاة ، يريد يقرأ سراً في نفسه ، " تضرعاً وخفيةً " ، خوفاً ، أي : تتضرع إلي وتخاف مني هذا في صلاة السر . وقوله : " ودون الجهر من القول " ، أراد في صلاة الجهر جهراً شديداً ،بل في خفض وسكون ، يسمع من خلفك . وقال مجاهد و ابن جريج : أمر أن يذكروه في الصدور بالتضرع إليه في الدعاء والاستكانة دون رفع الصوت والصياح بالدعاء " بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين " أي : بالبكر والعشيات ، واحد آصال : أصيل مثل يمين وأيمان ، وهو ما بين العصر والمغرب .
206 - " إن الذين عند ربك " ، يعني : الملائكة المقربين بالفضل والكرامة ، " لا يستكبرون " ، لا يتكبرون ، " عن عبادته ويسبحونه " ، وينزهونه ويذكرونه ، فيقولون : سبحان الله . " وله يسجدون " . أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنبأنا أحمد بن الحسن الحيري ، أنبأنا حاجب بن أحمد الطوسي ، ثنا عبد الرحيم بين منيب ، ثنا يعلى بن عبيد عن الأعمش ، عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي ، فيقول : يا ويله أمر هذا بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فعصيت فلي النار " . أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ثنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان ، ثنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني ، ثنا حميد بن زنجويه ، ثنا محمد بن يوسف ،ثنا الأوزاعي عن الوليد بن هشام ، عن معدان قال : سألت ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قلت : حدثني حديثاً ينفعني الله به ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ما من عبد يسجد لله سجدةً إلا رفعه الله بها درجةً وحط عنه بها سيئة " .