مكية 1. " يس " و " ن " قرأ بإخفاء النون فيهما: ابن عامر، و الكسائي ، و أبو بكر . قالون: يخفي النون من " يس " ويظهر من " ن " والباقون يظهرون فيهما. واختلفوا في تأويل " يس " حسب اختلافهم في حروف التهجي، قال ابن عباس رضي الله عنهما: هو قسم، ويروى عنه أن معناه: يا إنسان، بلغة طيء، يعني: محمداً صلى الله عليه وسلم، وهو قول الحسن ، و سعيد بن جبير ، وجماعة. وقال أبو العالية : يا رجل. وقال أبو بكر الوراق : يا سيد البشر.
2. " والقرآن الحكيم ".
3. " إنك لمن المرسلين "، أقسم بالقرآن أن محمداً صلى الله عليه وسلم من المرسلين، وهو رد على الكفار حيث قالوا: " لست مرسلاً " (الرعد-43).
4. " على صراط مستقيم "، وهو خبر بعد خبر، أي: أنه من المرسلين وأنه على صراط مستقيم. وقيل: معناه إنك لمن المرسلين الذين هم على صراط مستقيم.
5. " تنزيل العزيز الرحيم "، قرأ ابن عامر، و حمزة ، و الكسائي ، و حفص : " تنزيل " بنصب اللام كأنه قال: نزل تنزيلاً، وقرأ الآخرون بالرفع، أي: هو تنزيل العزيز الرحيم.
6. " لتنذر قوماً ما أنذر آباؤهم " قيل: (( ما )) للنفي أي: لم ينذر آباؤهم، لأن قريشاً لم يأتهم نبي قبل محمد صلى الله عليه وسلم وقيل: (( ما )) بمعنى الذي، أي: لتنذر قوماً بالذي أنذر آباؤهم، " فهم غافلون "، عن اإيمان والرشد.
7. " لقد حق القول " وجب العذاب، " على أكثرهم فهم لا يؤمنون "، هذا كقوله: " ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين " (الزمر-71).
8. " إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً "، نزلت في أبي جهل وصاحبيه المخزوميين، وذلك أن أبا جهل كان قد حلف لئن رأى محمداً يصلي ليرضخن رأسه، فأتاه وهو يصلي ومعه حجر ليدمغه، فلما رفعه أثبتت يده إلى عنقه ولزق الحجر بيده، فلما عاد إلى أصحابه فأخبرهم بما رأى سقط الحجر، فقال رجل من بني مخزوم: أنا أقتله بهذا الحجر، فأتاه وهو يصلي ليرميه بالحجر، فأعمى الله تعالى بصره، فجعل يسمع صوته ولا يراه، فرجع إلى أصحابه فلم يرهم حتى نادوه فقالوا له: ما صنعت؟ فقال: ما رأيته، ولقد سمعت صوته وحال بيني وبينه شيء كهيئة الفحل يخطر بذنبه، لو دنوت منه لأكلني، فأنزل الله تعالى: " إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً ". قال أهل المعاني: هذا على طريق المثل، ولم يكن هناك غل، أراد: منعناهم عن الإيمان بموانع، فجعل الأغلال مثلاً لذلك. قال الفراء : معناه إنا حبسناهم عن الإنفاق في سبيل الله كقوله تعالى: " ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك " (الإسراء-29) معناه: لا تمسكها عن النفقة. " فهي إلى الأذقان "، (( هي )) كناية عن الأيدي - وإن لم يجر لها ذكر - لأن الغل يجمع اليد إلى العنق، معناه: إنا جعلنا في ايديهم وأعناقهم أغلالاً فهي إلى الأذقان، " فهم مقمحون " والمقمح: الذي رفع رأسه وغض بصره، يقال: بعير قامح إذا روى من الماء، فأقمح إذا رفع رأسه وغض بصره. وقال الأزهري : أراد أن أيديهم لما غلت إلى أعناقهم رفعت الأغلال أذقانهم ورؤوسهم، فهم مرفوعو الرؤوس برفع الأغلال إياها.
9. " وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً "، قرأ حمزة و الكسائي وحفص: (( سداً )) بفتح السين، وقأ الآخرون بضمها، " فأغشيناهم "، فأعميناهم، من التغشية وهي التغطية، " فهم لا يبصرون "، سبيل الهدى.
10. " وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ".
11. " إنما تنذر من اتبع الذكر "، يعني: إنما ينفع إنذارك من اتبع الذكر، يعني: القرآن، فعمل بما فيه، " وخشي الرحمن بالغيب فبشره بمغفرة وأجر كريم "، حسن وهو الجنة.
12. " إنا نحن نحيي الموتى "، عند البعث، " ونكتب ما قدموا "، من الأعمال منخير وشر، " وآثارهم "، أي: ما سنوا من سنة حسنة أو سيئة. قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من سن في الإسلام سنةً حسنةً يعمل بها من بعده كان له أجرها ومثل أجر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيئاً ". وقال قوم: قوله: " ونكتب ما قدموا وآثارهم " أي: خطاهم إلى المسجد. روي عن أبي سعيد الخدري قال: شكت بنو سلمة بعد منازلهم من المسجد فأنزل الله تعالى: " ونكتب ما قدموا وآثارهم ". أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، حدثنا أبو سعيد محمد بن عيسى الصيرفي ، حدثنا أبو العباس الأصم ، حدثنا محمد بن هشام بن ملاس النميري ، حدثنا مروان الفزازي ، حدثنا حميد ، عن أنس رضي الله عنه قال:"أرادت بنو سلمة أن يتحولوا إلى قرب المسجد، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تعرى المدينة، فقال: يا بني سلمة ألا تحتسبون آثاركم؟ فأقاموا". وأخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن العلاء ، حدثنا أبو أسامة ، عن يزيد بن عبد الله، عن أبي بردة ، عن أبي موسى قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " أعظم الناس أجراً في الصلاة أبعدهم فأبعدهم ممشىً، والذي ينتظر الصلاة حتى يصليها مع الإمام أعظم أجراً من الذي يصلي ثم ينام ". قوله تعالى: " وكل شيء أحصيناه " حفظناه وعددناه وبيناه، " في إمام مبين "، وهو اللوح المحفوظ.
13. قوله عز وجل: " واضرب لهم مثلاً أصحاب القرية "، يعني: اذكر لهم شبهاً مثل حالهم من قصة أصحاب لاالقرية وهي أنطاكية، " إذ جاءها المرسلون "، يعني، رسل عيسى عليه الصلاة والسلام. قال العلماء بأخبار الأنبياء: بعث عيسى رسولين من الحواريين إلى أهل مدينة أنطاكية، فلما قربا من المدينة رأيا شيخاً يرعى غنيمات له وهو حبيب النجار، صاحب يس فسلما عليه، فقال الشيخ لهما: من أنتما؟ فقالا: رسولا عيسى، ندعوكم من عبادة الأوثان إلى عبادة الرحمن، فقال: أمعكما آية، قالا: نعم نحن نشفي المريض ونبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله، فقال الشيخ: إن لي ابناً مريضاً منذ سنين، قالا: فانطلق بنا نطلع على حاله، فأتى بهما إلى منزله، فمسحا ابنه، فقام في الوقت بإذن الله - صحيحاً، ففشا الخبر في المدينة، وشفى الله على أيديهما كثيراً من المرضى، وكان لهم ملك - قال وهب : اسمه انطيخس - وكان من ملوك الروم يعبد الأصنام، قالوا: فانتهى الخبر إليه فدعاهما، فقال: من أنتما؟ قالا: رسولا عيسى، قال: وفيم جئتما؟ قالا: ندعوك من عبادة مالا يسمع ولا يبصر إلى عبادة من يسمع ويبصر، فقال: ولكما إله دون آلهتنا؟ قالا: نعم، من أوجدك وآلهتك. قال: قوما حتى أنظر في أمركما، فتبعهما الناس فأخذوهما وضربوهما في السوق. قال وهب : بعث عيسى هذين الرجلين إلى أنطاكية، فأتياها فلم يصلا إلى ملكها، وطال مدة مقامهما فخرج الملك ذات يوم فكبرا وذكرا الله، فغضب الملك وأمر بهما فحبسا وجلد كل واحد منهما مائة جلدة، قالوا: فلما كذب الرسولان وضربا، بعث عيسى رأس الحواريين شمعون الصفا على إثرهما لينصرهما، فدخل شمعون البلد متنكراً، فجعل يعاشر حاشية الملك حتى أنسوا به، فرفعوا خبره إلى الملك فدعاه فرضي عشرته وأنس به وأكرمه، ثم قال له ذات يوم: أيها الملك بلغني أنك حبست رجلين في السجن وضربتهما حين دعواك إلى غير دينك، فهل كلمتهما وسمعت قولهما؟ فقال الملك: حال الغضب بيني وبين ذلك. قال: فإن رأى الملك دعاهما حتى نطلع على ما عندهما، فدعاهما الملك، فقال لهما شمعون: من أرسلكما إلى هاهنا؟ قالا: الله الذي خلق كل شيء وليس له شريك، فقال لهما شمعون: [فصفاه وأوجزا، فقالا إنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، فقال شمعون]: وما آيتكما؟ قالا: ما تتمناه، فأمر الملك حتى جاؤوا بغلام مطموس العينين وموضع عينيه كالجبهة، فما زالا يدعوان ربهما حتى انشق موضع البصر، فأخذا بندقتين من الطين، فوضعاهما في حدقتيه فصارتا مقلتين يبصر بهما، فتعجب الملك، فقال شمعون للملك: إن أنت سألت إلهك حتى يصنع صنعاً مثل هذا فيكون لك الشرف ولإلهك. فقال الملك: ليس لي عنك سر إن إلهنا الذي نعبده لا يسمع ولا يبصر، ولا يضر ولا ينفع، وكان شمعون إذا دخل الملك على الصنم يدخل بدخوله ويصلي كثيراً، ويتضرع حتى ظنوا أنه على ملتهم، فقال الملك للرسولين: إن قدر إلهكن الذي تعبدانه علىإحياء ميت آمنا به وبكما، قالا: إلهنا قادر على كل شيء، فقال الملك: إن هاهنا ميتاً مات منذ سبعة أيام ابن لدهقان وأنا أخرته فلم أدفنه حتى يرجع أبوه، وكان غائباً فجاؤوا بالميت وقد تغير وأروح فجعلا يدعوان ربهما علانيةً، وجعل شمعون يدعو ربه سراً، فقام الميت، وقال: إني قدمت منذ سبعة أيام مشركاً فأدخلت في سبعة أودية من النار، وأنا أحذركم ما أنتن في فآمنوا بالله، ثم قال: فتحت لي أبواب السماء فنظرت فرأيت شاباً حسن الوجه يشفع لهؤلاء الثلاثة، قال الملك: ومن الثلاثة؟ قال: شمعون وهذان وأشار إلى صاحبيه، فتعجب الملك، فلما علم شمعون أن قوله أثر في الملك أخبره بالحال، ودعاه فآمن الملك وآمن قوم، وكفر آخرون. وقيل: إن ابنةً للملك كانت قد توفيت ودفنت، فقال شمعون للملك: اطلب من هذين الرجلين أن يحييا ابنتك، فطلب منهما الملك ذلك فقاما وصليا ودعوا وشمعون معهما في السر، فأحيا الله المرأة وانشق القبر عنها فخرجت، وقالت: أسلموا فإنهما صادقان، قالت: ولا أظنكم تسلمون، ثم طلبت من الرسولين أن يرداها إلى مكانها فذرا تراباً على رأسها وعادت إلى قبرها كما كانت. وقال ابن اسحاق عن كعب و وهب : بل كفر الملك، وأجمع هو وقوومه على قتل الرسل فبلغ ذلك حبيباً، وهو على باب المدينة الأقصى، فجاء يسعى إليهم يذكرهم ويدعوهم إلى طاعة المرسلين، فذلك قوله عز وجل:
14. " إذ أرسلنا إليهم اثنين " قال وهب : اسمهما يوحنا وبولس، " فكذبوهما فعززنا "، يعني: فقوينا، " بثالث "، برسول ثالث وهو شمعون، وقرأ أبو بكر عن عاصم: (( فعززنا )) بالتخفيف وهو بمعنى الأول كقولك: شددنا وشددنا، بالتخفيف والتثقيل، وقيل: فغلبنا، من قولهم: من عز بز. وقال كعب : الرسولان: صادق وصدوق، والثالث شلوم، وإنما أضاف الله الإرسال إليه لأن عيسى عليه السلام إنما بعثهم بأمره تعالى، " فقالوا " جميعاً لأهل أنطاكية، " إنا إليكم مرسلون ".
15. " قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون "، ما أنتم إلا كاذبون فيما تزعمون.
16. "قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون ".
17. " وما علينا إلا البلاغ المبين ".
18. " قالوا إنا تطيرنا بكم "، تشاءمنا بكم، وذلك أن المطر حبس عنهم، فقالوا: أصابنا هذا بشؤمكم، " لئن لم تنتهوا لنرجمنكم "، لنقتلكم، وقال قتادة : بالحجارة " وليمسنكم منا عذاب أليم ".
19. " قالوا طائركم معكم "، يعني: شؤمكم معكم بكفركم وتكذيبكم، يعني: أصابكم الشؤم من قبلكم. وقال ابن عباس و الضحاك : حظكم من الخير والشر، " أإن ذكرتم "، يعني: وعظمتم بالله، وهذا استفهام محذوف الجواب، مجازه: إن ذكرتم ووعظتم بالله تطيرتم بنا. وقرأ أبو جعفر : (( أن )) بفتح الهمزة الملينة (( ذكرتم )) بالتخفيف، " بل أنتم قوم مسرفون "، مشركون مجاوزون الحد.
20. قوله عز وجل: " وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى "، وهو جبيب النجار، وقال السدي : كان قصاراً. وقال وهب : كان رجلاً يعمل الحرير، وكان سقيماً قد أسرع فيه الجذام، وكان منزله عند أقصى باب من أبواب المدينة، وكان مؤمناً ذا صدقة يجمع كسبه إذا أمسى فيقسمه نصفين، فيطعم نصفاً لعياله ويتصدق بنصف، فلما بلغه أن قومه قصدوا قتل الرسل جاءهم، " قال يا قوم اتبعوا المرسلين ".
21. " اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون "، قال قتادة : كان حبيب في غار يعبد ربه، فلما بلغه خبر الرسل أتاهم فأظهر دينه، فلما انتهى حبيب إلى الرسل قال لهم: تسألون على هذا أجراً؟ قالوا: لا، فأقبل على قومه فقال: (( يا قوم اتبعوا المرسلين اتبعوا من لا يسألكم أجراً وهم مهتدون ))، فلما قال ذلك قالوا له: وأنت مخالف لديننا ومتابع دين هؤلاء الرسل ومؤمن بإلههم؟ فقال:
22. " وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون "، قرأ حمزة و يعقوب : (( مالي )) بإسكان الياء، والآخرون بفتحها. قيل: أضاف الفطرة إلى نفسه والرجوع إليهم، لأن الفطرة أثر النعمة، وكانت عليه أظهر، وفي الرجوع معنى الزجر وكان بهم أليق. وقيل: إنه لما قال: اتبعوا المرسلين، أخذوه فرفعوه إلى الملك، فقال له الملك: أفأنت تتبعهم؟ فقال: (( ومالي لا أعبد الذي فطرني ))، وأي شيء لي إذا لم أعبد الخالق " وإليه ترجعون " تردون عند البعث فيجزيكم بأعمالكم.
23. " أأتخذ من دونه آلهةً "، استفهام بمعنى الإنكار، أي: لا أتخذ من دونه آلهة، " إن يردن الرحمن بضر "، بسوء ومكروه، " لا تغن عني "، لا تدفع عني، " شفاعتهم شيئاً "، أي: لا شفاعة لها أصلاً فتغني " ولا ينقذون " من ذلك المكروه، وقيل: لا ينقذون من العذاب لو عذبني الله إن فعلت ذلك.
24. " إني إذاً لفي ضلال مبين "، خطأ ظاهر.
25. " إني آمنت بربكم فاسمعون "، يعني: فاسمعوا مني، فلما قال ذلك وثب القوم عليه وثبة رجل واحد فقتلوه. قال ابن مسعود: وطئوه بأرجلهم حتى خرج قصبه من دبره. وقال السدي : كانوا يرمونه بالحجارة وهو يقول: اللهم اهد قومي، حتى قطعوه وقتلوه. وقال الحسن : خرقوا خرقاً في حلقه فعلقوه بسور من سور المدينة، وقبره بأنطاكية فأدخله الله الجنة، وهو حي فيها يرزق،
26. فذلك قوله عز وجل: " قيل ادخل الجنة "، فلما أفضى إلى الجنة، " قال يا ليت قومي يعلمون "
27. " بما غفر لي ربي "، يعني: بغفران ربي لي، " وجعلني من المكرمين "، تمنى أن يعلم قومه أن الله غفر له وأكرمه، ليرغبوا في دين الرسل. فلما قتل حبيب غضب الله له وعجل لهم النقمة، فأمر جبريل عليه السلام فصاح بهم صيحة واحدة، فماتوا عن آخرهم،
28. فذلك قوله عز وجل: " وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء "، يعني: الملائكة، " وما كنا منزلين "، وما كنا نفعل هذا، بل الأمر في إهلاكهم كان أيسر مما يظنون. وقيل: معناه (( وما أنزلنا على قومه من بعده )) أي: على قوم حبيب النجار من بعد قتله من جند، وما كنا ننزلهم على المم إذا أهلكناهم، كالطوفان والصاعقة والريح.
29. ثم بين عقوبتهم فقال تعالى: " إن كانت إلا صيحةً واحدة "، [وقرأ أبوجعفر : صيحة واحدة]، بالرفع، جعل الكون بمعنى الوقوع. قال المفسرون: أخذ جبريل بعضادتي باب المدينة، ثم صاح بهم صيحةً واحدة، " فإذا هم خامدون " ميتون.
30. " يا حسرةً على العباد "، قال عكرمة : يعني يا حسرتهم على أنفسهم، والحسرة: شدة الندامة، وفيه قولان: أحدهما: يقول الله تعالىك يا حسرة وندامة وكآبة على العباد يوم القيامة حين لم يؤمنوا بالسل. والآخر: أنه من قول الهالكين. قال أبو العالية : لما عاينوا العذاب قالوا: يا حسرة أي: ندامةعلى العباد، يعني: على الرسل الثلاثة حيث لم يؤمنوا بهم، فتمنوا الإيمان حين لم ينفعهم. قال الأزهري : الحسرة لا تدعى، ودعاؤها تنبيه المخاطبين. وقيل: العرب تقول: يا حسرتي! ويا عجباً! على طريق المبالغة، والنداء عندهم بمعنى التنبيه، فكأنه يقول: أيها العجب هذا وقتك؟ وأيتها الحسرة هذا أوانك؟ حقيقة المعنى: أن هذا زمان الحسرة والتعجب. ثم بين سبب الحسرة والندامة، فقال: " ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون ".
31. " ألم يروا "، ألم يخبروا، يعني: أهل مكة، " كم أهلكنا قبلهم من القرون "، والقرن: أهل كل عصر، سموا بذلك لاقترانهم في الوجود، " أنهم إليهم لا يرجعون "، أي: لا يعودون إلى الدنيا فلا يعتبرون بهم.
32. " وإن كل لما جميع "، قرأ عاصم، و حمزة : (( لما )) هاهنا وفي الزخرف والطارق، ووافق ابن عامر إلا في الزخرف، ووافق أبو جعفر في الطارق، وقرأ الآخرون بالتخفيف. فمن شدد جعل (( إن )) بمعنى الجحد، و (( لما )) بمعنى إلا، تقديره: وما كل إلا جميع، ومن خفف جعل (( إن )) للتحقيق و (( ما )) صلة، مجازه: وكل جميع، " لدينا محضرون ".
33. " وآية لهم الأرض الميتة أحييناها " بالمطر، " وأخرجنا منها حباً "، يعني: الحنطة والشعير وما أشبههما، " فمنه يأكلون "، أي: من الحب.
34. " وجعلنا فيها جنات "، بساتين، " من نخيل وأعناب وفجرنا فيها "، في الأرض، " من العيون ".
35. " ليأكلوا من ثمره "، أي: من الثمر الحاصل بالماء، " وما عملته "، قرأ حمزة ، و الكسائي ، و أبو بكر: (( عملت )) بغير هاء، وقرأ الآخرون (( عملته )) بالهاء، أي: يأكلون من الذي عملته، " أيديهم "، من الزرع والغرس، فالهاء عائدة إلى (( ما )) التي بمعنى الذي. وقيل: (( ما )) للنفي في قوله (( ما عملته )) أي: وجدوها معمولة ولم تعملها أيديهم، ولا صنع لهم فيها، وهذا معنى قول الضحاك و مقاتل . وقيل: أراد العيون والأنهار التي لم تعملها يد خلق مثل دجلة والفرات والنيل ونحوها. " أفلا يشكرون "، نعمة الله.
36. " سبحان الذي خلق الأزواج كلها "، أي: الأصناف، " مما تنبت الأرض "، من الثمار والحبوب، " ومن أنفسهم "، يعني: الذكور والإناث، " ومما لا يعلمون "، مما خلق من الأشياء من دواب البر والبحر.
37. " وآية لهم "، تدل على قدرتنا، " الليل نسلخ "، ننزع ونكشط، " منه النهار فإذا هم مظلمون "، داخلون في الظلمة، ومعناه: نذهب بالنهار ونجيء بالليل، وذلك أن الأصل هي الظلمة، والنهار داخل عليها، فإذا غربت الشمس سلخ النهار من الليل، فتظهر الظلمة.
38. " والشمس تجري لمستقر لها "، أي: إلى مستقر لها، أي: إلى انتهاء سيرها عند انقضاء الدنيا وقيام الساعة. وقيل: إنها تسير حتى تنتهي إلى أبعد مغاربها، ثم ترجع فذلك مستقرها لأنها لا تجاوزه. وقيل: مستقرها نهاية ارتفاعها في السماء في الصيف، ونهاية هبوطها في الشتاء، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " مستقرها تحت العرش ". أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن اسماعيل ، حدثنا الحميدي ، حدثنا وكيع ، حدثنا الأعمش ، عن إبراهيم التيمي ، عن أبيه عن أبي ذر قال:" سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله عز وجل: " والشمس تجري لمستقر لها "، قال: مستقرها تحت العرش" . أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا الحميدي ، أخبرنا وكيع ، حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن أبيه، عن أبي ذر قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر حين غربت الشمس: أتدري أين تذهب؟قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش، فتستأذن فيؤذن لها ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها، وتستأذن فلا يؤذن لها، فيقال لها: ارجعي من حيث جئت فتطلع من مغربها، فذلك قوله تعالى: " والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم "". وروى عمرو بن دينار عن ابن عباس: (( والشمس تجري لا مستقر لها )) وهي قراءة ابن مسعود، أي: لا قرار لها ولا وقوف فهي جارية أبداً " ذلك تقدير العزيز العليم ".
39. " والقمر قدرناه منازل " أي: قدرنا له منازل، قرأ ابن كثير ، و نافع ، وأهل البصرة: (( القمر )) برفع الراء لقوله: " وآية لهم الليل نسلخ منه النهار "، وقرأ الآخرون بالنصب لقوله: (( قدرناه )) أي: قدرنا القمر، " منازل "، وقد ذكرنا أسامي المنازل في سورة يونس، فإذا صار القمر إلى آخر المنازل دق فذلك قوله: " حتى عاد كالعرجون القديم "، والعرجون: [عود العذق] الذي عليه الشماريخ، فإذا قدم وعتق يبس وتقوس واصفر، فشبه القمر في دقته وصفرته في آخر المنازل به.
40. " لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر "، أي: لا يدخل النهار على الليل قبل انقضائه، ولا يدخل الليل على النهار قبل انقضائه، وهو قوله تعالى: " ولا الليل سابق النهار "، أي: هما يتعاقبان بحساب معلوم لا يجيء أحدهما قبل وقته. وقيل: لا يدخل أحدهما في سلطان الآخر، لا تطلع الشمس بالليل ولا يطلع القمر بالنهار وله ضوء، فإذا اجتمعا وأدرك كل واحد منهما صاحبه قامت القيامة. وقيل:" لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر " أي: لا تجتمع معه في فلك واحد، (( ولا الليل سابق النهار )) أي: لا يتصل ليل بليل لا يكون بينهما نهار فاصل. " وكل في فلك يسبحون "، يجرون.
41. " وآية لهم أنا حملنا ذريتهم "، قرأ أهل المدينة والشام، و يعقوب : (( ذرياتهم )) جمع، وقرأ الآخرون: (( ذريتهم )) على التوحيد، فمن جمع كسر التاء، ومن لم يجمع نصبها، والمراد بالذرية: الآباء والأجداد، واسم الذرية يقع على الآباء كما يقع على الأولاد، " في الفلك المشحون "، أي: المملوء، وأراد سفينة نوح عليه السلام، وهؤلاء من نسل من حمل مع نوح، وكانوا في أصلابهم.
42. " وخلقنا لهم من مثله ما يركبون "، قيل: أراد به السفن الصغار التي عملت بعد سفينة نوح على هيئتها. وقيل: أراد به السفن التي تجري في الأنهار، فهي في الأنهار كالفلك الكبار في البحار، وهذا قول قتادة ، و الضحاك وغيرهما. وروي عن ابن عباس أنه قال: (( وخلقنا لهم من مثله ما يركبون ))، يعني: الإبل، فالإبل في البر كالسفن في البحر.
" وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ "، أي: لا مغيث، " لهم ولا هم ينقذون "، ينجون من الغرق. وقال ابن عباس: ولا أحد ينقذهم من عذابي.
44. " إلا رحمةً منا ومتاعاً إلى حين "، إلى انقضاء آجالهم، يعني: إلا أن يرحمهم ويمتعهم إلى لآجالهم.
45. " وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم "، قال ابن عباس: (( ما بين أيديكم )) يعني الآخرة، فاعملوا لها، (( وما خلفكم )) يعني الدنيا، فاحذروها، ولا تغتروا بها. وقيل: (( ما بين أيديكم )) وقائع الله فيمن كان قبلكم من الأمم، (( وما خلفكم )) عذاب الآخرة، وهو قول قتادة و مقاتل . " لعلكم ترحمون "، والجواب محذوف تقديره: إذا قيل لهم هذا أعرضوا عنه، دليله ما بعده:
46. " وما تأتيهم من آية من آيات ربهم "، أي: دلالة على صدق محمد صلى الله عليه وسلم، " إلا كانوا عنها معرضين ".
47. " وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله "، أعطاكم الله، " قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم "، أنرزق، " من لو يشاء الله أطعمه "، وذلك أن المؤمنين قالوا لكفار مكة: أنفقوا على المساكين مما زعمتم من أموالكم أنه لله، وهو ما جعلوا لله من حروثهم وأنعامهم، قالوا: أنطعم، أنرزق من لو يشاء الله رزقه، ثم لم يرزقه مع قدرته عليه، فنحن نوافق مشيئة الله فلا نطعم من لم يطعمه الله، وهذا مما يتمسك به البخلاء، يقولون: لا نعطي من حرمه الله. وهذا الذي يزعمون باطل، لأن الله أغنى بعض الخلق وأفقر بعضهم ابتلاءً، فمنع الدنيا من الفقير لا بخلاً، وأمر الغني بالإنفاق لا حاجةً إلى ماله، ولكن ليبلو الغني بالفقير فيما فرض له في مال الغني، ولا اعتراض لأحد على مشيئة الله وحكمه في خلقه، " إن أنتم إلا في ضلال مبين "، يقول الكفار للمؤمنين: ما أنتم إلا في خطا بين في اتباعكم محمداً صلى الله عليه وسلم وترك ما نحن عليه.
48. " ويقولون متى هذا الوعد "، أي: القيامة والبعث، " إن كنتم صادقين ".
49. قال الله تعالى: " ما ينظرون "، أي: ما ينتظرون، " إلا صيحةً واحدةً "، قال ابن عباس: يريد النفخة الأولى، " تأخذهم وهم يخصمون "، يعني: يختصمون في أمر الدنيا من البيع والشراء، ويتكلمون في المجال والأسواق. قرأ حمزة: (( يخصمون )) بسكون الخاء وتخفيف الصاد، أي: يغلب بعضهم بعضاً بالخصام، وقرأ الآخرون بتشديد الصاد، أي: يختصمون. أدغمت التاء في الصاد، ثم ابن كثير و يعقوب وورش يفتحون الخاء بنقل حركة التاء المدغمة إليها، ويجزمها أبو جعفر وقالون، ويروم فتحة الخاء أبو عمرو، وقرأ الباقون بكسر الخاء. وروينا أن النبي صلى الله عليه وسلم: " لتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه، ولتقومن الساعة وقد رفع الرجل أكلته إلى فيه فلا يطعمها ".
50. قوله عز وجل: " فلا يستطيعون توصيةً "، أي: لا يقدرون على الإيصاء. قال مقاتل : عجلوا عن الوصية فماتوا، " ولا إلى أهلهم يرجعون "، ينقلبون، والمعنى أن الساعة لا تمهلهم لشيء.
51. " ونفخ في الصور "، وهي النفخة الأخيرة نفخة البعث، وبين النفختين أربعون سنة، " فإذا هم من الأجداث "، يعني: القبور، واحدها: جدث، " إلى ربهم ينسلون "، يخرجون من القبور أحياء، ومنه قيل للولد: نسل لخروجه من بطن أمه.
52. " قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا "، قال أبي بن كعب، وابن عباس، و قتادة : إنما يقولون هذا لأن الله تعالى يرفع عنهم العذاب بين النفختين، فيرقدون فإذا بعثوا بعد النفخة الأخيرة وعاينوا القيامة دعوا بالويل. وقال أهل المعاني: إن الكفار إذا عاينوا جهنم وأنواع عذابها صار عذاب القبر في جنبها كالنوم، فقالوا: يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا؟ ثم قالوا: " هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون " [أقروا حين لم ينفعهم الإقرار. وقيل: قالت الملائكة لهم: (( هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون ))]. قال مجاهد : يقول الكفار: (( من بعثنا من مرقدنا ))؟ فيقول المؤمنون: (( هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون )).
53. " إن كانت "، " إلا صيحةً واحدةً "، يعني: النفخة الآخرة، " فإذا هم جميع لدينا محضرون ".
54. " فاليوم لا تظلم نفس شيئاً ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون ".
55. " إن أصحاب الجنة اليوم في شغل "، قرأ ابن كثير و نافع و أبو عمرو (( في شغل ))، بسكون الغين، والباقون بضمها، وهما لغتان، مثل السحت والسحت. واختلفوا في معنى الشغل، قال ابن عباس: في افتضاض الأبكار، وقال وكيع بن الجراح : في السماع. وقال الكلبي : في شغل عن أهل النار وعما هم فيه لا يهمهم أمرهم ولا يذكرونهم. وقال الحسن : شغلوا بما في الجنة من النعيم عما فيه أهل النار من العذاب. وقال ابن كيسان : في زيارة بعضهم بعضاً. وقيل: في ضيافة الله تعالى. " فاكهون "، قرأ أبو جعفر : (( فكهون )) حيث كان، وافقه حفص في المطففين، وهما لغتان مثل: الحاذر والحذر، أي: ناعمون. قال مجاهد و الضحاك : معجبون بما هم فيه. وعن ابن عباس قال: فرحون.
56. " هم وأزواجهم "، أي: حلائلهم، " في ظلال "، قرأ حمزة و الكسائي : (( ظلل )) بضم الظاء من غير ألف، جمع ظله، وقرأ العامة: (( في ظلال )) بالألف وكسر الظاء على جمع ظل، " على الأرائك "، يعني السرر في الحجال، واحدتها: أريكة. قال ثعلب : لا تكون أريكة حتى يكون عليها حجلة. " متكئون "، ذوو اتكاء.
57. " لهم فيها فاكهة ولهم ما يدعون "، يتمنون ويشتهون.
58. " سلام قولاً من رب رحيم "، أي: يسلم الله عليهم قولاً، أي: يقول الله لهم قولاً. أخبرنا أبو سعيد أحمد بن إبراهيم الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي ، أخبرنا عبد الخالق بن علي بن عبد الخالق المؤذن ، حدثني أبو بكر أحمد بن محمد بن موسى الملحمي الأصفهاني ، أخبرنا الحسن بن أبي علي الزعفراني ، أخبرنا ابن أبي الشوارب ، أخبرنا أبو عاصم العباداني ، أخبرنا الفضل الرقاشي ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور فرفعوا رؤوسهم، فإذا الرب عز وجل قد أشرف عليهم من فوقهم، فقال: السلام عليكم يا أهل الجنة، فذلك قوله: " سلام قولا من رب رحيم "، فينظر إليهم وينظرون إليه، فلا يلتفتون إلي شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم فيبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم ". وقيل: تسلم عليهم الملائكة من ربهم. قال مقاتل : تدخل الملائكة على أهل الجنة من كل باب يقولون: سلام عليكم يا أهل الجنة من ربكم الرحيم. وقيل: يعطيهم السلامة، يقول: اسلموا السلامة الأبدية.
59. " وامتازوا اليوم أيها المجرمون "، قال مقاتل : اعتزلوا اليوم من الصالحين. قال أبو العالية : تميزوا. وقال السدي : كونوا على حدة. وقال الزجاج : انفردوا عن المؤمنين. قال الضحاك : إن لكل كافر في النار بيتاً يدخل ذلك البيت ويردم بابه بالنار فيكون فيه أبد الآبدين، لا يرى ولا يرى.
60. " ألم أعهد إليكم يا بني آدم "، ألم آمركم يا بني آدم، " أن لا تعبدوا الشيطان "، أي: لا تطيعوا الشيطان في معصية الله، " إنه لكم عدو مبين "، ظاهر العداوة.
61. " وأن اعبدوني "، أطيعوني ووحدوني، " هذا صراط مستقيم ".
62. " ولقد أضل منكم جبلاً كثيراً "، قرأ أهل المدينة، وعاصم: (( جبلاً )) بكسر الجيم والباء وتشديد اللام، وقرأ يعقوب : (( جبلاً )) بضم الجيم والباء وتشديد اللام، وقرأ ابن عامر، وأبو عمرو، بضم الجيم ساكنة الباء خفيفة، وقرأ الآخرون بضم الجيم والباء خفيفة، وكلها لغات، ومعناها: الخلق والجماعة أي: خلقاً كثيراً، " أفلم تكونوا تعقلون "، ما أتاكم من هلاك الأمم الخالية بطاعة إبليس، ويقال لهم لما دنوا من النار:
63. "هذه جهنم التي كنتم توعدون "، بها في الدنيا،
64. " اصلوها "، ادخلوها، " اليوم بما كنتم تكفرون "
65. " اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون "، هذا حين ينكر الكفار كفرهم وتكذيبهم الرسل، فيختم على أفواههم وتشهد عليهم جوارحهم. أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أبو الحسن محمد بن عمرو بن حفصويه السرخسي ، سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة، أخبرنا أبو يزيد حاتم بن محبوب ، أخبرنا عبد الجبار بن العلاء ، أخبرنا سفيان، عن سهيل عن أبي صالح ، عن أبيه عن أبي هريرة قال:" سأل الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يارسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال: هل تضارون في رؤية الشمس في الظهيرة ليست في سحاب ؟ قالوا: لا، يارسول الله، قال:فهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ليس في سحابة ؟ قالوا: لا، قال: فوالذي نفسي بيده لا تضارون في رؤية ربكم كما لا تضارون في رؤية أحدهما ، قال: فيلقى العبد فيقول أي عبدي ألم أكرمك؟ ألم أسودك، ألم أزوجك، ألم أسخر لك الخيل والإبل وأذرك تترأس وتتربع؟ قال: بلى يارب قال: فظنت أنك ملاقي؟ قال: لا، قال: فاليوم أنساك كما نسيتني، قال: فيلقى الثاني فيقول: ألم أكرمك، ألم أسودك، ألم أزوجك، ألم أسخر لك الخيل والإبل وأتركك تترأس وتتربع؟ - وقال غيره عن سفيان ترأس وتربع في الموضعين - قال: فيقول: بلى يارب، فيقول: ظننت أنك ملاقي؟ فيقول: لا يارب قال: فاليوم أنساك كما نسيتني ثم يلقى الثالث، فيقول؟ ما أنت؟ فيقول: أنا عبدك آمنت بك وبنبيك وبكتابك وصليت وصمت وتصدقت ويثني بخير ما استطاع، فيقال له: ألم نبعث عليك شاهدنا؟ قال: فيتفكر في نفسه من الذي يشهد علي، فيختم على فيه، ويقال لفخذه: انطقي قال: فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بما كان يعمل وذلك المنافق وذلك ليعذر من نفسه، وذلك الذي سخط الله عليه ". أخبرنا أبو سعيد عبد الله بن أحمد الطاهري ، أخبرنا جدي أبو سهل عبد الصمد بن عبد الرحمن البزاز ، أخبرنا محمد بن زكريا العذافري ، أخبرنا إسحاق بن إبراهيم الدبري ، أخبرنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن بهز بن حكيم بن معاوية، عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إنكم تدعون فيقدم على أفواهكم بالفدام فأول ما يسأل عن أحدكم فخذه وكفه ". أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أخبرنا عبد الغافر بن محمد ، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي ، أخبرنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، أخبرنا مسلم بن الحجاج، أخبرنا أبو بكر بن أبي النضر ، حدثني هاشم بن القاسم، أخبرنا عبد الله الأشجعي ، عن سفيان الثوري ، عن عبيد المكتب ، عن فضيل ، عن الشعبي ، عن أنس بن مالك قال: " كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك فقال: هل تدرون مم أضحك؟ قال: قلنا الله ورسوله أعلم، قال: من مخاطبة العبد ربه، يقول: يارب ألم تجرني من الظلم؟ قال: فيقول: فإني لا أجير على نفسي إلا شاهداً مني، قال: فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيداً وبالكرام الكاتبين شهوداً، قال: فيختم على فيه، فيقال لأركانه: انطقي، قال: فتنطق بأعماله، قال: ثم يخلى بينه وبين الكلام، بعداً لكن وسحقاً فعنكن كنت أناضل ".
66. قوله عز وجل: " ولو نشاء لطمسنا على أعينهم "، [أي: أذهبنا أعينهم] الظاهرة بحيث لا يبدو لها جفن ولا شق، وهو معنى اغلطمس كما قال الله عز وجل: " ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم " (البقرة-20) يقول: كما أعمينا قلوبهم لو شئنا أعمينا أبصارهم الظاهرة، " فاستبقوا الصراط "، فتبادروا إلى الطريق، " فأنى يبصرون " فكيف يبصرون [وقد أعمينا أعينهم؟ يعني: لو نشاء لأضللنهام عن الهدى، وتركناهم عمياً يترددون، فكيف يبصرون] الطرق حينئذ؟ هذا قول الحسن و السدي، وقال ابن عباس، و قتادة ، و مقاتل ، و عطاء : معناه لو نشاء لفقأنا أعين ضلالتهم، فأعميناهم عن غيهم، وحولنا أبصارهم من الضلالة إلى الهدى، فأبصروا رشدهم " فأنى يبصرون " ولم أفعل ذلك بهم؟.
67. " ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم "، يعني: مكانهم، يريد: لو نشاء لجعلناهم قردة وخنازير في منازلهم، وقيل: لو نشاء لجعلناهم حجارة، وهم قعود في منازلهم لا أرواح لهم. " فما استطاعوا مضياً ولا يرجعون "، إلى ما كانوا عليه، وقيل: لا يقدرون على ذهاب ولا رجوع.
68. " ومن نعمره ننكسه في الخلق " قرأ عاصم، و حمزة : (( ننكسه )) بالتشديد، وقرأ الآخرون بفتح النون الأولى وضم الكاف مخففاً، أي: نرده إلى أرذل العمر شبه الصبي في أول الخلق. وقيل: (( ننكسه في الخلق )) أي: نضعف جوارحه بعد قوتها ونردها إلى نقصانها بعد زيادتها. " أفلا يعقلون "، فيعتبروا ويعلموا أن الذي قدر على تصريف أحوال الإنسان يقدر على البعث بعد الموت.
69. قوله تعالى: " وما علمناه الشعر وما ينبغي له "، قال الكلبي : إن كفار مكة قالوا: إن محمداً شاعر، وما يقوله شعر، فأنزل الله تكذيباً لهم: " وما علمناه الشعر وما ينبغي له "، أي: ما يتسهل له ذلك، وما كان يتزن له بيت من شعر، حتى إذا تمثل ببيت شعر جرى على لسانه منكسراً. أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرني الحسن بن محمد الثقفي ، حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان ، حدثنا يوسف بن عبد الله بن ماهان ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد، عن الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتمثل بهذا البيت: كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهياً فقال أبو بكر يا رسول الله إنما قال الشاعر: كفى الشيب والإسلام للمرء ناهياً [ و رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهياً ، فقال ابو بكر وعمر: أشهد أنك رسول الله، يقول الله تعالى: " وما علمناه الشعر وما ينبغي له ". أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن شريح ، أخبرنا أبو القاسم البغوي ، أخبرنا علي بن الجعد ، حدثنا شريك، عن المقدام بن شريح، عن أبي قال: قلت لعائشة: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل بشيء من الشعر؟ قالت: كان يتمثل من شعر عبد الله بن رواحة. قالت: وربما قال: ويأتيك بالأخبار من لم تزود وقال معمر عن قتادة : بلغني أن "عائشة سئلت: هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يتمثل بشيء من الشعر؟ قالت: كان الشعر أبغض الحديث إليه، قالت: ولم يتمثل بشيء من الشعر إلا ببيت أخي بني قيس، طرفة: ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ويأتيك بالأخبار من لم تزود فجعل يقول: (( ويأتيك من لم تزود بالأخبار )) فقال أبو بكر رضي الله عنه: ليس هكذا يا رسول الله، فقال: إني لست بشاعر ولا ينبغي لي ". " إن هو "، يعني: القرآن، " إلا ذكر "، موعظكة، " وقرآن مبين "، فيه الفرائض والحدود والأحكام.
70. " لينذر "، قرأ أهل المدينة والشام و يعقوب (( لتنذر )) بالتاء وكذلك في الأحقاف [وافق ابن كثير في الأحقاف]، أي: لتنذر يا محمد، وقرأ الآخرون بالياء، أي: لينذر القرآن، " من كان حياً "، يعني: مؤمناً حي القلب، لأن الكافر كالميت في أنه لا يتدبر ولا يتفكر، " ويحق القول "، ويجب حجة العذاب " على الكافرين ".
71. قوله عز وجل: " أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا "، تولينا خلقه بإبداعنا من غير إعانة أحد، " أنعاماً فهم لها مالكون "، ضابطون قاهرون، أي: لم يخلق الأنعام وحشية نافرة من بني آدم لا يقدرون على ضبطها، بل هي مسخرة لهم.
72. وهي قوله: " وذللناها لهم "، سخرناها لهم، " فمنها ركوبهم "، أي: ما يركبون وهي الإبل، " ومنها يأكلون "، من لحمانها.
73. " ولهم فيها منافع "، من أصوافها وأوبارها وأشعارها ونسلها، " ومشارب "، من ألبانها، " أفلا يشكرون "، رب هذه ا لنعم.
74. " واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون "، يعني: لتمنعهم من عذاب الله، ولا يكون ذلك قط.
75. " لا يستطيعون نصرهم "، قال ابن عباس: لا تقدر الأصنام على نصرهم ومنعهم من العذاب. " وهم لهم جند محضرون "، أي: الكفار جند للأصنام يغضبون لها ويحضرونها في الدنيا، وهي لا تسوق إليهم خيراً، ولا تستطيع لهم نصراً. وقيل: هذا في الآخرة، يؤتى بكل معبودمن دون الله تعالى ومعه أتباعه الذين عبدوه كأنهم جند محضرون في النار.
76. " فلا يحزنك قولهم "، يعني: قول كفار مكة في تكذيبك، " إنا نعلم ما يسرون "، في ضمائرهم منالتكذيب، و " وما يعلنون "، من عبادة الأصنام أو ما يعلنون بألسنتهم من الأذى.
77. قوله تعالى: " أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم "، جدل بالباطل، " مبين "، بين الخصومة، يعني: إنه مخلوق من نطفة ثم يخاصم، فكيف لا يتفكر في بدء خلقه حتى يدع الخصومة. " نزلت في أبي بن خلف الجمحي خاصم النبي صلى الله عليه وسلم في إنكار البعث، وأتاه بعظم قد بلي ففتته بيده، وقال: أترى يحيي الله هذا بعد ما رم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم ويبعثك ويدخلك النار، فأنزل الله هذه الآيات".
78. " وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه "، بدء أمره، ثم " قال من يحيي العظام وهي رميم "، بالية، ولم يقل رميمة، لأنه معدول عن فاعلة، وكل ما كان معدولاً عن وجهه ووزنه كان مصروفاً عن أخواته، كقوله: " وما كانت أمك بغياً " (مريم-28)، أسقط الهاء لأنها كانت مصروفة عن باغية.
79. " قل يحييها الذي أنشأها "، خلقها، " أول مرة وهو بكل خلق عليم ".
80. " الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً "، قال ابن عباس: هما شجرتان يقال لأحدهما: المرخ وللأخرى: العفار، فمن أراد منهم النار قطع منها غصنين مثل السواكين وهما خضراوان يقطر منهما الماء، فيسحق المرخ على العفار فيخرج منهما النار بإذن الله عز وجل. تقول العرب: في كل شجر نار واستمجد المرخ والعفار، وقال الحكماء: في كل شجر ناء إلا العناب. " فإذا أنتم منه توقدون "، أي: تقدحون وتوقدون النار من ذلك الشجر، ثم ذكر ما هو أعظم من خلق الإنسان،
81.فقال: " أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر "، قرأ يعقوب : (( يقدر )) بالياء على الفعل، " على أن يخلق مثلهم بلى "، أي: قل: بلى، هو قادر على ذلك، " وهو الخلاق "، [يخلق خلقاً بعد خلق]، " العليم " بجميع ما خلق.
82. "إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون ".
83. " فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون ". أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي ، أخبرنا أبو الطاهر الزيادي ، أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان ، حدثنا عن علي بن الحسين الدارابجردي ، حدثنا عبد الله بن عثمان ، أخبرنا عبد الله بن المبارك ، عن سليمان التيمي ، عن أبي عثمان - وليس بالنهدي - عن معقل بن يسار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اقرؤوا على موتاكم سورة يس "، ورواه محمد بن العلاء عن ابن المبارك ، وقال: عن أبي عثمان وليس بالنهدي عن أبيه عن معقل بن يسار.