islamkingdomfaceBook islamkingdomtwitter islamkingdominstagram islamkingdomyoutube islamkingdomnew

فتح القدير
15915

19-مريم

كهيعص

هي مكية وآياتها ثمان وتسعون آية أخرج النحاس وابن مردويه عن ابن عباس قال: أنزلت بمكة سورة "كهيعص". وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير قال: نزلت سورة مريم بمكة. وأخرج ابن مردويه عن عائشة مثله. وأخرج أحمد وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن أم سلمة أن النجاشي قال لجعفر بن أبي طالب: هل معك مما جاء به: يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله شيء؟ قال: نعم، فقرأ عليه صدراً من "كهيعص" فبكى النجاشي حتى أخضل لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم، ثم قال النجاشي: إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة. وقد ذكر ابن إسحاق القصة بطولها. قوله 1- "كهيعص" قرأ أبو جعفر هذه الحروف مقطعة، ووصلها الباقون، وأمال أبو عمرو الهاء وفتح الباء، وعكس ذلك ابن عامر وحمزة، وأمالها جميعاً الكسائي وأبو بكر وخلف، وقرأهما بين اللفظين أهل المدينة وفتحهما الباقون. وعن خارجة أن الحسن كان يضم كاف، وحكى عن غيره أنه كان يضم ها. وقال أبو حاتم: لا يجوز ضم الكاف ولا الهاء ولا الياء. قال النحاس: قراءة أهل المدينة من أحسن ما في هذا، والإمالة جائزة في ها وفي يا وقد اعترض على قراءة الحسن جماعة. وقيل في تأويلها أنه كان يشم الرفع فقط. وأظهر الدال من هجاء صاد نافع وأبو جعفر وابن كثير وعاصم ويعقوب، وهو اختيار أبو عبيدة وأدغمهما الباقون. وقد قيل في توجيه هذه القراءات أن التفخيم هو الأصل، والإمالة فرع عنه، فمن قرأ بتفخيم الهاء والياء فقد عمل بالأصل، ومن أمالهما فقد عمل بالفرع، ومن أمال أحدهما وفخم الآخر فقد عمل بالأمرين، وقد تقدم الكلام في هذه الحروف الواقعة في فواتح السورة مستوفى في أوائل سورة البقرة، ومحل هذه الفاتحة إن جعلت اسماً للسورة على ما عليه الأكثر الرفع على أنها مبتدأ خبرها ما بعدها، قاله الفراء. واعترضه الزجاج فقال: هذا محال لأن كهيعص ليس هو مما أنبأنا الله عز وجل به عن زكرياء، وقد أخبر الله تبارك وتعالى عنه وعما بشر به، وليس كهيعص من قصته، أو على أنها خبر مبتدأ محذوف، وإن جعلت مسرودة على نمط التعديد.

ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا

فقوله: 2- "ذكر رحمة ربك" خبر لمبتدأ محذوف، وإن جعلت مسرودة على نمط التعديد، فقوله: "ذكر رحمة ربك" خبر لمبتدإ محذوف: أي هذا ذكر رحمة ربك. " عبده زكريا " يعني إجابته إياه حين دعاه وسأله الولد، وانتصاب عبده على أنه مفول للرحمة قاله الأخفش. وقيل للذكر. ومعنى ذكر الرحمة بلوغها وإصابتها، كما يقال ذكرني معروف فلان: أي بلغني. وقرأ يحيى بن يعمر ذكر بالنصب، وقرأ أبو العالية عبده بالرفع على أن المصدر مضاف إلى المفعول، وفاعل الذكر هو عبده، وزكرياء على القراءتين عطف بيان له أو بدل منه، وقرأ الكلبي ذكر على صيغة الفعل الماضي مشدداً ومخففاً على أن الفاعل عبده، وقرأ ابن معمر على الأمر، وتكون الرحمة على هذا عبارة عن زكرياء، لأن كل نبي رحمة لأمته.

إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا

3- "إذ نادى ربه نداءً خفياً" العامل في الظرف رحمة، وقيل ذكر، وقيل هو بدل اشتمال من زكرياء، واختلف في وجه كون ندائه هذا خفياً، فقيل لأنه أبعد عن الرياء، وقيل أخفاه، لئلا يلام على طلبه للولد في غير وقته، ولكونه من أمور الدنيا، وقيل أخفاه مخافة من قومه، وقيل كان ذلك منه لكونه قد صار ضعيفاً هرماً لا يقدر على الجهر.

قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا

4- "قال رب إني وهن العظم مني" هذه الجملة مفسرة لقوله: نادي ربه، يقال وهن يهن وهناً إذا ضعف فهو واهن، وقرئ بالحركات الثلاث، أراد أن عظامه فترت وضعفت قوته، وذكر العظم، لأن عمود البدن، وبه قوامه، وهو أصل بنائه، فإذا وهن تداعي وتساقطت قوته ولأن أشد ما في الإنسان صلبه، فإذا وهن كان ما وراءه أوهن، ووحد العظم قاصداً إلى الجنس المفيد لشمول الوهن لكل فرد من أفراد العظام "واشتعل الرأس شيباً" قرأ أبو عمرو بإدغام السين في الشين، والباقون بعدمه، والاشتعال في الأصل انتشار شعاع النار، فشبه به انتشار بياض شعر الرأس في سواده بجامع البياض والإنارة، ثم أخرجه مخرج الإستعارة بالكناية، بأن حذف المشبه به وأداة التشبيه، وهذه الاستعارة من أبدع الاستعارات وأحسنها. قال الزجاج: يقال للشيب إذا كثر جداً قد اشتعل رأس فلان، وأنشد للبيد: فإن ترى رأس أمسى واضحاً سلط الشيب عليه فاشتعل وانتصاب شيباً على التمييز قاله الزجاج. وقال الأخفش: انتصابه على المصدر، لأن معنى اشتعل شاب. قال النحاس: قول الأخفش أولى لأنه مشتق من فعل، والمصدرية أظهر فيما كان كذلك، وكان الأصل اشتعل شيب رأسي، فأسند الإشتعال إلى الرأس لإفادة الشمول "ولم أكن بدعائك رب شقياً" أي لم أكن بدعائي إياك خائباً في وقت من الأوقات، بل كلما دعوتك استجبت لي. قال العلماء: يستحب المرء أن يجمع في دعائه بين الخضوع، وذكر نعم الله عليه كما فعل زكرياء ها هنا، فإن في قوله: "وهن العظم مني واشتعل الرأس شيباً" غاية الخضوع والتذلل وإظهار الضعف والقصور عن نيل مطالبه، وبلوغ مآربه، وفي قوله: "ولم أكن بدعائك رب شقياً" ذكر ما عوده الله من الإنعام عليه بإجابة أدعيته، يقال شقي بكذا. أي تعب فيه ولم يحصل مقصوده منه.

وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا

5- "وإني خفت الموالي من ورائي" قرأ عثمان بن عفان ومحمد بن علي بن الحسين وأبوه علي ويحيى بن يعمر خفت بفتح الخاء وتشديد الفاء وكسر التاء وفاعله "الموالي" أي قلوا وعجزوا عن القيام بأمر الدين بعدي، أو انقطعوا بالموت، مأخوذاً من خفت القوم إذا ارتحلوا، وهذه القراءة شاذة بعيدة عن الصواب. وقرأ الباقون "خفت" بكسر الخاء وسكون الفاء على أن فاعله ضمير يعود إلى زكرياء، ومفعوله الموالي، ومن ورائي متعلق بمحذوف لا بخفت، وتقديره: خفت فعل الموالي من بعدي. قرأ الجمهور "ورائي" بالهمز والمد وسكون الياء، وقرأ ابن كثير بالهمز والمد وفتح الياء. وروي عنه أنه قرأ بالقصر مفتوح الياء، مثل عصاي، والموالي هنا هم الأقارب الذين يرثون وسائر العصبات من بني العم ونحوهم، والعرب تسمي هؤلاء موالي، قال الشاعر: مهلاً بني عمنا مهلاً موالينا لا تنشروا بيننا ما كان مدفوناً قيل الموالي الناصرون له. واختلفوا في وجه المخالفة من زكرياء لمواليه من بعده، فقيل خاف أن يرثوا ماله، وأراد أن يرثه ولده، فطلب من الله سبحانه أن يرزقه ولداً. وقال آخرون: إنهم كانوا مهملين لأمر الدين. فخاف أن يضيع الدين بموته، فطلب ولياً يقوم به بعد موته. وهذا القول أرجح من الأول لأن الأنبياء لا يورثون وهو أجل من أن يعتنوا بأمور الدنيا، فليس المراد هنا وارثة المال، بل المراد وارثة العلم والنبوة والقيام بأمر الدين وقد ثبت عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة"، "وكانت امرأتي عاقراً" العاقر: هي التي لا تلد لكبر سنها، والتي لا تلد أيضاً لغير كبر وهي المرادة هنا، ويقال للرجل الذي لا يلد عاقراً أيضاً، ومنه قول عامر بن الطفيل: لبئس الفتى إن كنت أعور عاقراً قال ابن جرير: وكان اسم امرأته أشاع بنت فاقود بن ميل، وهي أخت حنة، وحنة هي أم مريم. وقال القتيبي: هي أشاع بنت عمران، فعلى القول يكون يحيى بن زكرياء ابن خالة أم عيسى، وعلى القول الثاني يكونان ابني خالة كما ورد في الحديث الصحيح "فهب لي من لدنك ولياً" أي أعطني من فضلك ولياً، ولم يصرح بطلب الولد لما علم من نفسه بأنه قد صار هو وامرأته في حالة لا يجوز فيها حدوث الولد بينهما وحصوله منهما. وقد قيل إنه كان ابن بضع وتسعين سنة، وقيل بل أراد بالولي الذي طلبه هو الولد، ولا مانع من سؤال ما كان مثله لما هو خارق للعادة، فإن الله سبحانه قد يكرم رسله بما يكون كذلك، فيكون من جملة المعجزات الدالة على صدقهم.

يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا

6- "يرثني ويرث من آل يعقوب" قرأ أهل الحرمين والحسن وعاصم وحمزة وابن محيصن ويحيى بن المبارك اليزيدي بالرفع في الفعلين جميعاً على أنهما صفتان للولي وليسا بجواب للدعاء. وقرأ يحيى بن يعمر وأبو عمرو ويحيى بن وثاب والأعمش والكسائي بالجزم فيهما على أنهما جواب للدعاء. ورجح القراءة الأولى أبو عبيد وقال: هي أصوب في المعنى، لأنه طلب ولياً هذه صفته فقال: هب لي الذي يكون وارثي. ورجح ذلك النحاس وقال: لأن جواب الأمر عند النحويين فيه معنى الشرط والمجازاة، تقول أطع الله يدخلك الجنة: أي إن تطعه يدخلك الجنة، وكيف يخبر الله سبحانه بهذا، أعني كونه أن يهب له ولياً يرثه، وهو أعلم بذلك، والوراثة هنا هي وراثة العلم والنبوة على ما هو الراجح كما سلف. وقد ذهب أكثر المفسرين إلى أن يعقوب المذكور هنا هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم. وزعم بعض المفسرين أنه يعقوب بن ماثان أخو عمران بن ماثان، وبه قال الكلبي ومقاتل، وآل يعقوب هم خاصته الذين يؤول أمرهم إليه للقرابة أو الصحبة أو الموافقة في الدين، وقد كان فيهم أنبياء وملوك، وقريء يرثني وارث من آل يعقوب على أنه فاعل يرثني. وقرئ وأرث آل يعقوب أي أنا. وقرئ أو يرث آل يعقوب بلفظ التصغير على أن هذا المصغر فاعل يرثني، وهذه القراءات في غاية الشذوذ لفظاً ومعنى "واجعله رب رضياً" أي مرضياً في أخلاقه وأفعاله، وقيل راضياً بقضائك وقدرك، وقيل رجلاً صالحاً ترضى عنه، وقيل نبياً كما جعلت آباءه أنبياء.

يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا

7- " يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى " قال جمهور المفسرين: إن هذا النداء من الله سبحانه، وقيل إنه من جهة الملائكة، لقوله في آل عمران "فنادته الملائكة"، وفي الكلام حذف: أي فاستجاب له دعاءه، فقال يا زكرياء، وقد تقدم في آل عمران وجه التسمية بيحيى وزكرياء. قال الزجاج: سمي يحيى لأنه حيي بالعلم والحكمة التي أوتيها "لم نجعل له من قبل سمياً" قال أكثر المفسرين: معناه لم نسم أحداً قبله يحيى. وقال مجاهد وجماعة: معنى "لم نجعل له من قبل سمياً" أنه لم يجعل له مثلاً ولا نظيراً، فيكون على هذا مأخوذ من المساماة أو السمو، ورد هذا بأنه يقتضي تفضيله على إبراهيم وموسى، وقيل معناه: لم تلد عاقر مثله، والأول أولى. وفي إخباره سبحانه بأنه لم يسم بهذا الاسم قبله أحد فضيلة له من جهتين: الأولى أن الله سبحانه هو الذي تولى تسميته به، ولم يكلها إلى الأبوين. والجهة الثانية أن تسميته باسم لم يوضع لغيره يفيد تشريفه وتعظيمه.

قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا

8- "قال رب أنى يكون لي غلام" أي كيف أو من أي لي غلام؟ وليس معنى هذا الاستفهام الإنكار، بل التعجب من قدرة الله وبديع صنعه، حيث يخرج ولداً من امرأة عاقر وشيخ كبير، وقد تقدم الكلام على مثل هذا في آل عمران "وقد بلغت من الكبر عتياً" يقال عتا الشيخ يعتو عتياً إذا انتهى سنه وكبر، وشيخ عات إذا صار إلى حال اليبس والجفاف، والأصل عتواً لأنه من ذوات الواو فأبدلوه ياء لكونها أخف، ومثل ما في الآية قول الشاعر: إنما يعذر الوليد ولا يعـ ـذر من كان في الزمان عتيا وقرأ يحيى بن وثاب وحمزة والكسائي وحفص والأعمش "عتياً" بكسر العين، وقرأ الباقون بضم العين وهما لغتان، ومحل جملة "وكانت امرأتي عاقرا" النصب على الحال من ضمير المتكلم، ومحل جملة "وقد بلغت من الكبر عتياً" النصب أيضاً على الحال، وكلا الجملتين لتأكيد الاستبعاد والتعجب المستفاد من قوله: "أنى يكون لي غلام" أي كيف يحصل بيننا ولد الآن، وقد كانت امرأتي عاقراً لم تلد في شبابها وشبابي وهي الآن عجوز، وأنا شيخ هرم؟

قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا

ثم أجاب الله سبحانه على هذا السؤال المشعر بالتعجب والاستبعاد بقوله: 9- "قال كذلك قال ربك" الكاف في محل رفع: أي الأمر كذلك، والإشارة إلى ما سبق من قول زكريا، ثم ابتدأ بقوله: "قال ربك" ويحتمل أن يكون محله النصب على المصدرية: أي قال قولاً مثل ذلك، والإشارة بذلك إلى مبهم يفسره قوله: "هو علي هين" وأما على الاحتمال الأول فتكون جملة "هو علي هين" مستأنفة مسوقة لإزالة استبعاد زكريا بعد تقريره: أي قال هو مع بعده عندك علي هين، وهو فيعل من هان الشيء يهون إذا لم يصعب ولم يمتنع من المراد. قال الفراء: أي خلقه علي هين "وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئاً" هذه الجملة مقررة لما قبلها. قال الزجاج: أي فخلق الولد لك كخلقك، والمعنى: أن الله سبحانه خلقه ابتداءً وأوجده من العدم المحض، فإيجاد الولد له بطريق التوالد المعتاد أهون من ذلك وأسهل منه، وإنما لم ينسب ذلك إلى آدم عليه السلام لكونه المخلوق من العدم حقيقة بأن يقول: وقد خلقت أباك آدم من قبل ولم يك شيئاً، للدلالة على أن كل فرد من أفراد البشر له حظ من إنشاء آدم من العدم. قرأ أهل المدينة وأهل مكة والبصرة وعاصم وابن عامر "وقد خلقتك من قبل" وقرأ سائر الكوفيون " وقد خلقتك من قبل ".

قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا

10- "قال رب اجعل لي آية" أي علامة تدلني على وقوع المسؤول وتحققه وحصول الحبل، والمقصود من هذا السؤال تعريفه وقت العلوق حيث كانت البشارة مطلقة عن تعيينه. قال ابن الأنباري: وجه ذلك أن نفسه تاقت إلى سرعة الأمر. فسأل الله آية يستدل بها على قرب ما من به عليه، وقيل طلب آية تدل على أن البشرى من الله سبحانه لا من الشيطان، لأن إبليس أوهمه بذلك، كذا قال الضحاك والسدي وهو بعيد جداً " قال آيتك أن لا تكلم الناس ثلاث ليال سويا " قد تقدم تفسير هذا في آل عمران مستوفى، وانتصاب سوياً على الحال، والمعنى: آيتك أن لا تقدر على الكلام والحال أنك سوي الخلق ليس بك آفة قد تمنعك منه، وقد دل بذكر الليالي هنا والأيام في آل عمران أن المراد ثلاثة أيام ولياليهن.

فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا

11- "فخرج على قومه من المحراب" وهو مصلاه، واستقاقه من الحرب، كأن ملازمه يحارب الشيطان، وقيل من الحرب محركاً، كأن ملازمه يلقى حرباً وتعباً ونصباً "فأوحى إليهم أن سبحوا بكرةً وعشياً" قيل معنى أوحى: أومأ بدليل قوله في آل عمران "إلا رمزاً" وقيل كتب لهم في الأرض وبالأول قال الكلبي والقرظي وقتادة وابن منبه، وبالثاني قال مجاهد، وقد يطلق الوحي على الكتابة ومنه قول ذي الرمة: سوى الأربع الدهم اللواتي كأنها بقية وحي في بطون الصحائف وقال عنترة: كوحي صحائف من عهد كسرى فأهداها لأعجم طمطمي وأن في قوله: "أن سبحوا" مصدرية أو مفسرة، والمعنى: فأوحى إليهم بأن صلوا: أو أي صلوا، وانتصاب بكرة وعشياً على الظرفية. قال الفراء: العشي يؤنث، ويجوز تذكيره إذا أبهم. قال: وقد يقال العشي جمع عشية، قيل والمراد صلاة الفجر والعصر، وقيل المراد بالتسبيح هو قولهم سبحان الله في الوقتين: أي نزهوا ربكم طرفي النهار. وقد أخرج الفريابي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات والضياء في المختارة عن ابن عباس في قوله: "كهيعص" كبير هاد أمين عزيز صادق، وفي لفظ كاف بدل كبير. وأخرج عبد الرزاق وآدم بن أبي إياس وعثمان بن سعيد الدارمي في التوحيد، وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه، وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس "كهيعص" قال: كاف في كريم، وهاء من هاد، وياء من حكيم، وعين من عليم، وصاد من صادق. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود وناس من الصحابة "كهيعص" هو الهجاء المقطع، الكاف من الملك، والهاء من الله، والياء والعين من العزيز، والصاد من المصور. وأخرج ابن مردويه "عن الكلبي أنه سئل عن "كهيعص" فحدث عن أبي صالح عن أم هانئ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:كاف هاد عالم صادق". وأخرج عثمان بن سعيد الدارمي وابن ماجه وابن جرير عن فاطمة ابنة علي قالت: كان علي يقول يا كهيعص اغفر لي. وأخرج أبو الشيخ في العظمة وابن مردويه من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في "كهيعص" قال: الكاف الكافي، والهاء الهادي، والعين العالم، والصاد الصادق. وأخرج أبو عبيد وابن المنذر عن السدي قال: كان ابن عباس يقول في كهيعص وحم ويس وأشباه هذا: هو اسم الله الأعظم. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: هو قسم أقسم الله به، وهو من أسماء الله. وكما وقع الخلاف في هذا وأمثاله بين الصحابة وقع بين من بعدهم ولم يصح مرفوعاً في ذلك شيء، ومن روي عنه من الصحابة في ذلك شيء فقد روي عن غيره ما يخالفه، وقد يروى عن الصحابي نفسه التفاسير المتخالفة المتناقضة في هذه الفواتح فلا يقوم شيء من ذلك حجة، بل الحق الوقف، ورد العلم في مثلها إلى الله سبحانه، وقد قدمنا تحقيق هذا في فاتحة سورة البقرة. وأخرج أحمد وأبو يعلى والحاكم وصححه وابن مردويه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كان زكريا نجاراً". وأخرج الحاكم وصححه عن ابن مسعود قال: كان آخر أنبياء بني إسرائيل زكريا بن أزر بن مسلم من ذرية يعقوب دعا ربه سراً "قال رب إني وهن العظم مني" إلى قوله: "خفت الموالي" قال: وهم العصبة "يرثني" يرث نبوتي ونبوة آل يعقوب، فنادته الملائكة، وهو جبريل: إن الله يبشرك "بغلام اسمه يحيى" فلما سمع النداء جاءه الشيطان فقال: يا زكريا إن الصوت الذي سمعت ليس من الله إنما هو من الشيطان سخر بك، فشك وقال "أنى يكون لي غلام" يقول من أين يكون وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر، قال الله "وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئاً". وأخرج الفريابي عنه قال: كان زكريا لا يولد له فسأل ربه فقال: " فهب لي من لدنك وليا * يرثني ويرث من آل يعقوب " قال: يرث مالي ويرث من آل يعقوب النبوة. وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله: "لم نجعل له من قبل سمياً" قال: مثلاً. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وأبو داود وابن جرير والحاكم وصححه وابن مردويه عنه قال: لا أدري كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ هذا الحرف عتياً أو عسياً. وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء في قوله: "عتياً" قال: لبث زماناً في الكبر. وأخرج أيضاً عن السدي قال: هرماً. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: " أن لا تكلم الناس ثلاث ليال سويا " قال: اعتقل لسانه من غير مرض، وفي لفظ من غير خرس، أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً "فأوحى إليهم" قال: كتب لهم كتاباً. وأخرج ابن أبي الدنيا والحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله: "أن سبحوا" قال: أمرهم بالصلاة "بكرة وعشياً".

يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآَتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا

قوله: 12- "يا يحيى" ها هنا حذف، وتقديره: وقال الله للمولود يا يحيى، أو فولد له مولولد فبلغ المبلغ الذي يجوز أن يخاطب فيه، فقلنا له يا يحيى. وقال الزجاج: المعنى فوهبنا له وقلنا له يا يحيى. والمراد بالكتاب التوراة لأن المعهود حينئذ، ويحتمل أن يكون كتاباً مختصاً به وإن كنا لا نعرفه الآن، والمراد بالأخذ إما الأخذ الحسي أو الأخذ من حيث المعنى، وهو القيام بما فيه كما ينبغي، وذلك بتحصيل ملكة تقتضي سهولة الإقدام على المأمور به، والإحجام عن المنهي عنه، ثم أكده بقوله: "بقوة" أي بجد وعزيمة واجتهاد "وآتيناه الحكم صبياً" المراد بالحكم الحكمة، وهي الفهم للكتاب الذي أمر يأخذه وفهم الأحكام الدينية، وقيل هي العلم وحفظه والعمل به، وقيل النبوة، وقيل العقل، ولا مانع من أن يكون الحكم صالحاً لحمله على جميع ما ذكر. قيل كان يحيى عند هذا الخطاب له ابن سنتين، وقيل ابن ثلاث.

وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا

13- "وحناناً من لدناً" معطوف على الحكم. قال جمهور المفسرين: الحنان الرحمة والشفقة والعطف والمحبة، وأصله توقان النفس، مأخوذ من حنين الناقة على ولدها. قال أبو عبيدة: تقول حنانك يا رب وحنانيك يا رب بمعنى واحد، يريد رحمتك. قال طرفة: أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا حنانيك بعض الشر أهون من بعض وقال امرؤ القيس: ويمنحها بنو سلخ بن بكر معيزهم حنانك ذا الحنان قال ابن الأعرابي: الحنان مشدداً من صفات الله عز وجل، والحنان مخففاً: العطف والرحمة، والحنان الرزق والبركة. قال ابن عطية: والحنان في كلام العرب أيضاً ما عظم من الأمور في ذات الله، ومنه قول زيد بن عمرو بن نفيل، والله لئن قتلتم هذا العبد لأتخذن قبره حناناً، يعني بلالاً، لما مر به، وهو يعذب، وقيل إن القائل لذلك هو ورقة بن نوفل. قال الأزهري: معنى ذلك لأترحمن عليه، ولأتعطفن عليه لأنه من أهل الجنة، ومثله قول الحطيئة: تحنن علي هداك المليك فإن لكل مقام مقالا ومعنى "من لدنا" من جنابنا، قيل ويجوز أن يكون المعنى أعطيناه رحمة من لدنا كائنة في قلبه يتحنن بها على الناس، ومنهم أبواه وقرابته حتى يخلصهم من الكفر "وزكاة" معطوف على من قبله، والزكاة التطهير والبركة والتنمية والبر: أي جعلناه مباركاً للناس يهديهم إلى الخير، وقيل زكيناه بحسن الثناء عليه كتزكية الشهود، وقيل صدقة تصدقنا به على أبويه قاله ابن قتيبة "وكان تقياً" أي متجنباً لمعاصي الله مطيعاً له. وقد روي أنه لم يعمل معصية قط.

وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا

14- "وبراً بوالديه" معطوف على تقياً، البر هنا بمعنى البار، فعل بمعنى فاعل، والمعنى: لطيفاً بهما محسناً إليهما "ولم يكن جباراً عصياً" أي لم يكن متكبراً ولا عاصياً لوالديه أو لربه، وهذا وصف له عليه السلام بلين الجانب وخفض الجناح.

وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا

15- "وسلام عليه" قال ابن جرير وغيره: معناه أمان عليه من الله. قال ابن عطية: والأظهر عندي أنها التحية المتعارفة، فهي أشرف وأنبه من الأمان، لأن الأمان متحصل له بنفي العصيان عنه، وهو أقل درجاته، وإنما الشرف في أن يسلم الله عليه، ومعنى "يوم ولد" أنه أمن من الشيطان وغيره في ذلك اليوم، أو أن الله حياه في ذلك اليوم، وهكذا معنى "يوم يموت" وهكذا معنى "يوم يبعث حياً" قيل أوحش ما يكون الإنسان في ثلاثة مواطن: يوم ولد لأنه خرج مما كان فيه، ويوم يموت لأنه يرى قوماً لا يكن قد عرفهم وأحكامها ليس له بها عهد، ويوم يبعث لأنه يرى هول يوم القيامة. فخص الله سبحانه يحيى بالكرامة والسلامة في المواطن الثلاثة. وقد أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "يا يحيى خذ الكتاب بقوة" قال: بجد "وآتيناه الحكم صبياً" قال: الفهم. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: يقول اعمل بما فيه من فرائض. وأخرج ابن المنذر عن مالك بن دينار قال: اللب. وأخرج أبو نعيم والديلمي وابن مردويه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "وآتيناه الحكم صبياً" قال: أعطي الفهم والعبادة وهو ابن سبع سنين. وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن أبي حاتم عن قتادة: بدلة وهو ابن ثلاث سنين. وأخرج الحاكم في تاريخه من طريق نهشل عن الضحاك عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الغلمان ليحيى بن زكريا: اذهب بنا نلعب، فقال يحيى: ما للعب خلقنا، اذهبوا نصلي فهو قول الله "وآتيناه الحكم صبياً"". وأخرج ابن مردويه والبيهقي في الشعب عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ القرآن قبل أن يحتلم فهو ممن أوتي الحكم صبياً". وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس موقوفاً. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في الأسماء والصفات من طريق عكرمة عن ابن عباس في قوله: "وحناناً" قال: لا أدري ما هو إلا أني أظنه يعطف على عبده بالرحمة، وقد فسرها جماعة من السلف بالرحمة. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وزكاة" قال: بركة، وفي قوله: "وكان تقياً" قال: طهر فلم يعمل بذنب.

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا

قوله 16- "واذكر في الكتاب مريم" هذا شروع في ابتداء خلق عيسى، والمراد بالكتاب هذه السورة: أي اذكر يا محمد للناس في هذه السورة قصة مريم، ويجوز أن يراد بالكتاب جنس القرآن، وهذه السورة منه، ولما كان الذكر لا يتعلق بالأعيان احتيج إلى تقدير مضاف يتعلق به الذكر، وهو قصة مريم، أو خبر مريم "إذ انتبذت" العامل في الظرف هو ذلك المضاف المقدر، ويجوز أن يجعل بدل اشتمال من مريم، لأن الأزمان مشتملة على ما فيها، ويكون المراد بمريم خبرها، وفي هذا الإبدال دلالة على تفخيم شأن الوقت لوقوع قصتها العجيبة فيه، والنبذ الطرح والرمي. قال الله سبحانه: "فنبذوه وراء ظهورهم" والمعنى: أنها تنحت وتباعدت. وقال ابن قتيبة: اعتزلت، وقيل انفردت، والمعاني متقاربة. واختلفوا في سبب انتباذها، فقيل لأجل أن تعبد الله سبحانه، وقيل لتطهر من حيضها، و"من أهلها" متعلق بانتبذت، وانتصاب "مكاناً شرقياً" على المفعولية للفعل المذكور: أي مكاناً من جانب الشرق، والشرق بسكون الراء: المكان الذي تشرق فيه الشمس، وإنما خص المكان بالشرق لأنهم كانوا يعظمون جهة الشرق لأنها مطلع الأنوار، حكى معناه ابن جرير. وقد اختلف الناس في نبوة مريم، فقيل إنها نبية بمجرد هذا الإرسال إليها ومخاطبتها للملك، وقيل لم تكن نبية، لأنه إنما كلمها الملك وهو على مثال البشر، وقد تقدم الكلام في هذه في آل عمران.

فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا

17- "فاتخذت من دونهم حجاباً" أي اتخذت من دون أهلها حجاباً يسترها عنهم لئلا يروها حال العبادة، أو حال التطهر من الحيض. والحجاب الستر والحاجز "فأرسلنا إليها روحنا" هو جبريل عليه السلام، وقيل هو روح عيسى، لأن الله سبحانه خلق الأرواح قبل الأجساد، والأول أولى لقوله: "فتمثل لها بشراً سوياً" أي تمثل جبريل لها بشراً مستوي الخلق لم يفقد من نعوت بني آدم شيئاً، قيل ووجه تمثل الملك لها بشراً أنها لا تطيق أن تنظر إلى الملك وهو على صورته.

قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا

فلما رأته في صورة إنسان حسن كامل الخلق قد خرق عليها الحجاب ظنت أنه يريدها بسوء، فاستعاذت بالله منه، و 18- "قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً" أي ممن يتقي الله ويخافه، وقيل إن تقياً اسم رجل صالح، فتعوذت منه تعجباً، وقيل إن اسم رجل فاجر معروف في ذلك الوقت، والأول أولى. وجواب الشرط محذوف: أي فلا تتعرض لي.

قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا

19- "قال إنما أنا رسول ربك" أي قال لها جبريل: إنما أنا رسول ربك الذي استعذب به، ولست ممن يتوقع منه ما خطر ببالك من إرادة السوء "لأهب لك غلاماً زكياً" جعل الهبة من قبله لكونه سبباً فيها من جهة كون الإعلام لها من جهته، أو من جهة كون النفخ قام به في الظاهر. وقرأ أبو عمرو ويعقوب وورش عن نافع " يهب " على معنى أرسلني ليهب لك، وقرأ الباقون بالهمز. والزكي الطاهر من الذنوب الذي ينمو على النزاهة والعفة، وقيل المراد بالزكي النبي.

قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا

20- "قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر" أي لم يقربني زوج ولا غيره "ولم أك بغياً" البغي هي الزانية التي تبغي الرجال. قال المبرد: أصله بغوي على فعول قلبت الواو ياء ثم أدغمت في الياء وكسرت الغين للمناسبة. وقال ابن جني: إنه فعيل: وزيادة ذكر كونها لم تك بغياً مع كون قولها لم يمسسني بشر يتناول الحلال والحرام لقصد التأكيد تنزيهاً لجانبها من الفحشاء، وقيل ما استبعدت من قدرة الله شيئاً، ولكن أرادت كيف يكون الولد هل من قبل زوج تتزوجه في المستقبل أم يخلقه الله سبحانه ابتداءً؟ وقيل إن المس عبارة عن النكاح الحلال، وعلى هذا لا يحتج إلى بيان وجه قولها: ولم أك بغياً، وما ذكرناه من شموله أولى باستعمالات أهل اللغة، وما يوجد في محاوراتهم مما يطول تعداده اهـ.

قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آَيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا

21- "ولنجعله آية للناس" أي ولنجعل هذا الغلام أو خلقه من غير أب آية للناس يستدلون بها على كمال القدرة، وهو علة لمعلل محذوف، والتقدير خلقناه لنجعله، أو معطوف على علة أخرى مضمرة تتعلق بما يدل عليه قوله سبحانه: " هو علي هين " وجمة "قال كذلك قال ربك هو علي هين" مستأنفة، والقائل هو الملك، والكلام فيها كالكلام فيما تقدم من قول زكرياء. وقوله: "ورحمة منا" معطوف على آية: أي ولنجعله رحمة عظيمة كائنة منا للناس لما ينالونه من الهداية والخير الكثير، لأن كل نبي رحمة لأمته "وكان أمراً مقضياً" أي وكان ذلك المذكور أمراً مقدراً قد قدره الله سبحانه وجف به القلم.

فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا

22- "فحملته" ها هنا كلام مطوي، والتقدير: فاطمأنت إلى قوله فدنا منها فنفخ في جيب درعها فوصلت النفخة إلأى بطنها فحملته، وقيل كانت النفخة في ذيلها، وقيل في فمها. قيل إن وضعها كان متصلاً بهذا الحمل من غير مضي مدة للحمل، ويدل على ذلك قوله: "فانتبذت به مكاناً قصياً" أي تنحت واعتزلت إلى مكان بعيد، والقصي هو البعيد. قيل كان هذا المكان وراء الجبل، وقيل أبعد مكان في تلك الدار، وقيل أقصى الوادي، وقيل إنها حملت به ستة أشهر، وقيل ثمانية أشهر، وقيل سبعة.

فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا

23- "فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة" أي ألجأها واضطرها، ومنه قول زهير: أجاءته المخافة والرجاء وقرأ شبل فاجأها من المفاجأة، ورويت هذه القراءة عن عاصم، وقرأ الحسن بغير همز، وفي مصحف أبي فلما أجاءها قال في الكشاف: إن أجاءها منقول من جاء، إلا أن استعماله قد تعين بعد النقل إلى معنى الإلجاء، وفيه بعد، والظاهر أن كل واحد من الفعلين موضوع بوضع مستقل، والمخاض مصدر مخضت المرأة تمخض مخضاً ومخاضاً إذا دنا ولادها. وقرأ الجمهور بفتح الميم، وقرأ ابن كثير بكسرها. والجذع ساق النخلة اليابسة، كأنها طلبت شيئاً تستند إليه وتتعلق به كما تتعلق الحامل لشدة وجع الطلق بشيء مما تجده عندها، والتعريف إما للجنس أو للعهد "قالت يا ليتني مت قبل هذا" أي قبل هذا الوقت، تمنت الموت لأنها خافت أن يظن بها السوء في دينها، أو لئلا يقع قوم بسببها في البهتان "وكنت نسياً" النسي في كلام العرب: الشيء الحقير الذي من شأنه أن ينسى ولا يذكر ولا يتألم لفقده كالوتد والحبل، ومنه قول الكميت: أتجعلنا خسراً لكلب قضاعة ولسنا بنسي في معد ولا دخل وقال الفراء: النسي ما تلقيه المرأة من خرق اعتلالها، فتقول مريم "نسياً منسياً" أي حيضة ملقاة، وقد قرئ بفتح النون وكسرها، وهما لغتان مثل الحجر والحجر، والوتر والوتر. وقرأ محمد بن كعب القرظي نساء بالهمز مع كسر النون. وقرأ نوف البكالي بالهمز مع فتح النون. وقرأ بكر بن حبيب نسياً بفتح النون وتشديد الياء بدون همز، والمنسي المتروك الذي لا يذكر ولا يخطر ببال أحد من الناس.

فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا

24- "فناداها من تحتها" أي جبريل لما سمع قولها، وكان أسفل منها تحت الأكمة، وقيل تحت النخلة، وقيل المنادي هو عيسى. وقد قرئ بفتح الميم من من وكسرها. وقوله: " أن لا تحزني " تفسير للنداء: أي لا تحزني أو المعنى بأن لا تحزني على أنها المصدرية "قد جعل ربك تحتك سرياً" قال جمهور المفسرين: السري النهر الصغير، والمعنى: قد جعل ربك تحت قدمك نهراً. قيل كان نهراً قد انقطع عنه الماء، فأرسل الله فيه الماء لمريم، وأحيا به ذلك الجذع اليابس الذي اعتمدت عليه حتى أورق وأثمر، وقيل المراد بالسري هنا عيسى، والسري: العظيم من الرجال، ومنه قولهم فلان سري: أي عظيم، ومن قوم سراة: أي عظام.

وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا

25- "وهزي إليك بجذع النخلة" الهز التحريك: يقال هزه فاهتز، والباء في بجذع النخلة مزيدة للتوكيد: وقال الفراء: العرب تقول هزه وهز به، والجذع هو أسفل الشجرة. قال قطرب: كل خشبة في أصل شجرة فهي جذع، ومعنى إليك: إلى جهتك، وأصل تساقط تتساقط فأدغم التاء في السين. وقرأ حمزة والأعمش تساقط مخففاً. وقرأ عاصم في رواية حفص والحسن بضم التاء مع التخفيف وكسر القاف وقرئ تتساقط بإظهار الناءين. وقرئ بالتحتية مع تشديد السين. وقرئ تسقط، ويسقط. وقرأ الباقون بإدغام التاء في السين، فمن قرأ بالفوقية جعل الضمير للنخلة، ومن قرأ بالتحتية جعل الضمير للجذع، وانتصاب "رطباً" على بعض هذه القراءات للتمييز، وعلى البعض الآخر على المفعولية لتساقط. قال المبرد والأخفش: يجوز انتصاب رطباً بهزي: أي هزي إليك رطباً "جنياً" بجذع النخلة: أي على جذعها، وضعفه الزمخشري، والجني المأخوذ طرياً، وقيل هو ما طلب وصلح للاجتناء، وهو فعيل بمعنى مفعول. قال الفراء: الجني والمجني واحد، وقيل هو فعيل بمعنى فاعل: أي رطباً طرياً طيباً.

فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا

26- "فكلي واشربي" أي من ذلك الرطب وذلك الماء، أو من الرطب وعصيره، وقدم الأكل مع أن ذكر النهر مقدم على الرطب، لأن احتياج النفساء إلى أكل الرطب أشد من احتياجها إلى شرب الماء، ثم قال "وقري عيناً" قرأ الجمهور بفتح القاف. وحكى ابن جرير أنه قرئ بكسرها قال: وهي لغة نجد. والمعنى: طيبي نفساً وارفضي عنك الحزن، وهو مأخوذ من القر والقرة وهما البرد، والمسرور بارد القلب ساكن الجوارح، وقيل المعنى: وقري عيناً برؤية الولد الموهوب لك. وقال الشيباني: معناه نامي. قال أبو عمرو: أقر الله عينه: أي أنام عينه وأذهب سهره "فإما ترين من البشر أحداً" أصله ترءين: مثل تسمعين خففت الهمزة وسقطت النون للجزم وياء الضمير للساكنين بعد لحوق نون التوكيد، ومثل هذا مع عدم لحون نون التوكيد قول ابن دريد: أما ترى رأسي حاكى لونه طرة صبح تحت أذيال الدجى وقرأ طلحة وشيبة "ترين" بسكون الياء وفتح النون مخففة. قال أبو الفتح: وهي شاذة، وجواب الشرط "فقولي إني نذرت للرحمن صوماً" أي قولي إن طلب منك الكلام أحد من الناس إني نذرت للرحمن صوماً أي صمتاً، وقيل المراد به الصوم الشرعي، وهو الإمساك عن المفطرات، والأول أولى. وفي قراءة أبي إني نذرت للرحمن صوماً صمتاً بالجمع بين اللفظين، وكذا روي عن أنس. وروي عنه أنه قرأ صوماً وصمتاً بالواو، والذي عليه جمهور المفسرين أن الصوم هنا الصمت، ويدل عليه "فلن أكلم اليوم إنسياً" ومعنى الصوم في اللغة أوسع من المعنيين. قال أبو عبيدة: كل ممسك عن طعام أو كلام أو سير فهو صائم. وقراءة أبي تدل على أن المراد بالصوم هنا الصمت، لأنه تفسير للصوم. وقراءة أنس تدل على أن الصوم هنا غير الصمت كما تفيده الواو، ومعنى "فلن أكلم اليوم إنسياً" أنها لا تكلم أحداً من الإنس بعد إخبارهم بهذا الخبر، بل إنما تكلم الملائكة وتناجي ربها، وقيل إنها لم تخبرهم هنا باللفظ، بل بالإشارة المقيدة للنذر. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً" قال: مكاناً أظلها الشمس أن يراها أحد منهم. وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال: إنما اتخذت النصارى المشرق قبلة، لأن مريم اتخذت من أهلها مكاناً شرقياً، فاتخذوا ميلاده قبلة، وإنما سجدت اليهود على حرف حين نتق فوقهم الجبل، فجعلوا ينحرفون وهم ينظرون إليه، يتخوفون أن يقع عليهم، فسجدوا سجدة رضيها الله، فاتخذوها سنة. وأخرج الحاكم وصححه والبيهقي في الأسماء والصفات وابن عساكر من طريق السدي عن أبي مالك عن ابن عباس. وعن مرة عن ابن مسعود قالا: خرجت مريم بنت عمران إلى جانب المحراب لحيض أصابها، فلما طهرت إذا هي برجل معها "فتمثل لها بشراً" ففزعت و"قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً" فخرجت وعليها جلبابها، فأخذ بكمها فنفخ في جنب درعها، وكان مشقوقاً من قدامها، فدخلت النفخة صدرها فحملت، فأتتها أختها امرأة زكرياء ليلة تزورها، فلما فتحت لها الباب التزمتها، فقال امرأة زكرياء: يا مريم أشعرت أني حبلى، قالت مريم: أشعرت أني حبلى، فقالت امرأة زكرياء: فإني وجدت ما في بطني سجد للذي في بطنك، فذلك قوله تعالى: "مصدقاً بكلمة من الله" فولدت امرأة زكرياء يحيى، ولما بلغ أن تضع مريم خرجت إلى جانب المحراب "فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا" الآية "فناداها" جبريل " من تحتها أن لا تحزني " فلما ولدته ذهب الشيطان، فأخبر بني إسرائيل أن مريم ولدت، فلما أرادوها على الكلام أشارت إلى عيسى فتكلم فـ "قال إني عبد الله آتاني الكتاب" الآيات، ولما ولد لم يبق في الأرض صنم إلا خر لوجهه. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في مريم قال: حين حملت وضعت. وأخرج ابن عساكر عنه قال: وضعت لثمانية أشهر. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "فأرسلنا إليها روحنا" قال: جبريل وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن سعيد بن جبير نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء نحوه أيضاً. وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في الأسماء والصفات وابن عساكر عن أبي بن كعب في الآية قال: تمثل لها روح عيسى في صورة بشر فحملته، قال حملت الذي خاطبها دخل في فيها. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: "مكاناً قصياً" قال: نائياً. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله: "إلى جذع النخلة" قال: كان جذعاً يابساً. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه أيضاً في قوله: "وكنت نسياً منسياً" قال: لم أخلق ولم أك شيئاً. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة "وكنت نسياً منسياً" قال: حيضة ملقاة. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد نحوه. وأخرج عبد بن حميد عن نوف البكالي والضحاك مثله. وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة في قوله: "فناداها من تحتها" قال: الذي ناداها جبريل. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال: الذي ناداها من تحتها جبريل، ولم يتكلم عيسى حتى أتت به قومها. وقد اختلفت الروايات عن السلف، هل هذا المنادي هو جبريل أو عيسى. وأخرج عبد بن حميد عن أبي بكر بن عياش قال: قرأ عاصم بن أبي النجود "فناداها من تحتها" بالنصب، قال: وقال عاصم من قرأ بالنصب فهو عيسى، ومن قرأ بالخفض فهو جبريل. وأخرج الطبراني وابن مردويه وابن النجار عن ابن عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن السري الذي قال الله لمريم "قد جعل ربك تحتك سرياً" نهر أخرجه الله لها لتشرب منه". وفي إسناده أيوب بن نهيك الجبلي قال فيه أبو حاتم الرازي: ضعيف، وقال أبو زرعة: منكر الحديث، وقال أبو فتح الأزدي: متروك الحديث، وقال الطبراني بعد إخراج هذا الحديث: إنه غريب جداً. وأخرج الطبراني في الصغير وابن مردويه عن البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله "قد جعل ربك تحتك سرياً" قال: النهر. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وصححه والحاكم وابن مردويه عن البراء قال في الآية: هو الجدول، وهو النهر الصغير، فظهر بهذا أن الموقوف أصح. وقد روي عن جماعة من التابعين أن السري هو عيسى، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "رطباً جنياً" قال: طرياً. وأخرج ابن المنذر وابن مردويه في قوله: "إني نذرت للرحمن صوماً" قال: صمتاً. وأخرج عبد بن حميد وابن الأنباري عنه أنه قرأ صوماً صمتاً.

فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا

لما اطمأنت مريم عليها السلام بما رأت من الآيات وفرغت من نفاسها 27- "أتت به" أي بعيسى، وجملة "تحمله" في محل نصب على الحال، وكان إتيانها إليهم من المكان القصي الذي انتبذت فيه، فلما رأوا الولد معها حزنوا، وكانوا أهل بيت صالحين "قالوا" منكرين لذلك "يا مريم لقد جئت" أي فعلت "شيئاً فرياً" قال أبو عبيدة: الفري العجيب النادر، وكذا قال الأخفش. والفري القطع، كأنه مما يخرق العادة، أو يقطع بكونه عجيباً نادراً. وقال قطرب: الفري الجديد من الأسقية: أي جئت بأمر بديع جديد لم تسبقي إليه وقال سعيد بن مسعدة: الفري المختلق المفتعل، يقال فريت وأفريت بمعنى واحد، والولد من الزنا كالسيء المفتري، قال تعالى: "ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن" وقال مجاهد: الفري العظيم.

يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا

28- "يا أخت هارون". قد وقع الخلاف في معنى هذه الأخوة، وفي هارون المذكور من هو؟ فقيل هو هارون أخو موسى، والمعنى: أن من كانت نظنها مثل هارون في العبادة كيف تأتي بمثل هذا، وقيل كانت مريم من ولد هارون أخي موسى، فقيل لها يا أخت هارون، كما يقال لمن كان من العرب: يا أخا العرب، وقيل: كان لها أخ من أبيها اسمه هارون، وقيل هارون هذا رجل صالح في ذلك الوقت، وقيل بل كان في ذلك الوقت رجل فاجر اسمه هارون، فنسبوها إليه على وجهة التعبير والتوبيخ، حكاه ابن جرير لوم يسم قائله وهو ضعيف " ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا " هذا فيه تقريره لما تقدم من التعبير والتوبيخ، وتنبيه على أن الفاحشة من ذرية الصالحين مما لا ينبغي أن تكون.

فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا

29- "فأشارت إليه" أي إلى عيسى، وإنما اكتفت بالإشارة ولم تأمره بالنطق، لأنها نذرت للرحمن صوماً عن الكلام كما تقدم، هذا على تقدير أنها كانت إذ ذاك في أيام نذرها، وعلى تقدير أنها قد خرجت من أيام نذرها، فيمكن أن يقال إن اقتصارها على الإشارة للمبالغة في إظهار الآية العظيمة، وأن هذا المولود يفهم الإشارة ويقدر على العبارة "قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبياً" هذا الاستفهام للإنكار والتعجب من إشارتها إلى ذلك المولود بأن يكلمهم. قال أبو عبيدة: في الكلام حشو زائد. والمعنى: كيف نكلم صبياً في المهد كقول الشاعر: وجيران لنا كانوا كرام وقال الزجاج: الأجود أن تكون من في معنى الشرط والجزاء، والمعنى: من يكون في المهد صبياً فكيف نكلمه، ورجحه ابن الأنباري وقال: لا يجوز أن يقال إن كان زائدة وقد نصبت صبياً، ويجاب عنه بأن القائل بزيادتها يجعل الناصب له الفعل، وهو نكلم كما سبق تقديره، وقيل إن كان هنا هي التامة التي بمعنى الحدوث والوجود، ورد بأنها لو كانت تامة لاستغنت عن الخبر، والمهد هو شيء معروف يتخذ لتنويم الصبي. والمعنى كيف نكلم من سبيله أن ينوم في المهد لصغره، وقيل هنا حجر الأم، وقيل سرير كالمهد.

قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا

فلما سمع عيسى كلامهم 30- "قال إني عبد الله" فكان أول ما نطق به الاعتراف بالعبودية له "آتاني الكتاب" أي الإنجيل: أي حكم لي بإيتائي الكتاب والنبوة في الأزل، وإن لم يكن قد نزل عليه في تلك الحال ولا قد صار نبياً، وقيل: إنه آتاه الكتاب وجعله نبياً في تلك الحال، وهو بعيد.

وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ ‎وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا

31- "وجعلني مباركاً أين ما كنت" أي حيثما كنت، والبركة أصلها من بروك البعير، والمعنى: جعلني ثابتاً في دين الله، وقيل البركة هي الزيادة والعلو، فكأنه قال: جعلني في جميع الأشياء زائداً عالياً منجحاً، وقيل معنى المبارك النفاع للعباد، وقيل المعلم للخير، وقيل الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر "وأوصاني بالصلاة" أي أمرني بها "والزكاة" زكاة المال، أو تطهير النفس "ما دمت حياً" أي مدة دوام حياتي، وهذه الأفعال الماضية هي من باب تنزيل ما لم يقع منزلة الواقع تنبيهاً على تحقق وقوعه لكونه قد سبق في القضاء المبرم.

وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا

32- "وبراً بوالدتي" معطوف على مباركاً، واقتصر على البر بوالدته لأنه قد علم في تلك الحال أنه لم يكن له أب، وقرئ وبراً بكسر الباء على أنه مصدر وصف به مبالغة "ولم يجعلني جباراً شقياً" الجبار المتعظم الذي لا يرى لأحد عليه حقاً، والشقي العاصي لربه، وقيل الخائب، وقيل العاق.

وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا

33- "والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حياً" قال المفسرون: السلام هنا بمعنى السلامة: أي السلامة علي يوم ولدت، فلم يضرني الشيطان في ذلك الوقت لا أغواني عند الموت ولا عند البعث، وقيل المراد به التحية. قيل واللام للجنس، وقيل للعهد: أي وذلك السلام الموجه إلى يحيى في هذه المواطن الثلاثة موجه إلي. قيل إنه لم يتكلم المسيح بعد هذا الكلام حتى بلغ المدة التي تتكلم فيها الصبيان في العادة. وقد أخرج سعيد بن منصور وابن عساكر عن ابن عباس في قوله: "فأتت به قومها تحمله" قال: بعد أربعين يوماً بعد ما تعالت من نفاسها. وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم عن المغيرة بن شعبة قال: " بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل نجران، فقالوا: أرأيت ما تقرأون: "يا أخت هارون" وموسى قبل عيسى بكذا وكذا، قال: فرجعت فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بالأنبياء والصالحين قبلهم"؟ وهذا التفسير النبوي يغني عن سائر ما روي عن السلف في ذلك. وأخرج ابن أبي حاتم عن أنس قال: كان عيسى قد درس الإنجيل وأحكامها في بطن أمه، فذلك قوله: "إني عبد الله آتاني الكتاب". وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله: "آتاني الكتاب" الآية. قال: قضي أن أكون كذلك. وأخرج الإسماعيلي في معجمه وأبو نعيم في الحلية وابن مردويه وابن النجار عن أبي هريرة قال "قال النبي صلى الله عليه وسلم في قول عيسى "وجعلني مباركاً أين ما كنت" قال: جعلني نفاعاً للناس أينما اتجهت". وأخرج ابن عدي وابن عساكر عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "وجعلني مباركاً" قال: معلماً ومؤدباً. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ولم يجعلني جباراً شقياً" يقول: عصياً.

ذَلِكَ عيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ

الإشارة بقوله: 34- "ذلك" إلى المتصف بالأوصاف السابقة. قال الزجاج: ذلك الذي قال إني عبد الله عيسى ابن مريم، لا ما تقوله النصارى من أنه ابن الله وأنه إله. وقرأ ابن عامر وعاصم ويعقوب "قول الحق" بالنصب، وقرأ الباقون بالرفع. فوجه القراءة الأولى أنه منتصب على المدح، أو على أنه مصدر مؤكد لقال إني عبد الله قاله الزجاج. ووجه القراءة الثانية أنه نعت لعيسى: أي ذلك عيسى ابن مريم قول الحق، قاله الكسائي. وسمي قول الحق كما سمي كلمة الله، والحق هو الله عز وجل. وقال أبو حاتم: المعنى هو قول الحق، وقيل التقدير: هذا لكلام قول الحق، وهو من باب إضافة الموصوف إلى الصفة مثل حق اليقين، وقيل الإضافة للبيان، وقرئ قال الحق وروي ذلك عن ابن مسعود، وقرأ الحسن قول الحق بضم القاف، والقول والقول والقال والمقال بمعنى واحد، و"الذي فيه يمترون" صفة لعيسى: أي ذلك عيسى ابن مريم الذي فيه يمترون قول الحق، ومعنى يمترون بختلفون على أنه من المماراة، أو يشكو على أنه من المرية. وقد وقع الاختلاف في عيسى، فقالت اليهود هو ساحر، وقالت النصارى هو ابن الله.

مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ

35- "ما كان لله أن يتخذ من ولد" أي ما صح ولا استقام ذلك، فأن في محل رفع على أنها اسم كان. قال الزجاج: من في من ولد مؤكدة تدل على نفي الواحدة والجماعة، ثم نزه سبحانه نفسه فقال: "سبحانه" أي تنزه وتقدس عن مقالتهم هذه، ثم صرح سبحانه بما هو شأنه تعالى سلطانه لقال: "إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون" أى إذا قضى أمراً من الأمور فيكون حينئذ بلا تأخير. وقد سبق الكلام على هذا مستوفى في البقرة، وفي إيراده في هذا الموضع تبكيت عظيم للنصارى: أي من كان هذا شأنه كيف يتوهم أن يكون له ولد؟

وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ

36- " إن الله ربي وربكم فاعبدوه " قرأ أهل المدينة وابن كثير وأبو عمرو بفتح أن. وقرأ ابن عامر وأهل الكوفة بكسرها، وهو من تمام كلام عيسى، وقرأ أبي إن الله بغير واو، قال الخليل وسيبويه: في توجيه قراءة النصب بأن المعنى: ولأن الله ربي وربكم، وأجاز الفراء أن يكون في موضع خفض عطفاً على الصلاة، وجوز أبو عمرو بن العلاء عطفه على أمراً "هذا صراط مستقيم" أي هذا الذي ذكرته لكم من أنه ربي وربكم، هو الطريق القيم الذي لا اعوجاج فيه ولا يضل سالكه.

فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمِْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ

37- "فاختلف الأحزاب من بينهم" من زائدة للتوكيد، والأحزاب اليهود والنصارى: أي فاختلفت الفرق من أهل الكتاب في أمر عيسى، فاليهود قالوا إنه ساحر كما تقدم، وقالوا إنه ابن يوسف النجار، والنصارى اختلفت فرقهم فيه، فقالت النسطورية منهم: هو ابن الله، وقالت الملكية: ثالث ثلاثة، وقالت اليعقوبية: هو الله تعالى فأفرطت النصارى وغلت، وفرطت اليهود وقصرت "فويل للذين كفروا" وهم المختلفون في أمره "من مشهد يوم عظيم" أي من شهود يوم القيامة وما يجري فيه من الحساب والعقاب، أو من مكان الشهود فيه، أو من شهادة ذلك اليوم عليهم، وقيل المعنى: فويل لهم من حضورهم المشهد العظيم الذي اجتمعوا فيه للتشاور.

أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ

38- "أسمع بهم وأبصر" قال أبو عباس: العرب تقول هذا في موضع التعجب، فيقولون: أسمع تريد وأبصر به: أي ما أسمعه وأبصره، فعجب الله سبحانه نبينه صلى الله عليه وسلم منهم "يوم يأتوننا" أي للحساب والجزاء "لكن الظالمون اليوم" أي في الدنيا "في ضلال مبين" أي واضح ظاهر ولكنهم أغفلوا التفكر، والاعتبار والنظر في الآثار.

وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ

39- "وأنذرهم يوم الحسرة" أي يوم يتحسرون جميعاً، فالمسيء يتحسر على إساءته، والمحسن على عدم استكثاره من الخير "إذ قضي الأمر" أي فرغ من الحساب وطويت الصحف، وصار أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار، وجملة "وهم في غفلة" في محل نصب على الحال: أي غافلين عما يعمل بهم، وكذلك جملة "وهم لا يؤمنون" في محل نصب على الحال.

إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ

40- "إنا نحن نرث الأرض ومن عليها" أي نميت سكانها فلا يبقى بها أحد يرث الأموات، فكأنه سبحانه ورث الأرض ومن عليها حيث أماتهم جميعاً "وإلينا يرجعون" أي يردون إلينا يوم القيامة فنجازي كلاً بعمله، وقد تقدم مثل هذا في سورة الحجر. وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "قول الحق" قال: الله الحق عز وجل. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي حاتم عنه في قوله: "الذي فيه يمترون" قال: اجتمع بنو إسرائيل وأخرجوا منهم أربعة نفر من كل قوم عالمهم، فامتروا في عيسى حين رفع، فقال أحدهم: هو الله هبط إلى الأرض وأحيا من أحيا، وأمات من أمات، ثم صعد إلى السماء، وهم اليعقوبية، فقالت الثلاثة: كذبت، ثم قال إثنان منهم للثالث: قل فيه، فقال: هو ابن الله، وهم النسطورية، فقال إثنان كذبت، ثم قال أحد الاثنين للآخر: قل فيه، فقال: هو ثالث ثلاثة، الله إله، وعيسى إله، وأمه إله، وهم الاسرائيلية، وهم ملوك النصارى، فقال الرابع: كذبت، هو عبد الله ورسوله وروحه من كلمته، وهم المسلمون، فكان لكل رجل منهم أتباع على ما قال فاقتتلوا، فظهروا على المسلمين، فذلك قول الله سبحانه: "ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس". قال قتادة: وهم الذين قال الله "فاختلف الأحزاب من بينهم" قال: اختلفوا فيه فصاروا أحزاباً، فاختصم القوم، فقال المرء المسلم: أنشدكم بالله هل تعلمون أن عيسى كان يطعم الطعام وأن اللاه لا يطعم؟ قالوا: اللهم نعم، قال: فهل تعلمون أن عيسى كان ينام وأن الله لا ينام؟ قالوا: اللهم نعم، فخصمهم المسلمون فاقتتل القوم، فذكر لنا أن اليعقوبية ظهرت يومئذ وأصيب المسلمون، فأنزل الله "فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم". وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "أسمع بهم وأبصر" يقول الكفار يومئذ: أسمع شيء وأبصره، وهم اليوم لا يسمعون ولا يبصرون. وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "يوم يأتوننا" قال: ذلك يوم القيامة. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، يجاء بالموت كأنه كبش أملح، فيوقف بين الجنة والنار فيقال: يا أهل الجنة هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون إليه فيقولون نعم هذا الموت، وكلهم قد رآه، ثم ينادي أهل النار هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون فيقولون نعم هذا الموت، وكلهم قد رآه، فيؤمر به فيذبح ويقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم "وأنذرهم يوم الحسرة" الآية، وأشار بيده قال: أهل الدنيا في غفلة". وأخرج النسائي وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة مرفوعاً نحوه. وأخرج ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، قال: يوم الحسرة: هو من أسماء يوم القيامة، وقرأ " أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله "، وعلي هذا ضعيف، والآية التي استدل بها ابن عباس لا تدل على المطلوب لا بمطابقة ولا تضمن ولا التزام.

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا

قوله: 41- "واذكر" معطوف على وأنذر، والمراد بذكر الرسول إياه في الكتاب أن يتلو ذلك على الناس كقوله: "واتل عليهم نبأ إبراهيم"، وجملة "إنه كان صديقاً نبياً" تعليل لما تقدم من الأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يذكره، وهي معترضة ما بين البدل والمبدل منه، والصديق كثير الصدق، وانتصاب نبياً على أنه خبر آخر لكان: أي اذكر إبراهيم الجامع لهذين الوصفين.

إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا

و 42- "إذ قال لأبيه" بدل اشتمال من إبراهيم، وتعليق الذكر بالوقت مع أن المقصود تذكير ما وقع فيه من الحوادث للمبالغة، وأبو إبراهيم هو آزر على ما تقدم تقريره، والتاء في يا أبت عوض عن الياء، ولهذا لا يجتمعان، والاستفهام في "لم تعبد" للإنكار والتوبيخ "ما لا يسمع" ما تقوله من الثناء عليه والدعاء له "ولا يبصر" ما تفعله من عبادته ومن الأفعال التي تفعلها مريداً بها الثواب، ويجوز أن يحمل نفي السمع والإبصار على ما هو أعم من ذلك: أي لا يسمع شيئاً من المسموعات، ولا يبصر شيئاً من المبصرات " ولا يغني عنك شيئا " من الأشياء، فلا يجلب لك نفعاً ولا يدفع عنك ضرراً، وهي الأصنام التي كان يعبدها آزر، أورد إبراهيم عليه السلام على أبيه الدلائل والنصائح، وصدر كلاً منها بالنداء المتضمن للرفق واللين استمالة لقلبه، وامتثالاً لأمر ربه.

يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا

ثم كرر دعوته إلى الحق فقال: 43- "يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك" فأخبر أنه قد وصل إليه من العلم نصيب لم يصل إلى أبيه، وأنه قد تجدد له حصول ما يتوصل به منه إلى الحق، ويقتدر به على إرشاد الضال، ولهذا أمره باتباعه فقال: "فاتبعني أهدك صراطاً سوياً" مستوياً موصلاً إلى المطلوب منجياً من المكروه.

يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا

ثم أكد ذلك بنصيحة أخرى زاجرة له عما هو فيه فقال: 44- "يا أبت لا تعبد الشيطان" أي لا تطعه، فإن عبادة الأصنام هي من طاعة الشيطان، ثم علل ذلك بقوله: "إن الشيطان كان للرحمن عصياً" حين ترك ما أمره به من السجود لآدم، ومن أطاع من هو عاص لله سبحانه فهو عاص لله، والعاصي حقيق بأن تسلب عنه النعم وتحل به النقم. قال الكسائي: العصي والعاصي بمعنى واحد.

يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا

ثم بين له الباعث على هذه النصائح فقال: 45- "يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن" قال الفراء: معنى أخاف هنا أعلم. وقال الأكثرون: إن الخوف هنا محمول على ظاهره، لأن إبراهيم غير جازم بموت أبيه على الكفر، إذ لو كان جازماً بذلك لم يشتغل بنصحه، ومعنى الخوف على الغير: هو أن يظن وصول الضرر إلى ذلك الغير "فتكون للشيطان ولياً" أي إنك إذا أطعت الشيطان كنت معه في النار واللعنة، فتكون بهذا السبب موالياً، أو تكون بسبب موالاته في العذاب معه، وليس هناك ولاية حقيقية لقوله سبحانه: "الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو" وقيل الولي بمعنى التالي، وقيل الولي بمعنى القريب: أي تكون للشيطان قريباً منه في النار.

قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا

فلما مرت هذه النصائح النافعة والمواعظ المقبولة بسمع آزر قابلها بالغلظة والفظاظة والقسوة، فـ 46- "قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم" والاستفهام للتقريع والتوبيخ والتعجيب، والمعنى: أمعرض أنت عن ذلك ومنصرف إلى غيره؟ ثم توعده فقال: "لئن لم تنته لأرجمنك" أي بالحجارة، وقيل اللسان، فيكون معناه لأشتمنك، وقيل معناه لأضربنك، وقيل لأظهرن أمرك "واهجرني ملياً" أي زماناً طويلاً. قال الكسائي: يقال هجرته ملياً وملوة وملاوة، بمعنى الملاوة من الزمان، وهو الطويل، ومنه قول مهلهل: فتصدعت صم الجبال لموته وبكت عليه المرملات مليا وقيل معناه: اعتزلي سالم العرض لا تصيبك مني معرة، واختار هذا ابن جرير، فملياً على هذا منتصب على الحال من إبراهيم وعلى القول الأول منتصب على الظرفية، فلما رأى إبراهيم إصرار أبيه على العناد.k

قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا

47- "قال سلام عليك" أي تحية توديع ومتاركة كقوله: "وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً" وقيل معناه: أمنة مني لك، قاله ابن جرير، وإنما أمنه مع كفره لأنه لم يؤمر بقتاله، والأول أولى، وبه قال الجمهور، وقيل معناه: الدعاء له بالسلامة، استمالة له ورفقاً به ثم وعده بأن يطلب له المغفرة من الله سبحانه تألفاً له وطمعاً في لينه وذهاب قسوته: والشيخ لا يترك أخلاقه حتى يوارى في ثرى رمسه وكان منه هذا الوعد قبل أن يعلم أنه يموت على الكفر، وتحق عليه الكلمة، ولهذا قال الله سبحانه في موضع آخر "فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه" بعد قوله: "وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه" وجملة "إنه كان بي حفياً" تعليل لما قبلها، والمعنى سأطلب لك المغفرة من الله، فإنه كان بي كثير البر واللطف، يقال حفي به وتحفى إذا بره. قال الكسائي: يقال حفي بي حفاوة وحفوة. وقال الفراء: إنه كان بي حفياً: أي عالماً لطيفاً يجيبني إذا دعوته.

وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا

ثم صرح الخليل بما تضمنه سلامه من التوديع والمتاركة فقال: 48- "وأعتزلكم وما تدعون من دون الله" أي أهاجر بديني عنكم وعن معبوداتكم حيث لم تقبلوا نصحي ولا نجعت فيكم دعوتي " وأدعو ربي " وحده " عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقيا " أي خائباً، وقيل عاصياً. قيل أراد بهذا الدعاء: هو أن يهب الله له ولداً وأهلاً يستأنس بهم في اعتزاله ويطمأن إليهم عند وحشته، وقيل أراد دعاءه لأبيه بالهداية، وعسى للشك لأنه كان لا يدري هل يستجاب له فيه أم لا.

فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا

والأول أولى لقوله: 49- "فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب" أي جعلنا هؤلاء الموهوبين له أهلاً وولداً بدل الأهل الذين فارقهم "وكلاً جعلنا نبياً" أي كل واحد منهما، وانتصاب كلاً على أنه المفعول الأول لجعلنا قدم عليه للتخصيص، لكن بالنسبة إليهم أنفسهم لا بالنسبة إلى من عداهم: أي كل واحد منهم جعلنا نبياً، لا بعضهم دون بعض.

وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا

50- "ووهبنا لهم من رحمتنا" بأن جعلناهم أنبياء، وذكر هذا بعد التصريح بجعلهم أنبياء لبيان أن النبوة هي من باب الرحمة. وقيل المراد بالرحمة هنا المال، وقيل الأولاد، وقيل الكتاب، ولا يبعد أن يندرج تحتها جميع هذه الأمور "وجعلنا لهم لسان صدق علياً" لسان الصدق الثناء الحسن، عبر عنه باللسان لكونه يوجد به كما عبر باليد عن العطية، وإضافته إلى الصدق ووصفه بالعلو للدلالة على أنهم أحقاء بما يقال فيهم من الثناء على ألسن العباد. وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "لأرجمنك" قال: لأشتمنك "واهجرني ملياً" قال: حيناً. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه "واهجرني ملياً" قال: اجتنبني سوياً. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً في الآية قال: اجتنبني سالماً قبل أن تصيبك مني عقوبة. وأخرج عبد بن حميد عن سعيد بن جبير وعكرمة "ملياً" دهراً. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة قال: سالماً. وأخرج عبد بن حميد عن الحسن مثله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس "إنه كان بي حفياً" قال: لطيفاً. وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله: "ووهبنا له إسحاق ويعقوب" قال: يقول وهبنا له إسحاق ويعقوب ابن ابنه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: "وجعلنا لهم لسان صدق علياً" قال: الثناء الحسن.

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا

قفى سبحانه قصة إبراهيم بقصة موسى لأنه تلوه في الشرف، وقدمع على إسماعيل لئلا يفصل بينه وبين ذكر يعقوب: أي واقرأ عليهم من القرآن قصة موسى 51- "إنه كان مخلصاً" قرأ أهل الكوفة بفتح اللام: أي جعلناه مختاراً وأخلصناه، وقرأ الباقون بكسرها: أي أخلص العبادة والتوحيد لله غير مراء للعباد " وكان رسولا نبيا " أي أرسله الله إلى عباده فأنبأهم عن الله بشرائعه التي شرعها لهم، فهذا وجه ذكر النبي بعد الرسول مع استلزام الرسالة للنبوة، فكأنه أراد بالرسول معناه اللغوي لا الشرعي، والله أعلم. وقال النيسابوري: الرسول الذي معه كتاب من الأنبياء، والنبي الذي نيبئ عن الله عز وجل وإن لم يكن معه كتاب، وكان المناسب ذكر الأعم قبل الأخص، إلا أن رعاية الفاصلة اقتضت عكس ذلك كقوله في طه "رب هارون وموسى" انتهى.

وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا

52- "وناديناه من جانب الطور الأيمن" أي كلمناه من جانب الطور، وهو جبل بين مصر ومدين اسمه زبير، ومعنى الأيمن: أنه كان ذلك الجانب عن يمين موسى، فإن الشجرة كانت في ذلك الجانب والنداء وقع منها، وليس المراد يمين الجبل نفسه. فإن الجبال لا يمين لها ولا شمال. وقيل معنى الأيمن الميمون، ومعنى النداء أنه تمثل له الكلام من ذلك الجانب "وقربناه نجياً" أي أدنيناه بتقريب المنزلة حتى كلمناه، والنجي بمعنى المناجي كالجليس والنديم، فالتقريب هنا هو تقريب التشريف والإكرام، مثلت حاله بحال من قربه الملك لمناجاته. قال الزجاج: قربه منه في المنزلة حتى سمع مناجاته، وقيل إن الله سبحانه رفعه حتى سمع صريف القلم. روي هذا عن بعض السلف.

وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا

53- "ووهبنا له من رحمتنا" أي من نعمتنا، وقيل من أجل رحمتنا، و"هارون" عطف بيان، و"نبياً" حال منه، وذلك حين سأل ربه قال: " اجعل لي وزيرا من أهلي * هارون أخي ".

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا

ووصف الله سبحانه إسماعيل بصدق الوعد مع كون جميع الأنبياء كذلك، لأنه كان مشهوراً بذلك مبالغاً فيه، وناهيك بأنه وعد الصبر من نفسه على الذبح فوفى بذلك، وكان ينتظر لمن وعده بوعد الأيام والليالي، حتى قيل إنه انتظر لبعض من وعده حولاً. والمراد بإسماعيل هنا هو إسماعيل بن إبراهيم، ولم يخالف في ذلك إلا من لا يعتد به فقال: هو إسماعيل بن حزيقل، بعثه الله إلى قومه فسلخوا جلدة رأسه، فخيره الله فيما شاء من عذابهم، فاستعفاه ورضي بثوابه، وقد استدل بقوله تعالى في إسماعيل 54- "وكان رسولاً نبياً" على أن الرسول لا يجب أن يكون صاحب شريعة فإن أولاد إبراهيم كانوا شريعته، وقيل إنه وصفه بالرسالة لكون إبراهيم أرسله إلى جرهم.

وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا

55- "وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة" قيل المراد بأهله هنا أمته، وقيل جرهم، وقيل عشيرته كما في قوله: "وأنذر عشيرتك الأقربين" والمراد بالصلاة والزكاة هنا، هما العبادتان الشرعيتان، ويجوز أن يراد معناهما اللغوي "وكان عند ربه مرضياً" أي رضياً زاكياً صالحاً. قال الكسائي والفراء: من قال مرضي بنى على رضيت، قالا: وأهل الحجاز يقولون مرضو.

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا

56- "واذكر في الكتاب إدريس" اسم إدريس أخنوخ، قيل هو جد نوح، فإن نوحاً هو ابن لامك بن متوشلخ بن أخنوخ، وعلى هذا فيكون جد أبي نوح ذكره الثعلبي وغيره، وقد قيل إن هذا خطأ، وامتناع إدريس للعجمة والعلمية. وهو أول من خط بالقلم ونظر في النجوم والحساب، وأول من خاط الثياب. قيل وهو أول من أعطي النبوة من بني آدم.

وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا

وقد اختلف في معنى قوله: 57- "ورفعناه مكاناً علياً" فقيل إن الله رفعه إلى السماء الرابعة، وقيل إلى السادسة، وقيل إلى الثانية. وقد روى البخاري في صحيحه من حديث الإسراء وفيه: ومنهم إدريس في الثانية، وهو غلط من رواية شريك بن عبد الله بن أبي نمر. والصحيح أنه في السماء الرابعة كما رواه مسلم في صحيحه من حديث أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل إن المراد برفعه مكاناً علياً: ما أعطيه من شرف النبوة، وقيل إنه رفع إلى الجنة.

أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آَدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا

58- "أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين" الإشارة إلى المذكورين من أول السورة إلى هنا، والموصول صفته، ومن النبيين بيان للموصول، و"من ذرية آدم" بدل منه بإعادة الخافض، وقيل إن من في من ذرية آدم للتبعيض "وممن حملنا مع نوح" أي من ذرية من حملنا معه وهم من عدا إدريس، فإن إبراهيم كان من ذرية سام بن نوح "ومن ذرية إبراهيم" وهم الباقون "وإسرائيل" أي ومن ذرية إسرائيل، ومنهم موسى وهارون ويحيى وعيسى، وقيل إنه أراد بقوله: "من ذرية آدم" إدريس وحده، وأراد بقوله: "وممن حملنا مع نوح" إبراهيم وحده، وأراد بقوله: "ومن ذرية إبراهيم" إسماعيل وإسحاق ويعقوب، وأراد بقوله: " ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل " موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى "وممن هدينا" أي من جملة من هدينا إلى الإسلام "واجتبينا" بالإيمان "إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجداً وبكياً" وهذا خبر لأولئك، ويجوز أن يكون الخبر هو الذين أنعم الله عليهم. وهذا استئناف لبيان خشوعهم لله وخشيتهم منه. وقد تقدم في سبحان بيان معنى خروا سجداً: يقال بكى يبكي بكاء وبكياً. قال الخليل: إذا قصرت البكاء فهو مثل الحزن: أي ليس معه صوت، ومنه قول الشاعر: بكت عيني وحق لها بكاها وما يغني البكاء ولا العويل وسجداً منصوب على الحال. قال الزجاج: قد بين الله أن الأنبياء كانوا إذا سمعوا آيات الله بكوا وسجدوا، وقد استدل بهذه الآية على مشروعية سجود التلاوة.

فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا

ولما مدح هؤلاء الأنبياء بهذه الأوصاف ترغيباً لغيرهم في الاقتداء بهم وسلوك طريقتهم ذكر أضدادهم تنفيراً للناس عن طريقتهم فقال: 59- "فخلف من بعدهم خلف" أي عقب سوء. قال أهل اللغة: يقال لعقب الخير خلف بفتح اللام، ولعقب الشر خلف بسكون اللام، وقد قدمنا الكلام على هذا في آخر الأعراف "أضاعوا الصلاة" قال الأكثر: معنى ذلك أنهم أخروها عن وقتها، وقيل أضاعوا الوقت وقيل كفروا بها وجحدوا وجوبها، وقيل لم يأتوا بها على الوجه المشروع. والظاهر أن من أخر الصلاة عن وقتها أو ترك فرضاً من فروضها أو شرطاً من شروطها أو ركناً من أركانها فقد أضاعها، ويدخل تحت الإضاعة من تركها بالمرة أو جحدها دخولاً أولياً. واختلفوا فيمن نزلت هذه الآية؟ فقيل في اليهود، وقيل في النصارى، وقيل في قوم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم يأتون في آخر الزمان، ومعنى "واتبعوا الشهوات" أي فعلوا ما تشتهيه أنفسهم وترغب إليه من المحرمات كشرب الخمر والزنا "فسوف يلقون غياً" الغي هو الشر عند أهل اللغة كما أن الخير هو الرشاد. والمعنى: أنهم سيلقون شراً لا خيراً، وقيل الغي الضلال، وقيل الخيبة، وقيل هو اسم واد في جهنم، وقيل في الكلام حذف، والتقدير: سيلقون جزاء الغي كذا قال الزجاج، ومثله قوله سبحانه: "يلق أثاماً" أي جزاء أثام.

إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا

60- "إلا من تاب وآمن وعمل صالحاً" أي تاب مما فرط منه من تضييع الصلوات واتباع الشهوات فرجع إلى طاعة الله وآمن به وعمل عملاً صالحاً، وفي هذا الاستثناء دليل على أن الآية في الكفرة لا في المسلمين "فأولئك يدخلون الجنة" قرأ أبو جعفر وشيبة وابن كثير وابن محيصن وأبو عمرو ويعقوب وأبو بكر "يدخلون" بضم الياء وفتح الخاء، وقرأ الباقون بفتح الياء وضم الخاء "ولا يظلمون شيئاً" أي لا ينقص من أجورهم شيء وإن كان قليلاً، فإن الله سبحانه يوفي إليهم أجورهم.

جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا

وانتصاب 61- "جنات عدن" على البدل من الجنة، بدل البعض لكون جنات عدن بعض من الجنة. قال الزجاج: ويجوز جنات عدن بالرفع على الابتداء، وقرئ كذلك. قال أبو حاتم: ولولا الخط لكان جنة عدن: يعني بالإفراد مكان الجمع وليس هذا بشيء، فإن الجنة اسم لمجموع الجنات التي هي بمنزلة الأنواع للجنس. وقرئ بنصب الجنات على المدح، وقد قرئ جنة بالإفراد "التي وعد الرحمن عباده بالغيب" هذه الجملة صفة لجنات عدن، وبالغيب في محل نصب على الحال من الجنات، أو من عباده: أي متلبسة، أو متلبسين بالغيب، وقرئ بصرف عدن، ومنها على أنها علم لمعنى العدن وهو الإقامة، أو علم لأرض الجنة "إنه كان وعده مأتياً" أي موعوده على العموم. فتدخل فيه الجنات دخولاً أولياً. قال الفراء: لم يقل آتياً. لأن كل ما أتاك فقد أتيته، وكذا قال الزجاج.

لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا

62- "لا يسمعون فيها لغواً" هو الهذر من الكلام الذي يلغى ولا طائل تحته، وهو كناية عن عدم صدور اللغو منهم، وقيل اللغو كل ما لم يكن فيه ذكر الله "إلا سلاماً" هو استثناء منقطع: أي سلام بعضهم على بعض، أو سلام الملائكة عليهم. وقال الزجاج: السلام اسم جامع للخير، لأنه يتضمن السلامة، والمعنى: أن أهل الجنة لا يسمعون ما يؤلمهم وإنما يسمعون ما يسلمهم "ولهم رزقهم فيها بكرة وعشياً" قال المفسرون ليس في الجنة بكرة ولا عشية، ولكنهم يؤتون رزقهم على مقدار ما يعرفون من الغداء والعشاء.

تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا

63- "تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقياً" أي هذه الجنة التي وصفنا أحوالها نورثها من كان من أهل التقوى كما يبقى على الوارث مال موروثه. قرأ يعقوب "نورث" بفتح الواو وتشديد الراء، وقرأ الباقون بالتخفيف، وقيل في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: نورث من كان تقياً من عبادنا. وقد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "وكان رسولاً نبياً" قال: النبي الذي يكلم وينزل عليه ولا يرسل، ولفظ ابن أبي حاتم :الأنبياء الذين ليسوا برسل يوحى إلى أحدهم ولا يرسل إلى أحد. والرسل: الأنبياء الذي يوحى إليهم ويرسلون. وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "جانب الطور الأيمن" قال: جانب الجبل الأيمن "وقربناه نجياً" قال: نجا بصدقه. وأخرج عبد بن حميد عن أبي العالية قال: قربه حتى سمع صريف القلم، وروي نحو هذا عن جماعة من التابعين. وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن عباس في الآية قال: حتى سمع صريف القلم يكتب في اللوح. وأخرجه الديلمي عنه مرفوعاً. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون" قال: كان هارون أكبر من موسى، ولكن إنما وهب له نبوته. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ورفعناه مكاناً علياً" قال: كان إدريس خياطاً، وكان لا يغرز غرزة إلا قال سبحان الله، وكان يمسي حين يمسي وليس على الأرض أفضل عملاً منه، فاستأذن ملك من الملائكة ربه فقال: يا رب إئذن لي فأهبط إلى إدريس، فأذن له فأتى إدريس فقال: إني جئتك لأخدمك، قال: كيف تخدمني وأنت ملك وأنا إنسان؟ ثم قال إدريس: هل بينك وبين ملك الموت شيء؟ قال الملك: ذاك أخي من الملائكة، قال: هل تستطيع أن تنفعني؟ قال: أما يؤخر شيئاً أو يقدمه فلا، ولكن سأكلمه لك فيرفق بك عند الموت، فقال: اركب بين جناحي، فركب إدريس فصعد إلى السماء العليا فلقي ملك الموت وإدريس بين جناحيه، فقال له الملك: إن لي إليك حاجة، قال: علمت حاجتك تكلمني في إدريس، وقد محي اسمه من الصحيفة فلم يبق من أجله إلا نصف طرفة عين، فمات إدريس بين جناحي الملك. وأخرج ابن أبي شيبة في المصاحف وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: سألت كعباً فذكر نحوه، فهذا هو من الإسرائيليات التي يرويها كعب. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال: رفع إدريس إلى السماء السادسة. وأخرج الترمذي وصححه وابن المنذر وابن مردويه قال: حدثنا أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لما عرج بي رأيت إدريس في السماء الرابعة". وأخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في الآية قالك رفع إدريس كما رفع عيسى ولم يمت. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال: إدريس هو إلياس. وحسنه السيوطي. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله: "أولئك الذين أنعم الله عليهم" إلى آخره، قال: هذه تسمية الأنبياء الذين ذكرهم، أما من ذرية آدم: فإدريس ونوح، وأما من حمل مع نوح فإبراهيم، وأما ذرية إبراهيم: فإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، وأما ذرية إسرائيل: فموسى، وهارون، وزكريا، ويحيى، وعيسى. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله: "فخلف من بعدهم خلف" قال: هم اليهود والنصارى. وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد في الآية قال: هم من هذه الأمة يتراكبون في الطرق كما تراكب الأنعام لا يستحيون من الناس، ولا يخافون من الله في السماء. وأخرج عبد بن حميد عن ابن مسعود في قوله: "أضاعوا الصلاة" قال: ليس إضاعتها تركها قد يضيع الإنسان الشيء ولا يتركه، ولكن إضاعتها: إذا لم يصلها لوقتها. وأخرج أحمد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أبي سعيد الخدري سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلا هذه الآية "فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات" الآية قال: يكون خلف من بعد ستين سنة أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات "فسوف يلقون غياً" ثم يكون خلف يقرأون القرآن لا يعدو تراقيهم، ويقرأ القرآن ثلاثة: مؤمن، ومنافق، وفاجر. وأخرج أحمد والحاكم وصححه عن عقبة بن عامر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "سيهلك من أمتي أهل الكتاب وأهل اللبن، قلت: يا رسول الله ما أهل الكتاب؟ قال: قوم يتعلمون الكتاب يجادلون به الذين آمنوا، قلت: ما أهل اللبن؟ قال: قوم يتبعون الشهوات ويضيعون الصلوات". وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم وصححه عن عائشة أنها كانت ترسل بالصدقة لأهل الصدقة وتقول: لا تعطوا منها بربرياً ولا بربرية، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "هم الخلف الذين قال الله "فخلف من بعدهم خلف"". وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "فسوف يلقون غياً" قال: خسراً. وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وهناد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي في البعث من طرق عن ابن مسعود في قوله: "فسوف يلقون غياً" قال: الغي نهر، أو واد في جهنم من قيح بعيد القعر خبيث الطعم، يقذف فيه الذين يتبعون الشهوات. وقد قال بأنه واد في جهنم البراء بن عازب. وروى ذلك عنه ابن المنذر والطبراني. وأخرج ابن جرير والطبراني وابن مردويه والبيهقي عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ولو أن صخرة زنة عشر أواق قذف بها من شفير جهنم ما بلغت قعرها سبعين خريفاً، ثم تنتهي إلى غي وأثام، قلت وما غي وأثام؟ قال: نهران في أسفل جهنم يسيل فيهما صديد أهل النار، وهما اللذان ذكر الله في كتابه "فسوف يلقون غياً" "ومن يفعل ذلك يلق أثاماً""، وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الغي واد في جهنم". وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله: "لا يسمعون فيها لغواً" قال: باطلاً. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: "بكرةً وعشياً" قال: يؤتون به في الآخرة على مقدرا ما كانوا يؤتون به في الدنيا. وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول من طريق أبان عن الحسن وأبي قلابة قالا: "قال رجل: يا رسول الله هل في الجنة من ليل؟ قال: وما هيجك على هذا؟ قال: سمعت الله يذكر في الكتاب "ولهم رزقهم فيها بكرةً وعشياً" فقلت: الليل من البكرة والعشي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:ليس هناك ليل، وإنما هو ضوء ونور، يرد الغدو على الرواح والرواح على الغدو، تأتيهم طرف الهدايا من الله لمواقيت الصلاة التي كانوا يصلون فيها في الدنيا، وتسلم عليهم الملائكة". وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من غداة من غدوات الجنة، وكل الجنة غدوات، إلى أنه يزف إلى ولي الله فيها زوجة من الحور العين وأدناهن التي خلقت من الزعفران" قال بعد إخراجه قال أبو محمد: هذا حديث منكر.

وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا

قوله: 64- "وما نتنزل" أي قال الله سبحانه: قل يا جبريل وما نتنزل، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استبطأ نزول جبريل عليه، فأمر جبريل أن يخبره بأن الملائكة ما تتنزل عليه إلا بأمر الله. قيل احتبس جبريل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين يوماً، وقيل خمسة عشر، وقيل اثني عشر، وقيل ثلاثة أيام، وقيل إن هذا حكاية عن أهل الجنة، وأنهم يقولون عند دخولها: وما نتنزل هذه الجنان "إلا بأمر ربك" والأول أولى بدلالة ما قبله، ومعناه يحتمل وجهين: الأول وما نتنزل عليك إلا بأمر ربك لنا بالتنزل. والثاني وما نتنزل عليك إلا بأمر ربك الذي يأمرك به بما شرعه لك ولأمتك، والتنزل: النزول على مهل، وقد يطلق على مطلق النزول. ثم أكد جبريل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك" أي من الجهات والأماكن، أو من الأزمة الماضية والمستقبلة، وما بينهما من الزمان أو المكان الذي نحن فيه، فلا نقدر على أن ننتقل من جهة إلى جهة، أو من زمان إلى زمان إلا بأمر ربك ومشيئته، وقيل المعنى: له ما سلف من أمر الدنيا وما يستقبل من أمر الآخرة وما بين ذلك، وهو ما بين النفختين، وقيل الأرض التي بين أيدينا إذا نزلنا، والسماء التي وراءنا وما بين السماء والأرض، وقيل ما مضى من أعمارنا وما غير منها والحالة التي نحن فيها. وعلى هذه الأقوال كلها يكون المعنى: أن الله سبحانه هو المحيط بكل شيء لا يخفى عليه خافية، ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة، فلا نقدم على أمر إلا بإذنه، وقال: وما بين ذلك، ولم يقل وما بين ذينك لأن المراد: وما بين ما ذكرنا كما في قوله سبحانه: "عوان بين ذلك" "وما كان ربك نسياً" أي لم ينسك وإن تأخر عنك الوحي، وقيل المعنى: إنه عالم بجميع الأشياء لا ينسى منها شيئاً، وقيل المعنى: وما كان ربك ينسى الإرسال إليك عند الوقت الذي يرسل فيه رسله.

رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا

65- "رب السموات والأرض وما بينهما" أي خالفهما وخالق ما بينهما، ومالكهما ومالك ما بينهما، ومن كان هكذا فالنسيان محال عليه. ثم أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بعبادته والصبر عليها فقال: "فاعبده واصطبر لعبادته" والفاء للسببية لأن كونه رب العالمين سبب موجب لأن يعبد، وعدى فعل الصبر باللام دون على التي يتعدى بها لتضمنه معنى الثبات "هل تعلم له سمياً" الاستفهام للإنكار. والمعنى: أنه ليس له مثل ولا نظير حتى يشاركه في العبادة، فيلزم من ذلك أن تكون غير خالصة له سبحانه، فلما انتفى المشارك استحق الله سبحانه أن يفرد بالعبادة وتخلص له، هذا مبني على أن المراد بالسمي هو الشريك في المسمى، وقيل المراد به: الشريك في الإسم كما هو الظاهر من لغة العرب، فقيل المعنى: إنه لم يسم شيء من الأصنام ولا غيرها بالله قط، يعني بعد دخول الألف واللام التي عوضت عن الهمزة ولزمت، وقيل المراد هل تعلم أحداً اسمه الرحمن غيره. قال الزجاج: تأويله والله أعلم: هل تعلم له سمياً يستحق أن يقال له خالق وقادر وعالم بما كان وبما يكون، وعلى هذا لا سمي لله في جميع أسمائه، لأن غيره وإن سمي بشيء من أسمائه، فلله سبحانه حقيقة ذلك الوصف، والمراد بنفي العلم المستفاد من الإنكار هنا نفي المعلوم على أبلغ وجه وأكمله.

وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا

66- " ويقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حيا " قرأ الجمهور على الاستفهام، وقرأ ابن ذكوان إذا ما مت على الخبر، والمراد بالإنسان ها هنا الكافر، لأن هذا الاستفهام هنا للإنكار والاستهزاء والتكذيب بالبعث، وقيل اللام في الإنسان للجنس بأسره وإن لم يقل هذه المقالة إلا البعض، وهم الكفرة فقد يسند إلى الجماعة ما قام بواحد منهم، والمراد بقوله أخرج: أي من القبر، والعامل في الظرف فعل دل عليه أخرج، لأن ما بعد اللام لا يعمل فيما قبلها.

أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا

67- " أو لا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا " الهمزة للإنكار التوبيخي، والواو لعطف الجملة التي بعدها على الجملة التي قبلها، والمراد بالذكر هنا إعمال الفكر: أي ألا يتفكر هذا الجاحد في أول خلقه فيستدل بالابتداء على الإعادة، والابتداء أعجب وأغرب من الإعادة، لأن النشأة الأولى هي إخرج لهذه المخلوقات من العدم إلى الوجود ابتداعاً واختراعاً، ولم يتقدم عليه ما يكون كالمثال له، وأما النشأة الآخرة فقد تقدم عليها النشأة الأولى فكانت كالمثال لها، ومعنى من قبل قبل الحالة التي هو عليها الآن، وجملة ولم يك شيئاً في محل نصب على الحال: أي والحال أنه لم يكن حينئذ شيئاً من الأشياء أصلاً، فإعادته بعد أن كان شيئاً موجوداً أسهل وأيسر. قرأ أهل مكة وأبو عمرو وأبو جعفر وأهل الكوفة إلا عاصماً " أو لا يذكر " بالتشديد، وأصله يتذكر. وقرأ شيبة ونافع وعاصم وابن عامر "يذكر" بالتخفيف، وفي قراءة أبي أو لا يتذكر.

فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا

ثم لما جاء سبحانه وتعالى بهذه الحجة التي أجمع العقلاء على أنه لم يكن في حجج البعث حجة أقوى منها، أكدها بالقسم باسمه سبحانه مضافاً إلى رسوله تشريفاً له وتعظيماً، فقال: 68- "فوربك لنحشرنهم" ومعنى لنحشرنهم: لنسوقنهم إلى المحشر بعد إخراجهم من قبورهم أحياء كما كانوا، والواو في قوله: "والشياطين" للعطف على المنصوب، أو بمعنى مع. والمعنى: أن هؤلاء الجاحدين يحشرهم الله مع شياطينهم الذين أغروهم وأضلوهم، وهذا ظاهر على جعل اللام في الإنسان للعهد، وهو الإنسان الكافر، وأما على جعلها للجنس فكونه قد وجد في الجنس من يحشر مع شيطانه "ثم لنحضرنهم حول جهنم جثياً" الجثي جمع جاث، من قولهم جثا على ركبتيه يجثو جثواً، وهو منتصب على الحال: أي جاثين على ركبهم لما يصيبهم من هول الموقف وروعة الحساب، أو لكون الجثي على الركب شأن أهل الموقف كما في قوله سبحانه "وترى كل أمة جاثية"، وقيل المراد بقوله جثياً جماعات، وأصله جمع جثوة، والجثوة هي المجموع من التراب أو الحجارة. قال طرفة: أرى جثوتين من تراب عليهما صفائح صم من صفيح منضد

ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا

69- "ثم لننزعن من كل شيعة" الشيعة الفرقة التي تبعت ديناً من الأديان، وخصص ذلك الزمخشري فقال: هي الطائفة التي شاعت: أي تبعت غاوياً من الغواة قال الله تعالى: "إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً". ومعنى "أيهم أشد على الرحمن عتياً" من كان أعصى الله وأعتى فإنه ينزع من كل طائفة من طوائف الغي والفساد أعصاهم وأعتاهم، فإذا اجتمعوا طرحهم في جهنم. والعتي ها هنا مصدر كالعتو، وهو التمرد في العصيان. وقيل المعنى: لننزعن من أهل كل دين قادتهم ورؤسائهم في الشر. وقد اتفق القراء على قراءة أيهم بالضم إلا هارون الغازي فإنه قرأها بالفتح. قال الزجاج: في رفع أيهم ثلاثة أقوال: الأول قول الخليل بن أحمد إنه مرفوع على الحكاية. والمعنى: ثم لننزعن من كل شيعة الذين يقال لهم أيهم أشد، وأنشد الخليل في ذلك قول الشاعر: وقد أبيت من الفتاة بمنزل فأبيت لا حرج ولا محروم أي فأبيت بمنزلة الذي يقال له هو لا حرج ولا محروم. قال النحاس: ورأيت أبا إسحاق يعني الزجاج يختار هذا القول ويستحسنه. القول الثاني قول يونس: وهو أن لننزعن بمنزلة الأفعال التي تلغى وتعلق، فهذا الفعل عنده معلق عن العمل في أي، وخصص الخليل وسيبويه وغيرهما التعليق بأفعال الشك ونحوهما مما لم يتحقق وقوعه. القول الثالث قول سيبويه، إن أيهم ها هنا مبني على الضم، لأنه خالف أخواته في الحذف، وقد غلط سيبويه في قوله هذا جمهور النحويين حتى قال الزجاج: ما تبين لي أن سيبويه غلط في كتابه إلا في موضعين هذا أحدهما، وللنحويين في إعراب أيهم هذه في هذا الموضع كلام طويل.

ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا

70- "ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صلياً" يقال صلى صلياً مثل مضى الشي يمضي مضياً، قال الجوهري: يقال صليت الرجل ناراً إذا أدخلته النار وجعلته يصلاها، فإن ألقيته إلقاءً كأنك تريد الإحراق قلت: أصليته بالألف وصليته وتصليه ومنه "ويصلى سعيراً" ومن خفف فهو من قولهم: صلى فلان النار بالكسر يصلى صلياً احترق، قال الله تعالى: "الذين هم أولى بها صلياً" قال العجاج: والله لولا النار أن تصلاها ومعنى الآية: أن هؤلاء الذين هم أشد على الرحمن عتياً هم أولى بصليها أو صليهم أولى بالنار.

وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا

71- "وإن منكم إلا واردها" الخطاب للناس من غير التفات، أو للإنسان المذكور، فيكون التفاتاً: أي ما منكم من أحد إلا واردها: أي واصلها. وقد اختلف الناس في هذا الورود، فقيل الورود الدخول ويكون على المؤمنين برداً وسلاماً كما كانت على إبراهيم. وقالت فرقة: الورود هو المرور على الصراط، وقيل ليس الورود الدخول إنما هو كما يقول وردت البصرة ولم أدخلها، وقد توقفت كثير من العلماء عن تحقيق هذا الورود، وحمله على ظاهره لقوله تعالى: "إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون" قالوا: فلا يدخل النار من ضمن الله أن يبعده عنها، ومما يدل على أن الورود لا يستلزم الدخول قوله تعالى: " ولما ورد ماء مدين " فإن المراد أشرف عليه لا أنه دخل فيه، ومنه قول زهير. فلما وردن الماء زرقاً حمامه وضعن عصي الحاضر المتخيم ولا يخفى أن القول بأن الورود هو المرور على الصراط، أو الورود على جهنم وهي خامدة فيه، جمع بين الأدلة من الكتاب والسنة، فينبغي حمل هذه الآية على ذلك، لأنه قد حصل الجمع بحمل الورود على دخول النار مع كون الداخل من المؤمنين مبعداً من عذابها، أو بحمله على المضي فوق الجسر المنصوب علها، وهو الصراط "كان على ربك حتماً مقضياً" أي كان ورودهم المذكور أمراً محتوماً قد قضى سبحانه أنه لا بد من وقوعه لا محالة، وقد استدلت المعتزلة بهذه الآية على أن العقاب واجب على الله، وعند الأشاعرة أن هذا مشبه بالواجب من جهة استحالة تطرق الخلف إليه.

ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا

72- "ثم ننجي الذين اتقوا" أي اتقوا ما يوجب النار، وهو الكفر بالله ومعاصيه، وترك ما شرعه، وأوجب العمل به. قرأ عاصم الجحدري ومعاوية بن قرة "ننجي" بالتخفيف من أنجى، وبها قرأ حميد ويعقوب والكسائي، وقرأ الباقون بالتشديد، وقرأ ابن أبي ليلى " ونذر " بفتح الثاء من ثم، والمراد بالظالمين الذين ظلموا أنفسهم بفعل ما يوجب النار، أو ظلموا غيرهم بمظلمة في النفس أو المال أو العرض، والجثي جمع جاث، وقد تقدم قريباً تفسير الجثي وإعرابه. وقد أخرج البخاري وغيره عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل "ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا؟ فنزلت "وما نتنزل إلا بأمر ربك" إلى آخر الآية". وزاد ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، وكان ذلك الجواب لمحمد. وأخرج ابن مردويه من حديث أنس قال "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي البقاع أحب إلى الله، وأيها أبغض إلى الله؟ قال: ما أدري حتى أسأل، فنزل جبريل، وكان قد أبطأ عليه، فقال: لقد أبطأت علي حتى ظننت أن بربي علي موجدة، فقال: وما نتنزل إلا بأمر ربك". وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن عكرمة قال: "أبطأ جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم أربعين يوماً ثم أنزل، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما نزلت حتى اشتقت إليك، فقال له جبريل: أنا كنت إليك أشوق، ولكني مأمور، فأوحى الله إلى جبريل أن قل له "وما نتنزل إلا بأمر ربك"" وهو مرسل. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: أبطأت الرسل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أتاه جبريل فقال له: "ما حبسك عني؟ قال: وكيف نأتيكم وأنتم لا تقصون أظفاركم ولا تنقون براحمكم ولا تأخذون شواربكم ولا تستاكون؟ وقرأ " وما نتنزل إلا بأمر ربك "" وهو مرسل أيضاً. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير "له ما بين أيدينا" قال من أمر الآخرة "وما خلفنا" قال: من أمر الدنيا "وما بين ذلك" قال: ما بين الدنيا والآخرة. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة "وما بين ذلك" قال: ما بين النفختين. وأخرج ابن المنذر عن أبي العالية مثله. وأخرج البزار وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والطبراني والبيهقي والحاكم وصححه عن أبي الدرداء رفع الحديث قال: ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عافية، فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن لينسى شيئاً، ثم تلا "وما كان ربك نسياً". وأخرج ابن مردويه من حديث جابر مثله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله: "هل تعلم له سمياً" قال: هل تعرف للرب شبهاً أو مثلاً. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عنه "هل تعلم له سمياً"؟ قال: ليس أحد يسمى الرحمن غيره. وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً في الآية قال: يا محمد هل تعلم لإلهك من ولد؟ وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله: "ويقول الإنسان" قال: العاص بن وائل، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "جثياً" قال: قعوداً، وفي قوله: "عتياً" قال: معصية. وأخرج ابن جرير عنه في قوله: "عتياً" قال: عصياً. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "ثم لننزعن" قال: لننزعن من أهل كل دين قادتهم ورؤوسهم في الشر. وأخرج ابن أبي حاتم والبيهقي في البعث عن ابن مسعود قال: نحشر الأول على الآخر حتى إذا تكاملت العدة أثارهم جميعاً، ثم بدأ بالأكابر فالأكابر جرماً، ثم قرأ "فوربك لنحشرنهم" إلى قوله: "عتياً". وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله: "ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صلياً" قال: يقول إنهم أولى بالخلود في جهنم. وأخرج أحمد وعبد بن حميد والحكيم الترمذي وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي عن أبي سمية قال: اختلفنا في الورود، فقال بعضنا لا يدخلها مؤمن، وقال بعضنا يدخلونها جميعاً "ثم ننجي الذين اتقوا" فلقيت جابر بن عبد الله فذكرت له، فقال وأهوى بأصبعه إلى أذنيه صمتاً إن لم أكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها فتكون على المؤمن برداً وسلاماً كما كانت على إبراهيم حتى إن للنار ضجيجاً من بردها "ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثياً"". وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وهناد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن مجاهد قال: خاصم نافع بن الأزرق ابن عباس، فقال ابن عباس: الورود الدخول، وقال نافع لا، فقرأ ابن عباس "إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون"، وقال: وردوا أم لا؟ وقرأ: "يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار" أوردوا أم لا؟ أما أنا وأنت فسندخلها فانظر هل نخرج منها أم لا؟. وأخرج الحاكم عن ابن مسعود في قوله: "وإن منكم إلا واردها" قال: وإن منكم إلا داخلها. وأخرج هناد والطبراني عنه في الآية قال: وردوها الصراط. وأخرج أحمد وعبد بن حميد والترمذي وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي وابن الأنباري وابن مردويه عن ابن مسعود في قوله: "وإن منكم إلا واردها" قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليرد الناس كلهم النار، ثم يصدرون عنها بأعمالهم، فأولهم كلمح البرق، ثم كالريح، ثم كحضر الفرس، ثم كالراكب في رحله، ثم كشد الرحل، ثم كمشيه"، وقد روي نحو هذا من حديث ابن مسعود من طرق. وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل النار أحد شهد بدراً والحديبية، قالت حفصة: أليس الله يقول: "وإن منكم إلا واردها" قالت: ألم تسمعيه يقول: "ثم ننجي الذين اتقوا"". وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يموت لمسلم ثلاثة من الولد فليلج النار إلا تحلة القسم" ثم قرأ سفيان "وإن منكم إلا واردها". وأخرج أحمد والبخاري في تاريخه وأبو يعلى والطبراني وابن مردويه عن معاذ بن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من حرس من وراء المسلمين في سبيل الله متطوعاً لا يأخذه سلطان لم ير النار بعينيه إلا تحلة القسم، فإن الله يقول: "وإن منكم إلا واردها""، والأحاديث في تفسير هذه الآية كثيرة جداً. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "حتماً مقضياً" قال: قضاء من الله. وأخرج الخطيب في تالي التخليص عن عكرمة حتماً مقضياً قال: قسماً واجباً. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ونذر الظالمين فيها جثياً" قال: باقين فيها.

وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا

الضمير في قوله 73- "عليهم" راجع إلى الكفار الذين سبق ذكرهم في قوله: " أإذا ما مت لسوف أخرج حيا " أي هؤلاء إذا قرئ عليهم القرآن تعذروا بالدنيا، وقالوا: لو كنتم على الحق وكنا على الباطل لكان حالكم في الدنيا أطيب من حالنا، ولم يكن بالعكس، لأن الحكيم لا يليق به أن يهين أولياءه ويعز أعداءه، ومعنى البينات الواضحات التي لا تلتبس معانيها، وقيل ظاهرات الإعجاز، وقيل إنها حجج وبراهين، والأول أولى. وهي حال مؤكدة لأن آيات الله لا تكون إلا واضحة، ووضع الظاهر موضع المضمر في قوله: "قال الذين كفروا" للإشعار بأن كفرهم هو السبب لصدور هذا القول عنهم، وقيل المراد بالذين كفروا هنا هم المتمردون المصرون منهم، ومعنى قالوا "للذين آمنوا" قالوا لأجلهم، وقيل هذه اللام هي لام التبليغ كما في قوله: "وقال لهم نبيهم" أي خاطبوهم بذلك وبلغوا القول إليهم "أي الفريقين خير مقاماً" المراد بالفريقين المؤمنون والكافرون، كأنهم قالوا أفريقنا خير أم فريقكم، قرأ ابن كثير وابن محيصن وحميد وشبل بن عباد "مقاماً" بضم الميم وهو موضع الإقامة، ويجوز أن يكون مصدراً بمعنى الإقامة، وقرأ الباقون بالفتح: أي منزلاً ومسكناً وقيل المقام الموضع الذي يقام فيه بالأمور الجليلة والمعنى: أي الفريقين أكبر جاهاً وأكثر أنصاراً وأعواناً، والندي والنادي: مجلس القوم ومجتمعهم، ومنه قوله تعالى: "تأتون في ناديكم المنكر" وناداه: جالسه في النادي، ومنه دار الندوة، لأن المشركين كانوا يتشاورون فيها في أمورهم، ومنه أيضاً قول الشاعر: أنادي به آل الوليد وجعفراً

وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا

74- "وكم أهلكنا قبلهم من قرن" القرن الأمة والجماعة "هم أحسن أثاثاً ورئياً" الأثاث المال أجمع: الإبل والغنم والبقر والعبيد والمتاع، وقيل هو متاع البيت خاصة، وقيل هو الجديد من الفرش، وقيل اللباس خاصة. واختلفت القراءات في ورثياً فقرأ أهل المدينة وابن ذكوان "ورياً" بياء مشددة، وفي ذلك وجهان: أحدهما أن يكون من رأيت ثم خففت الهمزة فأبدل منها ياء وأدغمت الياء في الياء، والمعنى على هذه القراءة: هم أحسن منظراً وبه قول جمهور المفسرين، وحسن المنظر يكون من جهة حسن اللباس، أو حسن الأبدان وتنعمها، أو مجموع الأمرين. قرأ أهل الكوفة وأبو عمرو وابن كثير "ورئياً" بالهمز، وحكاها ورش عن نافع وهشام عن ابن عامر، ومعناها معنى القراءة الأولى. قال الجوهري: من همز جعله من المنظر من رأيت، وهو ما رأته العين من حال حسنة وكسوة ظاهرة، وأنشد أبو عبيدة لمحمد بن نمير الثقفي: أشاقتك الظعائن يوم بانوا ببذي الرئي الجميل من الأثاث ومن لم يهمز: إما أن يكون من تخفيف الهمزة، أو يكون من رويت ألوانهم أو جلودهم رياً: أي امتلأت وحسنت. وقد ذكر الزجاج معنى هذا كما حكاه عنه الواحدي. وحكى يعقوب أن طلحة بن مصرف قرأ بياء واحدة خفيفة، فقيل إن هذه القراءة غلط، ووجهها بعض النحويين أنه كان أصلها الهمزة فقلبت ياء ثم حذفت إحدى الياءين، وروي عن ابن عباس أنه قرأ بالزاي مكان الراء، وروي مثل ذلك عن أبي بن كعب وسعيد بن جبير والأعصم المكي واليزيدي، والزي الهيئة والحسن. قيل ويجوز أن يكون من زويت: أي جمعت، فيكون أصلها زوياً فقلبت الواو ياء، والزي محاسن مجموعة.

قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا

75- "قل من كان في الضلالة" أمر الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم أن يجيب على هؤلاء المفتخرين بحظوظهم الدنيوية: أي من كان مستقراً في الضلالة "فليمدد له الرحمن مداً" هذا وإن كان على صيغة الأمر، والمراد به الخير، وإنما خرج مخرج الأمر لبيان الإمهال منه سبحانه للعصاة، وأن ذلك كائن لا محالة لتنقطع معاذير أهل الضلال، ويقال لهم يوم القيامة "أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر" أو للاستدراج كقوله سبحانه "إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً" وقيل المراد بالآية الدعاء بالمد والتنفيس. قال الزجاج: تأويله أن الله جعل جزاء ضلالته أن يتركه ويمده فيها، لأن لفظ الأمر يؤكد معنى الخبر كأن المتكلم يقول أفعل ذلك وآمر به نفسي "حتى إذا رأوا ما يوعدون" يعني الذين مد لهم في الضلالة، وجاء بضمير الجماعة اعتباراً بمعنى من، كما أن قوله كان في الضلالة فليمدد له اعتبار بلفظها، وهذه غاية للمد، لا لقول المفتخرين إذ ليس فيه امتداد "إما العذاب وإما الساعة" هذا تفصيل لقوله ما يوعدون: أي هذا الذي توعدون هو أحد أمرين إما العذاب في الدنيا بالقتل والأسر، وإما يوم القيامة وما يحل بهم حينئذ من العذاب الأخروي "فسيعلمون من هو شر مكاناً وأضعف جنداً" هذا جواب الشرط، وهو جواب على المفتخرين: أي هؤلاء القائلون: "أي الفريقين خير مقاماً"، إذا عاينوا ما يوعدون به من العذاب الدنيوي بأيدي المؤمنين، أو الأخروي، فسيعلمون عند ذلك من هو شر مكاناً لا خير مكاناً، وأضعف جنداً لا أقوى ولا أحسن من فريق المؤمنين، وليس المراد أن للمفتخرين هنالك جنداً ضعفاء، بل لا جند لهم أصلاً كما في قوله سبحانه: "ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصراً".

وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا

ثم لما أخبر سبحانه عن حال أهل الضلالة، أراد أن يبين حال أهل الهداية فقال: 76- "ويزيد الله الذين اهتدوا هدى" وذلك أن بعض الهدى يجر إلى البعض الآخر، والخير يدعو إلى الخير، وقيل المراد بالزيادة العبادة من المؤمنين، والواو في ويزيد للاستئناف، والجملة مستأنفة لبيان حال المهتدين، وقل الواو للعطف على فليمدد، وقيل للعطف على جملة من كان في الضلالة. قال الزجاج: المعنى أن الله يجعل جزاء المؤمنين أن يزيدهم يقيناً كما جعل جزاء الكافرين أن يمدهم في ضلالتهم "والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً" هي الطاعات المؤدية إلى السعادة الأبدية، ومعنى كونها خيراً عند الله ثواباً، أنها أنفع عائدة مما يتمتع به الكفار من النعم الدنيوية " وخير مردا " المرد ها هنا مصدر كالرد، والمعنى وخير مرداً للثواب على فاعلها ليست كأعمال الكفار التي خسروا فيها، والمرد المرجع والعاقبة والتفضل للتهكم بهم للقطع بأن أعمال الكفار لا خير فيها أصلاً.

أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآَيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا

ثم أردف سبحانه مقالة أولئك المفتخرين بأخرى مثلها على سبيل التعجب فقال: 77- "أفرأيت الذي كفر بآياتنا" أي أخبرني بقصة هذا الكافر واذكر حديثه عقب حديث أولئك، وإنما استعملوا أرأيت بمعنى أخبر، لأن رؤية الشيء من أسباب صحة الخبر عنه، والآيات تعم كل آية ومن جملتها آية البعث، والفاء للعطف على مقدر يدل عليه المقام: أي أنظرت فرأيت، واللام في "لأوتين مالاً وولداً" هي الموطئة للقسم، كأنه قال: والله لأوتين في الآخرة مالاً وولداً: أي انظر إلى حال هذا الكافر وتعجب من كلامه وتأليه على الله مع كفره به وتكذيبه بآياته.

أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا

ثم أجاب سبحانه عن قول هذا الكافر بما يدفعه ويبطله، فقال 78- "أطلع" على "الغيب" أي أعلم ما غاب عنه حتى يعلم أنه في الجنة "أم اتخذ عند الرحمن عهداً" بذلك، فإنه لا يتوصل إلى العلم إلا بإحدى هاتين الطريقتين، وقيل المعنى: أنظر في اللوح المحفوظ؟ أم اتخذ عند الرحمن عهداً، وقيل معنى: أم اتخذ عند الرحمن عهداً؟ أم قال لا إله إلا الله فأرحمه بها، وقيل المعنى أم قدم عملاً صالحاً فهو يرجوه، واطلع مأخوذ من قولهم: اطلع الجبل إذاً ارتقى إلى أعلاه. وقرأ حمزة والكسائي ويحيى بن وثاب والأعمش "وولداً" بضم الواو، والباقون بفتحها، فقيل هما لغتان معناهما واحد، يقال ولد وولد كما يقال عدم وعدم، قال الحارث بن حلزة: ولقد رأيت معاشراً قد ثمروا مالاً وولداً وقال آخر: فليت فلاناً كان في بطن أمه وليت فلاناً كان ولد حمار وقيل الولد بالضم للجمع وبالفتح للواحد. وقد ذهب الجمهور إلى أن هذا الكافر أراد بقوله: لأوتين مالاً وولداً أنه يؤتى ذلك في الدنيا. وقال جماعة في الجنة، وقيل المعنى: إن أقمت على دين آبائي لأوتين، وقيل المعنى: لو كنت على باطل لما أوتيت مالاً وولداً.

كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا

79- "كلا سنكتب ما يقول" كلا حرف ردع وزجر: أي ليس الأمر على ما قال هذا الكافر من أنه يؤتى المال والولد سيكتب ما يقول: أي ستحفظ عليه ما يقوله فنجازيه في الآخرة، أو سنظهر ما يقول، أو سننتقم منه انتقام من كتبت معصيته "ونمد له من العذاب مداً" أي نزيده عذاباً فوق عذابه مكان ما يدعيه لنفسه من الإمداد بالمال والولد، أو نطول له من العذاب ما يستحقه وهو عذاب من جمع بين الكفر والاستهزاء.

وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا

"ونرثه ما يقول" أي نميته فنرثه المال والولد الذي يقول إنه يؤتاه. والمعنى: مسمي ما يقول ومصداقه، وقيل المعنى: نحرمه ما تمناه ونعطيه غيره "ويأتينا فرداً" أي يوم القيامة لا مال له ولا ولد، بل نسلبه ذلك، فكيف يطمع في أن نؤتيه، وقيل المراد بما يقول نفس القول لا مسماه، والمعنى: إنما يقول هذا القول ما دام حياً، فإذا أمتناه حلنا بينه وبين أن يقوله ويأتينا رافضاً له منفرداً عنه، والأول أولى. وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "أي الفريقين خير مقاماً" قال: قريش نقوله لها ولأصحاب محمد. وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "خير مقاماً" قال: المنازل "وأحسن ندياً" قال: المجالس، وفي قوله: "أحسن أثاثاً" قال: المتاع والمال "ورئياً" قال: المنظر. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مداً" فليدعه الله في طغيانه، وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن حبيب بن أبي ثابت قال في حرف أبي قل من كان في الضلالة فإنه يزيد الله ضلالة. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما في قوله "أفرأيت الذي كفر" من حديث خباب بن الأرت قال: كنت رجلاً قيناً وكان لي على العاص بن وائل دين، فأتيته أتقاضاه فقال: لا والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد، فقلت: والله لا أكفر بمحمد حتى تموت ثم تبعث، قال: فإني مت ثم بعثت جئتني ولي ثم مال وولد فأعطيك، فأنزل الله فيه هذه الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "أم اتخذ عند الرحمن عهداً" قال: لا إله إلا الله يرجو بها. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله: "ونرثه ما يقول" قاله ماله وولده.

وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آَلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا

حكى سبحانه ما كان عليه هؤلاء الكفار الذين تمنوا ما لا يستحقونه، وتألوا على الله سبحانه من اتخاذهم الآلهة من دون الله لأجل يتعززون بذلك. قال الهروي: معنى 81- "ليكونوا لهم عزاً" ليكونوا لهم أعواناً. قال الفراء: معناه ليكونوا لهم شفعاء في الآخرة، وقيل معناه: ليتعززوا بهم من عذاب الله ويمتنعوا بها.

كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا

82- "كلا سيكفرون بعبادتهم" أي ليس الأمر كما ظنوا وتوهموا، والضمير في الفعل إما للآلهة: أي ستجحد هذه الأصنام عبادة الكفار لها يوم ينطقها الله سبحانه، لأنها عند أن عبدوها جمادات لا تعقل ذلك، وإما للمشركين: أي سيجحد المشركون أنهم عبدوا الأصنام، ويدل على الوجه الأول قوله تعالى: "ما كانوا إيانا يعبدون" وقوله: "فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون" ويدل على الوجه الثاني قوله تعالى: "والله ربنا ما كنا مشركين" وقرأ ابن أبي نهيك كلا بالتنوين، وروي عنه مع ذلك ضم الكاف وفتحها فعلى الضم هي بمعنى جميعاً وانتصابها بفعل مضمر كأنه قال: سيكفرون كلا سيكفرون بعبادهم، وعلى الفتح يكون مصدراً لفعل محذوف تقديره: كل هذا الرأي كلا، وقراءة الجمهور هي الصواب، وهي حرف ردع وجزر "ويكونون عليهم ضداً" أي تكون هذه الآلهة التي ظنوها عزاً لهم ضداً عليهم: أي ضداً للعز وضد العز الذل هذا على الوجه الأول، وأما على الوجه الثاني فيكون المشركون للآلهة ضداً وأعداء يكفرون بها بعد أن كانوا يحبونها ويؤمنون بها.

أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا

83- "ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين". ذكر الزجاج في معنى هذا وجهين: أحدهما أن معناه خلينا بين الكافرين وبين الشياطين فلم نعصمهم منهم ولم نعذهم، بخلاف المؤمنين الذين قيل فيهم "إن عبادي ليس لك عليهم سلطان" الوجه الثاني أنهم أرسلوا عليهم وقيضوا لهم بكفرهم قال "ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً" فمعنى الإرسال ها هنا التسليط ومن ذلك قوله سبحانه لإبليس "واستفزز من استطعت منهم بصوتك" ويؤيد الوجه الثاني تمام الآية، وهو "تؤزهم أزاً" فإن الأز والهز والاستفزاز معناها التحريك والتهييج والإزعاج، فأخبر الله سبحانه أن الشياطين تحرك الكافرين وتهيجهم وتغويهم، وذلك هو التسليط لها عليهم، وقيل معنى الأز الاستعجال، وهو مقارب لما ذكرنا لأن الاستعجال تحريك وتهييج واستفزاز وإزعاج، وسياق هذه الآية لتعجيب رسول الله صلى الله عليه وسلم من حالهم وللتنبيه له على أن جميع ذلك بإضلال الشياطين وإغوائهم، وجملة: تؤزهم أزاً في محل نصب على الحال، أو مستأنفة على تقدير سؤال يدل عليه المقام، كأنه قيل ماذا تفعل الشياطين بهم؟

فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا

84- "فلا تعجل عليهم" بأن تطلب من الله إهلاكهم بسبب تصميمهم على الكفر وعنادهم للحق وتمردهم عن داعي الله سبحانه، ثم علل سبحانه هذا النهي بقوله: "إنما نعد لهم عداً" يعني نعد الأيام والليالي والشهور والسنين من أعمارهم إلى انتهاء آجالهم، وقيل نعد أنفاسهم، وقيل خطواتهم، وقيل لحظاتهم، وقيل الساعات. وقال قطرب: نعد أعمالهم. وقيل المعنى: لا تعجل عليهم فإنما نؤخرهم ليزدادوا إثماً.

يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا

ثم لما قرر سبحانه أمر الحشر وأجاب عن شبهة منكريه أراد أن يشرح حال المكلفين حينئذ، فقال: 85- "يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً" الظرف منصوب بفعل مقدر: أي اذكر يا محمد يوم الحشر، وقيل منصوب بالفعل الذي بعده، ومعنى حشرهم إلى الرحمن: حشرهم إلى جنته ودار كرامته، كقوله: "إني ذاهب إلى ربي" والوفد جمع وافد كالركب جمع راكب وصحب جمع صاحب، يقال وفد يفد وفداً إذا خرج إلى ملك أو أمر خطير كذا قال الجوهري.

وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا

86- "ونسوق المجرمين إلى جهنم ورداً" السوق الحث على السير، والورد العطاش قاله الأخفش وغيره. وقال الفراء وابن الأعرابي: هم المشاة، وقال الأزهري: هم المشاة العطاش كالإبل ترد الماء. وقيل ورداً: أي للورد، كقولك جئتك إكراماً: أي للإكرام، وقيل أفراداً. قيل لا تناقض بين هذه الأقوال فهم يساقون مشاة عطاشاً أفراداً، وأصل الورد الجماعة التي ترد الماء من طير أو إبل أو قوم أو غير ذلك. والورد الماء الذي يورد.

لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا

وجملة 87- "لا يملكون الشفاعة". مستأنفة لبيان بعض ما يكون في ذلك اليوم من الأمور، والضمير في يملكون راجع إلى الفريقين، وقيل للمتقين خاصة، وقيل للمجرمين خاصة، والأول أولى. ومعنى لا يملكون الشفاعة: أنهم لا يملكون أن يشفعوا لغيرهم، وقيل لا يملك غيرهم أن يشفع لهم، والأول أولى "إلا من اتخذ عند الرحمن عهداً" هذا الاستثناء متصل على الوجه الأول: أي لا يملك الفريقان المذكوران الشفاعة إلا من استعد لذلك بما يصير به من جملة الشافعين لغيرهم بأن يكون مؤمناً متقياً، فهذا معنى اتخاذ العهد عند الله. وقيل معنى اتخاذ العهد أن الله أمره بذلك كقولهم: عهد الأمير إلى فلان إذا أمره به. وقيل معنى اتخاذ العهد شهادة أن لا إله إلا الله، وقيل غير ذلك. وعلى الاتصال في هذا الاستثناء يكون محل من في من اتخذ الرفع على البدل، أو النصب على أصل الاستثناء. وأما على الوجه الثاني فالاستثناء منقطع لأن التقدير: لا يملك المجرمون الشفاعة "إلا من اتخذ عند الرحمن عهداً" وهم المسلمون، وقيل هو متصل على هذا الوجه أيضاً، والتقدير: لا يملك المجرمون الشفاعة إلا من كان منهم مسلماً.

وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا

88- "وقالوا اتخذ الرحمن ولداً" قرأ يحيى بن وثاب وحمزة والكسائي ولداً بضم الواو وإسكان الللام. وقرأ الباقون في الأربعة المواضع المذكورة في هذه السورة بفتح الواو واللام، وقد قدمنا الفرق بين القراءتين، والجملة مستأنفة لبيان قول اليهود والنصارى ومن يزعم من العرب أن الملائكة بنات الله.

لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا

وفي قوله: 89- "لقد جئتم شيئاً إداً" التفات من الغيبة إلى الخطاب، وفيه رد لهذه المقالة الشنعاء، والإد كما قال الجوهري: الداهية والأمر الفظيع، وكذلك الأدة، وجمع الأدة أدد، يقال أدت فلاناً الداهية تؤده أداء بالفتح. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي أداً بفتح الهمزة، وقرأ الجمهور بالكسر، وقرأ ابن عباس وأبو العالية آداً مثل ماداً، وهي مأخوذة من الثقل، يقال أده الحمل يؤده: إذا أثقله. قال الواحدي "لقد جئتم شيئاً إداً" أي عظيماً في قول الجميع، ومعنى الآية: قلتم قولاً عظيماً. وقيل الإد العجب، والإدة الشدة، والمعنى متقارب والتركيب يدور على الشدة والثقل.

تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا

90- "تكاد السماوات يتفطرن منه" قرأ نافع والكسائي وحفص ويحيى بن وثاب "يكاد" بالتحتية، وقرأ الباقون بالفوقية وقرأ نافع وابن كثير وحفص " يتفطرن " بالتاء الفوقية، وقرأ حمزة وابن عامر وأبو عمر وأبو بكر والمفضل "يتفطرن" بالتحتية من الانفطار، واختار هذه القراءة أبو عبيد لقوله: "إذا السماء انفطرت" وقوله "السماء منفطر به" وقرأ ابن مسعود يتصدعن والانفطار والتفطر التشقق "وتنشق الأرض" أي وتكاد أن تنشق الأرض، وكرر الفعل للتأكيد لأن تتفطرن وتنشق معناهما واحد "وتخر الجبال" أي تسقط وتنهدم، وانتصاب "هداً" على أنه مصدر مؤكد لأن الخرور في معناه، أو هو مصدر لفعل مقدر: أي وتنهد هداً، أو على الحال أي مهدودة، أو على أنه مفعول له: أي لأنها تنهد. قال الهروي: يقال هدني الأمر وهد ركني: أي كسرني وبلغ مني. قال الجوهري: هد البناء يهده هداً كسره وضعضعه، وهدته المصيبة أوهنت ركنه، وانهد الجبل: أي انكسر والهدة صوت وقع الحائط، كما قال ابن الأعرابي.

أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا

ومحل 91- "أن دعوا للرحمن ولداً" الجر بدلاً من الضمير في منه. وقال الفراء: في محل نصب بمعنى لأن دعوا. وقال الكسائي: هو في محل خفض بتقدير الخافض، وقيل في محل رفع على أنه فاعل هداً. والدعاء بمعنى التسمية: أي سمو الرحمن ولداً، أو بمعنى النسبة أي نسبوا له ولداً.

وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا

92- "وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولداً" أي لا يصلح له ولا يليق به لاستحالة ذلك عليه لأن الولد يقتضي الجنسية والحدوث، والجملة في محل نصب على الحال: أي قالوا اتخذ الرحمن ولداً، أو أن دعوا للرحمن ولداً، والحال أنه ما يليق به سبحانه ذلك.

إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا

93- "إن كل من في السماوات والأرض" أي ما كل من في السموات والأرض "إلا" وهو "آتي" الله يوم القيامة مقراً بالعبودية خاضعاً ذليلاً كما قال: "وكل أتوه داخرين" أي صاغرين. والمعنى: أن الخلق كلهم عبيده فكيف يكون واحد منهم ولداً له؟ وقرئ آت على الأصل.

لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا

94- "لقد أحصاهم" أي حصرهم وعلم عددهم "وعدهم عداً" أي عد أشخاصهم بعد أن حصرهم فلا يخفى عليه أحد منهم.

وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا

"وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً" أي كل واحد منهم يأتيه يوم القيامة فرداً لا ناصر له ولا مال معه كما قال سبحانه: "يوم لا ينفع مال ولا بنون". وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ويكونون عليهم ضداً" قال: أعواناً. وأخرج عبد بن حميد عنه "ضداً" قال: حسرة. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً قال "تؤزهم أزاً" تغويهم إغواءً. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً "تؤزهم أزاً" قال: تحرض المشركين على محمد وأصحابه. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال: تزعجهم إزعاجاً إلى معاصي الله وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في البعث عن ابن عباس "وفداً" قال: ركباناً. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن أبي هريرة "وفداً" قال: على الإبل. وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يحشر الناس يوم القيامة على ثلاث طرائق: راغبين وراهبين وإثنان على بعير وثلاثة على بعير وأربعة على بعير وعشرة على بعير، وتحشر بقيتهم النار تقيل معهم حيث قالوا: وتبيت معهم حيث باتوا" والأحاديث في هذا الباب كثيرة جداً. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في البعث عن ابن عباس "ورداً" قال: عطاشاً. وأخرج ابن المنذر عن أبي هريرة مثله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله: "إلا من اتخذ عند الرحمن عهداً" قال: شهادة أن لا إله إلا الله، وتبرأ من الحول والقوة، ولا يرجو إلا الله. وأخرج ابن مردويه عنه في الآية قال: من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة. وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن مسعود أنه قرأ "إلا من اتخذ عند الرحمن عهداً" قال: إن الله يقول يوم القيامة: من كان له عندي عهد فليقم، فلا يقوم إلا من قال هذا في الدنيا، قولوا: اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة إني أعهد إليك في الحياة الدنيا أنك إن تكلني إلى عملي تقربني من الشر وتباعدني من الخير، وإني لا أثق إلا برحمتك، فاجعله لي عندك عهداً تؤديه إلأي يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أدخل على مؤمن سروراً فقد سرني، ومن سرني فقد اتخذ عند الرحمن عهداً، ومن اتخذ عند الرحمن عهداً فلا تمسه النار، إن الله لا يخلف الميعاد". وأخرج الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من جاءنا بالصلوات الخمس يوم القيامة قد حافظ على وضوئها ومواقيتها وركوعها وسجودها لم ينقص منها شيئاً جاء وله عند الله عهد أن لا يعذبه، ومن جاء قد انتقص منهم شيئاً فليس له عند الله عهد، إن شاء رحمه وإن شاء عذبه". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "لقد جئتم شيئاً إداً" قال: قولاً عظيماً، وفي قوله: " تكاد السماوات " قال: إن الشرك فرغت منه السموات والأرض والجبال وجميع الخلائق إلا الثقلين وكادت تزول منه لعظمة الله سبحانه، وكما لا ينفع مع الشرك إحسان المشرك كذلك يرجو أن يغفر الله ذنوب الموحدين، وفي قوله: "وتخر الجبال هداً" قال: هدماً. وأخرج ابن المبارك وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وأحمد في الزهد وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة والطبراني والبيهقي في الشعب من طريق عون عن ابن مسعود قال: إن الجبل لينادي الجبل باسمه، يا فلان هل مر بك اليوم أحد ذكر الله؟ فإذا قال نعم استبشر. قال عون: أفيسمعن الزور إذا قيل ولا يسمعن الخير؟ هن للخير أسمع، وقرأ "وقالوا اتخذ الرحمن ولداً" الآيات.

إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا

ذكر سبحانه من أحوال المؤمنين بعض ما خصهم به بعد ذكره لقبائح الكافرين فقال: 96- "إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن وداً" أي حباً في قلوب عباده يجعله لهم من دون أن يطلبوه بالأسباب التي توجب ذلك كما يقذف في قلوب أعدائهم الرعب، والسين في سيجعل للدلالة على أن ذلك لم يكن من قبل وأنه مجعول من بعد نزول الآية. وقرئ وداً بكسر الواو، والجمهور من السبعة وغيرهم على الضم.

فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا

ثم ذكر سبحانه تعظيم القرآن خصوصاً هذه السورة لاشتمالها على التوحيد والنبوة، وبيان حال المعاندين فقال: 97- "فإنما يسرناه بلسانك" أي يسرنا القرآن بإنزالنا له على لغتك، وفصلناه وسهلناه، والباء بمعنى على، والفاء لتعليل كلام ينساق إليه النظم كأنه قيل: بلغ هذا المنزل أو بشر به أو أنذر "فإنما يسرناه" الآية. ثم علل ما ذكره من التيسير فقال: "لتبشر به المتقين" أي المتلبسين بالتقوى، المتصفين بها "وتنذر به قوماً لداً" اللد جمع الألد، وهو الشديد الخصومة، ومنه قوله تعالى: "ألد الخصام" قال الشاعر: أبيت نجياً للهموم كأنني أخاصم أقواماً ذوي جدل لداً وقال أبو عبيدة: الألد الذي لا يقبل الحق ويدعي الباطل، وقيل اللد الصم، وقيل الظلمة.

وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا

98- "وكم أهلكنا قبلهم من قرن" أي من أمة وجماعة من الناس، وفي هذا وعد لرسول الله صلى الله عليهم بهلاك الكافرين ووعيد لهم "هل تحس منهم من أحد" هذه الجملة مقررة لمضمون ما قبلها: أي هل تشعر بأحد منهم أو تراه "أو تسمع لهم ركزاً" الركز الصوت الخفي، ومنه ركز الرمح إذا غيب طرفه في الأرض. قال طرفة وصادفتها سمع التوجس للسرى لركز خفي أو لصوت مفند وقال ذو الرمة: إذا توجس ركزاً مقفر ندس بنبأة الصوت ما في سمعه كذب أي: في استماعه كذب بل هو صادق الاستماع، والندس الحاذق، والنبأة الصوت الخفي. وقال اليزيدي وأبو عبيدة: الركز ما لا يفهم من صوت أو حركة. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن عبد الرحمن بن عوف أنه لما هاجر إلى المدينة وجد نفسه على فراق أصحابه بمكة منهم شيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة وأمية بن خلف، فأنزل الله "إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات" الآية، قال ابن كثير: وهو خطأ، فإن السورة مكية بكمالها لم ينزل منها بعد الهجرة ولم يصح سند ذلك. وأخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت في علي بن أبي طالب "إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن وداً" قال: محبة في قلوب المؤمنين. وأخرج ابن مردويه والديلمي عن البراء قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: "قل اللهم اجعل لي عندك عهداً، واجعل لي عندك وداً واجعل لي في صدور المؤمنين مودة"، فأنزل الله الآية في علي. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد وابن جرير عن ابن عباس "وداً" قال: محبة في الناس في الدنيا. وأخرج الحكيم الترمذي وابن مردويه عن علي قال "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله: "سيجعل لهم الرحمن وداً" ما هو؟ قال: المحبة الصادقة في صدور المؤمنين". وثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أحب الله عبداً نادى جبريل إني قد أحببت فلاناً فأحبه، فينادي في السماء، ثم ينزل له المحبة في أهل الأرض فذلك قوله: "إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن وداً" وإذا أبغض الله عبداً نادى جبريل إني قد أبغضت فلاناً، فينادي في أهل السماء، ثم ينزل له البغضاء في الأرض" والأحاديث والآثار في هذا الباب كثيرة. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: "وتنذر به قوماً لداً" قال: فجاراً. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن قال:صما . وأخرج إبن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله " هل تحس منهم من أحد " قال : هل ترى منهم من أحد. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ركزاً" قال: صوتاً.


1-الفاتحة 2-البقرة 3-آل-عمران 4-النساء 5-المائدة 6-الأنعام 7-الأعراف 8-الأنفال 9-التوبة 10-يونس 11-هود 12-يوسف 13-الرعد 14-إبراهيم 15-الحجر 16-النحل 17-الإسراء 18-الكهف 19-مريم 20-طه 21-الأنبياء 22-الحج 23-المؤمنون 24-النور 25-الفرقان 26-الشعراء 27-النمل 28-القصص 29-العنكبوت 30-الروم 31-لقمان 32-السجدة 33-الأحزاب 34-سبأ 35-فاطر 36-يس 37-الصافات 38-ص 39-الزمر 40-غافر 41-فصلت 42-الشورى 43-الزخرف 44-الدخان 45-الجاثية 46-الأحقاف 47-محمد 48-الفتح 49-الحجرات 50-ق 51-الذاريات 52-الطور 53-النجم 54-القمر 55-الرحمن 56-الواقعة 57-الحديد 58-المجادلة 59-الحشر 60-الممتحنة 61-الصف 62-الجمعة 63-المنافقون 64-التغابن 65-الطلاق 66-التحريم 67-الملك 68-القلم 69-الحاقة 70-المعارج 71-نوح 72-الجن 73-المزمل 74-المدثر 75-القيامة 76-الإنسان 77-المرسلات 78-النبأ 79-النازعات 80-عبس 81-التكوير 82-الانفطار 83-المطففين 84-الانشقاق 85-البروج 86-الطارق 87-الأعلى 88-الغاشية 89-الفجر 90-البلد 91-الشمس 92-الليل 93-الضحى 94-الشرح 95-التين 96-العلق 97-القدر 98-البينة 99-الزلزلة 100-العاديات 101-القارعة 102-التكاثر 103-العصر 104-الهمزة 105-الفيل 106-قريش 107-الماعون 108-الكوثر 109-الكافرون 110-النصر 111-المسد 112-الإخلاص 113-الفلق 114-الناس