1" يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود " الوفاء هو القيام بمقتضى العهد وكذلك الإيفاء والعهد الموثق قال الحطيئة: قوم إذا عقدوا عقداً لجارهم شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا وأصله الجمع بين الشيئين بحيث يصعب الانفصال، ولعل المراد بالعقود ما يعم العقود التي عقدها الله سبحانه وتعالى على عباده وألزمها إياهم من التكاليف، وما يعقدون بينهم من عقود الأمانات والمعاملات ونحوها مما يجب الوفاء به، أو يحسن إن حملنا الأمر على المشترك بين الوجوب والندب. " أحلت لكم بهيمة الأنعام " تفصيل للعقود، والبهيمة كل حي لا يميز. وقيل كل ذات أربع، وإضافتها إلى الأنعام للبيان كقولك: ثوب خز، ومعناه البهيمة من الأنعام. وهي الأزواج الثمانية وألحق بها الضباء ويقر الوحش. وقيل هما المراد بالبهيمة ونحوها مما يماثل الأنعام في الاجترار وعدم الأنياب، وإضافتها إلى الأنعام لملابسة الشبه. " إلا ما يتلى عليكم " إلا محرم ما يتلى عليكم كقوله تعالى: " حرمت عليكم الميتة " أو إلا ما يتلى عليكم تحريمه. " غير محلي الصيد " حال من الضمير في " لكم " وقيل من واو " أوفوا " وقيل استثناء وفيه تعسف و" الصيد " يحتمل المصدر والمفعول. " وأنتم حرم " حال مما استكن في " محلي "، والـ" حرم " جمع حرام وهو المحرم. " إن الله يحكم ما يريد " من تحليل أو تحريم.
2" يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله " يعني مناسك الحج، جمع شعيرة وهي اسم كل ما أشعر أي جعل شعاراً سمى به أعمال الحج وموافقة لأنها علامات الحج وأعلام انسك. وقيل دين الله لقوله سبحانه وتعالى: " ومن يعظم شعائر الله " أي دينه. وقيل فرائضه التي حدها لعباده. " ولا الشهر الحرام " بالقتال فيه أو بالنسيء. " ولا الهدي " ما أهدي إلى الكعبة، جمع هدية كجدي في جميع جدية السرح. " ولا القلائد " أي ذوات القلائد من الهدي، وعطفها على الهدي للاختصاص فإنها أشرف الهدي، أو القلائد أنفسها والنهي عن إحلالها مبالغة في النهي عن التعرض للهدي، ونظيره قوله تعالى: " ولا يبدين زينتهن ". والقلائد جمع قلادة وهو ما قلد به الهدي من نعل أو لحاء شجر أو غيرهما ليعلم به أنه هدي فلا يتعرض له. " ولا آمين البيت الحرام " قاصدين لزيارته. " يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا " أن يثيبهم ويرض عنهم، والجملة في موضع الحال من المستكن في آمين وليست صفة له، لأنه عامل والمختار أن اسم الفاعل الموصوف لا يعمل، وفائدته استنكار تعرض من هذا شأنه التنبيه على المانع له. وقيل معناه يبتغون من الله رزقاً بالتجارة ورضواناً بزعمهم إذ روي أن الآية نزلت في عام القضية في حجاج اليمامة لما هم المسلمون أن يتعرضوا لهم بسبب أنه كان فيهم الحطيم بن شريح بن ضبيعة، وكان قد استاق سرح المدينة وعلى هذا فالآية منسوخة. وقرئ تبتغون على خطاب المؤمنين " وإذا حللتم فاصطادوا " إذن في الاصطياد بعد زوال الإحرام ولا يلزم من إرادة الإباحة ههنا من الأمر دلالة الأمر الآتي بعد الحظر على الإباحة مطلقاً. وقرئ بكسر الفاء على إلقاء حركة الوصل عليها وهو ضعيف جداً. وقرئ " حللتم " يقال حل المحرم وأحل " ولا يجرمنكم " لا يحملنكم أو لا يكسبنكم. " شنآن قوم " شدة بغضهم وعداوتهم وهو مصدر أضيف إلى المفعول أو الفاعل. وقرأ ابن عامر و إسماعيل عن نافع و ابن عياش عن عاصم بسكون النون وهو أيضاً مصدر كليان أو نعت بمعنى: بغيض قوم وفعلان في النعت أكثر كعطشان وسكران. " أن صدوكم عن المسجد الحرام " لأن صدوكم عنه عام الحديبية،. وقرأ ابن كثير و أبو عمرو بكسر الهمزة على أنه شرط معترض أغنى عن جوابه لا يجرمنكم. " أن تعتدوا " بالانتقام، وهو ثاني مفعولي يجرمنكم فإنه يعدى إلى واحد وإلى اثنين ككسب. ومن قرأ " يجرمنكم " بضم الياء جعله منقولاً من التعدي إلى مفعول بالهمزة إلى مفعولين. " وتعاونوا على البر والتقوى " على العفو والإغضاء ومتابعة الأمر ومجانبة الهوى. " ولا تعاونوا على الإثم والعدوان " للتشفي والانتقام. " واتقوا الله إن الله شديد العقاب " فانتقامه أشد.
3" حرمت عليكم الميتة " بيان ما يتلى عليكم، والميتة ما فارقه الروح من غير تذكية. " والدم " أي الدم المسفوح لقوله تعالى: " أو دما مسفوحا " وكان أهل الجاهلية يصبونه في الأمعاء ويشوونها. " ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به " أي رفع الصوت لغير الله به كقولهم:باسم اللات والعزى عند ذبحه. " والمنخنقة " أي التي ماتت بالخنق. " والموقوذة " المضروبة بنحو خشب، أو حجر حتى تموت من وقذته إذا ضربته. " والمتردية " التي تردت من علو أو في بئر فماتت. " والنطيحة " التي نطحتها أخرى فماتت بالنطح والتاء فيها للنقل. " وما أكل السبع " وما أكل منه السبع فمات، وهو يدل على أن جوارح الصيد إذا أكلت مما اصطادته لم تحل. " إلا ما ذكيتم " إلا ما أدركتم ذكاته وفيه حياة مستقرة من ذلك. وقيل الاستثناء مخصوص بما أكل السبع. والذكاة في الشرع لقطع الحلقوم والمريء بمحدد. " وما ذبح على النصب " النصب واحد الأنصاب وهي أحجار كانت منصوبة حول البيت يذبحون عليها ويعدون ذلك قربة، وقيل هي الأصنام وعلى بمعنى اللام أو على أصلها بتقدير وما ذبح مسمى على الأصنام. وقيل هو جمع والواحد نصاب. " وأن تستقسموا بالأزلام " أي وحرم عليكم الاستقسام بالأزلام، وذلك أنهم إذا قصدوا فعلاً ضربوا ثلاثة أقداح. مكتوب على أحدها، أمرني ربي. وعلى الآخر: نهاني ربي. والثالث غفل، فإن خرج الأمر مضوا على ذلك وإن خرج الناهي تجنبوا عنه وإن خرج الغفل أجلوها ثانية، فمعنى الاستقسام طلب معرفة ما قسم دون ما لم يقسم لهم بالأزلام. وقيل هو استقسام الجزور بالأقداح على الأنصباء المعلومة وواحد الأزلام زلم كجمل وزلم كصرد. " ذلكم فسق " إشارة إلى الاستقسام، وكونه فسقاً لأنه دخول في علم الغيب وضلال باعتقاد أن ذلك طريق إليه، وافتراء على الله سبحانه وتعالى إن أريد بربي الله، وجهالة وشرك إن أريد به الصنم أو الميسر المحرم أو إلى تناول ما حرم عليهم. " اليوم " لم يرد به يوماً بعينه وقد نزلت بعد عصر يوم الجمعة في عرفة حجة الوداع. " يئس الذين كفروا من دينكم " أي من إبطاله ورجوعكم عنه بتحيل هذه الخبائث وغيرها أو من أن يغلبوكم عليه. " فلا تخشوهم " أن يظهروا عليكم. " واخشون " واخلصوا الخشية لي. " اليوم أكملت لكم دينكم " بالنصر والإظهار على الأديان كلها، أو بالتنصيص على قواعد العقائد والتوقيف على أصول الشرائع وقوانين الاجتهاد. " وأتممت عليكم نعمتي " بالهداية والتوفيق أو بإكمال الدين أو بفتح مكة وهدم منار الجاهلية. " ورضيت لكم الإسلام دينا " اخترته لكم ديناً من بين الأديان وهو الدين عند الله لا غير. " فمن اضطر " متصل بذكر المحرمات وما بينهما اعتراض لما يوجب التجنب عنها، وهو أن تناولها فسوق وحرمتها من جملة الدين الكامل والنعمة التامة والإسلام المرضي والمعنى: فمن اضطر إلى تناول شيء من هذه المحرمات. " في مخمصة " مجاعة " غير متجانف لإثم " غير مائل له ومنحرف إليه بأن يأكلها تلذذاً أو مجاوزاً حد الرخصة كقوله: " غير باغ ولا عاد ". " فإن الله غفور رحيم " لا يؤاخذه بأكله.
4" يسألونك ماذا أحل لهم " لما تضمن السؤال معنى القول أوقع على الجملة، وقد سبق الكلام في " ماذا " وإنما قال لهم ولم يقل لنا على الحكاية، لأن " يسألونك " بلفظ الغيبة وكلا الوجهين سائغ في أمثاله، والمسؤول ما أحل لهم من المطاعم كأنهم لما تلي عليهم ما حرم عليهم سألوا عما أحل لهم. " قل أحل لكم الطيبات " ما لم تستخبثه الطباع السليمة ولم تنفر عنه ومن مفهومه حرم مستخبثات العرب، أو ما لم يدل نص ولا قياس على حرمته. " وما علمتم من الجوارح " عطف على " الطيبات " إن جعلت " ما " موصولة على تقدير وصيد ما علمتم، وجملة شرطية إن جعلت شرطاً وجوابها " فكلوا " و " الجوارح " كواسب الصيد على أهلها من سباع ذوات الأربع والطير " مكلبين " معلمين إياه الصيد، والمكلب مؤدب الجوارح ومضر بها بالصيد. مشتق من الكلب، لأن التأديب يكون أكثر فيه وآثره، أو لأن كل سبع يسمى كلباً لقوله عليه الصلاة والسلام "الهم سلط عليه كلباً من كلابك" وانتصابه على الحال من علمتم وفائدتها المبالغة في التعليم. " تعلمونهن " حال ثانية أو استئناف. " مما علمكم الله " من الحيل وطرق التأديب، فإن العلم بها إلهام من الله تعالى أو مكتسب بالعقل الذي هو منحة منه سبحانه وتعالى، أو مما علمكم الله أن تعلموه م اتباع الصيد بإرسال صاحبه، وأن ينزجر بزجره وينصرف بدعائه ويمسك عله الصيد ولا يأكل منه. " فكلوا مما أمسكن عليكم " وهو ما لم تأكل منه " لقوله عليه الصلاة والسلام لعدي بن حاتموإن أكل منه فلا تأكل إنما أمسك على نفسه". وإليه ذهب أكثر الفقهاء وقال بعضهم: لا يشترط ذلك في سباع الطير لأن تأديبها إلى هذا الحد متعذر، وقال آخرون لا يشترط مطلقاً. " واذكروا اسم الله عليه " الضمير لما علمتم والمعنى :سموا عليه عند إرساله أو لما أمسكن بمعنى سموا عليه إذا أدركتم ذكاته. " واتقوا الله " في محرماته. " إن الله سريع الحساب " فيؤاخذكم بما جل ودق.
5" اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم " يتناول الذبائح وغيرها، ويعم الذين أوتوا الكتاب اليهود والنصارى واستثنى علي رضي الله عنه نصارى بني تغلب وقال: ليسوا على النصرانية، ولم يأخذوا منها إلا شرب الخمر. ولا يلحق بهم المجوس في ذلك وإن ألحقوا بهم في التقرير على الجزية لقوله عليه الصلاة والسلام: "سنوا بهم سنة أهلا الكتاب، غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم" " وطعامكم حل لهم " فلا عليكم أن تطعموه وتبيعوه منهم ولو حرم عليهم لم يجز ذلك " والمحصنات من المؤمنات " أي الحرائر أو العفائف، وتخصيصهن بعث على ما هو الأولى. " والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم " وإن كن حربيات وقال ابن عباس لا تحل الحربيات. " إذا آتيتموهن أجورهن " مهورهن وتقييد الحل بإيتائها لتأكيد وجوبها والحث على ما هو الأولى. وقيل المراد بإيتائها التزامها " محصنين " أعفاء بالنكاح. " غير مسافحين " غير مجاهرين بالزنا. " ولا متخذي أخدان " مسرين به، والخدن الصديق يقع على الذكر والأنثى. " ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين " يريد بالإيمان شرائع الإسلام وبالكفر إنكاره والامتناع عنه.
6" يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة " أي إذا أردتم القيام كقوله تعالى: " فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم " عبر عن إرادة الفعل المسبب عنها للإيجاز والتنبيه على من أراد العبادة ينبغي أن يبادر إليها، بحيث لا ينفك الفعل عن الإرادة، أو إذا قصدتم الصلاة لأن التوجه إلى الشيء والقيام له قصد له، وظاهر الآية يوجب الوضوء على كل قائم إلى الصلاة وإن لم يكن محدثاً، والإجماع على خلافه لما روي "أنه عليه الصلاة والسلام صلى الصلوات الخمس بوضوء واحد يوم الفتح فقال عمر رضي الله تعالى عنه: صنعت شيئاً لم تكن تصنعه فقال عمداً فعلته" فقيل مطلق أريد به التقييد، والمعنى إذا قمتم إلى الصلاة محدثين. وقيل الأمر فيه للندب. وقيل كان ذلك في أول الأمر ثم نسخ وهو ضعيف لقوله عليه الصلاة والسلام: "المائدة من آخر القرآن نزولاً فأحلوا حلالها وحرموا حرامها". " فاغسلوا وجوهكم " أمروا الماء عليها ولا حاجة إلى الدلك خلافاً لمالك. " وأيديكم إلى المرافق " الجمهور على دخول المرفقين في المغسول ولذلك قيل: " إلى " بمعنى مع كقوله تعالى: " ويزدكم قوة إلى قوتكم " أو متعلق بمحذوف تقديره: وأيديكم مضافة إلى المرافق، ولو كان كذلك لم يبق لمعنى التحديد ولا لذكره مزيد فائدة، لأن مطلق اليد يشتمل عليها. وقيل: إلى تفيد الغاية مطلقاً وأما دخولها في الحكم أو خروجها منه فلا دلالة لها عليه وإنما يعلم من خارج ولم يكن في الآية، وكانت الأيدي متناولة لها فحكم بدخولها احتياطاً. وقيل إلى من حيث أنها تفيد الغاية تقتضي خروجها وإلا لم تكن غاية لقوله تعالى: " فنظرة إلى ميسرة " وقوله تعالى: " ثم أتموا الصيام إلى الليل " ولكن لما لم تتميز الآية ها هنا عن ذي الغاية وجب إدخالها احتياطاً. " وامسحوا برؤوسكم " الباء مزيدة. وقيل للتبعيض، فإنه الفارق بين قولك مسحت المنديل وبالمنديل، ووجهه أن يقال إنها تدل على تضمين الفعل معنى الإلصاق وكأنه قيل: وألصقوا المسح برؤوسكم، وذلك لا يقتضي الاستيعاب بخلاف ما لو قيل: وامسحوا رؤوسكم فإنه كقوله: " فاغسلوا وجوهكم " واختلف العلماء في قدر الواجب. فأوجب الشافعي رضي الله تعالى عنه: أقل ما يقع عليه الإسم أخذاً باليقين. و أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه: مسح ربع الرأس، لأنه عليه الصلاة والسلام مسح على ناصيته وهو قريب من الربع. و مالك رضي الله تعالى عنه: مسح كله أخذاً بالاحتياط. " وأرجلكم إلى الكعبين " نصبه نافع و ابن عامر و حفص و الكسائي و يعقوب عطفاً على وجوهكم ويؤيده: السنة الشائعة، وعمل الصحابة، وقول أكثر الأئمة، والتحديد، إذ المسح لم يحد. وجره الباقون على الجوار ونظيره كثير في القرآن والشعر كقوله تعالى: " عذاب يوم أليم " " وحور عين " بالجر في قراءة حمزة و الكسائي، وقولهم جحر ضب خرب، وللنحاة باب في ذلك، وفائدته التنبيه على أنه ينبغي أن يقتصد في صب الماء عليها ويغسل غسلاً يقرب من المسح وفي الفصل بينه وبين أخويه إيماء على وجوب الترتيب، وقرئ بالرفع على " وأرجلكم " مغسولة. " وإن كنتم جنبا فاطهروا " فاغتسلوا. " وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه " سبق تفسيره، ولعل تكريره ليتصل الكلام في بيان أنواع الطهارة. " ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج " أي ما يريد الأمر بالطهارة للصلاة أو الأمر بالتيمم تضييقاً عليكم. " ولكن يريد ليطهركم " لينظفكم، أو ليطهركم عن الذنوب فإن الوضوء تكفير للذنوب، أو ليطهركم بالتراب إذا أعوزكم التطهير بالماء. فمفعول " يريد " في الموضعين محذوف واللام للعلة. وقيل مزيدة والمعنى: ما يريد الله أن يجعل عليكم من حرج حتى لا يرخص لكم في التيمم، ولكن يريد أن يطهركم وهو ضعيف لأن أن لا تقدر بعد المزيدة. " وليتم نعمته عليكم " ليتم بشرعه ما هو مطهرة لأبدانكم ومكفرة لذنوبكم نعمته عليكم في الدين، أوليتم برخصه إنعامه عليكم بعزائمه. " لعلكم تشكرون " نعمته. والآية مشتملة على سبعة أمور كلها مثنى: طهارتان أصل وبدل، والأصل اثنان مستوعب وغير مستوعب، وغير المستوعب باعتبار الفعل غسل ومسح وباعتبار المحل محدود وغير محدود، وأن آلتهما مائع وجامد، وموجبهما حدث أصغر وأكبر، وأن المبيح للعدول إلى البدل مرض أو سفر، وأن الموعود عليهما تطهير الذنوب وإتمام النعمة.
7" واذكروا نعمة الله عليكم " بالإسلام لتذكركم المنعم وترغبكم في شكره. " وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا " يعني الميثاق الذي أخذه على المسلمين حين بايعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره، أو ميثاقه ليلة العقبة أو بيعة الرضوان. " واتقوا الله " في إنساء نعمته ونقض ميثاقه. " إن الله عليم بذات الصدور " أي بخفياتها فيجازيكم عليها فضلاً عن جليات أعمالكم.
8" يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا " عداه بعلى لتضمنه معنى الحمل، والمعنى لا يحملكم شدة بغضكم للمشركين على ترك العدل فيهم فتعتدوا عليهم بارتكاب ما لا يحل، كمثلة وقذف وقتل نساء وصبية ونقض عهد تشفياً مما في قلوبكم. " اعدلوا هو أقرب للتقوى " أي العدل أقرب للتقوى، صرح لهم بالأمر بالعدل وبين أنه بمكان من التقوى بعد ما نهاهم عن الجور وبين أنه مقتضى الهوى، وإذا كان هذا للعدل مع الكفار فما ظنك بالعدل مع المؤمنين. " واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون " فيجازيكم به، وتكرير هذا الحكم إما لاختلاف السبب كما قيل إن الأولى نزلت في المشركين وهذه في اليهود، أو لمزيد الاهتمام بالعدل والمبالغة وفي إطفاء ثائرة الغيظ.
9" وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم " إنما حذف ثاني مفعولي وعد استغناء بقوله " لهم مغفرة " فإنه استئناف يبينه. وقيل الجملة في موضع المفعول فإن الوعد ضرب من القول كأنه قال: وعدهم هذا القول.
10" والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم " هذا من عادته تعالى، أن يتبع حال أحد الفريقين الآخر وفاء بحق الدعوة، وفيه مزيد وعد للمؤمنين وتطيب لقلوبهم.
11" يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم " روي (أن المشركين رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعسفان، قاموا إلى الظهر معاً فلما صلوا ندموا ألا كانوا أكبوا عليهم وهموا أن يوقعوا بهم إذا قاموا إلى العصر، فرد الله عليهم كيدهم بأن أنزل عليهم صلاة الخوف). والآية إشارة إلى ذلك وقيل إشارة إلى ما روي "أنه عليه الصلاة والسلام أتى قريظة ومعه الخلفاء الأربعة يستقرضهم لدية مسلمين قتلهما عمرو بن أمية الضمري يحسبهما مشركين، فقالوا: نعم يا أبا القاسم اجلس حتى نطعمك ونقرضك فأجلسوه وهموا بقتله، فعمد عمرو بن جحاش إلى رحى عظيمة يطرحها عليه، فأمسك الله يده فنزل جبريل فأخبره فخرج". وقيل "نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلاً وعلق سلاحه بشجرة وتفرق الناس عنه، فجاء أعرابي فسل سيفه وقال: من يمنعك مني فقال: الله! فأسقطه جبريل من يده، فأخذه الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: من يمنعك مني؟ فقال: لا أحد أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول اللهفنزلت" " إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم " بالقتل والإهلاك، يقال بسط إليه يده إذا بطش به وبسط إليه لسانه إذا شتمه. " فكف أيديهم عنكم " منعها أن تمد إليكم ورد مضرتها عنكم. " واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون " فإنه الكافي لإيصال الخير ودفع الشر.
12" ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا " شاهداً من كل سبط ينقب عن أحوال قومه ويفتش عنها، أو كفيلاً يكفل عليهم بالوفاء بما أمروا به. روي أن بني إسرائيل لما فرغوا من فرعون واستقروا بمصر، أمرهم الله سبحانه وتعالى بالمسير إلى أريحاء من ارض الشام، وكان يسكنها الجبابرة الكنعانيون وقال: إني كتبتها لكم داراً وقراراً فاخرجوا إليها وجاهدوا من فيها فإني ناصركم، وأمر موسى عليه الصلاة والسلام أن يأخذ من كل سبط كفيلاً عليهم بالوفاء بما أمروا به، فأخذ عليهم الميثاق واختار منهم النقباء وسار بهم فلما دنا من أرض كنعان بعث النقباء يتجسسون الأخبار، ونهاهم أن يحدثوا قومهم، فرأوا أجراماً عظيمة وبأساً شديداً فهابوا ورجعوا وحدثوا قومهم ونكث الميثاق إلا كالب بن يوفنا من سبط يهوذا، ويوشع بن نون من سبط أفراييم بن يوسف. " وقال الله إني معكم " بالنصرة " لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم " أي نصرتموهم وقويتموهم وأصله الذب ومنه التعزير. " وأقرضتم الله قرضا حسنا " بالإنفاق في سبيل الخير وقرضاً يحتمل المصدر والمفعول. " لأكفرن عنكم سيئاتكم " جواب للقسم المدلول عليه باللام في لئن ساد مسد جواب الشرط. " ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار فمن كفر بعد ذلك " بعد ذلك الشرط المؤكد المعلق به الوعد العظيم. " منكم فقد ضل سواء السبيل " ضلالاً لا شبه فيه ولا عذر معه بخلاف من كفر قبل ذلك، إذ قد يمكن أن يكون له شبهة ويتوهم له معذرة.
13" فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم " طردناهم من رحمتنا، أو مسخناهم أو ضربنا عليهم الجزية. " وجعلنا قلوبهم قاسية " لا تنفعل عن الآيات والنذر. وقرأ حمزة و الكسائي" قاسية " وهي إما مبالغة " قاسية " أو بمعنى رديئة من قولهم درهم قسي إذا كان مغشوشاً، وهي أيضاً من القسوة فإن المغشوش فيه يبس وصلابة وقرئ " قاسية " باتباع القاف للسين. " يحرفون الكلم عن مواضعه " استئناف لبيان قسوة قلوبهم، فإن لا قسوة أشد من تغيير كلام الله سبحانه وتعالى والافتراء عليه، ويجوز أن يكون حالاً من مفعول " لعناهم " لا من القلوب إذ لا ضمير له فيهز " ونسوا حظا " وتركوا نصيباً وافياً. " مما ذكروا به " من التوراة، أو من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، والمعنى أنهم حرفوا التوراة وتركوا حظهم مما أنزل عليهم فلم ينالوه، وقيل معناه أنهم حرفوها فزلت بشؤمه أشياء منها عن حفظهم، لما روي أن ابن مسعود قال: قد ينسى المرء بعض العلم بالمعصية وتلا هذه الآية. " ولا تزال تطلع على خائنة منهم " خيانة منهم، أو فرقة خائنة أو خائن والتاء للمبالغة. والمعنى أن الخيانة والغدر من عادتهم وعادة أسلافهم لا تزال ترى ذلك منهم. " إلا قليلا منهم " لم يخزنوا وهم الذين آمنوا منهم، وقيل استثناء من قوله: " وجعلنا قلوبهم قاسية " " فاعف عنهم واصفح " إن تابوا وآمنوا أو عاهدوا والتزموا الجزية. وقيل: مطلق نسخ بآية السيف. " إن الله يحب المحسنين " تعليل للأمر بالصفح وحث عليه وتنبيه على أن العفو عن الكافر الخائن إحسان فشلاً عن العفو عن غيره.
14" ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم " أي وأخذنا من النصارى ميثاقهم كما أخذنا ممن قبلهم، وقيل تقديره ومن الذين قالوا إنا نصارى قوم أخذنا، وإنما قال قالوا إنا نصارى ليدل على أنهم سموا أنفسهم بذلك ادعاء لنصرة الله سبحانه وتعالى. " فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا " فألزمنا من غري بالشيء إذا لصق به. " بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة " بين فرق النصارى، وهم نسطورية ويعقوبية وملكانية أو بينهم وبين اليهود. " وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون " بالجزاء والعقاب.
15" يا أهل الكتاب " يعني اليهود والنصارى، ووحد الكتاب لأنه للجنس. " قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب " كنت محمد صلى الله عليه وسلم وآية الرجم في التوراة وبشارة عيسى عليه الصلاة والسلام بأحمد صلى الله عليه وسلم في الإنجيل. " ويعفو عن كثير " مما تخفونه لا يخبر به إذا لم يضطر إليه أمر ديني، أو عن كثير منكم فلا يؤخذاه بجرمه. " قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين " يعني القرآن فإنه الكاشف لظلمات الشك والضلال والكتاب الواضح الإعجاز. وقيل يريد بالنور محمد صلى الله عليه وسلم.
16" يهدي به الله " وحد الضمير لأن المراد بهما واحد، أو لأنهما كواحد في الحكم. " من اتبع رضوانه " من اتبع رضاه بالإيمان منهم. " سبل السلام " طرق السلامة من العذاب، أو سبل الله. " ويخرجهم من الظلمات إلى النور " من أنواع الكفر إلى الإسلام. " بإذنه " بإرادته وتوفيقه. " ويهديهم إلى صراط مستقيم " طريق هو أقرب الطرق إلى الله سبحانه وتعالى ومؤد إليه لا محالة.
17" لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم " هم الذين قالوا بالاتحاد منهم، وقيل لم يصرح به أحد منهم ولكن لما زعموا أن فيه لاهوتاً وقالوا لا إله إلا الله واحد لزمهم أن يكون هو المسيح فنسب إليهم لازم قولهم توضيحاً لجهلهم وتفضيحاً لمعتقدهم. " قل فمن يملك من الله شيئا " فمن يمنع من قدرته وإرادته شيئاً. " إن أراد أن يهلك المسيح " عيسى. " ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا " احتج بذلك على فساد عقولهم وتقريره: أن المسيح مقدور مقهور قابل للفناء كسائر الممكنات ومن كان كذلك فهو بمعزل عن الألوهية. " ولله ملك السموات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير " إزاحة لما عرض لهم من الشبه في أمره، والمعنى أنه سبحانه وتعالى قادر على الإطلاق يخلق من غير أصل كما خلق السموات والأرض، ومن أصل كخلق ما بينهما فينشئ من أصل ليس من جنسه كآدم وكثير من الحيوانات، ومن أصل يجانسه إما من ذكر وحده كما خلق حواء أو من أنثى وحدها كعيسى، أو منهم كسائر الناس.
18" وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه " أشياع ابنيه عزيراً والمسيح كما قيل لأشياع ابن الزبير الحبيبون أو المقربون عنده قرب الأولاد من والدهم وقد سبق لنحو ذلك مزيد بيان في سورة آل عمران. " قل فلم يعذبكم بذنوبكم " أي فإن صح ما زعمتم فلم يعذبكم بذنوبكم فإن من كان بهذا المنصب لا يفعل ما يوجب تعذيبه، وقد عذبكم في الدنيا بالقتل والأسر والمسخ واعترفتم بأنه سيعذبكم بالنار أياماً معدودات. " بل أنتم بشر ممن خلق " ممن خلقه الله تعالى. " يغفر لمن يشاء " وهم من آمن به وبرسله. " ويعذب من يشاء " وهم من كفر، والمعنى أنه يعاملكم معاملة سائر الناس لا مزية لكم عنده " ولله ملك السموات والأرض وما بينهما " كلها سواء في كونها خلقاً وملكاً له. " وإليه المصير " فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.
19" يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم " أي الدين، وحذف لظهوره أو ما كتمتم وحذف لتقدم ذكره ويجوز أن لا يقدر مفعول على معنى يبذل لكم البيان والجملة في موضع الحال أي جاءكم رسولنا مبيناً لكم. " على فترة من الرسل " متعلق بجاءكم أي جاءكم على حين فتور من الإرسال وانقطاع من الوحي، أو يبين حال من الضمير فيهز " أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير " كراهة أن تقولوا ذلك وتعتذروا به. " فقد جاءكم بشير ونذير " متعلق بمحذوف أي لا تعتذروا بـ" ما جاءنا " فقد جاءكم. " والله على كل شيء قدير " فيقدر على الإرسال تترى كما فعل بين موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام، إذ كان بينهما ألف وسبعمائة سنة وألف نبي، وعلى الإرسال على فترة كما فعل بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام كان بينهما ستمائة أو خمسمائة وتسع وستون سنة وأربعة أنبياء ثلاثة من بني إسرائيل وواحد من العرب خالد بن سنان العبسي، وفي الآية امتنان عليهم بأن بعث إليهم حين انطمست آثار الوحي وكانوا أحوج ما يكونون إليه.
20" وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء " فأرشدكم وشرفكم بهم ولم يبعث في أمة ما بعث في بني إسرائيل من الأنبياء. " وجعلكم ملوكا " أي وجعل منكم أو فيكم، وقد تكاثر فيهم الملوك تكاثر الأنبياء بعد فرعون حتى قتلوا يحيى وهموا بقتل عيسى، وقيل لما كانوا مملوكين في أيدي القبط فأنقذهم الله وجعلهم مالكين لأنفسهم وأمورهم سماهم ملوكاً. " وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين " من فلق البحر، وتظليل الغمام، وإنزال المن والسلوى ونحوها مما آتاهم الله، وقيل المراد بالعالمين عالمي زمانهم.
21" يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة " أرض بيت المقدس سميت بذلك لأنها كانت قرار الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ومسكن المؤمنين. وقيل الطور وما حوله. وقيل: دمشق وفلسطين وبعض الأردن. وقيل الشام. " التي كتب الله لكم " قسمها لكم أو كتب في اللوح أنها تكون مسكناً لكم، ولكن إن آمنتم وأطعتم لقوله لهم بعدما عصوا " فإنها محرمة عليهم ". " ولا ترتدوا على أدباركم " ولا ترجعوا مدبرين خوفاً من الجبابرة قيل لما سمعوا حالهم من النقباء بكوا وقالوا: ليتنا متنا بمصر تعالوا نجعل علينا رأساً ينصرف بنا إلى مصر، أو لا ترتدوا عن دينكم بالعصيان وعدم الوثوق على الله سبحانه وتعالى. " فتنقلبوا خاسرين " ثواب الدارين، ويجوز في فتنقلبوا الجزم على العطف والنصب على الجواب.
22" قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين " متغلبين لا تأتي مقاومتهم، والجبار فعال من جبره على الأمر بمعنى أجبره وهو الذي يجبر الناس على ما يريده. " وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون " إذ لا طاقة لنا بهم.
23" قال رجلان " كالب ويوشع. " من الذين يخافون " أي يخافون الله سبحانه وتعالى ويتقونه. وقيل كان رجلان من الجبابرة أسلما وسارا إلى موسى عليه الصلاة والسلام، فعلى هذا الواو لبني إسرائيل والراجع إلى الموصول محذوف أي من الذين يخافهم بنو إسرائيل، ويشهد له أنه قرئ " الذين يخافون " بالضم أي المخوفين، وعلى المعنى الأول يكون هذا من الإخافة أي الذين يخفون من الله عز وجل بالتذكير أو يخوفهم الوعيد. " أنعم الله عليهما " بالإيمان والتثبيت وهو صفة ثانية لرجلان أو اعتراض. " ادخلوا عليهم الباب " باب قريتهم أي باغتوهم وضاغطوهم في المضيق وامنعوهم من الأصحار. " فإذا دخلتموه فإنكم غالبون " لتعسر الكر عليهم في المضايق من عظم أجسامهم، ولأنهم أجسام لا قلوب فيها، ويجوز أن يكون علمهما بذلك من إخبار موسى عليه الصلاة والسلام وقوله: " كتب الله لكم " أو مما علما من عادة الله سبحانه وتعالى في نصرة رسله، وما عهدا من صنعه لموسى عليه الصلاة والسلام في قهر أعدائه. " وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين " أي مؤمنين به ومصدقين بوعده.
24" قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا " نفوا دخولهم على التأكيد والتأبيد. " ما داموا فيها " بدل البعض. " فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون " قالوا ذلك استهانة بالله ورسوله وعدم مبالاة بهما، وقيل تقديره اذهب أنت وربك يعينك.
25" قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي " قاله شكوى بثه وحزنه إلى الله سبحانه وتعالى لما خالفه قومه وأيس منهم، ولم يبق معه موافق يثق به غير هارون عليه السلام والرجلان المذكوران وإن كانا يوافقانه لم يثق عليهم لما كابد من تلون قومه، ويجوز أن يراد بأخي من يواخيني في الدين فيدخلان فيه، ويحتمل نصبه عطفاً على نفسي، أو على اسم إن ورفعه عطفاً على الضمير في " لا أملك "، أو على محل إن واسمها، وجره عند الكوفيين عطفاً على الضمير في نفسي. " فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين " بأن تحكم لنا بما نستحقه وتحكم عليهم بما يستحقونه، أو بالتبعيد بيننا وبينهم وتخليصنا من صحبتهم.
26" قال فإنها " فإن الأرض المقدسة. " محرمة عليهم " لا يدخلونها ولا يملكونها بسبب عصيانهم. " أربعين سنة يتيهون في الأرض " عامل الظرف إما محرمة فيكون التحريم موقوتاً غير مؤبد فلا يخالف ظاهر قوله. " التي كتب الله لكم "، ويؤيد ذلك ما روي: أن موسى عليه الصلاة والسلام سار بعده بمن بقي من بني إسرائيل ففتح أريحاء، وأقام بها ما شاء الله ثم قبض وقيل إنه قبض في التيه ولما احتضر أخبرهم بأن يوشع بعده نبي وأن الله سبحانه وتعالى أمره بقتال الجبابرة، فسار بهم يوشع وقتل الجبابرة وصار الشام كله لبني إسرائيل، وإما يتيهون أي يسيرون فيها متحيرين لا يرون طريقاً فيكون التحريم مطلقاً، وقد قيل لم يدخل الأرض المقدسة أحد ممن قال إنا لن ندخلها بل هلكوا في التيه، وإنما قاتل الجبابرة أولادهم. روي أنهم لبثوا أربعين سنة في ستة فراسخ يسيرون من الصباح إلى المساء، فإذا هم بحيث ارتحلوا عنه، وكان الغمام يظلهم من الشمس وعمود من نور يطلع بالليل فيضيء لهم، وكان طعامهم المن والسلوى وماؤهم من الحجر الذي يحملونه، والأكثر على أن موسى وهارون كانا معهم في التيه إلا أنه كان ذلك روحاً لهما وزيادة في درجتهما، وعقوبة لهم، وأنهما ماتا فيه مات هارون، وموسى بعده بسنة، ثم دخل يوشع أريحاء بعد ثلاثة أشهر ومات النقباء فيه بغتة غير كالب ويوشع. " فلا تأس على القوم الفاسقين " حاطب به موسى عليه الصلاة والسلام لما ندم على الدعاء عليهم وبين أنهم أحقاء بذلك لفسقهم.
27" واتل عليهم نبأ ابني آدم " قابيل وهابيل، أوحى الله سبحانه وتعالى إلى آدم أن يزوج كل واحد منهما توأمة الآخر، فسخط منه قابيل لأن توأمته كانت أجمل، فقال لهما آدم: قربا قرباناً فمن أيكما قبل تزوجها، فقبل قربان هابيل بأن نزلت نار فأكلته، فازداد قابيل سخطاً وفعل ما فعل. وقيل لم يرد لهما ابني آدم لصلبه وأنهما رجلان من بني إسرائيل ولذلك قال: " كتبنا على بني إسرائيل ". " بالحق " صفة مصدر محذوف أي تلاوة متلبسة بالحق، أو حال من الضمي في اتل، أو من نبأ أي متلبساً بالصدق موافقاً لما في كتب الأولين " إذ قربا قربانا " ظرف لنبأ، أو حال منه، أو بدل على حذف مضاف أي واتل عليهم نبأهما نبأ ذلك الوقت، والقربان اسم ما يتقرب به إلى الله سبحانه وتعالى من ذبيحة أو غيرها، كما أن الحلوان اسم ما يحلى به أي يعطى، وهو في الأصل مصدر ولذلك لم يثن وقيل تقديره إذا قرب كل واحد منهما قرباناً. قيل كان قابيل صاحب زرع وقرب أردأ قمح عنه، وهابيل صاحب ضرع وقرب جملاً سميناً. " فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر " لأنه سخط حكم الله سبحانه وتعالى ولم يخلص النية في قربانه وقصد إلى أخس ما عنده. " قال لأقتلنك " نوعده بالقتل لفرط الحسد له على تقبل قربانه ولذلك. " قال إنما يتقبل الله من المتقين " في جوابه أي إنما أتيت من قبل نفسك بترك التقوى لا من قبلي فلم تقتلني، وفيه إشارة إلى أن الحاسد ينبغي أن يرى حرمانه من تقصيره ويجتهد في تحصيل ما به صار المحسود محظوظاً، لا في إزالة حظه فإن في ذلك مما يضره ولا ينفعه، وأن الطاعة لا تقبل إلا من مؤمن متق.
28" لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين " قيل كان هابيل أقوى منه ولكن تحرج عن قتله واستسلم له خوفاً من الله سبحانه وتعالى لأن الدفع لم يبح بعد، أو تحريماً لما هو الأفضل قال عليه الصلاة والسلام: "كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل". وإنما قال: " ما أنا بباسط " في جواب " لئن بسطت " للتبري عن هذا الفعل الشنيع رأساً، والتحرز من أن يوصف به ويطلق عليه ولذلك أكد النفي بالباء.
29" إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين " تعليل ثاني للامتناع عن المعارضة والمقاومة، والمعنى إنما أستسلم لك إرادة أن تحمل إثمي لو بسطت إليك يدي، وإثمك ببسط يدك إلي ونحوه المستبان ما قالا فعلى البادئ ما لم يعتد المظلوم. وقيل معنى بإثمي بإثم قتلي، وبإثمك الذي لم يتقبل من أجله قربانك، وكلاهما في موضع الحال أي ترجع متلبساً بالإثمين حملاً لهما، ولعله لم يرد معصية أخيه وشقاوته بل قصده بهذا الكلام إلى أن ذلك إن كان لا محالة واقفاً فأريد أن يكون لك لا لي، فالمراد بالذات أن لا يكون له أن يكون لأخيه ويجوز أن يكون المراد بالإثم عقوبته وإرادة عقاب العاصي جائزة.
30" فطوعت له نفسه قتل أخيه " فسهلته ووسعته من طاع له المرتع إذا اتسع. وقرئ " فطوعت " على أنه فاعل بمعنى فعل، أو على أن " قتل أخيه " كأنه دعاها إلى الإقدام عليه فطاوعته، وله لزيادة الربط كقولك حفظت لزيد ماله. " فقتله فأصبح من الخاسرين " ديناً ودنيا، إذ بقي مدة عمره مطروداً محزوناً. قيل قتل هابيل وهو ابن عشرين سنة عند عقبة حراء. وقيل: بالبصرة في موضع المسجد الأعظم.
31" فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوآة أخيه " روي أنه لما قتله تحير في أمره ولم يدر ما يصنع به إذ كان أول ميت من بني آدم، فبعث الله غرابين فاقتتلا فقتل أحدهما الآخر، فحفر له بمنقاره ورجليه ثم ألقاه في الحفرة والضمير في ليرى، الله سبحانه وتعالى، أو للغراب،وكيف حال من الضمير في " يواري " والجملة ثاني مفعولي يرى،! والمراد بسوأة أخيه جسده الميت فإنه مما يستقبح أن يرى. " قال يا ويلتى " كلمة جزع وتحسر والألف فيها بدل من ياء المتكلم. والمعنى يا ويلتي احضري فهذا أوانك، والويل والويلة الهلكة. " أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوآة أخي " لا أهتدي إلى مثل ما أهتدي إليه، وقوله: " فأواري " عطف على " أكون " وليس جواب الاستفهام إذ ليس المعنى ههنا لو عجزت لواريت، وقرئ بالسكون على فأنا أواري أو على تسكين المنصوب تخفيفاً. " فأصبح من النادمين " على قتله لما كابد فيه من التحير في أمره وحمله على رقبته سنة أو أكثر على ما قيل، وتلمذه للغراب واسوداد لونه وتبري أبويه منه، إذ روي أنه لما قتله اسود جسده فسأله آدم عن أخيه فقال ما كنت عليه وكيلاً فقال بل قتلته ولذلك اسود جسدك وتبرأ منه ومكث بعد ذلك مائة سنة لا يضحك وعدم الظفر بما فعله من أجله.
32" من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل " بسببه قضينا عليهم، وأجل في الأصل مصدر أجل شراً إذا جناه استعمل في تعليل الجنايات كقولهم، من جراك فعلت، أي من جررته أي جنيته ثم اتسع فيه فاستعمل في كل تعليل، ومن ابتدائية متعلقة بكتبنا أي ابتداء الكتب ونشوء من أجل ذلك. " أنه من قتل نفسا بغير نفس " أي بغير قتل نفس يوجب الاقتصاص. " أو فساد في الأرض " أو بغير فساد فيها كالشرك أو قطع الطريق. " فكأنما قتل الناس جميعا " من حيث أنه هتك حرمة الدماء وسن القتل، وجرأ الناس عليه، أو من حيث أ، قتل الواحد وقتل الجميع سواء في استجلاب غضب الله سبحانه وتعالى والعذاب العظيم. " ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا " أي ومن تسبب لبقاء حياتها بعفو أو منع عن القتل، أو استنقاذ من بعض أسباب الهلكة فكأنما فعل ذلك بالناس جميعاً، والمقصود منه تعظيم قتل النفس وإحيائها في القلوب ترهيباً عن التعرض لها وترغيباً في المحاماة عليها. " ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون " أي بعد ما كتبنا عليهم هذا التشديد العظيم من أجل أمثال ذلك الجناية، وأرسلنا إليهم الرسل بالآيات الواضحة تأكيداً للأمر وتجديداً للعهد كي يتحاموا عنها وكثير منهم يسرفون في الأرض بالقتل ولا يبالون به، وبهذا اتصلت القصة بما قبلها والإسراف التباعد عن حد الاعتدال في الأمر.
33" إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله " أي يحاربون أولياءهما وهم المسلمون، جعل محاربتهم محاربتهما تعظيماً. وأصل الحرب السلب والمراد به ههنا قطع الطريق. وقيل المكابرة في باللصوصية وإن كانت في مصر. " ويسعون في الأرض فسادا " أي مفسدين، ويجوز نصبه على العلة أو المصدر لأن سعيهم كان فساداً فكأنه قيل: ويفسدون في الأرض فساداً. " أن يقتلوا " أي قصاصاً من غير صلب إن أفردوا القتل. " أو يصلبوا " أي يصلبوا مع القتل إن قتلوا وأخذوا المال، وللفقهاء خلاف في أنه يقتل ويصلب أو يصلب حياً ويترك أو يطعن حتى يموت. " أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف " تقطع أيديهم اليمنى وأرجلهم اليسرى إن أخذوا المال ولم يقتلوا. " أو ينفوا من الأرض " ينفوا من بلد إلى بلد بحيث لا يتمكنون من القرار في موضع إن اقتصروا على الإخافة. وفسر أبو حنيفة النفي بالحبس، وأو في الآية على التفصيل، وقيل: إنه للتخيير والإمام مخير بين هذه العقوبات في كل قاطع طريق. " ذلك لهم خزي في الدنيا " ذل وفضيحة. " ولهم في الآخرة عذاب عظيم " لعظم ذنوبهم.
34" إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم " استثناء مخصوص بما هو حق لله سبحانه وتعالى ويدل عليه قوله تعالى: " فاعلموا أن الله غفور رحيم " أما القتل قصاصاً فإلى الأولياء يسقط بالتوبة وجوبه لا جوازه، وتقييد التوبة بالتقدم على القدرة يدل على أنها بعد القدرة لا تسقط الحد وإن أسقطت العذاب، وأن الآية في قطاع المسلمين لأن توبة المشرك تدرأ عنه العقوبة قبل القدرة وبعدها.
35" يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة " أي ما تتوسلون به إلى ثوابه والزلفى منه بفعل الطاعات وترك المعاصي، من وسل إلى كذا إذا تقرب إليه وفي الحديث "الوسيلة منزلة في الجنة". " وجاهدوا في سبيله " بمحاربة أعدائه الظاهرة والباطنة. " لعلكم تفلحون " بالوصول إلى الله سبحانه وتعالى والفوز بكرامته.
36" إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض " من صنوف الأموال. " جميعا ومثله معه ليفتدوا به " ليجعلوه فدية لأنفسهم. " من عذاب يوم القيامة " واللام متعلقة بمحذوف تستدعيه لو، إذ التقدير لو ثبت أن لهم ما في الأرض، وتوحيد الضمير في به والمذكور شيئان إما لإجرائه مجرى اسم الإشارة في نحو قوله تعالى: " عوان بين ذلك ". أو لأن الواو ومثله بمعنى مع. " ما تقبل منهم " جواب، ولو بما في حيزه خبر إن والجملة تمثيل للزوم العذاب لهم وأنه لا سبيل لهم إلى الخلاص منه. " ولهم عذاب أليم " تصريح بالمقصود منه، وكذلك قوله:
37" يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم " وقرئ " يخرجوا " من أخرج وإنما قال " وما هم بخارجين " بدل وما يخرجون للمبالغة.
38" والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما " جملتان عند سيبويه إذ التقدير فيما يتلى عليكم السارق والسارقة أي حكمهما، وجملة عند المبرد والفاء للسببية دخل الخبر لتضمنهما معنى الشرط إذ المعنى: والذي سرق والتي سرقت، وقرئ بالنصب وهو المختار في أمثاله لأن الإنشاء لا يقع خبراً إلا بإضمار وتأويل. والسرقة: أخذ مال الغير في خفية، وإنما توجب القطع إذا كانت من حرز والمأخوذ ربع دينار أو ما يساويه لقوله عليه الصلاة والسلام "القطع في ربع دينار فصاعداً" وللعلماء خلاف في ذلك لأحاديث وردت فيه وقد استقصيت الكلام فيه في شرح المصابيح، والمراد بالأيدي الإيمان ويؤيده قراءة ابن مسعود رضي الله عنه أيمانهم، ولذلك ساغ وضع الجمع موضع المثنى كما في قوله تعالى: " فقد صغت قلوبكم " اكتفاء بتثنية المضاف إليه، واليد اسم لتمام العضو ولذلك ذهب الخوارج إلى أن المقطع هو المنكب، والجمهور على أنه الرسغ لأنه عليه الصلاة والسلام أتى بسارق فأمر بقطع يمينه منه. " جزاء بما كسبا نكالا من الله " منصوبان على المفعول له أو المصدر ودل على فعلهما فاقطعوا " والله عزيز حكيم ".
39" فمن تاب " من السراق. " من بعد ظلمه " أي بعد سرقته. " وأصلح " أمره بالتقصي عن التبعات والعزم على أن لا يعود إليها. " فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم " يقبل توبته فلا يعذبه في الآخرة. وأما القطع فلا يسقط بها عند الأكثرين لأن فيه حق المسروق منه.
40" ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض " الحطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد. " يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء والله على كل شيء قدير " قدم التعذيب على المغفرة إيتاء على ترتيب ماسبق، أو لأن استحقاق التعذيب مقدم أو لأن المراد به القطع وهو في الدنيا.
41" يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر " أي صنيع الذين يقعون في الكفر سريعاً أي في إظهاره إذا وجدوا منه فرصة. " من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم " أي من المنافقين والباء متعلقة بقالوا لا بآمنا والوا تحتمل الحال والعطف. " ومن الذين هادوا " عطف على " من الذين قالوا " " سماعون للكذب " خبر محذوف أي هم سماعون، والضمير للفريقين، أو للذين يسارعون ويجوز أن يمون مبتدأ ومن الذين خبره أي ومن اليهود قوم سماعون واللام في للكذب، إما مزيدة للتأكيد أو لتضمين السماع معنى القبول أي، قابلون لما تفتريه الأحبار، أو للعلة والمفعول محذوف أي: سماعون كلامك ليكذبوا عليك فيه. " سماعون لقوم آخرين لم يأتوك " أي لجمع آخرين من اليهود لم يحضروا مجلسك وتجافوا عنك تكبراً وإفراطاً في البغضاء، والمعنى على الوجهين أي مصغون لهم قابلون كلامهم، أو سماعون منك لأحلهم والإنهاء إليهم، ويجوز أ، تتلعق اللام بالكذب لأن سماعون الثاني مكرر للتأكيد أي: سماعون ليكذبوا لقوم آخرين. " يحرفون الكلم من بعد مواضعه " أي يميلونه عن مواضعه التي وضعه الله فيها، إما لفظاً: بإهماله أو تغيير وضعه، وإما معنى: بحمله على غير المراد وإجرائه في غير مورده، والجملة صفة أخرى لقوم أو صفة لسماعون أو حال من الضمير فيه أو استئناف لا موضع له، أو في موضع الرفع خبراً لمحذوف أي هم يحرفون وكذلك " يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه " أي إن أوتيتم هذا المحرف فاقبلوه واعملوا به. " وإن لم تؤتوه " بل أفتاكم محمد بخلافه " فاحذروا " أي احذروا قبول ما أفتاكم به. روي "أن شريفاً من خيبر زنى بشريفة وكانا محصنين فكرهوا رجمهما، فأرسلوهما مع رهط منهم إلى بني قريضة ليسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه وقالوا: إن أمركم بالجلد والتحميم فاقبلوا وإن أمركم بالرجم فلا، فأمرهم بالرجم فأبوا عنه، فجعل ابن صوريا حكماً بينه وبينهم، وقال له: أنشدك الله الذي لا إله إلا هو الذي فلق البحر لموسى، ورفع فوقكم الطور، وأنجاكم وأغرق آل فرعون والذي أنزل عليكم كتابه وحلاله وحرامه هل تجدون فيه الرجم على من أحصن، قال: نعم. فوثبوا عليه فقال: خفت إن كذبته أن ينزل علينا العذاب، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالزانيين فرجما عند باب المسجد". " ومن يرد الله فتنته " ضلالته أو فضيحته. " فلن تملك له من الله شيئا " فلن تستطيع له من الله شيئاً في دفعها. " أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم " من الكفر وهو كما ترى نص على فساد قول المعتزلة. " لهم في الدنيا خزي " هو أن بالجزية والخوف من المؤمنين. " ولهم في الآخرة عذاب عظيم " وهو الخلود في النار، والضمير للذين هادوا إن استأنفت بقوله ومن الذين وإلا فللفريقين.
42" سماعون للكذب " كرره للتأكيد. " أكالون للسحت " أي الحرام كالرشا من سحته إذا استأصله لأنه مسحوت البركة، وقرأ ابن كثير و أبو عمرو و الكسائي و يعقوب في المواضع الثلاثة بضمتين وهما لغتان كالعنق والعنق، وقرئ بفتح السين على لفظ المصدر. " فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم " تحيير لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تحاكموا إليه بين الحكم والإعراض ولهذا قيل: لو تحاكم كتابيان إلى القاضي لم يجب عليه الحكم، وهو قول الشافعي والأصح وجوبه إذا كان المترافعان أو أحدهما ذمياً لأنا التزمنا الذب عنهم ودفع الظلم منهم، والآية ليست في أهل الذمة، وعند أبي حنيفة يجب مطلقاً. " وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا " بأن يعادوك لإعراضك عنهم فإن الله سبحانه وتعالى يعصمك من الناس. " وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط " أي بالعدل الذي أمر الله به. " إن الله يحب المقسطين " فيحفظهم ويعظم شأنهم.
43" وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله " تعجيب من تحكيمهم من لا يؤمنون به، والحال أن الحكم منصوص عليه في الكتاب الذي عندهم، وتنبيه على أنهم ما قصدوا بالتحكيم معرفة الحق وإقامة الشرع، وإنما طلبوا به ما يكون أهون عليهم وإن لم يكن حكم الله تعالى في زعمهم، و" فيها حكم الله " حال م التوراة إن رفعتها بالظرف، وإن جعلتها مبتدأ فمن ضميرها المستكن فيه وتأنيثها لكونها نظيرة المؤنث في كلامهم لفظاً كموماة ودوداة. " ثم يتولون من بعد ذلك " ثم يعرضون عن حكمك الموافق لكتابهم بعد التحكيم، وهو عطف على يحكمونك داخل في حكم التعجيب. " وما أولئك بالمؤمنين " بكتابهم لإعراضهم عنه أولاً وعما يوافقه ثانياً، أو بك وبه.
44" إنا أنزلنا التوراة فيها هدى " يهدي إلى الحق. " ونور " يكشف عما استبهم من الأحكام. " يحكم بها النبيون " يعني أنبياء بني إسرائيل، أو موسى ومن بعده إن قلنا شرع من قبلنا شرع لنا ما لم ينسخ، وبهذه الآية تمسك القائل به. " الذين أسلموا " صفة أجريت على النبيين مدحاً لهم وتنويهاً بشأن المسلمين، وتعريضاً باليهود وأنهم بمعزل عن دين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام واقتفاء هديهم. " للذين هادوا " متعلق بأنزل، أو بيحكم أي يحكمون بها في تحاكمهم وهو يدل على أن النبيين أنبياؤهم. " والربانيون والأحبار " زهادهم وعلماؤهم السالكون طريقة أنبياؤهم عطف على النبييون " بما استحفظوا من كتاب الله " بسبب أمر الله إياهم بأن يحفظوا كتابه من التضييع والتحريف، والراجع إلى ما محذوف ومن النبيين. " وكانوا عليه شهداء " رقباء لا يتركون أن يغير، أو شهداء يبينون ما يخفى منه كما فعل ابن صوريا. " فلا تخشوا الناس واخشون " نهي للحكام أن يخشوا غير الله في حكوماتهم ويداهنوا فيها خشية ظالم أو مراقبة كبير. " ولا تشتروا بآياتي " ولا تستبدلوا بأحكامي التي أنزلتها. " ثمنا قليلا " هو الرشوة والجاه " ومن لم يحكم بما أنزل الله " مستهيناً به منكراً له. " فأولئك هم الكافرون " لاستهانتهم به وتمردهم بأن حكموا بغيره، ولذلك وصفهم بقوله " الكافرون " و " الظالمون " و " الفاسقون "، فكفرهم لإنكاره، وظلمهم بالحكم على خلافه، وفسقهم بالخروج عنه. ويجوز أن يكون كل واحدة من الصفات الثلاث باعتبار حال انضمت إلى الامتناع عن الحكم به ملائمة لها، أو لطائفة كما قيل هذه في المسلمين لاتصالهم بخطابهم، والظالمين في اليهود، والفاسقون في النصارى.
45" وكتبنا عليهم " وفرضنا على اليهود. " فيها " في التوراة. " أن النفس بالنفس " أي أن النفس تقتل بالنفس. " والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن " رفعها الكسائي على أنها جمل معطوفة على أن وما في حيزها باعتبار المعنى وكأنه قيل: وكتبنا عليهم النفس بالنفس، والعين بالعين، فإن الكتابة والقراءة تقعان على اجمل كالقول، أو مستأنفة ومعناها: كذلك العين مفقوءة بالعين، والأنف مجدوعة بالأنف، والأذن مصلومة بالأذن، والسن مقلوعة بالسن، أو على أن المرفوع منها معطوف على المستكن في قوله بالنفس، وإنما ساغ لأنه في الأصل مفصول عنه بالطرف، والجار والمجرور حال مبينة للمعنى، وقرأ نافع " والأذن بالأذن " وفي أذنيه باسكان الذال حيث وقع. " والجروح قصاص " أي ذات قصاص، وقرأ الكسائي أيضاً بالرفع ووافقه ابن كثير و أبو عمرو و ابن عامر على أنه إجمال للحكم بعد التفضيل. " فمن تصدق " من المستحقين. " به " بالقصاص أي فمن عفا عنه. " فهو " فالتصدق. " كفارة له " للمتصدق يكفر الله به ذنوبه وقيل للجاني يسقط عنه ما لزمه. وقرئ " فهو كفارة له " فالمتصدق كفارته التي يستحقها بالتصدق له لا ينقص منها شيء. " ومن لم يحكم بما أنزل الله " من القصاص وغيره. " فأولئك هم الظالمون ".
46" وقفينا على آثارهم " أي وأتبعناهم على آثارهم، فحذف المفعول لدلالة الجار والمجرور عليه، والضمير للنبيون. " بعيسى ابن مريم " مفعول ثاني عدي إليه الفعل بالباء. " مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل " وقرىء بفتح الهمزة " فيه هدى ونور" في موضع النصب بالحال " ومصدقا لما بين يديه من التوراة " عطف عليه وكذا قوله: " وهدى وموعظة للمتقين " ويجوز نصبهما على المفعول له عطفاً على محذوف أو تعلقاً به وعطف.
47" وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه " " عليه " في قراءة حمزة، وعلى الأول اللام متعلقة بمحذوف أي وآتيناه ليحكم، وقرئ: " وإن ربك ليحكم " على أن أن موصولة بالأمر كقولك: أمرتك بأن قم أي وأمرنا بأن ليحكم. " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون " عن حكمه، أو عن الإيمان إن كان مستهيناً به، والآية تدل على أن الإنجيل مشتمل على الأحكام وأن اليهودية منسوخة ببعثة عيسى عليه الصلاة والسلام، وأنه كان مستقلاً بالشرع وحملها على وليحكموا بما أنزل الله فيه من إيجاب العمل بأحكام التوراة خلاف الظاهر.
48" وأنزلنا إليك الكتاب بالحق " أي القرآن. " مصدقا لما بين يديه من الكتاب " من جنس الكتب المنزلة، فاللام الأولى للعهد والثانية للجنس. " ومهيمنا عليه " ورقيباً على سائر الكتب يحفظه عن التغيير ويشهد له بالصحة والثبات، وقرئ على بنية المفعول أي هومن عليه وحوفظ من التحريف والحافظ له هو الله سبحانه وتعالى، أو الحفاظ في كل عصر. " فاحكم بينهم بما أنزل الله " أي بما أنزل الله إليك. " ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق " بالانحراف عنه إلى ما يشتهونه فعن صلة للاتتبع لتضمنه معنى لا تنحرف، أو حال من فاعله أي لا تتبع أهواءهم مائلاً عما جاءك. " لكل جعلنا منكم " أيها الناس. " شرعة " شريعة وهي الطريقة إلى الماء شبهه بها الدين لأنه طريق إلى ما هو سبب الحياة الابدية. وقرئ بفتح الشين. " ومنهاجا " وطريقاً واضحاً في الدين من نهج الأمر إذا وضح. واستدل به على أنا غير متعبدين بالشرائع المتقدمة " ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة " جماعة متفقة على دين واحد في جميع الأعصار من غير نسخ وتحويل، ومفعول لو شاء محذوف دل عليه الجواب، وقيل المعنى لو شاء الله اجتماعكم على الإسلام لأجبركم عليه. " ولكن ليبلوكم في ما آتاكم " من الشرائع المختلفة المناسبة لكل عصر وقرن، هل تعملون بها مذعنين لها معتقدين أن اختلافها بمقتضى الحكمة الإلهية، أم تزيغون عن الحق وتفرطون في العمل. " فاستبقوا الخيرات " فابتدروها انتهازاً للفرصة وحيازة لفضل اسبق والتقدم. " إلى الله مرجعكم جميعا " استئناف فيه تعليل الأمر بالاستباق ووعد ووعيد للمبادرين والمقصرين. " فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون " بالجزاء الفاصل بين المحق والمبطل والعامل والمقصر.
49" وأن احكم بينهم بما أنزل الله " عطف على الكتاب أي أنزلنا إليك الكتاب والحكم، أو على الحق أي أنزلناه بالحق وبأن احكم، ويجوز أ، يكون جملة بتقدير وأمرنا أن أحكم. " ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك " أي أن يضلوك ويصرفوك عنه، وأن بصلته بدل من هم بدل الاشتمال أي احذر فتنتهم، أو مفعول له أي احذرهم مخافة أن يفتنوك. روي "أن أحبار اليهود قالوا: اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه فقالوا، يا محمد قد عرفت أنا أحبار اليهود وأنا إن تبعناك اتبعنا اليهود كلهم، إن بيننا وبين قومنا خصومة فنتحاكم إليك فتقضي لنا عليهم ونحن نؤمن بك ونصدقك، فأبى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم" فنزلت. " فإن تولو " عن الحكم المنزل وأرادوا غيره. " فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم " يعني ذنب التولي عن حكم الله سبحانه وتعالى، فعبر عنه بذلك تنبيهاً على أن لهم ذنوباً كثيرة وهذا مع عظمه واحد منها معدود من جملتها، وفيه دلالة على التعظيم كما في التنكير ونظيره قول لبيد: أو يرتبط بعض النفوس حمامها " وإن كثيرا من الناس لفاسقون " لمتمردون في الكفر معتدون فيه.
50" أفحكم الجاهلية يبغون " الذي هو الميل والمداهنة في الحكم، والمراد بالجاهلية الملة الجاهلية التي هي متابعة الهوى. وقيل نزلت في بني قريظة والنضير طلبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحكم بما كان يحكم به أهل الجاهلية من التفاضل بين القتلى. وقرئ برفع الحكم على أنه مبتدأ، و" يبغون " خبره، والراجع محذوف حذفه في الصلة في قوله تعالى: " أهذا الذي بعث الله رسولا " واستضعف ذلك في غير الشعر وقرئ أفحكم الجاهلية أي يبغون حاكماً كحكام الجاهلية يحكم بحسب شهيتهم. وقرأ ابن عامر تبغون بالتاء على قل لهم أفحكم الجاهلية تبغون. " ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون " أي عندهم، واللام للبيان كما في قوله تعالى: " هيت لك " أي هذا الاستفهام لقوم يوقنون فإنهم هم الذين يتدبرون الأمور ويتحققون الأشياء بأنظارهم فيعلمون أن لا أحسن حكماً من الله سبحانه وتعالى.
51" يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء " فلا تعتمدوا عليهم ولا تعاشروهم معاشرة الأحباب. " بعضهم أولياء بعض " إيماء إلى علة النهي، أي فإنهم متفقون على خلافكم يوالي بعضهم بعضاً لاتحادهم في الدين وإجماعهم على مضادتكم. " ومن يتولهم منكم فإنه منهم " أي ومن والاهم منكم فإنه من جملتهم، وهذا التشديد وجوب مجانبتهم كما قال عليه الصلاة والسلام: "لا تتراءى ناراهما"، أو لأن الموالي لهم كانوا منافقين. " إن الله لا يهدي القوم الظالمين " أي الذين ظلموا أنفسهم بموالاة الكفار أو المؤمنين بموالاة أعدائهم.
52" فترى الذين في قلوبهم مرض " يعني ابن أبي وأضرابه. " يسارعون فيهم " أي في موالاتهم ومعاونتهم. " يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة " يعتذرون بأنهم يخافون أن تصيبهم دائرة من دوائر الزمان بأن ينقلب الأمر وتكون الدولة للكفار. روي "أن عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لي موالي من اليهود كثير عددهم، وإني أبرأ إلى الله وإلى رسوله من ولا يتهم وأوالي الله ورسوله، فقال ابن أبي: إني رجل أخاف الدوائر ولا أبرأ من ولاية موالي" فنزلت. " فعسى الله أن يأتي بالفتح " لرسول الله صلى الله عليه وسلم على أعدائه وإظهار المسلمين. " أو أمر من عنده " يقطع شأفة اليهود من القتل والإجلاء، أو الأمر بإظهار أسرار المنافقين وقتلهم. " فيصبحوا " أي هؤلاء المنافقون. " على ما أسروا في أنفسهم نادمين " على ما استبطنوه من الكفر والشك في أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، فضلاً عما أظهروه مما أشعر على نفاقهم.
53" ويقول الذين آمنوا " بالرفع قراءة عاصم و حمزة و الكسائي على أنه كلام مبتدأ ويؤيده قراءة ابن كثير و نافع و ابن عامر مرفوعاً بغير واو على أن يأتي باعتبار المعنى، وكأنه قال: عسى أن يأتي الله بالفتح ويقول الذين آمنوا، أو يجعله بدلاً من اسم الله تعالى داخلاً في اسم عسى مغنياً عن الخبر بما تضمنه من الحدث، أو على الفتح بمعنى عسى الله أن يأتي بالفتح وبقول المؤمنين فإن الإتيان بما يوجبه كالإتيان به. " أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم " يقول المؤمنين بعضهم إلى بعض تعجباً من حال المنافقين وتبجحاً بما من الله سبحانه وتعالى عليهم من الإخلاص أو يقولونه لليهود، فإن المنافقين حلفوا لهم بالمعاضدة كما حكى الله تعالى عنهم " وإن قوتلتم لننصرنكم " وجهد الأيمان أغلظها، وهو في الأصل مصدر ونصبه على الحال على تقدير وأقسموا بالله يجهدون جهد أيمانهم، فحذف الفعل وأقيم المصدر مقامه ولذلك ساغ كونها معرفة أو على المصدر لأنه بمعنى أقسموا. " حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين " إما من جملة المقول أو قول الله سبحانه وتعالى شهادة لهم بحبوط أعمالهم، وفيه معنى التعجب كأنه قيل احبط أعمالهم فما أخسرهم.
54" يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه " قرأه على الأصل نافع و ابن عامر وهو كذلك في الإمام، والباقون بالإدغام وهذا من الكائنات التي أخبر الله تعالى عنها قبل وقوعها، وقد ارتد من العرب في أواخر عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاث فرق: بنو ملدج وكان رئيسهم ذو الخمار الأسود العنسي، تنبأ باليمن واستولى على بلاده ثم قتله فيروز الديلمي ليلة قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم من غدها وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم في تلك الليلة فسر المسلمين وأتى الخبر في أواخر ربيع الأول. وبنو حنيفة أصحاب مسيلمة تنبأ وكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله أما بعد فإن الأرض نصفها لي ونصفها لك، فأجاب من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب أما بعد فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين، فحاربه أبو بكر رضي الله تعالى عنه بجند من المسلمين وقتله وحشي قاتل حمزة. وبنو أسد قوم طليحة بن خويلد تنبأ فبعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خالداً فهرب بعد القتال إلى الشام ثم أسلم وحسن إسلامه. وفي عهد أبي بكر رضي الله عنه سبع فزازة قوم غيبنه بن حصن، وغطفان قوم فرة بن سلمة القشيري وبنو سليم قوم الفجاءة بن عبد الله يا ليل، وبنو يربوع قوم مالك بن نويرة، وبعض تميم قوم سجاح بنت المنذر المتنبئة زوجة مسيلمة، وكندة قوم الأشعث بن غيث، وبنو بكر بن وائل في البحرين قوم الحطم بن زيد وكفى الله أمرهم على يده، وفي إمرة عمر بن الحطاب رضي الله تعالى عنه غسان قوم جبلة بن الأيهم تنصر وسار إلى الشام. " فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه " قيل هم أهل اليمن لما روي "أنه عليه الصلاة والسلام أشار إلى أبي موسى الأشعري وقال: هم قوم هذا" وقيل الفرس لأنه عليه الصلاة والسلام سئل عنهم فضرب يده على عاتق سلمان وقال: هذا وذووه. وقيل الذين جاهدوا يوم القادسية ألفان من النخع وخمسة آلاف من كنده وبجيلة، وثلاثة آلاف من أفناء الناس. والراجع إلى من محذوف تقديره فسوف يأتي الله بقوم مكانهم ومحبة الله تعالى للعباد إرادة الهدى والتوفيق لهم في الدنيا وحسن الثواب في الآخرة، ومحبة العباد له إرادة طاعته والتحرز عن معاصيه،. " أذلة على المؤمنين " عاطفين عليهم متذللين لهم، جمع ذليل لا ذلول فإن جمعه ذلل، واستعماله مع على إما لتضمنه معنى العطف والحنو أو للتنبيه على أنهم مع علو طبقتهم وفضلهم على المؤمنين خاضعون لهم أو للمقابلة. " أعزة على الكافرين " شداد متغلبين عليهم من عزه إذا غلبه، وقرئ بالنصب على الحال. " يجاهدون في سبيل الله " صفة أخرى لقوم، أو حال من الضمير في أعزة. " ولا يخافون لومة لائم " عطف على يجاهدون بمعنى أنهم الجامعون بين المجاهدة في سبيل الله والتصلب في دينه، أو حال بمعنى أنهم مجاهدون حالهم خلاف حال المنافقين، فإنهم يخرجون في جيش المسلمين خائفين ملامة أوليائهم من اليهود فلا يعملون شيئاً يلحقهم فيه لوم من جهتهم، واللوم المرة من اللوم فيها وفي تنكير لائم مبالغتان. " ذلك " إشارة إلى ما تقدم من الأوصاف. " فضل الله يؤتيه من يشاء " يمنحه ويوفق له " والله واسع " كثير الفضل. " عليم " بمن هو أهله.
55" إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا " لما نهى عن موالاة الكفرة ذكر عقبيه من هو حقيق بها، وإنما قال " وليكم الله " ولم يقل أولياؤكم للتنبيه على أن الولاية لله سبحانه وتعالى على الأصالة ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين على التبع. " الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة " صفة للذين آمنوا فإنه جرى مجرى الاسم، أو بدل منه ويجوز نصبه ورفعه على المدح. " وهم راكعون " متخشعون في صلاتهم وزكاتهم، وقيل هو حال مخصوصة بيؤتون، أو يؤتون الزكاة في حال ركوعهم في الصلاة حرصاً على الإحسان ومسارعه إليه، وإنها نزلت في علي رضي الله تعالى عنه حين سأله سائل وهو راكع في صلاته، فطرح له خاتمه. واستدل بها الشيعة على إمامته أن المراد بالولي المتولي للأمور والمستحق للتصرف فيها، والظاهر ما ذكرناه مع أن حمل الجمع على الواحد أيضاً خلاف الظاهر وإن صح أنه نزل فيه فلعله جيء الجمع لترغيب الناس في مثل فعله ليندرجوا فيه، وعلى هذا يكون دليل على أن الفعل القليل في الصلاة لا يبطلها وأن الصدقة التطوع تسمى زكاة.
56" ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا " ومن يتخذهم أولياء. " فإن حزب الله هم الغالبون " أي فإنهم هم الغالبون، ولكن وضع الظاهر موضع المضمر تنبيه على البرهان عليه فكأن قيل: ومن يتولى هؤلاء فهم حزب الله وحزب الله هم الغالبون وتنويهاً بذكرهم وتعظيماً لشأنهم وتشريفاً لهم بهذا الإسم، وتعريضاً لمن يوالي غير هؤلاء بأنه حزب الشيطان وأصل الحزب القوم يجتمعون لأمر حز بهم.
57" يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء " نزلت في رفاعة بن زيد وسويد ابن الحرث أظهرا الإسلام ثم نافقا، وكان رجال من المسلمين يوادونهم. وقد رتب النهي عن موالاتهم على اتخاذهم دينهم هزواً ولعباً وإيماء إلى العلة وتنبيهاً على أن من هذا شأنه بعيد عن الموالاة جدير بالمعاداة والبغضاء، وفصل المستهزئين بأهل الكتاب والكفار على قراءة من جره وهم أبو عمرو و الكسائي و يعقوب، والكفار وإن عم أهل الكتاب يطلق على المشركين خاصة لتضاعف كفرهم، ومن نصبه عطفه على الذين اتخذوا على أن النهي عن موالاة من ليس على الحق رأساً سواء من كان ذا دين تبع فيه الهوى وحرفه عن الصواب كأهل الكتاب ومن لم يكن كالمشركين. " واتقوا الله " بترك المناهي. " إن كنتم مؤمنين " لأن الإيمان حقاً يقتضي ذلك. وقيل إن كنتم مؤمنين بوعده ووعيده.
58" وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا " أي اتخذوا الصلاة، أو المناداة وفيه دليل على أن الأذان مشروع للصلاة. روي: أن نصرانياً بالمدينة كان إذا سمع المؤذن يقول أشهد أن محمداً رسول الله، قال: أحرق الله الكاذب، فدخل خادمه ذات ليلة بنار وأهله نيام فتطاير شررها في البيت فأحرقه وأهله. " ذلك بأنهم قوم لا يعقلون " فإن السفه يؤدي إلى الجهل بالحق والهزؤ به، والعقل يمنع منه.
59" قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا " هل تنكرون منا وتعيبون، يقال نقم منه كذا إذا أنكره وانتقم إذا كافأه. وقرء " تنقمون " بفتح القاف وهي لغة. " إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل " الإيمان بالكتب المنزلة كلها. " وأن أكثركم فاسقون " عطف على " أن آمنا " وكأن المستثنى لازم الأمرين وهو المخالفة أي: ما تنكرون منا إلا مخالفتكم حيث دخلنا الإيمان وأنتم خارجون منه، أو كان الأصل واعتقاد أن أكثركم فاسقون فحذف المضاف، أو على ما أي: وما تنقمون منا إلا الإيمان بالله بوما أنزل وبأن أكثركم فاسقون، وأو على علة محذوفة والتقدير هل تنقمون منا إلا أن آمنا لقلة إنصافكم وفسقكم، أو نصب بإضمار فعل يدل عليه هل تنقمون أي: ولا تنقمون أن أكثركم فاسقون، أو رفع على الإبتداء والخبر محذوف أي: وفسقكم ثابت معلوم عندكم ولكن حب الرياسة والمال يمنعكم من الإنصاف. والآية خطاب ليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمن يؤمن به فقال: " آمنا بالله وما أنزل إلينا " إلى قوله: " ونحن له مسلمون " فقالوا حين سمعوا ذكر عيسى: لا نعلم ديناً شراً من دينكم.
60" قل هل أنبئكم بشر من ذلك " أي من لك المنقوم. " مثوبة عند الله " جزاء ثابتاً عند الله سبحانه وتعالى، والمثوبة مختصة بالخير كالعقوبة بالشر فوضعت ها هنا موضعها على طريقة قولهم: تحية بينهم ضرب وجيع ونصبها عن التمييز عن بشر. " من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير " بدل من بشر على حذف مضاف أي بشر من أهل ذلك من لعنه الله، أو بشر من ذلك دين محمد لعنه الله، أو خبر محذوف أي هو من لعنه الله وهم اليهود أبعدهم الله من رحمته وسخط عليهم بكفرهم وانهماكهم في المعاصي بعد وضوح الآيات، ومسخ بعضهم قردة وهم أصحاب السبت، وبعضهم خنازير وهم كفار أهل مائدة عيسى عليه الصلاة. وقيل كلا المسخين في أصحاب السبت مسخت شبانهم قردة ومشايخهم خنازير. " وعبد الطاغوت " عطف على صلة من وكذا " عبد الطاغوت " على البناء للمفعول، ورفع " الطاغوت " و " عبد " بمعنى صار معبوداً، فيكون الراجع محذوفاً أي فيهم أو بينهم، ومن قرأ " وعبد الطاغوت " أو " عبد " على أنه نعت كفطن ويقظ أو عبدة أو " عبد الطاغوت " على أنه جمع كخدم أو أن أصله عبدة فحذف التاء للإضافة عطفه على القردة، ومن قرأ " وعبد الطاغوت " بالجر عطفه على من، والمراد " من " الطاغوت العجل وقيل الكهنة وكل من أطاعوه في معصية الله تعالى. " أولئك " أي الملعونون. " شر مكانا " جعل مكانهم شراً ليكون أبلغ في الدلالة على شرارتهم، وقيل " مكانا " منصرفاً. " وأضل عن سواء السبيل " قصد الطريق المتوسط بين غلو النصارى وقدح اليهود، والمراد من صيغتي التفضيل الزيادة مطلقاً لا بالإضافة إلى المؤمنين في الشرارة والضلالة.
61" وإذا جاؤوكم قالوا آمنا " نزلت في يهود نافقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أو في عامة المنافقين. " وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به " أي يخرجون من عندك كما دخلوا لم يؤثر فيهم ما سمعوا منك، والجملتان حالان من فاعل قالوا وبالكفر وبه حالان من فاعلي دخلوا وخرجوا، وقد وإن دخلت لتقريب الماضي من الحال ليصح أن يقع حالاً أفادت أيضاً لما فيها من التوقع أن أمارة النفاق كانت لائحة عليهم، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يظنه ولذلك قال: " والله أعلم بما كانوا يكتمون " أي من الكفر، وفيه وعيد لهم.
62" وترى كثيرا منهم " أي من اليهود أو من المنافقين. " يسارعون في الإثم " أي الحرام وقيل الكذب لقوله: " عن قولهم الإثم " " والعدوان " الظلم، أو المجاوزة الحد في المعاصي. وقيل " الإثم " ما يختص بهم والعدوانالظلم، أو المجاوزة في الحد في المعاصي. وقيل " الإثم " ما يختص بهم والعدوان ما يتعدى إلى غيرهم. " وأكلهم السحت " أي الحرام خصه بالذكر للمبالغة. " لبئس ما كانوا يعملون " لبئس شيئاً عملوه.
63" لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت " تحضيض لعلمائهم على النهي عن ذلك فإن لولا إذا دخل على الماضي أفاد التوبيخ وإذا دخل على المستقبل أفاد التحضيض. "لبئس ما كانوا يصنعون" أبلغ من قوله لبئس ما كانوا يعملون من حيث إن الصنع عمل الإنسان بعد تدرب فيه وترو وتحري إجادة، ولذلك ذم به خواصهم ولأن ترك الحسنة أقبح من مواقعه المعصية، لأن النفس تلتذ بها وتميل إليها ولا كذلك ترك الإنكار عليها فكان جديراً بأبلغ الذم.
64"وقالت اليهود يد الله مغلولة" أي هو ممسك يقتر بالرزق وغل اليد وبسطها كجاز عن البخل والجود ولا قصد فيه إلى إثبات يد وغل وبسط ولذلك يستعمل حيث لا يتصور ذلك كقوله: جاد الحمى بسط اليدين بوابل شكرت نداه تلاعه ووهاده ونظيره من المجازات المركبة: شابت لمة الليل. وقيل معناه إنه فقير لقوله تعالى: " لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء ". " غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا " دعاء عليهم بالبخل والنكد أو بالفقر والمسكنة، أو بغل الأيدي حقيقة يغلون أسارى في الدنيا ومسحوبين إلى النار في الآخرة فتكون المطابقة من حيث اللفظ وملاحظة الأصل كقولك: سبني سب الله دابره. "بل يداه مبسوطتان" ثنى اليد مبالغة في الرد ونفي البخل عنه تعالى وإثباتاً لغاية الجود، فإن غاية ما يبذله السخي من ماله أن يعطيه بيديه، وتنبيهاً على منح الدنيا والآخرة وعلى ما يعطي للاستدراج وما يعطي للإكرام. "ينفق كيف يشاء" تأكيد لذلك أي هو مختار في إنفاقه يوسع تارة ويضيق أخرى على حسب مشيئته ومقتضى حكمته، لا على تعاقب وسعة وضيق في ذات يد، ولا يجوز جعله حالاً من الهاء للفصل بينهما بالخبر ولأنها مضاف إليها، ولا من اليدين غذ لا ضمير لهما فيه ولا من ضميرهما لذلك. والآية نزلت في فنحاص بن عازوراء فإنه قال ذلك لما كف الله عن اليهود ما بسط عليهم من السعة بشؤم تكذيبهم محمداً صلى الله عليه وسلم وأشرك فيه الأخرون لأنهم رضوا بقوله: " وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا " أي هم طاغون كافرون ويزدادون طغياناً وكفراً بما يسمعون من القرآن كما يزداد المريض مرضاً من تناول الغذاء الصالح للأصحاء. "وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة" فلا تتوافق قلوبهم ولا تتطابق أقوالهم. " كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله " كلما أرادوا حرب الرسول صلى الله عليه وسلم وإثارة شر عليه ردهم الله سبحانه وتعالى بأن أوقع بينهم منازعة كف بها عنه شرهم، أو كلما أرادوا حرب أحد غلبوا فإنهم لما خالفوا حكم التوراة سلط الله عليهم بختنصر ثم أفسدوا فسلط عليهم فطرس الرومي، ثم أفسدوا فسلط عليهم المجوس، ثم أفسدوا فسلط عليهم المسلمين، وللحرب صفة أوقدوا أو صفة ناراً. "ويسعون في الأرض فساداً" أي للفساد وهو اجتهادهم في الكيد وإثارة الحروب والفتن وهتك المحارم. "والله لا يحب المفسدين" فلا يجازيهم إلا شراً.
65"ولو أن أهل الكتاب آمنوا" بمحمد وبما جاء به. " واتقوا " ما عددنا من معاصيهم ونحوه. " لكفرنا عنهم سيئاتهم " التي فعلوها ولم نؤاخذهم بها. " ولأدخلناهم جنات النعيم " وجعلناهم داخلين فيها. وفيه تنبيه على عظم معاصيهم وكثرة ذنوبهم، وأن الإسلام يجب ما قبله، وإن جل وأن الكتابي لا يدخل الجنة ما لم يسلم.
66"ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل" بإذاعة ما فيهما من نعت محمد صلى الله عليه وسلم والقيام بأحكامها. " وما أنزل إليهم من ربهم " يعني سائر الكتب المنزلة فإنها من حيث أنهم مكلفون بالإيمان بها كالمنزل إليهم، أو القرآن "لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم" لوسع عليهم أرزاقهم بأن يفيض عليهم بركات من السماء والأرض، أو يكثر ثمرة الأشجار وغلة الزروع، أو يرزقهم الجنان اليانعة الثمار. فيجتنونها من رأس الشجر ويلتقطون ما تساقط على الأرض بين ذلك أن ما كف عنهم بشؤم كفرهم ومعاصيهم لا لقصور الفيض، ولو أنهم آمنوا وأقاموا ما أمروا به لوسع عليهم وجعل لهم خير الدارين. " منهم أمة مقتصدة " عادلة غير غالية ولا مقصرة، وهم الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم. وقيل مقتصدة متوسطة في عداوته. "وكثير منهم ساء ما يعملون" أي بئس ما يعملونه، وفيه معنى التعجب أي ما أسوأ عملهم وهو المعاندة وتحريف الحق والإعراض عنه والإفراط في العداوة.
67" يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك " جميع ما أنزل إليك غير مراقب أحداً ولا خائف مكروهاً. "وإن لم تفعل" وإن لم تبلغ جميعه كما أمرتك. " فما بلغت رسالته " فما أديت شيئاً منها، لأن كتمان بعضها يضيع ما أدي منها كترك بعض أركان الصلاة، فإن غرض الدعوة ينتقض به، أو فكأنك ما بلغت شيئاً منها كقوله: "فكأنما قتل الناس جميعاً" من حيث أن كتمان البعض والكل شواء في الشفاعة واستجلاب العقاب. وقرأ نافع و ابن عامر و أبو بكر رسالاته بالجمع وكسر التاء. " والله يعصمك من الناس " عدة وضمان من الله سبحانه وتعالى بعصمة روحه صلى الله عليه وسلم من تعرض الأعادي وإزاحة لمعاذيره. " إن الله لا يهدي القوم الكافرين " لا يمكنهم مما يريدون بك. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: "بعثني الله برسالاته فضقت بها ذرعاً فأوحى الله تعالى إلي إن لم تبلغ عني رسالتي عذبتك وضمن لي العصمة فقويت". وعن أنس رضي الله تعالى عنه، "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرس حتى نزلت، فأخرج رأسه من قبة أدم فقال: انصرفوا يا أيها الناس فقد عصمني الله من الناس". وظاهر الآية يوجب تبليغ ما يتعلق به مصالح العباد، وقصد بإنزاله إطلاعهم عليه فإن من الأسرار الإلهية ما يحرم إفشاؤه.
68"قل يا أهل الكتاب لستم على شيء" أي دين يعتد به ويصح أن يسمى شيئاً لأنه باطل. " حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم " ومن إقامتها الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والإذعان لحكمه، فإن الكتب الإلهية بأسرها آمرة بالإيمان بمن صدقه والمعجزة ناطقة بوجوب الطاعة له، والمراد إقامة أصولها وما لم ينسخ من فروعها. " وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا فلا تأس على القوم الكافرين " فلا تحزن عليهم لزيادة طغيانهم وكفرهم بما تبلغه إليهم، فإن ضرر ذلك لاحق بهم لا يتخطاهم وفي المؤمنين مندوحة لك عنهم.
69" إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى " سبق تفسيره في سورة البقرة والصابئون رفع على الإبتداء وخبره محذوف والنية به التأخير عما في حيز إن والتقدير: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى حكمهم كذا والصابئون كذلك كقوله: فإني وقيار بها لغريب وقوله: وإلا فأعلموا أنا وأنتم بغاة ما بقينا في شقاق أي فاعلموا أنا بغاة وأنتم كذلك، وهو كاعتراض دل به على أنه لما كان الصابئون مع ظهور ضلالهم وميلهم عن الأديان كلها يتاب عليهم إن صح منهم الإيمان والعمل الصالح، كان غيرهم أولى بذلك. ويجوز أن يكون والنصارى معطوفاً عليه ومن آمن خبرهما وخبر إن مقدر دل عليه ما بعده كقوله: نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأي مختلف ولا يجوز عطفه على محل إن واسمها فإنه مشروط بالفراغ من الخبر ، إذ لو عطف عليه قبله كان الخبر خبر المبتدأ وخبر إن معاً فيجتمع عليه عاملان ولا على الضمير في هادوا لعدم التأكيد والفصل، ولأنه يوجب كون الصابئين هوداً. وقيل إن بمعنى نعم وما بعدها في موضع الرفع بالابتداء. وقيل "الصابئون" منصوب بالفتحة وذلك كما جوز بالياء جوز الواو. "من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً" في محل الرفع بالابتداء وخبره. "فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون" والجملة خبر إن أو خبر المبتدأ كما مر والراجع محذوف، أي: من آمن منهم، أو بالنصب على البدل من اسم إن وما عطف عليه. وقرئ و"الصابئين" وهو الظاهر و" الصابئون " بقلب الهمزة ياء و" الصابئون " بحذفها من صبأ بإبدال الهمزة ألفاً، أو من صبوت لأنهم صبوا إلى اتباع الشهوات ولم يتبعوا شرعاً ولا عقلاً.
70"لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلاً" ليذكروهم وليبينوا لهم أمر دينهم. " كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم " بما يخالف هواهم من الشرائع ومشاق التكاليف. " فريقا كذبوا وفريقا يقتلون " جواب الشرط والجملة صفة رسلاً والراجع محذوف أي رسول منهم. وقيل الجواب محذوف دل عليه ذلك وهو استئناف، وإنما جيء بـ"يقتلون" موضع قتلوا على حكاية الحال الماضية استحضاراً لها واستفظاعاً للقتل وتنبيهاً على أن ذلك من ديدنهم ماضياً ومستقبلاً ومحافظة على رؤوس الآي.
71" وحسبوا أن لا تكون فتنة " أي وحسب بنو إسرائيل أن لا يصيبهم بلاء وعذاب بقتل الأنبياء وتكذيبهم. وقرأ أبو عمر و حمزة و الكسائي و يعقوب "لا تكون" وإدخال فعل الحسبان عليها وهي للتحقيق تنزيل له منزلة العلم لتمكنه من قلوبهم، و"أن" أو "أن" بما في حيزها ساد مسد مفعوليه. "فعموا" عن الدين أو الدلائل والهدى. " وصموا " عن استماع الحق كما فعلوا حين عبدوا العجل. " ثم تاب الله عليهم " أي ثم تابوا فتاب الله عليهم. " ثم عموا وصموا " كرة أخرى. وقرئ بالضم فيهما على أن الله تعالى أعماهم وأصمهم أي رماهم بالعمى والصمم، وهو قليل واللغة الفاشية أعمى وأصم. "كثير منهم" بدل من الضمير، أو فاعل والواو علامة الجمع كقولهم: أكلوني البراغيث، أو خبر مبتدأ محذوف أي العمى والصم كثير منهم. وقيل مبتدأ والجملة قبله خبره وهو ضعيف لأن تقديم الخبر في مثله ممتنع. "والله بصير بما يعملون" فيجازيهم على وفق أعمالهم.
72" لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم " أي إني عبد مربوب مثلكم فاعبدوا خالقي وخالقكم. " إنه من يشرك بالله " أي في عبادته أو فيما يختص به من الصفات والأفعال. " فقد حرم الله عليه الجنة " يمنع من دخولها كما يمنع المحرم عليه من المحرم فإنها دار الموحدين. " ومأواه النار " فإنها معدة للمشركين. " وما للظالمين من أنصار " أي وما لهم من أحد ينصرهم من النار، فوضع الظاهر موضع المضمر تسجيلاً على أنهم ظلموا بالاشراك وعدلوا عن طريق الحق، وهو يحتمل أن يكون من تمام كلام عيسى عليه الصلاة وأن يكون من كلام الله تعالى نبه به على أنهم قالوا ذلك تعظيماً لعيسى عليه صلى الله عليه وسلم، وتقرباً إليه وهو معاديهم بذلك ومخاصمهم فيه فما ظنك بغيره.
73" لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة " أي أحد ثلاثة، وهي حكاية عما قاله النسطورية والملكانية منهم القائلون بالأقانيم الثلاثة وما سبق قول اليعقوبية القائلين بالاتحاد. " وما من إله إلا إله واحد " وما في الوجود ذات واجب مستحق للعبادة من حيث إنه مبدئ جميع الموجودات إلا إله واحد، موصوف بالوحدانية متعال عن قبول الشركة ومن مزيدة للاستغراق. " وإن لم ينتهوا عما يقولون " ولم يوحدوا. " ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم " أي ليمسن الذين بقوا منهم على الكفر، أو ليمسن الذين كفروا من النصارى، وضعه موضع ليمسنهم تكريراً للشهادة على كفرهم وتنبيهاً على أن العذاب على من دام على الكفر ولم ينقلع عنه فلذلك عقبه بقوله:
74"أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه" أي أفلا يتوبون بالإنهاء عن تلك العقائد والأقوال الزائغة ويستغفرونه بالتوحيد والتنزيه عن الاتحاد والحلول بعد هذا التقرير والتهديد. "والله غفور رحيم" يغفر لهم ويمنحهم من فضله إن تابوا. وفي هذا الاستفهام تعجيب من إصرارهم.
75" ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل " أي ما هو إلا رسول كالرسل قبله خصه الله سبحانه وتعالى بالآيات كما خصهم بها، فإن إحياء الموتى على يده فقد أحيا العصا وجعلها حية تسعى على يد موسى عليه السلام وهو أعجب، وإن خلقه من غير أب فقد خلق آدم من غير أب وأم أغرب. " وأمه صديقة " كسائر النساء اللاتي يلازمن الصدق، أو يصدقن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. " كانا يأكلان الطعام " ويفتقران إليه افتقار الحيوانات، بين أولاً أقصى ما لهما من الكمال ودل على أنه لا يوجب لهما ألوهية لأن كثيراً من الناس يشاركهما في مثله، ثم نبه على نقصهما وذكر ما ينافي الربوبية ويقتضي أن يكونا من عداد المركبات الكائنة الفاسدة، ثم عجب لمن يدعي الربوبية لهما مع أمثال هذه الأدلة الظاهرة فقال: " انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون " كيف يصرفون عن استماع الحق وتأمله وثم لتفاوت ما بين العجيبين أي إن بياننا للآيات عجب وإعراضهم عنها أعجب.
76" قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا " يعني عيسى عليه الصلاة والسلام، وهو إن ملك ذلك بتمليك الله سبحانه وتعالى إياه لا يملكه من ذاته ولا يملك مثل ما يضر الله تعالى به من البلايا والمصائب، وما ينفع به من الصحة والسعة وإنما قال ما نظراً إلى ما هو عليه في ذاته توطئة لنفي القدرة عنه رأساً، وتنبيهاً على أنه من هذا الجنس ومن كان له حقيقة تقبل المجانسة والمشاركة فبمعزل عن الألوهية، وإنما قدم الضر لأن التحرز عنه أهم من تحري النفع. " والله هو السميع العليم " بالقوال والعقائد فيجازي عليها إن خيراً فخير وإن شراً فشر.
77" قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق " أي غلوا باطلاً فترفعوا عيسى عليه الصلاة والسلام إلى أن تدعوا له الألوهية، أو تضعوه فتزعموا أنه لغير رشدة. وقيل الحطاب للنصارى خاصة. " ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل " يعني أسلافهم وأئمتهم الذين قد ضلوا قبل بعث محمد عليه الصلاة والسلام في شريعتهم. " وأضلوا كثيرا " ممن شايعهم على بدعهم وضلالهم. " وضلوا عن سواء السبيل " عن قصد السبيل الذي هو الإسلام بعد مبعثه صلى الله عليه وسلم لما كذبوه وبغوا عليه، وقيل الأول إشارة إلى ضلالهم عن مقتضى اعقل والثاني إشارة إلى ضلالهم عما جاء به الشرع.
78" لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم " أي لعنهم الله في الزبور والإنجيل على لسانهما. وقيل أن أهل أيلة لما اعتدوا في السبت لعنهم الله تعالى على لسان داود فمسخهم الله تعالى قردة، وأصحاب المائدة لما كفروا دعا عليهم عيسى عليه السلام ولعنهم فأصبحوا خنازير وكانوا خمسة آلاف رجل. "ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون" أي ذلك اللعن الشنيع المقتضي للمسخ بسبب عصيانهم واعتدائهم ما حرم عليهم.
79"كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه" أي لا ينهي بعضهم بعضاً عن معاودة منكر فعلوه، أو عن مثل منكر فعلوه، أو عن منكر أرادوا فعله وتهيؤوا له، أو لا ينتهون عنه من قولهم تناهى عن الأمر وانتهى عنه إذا امتنع. "لبئس ما كانوا يفعلون" تعجيب من سوء فعلهم مؤكد بالقسم.
80"ترى كثيراً منهم" من أهل الكتاب. " يتولون الذين كفروا " يوالون المشركين بغضاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين. " لبئس ما قدمت لهم أنفسهم " أي لبئس شيئاً قدموه ليزدادوا عليه يوم القيامة "أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون" هو المخصوص بالذم، والمعنى موجب سخط الله والخلود في العذاب، أو علة الذم والمخصوص محذوف أي لبئس شيئاً ذلك لنه كسبهم السخط والخلود.
81" ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي " يعني نبيهم وإن كانت الآية في المنافقين فالمراد نبينا عليه السلام. " وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء " إذ الإيمان يمنع ذلك. " ولكن كثيرا منهم فاسقون " خارجون عن دينهم أو متمردون في نفاقهم.
82" لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا " لشدة شكيمتهم وتضاعف كفرهم وانهماكهم في اتباع الهوى، وركونهم إلى التقليد وبعدهم عن التحقيق، وتمرنهم على تكذيب الأنبياء ومعاداتهم. " ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى " للين جانبهم ورقة قلوبهم وقلة حرصهم على الدنيا وكثرة اهتمامهم بالعلم والعمل وإليه أشار بقوله: " ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون " عن قبول الحق إذا فهموه، أو يتواضعون ولا يتكبرون كاليهود. وفيه دليل على أن التواضع والإقبال على العلم والعمل والإعراض عن الشهوات محمود وإن كانت من كافر.
83" وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع " عطف على "لا يستكبرون" وهو بيان لرقة قلوبهم وشدة خشيتهم ومسارعتهم إلى قبول الحق وعدم تأبيهم عنه، والفيض انصباب عن امتلاء، فوضع موضع الامتلاء للمبالغة، أو جعلت أعينهم من فرط البكاء كأنها تفيض بأنفسها. " مما عرفوا من الحق " من الأولى للابتداء والثانية لتبيين ما عرفوا، أو للتبعيض بأنه بعض الحق. والمعنى أنهم عرفوا بعض الحق فأبكاهم فكيف إذا عرفوا كله. " يقولون ربنا آمنا " بذلك أو بمحمد. " فاكتبنا مع الشاهدين "، من الذين شهدوا أنه حق، أو بنبوته، أو من أمته الذين هم شهداء على الأمم يوم القيامة.
84" وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين " استفهام إنكار واستبعاد لانتفاء الإيمان مع قيام الداعي وهو الطمع في الانخراط مع الصالحين، والدخول في مداخلهم أو جواب سائل قال لم أمنتم؟ و "لا نؤمن" حال من الضمير والعامل ما في اللام من معنى الفعل، أي أي شيء حصل لنا غير مؤمنين بالله، أي بوحدانيته فإنهم كانوا مثلثين. أو بكتابه ورسوله فإن الإيمان بهما إيمان به حقيقة وذكره توطئة وتعظيماً، ونطمع عطف على نؤمن أو خبر محذوف، والواو للحال أي ونحن نطمع والعامل فيها عمال الأولى مقيداً بها أو نؤمن.
85"فأثابهم الله بما قالوا" أي عن اعتقاد من قولك هذا قول فلان أي معتقده. " جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين " الذين أحسنوا النظر واعمل، أو الذين اعتادوا الإحسان في الأمور والآيات الأربع. روي "أنها نزلت في النجاشي وأصحابه بعث إليه الرسول صلى الله عليه وسلم بكتابه فقرأه، ثم دعا جعفر بن أبي طالب والمهاجرين معه وأحضر الرهبان والقسيسين، فأمر جعفراً أن يقرأ عليهم القرآن فقرأ سورة المائدة مريم فبكوا وآمنوا بالقرآن" وقيل نزلت في ثلاثين أو سبعين رجلاً من قومه وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ عليهم سورة يس فبكوا وآمنوا.
86" والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم " عطف التكذيب بآيات الله على الكفر، وهو ضرب منه لأن القصد إلى بيان حال المكذبين وذكرهم في معرض المصدقين بها جمعاً بين الترغيب والترهيب.
87" يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم " أي ما طاب ولذ منه كأنه لما تضمن ما قبله مدح النصارى على ترهبهم والحث على كسر النفس ورفض الشهوات عقبه النهي عن الإفراط في ذلك والاعتداء عما حد الله سبحانه وتعالى بجعل الحلال حراماً فقال: " ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين " ويجوز أن يراد به ولا تعتدوا حدود ما أحل الله لكم إلى ما حرم عليكم، فتكون الآية ناهية عن التحريم ما أحل وتحليل ما حرم داعية إلى القصد بينهما. "روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف القيامة لأصحابه يوماً وبالغ في إنذارهم، فرقوا واجتمعوا في بيت عثمان بن مظعون واتفقوا على أن لا يزالون صائمين قائمين، وأن لا يناموا على الفرش ولا يأكلوا اللحم والودك، ولا يقربوا النساء والطيب، ويرفضوا الدنيا ويلبسوا المسوح، ويسيحوا في الأرض، ويجبوا مذاكيرهم. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم: إني لم أمر بذلك إن لأنفسكم عليكم حقاً فصوموا وأفطروا، وقوموا وناموا، فإني أقوم وأنام وأصوم وأفطر، وآكل اللحم والدسم، وآتي النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني" فنزلت.
88" وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا " أي كلوا ما حل لكم وطاب مما رزقكم الله، فيكون حلالاً مفعول كلوا ومما حال منه تقدمت عليه لأنه نكرة، ويجوز أن تكون من ابتدائية متعلقة بكلوا، ويجوز أن تكون مفعولاً وحلالاً حال من الموصول، أو العائد المحذوف، أو صفة لمصدر محذوف وعلى الوجوه لو لم يقع الرزق على الحرام لم يكن لذكر الحلال فائدة زائدة. " واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون ".
89" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " هو ما يبدوا من المرء بلا قصد كقول الرجل: لا والله وبلى والله، وإليه ذهب الشافعي رضي تعالى عنه، وقيل الحلف على ما يظن أنه كذلك ولم يكن، وإليه ذهب أبو حنيفة رحمه الله تعالى وفي أيمانكم صلة يؤاخذكم أو اللغو لأنه مصدر أو حال منه. " ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان " بما وثقتم الأيمان عليه بالقصد والنية، والمعنى ولكن يؤاخذكم بما عقدتم إذا حنثتم أو بنكث ما عقدتم فحذف للعلم به. وقرأ حمزة و الكسائي و ابن عياش عن عاصم "عقدتم" بالتخفيف، و ابن عامر برواية ابن ذكوان " عقدتم " وهو من فاعل بمعنى فعل. " فكفارته " فكفارة نكثه أي الفعلة التي تذهب اثمه وتستره، واستدل بظاهره على جواز التكفير بالمال قبل الحنث وهو عندنا خلافاً للحنفية لقوله عليه الصلاة والسلام "من حلف على يمين ورأى غيرها خيراً منها فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير". "إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم" من أقصده في النوع والقدر، وهو مد لكل مسكين عندنا ونصف صاع عند الحنفية، وما محله النصب لأنه صفة مفعول محذوف تقديره: أن تطعموا عشرة مساكين طعاماً من أوسط ما تطعمون، أو الرفع على البدل من إطعام، وأهلون كأرضون. قرئ " أهليكم " بسكون الياء على لغة من يسكنها في الأحوال الثلاث كالألف، وهو جمع أهل كالليالي في جمع ليل والأراضي في جمع أرض. وقيل هو جمع اهلاة. "أو كسوتهم" عطف على إطعام أو من أوسط إن جعل بدلاً وهو ثوب يغطي العورة. وقيل ثوب جامع قميص أو رداء أو إزار. وقرئ بضم الكاف وهو لغة كقدوة في قدوة وكأسوتهم بمعنى أو كمثل ما تطعمون أهليكم إسرافاً كان أو تقتيرا تواسون بينهم وبينهم إن لم تطعموهم الأوسط، والكاف في محل الرفع وتقديره: أو إطعامهم كأسوتهم. "أو تحرير رقبة" أو إعتاق إنسان، وشرط الشافعي رضي الله تعالى عنه في الأيمان قياساً على كفارة القتل، ومعنى أو إيجاب إحدى الخصال الثلاث مطلقاً وتخيير المكفر في التعيين. "فمن لم يجد" أي واحدة منها. " فصيام ثلاثة أيام " فكفارته صيام ثلاثة أيام، وشرط فيه أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه التتابع لأنه قرئ " ثلاثة أيام "، والشواذ ليست بحجة عندنا إذا لم تثبت كتاباً ولم ترو سنة. "ذلك" أي المذكور. " كفارة أيمانكم إذا حلفتم " وحنثتم. "واحفظوا أيمانكم" بأن تضنوا بها ولا تبذلوها لكل أمر، أو بأن تبروا فيها ما استطعتم ولم يفت بها خير، أو بأن تكفروها إذا حنثتم. "كذلك" أي مثل ذلك البيان. " يبين الله لكم آياته " أعلام شرائعه. " لعلكم تشكرون " نعمة التعليم أو نعمة الواجب شكرها فإن مثل هذا التبيين يسهل لكم المخرج منه.
90" يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب " أي الأصنام التي نصبت للعبادة. "والأزلام" سبق تفسيرها في أول السورة. "رجس" قذر تعاف عته العقول، وأفرده لأنه خبر للخمر، وخبر المعطوفات محذوف أو لمضاف محذوف كأنه قال: إنما تعاطي الخمر والميسر. " من عمل الشيطان " لأنه مسبب عن تسويله وتزيينه. "فاجتنبوه" الضمير للرجس أو لما ذكر أو للتعاطي. " لعلكم تفلحون " لكي تفلحوا بالاجتناب عنه. واعلم أنه سبحانه وتعالى أكد تحريم الخمر والميسر في هذه الآية، بأن صدر الجملة بـ"إنما" وقرنهما بالأنصاب والأزلام، وسماهما رجساً، وجعلهما من عمل الشيطان تنبيهاً على أن الاشتغال بهما شر بحت أو غالب، وأمر بالاجتناب عن عينهما وجعله سبباً يرجى منه الفلاح، ثم قرر ذلك بأن بينما فيهما من المفاسد الدنيوية والدينية المقتضية للتحريم فقال تعالى:
91" إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة " وإنما خصهما بإعادة الذكر وشرح ما فيهما من الوبال تنبيهاً على أنهما المقصود بالبيان، وذكر الأنصاب والأزلام للدلالة على أنهما مثلهما في الحرمة والشرارة لقوله عليه الصلاة والسلام "شارب الخمر كعابد الوثن". وخص الصلاة من الذكر بالإفراد للتعظيم، والإشعار بأن الصاد عنها كالصاد عن الإيمان من حيث أنها عماده والفارق بينه وبين الكفر، ثم أعاد الحث على الانتهاء بصيغة الاستفهام مرتباً على ما تقدم من أنواع الصوارف فقال: "فهل أنتم منتهون" إيذاناً بأن الأمر في المنع والتحذير بلغ الغاية وأن الأعذار قد انقطعت.
92" وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول " فيما أمرا به. "واحذروا" ما نهيا عنه أو مخالفتهما. " فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين " أي فاعلموا أنكم لم تضروا الرسول صلى الله عليه وسلم بتوليكم، فإنما عليه البلاغ وقد أدى، وإنما ضررتم به أنفسكم.
93" ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا " مما لم يحرم عليهم لقوله: " إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات " أي اتقوا المحرم وثبتوا على الإيمان والأعمال الصالحة. " ثم اتقوا " ما حرم عليهم بعد كالخمر . " وآمنوا" بتحريمه " ثم اتقوا" ثم استمروا وثبتوا على اتقاء المعاصي." وأحسنوا" وتحروا الأعمال الجميلة واشتغلوا بها. روي "أنه لما نزل تحريم الخمر قال الصحابة رضي الله تعالى عنهم يا رسول الله فكيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر ويأكلون الميسرفنزلت". ويحتمل أن يكون هذا التكرير باعتبار الأوقات الثلاثة، أو باعتبار الحالات الثلاث استعمال الإنسان التقوى والإيمان بينه وبين نفسه وبين الناس وبين الله تعالى، ولذلك بدل الإيمان بالإحسان في الكرة الثالثة إشارة إلى ما قاله عليه الصلاة والسلام في تفسيره، أو باعتبار المراتب الثلاث المبدأ الوسط والمنتهى، أو باعتبار ما يتقي فإنه ينبغي أن يترك المحرمات توقياً من العقاب والشبهات تحرزاً عن الوقوع في الحرام، وبعض المباحات تحفظاً للنفس عن الخسة وتهذيباً لها عن دنس الطبيعة. " والله يحب المحسنين " فلا يؤاخذهم بشيء، وفيه أن من فعل ذلك صار محسناً ومن صار محسناً صار لله محبوباً.
94" يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم " نزلت في عام الحديبية ابتلاهم الله سبحانه وتعالى بالصيد، وكانت الوحوش تغشاهم في رحالهم بحيث يتمكنون من صيدها أخذاً بأيديهم وطعناً برماحهم وهم محرمون، والتقليل والتحقير في بشيء للتنبيه على أنه ليس من العظائم التي تدحض الأقدام كالابتلاء ببذل الأنفس والأموال، فمن لم يثبت عنده كيف يثبت عند ما هو أشد منه. "ليعلم الله من يخافه بالغيب" ليتميز الخائف من عقابه وهو غائب منتظر لقوة إيمانه ممن لا يخافه لضعف قلبه وقلة إيمانه، فذكر العلم وأراد وقوع المعلوم وظهوره أو تعلق العلم. "فمن اعتدى بعد ذلك" بعد ذلك الابتلاء بالصيد. "فله عذاب أليم" فالوعيد لاحق به، فإن من لا يملك جأشه في مثل ذلك ولا يراعي حكم الله فيه فكيف به فيما تكون النفس أميل إليه وأحرص عليه.
95" يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم " أي محرمون جمع حرام كرداح وردح، ولعله ذكر القتل دون الذبح والذكاة للتعميم، وأراد بالصيد ما يؤكل لحمه لأنه الغالب فيه عرفاً ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام "خمس يقتلن في الحل والحرم، الحدأة والغراب والعقرب والفأرة والكلب العقور". وفي رواية أخرى "الحية" بدل "العقرب"، مع ما فيه من التنبيه على جواز قتل كل مؤذ، واختلف في أن هذا النهي هل يلغي حكم الذبح فيلحق مذبوح المحرم بالميتة ومذبوح الوثني أو لا فيكون كالشاة المغصوبة إذا ذبحها الغاصب. " ومن قتله منكم متعمدا " ذاكراً لإحرامه عالماً بأنه حرام عليه قبل ما يقتله، والأكثر على أن ذكره ليس لتقييد وجوب الجزاء فإن إتلاف العامد والمخطئ واحد في إيجاب الضمان، بل لقوله: "ومن عاد فينتقم الله منه" ولأن الآية نزلت فيمن تعمد إذ روي: أنه عن لهم في عمرة الحديبية حمار وحش فطعنه أبو اليسر برمحه فقتله. فنزلت. " فجزاء مثل ما قتل من النعم " برفع الجزاء، والمثل قراءة الكوفيين و يعقوب بمعنى فعليه أي فواجبه جزاء يماثل ما قتل من النعم.، وعليه لا يتعلق الجار بجزاء للفصل بينهما بالصفة فإن متعلق المصدر كالصلة له فلا يوصف ما لم يتم بها، وإنما يكون صفته وقرأ الباقون على إضافة المصدر إلى المفعول وإقحام مثلي كما في قولهم مثلي لا يقول كذا، والمعنى فعليه أن يجزى مثل ما قتل. وقرئ فجزاء مثلي ما قتل بنصبهما على فليجز جزاء، أو فعليه أن يجزي جزاء يماثل ما قتل وفجزاؤه مثل ما قتل، وهذه المماثلة باعتبار الخلقة والهيئة عند مالك و الشافعي رضي الله تعالى عنهما، والقيمة عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وقال: يقوم الصيد حيث صيد فإن بلغت القيمة ثم هدي تخير بين أن يهدي ما قيمته قيمته وبين أن يشتري بها طعاماً فيعطي كل مسكين نصف صاع من بر أو صاعا من غيره، وبين أن يصوم عن كل مسكين يوماً وإن لم تبلغ تخير بين الإطعام والصوم واللفظ للأول أوفق. "يحكم به ذوا عدل منكم" صفة جزاء ويحتمل أن يكون حالاً من ضميره في خبره أو منه إذا أضفته، أو صفته ورفعته بخبر قدر لمن وكما أن التقويم يحتاج إلى نظر واجتهاد يحتاج إلى المماثلة في الخلقة والهيئة إليها، فإن الأنواع تتشابه كثيراً. وقرئ ذو عدل على إرادة الجنس أو الإمام. "هدياً" حال من الهاء في به أو من جزاء وإن نون لتخصصه بالصفة، أو بدل من مثل باعتبار محله أو لفظه فيمن نصبه. "بالغ الكعبة" وصف به هدياً لأن إضافته لفظية ومعنى بلوغه الكعبة ذبحه بالحرم والتصدق به، وقال أبو حنيفة يذبح في الحرم ويتصدق به حيث شاء. " أو كفارة " عطف على جزاء إن رفعته وإن نصبته فخبر محذوف. "طعام مساكين" عطف على بيان أو بدل منهن أو خبر محذوف أي هي طعام. وقرأ نافع و ابن عامر كفارة "طعام" بالإضافة للتبيين كقولك: خاتم فضة، والمعنى عند الشافعي أو أن يكفر بإطعام مساكين ما يساوي قيمة الهدي من غالب قوت البلد فيعطي كل مسكين مداً. "أو عدل ذلك صياماً" أو ما سواه من الصوم فيصوم عن طعام كل مسكين يوماً، وهو في الأصل مصدر أطلق للمفعول. وقرئ بكسر العين وهو ما عدل بالشيء في المقدر كعدل الحمل وذلك إشارة إلى الطعام، وصياماً تمييز للعدل. "ليذوق وبال أمره" متعلق بمح أي فعليه الجزاء أو الطعام أو الصوم ليذوق ثقل فعله وسوء عاقبة هتكه لحرمة الإحرام، أو الثقل الشديد على مخالفة أمر الله تعالى وأصل الوبل الثقل ومنه الطعام الوبيل. " عفا الله عما سلف " من قتل الصيد محرماً في الجاهلية أو قبل التحريم، أو في هذه المرة "ومن عاد" إلى مثل هذا. "فينتقم الله منه" فهو ينتقم الله منه وليس فيه ما يمنع الكفارة على العائد كما حكي عن ابن عباس وشريح. "والله عزيز ذو انتقام" مما أصر على عصيانه.
96" أحل لكم صيد البحر " ما صيد منه مما لا يعيش إلا في الماء، وهو حلال كله لقوله عليه الصلاة والسلام في البحر "هو الطهور ماؤه الحل ميتته". وقال أبو حنيفة لا يحل منه إلا السمك. وقيل يحل السمك وما يؤكل نظيره في البر. "وطعامه" ما قذفه أو نضب عنه. وقيل الضمير للصيد وطعامه أكله. "متاعاً لكم" تمتيعاً لكم نصب على الغرض. " وللسيارة " أي ولسيارتكم يتزودونه قديداً. " وحرم عليكم صيد البر " أي ما صيد فيه، أو الصيد فيه فعلى الأول يحرم على المحرم أيضاً ما صاده الحلال وإن لم يكن له فيه مدخل، والجمهور على حله لقوله عليه الصلاة والسلام "لحم الصيد حلال لكم، ما لم تصطادوه أو يصد لكم" "ما دمتم حرماً" أي محرمين وقرئ بكسر الدال من دام يدام. " واتقوا الله الذي إليه تحشرون ".
97"جعل الله الكعبة" صيرها، وإنما سمي كعبة لتكعبه. "البيت الحرام" عطف بيان على جهة المدح، أو المفعول الثاني " قياما للناس " انتعاشاً لهم أي سبب انتعاشهم في أمر معاشهم ومعادهم يلوذ به الخائف ويأمن فيه الضعيف، ويربح فيه التجار ويتوجه إليه الحجاج والعمار، أو ما يقوم به أمر دينهم ودنياهم. وقرأ ابن عامر "قيماً" على أنه مصدر على فعل كالشبع أعل عينه كما أعل في فعله ونصبه على المصدر أو الحال. " والشهر الحرام والهدي والقلائد " سبق تفسيرها والمراد بالشهر الذي يؤدي فيه الحج، وهو ذو الحجة لأنه المناسب لقرنائه وقيل الجنس. "ذلك" إشارة إلى الجعل، أو إلى ما ذكر من الأمر بحفظ حرمة الإحرام وغيره. " لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض " فإن شرع الأحكام لدفع المضار قبل وقوعها وجلب المنافع المترتبة عليها، دليل حكمة الشارع وكمال علمه. " وأن الله بكل شيء عليم " تعميم بعد تخصيص ومبالغة بعد إطلاق.
98" اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم " وعيد ووعد لمن انتهك محارمه ولمن حفظ عليها، أو لمن أصر عليه ولمن لم يقلع عنه.
99" ما على الرسول إلا البلاغ " تشديد في إيجاب القيام بما أمر به أي الرسول لأتى بما أمر به من التبليغ ولم يبق لكم عذر في التفريط. "والله يعلم ما تبدون وما تكتمون" من تصديق وتكذيب وفعل وعزيمة.
100" قل لا يستوي الخبيث والطيب " حكم عام في نفي المساواة عند الله سبحانه وتعالى بين الرديء من الأشخاص والأعمال والأموال وجيدها، رغب في مصالح العمل وحلال المال. "ولو أعجبك كثرة الخبيث" فإن العبرة بالجودة والرداءة دون القلة والكثرة، فإن المحمود القليل خير من المذموم الكثير، والخطاب لكل معتبر ولذلك قال: " فاتقوا الله يا أولي الألباب " أي فاتقوه في تحري الخبيث وإن كثر، وآثروا الطيب وإن قل. " لعلكم تفلحون " راجين أن تبلغوا الفلاح. روي: أنها نزلت في حجاج اليمامة لما هم المسلمين أن يوقعوا بهم فنهوا عنه وإن كانوا مشركين.
101" يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم " الشرطية وما عطف عليها صفتان لأشياء والمعنى: لا تسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياء إن تظهر لكم تغمكم وإن تسألوا عنها في زمان الوحي تظهر لكم، وهما كمقدمتين تنتجان ما يمنع السؤال وهو أنه مما يغمهم والعاقل لا يفعل ما يغمه، وأشياء اسم جمع كطرفاء غير أنه قلبت لامه فجعلت لفعاء. وقيل أفعلاء حذفت لامه جمع لشيء على أن أصله شيء كهين، أو شيء كصديق فخفف. وقيل أفعال جمع له من غير تغيير كبيت وأبيات ويرده منع صرفه. "عفا الله عنها" صفة أخرى أي عن أشياء عفا الله عنها ولم يكلف بها. إذ روي أنه "لما نزلت "ولله على الناس حج البيت" قال سراقة بن مالك: أكل عام فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أعاد ثلاثاً فقال: لا ولو قلت نعم لوجبت، ولو وجبت لما استطعتم فاتركوني ما تركتكم فنزلت "أو استئناف أي عفا الله عما سلف من مسألتكم فلا تعودوا لمثلها. "والله غفور حليم" لا يعاجلكم بعقوبة ما يفرط منكم، ويعفوا عن كثير وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما "أنه عليه الصلاة والسلام كان يخطب ذات يوم وهو غضبان من كثرة ما يسألون عنه مما لا يعنيهم فقال: لا أسأل عن شيء إلا أجبت، فقال رجل: أين أبي فقال في النار، وقال آخر من أبي فقال: حذافة وكان يدعى لغيره فنزلت".
102"قد سألها قوم" في الضمير للمسألة التي دل عليها تسألوا ولذلك لم يعد بعن أو لأشياء بحذف الجار. "من قبلكم" متعلق بسأل وليس صفة لقوم، فإن ظرف الزمان لا يكون صفة للجثة ولا حالاً من ولا خبراً عنها. " ثم أصبحوا بها كافرين " أي بسببها حيث لا يأتمروا بما سألوا جحوداً.
103"ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام" رد وإنكار لما ابتدعه أهل الجاهلية وهو أنهم إذا نتجت الناقة خمسة أبطن آخرها ذكر بحروا أذنها أي شقوها وخلوا سبيلها، فلا تركب ولا تحلب، وكان الرجل منهم يقول:إن شفيت فناقتي سائبة ويجعلها كالبحيرة في تحريم الانتفاع بها، وإذا ولدت الشاة أنثى فهي لهم وإن ولدت ذكراً فهو لألهتهم وإن ولدتهما قالت وصلت الأنثى أخاها فلا يذبح لها الذكر، وإذا نتجت من صلب الفحل عشرة أبطن حرموا ظهره ولم يمنعوه من ماء ولا مرعى وقالوا: قد حمي ظهره، ومعنى ما جعل ما شرع ووضع، ولذلك تعدى إلى مفعول واحد وهو البحيرة ومن مزيدة. " ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب " بتحريم ذلك ونسبته إلى الله سبحانه وتعالى. "وأكثرهم لا يعقلون" أي الحلال من الحرام والمبيح من المحرم، أو الأمر من الناهي ولكنهم يقلدون كبارهم وفيه أن منهم من يعرف بطلان ذلك ولكن يمنعهم حب الرياسة وتقليد الآباء أن يعترفوا به.
104" وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا " بيان لقصور عقولهم وانهماكهم في التقليد وأن لا سند لهم سواه. " أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون " الواو للحال والهمزة دخلت عليها لإنكار الفعل على هذه الحال، أي حسبهم ما وجدوا عليه آباءهم ولو كانوا جهلة ضالين، والمعنى أن الإقتداء إنما يصح بمن علم أنه عالم مهتد وذلك لا يعرف إلا بالحجة فلا يكفي التقليد.
105" يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم " أي احفظوها والزموا إصلاحها، والجار مع المجرور جعل اسماً لإلزموا ولذلك نصب أنفسكم. وقرئ بالرفع على الإبتداء. " لا يضركم من ضل إذا اهتديتم " لا يضركم الضلال إذا كنتم مهتدين، ومن الاهتداء أن ينكر المنكر حسب طاقته كم قال عليه الصلاة والسلام "من رأى منكم منكراً واستطاع أن يغيره بيده فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه". والآية نزلت لما كان المؤمنون يتحسرون على الكفرة ويتمنون إيمانهم، وقيل كان الرجل إذا أسلم قالوا له سفهت آباءك فنزلت. و"لا يضركم" يحتمل الرفع على أنه مستأنف ويؤيده أن قرئ " لا يضركم " والجزم على الجواب أو النهي لكنه ضمت الراء إتباعاً لضمة الضاد المنقولة إليها من الراء المدغمة وتنصره قراءة من قرأ "لا يضركم" بالفتح، و"لا يضركم" بكسر الضاد وضمها من ضاره يضيره ويضوره. " إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون " وعد ووعيد للفريقين وتنبيه على أن أحداً لا يؤاخذ بذنب غيره.
106" يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم " أي فيما أمرتم شهادة بينكم، والمراد بالشهادة الإشهاد في الوصية وإضافتها إلى الظرف على الاتساع وقرئ "شهادة" بالنصب والتنوين على ليقم. "إذا حضر أحدكم الموت" إذا شارفه وظهرت أماراته وهو ظرف للشهادة. " حين الوصية " بدل منه وفي إبداله تنبيه على أن الوصية مما ينبغي أن لا يتهاون فيه أو ظرف حاضر. "اثنان" فاعل شهادة ويجوز أن يكون خبرها على حذف المضاف. "ذوا عدل منكم" أي من أقاربكم أو من المسلمين وهما صفتان لاثنان. "أو آخران من غيركم" عطف على اثنان، ومن فسر الغير بأهل الذمة جعله منسوخاً فإن شهادته على المسلم لا تسمع إجماعاً. "إن أنتم ضربتم في الأرض" أي سافرتم فيها. "فأصابتكم مصيبة الموت" أي قاربتم الأجل. "تحبسونهما" تقفونهما وتصبرونهما صفة لآخران والشرط بجوابه المحذوف المدلول عليه بقوله أو آخران من غيركم اعتراض، فائدته الدلالة على أنه ينبغي أن يشهد اثنان منكم فإن تعذر كما في السفر فمن غيركم، أو استئناف كأنه قيل كيف نعمل إن ارتبنا بالشاهدين فقال تحبسونهما. " من بعد الصلاة " صلاة العصر، لأنه وقت اجتماع الناس وتصادم ملائكة الليل وملائكة النهار. وقيل أي صلاة كانت. "فيقسمان بالله إن ارتبتم" إن ارتاب الوارث منكم. "لا نشتري به ثمناً" مقسم عليه، وإن ارتبتم اعتراض يفيد اختصاص القسم بحال الارتياب. والمعنى لا نستبدل بالقسم أو بالله عرضاً من الدنيا أي لا نحلف بالله كاذباً لطمع. "ولو كان ذا قربى" ولو كان المقسم له قريباً منا، وجوابه أيضاً محذوف أي لا نشتري. "ولا نكتم شهادة الله" أي الشهادة التي أمرنا الله بإقامتها، وعن الشعبي أنه وقف على شهادة ثم ابتدأ بالله بالمد على حذف حرف القسم وتعويض حرف الاستفهام منه، وروي عنه بغيره كقولهم الله لأفعلن. " إنا إذا لمن الأثمين " أي إن كتمنا. وقرئ " لمن الأثمين " بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام وإدغام النون فيها.
107"فإن عثر" فإن طلع. " على أنهما استحقا إثما " أي فعلا ما أوجب إثماً كتحريف. "فآخران" فشاهدان آخران. " يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم " من الذين جنى عليهم وهم الورثة. وقرأ حفص "استحق" على البناء للفاعل وهو الأوليان. "الأوليان" الأحقان بالشهادة لقرابتهما ومعرفتهما وهو خبر محذوف أي: هما الأوليان أو خبر "آخران" أو مبتدأ خبره آخران، أو بدل منهما أو من الضمير في يقومان. وقرأ حمزة و يعقوب و أبو بكر عن عاصم "الأولين" على أنه صفة للذين، أو بدل منه أي من الأولين الذين استحق عليهم. وقرئ "الأولين" على التثنية وعلى انتصابه على المدح والأولان وإعرابه إعراب الأوليان. " فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما " أصدق منها وأولى بأن تقبل. "وما اعتدينا" وما تجاوزنا فيها الحق. " إنا إذا لمن الظالمين " الواضعين الباطل موضع الحق، أو الظالمين أنفسهم إن اعتدينا. ومعنى الآيتين أن المحتضر إذا أراد الوصية ينبغي أن يشهد عدلين من ذوي نسبه أو دينه على وصيته، أو يوصي إليهما احتياطاً فإن لم يجدهما بأن كان في سفر فآخرين من غيرهم، ثم إن وقع نزاع وارتياب أقسما على صدق ما يقولان بالتغليظ في الوقت، فإن اطلع على أنهما كذبا بأمارة أو مظنة حلف آخران من أولياء الميت، والحكم منسوخ إن كان الاثنان شاهدين فإنه لا يخلف الشاهد ولا يعارض يمينه بيمين الوارث وثابت إن كانا وصيين ورد اليمين إلى الورثة إما لظهور خيانة الوصيين فإن تصديق الوصي باليمين لأمانته أو لتغيير الدعوى. إذ روي أن تميماً الداري وعدي بن زيد خرجا إلى الشام للتجارة وكانا حينئذ نصرانيين ومعهما بديل مولى عمرو بن العاص وكان مسلماً، فلما قدموا الشام مرض بديل فدون ما معه في صحيفة وطرحها في متاعه ولم يخبرهما به، وأوصى إليهما بأن يدفعا متاعه إلى أهله ومات، ففتشاه وأخذا منه إناء من فضة فيه ثلثمائة مثقال منقوشاً بالذهب فغيباه، فأصاب أهله الصحيفة فطالبوهما بالإناء فجحدا فترافعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت: " يا أيها الذين آمنوا " الآية، فحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد صلاة العصر عند المنبر وخلى سبيلهما، ثم وجد الإناء في أيديهما فأتاهما بنو سهم في ذلك فقالا: قد اشتريناه منه ولكن لم يكن لنا عليه بينة فكرهنا أن نقربه فرفعوهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت "فإن عثر" فقام عمرو بن العاص والمطلب بن أبي وداعة السهميان فحلفا واستحقاه. ولعل تخصيص العدد فيهما لخصوص الواقعة.
108"ذلك" أي الحكم الذي تقدم أو تحليف الشاهد. " أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها " على نحو ما حملوها من غير تحريف وخيانة فيها " أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم " أن ترد اليمين على المدعين. بعد أيمانهم فيفتضحوا بظهور الخيانة واليمين الكاذبة وإنما جمع الضمير لأنه حكم يعم الشهود كلهم. " واتقوا الله واسمعوا " ما توصون به سمع إجابة. "والله لا يهدي القوم الفاسقين" أي فإن لم تتقوا ولم تسمعوا كنتم قوماً فاسقين "والله لا يهدي القوم الفاسقين" أي لا يهديهم إلى حجة أو إلى طريق الجنة. فقوله تعالى:
109" يوم يجمع الله الرسل " ظرف له. وقيل بدل من مفعول واتقوا بدل الاشتمال، أو مفعول واسمعوا على حذف المضاف أي واسمعوا خبر يوم جمعهم، أو منصوب بإضمار اذكر. "فيقول" أي للرسل. "ماذا أجبتم" أي إجابة أجبتم، على أن ماذا في موضع المصدر، أو بأي شيء أجبتم فحذف الجار، وهذا السؤال لتوبيخ قومهم كما أن سؤال المودة لتوبيخ الوائد ولذلك "قالوا لا علم لنا" أي لا علم لنا بما لست تعلمه. " إنك أنت علام الغيوب " فتعلم ما نعلمه مما أجابونا وأظهروا لنا وما لا نعلم ما أضمروا في قلوبهم، وفيه التشكي منهم ورد الأمر إلى علمه لما كابدوا منهم. وقيل المعنى لا علم لنا إلى جنب علمك، أو لا علم لنا بما أحدثوا بعدنا وإنما الحكم للخاتمة. وقرئ "علام" بالنصب على أن الكلام قد تم بقوله "إنك أنت"، أي إنك أنت الموصوف بصفاتك المعروفة وعلام منصوب على الاختصاص أو النداء. وقرأ أبو بكر و حمزة الغيوب بكسر الغين حيث وقع.
110"إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك" بدل من يوم يجمع وهو على الطريقة "ونادى أصحاب الجنة" والمعنى أنه سبحانه وتعالى يوبخ الكفرة يومئذ بسؤال الرسل عن إجابتهم وتعديد ما أظهر عليهم من الآيات فكذبتهم طائفة وسموهم سحرة، وغلا آخرون فاتخذوهم آلهة. أو نصب بإضمار اذكر. " إذ أيدتك " قويتك وهو ظرف لنعمتي أو حال منه وقرئ " أيدتك ". "بروح القدس" بجبريل عليه الصلاة السلام، أو بالكلام الذي يحيى به الدين، أو النفس حياة أبدية ويطهر من الآثام ويؤيده قوله: " تكلم الناس في المهد وكهلا " أي كائناً في المهد وكهلاً، والمعنى تكلمهم في الطفولة والكهولة على سواء، والمعنى إلحاق حاله في الطفولية بحال الكهولية في كمال العقل والتكلم، وبه استدل على أنه سينزل فإنه رفع قبل أن يكتمل. " وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني " سبق تفسيره في سورة آل عمران. وقرأ نافع و يعقوب " طائر " ويحتمل الإفراد والجمع كالباقر. "وإذ كففت بني إسرائيل عنك" يعني اليهود حين هموا بقتله. " إذ جئتهم بالبينات " ظرف لكففت. " فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين " أي ما هذا الذي جئت به إلا سحر مبين. وقرأ حمزة و الكسائي إلا ساحر فالإشارة إلى عيسى عليه الصلاة والسلام.
111" وإذ أوحيت إلى الحواريين " أي أمرتهم على ألسنة رسلي. "أن آمنوا بي وبرسولي" يجوز أن تكون أن مصدرية وأن تكون مفسرة. " قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون " مخلصون.
112" إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم " منصوب بالذكر، أو ظرف لقالوا فيكون تنبيهاً على أن ادعائهم الإخلاص مع قولهم. " هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء " لم يكن بعد عن تحقيق واستحكام معرفة. وقيل هذه الاستطاعة على ما تقتضيه الحكمة والإرادة لا على ما تقتضيه القدرة. وقيل المعنى هل يطيع ربك أي هل يجيبك، واستطاع بمعنى أطاع كاستجاب وأجاب. وقرأ الكسائي " يستطيع ربك " أي سؤال ربك، والمعنى هل تسأله ذلك من غير صارف. والمائدة الخوان إذا كان عليه الطعام، من مادة الماء يميد إذا تحرك، أو من مادة إذا أعطاه كأنها تميد من تقدم إليه ونظيرها قولهم شجرة مطعمة. " قال اتقوا الله " من أمثال هذا السؤال. "إن كنتم مؤمنين" بكمال قدرته وصحة نبوتي، ا, صدقتم في ادعائكم الإيمان.
113"قالوا نريد أن نأكل منها" تمهيد عذر وبيان لما دعاهم إلى السؤال وهو أن يتمتعوا بالأكل منها. " وتطمئن قلوبنا " بانضمام علم المشاهدة إلى علم الاستدلال بكمال قدرته سبحانه وتعالى. "ونعلم أن قد صدقتنا" في ادعاء النبوة، أو أن الله يجيب دعوتنا. " ونكون عليها من الشاهدين " إذا استشهدتنا أو من الشاهدين للعين دون السامعين للخبر.
114"قال عيسى ابن مريم" لما رأى منهم غرضاً صحيحاً في ذلك، أو أنهم لا يقلعون عنه فأراد إلزامهم الحجة بكمالها. " اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا " أي يكون يوم نزولها عيداً نعظمه. وقيل العيد السرور العائد ولذلك سمي يوم العيد عيداً. وقرئ "تكن" على جواب الأمر. " لأولنا وآخرنا " بدل من لنا بإعادة العامل أي عيداً لمتقدمينا ومتأخرينا. روي: أنها نزلت يوم الأحد فلذلك اتخذه النصارى عيداً. وقيل يأكل منها أولنا وآخرنا. وقرئ " لأولنا وآخرنا " بمعنى الأمة أو الطائفة. "وآيةً" عطف على "عيداً". "منك" صفة لها أي آية كائنة منك دالة على كمال قدرتك وصحة نبوتي. "وارزقنا" المائدة والشكر عليها. " وأنت خير الرازقين " أي خير من يرزق لأنه خالق الرزق ومعطيه بلا عوض.
115" قال الله إني منزلها عليكم " إجابة إلى سؤالكم. وقرأ نافع و ابن عامر و عاصم "منزلها" بالتشديد. " فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا " أي تعذيباً ويجوز أن يجعل مفعولاً به على السعة. " لا أعذبه " الضمير للمصدر، أو للعذاب إن أريد ما يعذب به على حذف حرف الجر. "أحداً من العالمين" أي من عالمي زمانهم أو للعالمين مطلقاً فإنهم مسخوا قردة وخنازير، ولم يعذب بمثل ذلك غيرهم. روي: أنها نزلت سفرة حمراء بين غمامتين وهو ينظرون إليها حتى سقطت بين أيديهم، فبكى عيسى عليه الصلاة والسلام وقال: اللهم اجعلني من الشاكرين اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها مثلة وعقوبة، ثم قام فتوضأ وصلى وبكى، ثم كشف المنديل وقال: بسم الله خير الرازقين، فإذا سمكة مشوية بلا فلوس ولا شوك تسيل دسماً وعند رأسها ملح وعند ذنبها خل وحولها من ألوان البقول ما خلا الكراث، وإذا خمسة أرغفة على واحد منها زيتون وعلى الثاني عسل وعلى الثالث سمن وعلى الرابع جبن وعلى الخامس قديد فقال شمعون: يا روح الله أمن طعام الدنيا أم من طعام الآخرة قال: ليس منهما ولكن اخترعه الله سبحانه وتعالى بقدرته كلوا ما سألتم واشكروا يمددكم الله ويزدكم من فضله، فقالوا: يا روح الله لو أريتنا محمد هذه الآية آية أخرى فقال: يا سمكة أحيي بإذن الله تعالى فاضطربت ثم قال لها عودي كما كنت فعادت مشوية ثم طارت المائدة، ثم عصوا بعدها فمسخوا. وقيل كانت تأتيهم أربعين يوماً غباً يجتمع عليها الفقراء والأغنياء والصغار والكبار يأكلون حتى إذا فاء الفيء طارت وهم ينظرون في ظلها، ولم يأكل منها فقير إلا غني مدة عمره، ولا مريض إلا بريء ولم يمرض أبداً، ثم أوحي الله تعالى إلى عيسى عليه الصلاة والسلام أن اجعل مائدتي في الفقراء والمرضى دون الأغنياء والأصحاء، فاضطرب الناس لذلك فمسخ منهم ثلاثة وثمانون رجلاً. وقيل لما وعد الله إنزالها بهذه الشريطة استعفوا وقالوا: لا نريد فلم تنزل.. وعن مجاهد أن هذا مثل ضربه الله لمقترحي المعجزات. وعن الصوفية: المائدة ههنا عبارة عن حقائق المعارف، فإنها غذاء الروح كما أن الأطعمة غذاء البدن وعلى هذا فلعل الحال أنهم رغبوا في حقائق لم يستعدوا للوقوف عليها، فقال لهم عيسى عليه الصلاة والسلام: إن حصلتما الإيمان فاستعملوا التقوى حتى تتمكنوا من الإطلاع عليها، فلم يقلعوا عن السؤال وألحوا فيه فسأل لأجل اقتراحهم، فبين الله سبحانه وتعالى أن إنزاله سهل ولكن فيه خطر وخوف عاقبة، فإن السالك إذا انكشف له ما هو أعلى من مقامه لعله لا يحتمله ولا يستقر له فيضل به ضلالاً بعيداً.
116" وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله " يريد به توبيخ الكفرة وتبكيتهم، ومن دون لا صفة لإلهين أو صلة اتخذوني، ومعنى دون إما المغايرة فيكون فيه تنبيه على أن عبادة الله سبحانه وتعالى مع عبادة غيره كلا عبادة، فمن عبده مع عبادتهما كأنه عبدهما ولم يعبده أو للقصور، فإنهم لم يعتقدوا أنهما مستقلان باستحقاق العبادة وإنما زعموا أن عبادتهم توصل إلى عبادة الله سبحانه وتعالى وكأن قيل: اتخذوني وأمي إلهين متوصلين بنا إلى الله سبحانه وتعالى. "قال سبحانك" أنزهك تنزيهاً من أن يكون لك شريك. " ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق " ما ينبغي لي أن أقول قولاً لا يحق لي أن أقوله. "إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك" تعلم ما أخفيه في نفسي كما تعلم ما أعلنه، ولا أعل ما تخفيه من معلوماتك. وقوله في نفسك للمشاكلة وقيل المراد بالنفس الذات. " إنك أنت علام الغيوب " تقرير للجملتين باعتبار منطوقه ومفهومه.
117" ما قلت لهم إلا ما أمرتني به " تصريح بنفي المستفهم عنه بعد تقديم ما يدل عليه. " أن اعبدوا الله ربي وربكم " عطف بيان للضمير في به، أو بدل منه وليس من شرط البدل جواز طرح المبدل منه مطلقاً ليلزم بقاء الموصول بلا راجع، أو خبر مضمر أو مفعوله مثل هو أو أعني، ولا يجوز إبداله من ما أمرتني به فإن المصدر لا يكون مفعول القول ولا أن تكون أن مفسرة لأن الأمر مسند إلى الله سبحانه وتعالى، وهو لا يقول اعبدوا الله ربي وربكم والقول لا يفسر بل الجملة تحكي بعده إلا أن يؤول القول بالأمر فكأن قيل: ما أمرتهم إلا بما أمرتني به أن "اعبدوا الله". "وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم" أي رقيباً عليهم أمنعهم أن يقولوا ذلك ويعتقدوه، أو مشاهداً لأحوالهم من وإيمان. " فلما توفيتني " بالرفع إلى السماء لقوله: "إني متوفيك ورافعك" والتوفي أخذ الشيء وافياً، والموت نوع منه قال الله تعالى: "الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها". " كنت أنت الرقيب عليهم " المراقب لأحوالهم تمنع من أردت عصمته من القول به بالإرشاد إلى الدلائل والتنبيه عليها بإرسال الرسل وإنزال الآيات. " وأنت على كل شيء شهيد " مطلع عليه مراقب له.
118" إن تعذبهم فإنهم عبادك " أي إن تعذبهم فإنك تعذب عبادك ولا اعتراض على المالك المطلق فيما يفعل بملكه، وفيه تنبيه على أنهم استحقوا ذلك لأنهم عبادك وقد عبدوا غيرك. " وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم " فلا عجز ولا استقباح فإنك القادر القوي على الثواب والعقاب، الذي لا يثيب ولا يعاقب إلا عن حكمة وصواب فإن المغفرة مستحسنة لكل مجرم، فإن عذبت فعدل وإن غفرت ففضل. وعدم غفران الشرك بمقتضى الوعيد فلا امتناع فيه لذاته ليمنع الترديد والتعليق بأن.
119"قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم" وقرأ نافع "يوم" بالنصب على أنه ظرف لقال وخبر هذا محذوف، أو ظرف مستقر وقع خبراً والمعنى هذا الذي مر من كلام عيسى واقع يوم ينفع. وقيل إنه خبر ولكن بني على الفتح بإضافته إلى الفعل وليس بصحيح، لأن المضاف إليه معرب والمراد بالصدق الصدق في الدنيا فإن النافع ما كان حال التكليف. " لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم " بيان للنفع.
120" لله ملك السموات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير " تنبيه على كذب النصارى وفساد دعواهم في المسيح أمه، وإنما لم يقل ومن فيهن تغليب للعقلاء وقال "وما فيهن" اتباعاً لهم غير أولي العقل إعلاماً بأنهم في غاية القصور عن معنى الربوبية والنزول عن رتبة العبودية، وإهانة لهم وتنبيهاً على المجانسة المنافية للألوهية، ولأن ما يطلق متناولاً للأجناس كلها فهو أولى بإرادة العموم. عن النبي صلى الله عليه وسلم "من قرأ سورة المائدة أعطي من الأجر عشر حسنات ومحي عنه عشر سيئات ورفع له عشر درجات بعدد كل يهودي ونصراني يتنفس في الدنيا".