بسم الله الرحمن الرحيم قال القرطبي: هي مدنية بالإجماع. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن قتادة قال: المائدة مدنية. وأخرج أحمد والنسائي وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في سننه عن جبير بن نفيرقال: حججت فدخلت على عائشة، فقالت لي: يا جبير تقرأ المائدة؟ فقلت: نعم، فقالت: أما إنها آخر سورة نزلت، فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه، وما وجدتم من حرام فحرموه. وأخرج أحمد والترمذي وحسنه والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في سننه عن عبد الله بن عمر قال: آخر سورة نزلت سورة المائدة والفتح. وأخرج أحمد عنه قال: أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة المائدة وهو راكب على راحلته فلم تستطع أن تحمله، فنزل عنها. قال ابن كثير: تفرد به أحمد. قلت: وفي إسناده ابن لهيعة وأخرج أحمد وعبد بن حميد وابن جرير ومحمد بن نصر في كتاب الصلاة والطبراني وأبو نعيم في الدلائل والبيهقي في شعب الإيمان عن أسماء بنت يزيد نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة في مسنده والبغوي في معجمه وابن مردويه والبيهقي في دلائل النبوة عن أم عمرو بنت عيسى عن عمها نحوه أيضاً. وأخرج أبو عبيد عن محمد بن كعب القرظي نحوه. وزاد أنها نزلت في حجة الوداع فيما بين مكة والمدينة. وهكذا أخرج ابن جرير عن الربيع بن أنس بهذه الزيادة وأخرج أبو عبيد عن ضمرة بن حبيب وعطية بن قيس قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المائدة من آخر القرآن تنزيلاً، فأحلوا حلالها وحرموا حرامها". وأخرج أبو داود والنحاس كلاهما في النسخ عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل قال: لم ينسخ من المائدة شيء. وكذا أخرجه سعيد بن منصور وابن المنذر عنه. وكذا أخرجه عبد بن حميد و أبو داود في ناسخه وابن جرير وابن المنذر عن الشعبي. وكذا أخرجه عبد بن حميد وأبو داود في ناسخه وابن المنذر عن الحسن البصري. وأخرج عبد بن حميد وأبو داود في ناسخه وابن جرير وابن المنذر عن الشعبي قال: لم ينسخ من المائدة إلا هذه الآية: "يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد". وأخرج أبو داود في ناسخه وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن عباس قال: نسخ من هذه السورة آيتان، آية القلائد وقوله: "فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم" وأخرج عبد بن حميد في مسنده عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في خطبته سورة المائدة والتوبة، وذكر النقاش عن أبي سلمة أنه قال: "لما رجع صلى الله عليه وسلم من الحديبية قال: يا علي أشعرت أنها نزلت علي سورة المائدة؟ ونعمت الفائدة" قال ابن العربي: هذا حديث موضوع لا يحل لمسلم اعتقاده وقال ابن عطية: هذا عندي لا يشبه كلام النبي صلى الله عليه وسلم. هذه الآية التي افتتح الله بها هذه السورة إلى قوله: 1- "إن الله يحكم ما يريد" فيها من البلاغة ما تتقاصر عنده القوى البشرية مع شمولها لأحكام عدة: منها الوفاء بالعقود، ومنها تحليل بهيمة الأنعام، ومنها استثناء ما سيتلى مما لا يحل ومنها تحريم الصيد على المحرم، ومنها إباحة الصيد لمن ليس بمحرم. وقد حكى النقاش أن أصحاب الفيلسوف الكندي قالوا له: أيها الحكيم اعمل لنا مثل هذا القرآن، فقال: نعم أعمل مثل بعضه، فاحتجب أياماً كثيرة ثم خرج فقال: والله ما أقدر ولا يطيق هذا أحد، إني فتحت المصحف فخرجت سورة المائدة، فنظرت فإذا هو قد نطق بالوفاء ونهى عن النكث، وحلل تحليلاً عاماً، ثم استثنى بعد استثناء، ثم أخبر عن قدرته وحكمته في سطرين ولا يقدر أحد أن يأتي بهذا. قوله: "أوفوا بالعقود" يقال: أوفى ووفى لغتان وقد جمع بينهما الشاعر فقال: أما ابن طوف فقد أوفى بذمته كما وفى بقلاص النجم حاديها والعقود: والعهود، وأصل العقود الربوط، واحدها عقد، يقال: عقدت الحبل والعهد، فهو يستعمل في الأجسام والمعاني، وإذا استعمل في المعاني كما هنا أفاد أنه شديد الإحكام، قوي التوثيق، قيل: المراد بالعقود هي التي عقدها الله على عباده وألزمهم بها من الأحكام، وقيل هي العقود التي يعقدونها بينهم من عقود المعاملات والأولى شمول الآية للأمرين جميعاً، ولا وجه لتخصيص بعضها دون بعض. قال الزجاج: المعنى أوفوا بعقد الله عليكم وبعقدكم بعضكم على بعض انتهى. والعقد الذي يجب الوفاء به ما وافق كتاب الله وسنة رسول الله، فإن خالفهما فهو رد لا يجب الوفاء به ولا يحل. قوله: "أحلت لكم بهيمة الأنعام" الخطاب للذين آمنوا. والبهيمة: اسم لكل ذي أربع، سميت بذلك لإبهامها من جهة نقص نطقها وفهمها وعقلها، ومنه باب مبهم: أي مغلق، وليل بهيم، وبهمة للشجاع الذي لا يدري من أين يؤتى، وحلقة مبهمة: لا يدري أين طرفاها. والأنعام: اسم للإبل والبقر والغنم، سميت بذلك لما في مشيها من اللين وقيل بهيمة الأنعام: وحشيها كالظباء وبقر الوحش والحمر الوحشية وغير ذلك، حكاه ابن جرير الطبري عن قوم، وحكاه غيره عن السدي والربيع وقتادة والضحاك. قال ابن عطية: وهذا قول حسن، وذلك أن الأنعام هي الثمانية، الأزواج، وما انضاف إليها من سائر الحيوانات يقال له أنعام مجموعة معها، وكأن المفترس كالأسد، وكل ذي ناب خارج عن حد الأنعام، فبهيمة الأنعام هي الراعي من ذوات الأربع، وقيل بهيمة الأنعام: ما لم تكن صيداً، لأن الصيد يسمى وحشاً لا بهيمة، وقيل بهيمة الأنعام: الأجنة التي تخرج عند الذبح من بطون الأنعام فهي تؤكل من دون ذكاة. وعلى القول الأول أعني تخصيص الأنعام بالإبل والبقر والغنم تكون الإضافة بيانية، ويلحق بها ما يحل مما هو خارج عنها بالقياس، بل وبالنصوص التي في الكتاب والسنة كقوله تعالى: " قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة " الآية، وقوله صلى الله عليه وسلم: "يحرم كل ذي ناب من السبع ومخلب من الطير" فإنه يدل بمفهومه على أن ما عداه حلال، وكذلك سائر النصوص الخاصة بنوع كما في كتب السنة المطهرة. قوله: "إلا ما يتلى عليكم" استثناء من قوله: "أحلت لكم بهيمة الأنعام" أي إلا مدلول ما يتلى عليكم فإنه ليس بحلال. والمتلو: هو ما نص الله على تحريمه، نحو قوله تعالى: "حرمت عليكم الميتة" الآية، ويلحق به ما صرحت السنة بتحريمه، وهذا الاستثناء يحتمل أن يكون المراد به إلا ما يتلى عليكم الآن، ويحتمل أن يكون المراد به في مستقبل الزمان، فيدل على جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة، ويحتمل الأمرين جميعاً. قوله: "غير محلي الصيد" ذهب البصريون إلى أن قوله: "إلا ما يتلى عليكم" استثناء من بهيمة الأنعام وقوله: "غير محلي الصيد" استثناء آخر منه أيضاً، فالاستثناءان جميعاً من بهيمة الأنعام، والتقدير: أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم إلا الصيد وأنتم محرومون، وقيل: الاستثناء الأول من بهيمة الأنعام، والاستثناء الثاني هو من الاستثناء الأول، ورد بأن هذا يستلزم إباحة الصيد في حال الإحرام، لأنه مستثنى من المحظور فيكون مباحاً، وأجاز الفراء أن يكون "إلا ما يتلى" في موضع رفع على البدل، ولا يجيزه البصريون إلا في النكرة وما قاربها من الأجناس. قال: وانتصاب "غير محلي الصيد" على الحال من قوله: "أوفوا بالعقود" وكذا قال الأخفش، وقال غيرهما: حال من الكاف والميم في "لكم" والتقدير: أحلت لكم بهيمة الأنعام غير محلي الصيد: أي الاصطياد في البر وأكل صيده. ومعنى عدم إحلالهم له تقرير حرمته عملاً واعتقاداً وهم حرم: أي محرومون وجملة "وأنتم حرم" في محل نصب على الحال من الضمير في "محلي" ومعنى هذا التقييد ظاهر عند من يخص بهيمة الأنعام بالحيوانات الوحشية البرية التي يحل أكلها كأنه قال: أحل لكم صيد البر إلا في حال الإحرام، وأما على قول من يجعل الإضافة بيانية فالمعنى: أحلت لكم بهيمة هي الأنعام حال تحريم الصيد عليكم بدخولكم في الإحرام لكونكم محتاجين إلى ذلك، فيكون المراد بهذا التقييد الامتنان عليهم بتحليل ما عدا ما هو محرم عليهم في تلك الحال. والمراد بالحرم من هو محرم بالحج أو العمرة أو بهما، وسمي محرماً لكونه يحرم عليه الصيد والطيب والنساء، وهكذا وجه تسمية الحرم حرماً، والإحرام إحراماً. وقرأ الحسن والنخعي ويحيى بن وثاب حرم بسكون الراء وهي لغة تميمية يقولون في رسل رسل وفي كتب كتب ونحو ذلك. قوله: "إن الله يحكم ما يريد" من الأحكام المخالفة لما كانت العرب تعتاده، فهو مالك الكل يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا معقب لحكمه.
قوله: 2- "يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله" الشعائر: جمع شعيرة على وزن فعيلة. قال ابن فارس: ويقال للواحدة: شعار وهو أحسن، ومنه الإشعار للهدي. والمشاعر: المعالم، واحدها مشعر، وهي المواضع التي قد أشعرت بالعلامات، قيل المراد بها هنا جميع مناسك الحج: وقيل الصفا والمروة، والهدي والبنيان. والمعنى على هذين القولين: لا تحلوا هذه الأمور بأن يقع منكم الإخلال بشيء منها أو بأن تحولوا بينها وبين من أراد فعلها. ذكر سبحانه النهي عن أن يحلوا شعائر الله عقب ذكره تحريم صيد المحرم، وقيل المراد بالشعائر هنا فرائض الله، ومنه "ومن يعظم شعائر الله"، وقيل هي حرمات الله، ولا مانع من حمل ذلك على الجميع اعتباراً بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولا بما يدل عليه السياق. قوله: "ولا الشهر الحرام" المراد به الجنس، فيدخل في ذلك جميع الأشهر الحرم وهي أربعة: ذو القعدة، وذو الحجة ومحرم، ورجب: أي لا تحلوها بالقتال فيها، وقيل المراد به هنا شهر الحج فقط. قوله: "ولا الهدي" هو ما يهدى إلى بيت الله من ناقة أو بقرة أو شاة، الواحدة هدية. نهاهم سبحانه عن أن يحلوا حرمة الهدي بأن يأخذوه على صاحبه أو يحولوا بينه وبين المكان الذي يهدى إليه، وعطف الهدي على الشعائر مع دخوله تحتها لقصد التنبيه على مزيد خصوصيته والتشديد في شأنه. قوله: "ولا القلائد" جمع قلادة، وهي ما يقلد به الهدي من نعل أو نحوه. وإحلالها بأن تؤخذ غصباً، وفي النهي عن إحلال القلائد تأكيد للنهي عن إحلال الهدي، وقيل المراد بالقلائد المقلدات بها، ويكون عطفه على الهدي لزيادة التوصية بالهدي، والأول أولى، وقيل المراد بالقلائد ما كان الناس يتقلدونه أمنة لهم، فهو على حذف مضاف: أي ولأصحاب القلائد. قوله: "ولا آمين البيت الحرام" أي قاصديه من قولهم أممت كذا: أي قصدته. وقرأ الأعمش: ولا آمي البيت الحرام بالإضافة. والمعنى: لا تمنعوا من قصد البيت الحرام لحج أو عمرة أو ليسكن فيه، وقيل إن سبب نزول هذه الآية أن المشركين كانوا يحجون ويعتمرون ويهدون فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم، فنزل: "يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله" إلى آخر الآية فيكون ذلك منسوخاً بقوله: "اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم"، وقوله: "فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحجن بعد العام مشرك". وقال قوم: الآية محكمة وهي في المسلمين. قوله: "يبتغون فضلاً من ربهم ورضواناً" جملة حالية من الضمير المستتر في "آمين" قال جمهور المفسرين: معناه يبتغون الفضل والأرباح في التجارة، ويبتغون مع ذلك رضوان الله، وقيل كان منهم من يطلب التجارة، ومنهم من يبتغي بالحج رضوان الله، ويكون هذا الابتغاء للرضوان بحسب اعتقادهم وفي ظنهم عند من جعل الآية في المشركين، وقيل المراد بالفضل هنا الثواب لا الأرباح في التجارة. قوله: "وإذا حللتم فاصطادوا" هذا تصريح بما أفاده مفهوم "وأنتم حرم" أباح لهم الصيد بعد أن حظره عليهم لزوال السبب الذي حرم لأجله، وهو الإحرام. قوله: " ولا يجرمنكم شنآن قوم " قال ابن فارس: جرم وأجرم ولا جرم بمعنى قولك لا بد ولا محالة، وأصلها من جرم أي كسب، وقيل المعنى: لا يحملنكم قاله الكسائي وثعلب وهو يتعدى إلى مفعولين يقال: جرمني كذا على بغضك: أي حملني عليه ومنه قول الشاعر: ولقد طعنــــت أبا عيينة طعنــــة جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا أي حملتهم على الغضب. وقال أبو عبيدة والفراء: معنى "لا يجرمنكم" لا يكسبنكم بغض قوم أن تعتدوا الحق إلى الباطل، والعدل إلى الجور والجريمة والجارم بمعنى الكاسب، ومنه قول الشاعر: جريمة ناهــــــض في رأس نيــــق يرى لعظام ما جمعت صليبـــا معناه كاسب قوت. والصليب: الودك، ومنه قول الآخر: يا أيها المشتكي عكلاً وما جرمت إلى القبائــل من قتــل وإيئاس أي كسبت، والمعنى في الآية: لا يحملنكم بغض قوم على الاعتداء عليهم أو لا يكسبنكم بغضهم اعتداءكم للحق إلى الباطل، ويقال: جرم يجرم جرماً: إذا قطع. قال علي بن عيسى الرماني: وهو الأصل، فجرم بمعنى حمل على الشيء لقطعه من غيره، وجرم بمعنى كسب لانقطاعه إلى الكسب، ولا جرم بمعنى حق لأن الحق يقطع عليه. قال الخليل: معنى "لا جرم أن لهم النار" لقد حق أن لهم النار. وقال الكسائي: جرم وأجرم لغتان بمعنى واحد: أي اكتسب. وقرأ ابن مسعود: "لا يجرمنكم" بضم الياء، والمعنى: لا يكسبنكم ولا يعرف البصريون أجرم، وإنما يقولون جرم لا غير. والشنآن: البغض. وقرئ بفتح النون وإسكانها، يقال: شنيت الرجل أشنوه شناء ومشنأة وشنآناً كل ذلك: إذا أبغضته، وشنآن هنا مضاف إلى المفعول: أي بغض قوم منكم لا بغض قوم لكم. قوله: "أن صدوكم" بفتح الهمزة مفعول لأجله: أي لأن صدوكم. وقرأ أبو عمرو وابن كثير بكسر الهمزة على الشرطية، وهو اختيار أبي عبيد، وقرأ الأعمش: " أن يصدكم " والمعنى على قراءة الشرطية: لا يحملنكم بغضهم إن وقع منهم الصد لكم عن المسجد الحرام على الاعتداء عليهم. قال النحاس: وأما إن صدوكم بكسر إن، فالعلماء الجلة بالنحو والحديث والنظر يمنعون القراءة بها لأشياء: منها أن الآية نزلت عام الفتح سنة ثمان، وكان المشركون صدوا المؤمنين عام الحديبية سنة ست، فالصد كان قبل الآية، وإذا قرئ بالكسر لم يجز أن يكون إلا بعده كما تقول: لا تعط فلاناً شيئاً إن قاتلك، فهذا لا يكون إلا للمستقبل وإن فتحت كان للماضي، وما أحسن هذا الكلام. وقد أنكر أبو حاتم وأبو عبيدة شنآن بسكون النون. لأن المصادر إنما تأتي في مثل هذا متحركة وخالفهما غيرهما فقال: ليس هذا مصدراً، ولكنه اسم فاعل على وزن كسلان وغضبان. ولما نهاهم عن الاعتداء أمرهم بالتعاون على البر والتقوى كائناً ما كان، قيل: إن البر والتقوى لفظان لمعنى واحد، وكرر للتأكد. وقال ابن عطية: إن البر يتناول الواجب والمندوب، والتقوى تختص بالواجب، وقال الماوردي: إن في البر رضا الناس وفي التقوى رضا الله، فمن جمع بينهما فقد تمت سعادته ثم نهاهم سبحانه عن التعاون على الإثم والعدوان، فالإثم: كل فعل أو قول يوجب إثم فاعله أو قائله، والعدوان: التعدي على الناس بما فيه ظلم، فلا يبقى نوع من أنواع الموجبات للإثم ولا نوع من أنواع الظلم للناس الذين من جملتهم النفس إلا وهو داخل تحت هذا النهي لصدق هذين النوعين على كل ما يوجد فيه معناهما، ثم أمر عباده بالتقوى وتوعد من خالف ما أمر به فتركه أو خالف ما نهى عنه ففعله بقوله: "إن الله شديد العقاب". وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس في قوله: "أوفوا بالعقود" قال: ما أحل الله وما حرم وما فرض وما حد في القرآن كله لا تغدروا ولا تنكثوا. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة قال: هي عقود الجاهلية الحلف. وروى عنه ابن جرير أنه قال: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "وأوفوا بعقد الجاهلية ولا تحدثوا عقداً في الإسلام". وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن الحسن في قوله: "أحلت لكم بهيمة الأنعام" قال: الإبل والبقر والغنم. وأخرج ابن جرير عن ابن عمر في قوله: "أحلت لكم بهيمة الأنعام" قال: ما في بطونها، قلت: إن خرج ميتاً آكله؟ قال: نعم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس في قوله: "إلا ما يتلى عليكم" قال: الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به إلى آخر الآية، فهذا ما حرم الله من بهيمة الأنعام. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "لا تحلوا شعائر الله" قال: كان المشركون يحجون البيت الحرام ويهدون الهدايا ويعظمون حرمة المشاعر وينحرون في حجهم، فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم، فقال الله: "لا تحلوا شعائر الله" وفي قوله: "ولا الشهر الحرام" يعني: لا تستحلوا قتالاً فيه "ولا آمين البيت الحرام" يعني: من توجه قبل البيت الحرام، فكان المؤمنون والمشركون يحجون جميعاً، فنهى الله المؤمنين أن يمنعوا أحداً حج البيت أو يتعرضوا له من مؤمن أو كافر، ثم أنزل الله بعد هذه الآية: "إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا" وفي قوله: "يبتغون فضلاً" يعني أنهم يرضون الله بحجهم "ولا يجرمنكم" يقول: لا يحملنكم " شنآن قوم " يقول: عداوة قوم "وتعاونوا على البر والتقوى" قال: البر ما أمرت به، والتقوى ما نهيت عنه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في الآية قال: شعائر الله ما نهى الله عنه أن تصيبه وأنت محرم، والهدي: ما لم يقلد والقلائد مقلدات الهدي "ولا آمين البيت الحرام" يقول: من توجه حاجاً. وأخرج ابن جرير عنه في قوله: "لا تحلوا شعائر الله" قال: مناسك الحج. وأخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم قال:" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية وأصحابه حين صدهم المشركون عن البيت، وقد اشتد ذلك عليهم، فمر بهم أناس من المشركين من أهل المشرق يريدون العمرة، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: نصد هؤلاء كما صدنا أصحابنا، فأنزل الله: "ولا يجرمنكم"" الآية. وأخرج أحمد وعبد بن حميد والبخاري في تاريخه عن وابصة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "البر ما اطمأن إليه القلب واطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في القلب وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك". وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والبخاري في الأدب ومسلم والترمذي والحاكم والبيهقي عن النواس بن سمعان قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم، فقال: "البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس". وأخرج أحمد وعبد بن حميد وابن حبان والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي عن أبي أمامة "أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإثم، فقال: ما حاك في نفسك فدعه. قال فما الإيمان؟ قال: من ساءته سيئته وسرته حسنته فهو مؤمن".
هذا شروع في المحرمات التي أشار إليها سبحانه بقوله: "إلا ما يتلى عليكم". والميتة قد تقدم ذكرها في البقرة، وكذلك الدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله، وما هنا من تحريم مطلق الدم مقيد بكونه مسفوحاً كما تقدم حملاً للمطلق على المقيد، وقد ورد في السنة تخصيص الميتة بقوله صلى الله عليه وسلم: "أحل لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالحوت والجراد وأما الدمان فالكبد والطحال" أخرجه الشافعي وأحمد وابن ماجه والدارقطني والبيهقي وفي إسناده يقال، ويقويه حديث: "هو الطهور ماؤه والحل ميتته" وهو عند أحمد وأهل السنن وغيرهم وصححه جماعة منهم ابن خزيمة وابن حبان، وقد أطلنا الكلام عليه في شرحنا للمنتقي. والإهلال رفع الصوت لغير الله كأن يقول بسم اللات والعزى ونحو ذلك، ولا حاجة بنا هنا إلى تكرير ما قد أسلفناه ففيه ما لا يحتاج الناظر فيه إلى غيره. 3- "والمنخنقة" هي التي تموت بالخنق: وهو حبس النفس سواء كان ذلك بفعلها كأن تدخل رأسها في حبل أو بين عودين، أو بفعل آدمي أو بغيره، وقد كان أهل الجاهلية يخنقون الشاة، فإذا ماتت أكلوها. "والموقوذة" هي التي تضرب بحجر أو عصا حتى تموت من غير تذكية، يقال: وقذه يقذه وقذاً فهو وقيذ، والوقد شدة الضرب، وفلان وقيذ: أي مثخن ضرباً، وقد كان أهل الجاهلية يفعلون ذلك فيضربون الأنعام بالخشب لآلهتهم حتى تموت ثم يأكلونها، ومنه قول الفرزدق: شغارة تقذ الفصيل برجلهــــا فطارة لقــوادم الأظفـــار قال ابن عبد البر: واختلف العلماء قديماً وحديثاً في الصيد بالبندق والحجر والمعراض، ويعني بالبندق قوس البندقة، وبالمعراض السهم الذي لا ريش له أو العصا التي رأسها محدد، قال: فمن ذهب إلى أنه وقيذ لم يجزه إلا ما أدرك ذكاته على ما روي عن ابن عمر، وهو قول مالك وأبي حنيفة وأصحابه والثوري والشافعي وخالفهم الشاميون في ذلك. قال الأوزاعي في المعراض: كله خرق أو لم يخرق، فقد كان أبو الدرداء وفضالة بن عبيد وعبد الله بن عمر ومكحول لا يرون به بأساً. قال ابن عبد البر: هكذا ذكر الأوزاعي عن عبد الله بن عمر، والمعروف عن ابن عمر ما ذكر مالك عن نافع، قال: والأصل في هذا الباب والذي عليه العمل وفيه الحجة حديث عدي بن حاتم، وفيه: "ما أصاب بعرضه فلا تأكل فإنه وقيذ" انتهى. قلت: والحديث في الصحيحين وغيرهما عن عدي قال:" قلت يا رسول الله إني أرمي بالمعراض الصيد فأصيب فقال: إذا رميت بالمعراض فخرق فكله، وإن أصاب بعرضه فإنما هو وقيذ فلا تأكله" فقد اعتبر صلى الله عليه وسلم الخرق وعدمه، فالحق أنه لا يحل إلا ما خرق لا ما صدم، فلا بد من التذكية قبل الموت وإلا كان وقيذاً. وأما البنادق المعروفة الآن: وهي بنادق الحديد التي يجعل فيها البارود والرصاص ويرمى بها، فلم يتكلم عليها أهل العلم لتأخر حدوثها، فإنها لم تصل إلى الديار اليمنية إلا في المائة العاشرة من الهجرة، وقد سألني جماعة من أهل العلم عن الصيد بها إذا مات ولم يتمكن الصائد من تذكيته حياً. والذي يظهر لي أنه حلال لأنها تخرق وتدخل في الغالب من جانب منه وتخرج من الجانب الآخر، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح السابق: "إذا رميت بالمعراض فخرق فكله" فاعتبر الخرق في تحليل الصيد. قوله: "والمتردية" هي التي تتردى من علو إلى أسفل فتموت من غير فرق بين أن تتردى من جبل أو بئر أو مدفن أو غيرها، والتردي مأخوذ من الردى وهو الهلاك وسواء تردت بنفسها أو ردها غيرها. قوله: "والنطيحة" هي فعيلة بمعنى مفعولة، وهي التي تنطحها أخرى فتموت من دون تذكية. وقال قوم أيضاً: فعيلة بمعنى فاعلة، لأن الدابتين تتناطحان فتموتان، وقال: نطيحة ولم يقل نطيح مع أنه قياس فعيل، لأن لزوم الحذف مختص بما كان من هذا الباب صفة لموصوف مذكور فإن لم يذكر ثبتت التاء للنقل من الوصفية إلى الإسمية. وقرأ أبو ميسرة والمنطوحة. قوله: "وما أكل السبع" أي ما افترسه ذو ناب كالأسد والنمر والذئب والضبع ونحوها، والمراد هنا ما أكل منه السبع، لأن ما أكله السبع كله قد فني، ومن العرب من يخص اسم السبع بالأسد، وكانت العرب إذا أكل السبع شاة، ثم خلصوها منه أكلوها، وإن ماتت ولم يذكوها. وقرأ الحسن أبو حيوة السبع بسكون الباء، وهي لغة لأهل نجد، ومنه قول حسان في عتبة بن أبي لهب: من يرجع العــــام إلى أهــله فما أكيل السبـــع بالراجــع وقرأ ابن مسعود وأكيلة السبع. وقرأ ابن عباس: وأكيل السبع. قوله: "إلا ما ذكيتم" في محل نصب على الاستثناء المتصل عند الجمهور، وهو راجع على ما أدركت ذكاته من المذكورات سابقاً، وفيه حياة، وقال المدنيون: وهو المشهور من مذهب مالك، وهو أحد قولي الشافعي أنه إذا بلغ السبع منها إلا ما لا حياة معه فإنها لا تؤكل. وحكاه في الموطأ عن زيد بن ثابت، وإليه ذهب إسماعيل القاضي، فيكون الاستثناء على هذا القول منقطعاً: أي حرمت عليكم هذه الأشياء، لكن ما ذكيتم فهو الذي يحل ولا يحرم، والأول أولى. والذكاة في كلام العرب الذبح، قاله قطرب وغيره. وأصل الذكاة في اللغة: التمام: أي تمام استكمال القوة، والذكاء حدة القلب والذكاء سرعة الفطنة، والذكوة ما تذكى منه النار، ومنه أذكيت الحرب والنار: أوقدتهما، وذكاء اسم الشمس والمراد هنا: إلا ما أدركتم ذكاته على التمام، والتذكية في الشرع: عبارة عن إنهار الدم، وفري الأوداج في المذبوح والنحر في المنحور والعقر في غير المقدور مقروناً بالقصد لله، وذكر اسمه عليه. وأما الآلة التي تقع بها الذكاة، فذهب الجمهور إلى أن كل ما أنهر الدم. وفري الأوداج فهو آلة للذكاة ما خلا السن والعظم، وبهذا جاءت الأحاديث الصحيحة. قوله: "وما ذبح على النصب". قال ابن فارس: النصب حجر كان ينصب فيعبد ويصب عليه دماء الذبائح، والنصائب حجارة تنصب حوالي شفير البئر فتجعل عضائد. وقيل النصب: جمع واحده نصاب، كحمار وحمر. وقرأ طلحة بضم النون وسكون الصاد. وروي عن أبي عمرو بفتح النون وسكون الصاد. وقرأ الجحدري بفتح النون والصاد، جعله اسماً موحداً كالجبل والجمل، والجمع أنصاب كالأجبال والأجمال. قال مجاهد: هي حجارة كانت حوالي مكة يذبحون عليها. قال ابن جريج: كانت العرب تذبح بمكة وتنضح بالدم ما أقبل من البيت ويشرحون اللحم ويضعونه على الحجارة، فلما جاء الإسلام قال المسلمون للنبي صلى الله عليه وسلم: نحن أحق أن نعظم هذا البيت بهذه الأفعال، فأنزل الله: "وما ذبح على النصب" والمعنى: والنية بذلك تعظيم النصب لا أن الذبح عليها غير جائز، ولهذا قيل إن على بمعنى اللام: أي لأجلها. قالها قطرب، وهو على هذا داخل فيما أهل به لغير الله، وخص بالذكر لتأكيد تحريمه ولدفع ما كانوا يظنونه من ذلك لتشريف البيت وتعظيمه. قوله: "وأن تستقسموا بالأزلام" معطوف على ما قبله: أي وحرم عليكم الاستقسام بالأزلام. والأزلام قداح الميسر واحدها زلم، قال الشاعر: بات يقاسيها غلام كلـــزم ليس براعــي إبــل ولا غنم ولا بجزار على ظهر وضم وقال آخر: فلئن جذيمة قتلت ساداتها فنســـاؤها يضـربن بالأزلام والأزلام للعرب ثلاثة أنواع: أحدها مكتوب فيه افعل، والآخر مكتوب فيه لا تفعل، والثالث مهمل لا شيء عليه فيجعلها في خريطة معه، إذا أراد فعل شيء أدخل يده وهي متشابهة فأخرج واحداً منها، فإن خرج الأول فعل ما عزم عليه، وإن خرج الثاني تركه، وإن خرج الثالث أعاد الضرب حتى يخرج واحد من الأولين. وإنما قيل لهذا الفعل استقسام لأنهم كانوا يستقسمون به الرزق وما يريدون فعله كما يقال استسقى: أي استدعى السقي، فالاستقسام: طلب القسم والنصيب. وجملة قداح الميسر عشرة، وقد قدمنا بيانها، وكانوا يضربون بها في المقامرة، وقيل: إن الأزلام كعاب فارس والروم التي يتقامرون بها، وقيل: هي الشطرنج، وإنما حرم الله الاستقسام بالأزلام لأنه تعرض لدعوى علم الغيب وضرب من الكهانة. قوله: "ذلكم فسق" إشارة إلى الاستقسام بالأزلام أو إلى جميع المحرمات المذكورة هنا. والفسق: الخروج عن الحد، وقد تقدم بيان معناه، وفي هذا وعيد شديد، لأن الفسق هو أشد الكفر لا ما وقع عليه اصطلاح قوم من أنه منزلة متوسطة بين الإيمان والكفر. قوله: "اليوم يئس الذين كفروا من دينكم" المراد اليوم الذي نزلت فيه الآية، وهو يوم فتح مكة لثمان بقين من رمضان سنة تسع وقيل: سنة ثمان، وقيل: المراد باليوم الزمان الحاضر وما يتصل به، ولم يرد يوماً معيناً ويئس فيه لغتان ييس بياءين يأساً، وأيس إياساً وإياسة. قاله النضر بن شميل: أي حصل لهم اليأس من إبطال دينكم وأن يردوكم إلى دينهم كما كانوا يزعمون "فلا تخشوهم": أي لا تخافوا منهم أن يغلبوكم أو يبطلوا دينكم "واخشون" فأنا القادر على كل شيء إن نصرتكم فلا غالب لكم، وإن خذلتكم لم يستطع غيري أن ينصركم. قوله: "اليوم أكملت لكم دينكم" جعلته كاملاً غير محتاج إلى إكمال لظهوره على الأديان كلها وغلبته لها ولكمال أحكامه التي يحتاج المسلمون إليها من الحلال والحرام والمشتبه، ووفى ما تضمنه الكتاب والسنة من ذلك، ولا يخفى ما يستفاد من تقديم قوله: "لكم". قال الجمهور: المراد بالإكمال هنا: نزول معظم الفرائض والتحليل والتحريم. قالوا: وقد نزل بعد ذلك قرآن كآية الربا وآية الكلالة ونحوهما. والمراد باليوم المذكور هنا هو يوم الجمعة، وكان يوم عرفة بعد العصر في حجة الوداع سنة عشر، هكذا ثبت في الصحيح من حديث عمر بن الخطاب، وقيل: إنها نزلت في يوم الحج الأكبر. قوله: "وأتممت عليكم نعمتي" بإكمال الدين المشتمل على الأحكام وبفتح مكة وقهر الكفار وإياسهم عن الظهور عليكم كما وعدتكم بقولي: "ولأتم نعمتي عليكم". قوله: "ورضيت لكم الإسلام ديناً": أي أخبرتكم برضاي به لكم فإنه سبحانه لم يزل راضياً لأمة نبيه صلى الله عليه وسلم بالإسلام فلا يكون لاختصاص الرضا بهذا اليوم كثير فائدة إن حملناه على ظاهره، ويحتمل أن يريد رضيت لكم الإسلام الذي أنتم عليه اليوم ديناً باقياً إلى انقضاء أيام الدنيا. وديناً منتصب على التمييز، ويجوز أن يكون مفعولاً ثانياً. قوله: "فمن اضطر في مخمصة" هذا متصل بذكر المحرمات وما بينهما اعتراض: أي من دعته الضرورة "في مخمصة" أي مجاعة إلى أكل الميتة وما بعدها من المحرمات. والخمص: ضمور البطن، ورجل خميص وخمصان، وامرأة خميصة وخمصانة، ومنه أخمص القدم، ويستعمل كثيراً في الجوع، قال الأعشى: تبيتون في المشتاء ملأى بطونكــــم وجاراتكم غرثى يبتن خمــائصا قوله: "غير متجانف" الجنف: الميل، والإثم: الحرام: أي حال كون المضطر في مخمصة غير مائل لإثم، وهو بمعنى غير باغ ولا عاد، وكل مائل فهو متجانف وجنف. وقرأ النخعي ويحيى بن وثاب والسلمي متجنف "فإن الله غفور رحيم" به لا يؤاخذه بما ألجأته إليه الضرورة في الجوع مع عدم ميله بأكل ما حرم عليه إلى الإثم بأن يكون باغياً على غيره أو متعدياً لما دعت إليه الضرورة حسبما تقدم. وقد أخرج ابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه والحاكم وصححه عن أبي أمامة قال:" بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومي أدعوهم إلى الله ورسوله وأعرض عليهم شعائر الإسلام، فبينما نحن كذلك إذ جاءوا بقصعة دم واجتمعوا عليها يأكلونها، قالوا: هلم يا صدي فكل قلت: ويحكم إنما أتيتكم من عند من يحرم هذا عليكم، لما أنزل الله عليه، قالوا: وما ذلك؟ قال: فتلوت عليهم هذه الآية: "حرمت عليكم الميتة"". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله: "وما أهل لغير الله به" قال: وما أهل للطواغيت به "والمنخنقة" قال: التي تخنق فتموت "والموقوذة" قال: الشاة التي تنطح الشاة "وما أكل السبع" يقول: ما أخذ السبع "إلا ما ذكيتم" يقول: ذبحتم من ذلك، وبه روح فكلوه "وما ذبح على النصب" قال: النصب أنصاب كانوا يذبحون ويهلون عليها "وأن تستقسموا بالأزلام" قال: هي القداح كانوا يستقسمون بها في الأمور "ذلكم فسق" يعني من أكل ذلك كله فهو فسق. واخرج ابن أبي حاتم عنه قال: الرداة التي تتردى في البئر، والمتردية التي تتردى من الجبل. وأخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير في قوله: "وأن تستقسموا بالأزلام" قال: حصى بيض كانوا يضربون بها. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن الحسن في الآية قال: كانوا إذا أرادوا أمراً أو سفراً يعمدون إلى قداح ثلاثة يكتبون على واحد منها: أمرني، وعلى الآخر: نهاني، ويتركون الثالث مخللاً بينهما ليس عليه شيء ثم يجيلونها، فإن خرج الذي عليه أمرني مضوا لأمرهم، وإن خرج الذي عليه نهاني كفوا، وإن خرج الذي ليس عليه شيء أعادوها. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "اليوم يئس الذين كفروا من دينكم" قال: يئسوا أن يرجعوا إلى دينهم أبداً. وأخرج البيهقي عنه في الآية قال: يقول يئس أهل مكة أن يرجعوا إلى دينهم عبادة الأوثان أبداً "فلا تخشوهم" في اتباع محمد "واخشون" في عبادة الأوثان وتكذيب محمد فلما كان واقفاً بعرفات نزل عليه جبريل وهو رافع يديه والمسلمون يدعون الله "اليوم أكملت لكم دينكم" يقول حلالكم وحرامكم فلن ينزل بعد هذا حلال ولا حرام "وأتممت عليكم نعمتي" قال: منتي، فلم يحج معكم مشرك "ورضيت" يقول: اخترت "لكم الإسلام ديناً" فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية أحداً وثمانين يوماً، ثم قبضه الله إليه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه قال: أخبر الله نبيه والمؤمنين أنه أكمل لهم الإيمان فلا يحتاجون إلى زيادة أبداً، وقد أتمه فلا ينقص أبداً، وقد رضيه فلا يسخطه أبداً. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن طارق بن شهاب قال: قالت اليهود لعمر: إنكم تقرأون آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً، قال: وأي آية؟ قالوا "اليوم أكملت لكم دينكم"، قال عمر: والله إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه على رسول الله صلى الله عليه وسلم والساعة التي نزلت فيها، نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية عرفة في يوم الجمعة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "فمن اضطر" يعني إلى ما حرم مما سمى في صدر هذه السورة "في مخمصة" يعني في مجاعة "غير متجانف لإثم" يقول غير متعمد لإثم.
هذا شروع في بيان ما أحله الله لهم بعد بيان ما حرمه الله عليهم، وسيأتي ذكر سبب نزول الآية. قوله: 4- "ماذا أحل لهم" أي شيء أحل لهم، أو ما الذي أحل لهم من المطاعم إجمالاً ومن الصيد ومن طعام أهل الكتاب ومن نسائهم قوله: "قل أحل لكم الطيبات" هي ما يستلذه آكله ويستطيبه مما أحله الله لعباده، وقيل هي الحلال، وقد سبق الكلام في هذا، وقيل الطيبات: الذبائح لأنها طابت بالتذكية، وهو تخصيص للعام بغير مخصص، والسبب والسياق لا يصلحان لذلك. قوله: "وما علمتم من الجوارح" وهو معطوف على الطيبات بتقدير مضاف لتصحيح المعنى: أي أحل لكم الطيبات وأحل لكم صيد ما علمتم من الجوارح. وقرأ ابن عباس ومحمد بن الحنفية علمتم بضم العين وكسر اللام: أي علمتم من أمر الجوارح والصيد بها. قال القرطبي: وقد ذكر بعض من صنف في أحكام القرآن أن الآية تدل على أن الإباحة تناولت ما علمنا من الجوارح، وهو يتضمن الكلب وسائر جوارح الطير، وذلك يوجب إباحة سائر وجوه الانتفاع، فدل على جواز بيع الكلب والجوارح والانتفاع بها بسائر وجوه المنافع إلا ما خصه الدليل: وهو الأكل من الجوارح: أي الكواسب من الكلاب وسباع الطير. قال: أجمعت الأمة على أن الكلب إذا لم يكن أسود وعلمه مسلم ولم يأكل من صيده الذي صاده وأثر فيه بجرح أو تنييب وصاد به مسلم وذكر اسم الله عند إرساله أن صيده صحيح يؤكل بلا خلاف. فإن انخرم شرط من هذه الشروط دخل الخلاف، فإن كان الذي يصاد به غير كلب كالفهد وما أشبهه، وكالبازي والصقر ونحوهما من الطير فجمهور الأمة على أن كل ما صاد بعد التعليم فهو جارح كاسب، يقال جرح فلان واجترح: إذا اكتسب، ومنه الجارحة لأنه يكتسب بها، ومنه اجتراح السيئات، ومنه قوله تعالى: " ويعلم ما جرحتم بالنهار ". وقوله: "أم حسب الذين اجترحوا السيئات". قوله: "مكلبين" حال، والمكلب: معلم الكلاب لكيفية الاصطياد، والأخص معلم الكلاب وإن كان معلم سائر الجوارح مثله، لأن الاصطياد بالكلاب هو الغالب، ولم يكتف بقوله: "وما علمتم من الجوارح" مع أن التكليب هو التعليم، لقصد التأكيد لما لا بد منه من التعليم، وقيل: إن السبع يسمى كلباً فيدخل كل سبع يصاد به، وقيل: إن هذه الآية خاصة بالكلاب. وقد حكى ابن المنذر عن ابن عمر أنه قال: ما يصاد بالبزاة وغيرها من الطير فما أدركت ذكاته فهو لك حلال، وإلا فلا تطعمه. قال ابن المنذر: وسئل أبو جعفر عن البازي: هل يحل صيده؟ قال: لا، إلا أن تدرك ذكاته. وقال الضحاك والسدي: "وما علمتم من الجوارح مكلبين" هي الكلاب خاصة، فإن كان الكلب أسود بهيماً فكره صيده الحسن وقتادة والنخعي. وقال أحمد: ما أعرف أحداً يرخص فيه إذا كان بهيماً، وبه قال ابن راهويه. فأما عامة أهل العلم بالمدينة والكوفة فيرون جواز صيد كل كلب معلم، واحتج من منع من صيد الكلب الأسود بقوله صلى الله عليه وسلم: "الكلب الأسود شيطان". أخرجه مسلم وغيره، والحق أن يحل صيد كل ما يدخل تحت عموم الجوارح من غير فرق بين الكلب وغيره وبين الأسود من الكلاب وغيره وبين الطير وغيره، ويؤيد هذا أن سبب نزول الآية سؤال عدي بن حاتم عن صيد البازي كما سيأتي قوله: "تعلمونهن مما علمكم الله" الجملة في محل نصب على الحال: أي مما علمكم الله مما أدركتموه بما خلقه فيكم من العقل الذي تهتدون به إلى تعليمها وتدريبها حتى تصير قابلة لإمساك الصيد عند إرسالكم لها. قوله: "فكلوا مما أمسكن عليكم" الفاء للتفريع، والجملة متفرعة على ما تقدم من تحليل صيد ما علموه من الجوارح، ومن في قوله: "مما أمسكن عليكم" للتبعيض، لأن بعض الصيد لا يؤكل كالجلد والعظم وما أكله الكلب ونحوه، وفيه دليل على أنه لا بد أن يمسكه على صاحبه فإن أكل منه فإنما أمسكه على نفسه كما في الحديث الثابت في الصحيح. وقد ذهب الجمهور إلى أنه لا يحل أكل الصيد الذي يقصده الجارح من تلقاء نفسه من غير إرسال. وقال عطاء بن أبي رباح والأوزاعي: وهو مروي عن سلمان الفارسي وسعد بن أبي وقاص وأبي هريرة وعبد الله بن عمر، وروي عن علي وابن عباس والحسن البصري والزهري وربيعة ومالك والشافعي في القديم أنه يؤكل صيده، ويرد عليهم قوله تعالى: "مما أمسكن عليكم"، وقوله صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم: "إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل ما أمسك عليك" وهو في الصحيحين وغيرهما، وفي لفظ لهما: "فإن أكل فلا تأكل فإني أخاف أن يكون أمسك على نفسه". وأما ما أخرجه أبو داود بإسناد جيد من حديث أبي ثعلبة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل وإن أكل منه". وقد أخرجه أيضاً بإسناد جيد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وأخرجه أيضاً النسائي فقد جمع بعض الشافعية بين هذه الأحاديث بأنه إن أكل عقب ما أمسكه فإنه يحرم لحديث عدي بن حاتم، وإن أمسكه ثم انتظر صاحبه فطال عليه الانتظار وجاع فأكل من الصيد لجوعه لا لكونه أمسكه على نفسه فإنه لا يؤثر ذلك ولا يحرم به الصيد، وحملوا على ذلك حديث أبي ثعلبة الخشني، وحديث عمرو بن شعيب، وهذا جمع حسن. وقال آخرون: إنه إذا أكل الكلب منه حرم لحديث عدي، وإن أكل غيره لم يحرم للحديثين الآخرين، وقيل: يحمل حديث أبي ثعلبة على ما إذا أمسكه وخلاه، ثم عاد فأكل منه. وقد سلك كثير من أهل العلم طريق الترجيح ولم يسلكوا طريق الجمع لما فيها من البعد، قالوا: وحديث عدي بن حاتم أرجح لكونه في الصحيحين. وقد قررت هذا المسلك في شرحي للمنتقي بما يزيد الناظر فيه بصيرة. قوله: "واذكروا اسم الله عليه" الضمير في "عليه" يعود إلى "ما علمتم" أي سموا عليه عند إرساله، أو لما أمسكن عليكم: أي سموا عليه إذا أردتم ذكاته. وقد ذهب الجمهور إلى وجوب التسمية عند إرسال الجارح، واستدلوا بهذه الآية، ويؤيده حديث عدي بن حاتم الثابت في الصحيحين وغيرهما بلفظ: "إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله وإذا رميت بسهمك فاذكر اسم الله". وقال بعض أهل العلم: إن المراد التسمية عند الأكل. قال القرطبي: وهو الأظهر، واستدلوا بالأحاديث التي فيها الإرشاد إلى التسمية وهذا خطأ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد وقت التسمية بإرسال الكلب وإرسال السهم، ومشروعية التسمية عند الأكل حكم آخر، ومسألة غير هذه المسألة فلا وجه لحمل ما ورد في الكتاب والسنة هنا على ما ورد في التسمية عند الأكل، ولا ملجئ إلى ذلك، وفي لفظ في الصحيحين من حديث عدي: "إن أرسلت كلبك وسميت فأخذ فكل". وقد ذهب جماعة إلى أن التسمية شرط وذهب آخرون إلى أنها سنة فقط، وذهب جماعة إلى أنها شرط على الذاكر لا الناسي، وهذا أقوى الأقوال وأرجحها قوله: "واتقوا الله إن الله سريع الحساب" أي حسابه سبحانه سريع إتيانه وكل آت قريب.
قوله: 5- "اليوم أحل لكم الطيبات" هذه الجملة مؤكدة للجملة الأولى، وهي قوله: "أحل لكم الطيبات" وقد تقدم بيان الطيبات. قوله: "وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم" الطعام: اسم لما يؤكل، ومنه الذبائح، وذهب أكثر أهل العلم إلى تخصيصه هنا بالذبائح. وفي هذه الآية دليل على أن جميع طعام أهل الكتب من غير فرق بين اللحم وغيره حلال للمسلمين وإن كانوا لا يذكرون على ذبائحهم اسم الله، وتكون هذه الآية مخصصة لعموم قوله: "ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه". وظاهر هذا أن ذبائح أهل الكتاب حلال، وإن ذكر اليهودي على ذبيحته اسم عزير، وذكر النصراني على ذبيحته اسم المسيح. وإليه ذهب أبو الدرداء وعبادة بن الصامت وابن عباس والزهري وربيعة والشعبي ومكحول. وقال علي وعائشة وابن عمر: إذا سمعت الكتابي يسمي غير الله فلا تأكل، وهو قول طاوس والحسن وتمسكوا بقوله تعالى: "ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه" ويدل عليه أيضاً قوله: "وما أهل لغير الله به". وقال مالك: إنه يكره ولا يحرم. فهذا الخلاف إذا علمنا أن أهل الكتاب ذكروا على ذبائحهم اسم غير الله، وأما مع عدم العلم فقد حكى الكيا الطبري وابن كثير الإجماع على حلها لهذه الآية، ولما ورد في السنة من أكله صلى الله عليه وسلم من الشاة المصلية التي أهدتها إليه اليهودية، وهو في الصحيح، وكذلك الجراب الشحم الذي أخذه بعض الصحابة من خيبر وعلم بذلك النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الصحيح أيضاً وغير ذلك. والمراد بأهل الكتاب هنا اليهود والنصارى. وأما المجوس، فذهب الجمهور إلى أنها لا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم لأنهم ليسوا بأهل كتاب على المشهور عند أهل العلم، وخالف في ذلك أبو ثور، وأنكر عليه الفقهاء ذلك حتى قال أحمد بن حنبل: أبو ثور كاسمه، يعني في هذه المسألة، وكأنه تمسك بما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً أنه قال في المجوس: سنوا بهم سنة أهل الكتاب، ولم يثبت بهذا اللفظ، وعلى فرض أن له أصلاً ففيه زيادة تدفع ما قاله، وهي قوله غير آكلي ذبائحهم ولا ناكحي نسائهم. وقد رواه بهذه الزيادة جماعة ممن لا خبرة له بفن الحديث من المفسرين والفقهاء، ولم يثبت الأصل ولا الزيادة، بل الذي ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر، وأما بنو تغلب فكان علي بن أبي طالب ينهى عن ذبائحهم لأنهم عرب، وكان يقول: إنهم لم يتمسكوا بشيء من النصرانية إلا بشرب الخمر، وهكذا سائر العرب المتنصرة كتنوخ وجذام ولحم وعاملة ومن أشبههم. قال ابن كثير: وهو قول غير واحد من السلف والخلف. وروي عن سعيد بن المسيب والحسن البصري أنهما كانا لا يريان بأساً بذبيحة نصارى بني تغلب. وقال القرطبي: وقال جمهور الأمة إن ذبيحة كل نصراني حلال سواء كان من بني تغلب أو من غيرهم، وكذلك اليهود. قال: ولا خلاف بين العلماء أن ما لا يحتاج إلى ذكاة كالطعام يجوز أكله. قوله: "وطعامكم حل لهم" أي وطعام المسلمين حلال لأهل الكتاب، وفيه دليل على أنه يجوز للمسلمين أن يطعموا أهل الكتاب من ذبائحهم، وهذا من باب المكافأة والمجازاة وإخبار المسلمين بأن ما يأخذونه منهم من أعراض الطعام حلال لهم بطريق الدلالة الالتزامية. قوله: "والمحصنات من المؤمنات" اختلف في تفسير المحصنات هنا، فقيل العفائف، وقيل الحرائر، وقرأ الشعبي بكسر الصاد، وبه قرأ الكسائي. وقد تقدم الكلام في هذا مستوفى في البقرة والنساء. والمحصنات مبتدأ، ومن المؤمنات وصف له والخبر محذوف أي حل لكم، وذكرهن هنا توطئة وتمهيداً لقوله: "والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم" والمراد بهن الحرائر دون الإماء، هكذا قال الجمهور، وحكى ابن جرير عن طائفة من السلف أن هذه الآية تعم كل كتابية حرة أو أمة، وقيل المراد بأهل الكتاب هنا الإسرائيليات، وبه قال الشافعي، وهو تخصيص بغير مخصص. وقال عبد الله بن عمر: لا تحل النصرانية، قال: ولا أعلم شركاً أكبر من أن تقول ربها عيسى، وقد قال الله: "ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن" الآية، ويجاب عنه بأن هذه الآية مخصصة للكتابيات من عموم المشركات فيبنى العام على الخاص. وقد استدل من حرم نكاح الإماء الكتابيات بهذه الآية لأنه حملها على الحرائر، وبقوله تعالى: "فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات" وقد ذهب إلى هذا كثير من أهل العلم وخالفهم من قال: إن الآية تعم أو تخص العفائف كما تقدم. والحاصل أنه يدخل تحت هذه الآية الحرة العفيفة من الكتابيات على جميع الأقوال إلا على قول ابن عمر في النصرانية، ويدخل تحتها الحرة التي ليست بعفيفة والأمة العفيفة، على قول من يقول: إنه يجوز استعمال المشرك في كلا معنييه، وأما من لم يجوز ذلك فإن حمل المحصنات هنا على الحرائر لم يقل بجواز نكاح الأمة عفيفة كانت أو غير عفيفة إلا بدليل آخر ويقول بجواز نكاح الحرة العفيفة كانت أو غير عفيفة، وإن حمل المحصنات هنا على العفائف قال بجواز نكاح الحرة العفيفة والأمة العفيفة دون غير العفيفة منهما. قوله: "إذا آتيتموهن أجورهن" أي مهورهن وجواب إذا محذوف: أي فهن حلال، أو هي ظرف الخبر المحصنات المقدر: أي حل لكم قوله: "محصنين" منصوب على الحال: أي حال كونكم أعفاء بالنكاح، وكذا قوله: "غير مسافحين" منصوب على الحال من الضمير في محصنين أو صفة لمحصنين، والمعنى: غير مجاهرين بالزنا. قوله: "ولا متخذي أخدان" معطوف على "غير مسافحين" أو على "مسافحين". "ولا" مزيدة للتأكيد، والخدن يقع على الذكر والأنثى: أي لم يتخذوا معشوقات، فقد شرط الله في الرجال العفة وعدم المجاهرة بالزنا وعدم اتخاذ أخدان، كما شرط في النساء أن يكن محصنات "ومن يكفر بالإيمان" أي بشرائع الإسلام "فقد حبط عمله" أي بطل "وهو في الآخرة من الخاسرين" وقرأ ابن السميفع فقد حبط بفتح الباء. اهـ. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي في سننه "عن أبي رافع: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بقتل الكلاب في الناس، فقالوا: يا رسول الله ماذا يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله: "يسألونك ماذا أحل لهم" الآية". وأخرج ابن جرير عن عكرمة نحوه. أخرج أيضاً عن محمد بن كعب القرظي نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير أن عدي بن حاتم وزيد بن المهلهل الطائيين سألا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا يا رسول الله إنا قوم نصيد بالكلاب والبزاة، فنزلت. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن الشعبي: أن عدي بن حاتم الطائي أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله، فذكر نحوه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله: "وما علمتم من الجوارح مكلبين" قال: هي الكلاب المعلمة، والبازي والجوارح يعني الكلاب والفهود والصقور وأشباهها. أخرج ابن جرير عنه قال: آية المعلم أن يمسك صيده فلا يأكل منه حتى يأتي صاحبه. وأخرج عنه أيضاً قال: إذا أكل الكلب فلا تأكل، فإنما أمسك على نفسه. وأخرج عبد بن حميد عنه نحوه، وزاد: وإذا أكل الصقر فلا تأكل، لأن الكلب تستطيع أن تضربه والصقر لا تستطيع. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عنه في قوله: "وطعام الذين أوتوا الكتاب" قال: ذبائحهم، وفي قوله: "والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم" قال: حل لكم "إذا آتيتموهن أجورهن" يعني مهورهن "محصنين" يعني تنكحونهن بالمهر والبينة "غير مسافحين" غير متغالين بالزنا "ولا متخذي أخدان" يعني يسرون بالزنا. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله: "والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب" قال: أحل الله لنا محصنتين محصنة مؤمنة ومحصنة من أهل الكتاب، نساؤنا عليهم حرام، ونساؤهم لنا حلال. وأخرج ابن جرير عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فتزوج نساء أهل الكتاب ولا يتزوجون نساءنا". وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن عمر بن الخطاب قال: المسلم يتزوج النصرانية ولا يتزوج النصراني المسلمة. وأخرج الطبراني والحاكم وصححه عن ابن عباس قال: إنما أحلت ذبائح اليهود والنصارى من أجل أنهم آمنوا بالتوراة والإنجيل. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله: "والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب" قال الحرائر. وأخرج عبد بن حميد عن الضحاك قال: العفائف.
قوله: 6- "إذا قمتم" إذا أردتم القيام تعبيراً بالمسبب عن السبب كما في قوله: "فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله". وقد اختلف أهل العلم في هذا الأمر عند إرادة القيام إلى الصلاة، فقالت طائفة: هو عام في كل قيام إليها سواء كان القائم متطهراً أو محدثاً، فإنه ينبغي له إذا قام إلى الصلاة أن يتوضأ، وهو مروي عن علي وعكرمة. وقال ابن سيرين: كان الخلفاء يتوضأون لكل صلاة. وقالت طائفة أخرى: إن هذا الأمر خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو ضعيف، فإن الخطاب للمؤمنين والأمر لهم. وقالت طائفة: الأمر للندب طلبا للفضل. وقال آخرون: إن الوضوء لكل صلاة كان فرضاً عليهم بهذه الآية، ثم نسخ في فتح مكة. وقال جماعة: هذ الأمر خاص بمن كان محدثاً. وقال آخرون: المراد إذا قمتم من النوم إلى الصلاة، فيعم الخطاب كل قائم من نوم. وقد أخرج مسلم وأحمد وأهل السنن عن بريدة قال:" كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة، فلما كان يوم الفتح توضأ ومسح على خفيه وصلى الصلوات بوضوء واحد، فقال له عمر: يا رسول الله إنك فعلت شيئاً لم تكن تفعله، فقال: عمداً فعلته يا عمر"، وهو مروي من طرق كثيرة بألفاظ متفقة في المعنى. وأخرج البخاري وأحمد وأهل السنن عن عمرو بن عامر الأنصاري سمعت أنس بن مالك يقول: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة، قال: قلت فأنتم كيف كنتم تصنعون؟ قال: كنا نصلي الصلوات بوضوء واحد ما لم نحدث، فتقرر بما ذكر أن الوضوء لا يجب إلا على المحدث، وبه قال جمهور أهل العلم وهو الحق. قوله: "فاغسلوا وجوهكم" الوجه في اللغة مأخوذ من المواجهة، وهو عضو مشتمل على أعضاء، وله طول وعرض، فحده في الطول من مبتدأ سطح الجبهة إلى منتهى اللحيين، وفي العرض من الأذن إلى الأذن، وقد ورد الدليل بتخليل اللحية. واختلف العلماء في غسل ما استرسل، والكلام في ذلك مبسوط في مواطنه. وقد اختلف أهل العلم أيضاً: هل يعتبر في الغسل الدلك باليد أم يكفي إمرار الماء، والخلاف في ذلك معروف، والمرجع اللغة العربية فإن ثبت فيها أن الدلك داخل في مسمى الغسل كان معتبراً وإلا فلا. قال في شمس العلوم: غسل الشيء غسلاً إذا أجرى عليه الماء ودلكه انتهى. وأما المضمضة والاستنشاق، فإذا لم يكن لفظ الوجه يشمل باطن الفم والأنف فقد ثبت غسلها بالسنة الصحيحة، والخلاف في الوجوب وعدمه معروف. وقد أوضحنا ما هو الحق في مؤلفاتنا. قوله: "وأيديكم إلى المرافق" إلى للغاية، وأما كون ما بعدها يدخل فيما قبلها فمحل خلاف. وقد ذهب سيبويه وجماعة إلى أن ما بعدها إن كان من نوع ما قبلها دخل وإلا فلا، وقيل إنها هنا بمعنى مع. وذهب قوم إلى أنها تفيد الغاية مطلقاً، وأما الدخول وعدمه فأمر يدور مع الدليل. وقد ذهب الجمهور إلى أن المرافق تغسل، واستدلوا بما أخرجه الدارقطني والبيهقي من طريق القاسم بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جده عن جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه، ولكن القاسم هذا متروك وجده ضعيف. قوله: "وامسحوا برؤوسكم" قيل: الباء زائدة، والمعنى: امسحوا رؤوسكم، وذلك يقتضي تعميم المسح لجميع الرأس وقيل هي للتبعيض، وذلك يقتضي أنه يجزئ مسح بعضه. واستدل القائلون بالتعميم بقوله تعالى في التيمم: "فامسحوا بوجوهكم" ولا يجزئ مسح بعض الوجه اتفاقاً، وقيل إنها للإلصاق: أي ألصقوا أيديكم برؤوسكم، وعلى كل حال فقد ورد في السنة المطهرة ما يفيد أنه يكفي مسح بعض الرأس كما أوضحناه في مؤلفاتنا، فكان هذا دليلاً على المطلوب غير محتمل كاحتمال الآية على فرض أنها محتملة، ولا شك أن من أمر غيره بأن يمسح رأسه كان ممتثلاً بفعل ما يصدق عليه مسمى المسح، وليس في لغة العرب ما يقتضي أنه لا بد في مثل هذا الفعل من مسح جميع الرأس، وهكذا سائر الأفعال المتعدية نحو اضرب زيداً أو اطعنه أو ارجمه، فإنه يوجد المعنى العربي بوقوع الضرب أو الطعن أو الرجم على عضو من أعضائه ولا يقول قائل من أهل اللغة أو من هو عالم بها إنه لا يكون ضارباً إلا بإيقاع الضرب على كل جزء من أجزاء زيد، وكذلك الطعن والرجم وسائر الأفعال، فاعرف هذا حتى يتبين لك ما هو الصواب من الأقوال في مسح الرأس. فإن قلت: يلزم مثل هذا في غسل الوجه واليدين والرجلين. قلت: ملتزم لولا البيان من السنة في الوجه والتحديد بالغاية في اليدين والرجلين بخلاف الرأس، فإنه ورد في السنة مسح الكل ومسح البعض. قوله: "وأرجلكم إلى الكعبين" قرأ نافع بنصب الأرجل، وهي قراءة الحسن البصري والأعمش وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة بالجر. وقراءة النصب تدل على أنه يجب غسل الرجلين، لأنها معطوفة على الوجه، وإلى هنا ذهب جمهور العلماء. وقراءة الجر تدل على أنه يجوز الاقتصار على مسح الرجلين لأنها معطوفة على الرأس وإليه ذهب ابن جرير الطبري وهو مروي عن ابن عباس. قال ابن العربي: اتفقت الأمة على وجوب غسلهما وما علمت من رد ذلك إلا الطبري من فقهاء المسلمين والرافضة من غيرهم، وتعلق الطبري بقراءة الجر، قال القرطبي: قد روي عن ابن عباس أنه قال: الوضوء غسلتان ومسحتان، قال: وكان عكرمة يمسح رجليه، وقال: ليس في الرجلين غسل، إنما نزل فيهما المسح. وقال عامر الشعبي: نزل جبريل بالمسح. قال: وقال قتادة: افترض الله مسحتين وغسلتين. قال: وذهب ابن جرير الطبري إلى أن فرضهما التخيير بين الغسل والمسح وجعل القراءتين كالروايتين، وقواه النحاس ولكنه قد ثبت في السنة المطهرة بالأحاديث الصحيحة من فعله صلى الله عليه وسلم وقوله غسل الرجلين فقط، وثبت عنه أنه قال: "ويل للأعقاب من النار" وهو في الصحيحين وغيرهما فأفاد وجوب غسل الرجلين، وأنه لا يجزئ مسحهما، لأن شأن المسح أن يصيب ما أصاب ويخطي ما أخطأ، فلو كان مجزئاً لما قال: "ويل للأعقاب من النار". وقد ثبت عنه أنه قال بعد أن توضأ وغسل رجليه: هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به. وقد ثبت في صحيح مسلم وغيره أن رجلاً توضأ فترك على قدمه مثل موضع الظفر، فقال له "ارجع فأحسن وضوءك". وأما المسح على الخفين فهو ثابت بالأحاديث المتواترة. وقوله: "إلى الكعبين" الكلام فيه كالكلام في قوله: "إلى المرافق" وقد قيل في وجه جمع المرافق وتثنية الكعاب إنه لما كان في كل رجل كعبان ولم يكن في كل يد إلا مرفق واحد ثنيت الكعاب تنبيهاً على أن لكل رجل كعبين، بخلاف المرافق فإنها جمعت لأنه لما كان في كل يد مرفق واحد لم يتوهم وجود غيره، ذكر معنى هذا ابن عطية. وقال الكواشي: ثني الكعبين وجمع المرافق لنفي توهم أن في كل واحدة من الرجلين كعبين، وإنما في كل واحدة كعب واحد له طرفان من جانبي الرجل، بخلاف المرفق فهي أبعد عن الوهم انتهى. وبقي من فرائض الوضوء النية والتسمية ولم يذكرا في هذه الآية، بل وردت بهما السنة، وقيل: إن في هذه الآية ما يدل على النية، لأنه لما قال: "إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم" كان تقدير الكلام: فاغسلوا وجوهكم لها، وذلك هو النية المعتبرة. قوله: "وإن كنتم جنباً فاطهروا" أي فاغتسلوا بالماء. وقد ذهب عمر بن الخطاب وابن مسعود إلى أن الجنب لا يتيمم البتة بل يدع الصلاة حتى يجد الماء استدلالاً بهذه الآية، وذهب الجمهور إلى وجوب التيمم للجنابة مع عدم الماء، وهذه الآية هي للواجد، على أن التطهر هو أعم من الحاصل بالماء أو بما هو عوض عنه مع عدمه، وهو التراب. وقد صح عن عمر وابن مسعود الرجوع إلى ما قاله الجمهور للأحاديث الصحيحة الواردة في تيمم الجنب مع عدم الماء. وقد تقدم تفسير الجنب في النساء. قوله: "وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط" قد تقدم تفسير هذا في سورة النساء مستوفى، وكذلك تقدم الكلام على ملامسة النساء وعلى التيمم وعلى الصعيد، ومن في قوله: "منه" لابتداء الغاية، وقيل: للتبعيض. قيل: ووجه تكرير هذا هنا لاستيفاء الكلام في أنواع الطهارة "ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج" أي ما يريد بأمركم بالطهارة بالماء أو بالتراب التضييق عليكم في الدين، ومنه قوله تعالى: "وما جعل عليكم في الدين من حرج" ثم قال: "ولكن يريد ليطهركم" من الذنوب، وقيل من الحدث الأصغر والأكبر "وليتم نعمته عليكم" أي بالترخيص لكم في التيمم عند عدم الماء أو بما شرعه لكم من الشرائع التي عرضكم بها للثواب "لعلكم تشكرون" نعمته عليكم فتستحقون بالشكر ثواب الشاكرين. وقد أخرج مالك والشافعي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن زيد بن أسلم في قوله: "إذا قمتم إلى الصلاة" قال: قمتم من المضاجع، يعني النوم. وأخرج ابن جرير عن السدي مثله. وأخرج ابن جرير أيضاً عنه يقول: إذا قمتم وأنتم على غير طهر. وأخرج ابن أبي شيبة عن الحسن في قوله: "فاغسلوا وجوهكم" قال: ذلك الغسل الدلك. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن جرير عن أنس أنه قيل له: إن الحجاج خطبنا فقال: اغسلوا وجوهكم وأيديكم وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم، وأنه ليس شيء من ابن آدم أقرب إلى الخبث من قدميه فاغسلوا بطونهما وظهورهما وعراقيبهما. قال أنس: صدق الله وكذب الحجاج، قال الله: "وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم" وكان أنس إذا مسح قدميه بلهما. وأخرج سعيد بن منصور عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: اجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على غسل القدمين. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله: "من حرج" قال: من ضيق. وأخرجعبد بن حميد وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير في قوله: "وليتم نعمته عليكم" قال: تمام النعمة دخول الجنة، لم يتم نعمته على عبد لم يدخل الجنة.
7- "نعمة الله" قيل: هي الإسلام. والميثاق: العهد، قيل: المراد به هنا: ما أخذه على بني آدم كما قال: "وإذ أخذ ربك من بني آدم" الآية. قال مجاهد وغيره: نحن وإن لم نذكره فقد أخبرنا الله به، وقيل: هو خطاب لليهود، والعهد: ما أخذه عليهم في التوراة. وذهب جمهور المفسرين من السلف ومن بعدهم إلى أنه العهد الذي أخذه النبي صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة عليهم، وهو السمع والطاعة في المنشط والمكره، وأضافه تعالى إلى نفسه لأنه عن أمره وإذنه كما قال: "إنما يبايعون الله"، وبيعة العقبة مذكورة في كتب السير، وهذا متصل بقوله: "أوفوا بالعقود". قوله: " إذ قلتم سمعنا وأطعنا " أي وقت قولكم هذا القول، وهذا متعلق بواثقكم، أو بمحذوف وقع حالاً: أي كائناً هذا الوقت. و "ذات الصدور" ما تخفيه الصدور لكونها مختصة بها لا يعلمها أحد، ولهذا أطلق عليها ذات التي بمعنى الصاحب، وإذا كان سبحانه عالماً بها فكيف بما كان ظاهراً جلياً.
قوله 8- "يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين" قد تقدم تفسيرها في النساء، وصيغة المبالغة في "قوامين" تفيد أنهم مأمورون بأن يقوموا بها أتم قيام "لله" أي لأجله تعظيماً لأمره وطمعاً في ثوابه. والقسط: العدل. وقد تقدم الكلام على قوله: "يجرمنكم" مستوفى: أي لا يحملنكم بغض قوم على ترك العدل وكتم الشهادة "اعدلوا هو" أي العدل المدلول عليه بقوله: اعدلوا "أقرب للتقوى" التي أمرتم بها غير مرة: أي أقرب لأن تتقوا الله، أو لأن تتقوا النار.
قوله: 9- "لهم مغفرة وأجر عظيم" هذه الجملة في محل نصب على أنها المفعول الثاني لقوله: "وعد" على معنى وعدهم أن لهم مغفرة، أو وعدهم مغفرة فوقعت الجملة موقع المفرد فأغنت عنه، ومثله قول الشاعر: وجدنا الصالحين لهم جزاء وجنـــات وعيناً سلسبيــــلا
قوله: 10- "أصحاب الجحيم" أي ملابسوها.
قوله: 11- "إذ هم قوم" ظرف لقوله: "اذكروا" أو للنعمة أو لمحذوف وقع حالاً منها: "أن يبسطوا" أي بأن يبسطوا. وقوله: "فكف" معطوف على قوله: "هم" وسيأتي بيان سبب نزول هذه الآية، وبه يتضح المعنى. وقد أخرج ابن جرير والطبراني في الكبير عن ابن عباس في قوله: "إذ قلتم سمعنا وأطعنا" يعني حيث بعث الله النبي صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه الكتاب قالوا: آمنا بالنبي والكتاب وأقررنا بما في التوراة، فذكرهم الله ميثاقه الذي أقروا به على أنفسهم وأمرهم بالوفاء به. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد قال: النعم الآلاء، " وميثاقه الذي واثقكم به " قال الذي واثق به بني آدم في ظهر آدم عليه السلام. وأخرج ابن جرير عن عبد الله بن كثير في قوله: "يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط" الآية. قال: نزلت في يهود خيبر، ذهب إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتيهم في دية فهموا أن يقتلوه، فذلك قوله: " ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا " الآية. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في الدلائل عن جابر بن عبد الله "أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل منزلاً فتفرق الناس في العضاه يستظلون تحتها، فعلق النبي صلى الله عليه وسلم سلاحه بشجرة، فجاء أعرابي إلى سيفه فأخذه فسله، ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من يمنعك مني؟ قال: الله، قال الأعرابي، مرتين أو ثلاثاً من يمنعك مني؟ والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: الله، فشام الأعرابي السيف، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فأخبرهم بصنيع الأعرابي وهو جالس إلى جنبه لم يعاقبه". قال معمر: وكان قتادة يذكر نحو هذا. ويذكر أن قوماً من العرب أرادوا أن يفتكوا بالنبي صلى الله عليه وسلم فأرسلوا هذا الأعرابي، ويتأول "اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم" الآية، وأخرج الحاكم وصححه عنه بنحوه، وذكر أن اسم الرجل غورث بن الحارث، وأنه" لما قال النبي صلى الله عليه وسلم: الله سقط السيف من يده، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: من يمنعك مني؟، قال: كن خير آخذ، قال: فشهد أن لا إله إلا الله". وأخرجه أيضاً ابن إسحاق وأبو نعيم في الدلائل عنه. وأخرج ابن نعيم في الدلائل عن ابن عباس: أن بني النضير هموا أن يطرحوا حجراً على النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه، فجاء جبريل فأخبره بما هموا، فقام ومن معه، فنزلت: " يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم " الآية، وروي نحو هذا من طرق عن غيره، وقصة الأعرابي وهو غورث المذكور ثابتة في الصحيح.
قوله: 12- "ولقد أخذ الله" كلام مستأنف يتضمن ذكر بعض ما صدر من بني إسرائيل من الخيانة. وقد تقدم بيان الميثاق الذي أخذه الله عليهم. واختلف المفسرون في كيفية بعث هؤلاء النقباء بعد الإجماع منهم على أن النقيب كبير القوم العالم بأمورهم الذي ينقب عنها وعن مصالحهم فيها. والنقاب: الرجل العظيم الذي هو في الناس على هذه الطريقة، ويقال: نقيب القوم لشاهدهم وضمينهم. والنقيب: الطريق في الجبل هذا أصله، وسمي به نقيب القوم لأنه طريق إلى معرفة أمورهم. والنقيب: أعلى مكاناً من العريف، فقيل: المراد ببعث هؤلاء النقباء أنهم بعثوا أمناء على الاطلاع على الجبارين والنظر في قوتهم ومنعتهم فساروا ليختبروا حال من بها ويخبروا بذلك، فاطلعوا من الجبارين على قوة عظيمة وظنوا أنهم لا قبل لهم بها، فتعاقدوا بينهم على أن يخفوا ذلك عن بني إسرائيل وأن يعلموا به موسى، فلما انصرفوا إلى بني إسرائيل خان منهم عشرة فأخبروا قراباتهم، ففشا الخبر حتى بطل أمر الغزو وقالوا: "اذهب أنت وربك فقاتلا" وقيل: إن هؤلاء النقباء كفل كل واحد منهم على سبطه بأن يؤمنوا ويتقوا الله، وهذا معنى بعثهم، وسيأتي ذكر بعض ما قاله جماعة من السلف في ذلك. قوله: "وقال الله إني معكم" أي قال ذلك لبني إسرائيل، وقيل: للنقباء، والمعنى: إني معكم بالنصر والعون، واللام في قوله: "لئن أقمتم الصلاة" هي الموطئة للقسم المحذوف، وجوابه: "لأكفرن" وهو ساد مسد جواب الشرط. والتعزير: التعظيم والتوقير، وأنشد أبو عبيدة: وكم من ماجد لهم كريم ومن ليث يعـــزر في النــــدي أي يعظم ويوقر. ويطلق التعزير على الضرب والرد، يقال: عزرت فلاناً: إذا أدبته ورددته عن القبيح، فقوله: "وعزرتموهم" أي عظمتموهم على المعنى الأول، أو رددتم عنهم أعداءهم ومنعتموهم على الثاني. قوله: "وأقرضتم الله قرضاً حسناً" أي أنفقتم في وجوه الخير، و "قرضاً" مصدر محذوف الزوائد كقوله تعالى: "وأنبتها نباتاً حسناً" أو مفعول ثان لأقرضتم. والحسن: قيل هو ما طابت به النفس، وقيل ما ابتغي به وجه الله، وقيل الحلال. قوله: "فمن كفر بعد ذلك" أي بعد الميثاق أو بعد الشرط المذكور "فقد ضل سواء السبيل" أي أخطأ وسط الطريق.
قوله: 13- "فبما نقضهم ميثاقهم" الباء سببية وما زائدة، أي فبسبب نقضهم ميثاقهم "لعناهم" أي طردناهم وأبعدناهم "وجعلنا قلوبهم قاسية" أي صلبة لا تعي خيراً ولا تعقله. وقرأ حمزة والكسائي قسية بتشديد الياء من غير ألف، وهي قراءة ابن مسعود والنخعي ويحيى بن وثاب، يقال درهم قسي مخفف السين مشدد الياء: أي زائف، ذكر ذلك أبو عبيد. وقال الأصمعي وأبو عبيدة: درهم قسي كأنه معرب قاس. وقرأ الأعمش قسية بتخفيف الياء. وقرأ الباقون: "قاسية". "يحرفون الكلم عن مواضعه" الجملة مستأنفة لبيان حالهم أو حالية: أي يبدلونه بغيره أو يتأولونه على غير تأويله. وقرأ السلمي والنخعي الكلام. قوله: "ولا تزال تطلع على خائنة منهم" أي لا تزال يا محمد تقف على خائنة منهم، والخائنة: الخيانة، وقيل هو نعت لمحذوف، والتقدير فرقة خائنة، وقد تقع للمبالغة نحو علامة ونسابة إذا أردت المبالغة في وصفه بالخيانة، وقيل خائنة معصية. قوله: "إلا قليلاً منهم" استثناء من الضمير في "منهم" "فاعف عنهم واصفح" قيل هذا منسوخ بآية السيف، وقيل خاص بالمعاهدين.
قوله: 14- "ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم" أي في التوحيد والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به. قال الأخفش: هو كقولك أخذت من زيد ثوبه ودرهم، فرتبة الذين بعد أخذنا. وقال الكوفيون بخلافه، وقيل إن الضمير في قوله: "ميثاقهم" راجع إلى بني إسرائيل: أي أخذنا من النصارى مثل ميثاق المذكورين قبلهم من بني إسرائيل، وقال: "من الذين قالوا إنا نصارى" ولم يقل ومن النصارى للإيذان بأنهم كاذبون في دعوى النصرانية وأنهم أنصار الله. قوله: "فنسوا حظاً مما ذكروا به" أي نسوا من الميثاق المأخوذ عليهم نصيباً وافراً عقب أخذه عليهم "فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء" أي ألصقنا ذلك بهم، مأخوذ من الغراء: وهو ما يلصق الشيء بالشيء كالصمغ وشبهه يقال غرى بالشيء يغري غرياً بفتح الغين مقصوراً، وغراء بكسرها ممدوداً: أي أولع به حتى كأنه صار ملتصقاً به، ومثل الإغراء التحرش، وأغريت الكلب: أي أولعته بالصيد، والمراد بقوله: "بينهم" اليهود والنصارى لتقدم ذكرهم جميعاً، وقيل بين النصارى خاصة، لأنهم أقرب مذكور، وذلك لأنهم افترقوا إلى اليعقوبية والنسطورية والملكانية، وكفر بعضهم بعضاً، وتظاهروا بالعداوة في ذات بينهم. قال النحاس: وما أحسن ما قيل في معنى "أغرينا بينهم العداوة والبغضاء" إن الله عز وجل أمر بعداوة الكفار وإبغاضهم، فكل فرقة مأمورة بعداوة صاحبتها وإبغاضها. قوله: "وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون" تهديد لهم: أي سيلقون جزاء نقض الميثاق. وقد أخرج ابن جرير عن أبي العالية في قوله: "ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل" قال: أخذ مواثيقهم بأن يخلصوا له ولا يعبدوا غيره "وبعثنا منهم اثني عشر نقيباً" أي كفيلاً كفلوا عليهم بالوفاء لله بما واثقوه عليه من العهود فيما أمرهم به وفيما نهاهم عنه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله: "اثني عشر نقيباً" قال: من كل سبط من بني إسرائيل رجال أرسلهم موسى إلى الجبارين فوجدوهم يدخل في كم أحدهم اثنان منهم، ولا يحمل عنقود عنبهم إلا خمسة أنفس منهم في خشبة، ويدخل في شطر الرمانة إذا نزع حبها خمسة أنفس أو أربعة، فرجع النقباء كلهم ينهى سبطه عن قتالهم إلا يوشع بن نون وكالب بن يافنة، فإنهما أمرا الأسباط بقتال الجبارين ومجاهدتهم فعصوهما وأطاعوا الآخرين، فهما الرجلان اللذان أنعم الله عليهما، فتاهت بنو إسرائيل أربعين سنة يصبحون حيث أمسوا ويمسون حيث أصبحوا في تيههم ذلك، فضرب موسى الحجر لكل سبط عيناً حجراً لهم يحملونه معهم، فقال لهم موسى: اشربوا يا حمير، فنهاه الله عن سبهم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "اثني عشر نقيباً" قال: هم من بين إسرائيل بعثهم موسى لينظروا إلى المدينة فجاءوا بحبة من فاكهتهم وقر رجل، فقال: اقدروا قوة قوم وبأسهم وهذه فاكهتهم، فعند ذلك فتنوا فقالوا: لا نستطيع القتال "فاذهب أنت وربك فقاتلا" وقد ذكر ابن إسحاق أسماء هؤلاء الأسباط، وأسماؤهم مذكورة في السفر الرابع من التوراة، وفيه مخالفة لما ذكره ابن إسحاق. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وعزرتموهم" قال: أعنتموهم. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله: "وعزرتموهم" قال: نصرتموهم. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: "فبما نقضهم ميثاقهم" قال: هو ميثاق أخذه الله على أهل التوراة فنقضوه. وأخرج ابن جرير عنه في قوله: "يحرفون الكلم عن مواضعه" يعني حدود الله، يقولون إن أمركم محمد بما أنتم عليه فاقبلوه، وإن خالفكم فاحذروا، وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: "ونسوا حظاً مما ذكروا به" قال: نسوا الكتاب. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله: "ولا تزال تطلع على خائنة منهم" قال: هم يهود مثل الذي هموا به من النبي صلى الله عليه وسلم يوم دخل عليهم حائطهم. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في قوله: "ولا تزال تطلع على خائنة منهم" قال: كذب وفجور، وفي قوله: "فاعف عنهم واصفح" قال: لم يؤمر يومئذ بقتالهم، فأمره الله أن يعفو عنهم ويصفح ثم نسخ ذلك في براءة فقال: "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر" الآية. وأخرج أبو عبيد وابن جرير وابن المنذر عن إبراهيم النخعي في قوله: "فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة" قال: أغرى بعضهم ببعض بالخصومات والجدال في الدين.
الألف واللام في الكتاب للجنس والخطاب لليهود والنصارى 15- "قد جاءكم رسولنا" أي محمد صلى الله عليه وسلم حال كونه: "يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب" المنزل عليكم، وهو التوراة والإنجيل: كآية الرجم وقصة أصحاب السبت الممسوخين قردة " ويعفو عن كثير " مما تخفونه، فيترك بيانه لعدم اشتماله على ما يجب بيانه عليه من الأحكام الشرعية، فإن ما لم يكن كذلك لا فائدة تتعلق ببيانه إلا مجرد افتضاحكم، وقيل المعنى: إنه يعفو عن كثير فيتجاوزه ولا يخبركم به، وقيل: يعفو عن كثير منكم فلا يؤاخذكم بما يصدر منهم، والجملة في محل نصب عطفاً على الجملة الحالية: أعني قوله: "يبين لكم". قوله: "قد جاءكم من الله نور" جملة مستأنفة مشتملة على بيان أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد تضمنت بعثته فوائد غير ما تقدم من مجرد البيان. قال الزجاج: النور محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل الإسلام. والكتاب المبين: القرآن، فإنه المبين.
والضمير في قوله: 16- "يهدي به" راجع إلى الكتاب أو إليه وإلى النور لكونهما كالشيء الواحد "من اتبع رضوانه" أي ما رضيه الله، و "سبل السلام" طرق السلامة من العذاب الموصلة إلى السلام المنزهة عن كل آفة، وقيل المراد بالسلام: الإسلام "ويخرجهم من الظلمات" الكفرية "إلى النور" الإسلامي "ويهديهم إلى صراط مستقيم" إلى طريق يتوصلون بها إلى الحق لا عوج فيها ولا مخافة. وقد أخرج ابن جرير عن قتادة في قوله: "رسولنا" قال: هو محمد صلى الله عليه وسلم. وأخرج ابن جرير أيضاً عن عكرمة قال: "إن نبي الله صلى الله عليه وسلم أتاه اليهود يسألونه عن الرجم فقال: أيكم أعلم؟ فأشاروا إلى ابن صوريا، فناشده بالذي أنزل التوراة على موسى والذي رفع الطور بالمواثيق التي أخذت عليهم حتى أخذه أفكل، فقال: إنه لما كثير فينا جلدنا مائة جلدة وحالقنا الرؤوس، فحكم عليهم بالرجم، فنزلت هذه الآية". وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج نحوه. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله: " ويعفو عن كثير " يقول عن كثير من الذنوب. وأخرج ابن جرير عن السدي قال: "سبل السلام" هي سبيل الله الذي شرعه لعباده ودعاهم إليه وابتعث به رسله: وهو الإسلام.
ضمير الفصل في قوله: 17- "هو المسيح" يفيد الحصر، قيل وقد قال بذلك بعض طوائف النصارى، وقيل لم يقبل به أحد منهم، ولكن استلزم قولهم: "إن الله هو المسيح" لا غيره، وقد تقدم في آخر سورة النساء ما يكفي ويغني عن التكرار. قوله: "قل فمن يملك من الله شيئاً" الاستفهام للتوبيخ والتقريع، والملك، والملك: الضبط والحفظ والقدرة، من قولهم ملكت على فلان أمره: أي قدرت عليه: أي فمن يقدر أن يمنع "إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعاً" وإذا لم يقدر أحد أن يمنع من ذلك فلا إله إلا الله ولا رب غيره ولا معبود بحق سواه، ولو كان المسيح إلهاً كما تزعم النصارى لكان له من الأمر شيء، ولقدر على أن يدفع عن نفسه أقل حال ولم يقدر على أن يدفع عن أمه الموت عند نزوله بها، وتخصيصها بالذكر مع دخولها في عموم من في الأرض لكون الدفع منه عنها أولى وأحق من غيرها، فهو إذا لم يقدر على الدفع عنها أعجز عن أن يدفع عن غيرها، وذكر من في الأرض للدلالة على شمول قدرته، وأنه إذا أراد شيئاً كان لا معارض له في أمره ولا مشارك له في قضائه "ولله ملك السموات والأرض وما بينهما" أي ما بين النوعين من المخلوقات. قوله: "يخلق ما يشاء" جملة مستأنفة مسوقة لبيان أنه سبحانه خالق الخلق بحسب مشيئته، وأنه يقدر على كل شيء لا يستصعب عليه شيء.
قوله: 18- "وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه" أثبتت اليهود لأنفسها ما أثبتته لعزير حيث قالوا: "عزير ابن الله" وأثبتت النصارى لأنفسها ما أثبتته للمسيح حيث قالوا: "المسيح ابن الله" وقيل هو على حذف مضاف: أي نحن أتباع أبناء الله، وهكذا أثبتوا لأنفسهم أنهم أحباء الله بمجرد الدعوى الباطلة والأماني العاطلة، فأمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يرد عليهم، فقال: "قل فلم يعذبكم بذنوبكم" أي إن كنتم كما تزعمون، فما باله يعذبكم بما تقترفونه من الذنوب بالقتل والمسخ وبالنار في يوم القيامة كما تعترفون بذلك لقولكم: "لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة" فإن الابن من جنس أبيه لا يصدر عنه ما يستحيل على الأب وأنتم تذنبون، والحبيب لا يعذب حبيبه وأنتم تعذبون، فهذا يدل على أنكم كاذبون في هذه الدعوى. وهذا البرهان هو المسمى عند الجدليين ببرهان الخلف. قوله: "بل أنتم بشر ممن خلق" عطف على مقدر يدل عليه الكلام: أي فلستم حينئذ كذلك "بل أنتم بشر ممن خلق" أي من جنس من خلقه الله تعالى يحاسبهم على الخير والشر، ويجازي كل عامل بعمله "يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ولله ملك السموات والأرض وما بينهما" من الموجودات "وإليه المصير" أي تصيرون إليه عند انتقالكم من دار الدنيا إلى دار الآخرة. وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نعمان بن أضاء وبحري بن عمرو وشاس بن عدي فكلموه وكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الله وحذرهم نقمته، فقالوا: ما تخوفنا يا محمد "نحن أبناء الله وأحباؤه" كقول النصارى فأنزل الله فيهم: "وقالت اليهود والنصارى" إلى آخر الآية. وأخرج أحمد في مسنده عن أنس قال: " مر النبي صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه وصبي في الطريق، فلما رأت أمه القوم خشيت على ولدها أن يوطأ، فأقبلت تسعى وتقول: ابني ابني، فسعت فأخذته، فقال القوم: يا رسول الله ما كانت هذه لتلقي ابنها في النار؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ولا، والله لا يلقي حبيبه في النار". وإسناده في المسند هكذا: حدثنا ابن أبي عدي عن حميد عن أنس فذكره. ومعنى الآية يشير إلى معنى هذا الحديث، ولهذا قال بعض مشايخ الصوفية لبعض الفقهاء: أين تجد في القرآن أن الحبيب لا يعذب حبيبه؟ فلم يرد عليه، فتلا الصوفي هذه الآية. وأخرج أحمد في الزهد عن الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا والله لا يعذب الله حبيبه، ولكن قد يبتليه في الدنيا". وأخرج ابن جرير عن السدي في قوله: "يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء" يقول: يهدي منكم من يشاء في الدنيا فيغفر له، ويميت من يشاء منكم على كفره فيعذبه.
المراد بأهل الكتاب اليهود والنصارى. والرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم: 19- " ويبين الله لكم " حال. والمبين هو ما شرعه الله لعباده وحذف للعلم به، لأن بعثة الرسل إنما هي بذلك. والفترة أصلها السكون، يقال فتر الشيء: سكن، وقيل هي الانقطاع. قاله أبو علي الفارسي وغيره، ومنه فتر الماء: إذا انقطع عما كان عليه من البرد إلى السخونة، وفتر الرجل عن عمله: إذا انقطع عما كان عليه من الجد فيه، وامرأة فاترة الطرف: أي منقطعة عن حدة النظر. والمعنى: أنه انقطع الرسل قبل بعثه صلى الله عليه وسلم مدة من الزمان. واختلف في قدر مدة تلك الفترة وسيأتي بيان ذلك. قوله: "أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير" تعليل لمجيء الرسول بالبيان على حين فترة: أي كراهة أن تقولوا هذا القول معتذرين عن تفريطكم، و من في قوله: "من بشير" زائدة للمبالغة في نفي المجيء، والفاء في قوله: "فقد جاءكم" هي الفصيحة مثل قول الشاعر: فقد جئنا خراسانا أي لا تعتذروا فقد جاءكم بشير ونذير، وهو محمد صلى الله عليه وسلم "والله على كل شيء قدير" ومن جملة مقدوراته إرساله رسوله على فترة من الرسل. وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي، في الدلائل عن ابن عباس قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود إلى الإسلام، فرغبهم فيه وحذرهم فأبوا عليه، فقال لهم معاذ بن جبل وسعد بن عبادة وعقبة بن وهب: يا معشر يهود اتقوا الله فوالله إنكم لتعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه وتصفونه لنا بصفته، فقال رافع بن حرملة ووهب بن يهوذا: ما قلنا لكم هذا وما أنزل الله من كتاب من بعد موسى ولا أرسل بشيراً ولا نذيراً بعده، فأنزل الله: "يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل" الآية. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في الآية قال: هو محمد صلى الله عليه وسلم جاء بالحق الذي فرق الله به بين الحق والباطل فيه بيان وموعظة ونور وهدى وعصمة لمن أخذ به. قال: وكانت الفترة بين عيسى ومحمد ستمائة سنة وما شاء الله من ذلك. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عنه قال: كانت خمسمائة سنة وستين سنة. وقال الكلبي: خمسمائة سنة وأربعين سنة. وأخرج ابن المنذر عن ابن جرير قال: كانت خمسمائة سنة. وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال: كانت أربعمائة سنة وبضعاً وثلاثين سنة. وأخرج ابن سعد في كتاب الطبقات عن ابن عباس قال: كان بين موسى وعيسى ألف سنة وتسعمائة سنة ولم يكن بينهما فترة، فإنه أرسل بينهما ألف نبي من بني إسرائيل سوى من أرسل من غيرهم، وكان بين ميلاد عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم خمسمائة سنة وتسع وستون سنة، بعث في أولها ثلاثة أنبياء كما قال الله تعالى: "إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث" والذي عزز به شمعون وكان من الحواريين، وكانت الفترة التي لم يبعث الله فيها رسولاً أربعمائة سنة وأربعة وثلاثين سنة. وقد قيل غير ما ذكرنا.
هذه الآيات متضمنة للبيان من الله سبحانه بأن أسلاف اليهود الموجودين في عصر محمد صلى الله عليه وسلم تمردوا على موسى وعصوه كما تمرد هؤلاء على نبينا صلى الله عليه وسلم وعصوه، وفي ذلك تسلية له صلى الله عليه وسلم، وروي عن عبد الله بن كثير أنه قرأ: 20- "يا قوم اذكروا" بضم الميم وكذا قرأ فيما أشبهه، وتقديره: يا أيها القوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء: أي وقت هذا الجعل، وإيقاع الذكر على الوقت مع كون المقصود ما وقع فيه من الحوادث للمبالغة، لأن الأمر بذكر الوقت أمر بذكر ما وقع فيه بطريق الأولى، وامتن عليهم سبحانه بجعل الأنبياء فيهم مع كونه قد جعل أنبياء من غيرهم، لكثرة من بعثه من الأنبياء منهم، قوله: "وجعلكم ملوكاً" أي وجعل منكم ملوكاً، وإنما حذف حرف الجر لظهور أن معنى الكلام على تقديره، ويمكن أن يقال: إن منصب النبوة لما كان لعظم قدره وجلالة خطره بحيث لا ينسب إلى غير من هو له قال فيه: "إذ جعل فيكم أنبياء" ولما كان منصب الملك مما يجوز نسبته إلى غير من قال به كما تقول قرابة الملك نحن الملوك، قال فيه: "وجعلكم ملوكاً" وقيل المراد بالملك: أنهم ملكوا أمرهم بعد أن كانوا مملوكين لفرعون، فهم جميعاً ملوك بهذا المعنى: وقيل معناه: أنه جعلهم ذوي منازل لا يدخل عليهم غيرهم إلا بإذن، وقيل غير ذلك. والظاهر أن المراد من الآية الملك الحقيقي، ولو كان بمعنى آخر لما كان للامتنان به كثير معنى. فإن قلت: قد جعل غيرهم ملوكاً كما جعلهم. قلت: قد كثر الملوك فيهم كما كثر الأنبياء، فهذا وجه الامتنان. قوله: "وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين" أي من المن والسلوى والحجر والغمام وكثرة الأنبياء وكثرة الملوك وغير ذلك. والمراد عالمي زمانهم. وقيل إن الخطاب هاهنا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهو عدول عن الظاهر غير موجب، والصواب ما ذهب إليه جمهور المفسرين من أنه من كلام موسى لقومه وخاطبهم بهذا الخطاب توطئة وتمهيداً لما بعده من أمره لهم بدخول الأرض المقدسة.
وقد اختلف في تعيينها، فقال قتادة: هي الشام، وقال مجاهد: الطور وما حوله، وقال ابن عباس والسدي وغيرهما: أريحاء، وقال الزجاج: دمشق وفلسطين وبعض الأردن. وقول قتادة: يجمع هذه الأقوال المذكورة بعده. والمقدسة: المطهرة، وقيل المباركة 21- "التي كتب الله لكم" أي قسمها وقدرها لهم في سابق علمه وجعلها مسكناً لكم "ولا ترتدوا على أدباركم" أي لا ترجعوا عن أمري وتتركوا طاعتي وما أوجبته عليكم من قتال الجبارين جبنا وفشلاً "فتنقلبوا" بسبب ذلك "خاسرين" لخير الدنيا والآخرة.
22- "قالوا يا موسى إن فيها قوماً جبارين" قال الزجاج: الجبار من الآدميين العاتي، وهو الذي يجبر الناس على ما يريد، وأصله على هذا من الإجبار وهو الإكراه، فإنه يجبر غيره على ما يريده، يقال أجبره: إذا أكرهه، وقيل هو مأخوذ من جبر العظم، فأصل الجبار على هذا المصلح لأمر نفسه، ثم استعمل في كل من جر إلى نفسه نفعاً بحق أو باطل، وقيل إن جبر العظم راجع إلى معنى الإكراه. قال الفراء: لم أسمع فعالاً من أفعل إلا في حرفين، جبار من أجبر، ودراك من أدرك. والمراد هنا: أنهم قوم عظام الأجسام طوال متعاظمون، قيل هم قوم من بقية قوم عاد، وقيل هم من ولد عيص بن إسحاق، وقيل هم من الروم: ويقال إن منهم عوج بن عنق المشهور بالطول المفرط، وعنق هي بنت آدم، قيل كان طوله ثلاثة آلاف ذراع وثلثمائة وثلاثة وثلاثين ذراعاً وثلث ذراع. قال ابن كثير: وهذا شيء يستحيا من ذكره، ثم هو مخالف لما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله خلق آدم وطوله ستون ذراعاً ثم لم يزل الخلق ينقص" ثم قد ذكروا أن هذا الرجل كان كافراً، وأنه كان ولد زنية، وأنه امتنع من ركوب السفينة وأن الطوفان لم يصل إلى ركبته، وهذا كذب وافتراء، فإن الله ذكر أن نوحاً دعا على أهل الأرض من الكافرين فقال: "رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً"، وقال تعالى: " فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون * ثم أغرقنا بعد الباقين "، وقال تعالى: "لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم". وإذا كان ابن نوح الكافر غرق فكيف يبقى عوج بن عنق وهو كافر ولد زنية؟ هذا لا يسوغ في عقل ولا شرع، ثم في وجود رجل يقال له عوج بن عنق والله أعلم، انتهى كلامه. قلت: لم يأت في أمر هذا الرجل ما يقتضي تطويل الكلام في شأنه، وما هذا بأول كذبة اشتهرت في الناس، ولسنا بملزومين بدفع الأكاذيب التي وضعها القصاص ونفقت عند من لا يميز بين الصحيح والسقيم، فكم في بطون دفاتر التفاسير من أكاذيب وبلايا وأقاصيص كلها حديث خرافة، وما أحق من لا تمييز عنده لفن الرواية ولا معرفة به أن يدع التعرض لتفسير كتاب الله، ويضع هذه الحماقات والأضحوكات في المواضع المناسبة لها من كتب القصاص. قوله: "فإن يخرجوا منها فإنا داخلون" هذا تصريح بما هو مفهوم من الجملة التي قبل هذه الجملة لبيان أن امتناعهم من الدخول ليس إلا لهذا السبب.
قوله: 23- "قال رجلان" هما يوشع وكالب بن يوفنا أو ابن فانيا، وكانا من الإثني عشر نقيباً كما مر بيان ذلك. وقوله: "من الذين يخافون" أي يخافون من الله عز وجل، وقيل من الجبارين: أي هذان الرجلان من جملة القوم الذين يخافون من الجبارين، وقيل من الذين يخافون ضعف بني إسرائيل وجبنهم، وقيل إن الواو في "يخافون" لبني إسرائيل: أي من الذين يخافهم بنو إسرائيل. وقرأ مجاهد وسعيد بن جبير يخافون بضم الياء: أي يخافهم غيرهم. قوله: "أنعم الله عليهما" في محل رفع على أنه صفة ثانية لرجلان، بالإيمان واليقين بحصول ما وعدوا به من النصر والظفر "ادخلوا عليهم الباب" أي باب بلد الجبارين "فإذا دخلتموه فإنكم غالبون" قالا: هذه المقالة لبني إسرائيل. والظاهر أنهما قد علما بذلك من خبر موسى، أو قالاه ثقة بوعد الله، أو كانا قد عرفا أن الجبارين قد ملئت قلوبهم خوفاً ورعباً.
24- "قالوا" أي بنو إسرائيل لموسى "إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها" وكان هذا القول منهم فشلاً وجبناً أو عناداً وجرأة على الله وعلى رسوله "فاذهب أنت وربك فقاتلا" قالوا هذا جهلاً بالله عز وجل وبصفاته وكفراً بما يجب له، أو استهانة بالله ورسوله، وقيل أرادوا بالذهاب الإرادة والقصد، وقيل أرادوا بالرب هارون، وكان أكبر من موسى، وكان موسى يطيعه "إنا هاهنا قاعدون" أي لا نبرح هاهنا لا نتقدم معك ولا نتأخر عن هذا الموضع، وقيل أرادوا بذلك عدم التقدم لا عدم التأخر.
25- "قال" موسى "رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي" يحتمل أن يعطف وأخي على نفسي، وأن يعطف على الضمير في "إني" أي إني لا أملك إلا نفسي وإن أخي لا يملك إلا نفسه، قال هذا تحسراً وتحزناً واستجلاباً للنصر من الله عز وجل "فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين" أي افصل بيننا: يعني نفسه وأخاه وبين القوم الفاسقين وميزنا عن جملتهم ولا تلحقنا بهم في العقوبة، وقيل المعنى: فاقض بيننا وبينهم، وقيل إنما أراد في الآخرة. وقرأ عبيد بن عمير "فافرق" بكسر الراء.
26- "قال فإنها" أي الأرض المقدسة "محرمة عليهم" أي على هؤلاء العصاة بسبب امتناعهم من قتال الجبارين "أربعين سنة" ظرف للتحريم: أي أنه محرم عليهم دخولها هذه المدة لا زيادة عليه، فلا يخالف هذا التحريم ما تقدم من قوله: "التي كتب الله لكم" فإنها مكتوبة لمن بقي منهم بعد هذه المدة، وقيل إنه لم يدخلها أحد ممن قال: "إنا لن ندخلها" فيكون توقيت التحريم بهذه المدة باعتبار ذراريهم، وقيل إن "أربعين سنة" ظرف لقوله: "يتيهون في الأرض" أي يتيهون هذا المقدار فيكون التحريم مطلقاً. والموقت: هو التيه، وهو في اللغة الحيرة، يقال منه: تاه يتيه تيهاً أو توهاً إذا تحير، فالمعنى: يتحيرون في الأرض، قيل إن هذه الأرض التي تاهوا فيها كانت صغيرة نحو ستة فراسخ كانوا يمسون حيث أصبحوا ويصبحون حيث أمسوا، وكانوا سيارة مستمرين على ذلك لا قرار لهم. واختلف أهل العلم هل كان معهم موسى وهارون أم لا؟ فقيل لم يكونا معهم، لأن التيه عقوبة، وقيل كانا معهم لكن سهل الله عليهما ذلك كما جعل النار برداً وسلاماً على إبراهيمز وقد قيل كيف يقع هذا لجماعة من العقلاء في مثل هذه الأرض اليسيرة في هذه المدة الطويلة؟ قال أبو علي: يكون ذلك بأن يحول الله الأرض التي هم عليها إذا ناموا إلى المكان الذي ابتدأوا منه، وقد يكون بغير ذلك من الأسباب المانعة من الخروج عنها على طريق المعجزة الخارقة للعادة. وقد أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في قوله: "وجعلكم ملوكاً" قال: ملكهم الخدم، وكانوا أول من ملك الخدم. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية قال: كان الرجل من بني إسرائيل إذا كانت له الزوجة والخادم والدار سمي ملكاً. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عنه في الآية قال: الزوجة والخادم والبيت. وأخرج الفريابي وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في شعب الإيمان عنه أيضاً في قوله: "وجعلكم ملوكاً" قال: المرأة والخدم "وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين" قال: الذين هم بين ظهرانيهم يومئذ. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كان بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم ودابة وامرأة كتب ملكاً". وأخرج ابن جرير والزبير بن بكار في الموقفيات عن زيد بن أسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان له بيت وخادم فهو ملك". وأخرج أبو داود في مراسيله عن زيد بن أسلم في الآية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "زوجة ومسكن وخادم". وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سأله رجل: ألسنا من فقراء المهاجرين؟ قال: ألك امرأة تأوي إليها؟ قال: نعم، قال: ألك مسكن تسكنه؟ قال: نعم، قال: فأنت من الأغنياء، قال: إن لي خادماً، قال: فأنت من الملوك. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله: "وجعلكم ملوكاً" قال: جعل لهم أزواجاً وخدماً وبيوتاً "وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين" قال: المن والسلوى والحجر والغمام. وأخرج ابن جرير من طريق مجاهد عن ابن عباس في الآية قال: المن والسلوى والحجر والغمام، وقد ثبت في الحديث الصحيح: "من أصبح منكم معافى في جسده آمناً في سربه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها". وأخرج ابن جرير عنه في قوله: "ادخلوا الأرض المقدسة" قال: الطور وما حوله. وأخرج عنه أيضاً قال: هي أريحاء. وأخرج ابن عساكر عن معاذ بن جبل قال: هي ما بين العريش إلى الفرات. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة قال: هي الشام. وأخرج ابن جرير عن السدي في قوله: "التي كتب الله لكم" قال: التي أمركم الله بها. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في الآية قال: أمر القوم بها كما أمرنا بالصلاة والزكاة والحج والعمرة وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس أمر موسى أن يدخل مدينة الجبارين، فسار بمن معه حتى نزل قريباً من المدينة وهي أريحاء، فبعث إليهم اثني عشر عيناً من كل سبط منهم عين ليأتوه بخبر القوم، فدخلوا المدينة فرأوا أمراً عظيماً من هيئتهم وجسمهم وعظمهم، فدخلوا حائطاً لبعضهم فجاء صاحب الحائط ليجتني الثمار من حائطه، فجعل يجتني الثمار فنظر إلى آثارهم فتتبعهم، فكلما أصاب واحداً منهم أخذه فجعله في كمه مع الفاكهة حتى التقط الإثني عشر كلهم فجعلهم في كمه مع الفاكهة، وذهب إلى ملكهم فنثرهم بين يديه فقال الملك: قد رأيتم شأننا وأمرنا اذهبوا فأخبروا صاحبكم، قال: فرجعوا إلى موسى فأخبروه بما عاينوا من أمرهم، فقال: اكتموا عنا، فجعل الرجل يخبر أباه وصديقه ويقول: اكتم عني، فأشيع ذلك في عسكرهم ولم يكتم منهم إلا رجلان يوشع بن نون وكالب بن يوفنا وهما اللذان أنزل الله فيهما "قال رجلان من الذين يخافون". وقد روي نحو هذا مما يتضمن المبالغة في وصف هؤلاء وعظم أجسامهم، ولا فائدة في بسط ذلك فغالبه من أكاذيب القصاص كما قدمنا. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "فافرق" يقول: اقض. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه يقول: افصل بيننا وبينهم. وأخرج ابن جرير عن قتادة في قوله: "فإنها محرمة عليهم" قال: أبداً، وفي قوله: "يتيهون في الأرض" قال: أربعين سنة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: تاهوا أربعين سنة، فهلك موسى وهارون في التيه، وكل من جاوز الأربعين سنة، فلما مضت الأربعون سنة ناهضهم يوشع بن نون، وهو الذي قام بالأمر بعد موسى، وهو الذي افتتحها وهو الذي قيل له اليوم يوم جمعة، فهموا بافتتاحها فدنت الشمس للغروب، فخشي إن دخلت ليلة السبت أن يسبتوا، فنادى الشمس إني مأمور وأنت مأمورة فوقفت حتى افتتحها، فوجد فيها من الأموال ما لم يرد مثله قط، فقربوه إلى النار فلم تأت، فقال فيكم الغلول، فدعا رؤوس الأسباط وهم إثنا عشر رجلاً فبايعهم والتصقت يد رجل منهم بيده، فقال: الغلول عندك فأخرجه، فأخرج رأس بقرة من ذهب لها عينان من ياقوت وأسنان من لؤلؤ، فوضعه مع القربان فأتت النار فأكلتها. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: خلق لهم في التيه ثياب لا تخلق ولا تدرن.
ووجه اتصال هذا بما قبله التنبيه من الله على أن ظلم اليهود ونقضهم المواثيق والعهود هو كظلم ابن آدم لأخيه، فالداء قديم، والشر أصيل. وقد اختلف أهل العلم في ابني آدم المذكورين هل هما لصلبه أم لا؟ فذهب الجمهور إلى الأول. وذهب الحسن والضحاك إلى الثاني، وقالا: إنهما كانا من بني إسرائيل فضرب بهما المثل في إبانة حسد اليهود، وكانت بينهما خصومة فتقربا بقربانين ولم تكن القرابين إلا في بني إسرائيل. قال ابن عطية: وهذا وهم كيف يجهل صورة الدفن أحد من بني إسرائيل حتى يقتدي بالغراب؟ قال الجمهور من الصحابة فمن بعدهم: واسمهما قابيل وهابيل، وكان قربان قابيل حزمة من سنبل، لأنه كان صاحب زرع واختارها من أردأ زرعه، حتى إنه وجد فيها سنبلة طيبة ففركها وأكلها، وكان قربان هابيل كبشاً لأنه كان صاحب غنم أخذه من أجود غنمه، فتقبل قربان هابيل فرفع إلى الجنة فلم يزل يرعى فيها إلى أن فدى به الذبيح عليه السلام، كذا قال جماعة من السلف، ولم يتقبل قربان قابيل، فحسده وقال: لأقتلنك. وقيل سبب هذا القربان أن حواء كانت تلد في كل بطن ذكراً وأنثى، إلا شيثاً عليه السلام فإنها ولدته منفرداً، وكان آدم عليه السلام يزوج الذكر من هذا البطن بالأنثى من البطن الآخر، ولا تحل له أخته التي ولدت معه، فولدت مع قابيل أخت جميلة واسمها إقليما، ومع هابيل أخت ليست كذلك واسمها ليوذا فلما أراد آدم تزويجها قال قابيل: أنا أحق بأختي، فأمره آدم فلم يأتمر وزجره فلم ينزجر، فاتفقوا على القربان وأن يتزوجها من يقبل قربانه. 27- قوله: "بالحق" متعلق بمحذوف وقع صفة لمصدر "واتل" أي تلاوة متلبسة بالحق، أو صفة لنبأ: أي نبأ متلبساً بالحق، والمراد بأحدهما هابيل وبالآخر قابيل، و "قال لأقتلنك" استئناف بياني كأنه فماذا قال الذي لم يتقبل قربانه؟ وقوله: "قال إنما يتقبل الله من المتقين" استئناف كالأول كأنه قيل: فماذا قال الذي تقبل قربانه؟ وإنما للحصر: أي إنما يتقبل الله القربان من المتقين لا من غيرهم، وكأنه يقول لأخيه: إنما أتيت من قبل نفسك لا من قبلي، فإن عدم تقبل قربانك بسبب عدم تقواك.
قوله: 28- "لئن بسطت إلي يدك لتقتلني" أي لئن قصدت قتلي، واللام هي الموطئة، و "ما أنا بباسط" جواب القسم ساد مسد جواب الشرط، وهذا استسلام للقتل من هابيل، كما ورد في الحديث: "إذا كانت الفتنة فكن كخير ابني آدم، وتلا النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية". قال مجاهد: كان الفرض عليهم حينئذ أن لا يسل أحد سيفاً وأن لا يمتنع ممن يريد قتله. قال القرطبي: قال علماؤنا: وذلك مما يجوز ورود التعبد به، إلا أن في شرعنا يجوز دفعه إجماعاً، وفي وجوب ذلك عليه خلاف. والأصح وجوب ذلك لما فيه من النهي عن المنكر. وفي الحشوية قوم لا يجوزون للمصول عليه الدفع، واحتجوا بحديث أبي ذر، وحمله العلماء على ترك القتال في الفتنة وكف اليد عند الشبهة على ما بيناه في كتاب التذكرة، انتهى كلام القرطبي. وحديث أبي ذر المشار إليه هو عند مسلم وأهل السنن إلا النسائي، وفيه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: يا أبا ذر أرأيت إن قتل الناس بعضهم بعضاً كيف تصنع؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: اقعد في بيتك وأغلق عليك بابك، قال: فإن لم أترك، قال: فأت من أنت منهم فكن فيهم، قال: فآخذ سلاحي؟ قال: إذن تشاركهم فيما هم فيه، ولكن إذا خشيت أن يردعك شعاع السيف فألق طرف ردائك على وجهك كي يبوء بإثمه وإثمك". وفي معناه أحاديث عن جماعة من الصحابة سعد بن أبي وقاص وأبي هريرة وخباب بن الأرت وأبي بكر وابن مسعود وأبي واقد وأبي موسى.
قوله: 29- " إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار " هذا تعليل لامتناعه من المقاتلة بعد التعليل الأول وهو "إني أخاف الله رب العالمين". اختلف المفسرون في المعنى فقيل: أراد هابيل إني أريد أن تبوء بالإثم الذي كان يلحقني لو كنت حريصاً على قتلك، وبإثمك الذي تحملته بسبب قتلي، وقيل المراد بإثمي الذي يختص بي بسبب سيأتي فيطرح عليك بسبب ظلمك لي وتبوء بإثمك في قتلي. وهذا يوافق معناه معنى ما ثبت في صحيح مسلم من قوله صلى الله عليه وسلم: "يؤتى يوم القيامة بالظالم والمظلوم، فيؤخذ من حسنات الظالم فتزاد في حسنات المظلوم حتى ينتصف، فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات المظلوم فتطرح عليه"، ومثله قوله تعالى: "وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم" وقيل المعنى: إني أريد أن لا تبوء بإثمي وإثمك كما في قوله تعالى: "وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم" أي أن لا تميد بكم. وقوله: "يبين الله لكم أن تضلوا" أي أن لا تضلوا. وقال أكثر العلماء: إن المعنى " إني أريد أن تبوء بإثمي " أي بإثم قتلك لي: "وإثمك" الذي قد صار عليك بذنوبك من قبل قتلي. قال الثعلبي: هذا قول عامة المفسرين وقيل هو على وجه الإنكار: أي أو إني أريد على وجه الإنكار كقوله تعالى: "وتلك نعمة" أي أو تلك نعمة. قاله القشيري، ووجهه، بأن إرادة القتل معصية. وسئل أبو الحسن بن كيسان كيف يريد المؤمن أن يأثم أخوه وأن يدخل النار؟ فقال: وقعت الإرادة بعدما بسط يده إليه بالقتل، وهذا بعيد جداً، وكذلك الذي قبله. وأصل باء رجع إلى المباءة، وهي المنزل -وباءوا بغضب من الله- أي رجعوا.
قوله: 30- "فطوعت له نفسه قتل أخيه" أي سهلت نفسه عليه الأمر وشجعته وصورت له أن قتل أخيه طوع يده سهل عليه، يقال تطوع الشيء: أي سهل وانقاد وطوعه فلان له: أي سهله. قال الهروي: طوعت وطاوعت واحد، يقال طاع له كذا: إذا أتاه طوعاً، وفي ذكر تطويع نفسه له بعدما تقدم من قول قابيل: "لأقتلنك" وقول هابيل: "لتقتلني" دليل على أن التطويع لم يكن قد حصل له عند تلك المقاولة. قوله: "فقتله". قال ابن جرير ومجاهد وغيرهما: روي أنه جهل كيف يقتل أخاه فجاءه إبليس بطائر أو حيوان غيره، فجعل يشدخ رأسه بين حجرين ليقتدي به قابيل ففعل، وقيل غير ذلك مما يحتاج إلى تصحيح الرواية.
قوله: 31- " فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوآة أخيه " قيل إنه لما قتل أخاه لم يدر كيف يواريه لكونه أول ميت مات من بني آدم، فبعث الله غرابين أخوين فاقتتلا فقتل أحدهما صاحبه فحفر له ثم حثا عليه، فلما رآه قابيل " قال يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوآة أخي " فواراه، والضمير المستكن في "ليريه" للغراب، وقيل لله سبحانه، و "كيف" في محل نصب على الحال من ضمير "يواري" والجملة ثاني مفعولي يريه. والمراد بالسوأة هنا ذاته كلها لكونها ميتة، و "قال" استئناف جواب سؤال مقدر من سوق الكلام، كأنه قيل: فماذا قال عند أن شاهد الغراب يفعل ذلك؟ و "يا ويلتى" كلمة تحسر وتحزن، والألف بدل من ياء المتكلم كأنه دعا ويلته بأن تحضر في ذلك الوقت، والويلة الهلكة، والكلام خارج مخرج التعجب منه من عدم اهتدائه لمواراة أخيه كما اهتدى الغراب إلى ذلك "فأواري" بالنصب على أنه جواب الاستفهام، وقرئ بالسكون على تقدير فأنا أواري "فأصبح من النادمين" على قتله، وقيل لم يكن ندمه ندم توبة بل ندم لفقده، لا على قتله، وقيل غير ذلك. وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن عساكر عن ابن عباس قال: "نهى أن تنكح المرأة أخاها توأمها، وأن ينكحها غيره من إخوتها، وكان يولد له في كل بطن رجل وامرأة، فبينما هم كذلك ولد له امرأة وضيئة وولد له أخرى قبيحة دميمة، فقال أخو الدميمة: أنكحني أختك وأنكحك أختي، فقال: لا، أنا أحق بأختي، فقربا قرباناً، فجاء صاحب الغنم بكبش أعين أقرن أبيض، وصاحب الحرث بصبرة من طعام فتقبل من صاحب الكبش، ولم يتقبل من صاحب الزرع". قال ابن كثير في تفسيره: إسناده جيد، وكذا قال السيوطي في الدر المنثور. وأخرج ابن جرير عنه قال: كان من شأن بني آدم أنه لم يكن مسكين يتصدق عليه، وإنما كان القربان يقربه الرجل، فبينما ابنا آدم قاعدان إذ قالا لو قربنا قرباناً ثم ذكرا ما قرباه. وأخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله: "لئن بسطت إلي يدك" قال: كتب عليهم إذا أراد الرجل أن يقتل رجلاً تركه ولا يمتنع منه. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج نحوه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله: " إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك " يقول: إني أريد أن تكون عليك خطيئتك ودمي فتبوء بهما جميعاً. وأخرج ابن جرير عنه "بإثمي" قال: بقتلك إياي "وإثمك"، قال: بما كان منك قبل ذلك. وأخرج عن قتادة والضحاك مثله. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله: "فطوعت له نفسه قتل أخيه" قال: شجعته على قتل أخيه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في الآية قال: زينت له نفسه. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود وناس من الصحابة في قوله: "فطوعت له نفسه قتل أخيه" فطلبه ليقتله فراغ الغلام منه في رؤوس الجبال فأتاه يوماً من الأيام وهو يرعى غنماً له وهو نائم، فرفع صخرة فشدخ بها رأسه فمات، فتركه بالعراء ولا يعلم كيف يدفن فبعث الله غرابين أخوين فاقتتلا فقتل أحدهما صاحبه فحفر له ثم حثا عليه، فلما رآه "قال يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب". وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أول من سن القتل". وقد روي في صفة قتله لأخيه روايات الله أعلم بصحتها.
قوله: 32- "من أجل ذلك" أي من أجل ذلك القاتل وجريرته وبسبب معصيته، وقال الزجاج: أي من جنايته قال: يقال أجل الرجل على أهله شراً يأجل أجلا إذا جنى مثل أخذ يأخذ أخذاً. وقرأ أبو جعفر من أجل بكسر النون وحذف الهمزة، وهي لغة. قال في شرح الدرة: قرأ أبو جعفر منفرداً من أجل ذلك بكسر الهمزة مع نقل حركتها إلى النون قبلها، وقيل يجوز أن يكون قوله: "من أجل ذلك" متعلقاً بقوله: "من النادمين" فيكون الوقف على قوله: "من أجل ذلك" والأولى ما قدمنا، والمعنى: أن نبأ ابني آدم هو الذي تسبب عنه الكتب المذكور على بني إسرائيل، وعلى هذا جمهور المفسرين. وخص بني إسرائيل بالذكر لأن السياق في تعداد جناياتهم، ولأنهم أول أمة نزل الوعيد عليهم في قتل الأنفس، ووقع التغليظ فيهم إذ ذاك لكثرة سفكهم للدماء وقتلهم للأنبياء وتقديم الجار والمجرور على الفعل الذي هو متعلق به أعني كتبنا: يفيد القصر: أي من أجل ذلك لا من غيره، ومن لابتداء الغاية "أنه من قتل نفساً" واحدة من هذا النفوس "بغير نفس" أي بغير نفس توجب القصاص فيخرج عن هذا من قتل نفساً بنفس قصاصاً. قوله: "أو فساد في الأرض" قرأ الجمهور بالجر عطفاً على نفس. وقرأ الحسن بالنصب على تقدير فعل محذوف يدل عليه أول الكلام تقديره: أو أحدث فساداً في الأرض، وفي هذا ضعف. ومعنى قراءة الجمهور: أن من قتل نفساً بغير سبب من قصاص أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً. وقد تقرر أن كل حكم مشروط يتحقق أحد شيئين فنقيضه مشروط بانتفائهما معاً، وكل حكم مشروط بتحققهما معاً فنقيضه مشروط بانتفاء أحدهما ضرورة أن نقيض كل شيء مشروط بنقيض شرطه. وقد اختلف في هذا الفساد المذكور في هذه الآية ماذا هو؟ فقيل هو الشرك، وقيل قطع الطريق. وظاهر النظم القرآني أنه ما يصدق عليه أنه فساد في الأرض، فالشرك فساد في الأرض، وقطع الطريق فساد في الأرض، وسفك الدماء وهتك الحرم ونهب الأموال فساد في الأرض، والبغي على عباد الله بغير حق فساد في الأرض، وهدم البنيان وقطع الأشجار وتغوير الأنهار فساد في الأرض، فعرفت بهذا أنه يصدق على هذه الأنواع أنها فساد في الأرض، وهكذا الفساد الذي سيأتي في قوله: "ويسعون في الأرض فساداً" يصدق على هذه الأنواع، وسيأتي تمام الكلام على معنى الفساد قريباً. قوله: "فكأنما قتل الناس جميعاً". اختلف المفسرون في تحقيق هذا التشبيه للقطع بأن عقاب من قتل الناس جميعاً أشد من عقاب من قتل واحداً منهم. فروي عن ابن عباس أنه قال: المعنى من قتل نبياً أو إمام عدل فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياه بأن شد عضده ونصره فكأنما أحيا الناس جميعاً. أخرج هذا عنه ابن جرير. وروي عن مجاهد أنه قال: المعنى أن الذي يقتل النفس المؤمنة متعمداً جعل الله جزاءه جهنم وغضب عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً، فلو قتل الناس جميعاً لم يزد على هذا قال: ومن سلم من قتل فلم يقتل أحداً فكأنما أحيا الناس جميعاً. وقد أخرج نحو هذا عنه عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر، وروي عن ابن عباس أيضاً أنه قال في تفسير هذه الآية: أوبق نفسه كما لو قتل الناس جميعاً، أخرجه عنه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم. وروي عن الحسن أنه قال: فكأنما قتل الناس جميعاً في الوزر، وكأنما أحيا الناس جميعاً في الأجر. وقال ابن زيد: المعنى أن من قتل نفساً فيلزمه من القود والقصاص ما يلزم من قتل الناس جميعاً "ومن أحياها" أي من عفا عمن وجب قتله، حكاه عنه القرطبي. وحكي عن الحسن أنه العفو بعد المقدرة: يعني أحياها. وروي عن مجاهد أن إحياءها: إنجاؤها من غرق أو حرق أو هدم أو هلكة، حكاه عنه ابن جرير وابن المنذر، وقيل المعنى: أن من قتل نفساً فالمؤمنون كلهم خصماؤه، لأنه قد وتر الجميع "ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً" أي وجب على الكل شكره، وقيل المعنى: أن من استحل واحداً فقد استحل الجميع لأنه أنكر الشرع. وعلى كل حال فالإحياء هنا عبارة عن الترك والإنقاذ من هلكة فهو مجاز، إذ المعنى الحقيقي مختص بالله عز وجل. والمراد بهذا التشبيه في جانب القتل تهويل أمر القتل وتعظيم أمره في النفوس حتى ينزجر عنه أهل الجرأة والجسارة وفي جانب الإحياء الترغيب إلى العفو عن الجناة واستنقاذ المتورطين في الهلكات. قوله: "ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات" جملة مستقلة مؤكدة باللام الموطئة للقسم متضمنة للإخبار بأن الرسل عليهم الصلاة والسلام قد جاءوا العباد بما شرعه الله لهم من الأحكام التي من جملتها أمر القتل، وثم في قوله: "ثم إن كثيراً منهم" للتراخي الرتبي والاستبعاد العقلي، والإشارة بقوله: "ذلك" إلى ما ذكر مما كتبه الله على بني إسرائيل: أي إن كثيراً منهم بعد ذلك الكتب "في الأرض لمسرفون" في القتل.
قوله: 33- "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله" قد اختلف في الناس في سبب نزول هذه الآية، فذهب الجمهور إلى أنها نزلت في العرنيين. وقال مالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي: لأنها نزلت فيمن خرج من المسلمين يقطع الطريق ويسعى في الأرض بالفساد. قال ابن المنذر: قول مالك صحيح.
قال أبو ثور محتجاً لهذا القول: إن قوله في هذه الآية 34- "إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم" يدل على أنها نزلت في غير أهل الشرك، لأنهم قد أجمعوا على أن أهل الشرك إذا وقعوا في أيدينا فأسلموا أن دماءهم تحرم، فدل ذلك على أن الآية نزلت في أهل الإسلام انتهى. وهكذا يدل على هذا قوله تعالى: "قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "الإسلام يهدم ما قبله". أخرجه مسلم وغيره، وحكى ابن جرير الطبري في تفسيره عن بعض أهل العلم أن هذه الآية: أعني آية المحاربة نسخت فعل النبي صلى الله عليه وسلم في العرنيين، ووقف الأمر على هذه الحدود. وروي عن محمد بن سيرين أنه قال: كان هذا قبل أن تنزل الحدود، يعني فعله صلى الله عليه وسلم بالعرنيين وبهذا قال جماعة من أهل العلم. وذهب جماعة آخرون إلى أن فعله صلى الله عليه وسلم بالعرنيين منسوخ بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن المثلة، والقائل بهذا مطالب ببيان تأخر الناسخ، وسيأتي سياق الروايات الواردة في سبب النزول. والحق أن هذه الآية تعم المشرك وغيره لمن ارتكب ما تضمنته، ولا اعتبار بخصوص السبب، بل الاعتبار بعموم اللفظ. قال القرطبي في تفسيره: ولا خلاف بين أهل العلم في أن حكم هذه الآية مترتب في المحاربين من أهل الإسلام وإن كانت نزلت في المرتدين أو اليهود انتهى. ومعنى قوله مترتب: أي ثابت، قيل المراد بمحاربة الله المذكورة في الآية هي محاربة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحاربة المسلمين في عصره ومن بعد عصره بطريق العبارة دون الدلالة ودون القياس، لأن ورود النص ليس بطريق خطاب المشافهة حتى يختص حكمه بالمكلفين عند النزول فيحتاج في تعميم الخطاب لغيرهم إلى دليل آخر، وقيل إنها جعلت محاربة المسلمين محاربة لله ولرسوله إكباراً لحربهم وتعظيماً لأذيتهم، لأن الله سبحانه لا يحارب ولا يغالب. والأولى أن تفسر محاربة الله سبحانه بمعاصيه ومخالفة شرائعه ومحاربة الرسول تحمل على معناها الحقيقي، وحكم أمته حكمه وهم أسوته. والسعي في الأرض فساداً يطلق على أنواع من الشر كما قدمنا قريباً. قال ابن كثير في تفسيره: قال كثير من السلف منهم سعيد بن المسيب: إن قرض الدراهم والدنانير من الإفساد في الأرض، وقد قال تعالى: "وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد" انتهى. إذا تقرر لك ما قررناه من عموم الآية ومن معنى المحاربة والسعي في الأرض فساداً، فاعلم أن ذلك يصدق على كل من وقع منه ذلك، سواء كان مسلماً أو كافراً، في مصر وغير مصر، في كل قليل وكثير، وجليل وحقير، وأن حكم الله في ذلك هو ما ورد في هذه الآية من القتل أو الصلب، أو قطع الأيدي والأرجل من خلاف، أو النفي من الأرض، ولكن لا يكون هذا حكم من فعل أي ذنب من الذنوب، بل من كان ذنبه هو التعدي على دماء العباد وأموالهم فيما عدا ما قد ورد له حكم غير هذا الحكم في كتاب الله أو سنة رسوله كالسرقة وما يجب فيه القصاص، لأنا نعلم أنه قد كان في زمنه صلى الله عليه وسلم من تقع منه ذنوب ومعاص غير ذلك، ولا يجري عليه صلى الله عليه وسلم هذا الحكم المذكور في هذه الآية، وبهذا تعرف ضعف ما روي عن مجاهد في تفسير المحاربة المذكورة في هذه الآية أنها الزنا والسرقة، ووجه ذلك أن هذين الذنبين قد ورد في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم لهما حكم غير هذا الحكم. وإذا عرفت ما هو الظاهر من معنى هذه الآية على مقتضى لغة العرب التي أمرنا بأن نفسر كتاب الله وسنة رسوله بها، فإياك أن تغتر بشيء من التفاصيل المروية، والمذاهب المحكية، إلا أن يأتيك الدليل الموجب لتخصيص هذا العموم أو تقييد هذا المعنى المفهوم من لغة العرب فأنت وذاك اعمل به وضعه في موضعه، وأما ما عداه: فدع عنك نهباً صيح في حجـراته وهات حديثاً ما حديث الرواحل على أنا سنذكر من هذه المذاهب ما تسمعه. اعلم أنه قد اختلف العلماء فيمن يستحق اسم المحاربة، فقال ابن عباس وسعيد بن المسيب ومجاهد وعطاء والحسن البصري وإبراهيم النخعي والضحاك وأبو ثور: إن من شهر السلاح في قبة الإسلام وأخاف السبيل ثم ظفر به وقدر عليه فإمام المسلمين فيه بالخيار: إن شاء قتله، وإن شاء صلبه، وإن شاء قطع يده ورجله. وبهذا قال مالك وصرح بأن المحارب عنده من حمل على الناس في مصر أو في برية أو كابرهم على أنفسهم وأموالهم دون نائرة ولا ذحل ولا عداوة. قال ابن المنذر: اختلف عن مالك في هذه المسألة فأثبت المحاربة في المصر مرة ونفى ذلك مرة. وروي عن ابن عباس غير ما تقدم فقال في قطاع الطريق: إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا، وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا، وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا مالاً نفوا من الأرض. وروي عن أبي مجلز وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي والحسن وقتادة والسدي وعطاء على اختلاف في الرواية عن بعضهم، وحكاه ابن كثير عن الجمهور. وقال أيضاً: وهكذا عن غير واحد من السلف والأئمة. وقال أبو حنيفة: إذا قتل قتل وإذا أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف، وإذا أخذ المال وقتل فالسلطان مخير فيه: إن شاء قطع يديه ورجليه، وإن شاء لم يقطع وقتله وصلبه. وقال أبو يوسف: القتل يأتي على كل شيء، ونحوه قول الأوزاعي. وقال الشافعي: إذا أخذ المال قطعت يده اليمنى وحسمت، ثم قطعت رجله اليسرى وحسمت وخلي، لأن هذه الجناية زادت على السرقة بالحرابة، وإذا قتل قتل وإذا أخذ المال وقتل قتل وصلب. وروي عنه أنه قال: يصلب ثلاثة أيام. وقال أحمد: إن قتل قتل، وإن أخذ المال قطعت يده ورجله كقول الشافعي، ولا أعلم لهذه التفاصيل دليلاً لا من كتاب الله ولا من سنة رسوله إلا ما رواه ابن جرير في تفسيره وتفرد بروايته فقال: حدثنا علي بن سهل، حدثنا الوليد بن مسلم عن يزيد بن أبي حبيب: أن عبد الملك بن مروان كتب إلى أنس بن مالك يسأله عن هذه الآية، فكتب إليه يخبره أن هذه الآية نزلت في أولئك النفر العرنيين وهم من بجيلة، قال أنس: فارتدوا عن الإسلام وقتلوا الراعي واستاقوا الإبل وأخافوا السبيل وأصابوا الفرج الحرام، قال أنس: فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عن القضاء فيمن حارب، فقال: من سرق وأخاف الطريق فاقطع يده لسرقته ورجله بإضافته، ومن قتل فاقتله، ومن قتل وأخاف السبيل واستحل الفرج الحرام فاصلبه. وهذا مع ما فيه من النكارة الشديدة لا يدرى كيف صحته؟ قال ابن كثير في تفسيره بعد ذكره لشيء من التفاصيل التي ذكرناها ما لفظه: ويشهد لهذا التفصيل الحديث الذي رواه ابن جرير في تفسيره إن صح سنده ثم ذكره. قوله: "ويسعون في الأرض فساداً" هو إما منتصب على المصدرية، أو على أنه مفعول له، أو على الحال بالتأويل: أي مفسدين. قوله: "أو يصلبوا" ظاهره أنهم يصلبون أحياء حتى يموتوا، لأنه أحد الأنواع التي خير الله بينها. وقال قوم: الصلب إنما يكون بعد القتل، ولا يجوز أن يصلب قبل القتل فيحال بينه وبين الصلاة والأكل والشرب. ويجاب بأن هذه عقوبة شرعها الله سبحانه في كتابه لعباده. قوله "أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف" ظاهره قطع إحدى اليدين وإحدى الرجلين من خلاف سواء كانت المقطوعة من اليدين هي اليمنى أو اليسرى، وكذلك الرجلان ولا يعتبر إلا أن يكون القطع من خلال إما يمنى اليدين مع يسرى الرجلين أو يسرى اليدين مع يمنى الرجلين، وقيل المراد بهذا قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى فقط. قوله: "أو ينفوا من الأرض" اختلف المفسرون في معناه، فقال السدي: هو أن يطلب بالخيل والرجل حتى يؤخذ فيقام عليه الحد أو يخرج من دار الإسلام هرباً. وهو محكي عن ابن عباس وأنس ومالك والحسن البصري والسدي والضحاك وقتادة وسعيد بن جبير والربيع بن أنس والزهري، حكاه الرماني في كتابه عنهم. وحكى عن الشافعي أنهم يخرجون من بلد إلى بلد ويطلبون لتقام عليهم الحدود، وبه قال الليث بن سعد. وروي عن مالك أنه ينفى من البلد الذي أحدث فيه إلى غيره ويحبس فيه كالزاني، ورجحه ابن جرير والقرطبي. وقال الكوفيون: نفيهم سجنهم، فينفى من سعة الدنيا إلى ضيقها. والظاهر من الآية أنه يطرد من الأرض التي وقع منه فيها ما وقع من غير سجن ولا غيره. والنفي قد يقع بمعنى الإهلاك وليس هو مراداً هنا. قوله: "ذلك لهم خزي في الدنيا" الإشارة إلى ما سبق ذكره من الأحكام، والخزي: الذل والفضيحة. قوله: "إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم" استثنى الله سبحانه التائبين قبل القدرة عليهم من عموم المعاقبين بالعقوبات السابقة، والظاهر عدم الفرق بين الدماء والأموال وبين غيرها من الذنوب الموجبة للعقوبات المعينة المحدودة فلا يطالب التائب قبل القدرة بشيء من ذلك، وعليه عمل الصحابة. وذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا يسقط القصاص وسائر حقوق الآدميين بالتوبة قبل القدرة، والحق الأول. وأما التوبة بعد القدرة فلا تسقط بها العقوبة المذكورة في الآية كما يدل عليه ذكر قيد "قبل أن تقدروا عليهم". قال القرطبي: وأجمع أهل العلم على أن السلطان ولي من حارب فإن قتل محارب أخا امرئ وأتاه في حال المحاربة، فليس إلى طالب الدم من أمر المحاربة شيء، ولا يجوز عفو ولي الدم. وقد أخرج ابن جرير عن الضحاك في قوله: "من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل" يقول: من أجل ابن آدم الذي قتل أخاه ظلماً. وأخرج ابن جرير عن الحسن أنه قيل له في هذه الآية يعني قوله: "فكأنما قتل الناس جميعاً" أهي لنا كما كانت لبني إسرائيل؟ فقال: أي والذي لا إله غيره. وأخرج أبو داود والنسائي عن ابن عباس في قوله: "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله" قال: نزلت في المشركين، فمن تاب منهم قبل أن يقدر عليه لم يكن عليه سبيل وليست تحرز هذه الآية الرجل المسلم من الحد إن قتل أو أفسد في الأرض أو حارب الله ورسوله. وأخرج ابن جرير والطبراني في الكبير عنه في هذه الآية قال: كان قوم من أهل الكتاب بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد وميثاق، فنقضوا العهد وأفسدوا في الأرض، فخير الله نبيه فيهم: إن شاء قتل وإن شاء صلب وإن شاء أن يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وأما النفي فهو الضرب في الأرض، فإن جاء تائباً فدخل في الإسلام قبل منه، ولم يؤخذ بما سلف. وأخرج ابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص أن هذه الآية نزلت في الحرورية. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس أن نفراً من عكل قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلموا واجتووا المدينة، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتوا إبل الصدقة، فيشربوا من أبوالها وألبانها، فقتلوا راعيها واستاقوها، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في طلبهم قافة، فأتي بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم ولم يحسمهم وتركهم حتى ماتوا، فأنزل الله: "إنما جزاء الذين يحاربون" الآية. وفي مسلم عن أنس أنه قال: إنما سمل النبي صلى الله عليه وسلم أعين أولئك لأنهم سملوا أعين الرعاة. وأخرج الشافعي في الأم وعبد الرزاق والفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس في الآية قال: إذا خرج المحارب فأخذ المال ولم يقتل قطع من خلاف، وإذا خرج فقتل ولم يأخذ المال قتل، وإذا خرج وأخذ المال وقتل قتل وصلب، وإذا خرج فأخاف السبيل ولم يأخذ المال ولم يقتل نفي. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في الآية قال: من شهر السلاح في قبة الإسلام وأفسد السبيل فظهر عليه وقدر، فإمام المسلمين مخير فيه: إن شاء قتله، وإن شاء صلبه، وإن شاء قطع يده ورجله، قال: "أو ينفوا من الأرض" يهربوا ويخرجوا من دار الإسلام إلى دار الحرب. وأخرج ابن جرير عنه قال: نفيه أن يطلب. وأخرج أيضاً عن أنس نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا وابن جرير وابن أبي حاتم عن الشعبي قال: كان حارثة بن بدر التيمي من أهل البصرة قد أفسد في الأرض وحارب، فكلم رجالاً من قريش أن يستأمنوا له علياً فأبوا فأتى سعيد بن قيس الهمداني، فأتى علياً فقال: يا أمير المؤمنين ما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً؟ قال: "أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض" ثم قال: "إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم" فقال سعيد: وإن كان حارثة بن بدر، قال: وإن كان حارثة بن بدر، قال: هذا حارثة بن بدر، قد جاء تائباً فهو آمن، قال: نعم، فجاء به إليه فبايعه، وقبل ذلك منه وكتب له أماناً.
35- "ابتغوا" اطلبوا "إليه" لا إلى غيره، و "الوسيلة" فعيلة من توسلت إليه: إذا تقربت إليه. قال عنترة: إن الرجال لهم إليك وسيلـة إن يأخذوك تكحلي وتخضبي وقال آخر: إذا غفل الواشون عدنا لوصلنا وعاد التصابي بيننا والوسائل فالوسيلة: القربة التي ينبغي أن تطلب وبه قال أبو وائل والحسن ومجاهد وقتادة والسدي وابن زيد. وروي عن ابن عباس وعطاء وعبد الله بن كثير. قال ابن كثير في تفسيره: وهذا الذي قاله هؤلاء الأئمة لا خلاف بين المفسرين فيه. والوسيلة أيضاً درجة في الجنة مختصة برسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد ثبت في صحيح البخاري من حديث جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته، إلا حلت له الشفاعة يوم القيامة". وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي، فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه عشراً ثم سلوا لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة" وفي الباب أحاديث، وعطف "وابتغوا إليه الوسيلة" على "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله" يفيد أن الوسيلة غير التقوى، وقيل هي التقوى، لأنها ملاك الأمر وكل الخير فتكون الجملة الثانية على هذا مفسرة للجملة الأولى. والظاهر أن الوسيلة التي هي القربة تصدق على التقوى وعلى غيرها من خصال الخير التي يتقرب العباد بها إلى ربهم "وجاهدوا في سبيله" من لم يقبل دينه "لعلكم تفلحون".
قوله: "إن الذين كفروا" كلام مبتدأ مسوق لزجر الكفار وترغيب المسلمين في امتثال أوامر الله سبحانه "لو أن لهم ما في الأرض" من أموالها ومنافعها، وقيل المراد لكل واحد منهم ليكون أشد تهويلاً، وإن كان الظاهر من ضمير الجمع خلاف ذلك، و "جميعاً" تأكيد. وقوله: "ومثله" عطف على ما في الأرض، و "معه" في محل نصب على الحال "ليفتدوا به" ليجعلوه فدية لأنفسهم، وأفرد الضمير إما لكونه راجعاً إلى المذكور أو لكونه بمنزلة اسم الإشارة: أي ليفتدوا بذلك، و "من عذاب يوم القيامة" متعلق بالفعل المذكور "ما تقبل منهم" ذلك، وهذا هو جواب لو.
قوله: 37- "يريدون أن يخرجوا من النار" هذا استئناف بياني، كأنه قيل: كيف حالهم فيما هم فيه من هذا العذاب الأليم؟ فقيل يريدون أن يخرجوا من النار. وقرئ "أن يخرجوا" من أخرج، ويضعف هذه القراءة "وما هم بخارجين منها" ومحل هذه الجملة أعني قوله: "وما هم بخارجين منها" النصب على الحال، وقيل إنها جملة اعتراضية. وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وابتغوا إليه الوسيلة" قال: الوسيلة القربة. وأخرج الحاكم وصححه عن حذيفة مثله. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في قوله: "وابتغوا إليه الوسيلة" قال: تقربوا إلى الله بطاعته والعمل بما يرضيه. وأخرج مسلم وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يخرج من النار قوم فيدخلون الجنة" قال: يريد الفقير، فقلت لجابر يقول الله: "يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها" قال: اتل أول الآية "إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعاً ومثله معه ليفتدوا به" ألا إنهم الذين كفروا. وأخرج ابن جرير عن عكرمة: أن نافع بن الأزرق قال لابن عباس: تزعم أن قوماً يخرجون من النار وقد قال الله تعالى: "وما هم بخارجين منها" فقال ابن عباس: ويحك، اقرأ ما فوقها هذه للكفار. قال الزمخشري في الكشاف بعد ذكره لهذا: إنه مما لفقته المجبرة، ويا لله العجب من رجل لا يفرق بين أصح الصحيح وبين أكذب الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، يتعرض للكلام على ما لا يعرفه ولا يدري ما هو؟ وقد تواترت الأحاديث تواتراً لا يخفى على من له أدنى إلمام بعلم الرواية بأن عصاة الموحدين يخرجون من النار، فمن أنكر هذا فليس بأهل للمناظرة لأنه أنكر ما هو من ضروريات الشريعة، اللهم غفراً.
لما ذكر سبحانه حكم من يأخذ المال جهاراً وهو المحارب، عقبه بذكر من يأخذ المال خفية وهو السارق، وذكر السارقة مع السارق لزيادة البيان لأن غالب القرآن الاقتصار على الرجال في تشريع الأحكام. وقد اختلف أئمة النحو في خبر السارق والسارقة هل هو مقدر أم هو فاقطعوا؟ فذهب إلى الأول سيبويه، وقال تقديره: فيما فرض عليكم أو فيما يتلى عليكم السارق والسارقة: أي حكمهما. وذهب المبرد والزجاج إلى الثاني، ودخول الفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط، إذ المعنى: الذي سرق والتي سرقت، وقرئ 38- "والسارق والسارقة" بالنصب على تقدير اقطعوا، ورجح هذه القراءة سيبويه، قال: الوجه في كلام العرب النصب كما تقول زيداً اضربه، ولكن العامة أبت إلا الرفع، يعني عامة القراء، والسرقة بكسر الراء اسم الشيء المسروق والمصدر من سرق يسرق سرقاً قاله الجوهري: وهو أخذ الشيء في خفية من الأعين، ومنه استرق السمع، وسارقه النظر. قوله: "فاقطعوا" القطع معناه الإبانة والإزالة، وجمع الأيدي لكراهة الجمع بين تثنيتين، وقد بينت السنة المطهرة أن موضع القطع الرسغ. وقال قوم: يقطع من المرفق. وقال الخوارج: من المنكب. والسرقة لا بد أن تكون ربع دينار فصاعداً، ولا بد أن تكون من حرز كما وردت بذلك الأحاديث الصحيحة. وقد ذهب إلى اعتبار الربع الدينار الجمهور. وذهب قوم إلى التقدير بعشرة دراهم. وذهب الجمهور إلى اعتبار الحرز. وقال الحسن البصري إذا جمع الثياب في البيت قطع. وقد أطال الكلام في بحث السرقة أئمة الفقه وشراح الحديث بما لا يأتي التطويل به هاهنا بكثير فائدة. قوله: "جزاء بما كسبا" مفعول له: أي فاقطعوا للجزاء أو مصدر مؤكد لفعل محذوف: أي فجاوزهما جزاء، والباء سببية، وما مصدرية: أي بسبب كسبهما، أو موصولة: أي جزاء بالذي كسباه من السرقة. وقوله: "نكالاً" بدل من جزاء، وقيل هو علة للجزاء: والجزاء علة للقطع، يقال نكلت به: إذا فعلت به ما يجب أن ينكل به عن ذلك الفعل.
قوله: 39- "فإن الله يتوب عليه" ولكن اللفظ عام فيشمل السارق وغيره من المذنبين، والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وقد استدل بهذا عطاء وجماعة على أن القطع يسقط بالتوبة، وليس هذا الاستدلال بصحيح، لأن هذه الجملة الشرطية لا تفيد إلا مجرد قبول التوبة، وإن الله يتوب على من تاب، وليس فيها ما يفيد أنه لا قطع على التائب. وقد كان في زمن النبوة يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم من وجب عليه حد تائباً عن الذنب الذي ارتكبه طالباً لتطهيره بالحد فيحده النبي صلى الله عليه وسلم. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه قال للسارق بعد قطعه: تب إلى الله، ثم قال: تاب الله عليك". أخرجه الدارقطني من حديث أبي هريرة. وأخرج أحمد وغيره، أن هذه الآية نزلت في المرأة التي كانت تسرق المتاع، لما قالت للنبي صلى الله عليه وسلم بعد قطعها: هل لي من توبة. وقد ورد في السنة ما يدل على أن الحدود إذا رفعت إلى الأئمة وجبت وامتنع إسقاطها.
قوله: 40- "ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض" هذا الاستفهام للإنكار مع تقرير العلم وهو كالعنوان لقوله: "يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء" أي من كان له ملك السموات والأرض، فهو قادر على هذا التعذيب الموكول إلى المشيئة والمغفرة الموكولة إليها. وقد أخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: "جزاء بما كسبا نكالاً من الله" قال: لا ترثوا لهم فيه فإنه أمر الله الذي أمر به. قال: وذكر لنا أن عمر بن الخطاب كان يقول: اشتدوا على الفساق واجعلوهم يداً يداً ورجلاً رجلاً. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد في قوله: "فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه" يقول: الحد كفارته. والأحاديث في قدر نصاب السرقة وفي سائر ما يتعلق بتفاصيل هذا الحد مذكورة في كتب الحديث فلا نطيل بذلك.
قوله: 41- "لا يحزنك" قرأ نافع بضم الياء وكسر الزاي والباقون بفتح الياء وضم الزاي، والحزن والحزن خلاف السرور، وحزن الرجل بالكسر فهو حزن وحزين: وأحزنه غيره وحزنه. قال اليزيدي: حزنه لغة قريش وأحزنه لغة تميم، وقد قرئ بهما. وفي الآية النهي له صلى الله عليه وسلم عن التأثر لمسارعة الكفرة في كفرهم تأثراً بليغاً، لأن الله سبحانه قد وعده في غير موطن بالنصر عليهم، والمسارعة إلى الشيء: الوقوع فيه بسرعة. والمراد هنا وقوعهم في الكفر بسرعة عند وجود فرصة، وآثر لفظ في على لفظ إلى للدلالة على استقرارهم فيه، ومن في قوله: "من الذين قالوا" بيانية، والجملة مبينة للمسارعين في الكفر، والباء في "بأفواههم" متعلقة بقالوا لا بآمنا، وهؤلاء الذين قالوا آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم هم المنافقون "ومن الذين هادوا" يعني اليهود، وهو معطوف على "من الذين قالوا آمنا" وهو تمام الكلام. والمعنى: أن المسارعين في الكفر طائفة المنافقين وطائفة اليهود.
وقوله: 42- "سماعون للكذب" خبر مبتدأ محذوف: أي هم سماعون للكذب، فهو راجع إلى الفريقين أو إلى المسارعين، واللام في قوله: "للكذب" للتقوية أو لتضمين السماع معنى القبول، وقيل إن قوله: "سماعون" مبتدأ خبره "من الذين هادوا" أي ومن الذين هادوا قوم "سماعون للكذب" أي قابلون لكذب رؤسائهم المحرفين للتوراة. قوله: "سماعون لقوم آخرين" خبر ثان، واللام فيه كاللام في للكذب، وقيل اللام للتعليل في الموضعين أي سماعون لكلام رسول الله لأجل الكذب عليه، وسماعون لأجل قوم آخرين وجهوهم عيوناً لهم لأجل أن يبلغوهم ما سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: "لم يأتوك" صفة لقوم: أي لم يحضروا مجلسك وهم طائفة من اليهود كانوا لا يحضرون مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبراً وتمرداً، وقيل هم جماعة من المنافقين كانوا يتجنبون مجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الفراء: ويجوز سماعين كما قال: "ملعونين أينما ثقفوا". قوله: "يحرفون الكلم من بعد مواضعه" من جملة صفات القوم المذكورين: أي يميلونه عن مواضعه التي وضعه الله فيها ويتأولونه على غير تأويله. والمحرفون هم اليهود، وقيل إن هذه الجملة خبر مبتدأ محذوف، وقيل في محل نصب على الحال من "لم يأتوك" وقيل مستأنفة لا محل لها من الإعراب لقصد تعداد معايبهم ومثالبهم. ومعنى "من بعد مواضعه" من بعد كونه موضوعاً في مواضعه، أو من بعد وضعه في مواضعه التي وضعه الله فيها من حيث لفظه، أو من حيث معناه قوله: "يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه" جملة حالية من ضمير يحرفون، أو مستأنفة، أو صفة لقوم، أو خبر مبتدأ محذوف، والإشارة بقولهم: "هذا" إلى الكلام المحرف: أي إن أوتيتم من جهة محمد هذا الكلام الذي حرفناه فخذوه واعملوا به وإن لم تؤتوه بل جاءكم بغيره فاحذروا من قبوله والعمل به. قوله: "ومن يرد الله فتنته" أي ضلالته "فلن تملك له من الله شيئاً" أي فلا تستطيع دفع ذلك عنه ولا تقدر على نفعه وهدايته، وهذه الجملة مستأنفة مقررة لما قبلها، وظاهرها العموم ويدخل فيها هؤلاء الذين سياق الكلام معهم دخولاً أولياً، والإشارة بقوله: "أولئك" إلى من تقدم ذكرهم من الذين قالوا آمنا بأفواههم ومن الذين هادوا، وهو مبتدأ وخبره الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم: أي لم يرد تطهيرها من أرجاس الكفر والنفاق كما طهر قلوب المؤمنين "لهم في الدنيا خزي" بظهور نفاق المنافقين وبضرب الجزية على الكافرين وظهور تحريفهم وكتمهم لما أنزل الله في التوراة. قوله: "سماعون للكذب" كرره تأكيداً لقبحه، وليكون كالمقدمة لما بعده، وهو "أكالون للسحت" وهما من جملة أخبار ذلك المبتدأ المقدر سابقاً. والسحت بضم السين وسكون الحاء: المال الحرام، وأصله الهلاك والشدة، من سحته: إذا هلكه، ومنه "فيسحتكم بعذاب"، ومنه قول الفرزدق: وعض زمان يابن مروان لم يدع من المال إلا مسحت أو محلق ويقال للحالق اسحت: أي استأصل، وسمي الحرام سحتاً لأنه يسحت الطاعات: أي يذهبها ويستأصلها، وقال الفراء: أصله كلب الجوع، وقيل هو الرشوة، والأول أولى، والرشوة تدخل في الحرام دخولاً أولياً. وقد فسره جماعة بنوع من أنواع الحرام خاص كالهدية لمن يقضي له حاجة، وحلوان الكاهن، والتعميم أولى بالصواب. قوله: " فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم " فيه تخيير لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الحكم بينهم والإعراض عنهم. وقد استدل به على أن حكام المسلمين مخيرون بين الأمرين. وقد أجمع العلماء على أنه يجب على حكام المسلمين أن يحكموا بين المسلم والذمي إذا ترافعا إليهم. واختلفوا في أهل الذمة إذا ترافعوا فيما بينهم، فذهب قوم إلى التخيير، وذهب آخرون إلى الوجوب، وقالوا: إن هذه الآية منسوخة بقوله: "وأن احكم بينهم بما أنزل الله" وبه قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة والزهري وعمر بن عبد العزيز والسدي: وهو الصحيح من قول الشافعي، وحكاه القرطبي عن أكثر العلماء. قوله: "وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئاً" أي إن اخترت الإعراض عن الحكم بينهم فلا سبيل لهم عليك، لأن الله حافظك وناصرك عليهم، وإن اخترت الحكم بينهم "فاحكم بينهم بالقسط" أي بالعدل الذي أمرك الله به وأنزله عليك.
قوله: 43- "وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله" فيه تعجيب له صلى الله عليه وسلم من تحكيمهم إياه مع كونهم لا يؤمنون به ولا بما جاء به، مع أن ما يحكمونه فيه هو موجود عندهم في التوراة كالرجم ونحوه، وإنما يأتون إليه صلى الله عليه وسلم ويحكمونه طمعاً منهم في أن يوافق تحريفهم وما صنعوه بالتوراة من التغيير. قوله: "ثم يتولون" عطف على يحكمونك، "من بعد ذلك" أي من بعد تحكيمهم لك، وجملة قوله: "وما أولئك بالمؤمنين" لتقرير مضمون ما قبلها.
وقوله: 44- "إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور" استئناف يتضمن تعظيم التوراة وتفخيم شأنها وأن فيها الهدى والنور، وهو بيان الشرائع والتبشير بمحمد صلى الله عليه وسلم وإيجاب اتباعه. قوله: "يحكم بها النبيون" هم أنبياء بني إسرائيل، والجملة إما مستأنفة أو حالية، و "الذين أسلموا" صفة مادحة للنبيين، وفيه إرغام لليهود المعاصرين له صلى الله عليه وسلم بأن أنبياءهم كانوا يدينون بدين الإسلام الذي دان به محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل المراد بالنبيين محمد صلى الله عليه وسلم، وعبر عنه بلفظ الجمع تعظيماً. قوله: "للذين هادوا" متعلق بيحكم. والمعنى: أنه يحكم بها النبيون للذين هادوا عليهم. والربانيون العلماء الحكماء، وقد سبق تفسيره، والأحبار العلماء، مأخوذ من التحبير وهو التحسين فهم يحبرون العلم: أي يحسنونه. قال الجوهري: الحبر واحد أحبار اليهود بالفتح وبالكسر والكسر أفصح، وقال الفراء: هو بالكسر، وقال أبو عبيدة: هو بالفتح. قوله: "بما استحفظوا من كتاب الله" الباء للسببية واستحفظوا أمروا بالحفظ: أي أمرهم الأنبياء بحفظ التوراة عن التغيير والتبديل، والجار والمجرور متعلق بيحكم: أي يحكمون بها بسبب هذا الاستحفاظ. قوله: "وكانوا عليه شهداء" أي على كتاب الله والشهداء الرقباء، فهم يحمون عن التغيير والتبديل بهذه المراقبة، والخطاب بقوله: "فلا تخشوا الناس" لرؤساء اليهود، وكذا في قوله: "ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً" والاشتراء الاستبدال، وقد تقدم تحقيقه. قوله: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" لفظ من من صيغ العموم فيفيد أن هذا غير مختص بطائفة معينة بل بكل من ولي الحكم، وقيل إنها مختصة بأهل الكتاب، وقيل بالكفار مطلقاً لأن المسلم لا يكفر بارتكاب الكبيرة، وقيل هو محمول على أن الحكم بغير ما أنزل الله وقع استخفافاً، أو استحلالاً، أو جحداً، والإشارة بقوله: "أولئك" إلى من، والجمع باعتبار معناها، وكذلك ضمير الجماعة في قوله: "هم الكافرون". وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر" قال: هم اليهود "من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم" قال: هم المنافقون. وأخرج أحمد وأبو داود وابن جرير وابن المنذر والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عنه قال: إن الله أنزل "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، "الظالمون"، "الفاسقون" أنزلها الله في طائفتين من اليهود قهرت إحداهما الأخرى في الجاهلية حتى اصطلحوا على أن كل قتيل قتلته العزيزة من الذليلة فديته خمسون وسقاً، وكل قتيل قتلته الذليلة من العزيزة فديته مائة وسق، فكانوا على ذلك حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فذلت الطائفتان كلتاهما لمقدم رسول الله ورسول الله يومئذ لم يظهر عليهم، فقتلت الذليلة من العزيزة، فأرسلت العزيزة إلى الذليلة أن ابعثوا إلينا بمائة وسق، فقالت الذليلة: وهل كان هذا في حيين قط دينهما واحد ونسبهما واحد وبلدهما واحد ودية بعضهم نصف دية بعض؟ إنما أعطيناكم هذا ضيماً منكم لنا وفرقاً منكم، فأما إذا قدم محمد صلى الله عليه وسلم فلا نعطيكم ذلك، فكانت الحرب تهيج بينهما، ثم ارتضوا على أن جعلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما، ففكرت العزيزة فقالت: والله ما محمد يعطيكم منهم ضعف ما نعطيهم منكم، ولقد صدقوا، ما أعطونا هذا إلا ضيماً وقهراً لهم، فدسوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من يخبر لكم رأيه، فإن أعطاكم ما تريدون حكمتوه، وإن لم يعطكم حذرتموه ولم تحكموه، فدسوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ناساً من المنافقين يختبرون لهم رأيه، فلما جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر الله رسوله بأمرهم كله وما أرادوا، فأنزل الله "يا أيها الرسول لا يحزنك" إلى قوله: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" ثم قال فيهم: والله أنزلت وإياهم عنى. وأخرج عبد الرزاق وأحمد وعبد بن حميد وأبو داود وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن أبي هريرة قال:" أول مرجوم رجمه رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليهود زنى رجل منهم وامرأة، فقال بعضهم لبعض: اذهبوا بنا إلى هذا النبي، فإنه نبي بعث بالتخفيف، فإن أفتانا بفتيا دون الرجم قبلناها واحتججنا بها عند الله وقلنا: فتيا نبي من أنبيائك، قال: فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد وأصحابه، فقالوا: يا أبا القاسم ما ترى في رجل وامرأة منهم زنيا، فلم يكلمهم حتى أتى بيت مدراسهم، فقام على الباب: فقال: أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ما تجدون في التوراة على من زنى إذا أحصن؟ قالوا: يحمم ونجبه ويجلد، والتجبية: أن يحمل الزانيان على حمار وتقابل أقفيتهما ويطاف بهما وسكت شاب منهم فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم سكت ألظ به النشدة فقال: اللهم إذ نشدتنا نجب فإنا نجد في التوراة الرجم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فما أول ما ارتخصتم أمر الله؟، قال: زنى رجل ذو قرابة من ملك من ملوكنا فأخر عنه الرجم، ثم زنى رجل في أسرة من الناس فأراد رجمه، فحال قومه دونه، وقالوا: والله لا ترجم صاحبنا حتى تجيء بصاحبك فترجمه، فاصطلحوا هذه العقوبة بينهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: فإني أحكم بما في التوراة، فأمر بهما فرجما". قال الزهري: فبلغنا أن هذه الآية نزلت فيهم: "إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا" فكان النبي صلى الله عليه وسلم منهم. وأخرجه ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في سننه من طريق أخرى عن أبي هريرة، وذكر فيه أن الشاب المذكور هو عبد الله بن صوريا. وأخرج نحو حديث أبي هريرة أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي من حديث البراء بن عازب. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث عبد الله بن عمر: "أن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له أن رجلاً منهم وامرأة زنيا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تجدون في التوراة؟، قالوا: نفضحهم ويجلدون، قال عبد الله بن سلام: كذبتم إن فيها آية الرجم، فأتوا بالتوراة فنشروها، فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال عبد الله بن سلام: ارفع يدك، فرفع يده فإذا آية الرجم، قالوا صدق، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن جابر بن عبد الله في قوله: "ومن الذين هادوا سماعون للكذب" قال: يهود المدينة. "سماعون لقوم آخرين لم يأتوك" قال: يهود فدك "يحرفون الكلم" قال: يهود فدك يقولون ليهود المدينة "إن أوتيتم هذا" الجلد "فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا" الرجم. وأخرج أبو داود وابن ماجه وابن المنذر وابن مردويه عنه قال: زنى رجل من أهل فدك، فكتب أهل فدك إلى ناس من اليهود بالمدينة أن سلوا محمداً، وذكر القصة. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: "أكالون للسحت" قال: أخذوا الرشوة في الحكم وقضوا بالكذب. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن مسعود قال: السحت الرشوة في الدين. قال سفيان: يعني في الحكم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن مسعود أيضاً قال: من شفع لرجل ليدفع عنه مظلمة أو يرد عليه حقاً فأهدى له هدية فقبلها فذلك السحت فقيل له: يا أبا عبد الرحمن إنا كنا نعد السحت الرشوة في الحكم، فقال ذلك الكفر: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" وقد روي نحو هذا عنه من طرق. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: رشوة الحكام حرام. وهي السحت الذي ذكر الله في كتابه. وأخرج عبد بن حميد عن زيد بن ثابت قال: السحت الرشوة. وأخرج عبد بن حميد عن علي بن أبي طالب أنه سئل عن السحت فقال: الرشا، فقيل له في الحكم، قال: ذاك الكفر. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن عمر قال: بابان من السحت يأكلهما الناس: الرشاء في الحكم، ومهر الزانية. وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحريم الرشوة ما هو معروف. وأخرج أبو داود في ناسخه وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال: آيتان نسختا من سورة المائدة: آية القلائد، وقوله: " فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم " فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مخيراً: إن شاء حكم بينهم، وإن شاء أعرض عنهم، فردهم إلى أحكامهم، فنزلت "وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم" قال: فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحكم بينهم بما في كتابنا. وأخرج نحوه في الآية الآخرة عنه أبو عبيدة وابن المنذر وابن مردويه. وأخرج عبد الرزاق عن عكرمة نحوه. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس أن الآيات من المائدة التي قال فيها: "فاحكم بينهم أو أعرض عنهم" إلى قوله: "المقسطين" إنما نزلت في الدية من بني النضير وقريظة، وذلك أن قتلى بني النضير كان لهم شرف يودون الدية كاملة، وأن بني قريظة كانوا يودون نصف الدية، فتحاكموا في ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله ذلك فيهم، فحملهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحق في ذلك، فجعل الدية سواء. وأخرج نحوه عنه ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والحاكم وصححه والبيهقي في سننه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله: "وعندهم التوراة فيها حكم الله" يعني حدود الله فأخبره الله بحكمه في التوراة، قال: "وكتبنا عليهم فيها" إلى قوله: "والجروح قصاص". وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ عن الحسن في قوله: "يحكم بها النبيون الذين أسلموا" يعني النبي صلى الله عليه وسلم "للذين هادوا" يعني اليهود. وأخرج ابن جرير عن عكرمة قال: الذين أسلموا النبي ومن قبله من الأنبياء يحكمون بما فيها من الحق. وأخرج ابن جرير عن الحسن قال: الربانيون والأحبار الفقهاء والعلماء. وأخرج عن مجاهد قال: الربانيون العلماء الفقهاء، وهم فوق الأحبار. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال: الربانيون العباد، والأحبار العلماء. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: الربانيون الفقهاء العلماء. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه قال: الربانيون هم المؤمنون، والأحبار هم القراء. وأخرج ابن جرير عن السدي "فلا تخشوا الناس" فتكتموا ما أنزلت "ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً" على أن تكتموا ما أنزلت. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد "ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً" قال: لا تأكلوا السحت على كتابي. وأخرج ابن جرير وابن المذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ومن لم يحكم" يقول: من جحد الحكم بما أنزل الله فقد كفر، ومن أقر به ولم يحكم به فهو ظالم فاسق. وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" قال: إنه ليس بالكفر الذي يذهبون إليه وإنه ليس كفر ينقل من الملة بل دون كفره. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عطاء بن أبي رباح في قوله: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، "هم الظالمون"، "هم الفاسقون" قال: كفر دون كفر وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق. وأخرج سعيد بن منصور وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس قال: إنما أنزل الله "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" و "الظالمون" و "الفاسقون" في اليهود خاصة. وقد روي نحو هذا عن جماعة من السلف. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن حذيفة، أن هذه الآيات ذكرت عنده "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" و "الظالمون" و "الفاسقون" فقال رجل: إن هذا في بني إسرائيل، فقال حذيفة: نعم الإخوة لكم بنو إسرائيل، إن كان لكم كل حلوة ولهم كل مرة كلا، والله لتسلكن طريقهم قد الشراك. وأخرج ابن المنذر نحوه عن ابن عباس.
قوله: 45- "وكتبنا" معطوف على أنزلنا التوراة، ومعناها فرضنا، بين الله سبحانه في هذه الآية ما فرضه على بني إسرائيل: من القصاص في النفس، والعين، والأنف، والأذن، والسن، والجروح. وقد استدل أبو حنيفة وجماعة من أهل العلم بهذه الآية فقالوا: إنه يقتل المسلم بالذمي لأنه نفس. وقال الشافعي وجماعة من أهل العلم: إن هذه الآية خبر عن شرع من قبلنا وليس بشرع لنا. وقد قدمنا في البقرة في شرح قوله تعالى: "كتب عليكم القصاص في القتلى" ما فيه كفاية. وقد اختلف أهل العلم في شرع من قبلنا هل يلزمنا أم لا؟ فذهب الجمهور إلى أنه يلزمنا إذا لم ينسخ وهو الحق. وقد ذكر ابن الصباغ في الشامل إجماع العلماء على الاحتجاج بهذه الآية على ما دلت عليه. قال ابن كثير في تفسيره: وقد احتج الأئمة كلهم على أن الرجل يقتل بالمرأة لعموم هذه الآية الكريمة انتهى. وقد أوضحنا ما هو الحق في هذا في شرحنا على المنتقى، وفي هذه الآية لليهود وتقريع لكونهم يخالفون ما كتبه الله عليهم في التوراة كما حكاه هنا، ويفاضلون بين الأنفس كما سبق بيانه، وقد كانوا يقيدون بني النضير من بني قريظة ولا يقيدون بني قريظة من بني النضير. قوله: "والعين بالعين" قرأ نافع وعاصم والأعمش وحمزة بالنصب في جميعها على العطف. وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وأبو جعفر بالنصب أيضاً في الكل إلا في الجروح فبالرفع. وقرأ الكسائي وأبو عبيد بالرفع في الجميع عطفاً على المحل، لأن النفس قبل دخول الحرف الناصب عليها كانت مرفوعة على الابتداء. وقال الزجاج: يكون عطفاً على المضمر في النفس، لأن التقدير: إن النفس هي مأخوذة بالنفس، فالأسماء معطوفة على هي. قال ابن المنذر: ومن قرأ بالرفع جعل ذلك ابتداء كلام يتضمن بيان الحكم للمسلمين. والظاهر من النظم القرآن أن العين إذا فقئت حتى لم يبق فيا مجال للإدراك أنها تفقأ عين الجاني بها، والأنف إذا جدعت جميعها فإنها تجدع أنف الجاني بها، والأذن إذا قطعت جميعها فإنها تقطع أذن الجاني بها، وكذلك السن، فأما لو كانت الجناية ذهبت ببعض إدراك العين، أو ببعض الأنف، أو ببعض الأذن، أو ببعض السن، فليس في هذه الآية ما يدل على ثبوت القصاص. وقد اختلف أهل العلم في ذلك إذا كان معلوم القدر يمكن الوقوف على حقيقته، وكلامهم مدون في كتب الفروع. والظاهر من قوله: "والسن بالسن" أنه لا فرق بين الثنايا والأنياب والأضراس والرباعيات، وأنه يؤخذ بعضها ببعض، ولا فضل لبعض على بعض. وإليه ذهب أكثر أهل العلم، كما قال ابن المنذر، وخالف في ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومن تبعه، وكلامهم مدون في مواطنه، ولكنه ينبغي أن يكون المأخوذ في القصاص من الجاني هو المماثل للسن المأخوذة من المجني عليه، فإن كانت ذاهبة فما يليها. قوله: "والجروح قصاص" أي ذوات قصاص. وقد ذكر أهل العلم أنه لا قصاص في الجروح التي يخاف منها التلف، ولا فيما كان لا يعرف مقداره عمقاً أو طولاً أو عرضاً. وقد قدر أئمة الفقه أرش كل جراحة بمقادير معلومة، وليس هذا موضع بيان كلامهم، ولا موضع استيفاء بيان ما ورد له أرش مقدر. قوله: "فمن تصدق به فهو كفارة له" أي من تصدق من المستحقين للقصاص بالقصاص، بأن عفا عن الجاني فهو كفارة للمتصدق يكفر الله عنه بها ذنوبه. وقيل إن المعنى: فهو كفارة للجارح فلا يؤاخذ بجنايته في الآخرة لأن العفو يقوم مقام أخذ الحق منه. والأول أرجح، لأن الضمير يعود على هذا التفسير الآخر إلى غير مذكور. قوله: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون" ضمير الفصل مع اسم الإشارة وتعريف الخبر يستفاد منها أن هذا الظلم الصادر منهم ظلم عظيم بالغ إلى الغاية.
قوله: 46- "وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم" هذا شروع في بيان حكم الإنجيل بعد بيان حكم التوراة: أي جعلنا عيسى ابن مريم يقفو آثارهم: أي آثار النبيين الذين أسلموا من بني إسرائيل، يقال قفيته مثل عقبته: إذا أتبعته، ثم يقال قفيته بفلان وعقبته به فيتعدى إلى الثاني بالباء، والمفعول الأول محذوف استغناء عنه بالظرف، وهو على آثارهم لأنه إذا قفى به على أثره فقد قفى به إياه، وانتصاب "مصدقاً" على الحال من عيسى "وآتيناه الإنجيل" عطف على قفنا، ومحل الجملة أعني "فيه هدى" النصب على الحال من الإنجيل "ونور" عطف على هدى. وقوله: "ومصدقاً" معطوف على محل "فيه هدى" أي أن الإنجيل أوتيه عيسى حال كونه مشتملاً على الهدى والنور ومصدقاً لما بين يديه من التوراة، وقيل إن مصدقاً معطوف على مصدقاً الأول فيكون حالاً من عيسى مؤكداً للحال الأول ومقرراً له. والأول أولى لأن التأسيس خير من التأكيد. قوله: "وهدى وموعظة للمتقين" عطف على مصدقاً داخل تحت حكمه منضماً إليه: أي مصدقاً وهادياً وواعظاً للمتقين.
قوله: 47- "وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه" هذا أمر لأهل الإنجيل بأن يحكموا بما أنزل الله فيه، فإنه قبل البعثة المحمدية حق، وأما بعدها فقد أمروا في غير موضع بأن يعملوا بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن الناسخ لكل الكتب المنزلة. وقرأ الأعمش وحمزة بنصب الفعل من يحكم على أن اللام لام كي، وقرأ الباقون بالجزم على أن اللام للأمر فعلى القراءة الأولى تكون اللام متعلقة بقوله: وآتيناه الإنجيل ليحكم أهله بما أنزل الله فيه، وعلى القراءة الثانية هو كلام مستأنف. قال مكي: والاختيار الجزم، لأن الجماعة عليه، ولأن ما بعده من الوعيد والتهديد يدل على أنه إلزام من الله لأهل الإنجيل. وقال النحاس: والصواب عندي أنهما قراءتان حسنتان لأن الله سبحانه لم ينزل كتاباً إلا ليعمل بما فيه.
قوله: 48- "وأنزلنا إليك الكتاب" خطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم، والكتاب القرآن والتعريف للعهد، و "بالحق" متعلق بمحذوف وقع حالاً: أي متلبساً بالحق، وقيل هو حال من فاعل أنزلنا، وقيل من ضمير النبي صلى الله عليه وسلم و "مصدقاً لما بين يديه" حال من الكتاب، والتعريف في الكتاب أعني قوله: "مصدقاً لما بين يديه من الكتاب" للجنس: أي أنزلنا إليك يا محمد القرآن حال كونه متلبساً بالحق وحال كونه مصدقاً لما بين يديه من كتب الله المنزلة لكونه مشتملاً على الدعوة إلى الله والأمر بالخير والنهي عن الشر، كما اشتمل عليه قوله: "ومهيمناً عليه" عطف على مصدقاً، والضمير في عليه عائد إلى الكتاب الذي صدقه القرآن وهيمن عليه، والمهيمن الرقيب، وقيل الغالب المرتفع، وقيل الشاهد: وقيل الحافظ، وقيل المؤتمن. قال المبرد: أصله مؤيمن أبدل من الهمزة هاء، كما قيل في أرقت الماء هرقت، وبه قال الزجاج وأبو علي الفارسي. وقال الجوهري: هو من أمن غيره من الخوف، وأصله أأمن فهو مؤأمن بهمزتين قلبت الثانية ياء كراهة لاجتماعهما فصار مؤيمن ثم صيرت الأولى هاء، كما قالوا هراق الماء وأراقه، يقال هيمن على الشيء يهيمن: إذا كان له حافظاً، فهو له مهيمن كذا عن أبي عبيد. وقرأ مجاهد وابن محيصن مهيمناً عليه بفتح الميم، أي هيمن عليه الله سبحانه. والمعنى على قراءة الجمهور: أن القرآن صار شاهداً بصحة الكتب المنزلة ومقرراً لما فيها مما لم ينسخ وناسخاً لما خالفه منها، ورقيباً عليها وحافظاً لما فيها من أصول الشرائع، وغالباً لها لكونه المرجع في المحكم منها والمنسوخ، ومؤتمناً عليها لكونه مشتملاً على ما هو معمول به منها وما هو متروك. قوله: "فاحكم بينهم بما أنزل الله" أي بما أنزله إليك في القرآن لاشتماله على جميع ما شرعه الله لعباده في جميع الكتب السابقة عليه "ولا تتبع أهواءهم" أي أهواء أهل الملل السابقة. وقوله: "عما جاءك من الحق" متعلق بلا تتبع على تضمينه معنى لا تعدل أو لا تنحرف "عما جاءك من الحق" متبعاً لأهوائهم، وقيل متعلق بمحذوف: أي لا تتبع أهواءهم عادلاً أو منحرفاً عن الحق. وفيه النهي له صلى الله عليه وسلم عن أن يتبع أهوية أهل الكتاب ويعدل عن الحق الذي أنزله الله عليه، فإن كل ملة من الملل تهوى أن يكون الأمر على ما هم عليه وما أدركوا عليه سلفهم وإن كان باطلاً منسوخاً أو محرفاً عن الحكم الذي أنزله الله على الأنبياء، كما وقع في الرجم ونحوه مما حرفوه من كتب الله. قوله: "لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً" الشرعة والشريعة في الأصل: الطريقة الظاهرة التي يتوصل بها إلى الماء، ثم استعملت فيما شرعه الله لعباده من الدين. والمنهاج: الطريقة الواضحة البينة. وقال أبو العباس محمد بن يزيد المبرد الشريعة: ابتداء الطريق، والمنهاج الطريق المستمر. ومعنى الآية: أنه جعل التوراة لأهلها، والإنجيل لأهله، والقرآن لأهله وهذا قبل نسخ الشرائع السابقة بالقرآن وأما بعده فلا شرعة ولا منهاج إلا ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم. قوله: "ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة" بشريعة واحدة وكتاب واحد ورسول واحد "ولكن ليبلوكم" أي ولكن لم يشأ ذلك الاتحاد ، بل شاء الإبتلاء لكم باختلاف الشرائع ، فيكون " ليبلوكم " متعلقاً بمحفوظ دل عليه سياق الكلام وهو ما ذكرنا، ومعنى " في ما آتاكم " فيما أنزله عليكم من الشرائع المختلفة باختلاف الأوقات والأشخاص. قوله: "فاستبقوا الخيرات" أي إذا كان المشيئة قد قضت باختلاف الشرائع فاستبقوا إلى فعل ما أمرتم بفعله وترك ما أمرتم بتركه. والاستباق: المسارعة "إلى الله مرجعكم جميعاً" لا إلى غيره وهذه الجملة كالعلة لما قبلها.
قوله: 49- "وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم". عطف على الكتاب : أي أنزلنا عليك الكتاب والحكم بما فيه . وقد استدل بهذا على نسخ التخير المتقدم في قوله : " أو أعرض عنهم " وقد تقدم تفسير " ولا تتبع أهواءهم " . قوله: "واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك" أي يضلوك عنه ويصرفوك بسبب أهوائهم التي يريدون منك أن تعمل عليها وتؤثرها " فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم " أي إن أعرضوا عن قبول حكمك بما أنزل الله عليك فذلك لما أراده الله من تعذيبهم ببعض ذنوبهم وهو ذنب التولي عنك والإعراض عما جئت به "وإن كثيراً من الناس لفاسقون" متمردون عن قبول الحق خارجون عن الإنصاف.
قوله: 50- "أفحكم الجاهلية يبغون" الاستفهام للإنكار والتوبيخ، والفاء للعطف على مقدر كما في نظائره. والمعنى: أيعرضون عن حكمك بما أنزل الله عليك ويتولون عنه ويبتغون حكم الجاهلية، والاستفهام في "ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون" للإنكار أيضاً: أي لا أحسن من حكم الله عند أهل اليقين لا عند أهل الجهل والأهواء. وقد أخرج ابن المنذر عن ابن عباس "كتبنا عليهم فيها" في التوراة. وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عنه، قال: كتب عليهم هذا في التوراة، وكانوا يقتلون الحر بالعبد فيقولون كتب علينا أن النفس بالنفس. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عمر في قوله: "فمن تصدق به فهو كفارة له" قال: يهدم عنه من ذنوبه بقدر ما تصدق به. وأخرج ابن أبي حاتم عن جابر بن عبد الله "فهو كفارة له" قال: للمجروح. وأخرج أحمد والترمذي وابن ماجه عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من مسلم يصاب بشيء في جسده فيتصدق به إلا رفعه الله به درجة وحط عنه به خطيئة". وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس "ومهيمناً عليه" قال: مؤتمناً عليه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي عنه قال: المهيمن الأمين، والقرآن أمين على كل كتاب قبله. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عنه في قوله: "شرعة ومنهاجاً" قال: سبيلاً وسنة. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: قال كعب بن أسد وعبد الله بن صوريا وشاس بن قيس: اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا أن نفتنه عن دينه، فأتوه فقالوا: يا محمد إنك قد عرفت أنا أحبار يهود وأشرافهم وساداتهم، وإنا إن اتبعناك اتبعنا يهود، وإن بينا وبين قومنا خصومة فنحاكمهم إليك، فتقضي لنا عليهم ونؤمن بك ونصدقك، فأبى ذلك، وأنزل الله فيهم: "وأن احكم بينهم بما أنزل الله" إلى قوله: "لقوم يوقنون". وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "أفحكم الجاهلية يبغون" قال: يهود. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة قال: هذا في قتيل اليهود.
قوله: 51- "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا" الظاهر أنه خطاب للمؤمنين حقيقة، وقيل المراد بهم المنافقون، ووصفهم بالإيمان باعتبار ما كانوا يظهرونه. وقد كان يوالون اليهود والنصارى فنهوا عن ذلك. والأولى أن يكون خطاباً لكل من يتصف بالإيمان أعم من أن يكون ظاهراً وباطناً أو ظاهراً فقط، فيدخل المسلم والمنافق، ويؤيد هذا قوله: "فترى الذين في قلوبهم مرض" والاعتبار بعموم اللفظ، وسيأتي في بيان سبب نزول الآية ما يتضح به المراد. والمراد من النهي عن اتخاذهم أولياء أن يعاملوا معاملة الأولياء في المصادفة والمعاشرة والمناصرة. وقوله: "بعضهم أولياء بعض" تعليل للنهي، والمعنى: أن بعض اليهود أولياء البعض الآخر منهم، وبعض النصارى أولياء البعض الآخر منهم، وليس المراد بالبعض إحدى طائفتي اليهود والنصارى، وبالبعض الآخر الطائفة الأخرى للقطع بأنهم في غاية من العداوة والشقاق "وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء" وقيل المراد أن كل واحدة من الطائفتين توالي الأخرى وتعاضدها وتناصرها على عداوة النبي صلى الله عليه وسلم وعداوة ما جاء به وإن كانوا في ذات بينهم متعادين متضادين. ووجه تعليل النهي بهذه الجملة أنها تقتضي أن هذه الموالاة هي شأن هؤلاء الكفار لا شأنكم، فلا تفعلوا ما هو من فعلهم فتكونوا مثلهم، ولهذا عقب هذه الجملة التعليلية بما هو كالنتيجة لها فقال: "ومن يتولهم منكم فإنه منهم" أي فإنه من جملتهم وفي عدادهم وهو وعيد شديد فإن المعصية الموجبة للكفر هي التي قد بلغت إلى غاية ليس وراءها غاية. وقوله: "إن الله لا يهدي القوم الظالمين" تعليل للجملة التي قبلها: أي أن وقوعهم في الكفر هو بسبب عدم هدايته سبحانه لمن ظلم نفسه بما يوجب الكفر كمن يوالي الكافرين.
قوله: 52- "فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم" الفاء للسببية، والخطاب إما للرسول صلى الله عليه وسلم، أو لكل من يصلح له: أي ما ارتكبوه من الموالاة ووقعوا فيه من الكفر هو بسبب ما في قلوبهم من مرض النفاق. وقوله: "يسارعون" في محل نصب إما على أنه المفعول الثاني إذا كانت الرؤية قلبية أو على أنه حال إذا كانت بصرية، وجعل المسارعة في موالاتهم مسارعة فيهم للمبالغة في بيان رغوبهم في ذلك حتى كأنهم مستقرون فيهم داخلون في عدادهم. وقد قرئ " فسيرى " بالتحتية واختلف في فاعله ما هو؟ فقيل هو الله عز وجل، وقيل هو كل من تصح منه الرؤيا، وقيل هو الموصول ومفعوله "يسارعون فيهم" على حذف أن المصدرية: أي فيرى القوم الذين في قلوبهم مرض أن يسارعوا فيهم، فلما حذفت ارتفع الفعل كقوله: ألا أيهذا اللائمي أحضر الوغا والمرض في القلوب: هو النفاق والشك في الدين. وقوله: "يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة" جملة مشتملة على تعليل المسارعة في الموالاة: أي أن هذه الخشية هي الحاملة لهم على المسارعة، وقيل إن الجملة حال من ضمير يسارعون. والدائرة: ما تدور من مكاره الدهر: أي نخشى أن تظفر الكفار بمحمد صلى الله عليه وسلم فتكون الدولة لهم وتبطل دولته فيصيبنا منهم مكروه، ومنه قول الشاعر: يرد عنك القدر المقــــدورا ودائــرات الدهـــر أن تــدورا أي دولات الدهر الدائرة من قوم إلى قوم. وقوله: "فعسى الله أن يأتي بالفتح" رد عليهم ودفع لما وقع لهم من الخشية، وعسى في كلام الله وعد صادق لا يتخلف. والفتح: ظهور النبي صلى الله عليه وسلم على الكافرين، ومنه ما وقع من قتل مقاتلة بني قريظة وسبي ذراريهم، وإجلاء بني النضير، وقيل هو فتح بلاد المشركين على المسلمين، وقيل فتح مكة. والمراد بالأمر من عنده سبحانه هو كل ما تندفع به صولة اليهود ومن معهم وتنكسر به شوكتهم، وقيل هو إظهار أمر المنافقين وإخبار النبي صلى الله عليه وسلم بما أسروا في أنفسهم وأمره بقتلهم، وقيل هو الجزية التي جعلها الله عليهم، وقيل الخصب والسعة للمسلمين فيصبح المنافقون "على ما أسروا في أنفسهم" من النفاق الحامل لهم على الموالاة "نادمين" على ذلك لبطلان الأسباب التي تخيلوها وانكشاف خلافها.
قوله: 53- "يقول الذين آمنوا". قرأ أبو عمرو وابن أبي إسحاق وأهل الكوفة بإثبات الواو، وقرأ الباقون بحذفها، فعلى القراءة الأولى مع رفع يقول يكون كلاماً مبتدأ مسوقاً لبيان ما وقع من هذه الطائفة، وعلى قراءة النصب يكون عطفاً على "فيصبحوا" وقيل على "يأتي" والأولى أولى، لأن هذا القول إنما يصدر عن المؤمنين عند ظهور ندامة الكافرين لا عند إتيان الفتح، وقيل هو معطوف على الفتح كقول الشاعر: للبس عباءة وتقر عيني وأما على قراءة حذف الواو فالجملة مستأنفة جواب سؤال مقدر، والإشارة بقوله: "أهؤلاء" إلى المنافقين: أي يقول الذين آمنوا مخاطبين لليهود مشيرين إلى المنافقين "أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم" بالمناصرة والمعاضدة في القتال، أو يقول بعض المؤمنين لبعض مشيرين إلى المنافقين، وهذه الجملة مفسرة للقول. وجهد الأيمان: أغلظها، وهو منصوب على المصدر أو على الحال: أي أقسموا بالله جاهدين. قوله: "حبطت أعمالهم" أي بطلت وهو من تمام قول المؤمنين أو جملة مستأنفة والقائل الله سبحانه. والأعمال هي التي عملوها في الموالاة أو كل عمل يعملونه.
قوله: 54- " يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم " قرأ أهل المدينة والشام "يرتدد" بدالين بفك الإدغام، وهي لغة تميم، وقرأ غيرهم بالإدغام. وهذا شروع في بيان أحكام المرتدين بعد بيان أن موالاة الكافرين من المسلم كفر، وذلك نوع من أنواع الردة. والمراد بالقوم الذين وعد الله سبحانه بالإتيان بهم هم أبو بكر الصديق رضي الله عنه وجيشه من الصحابة والتابعين الذين قاتل بهم أهل الردة، ثم كل من جاء بعدهم من المقاتلين للمرتدين في جميع الزمن، ثم وصف سبحانه هؤلاء القوم بهذه الأوصاف العظيمة المشتملة على غاية المدح ونهاية الثناء من كونهم يحبون الله وهو يحبهم، ومن كونهم "أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم" والأذلة: جمع ذليل لا ذلول، والأعزة: جمع عزيز: أي يظهرون العطف والحنو والتواضع للمؤمنين ويظهرون الشدة والغلظة والترفع على الكافرين، ويجمعون بين المجاهدة في سبيل الله وعدم خوف الملامة في الدين، بل هم متصلبون لا يبالون بما يفعله أعداء الحق وحزب الشيطان من الإزراء بأهل الدين وقلب محاسنهم مساوئ ومناقبهم مثالب حسداً وبغضاً وكراهة للحق وأهله، والإشارة بقوله: "ذلك" إلى ما تقدم من الصفات التي اختصهم الله بها. والفضل: اللطف والإحسان.
قوله: 55- "إنما وليكم الله" لما فرغ سبحانه من بيان من لا تحل موالاته بين من هو الولي الذي تجب موالاته، ومحل "الذين يقيمون الصلاة" الرفع على أنه صفة للذين آمنوا أو بدل منه أو النصب على المدح. وقوله: "وهم راكعون" جملة حالية من فاعل الفعلين اللذين قبله. والمراد بالركوع: الخشوع والخضوع: أي يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم خاشعون خاضعون لا يتكبرون، وقيل هو حال من فاعل الزكاة. والمراد بالركوع هو المعنى المذكور: أي يضعون الزكاة في مواضعها غير متكبرين على الفقراء ولا مترفعين عليهم، وقيل المراد بالركوع على المعنى الثاني: ركوع الصلاة، ويدفعه عدم جواز إخراج الزكاة في تلك الحال.
56- " ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون " ثم وعد سبحانه من يتولى الله ورسوله والذين آمنوا بأنهم الغالبون لعدوهم، وهو من وضع الظاهر موضع المضمر، ووضع حزب الله موضع ضمير الموالين لله ولرسوله وللمؤمنين. والحزب: الصنف من الناس، من قولهم حزبه كذا: أي نابه، فكأن المتحزبين مجتمعون كاجتماع أهل النائبة التي تنوب، وحزب الرجل: أصحابه، والحزب: الورد. وفي الحديث: "فمن فاته حزبه من الليل" وتحزبوا: اجتمعوا. والأحزاب: الطوائف. وقد وقع، ولله الحمد ما وعد الله به أولياءه وأولياء رسله وأولياء عباده المؤمنين من الغلب لعدوهم، فإنهم غلبوا اليهود بالسبي والقتل والإجلاء وضرب الجزية، حتى صاروا لعنهم الله أذل الطوائف الكفرية وأقلهم شوكة، وما زالوا تحت كلكل المؤمنين يطحنونهم كيف شاءوا، ويمتهنونهم كما يريدون من بعد البعثة الشريفة المحمدية إلى هذه الغاية. وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الدلائل وابن عساكر عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت قال:" لما حاربت بنو قينقاع رسول الله صلى الله عليه وسلم تشبث بأمرهم عبد الله بن أبي بن سلول وقام دونهم، ومشى عبادة بن الصامت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبرأ إلى الله وإلى رسوله من خلفهم، وكان أحد بني عوف بن الخزرج، وله من حلفهم مثل الذي كان لهم من عبد الله بن أبي بن سلول، فخلعهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أتبرأ إلى الله وإلى رسوله من حلف هؤلاء الكفار وولايتهم. وفيه وفي عبد الله بن أبي نزلت الآيات في المائدة "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء" إلى قوله: "فإن حزب الله هم الغالبون"". وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: أسلم عبد الله بن أبي بن سلول، ثم قال: إن بيني وبين قريظة والنضير حلفاً وإني أخاف الدوائر، فارتد كافراً. وقال عبادة بن الصامت: أتبرأ إلى الله من حلف قريظة والنضير وأتولى الله ورسوله، فنزلت. وأخرج ابن مردويه أيضاً من طريق عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت عن أبيه عن جده نحو ذلك. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير عن عطية بن سعد قال: جاء عبادة فذكر نحو ما تقدم. وأخرج ابن جرير عن الزهري قال: لما انهزم أهل بدر قال المسلمون لأوليائهم من يهود: آمنوا قبل أن يصيبكم الله بيوم مثل يوم بدر، فقال مالك بن الصيف: غركم أن أصبتم رهطاً من قريش لا علم لهم بالقتال، أما لو أصررنا العزيمة أن نستجمع عليكم لم يكن لكم يدان بقتالنا، فقال عبادة وذكر نحو ما تقدم عنه وعن عبد الله بن أبي. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في هذه الآية "يا أيها الذين آمنوا" قال: إنها في الذبائح من دخل في دين قوم فهو منهم. وأخرج عبد بن حميد عن حذيفة قال: ليتق أحدكم أن يكون يهودياً أو نصرانياً وهو لا يشعر، وتلا "ومن يتولهم منكم فإنه منهم". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عطية "فترى الذين في قلوبهم مرض" كعبد الله بن أبي "يسارعون فيهم" في ولايتهم. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ والبيهقي في سننه وابن عساكر عن قتادة قال: أنزل الله هذه الآية " يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم " وقد علم أنه سيرتد مرتدون من الناس، فلما قبض الله نبيه صلى الله عليه وسلم ارتد عامة العرب عن الإسلام إلا ثلاثة مساجد: أهل المدينة، وأهل مكة، وأهل الجواثي من عبد القيس، وقال الذين ارتدوا: نصلي الصلاة ولا نزكي والله لا تغصب أموالنا، فكلم أبا بكر في ذلك ليتجاوز عنهم، وقيل له إنهم لو قد فقهوا أدوا الزكاة، فقال: والله لا أفرق بين شيء جمعه الله ولو منعوني عقالاً مما فرض الله ورسوله لقاتلتهم عليه، فبعث الله عصائب مع أبي بكر فقاتلوا حتى أقروا بالماعون وهو الزكاة. قال قتادة: فكنا نتحدث أن هذه الآية نزلت في أبي بكر وأصحابه "فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه" إلى آخر الآية. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي في الدلائل عن الحسن نحوه. وأخرج ابن جرير عن شريح بن عبيد قال:" لما أنزل الله " يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه " الآية، قال عمر: أنا وقومي يا رسول الله؟ قال:لا بل هذا وقومه، يعني أبا موسى الأشعري". وأخرج ابن سعد وابن أبي شيبة في مسنده وعبد بن حميد والحكيم الترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه والحاكم وصححه والبيهقي في الدلائل عن عياض الأشعري قال:" لما نزلت "فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هم قوم هذا، وأشار إلى أبي موسى الأشعري". وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه والحاكم في جمعه لحديث شعبة والبيهقي وابن عساكر عن أبي موسى الأشعري" قال: تليت عند النبي صلى الله عليه وسلم "فسوف يأتي الله بقوم" الآية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قومك يا أبا موسى أهل اليمن". وأخرج ابن أبي حاتم في الكنى والطبراني في الأوسط وأبو الشيخ وابن مردويه بسند حسن عن جابر بن عبد الله قال:" سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله: "فسوف يأتي الله بقوم" الآية، فقال:هؤلاء قوم من أهل اليمن ثم كندة ثم السكون ثم تجيب". وأخرج البخاري في تاريخه وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في الآية قال: هم قوم من أهل اليمن ثم من كندة ثم من السكون. وأخرج ابن أبي شيبة عنه قال: هم أهل القادسية. وأخرج البخاري في تاريخه عن القاسم بن مخيمرة قال: أتيت ابن عمر فرحب بي، ثم تلا "من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم" الآية، ثم ضرب على منكبي وقال: أحلف بالله إنكم لمنكم أهل اليمن ثلاثاً. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن عطية بن سعد. قال في قوله: "إنما وليكم الله ورسوله" إنها نزلت في عبادة بن الصامت. وأخرج الخطيب في المتفق والمفترق عن ابن عباس قال:" تصدق علي بخاتم وهو راكع، فقال النبي للسائل:من أعطاك هذا الخاتم؟، قال: ذاك الراكع، فأنزل الله فيه "إنما وليكم الله ورسوله"". وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت في علي بن أبي طالب. وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه وابن عساكر عن علي بن أبي طالب نحوه. وأخرج ابن مردويه عن عمار نحوه أيضاً. وأخرج الطبراني في الأوسط بسند فيه مجاهيل عنه نحوه.
قوله: 57- " لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا " هذا النهي عن موالاة المتخذين للدين هزواً ولعباً يعم كل من حصل منه ذلك من المشركين وأهل الكتاب وأهل البدع المنتمين إلى الإسلام، والبيان بقوله: "من الذين أوتوا الكتاب" إلى آخره لا ينافي دخول غيرهم تحت النهي إذا وجدت فيه العلة المذكورة التي هي الباعثة على النهي. قوله: "والكفار" قرأ أبو عمرو والكسائي بالجر على تقدير من: أي ومن الكفار. قال الكسائي: وفي حرف أبي (ومن الكفار) وقرأ من عداهما بالنصب. قال النحاس: وهو أوضح وأبين. وقال مكي: لولا اتفاق الجماعة على النصب لاخترت الخفض لقوته في الإعراب وفي المعنى، والمراد بالكفار هنا المشركون، وقيل المنافقون "واتقوا الله" يترك ما نهاكم عنه من هذا وغيره "إن كنتم مؤمنين" فإن الإيمان يقتضي ذلك.
والنداء الدعاء برفع الصوت وناداه مناداة ونداء: صاح به، وتنادوا: أي نادى بعضهم بعضاً. وتنادوا: أي جلسوا في النادي، والضمير في 58- "اتخذوها" للصلاة: أي اتخذوا صلاتكم هزؤاً ولعباً، وقيل الضمير للمناداة المدلول عليها بناديتم. قيل وليس في كتاب الله تعالى ذكر الأذان إلا في هذا الموضع، وأما قوله تعالى في الجمعة: "إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة" فهو خاص بنداء الجمعة. وقد اختلف أهل العلم في كون الأذان واجباً أو غير واجب، وفي ألفاظه وهو مبسوط في مواطنه. قوله: "ذلك بأنهم قوم لا يعقلون" أي ذلك بسبب أنهم قوم لا يعقلون، لأن الهزؤ واللعب شأن أهل السفه والخفة والطيش.
قوله: 59- "قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا" يقال: نقمت على الرجل بالكسر فأنا ناقم: إذا عبت عليه. قال الكسائي: نقمت بالكسر لغة، ونقمت الأمر أيضاً ونقمت: إذا كرهته، وانتقم الله منه: أي عاقبه، والاسم منه النقمة، والجمع نقمات، مثل كلمة وكلمات، وإن شئت سكنت القاف ونقلت حركتها إلى النون، والجمع نقم مثل نعمة ونعم، وقيل المعنى يسخطون، وقيل ينكرون. قال عبد الله بن قيس الرقيات: ما نقموا من بني أميـــة إلا أنهم يحملون إن غضبـــوا وقال الله سبحانه: "وما نقموا منهم" والمعنى في الآية: هل تعيبون أو تسخطون أو تنكرون أو تكرهون منا إلا إيماننا بالله وبكتبه المنزلة، وقد علمتم بأنا على الحق "وأن أكثركم فاسقون" بترككم للإيمان والخروج عن امتثال أوامر الله. وقوله: "وأن أكثركم فاسقون" معطوف على أن آمنا: أي ما تنقمون منا إلا الجمع بين إيماننا وبين تمردكم وخروجكم عن الإيمان. وفيه أن المؤمنين لم يجمعوا بين الأمرين المذكورين، فإن الإيمان من جهتهم والتمرد والخروج من جهة الناقمين، وقيل هو على تقدير محذوف: أي واعتقادنا أن أكثركم فاسقون، وقيل إن قوله: " أن آمنا " هو منصوب على أنه مفعول له والمفعول محذوف، فيكون "وأن أكثركم فاسقون" معطوفاً عليه عطف العلة على العلة، والتقدير: وما تنقمون منا إلا لأن آمنا، ولأن أكثركم فاسقون، وقيل معطوف على علة محذوفة، أي لقلة إنصافكم، ولأن أكثركم فاسقون، وقيل الواو في قوله: "وأن أكثركم فاسقون" هي التي بمعنى مع: أي ما تنقمون منا إلا الإيمان مع أن أكثركم فاسقون، وقيل هو منصوب بفعل محذوف يدل عليه هل تنقمون: أي ولا تنقمون أن أكثركم فاسقون، وقيل هو مرفوع على الابتداء والخبر محذوف: أي وفسقكم معلوم فتكون الجملة حالية، وقرئ بكسر إن من قوله: " وأن أكثركم فاسقون " فتكون جملة مستأنفة.
قوله: 60- "قل هل أنبئكم بشر من ذلك" بين الله سبحانه لرسوله أن فيهم من العيب ما هو أولى بالعيب، وهو ما هم عليه من الكفر الموجب للعن الله وغضبه ومسخه، والمعنى: هل أنبئكم بشر من نقمكم علينا أو بشر مما تريدون لنا من المكروه أو بشر من أهل الكتاب أو بشر من دينهم. وقوله: "مثوبة" أي جزاء ثابتاً، وهي مختصة بالخير كما أن العقوبة مختصة بالشر. ووضعت هنا موضع العقوبة على طريقة "فبشرهم بعذاب أليم" وهي منصوبة على التمييز من بشر. وقوله: " من لعنه الله " خبر لمبتدأ محذوف مع تقدير مضاف محذوف: أي هو لعن من لعنه الله أو هو دين من لعنه الله، ويجوز أن يكون في محل جر بدلاً من شر. قوله: "وجعل منهم القردة والخنازير" أي مسخ بعضهم قردة وبعضهم خنازير وهم اليهود، فإن الله مسخ أصحاب السبت قردة وكفار مائدة عيسى منهم خنازير. قوله: "وعبد الطاغوت" قرأ حمزة بضم الباء من عبد وكسر التاء من "الطاغوت" أي جعل منهم عبد الطاغوت بإضافة عبد إلى الطاغوت. والمعنى: وجعل منهم من يبالغ في عبادة الطاغوت، لأن فعل من صيغ المبالغة، كحذر وفطن للتبليغ في الحذر والفطنة. وقرأ الباقون بفتح الباء من "عبد" وفتح التاء من "الطاغوت" على أنه فعل ماض معطوف على فعل ماض وهو غضب ولعن، كأنه قيل: ومن عبد الطاغوت، أو معطوف على القردة والخنازير: أي جعل منهم القردة والخنازير وجعل منهم عبد الطاغوت حملاً على لفظ من. وقرأ أبي وابن مسعود " وعبد الطاغوت " حملاً على معناها. وقرأ ابن عباس "وعبد" بضم العين والباء كأنه جمع عبد، كما يقال: سقف وسقف. ويجوز أن يكون جمع عبيد كرغيف ورغف، أو جمع عابد كبازل وبزل. وقرأ أبو واقد وعباد جمع عابد للمبالغة، كعامل وعمال. وقرأ البصريون وعباد جمع عابد أيضاً، كقائم وقيام، ويجوز أن يكون جمع عبد. وقرأ أبو جعفر الرقاشي وعبد الطاغوت على البناء للمفعول، والتقدير وعبد الطاغوت فيهم. وقرأ عون العقيلي وابن بريدة وعابد الطاغوت على التوحيد. وروي عن ابن مسعود وأبي أنهما قرآ (وعبدة الطاغوت) وقرأ عبيد بن عمير (وأعبد الطغوت) مثل كلب وأكلب. وقرئ "وعبد الطاغوت" عطفاً على الموصول بناء على تقدير مضاف محذوف، وهي قراءة ضعيفة جداً، والطاغوت: الشيطان أو الكهنة أو غيرهما مما قد تقدم مستوفى. قوله: "أولئك شر مكاناً" الإشارة إلى الموصوفين بالصفات المتقدمة، وجعلت الشرارة للمكان، وهي لأهله للمبالغة، ويجوز أن يكون الإسناد مجازياً. قوله: "وأضل عن سواء السبيل" معطوف على شر، أي هم أضل من غيرهم عن الطريق المستقيم، والتفضيل في الموضعين للزيادة مطلقاً أو لكونهم أشر وأضل مما يشاركهم في أصل الشرارة والضلال.
قوله: " وإذا جاؤوكم قالوا آمنا " أي إذا جاءوكم أظهروا الإسلام. قوله: "وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به" جملتان حاليتان: أي جاءوكم حال كونهم قد دخلوا عندك متلبسين بالكفر وخرجوا من عندك متلبسين به لم يؤثر فيهم ما سمعوا منك، بل خرجوا كما دخلوا "والله أعلم بما كانوا يكتمون" عندك من الكفر، وفيه وعيد شديد، وهؤلاء هم المنافقون، وقيل هم اليهود الذين قالوا: "آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره".
قوله: 62- "وترى كثيراً منهم يسارعون في الإثم" الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل من يصلح له، والضمير في "منهم" عائد إلى المنافقين أو اليهود أو إلى الطائفتين جميعاً " يسارعون في الإثم " في محل نصب على الحال على أن الرواية بصرية أو هو مفعول ثان لترى على أنها قلبية، والمسارعة: المبادرة، والإثم: الكذب أو الشرك أو الحرام، والعدوان: الظلم المتعدي إلى الغير أو مجاوزة الحد في الذنوب. والسحت: الحرام، فعلى قول من فسر الإثم بالحرام يكون تكريره للمبالغة، والربانيون علماء النصارى، والأحبار: علماء اليهود، وقيل الكل من اليهود لأن هذه الآيات فيهم، ثم وبخ علماءهم في تركهم لنهيهم فقال: "لبئس ما كانوا يصنعون" وهذا فيه زيادة على قوله: "لبئس ما كانوا يعملون" لأن العمل لا يبلغ درجة الصنع حتى يتدرب فيه صاحبه، ولهذا تقول العرب سيف صنيع إذا جود عامله عمله فالصنع هو العمل الجيد لا مطلق العلم، فوبخ سبحانه الخاصة، وهم العلماء التاركون للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بما هو أغلظ وأشد من توبيخ فاعل المعاصي، فليفتح العلماء لهذه الآية مسامعهم ويفرجوا لها عن قلوبهم، فإنها قد جاءت بما فيه البيان الشافي لهم بأن كفهم عن المعاصي مع ترك إنكارهم على أهلها لا يسمن ولا يغني من جوع، بل هم أشد حالاً وأعظم وبالاً من العصاة، فرحم الله عالماً قام بما أوجبه الله عليه من فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو أعظم ما افترضه الله عليه وأوجب ما أوجب عليه النهوض به. اللهم اجعلنا من عبادك الصالحين الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر الذين لا يخافون فيك لومة لائم، وأعنا على ذلك وقونا عليه ويسره لنا وانصرنا على من تعدى حدودك وظلم عبادك إنه لا ناصر لنا سواك ولا مستعان غيرك يا مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين. وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس قال: كان رفاعة بن زيد بن التابوت وسيد بن الحارث قد أظهرا الإسلام ونافقا، وكان رجال من المسلمين يوادونهما، فأنزل الله: " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا " إلى قوله: "والله أعلم بما كانوا يكتمون". وأخرج البيهقي في الدلائل من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله: " وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا " قال: كان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نادى بالصلاة فقام المسلمون إلى الصلاة، قالت اليهود والنصارى: قد قاموا لا قاموا، فإذا رأوهم ركعوا وسجدوا استهزأوا بهم وضحكوا منهم. قال: وكان رجل من اليهود تاجراً إذا سمع المنادي ينادي بالأذان قال: أحرق الله الكاذب، قال: فبينما هو كذلك إذ دخلت جاريته بشعلة من نار، فطارت شرارة منها في البيت فأحرقته. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي قال: كان رجل من النصارى فذكر نحو قصة الرجل اليهودي. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس قال: "أتى النبي صلى الله عليه وسلم نفر من اليهود، فسألوه عمن يؤمن به من الرسل فقال: أؤمن بالله وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم، لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون، فلما ذكر عيسى جحدوا نبوته، وقالوا: لا نؤمن بعيسى ولا نؤمن بمن آمن به، فأنزل الله فيهم "قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا" إلى قوله: "فاسقون"". وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "وجعل منهم القردة والخنازير" قال: مسخت من يهود. وأخرج أبو الشيخ عن أبي مالك أنه قيل له: كانت القردة والخنازير قبل أن يمسخوا؟ قال: نعم، وكانوا مما خلق من الأمم. وأخرج مسلم وابن مردويه عن ابن مسعود قال: "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القردة والخنازير هما مما مسخ الله، فقال: إن الله لم يهلك قوماً، أو قال: لم يمسخ قوماً فيجعل لهم نسلاً ولا عاقبة، وإن القردة والخنازير كانت قبل ذلك". وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: " وإذا جاؤوكم قالوا آمنا " الآية، قال أناس من اليهود: كانوا يدخلون على النبي صلى الله عليه وسلم فيخبرونه أنهم مؤمنون راضون بالذي جاء به، وهم متمسكون بضلالتهم وبالكفر، فكانوا يدخلون بذلك ويخرجون به من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأخرج ابن جرير عن السدي في الآية قال: هؤلاء ناس من المنافقين كانوا يهوداً، يقول: دخلوا كفاراً وخرجوا كفاراً. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي زيد في قوله: "وترى كثيراً منهم يسارعون في الإثم والعدوان" قال: هؤلاء اليهود "لبئس ما كانوا يعملون" إلى قوله: "لبئس ما كانوا يصنعون" قال: يصنعون ويعملون واحد، قال لهؤلاء حين لم ينتهوا كما قال لهؤلاء حين عملوا.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: 63- "لولا ينهاهم الربانيون والأحبار" قال: فهل لا ينهاهم الربانيون والأحبار، وهم الفقهاء والعلماء. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن عباس قال: ما في القرآن آية أشد توبيخاً من هذه الآية "لولا ينهاهم الربانيون والأحبار". وأخرجه ابن المبارك في الزهد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن الضحاك بن مزاحم نحوه، وقد وردت أحاديث كثيرة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا حاجة لنا في بسطها هنا.
قوله: 64- "يد الله مغلولة" اليد عند العرب تطلق على الجارحة، ومنه قوله تعالى: "وخذ بيدك ضغثاً" وعلى النعمة، يقولون كم يد لي عند فلان، وعلى القدرة، ومنه قوله تعالى: "قل إن الفضل بيد الله" أو على التأييد، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "يد الله مع القاضي حين يقضي" وتطلق على معان أخر. وهذه الآية هي على طريق التمثيل كقوله تعالى: "ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك" والعرب تطلق غل اليد على البخل وبسطها على الجود مجازاً، ولا يريدون الجارحة كما يصفون البخيل بأنه جعد الأنامل ومقبوض الكف، ومنه قول الشاعر: كانت خراسان أرضاً إذ يزيد بها وكل باب من الخيرات مفتوح فاستبدلت بعده جعـــــداً أناملـه كأنما وجهه بالخــــل منضــوح فمراد اليهود هنا عليهم لعائن الله أن الله بخيل، فأجاب سبحانه عليهم بقوله: "غلت أيديهم" دعاء عليهم بالبخل، فيكون الجواب عليهم مطابقاً لما أرادوه بقوله: "يد الله مغلولة" ويجوز أن يراد غل أيديهم حقيقة بالأسر في الدنيا أو بالعذاب في الآخرة، ويقوي المعنى الأول أن البخل قد لزم اليهود لزوم الظل للشمس فلا ترى يهودياً، وإن كان ماله في غاية الكثرة، إلا وهو من أبخل خلق الله، وأيضاً المجاز أوفق بالمقام لمطابقته لما قبله. قوله: "ولعنوا بما قالوا" معطوف على ما قبله والباء سببية: أي أبعدوا من رحمة الله بسبب قولهم: "يد الله مغلولة"، ثم رد سبحانه بقوله: "بل يداه مبسوطتان" أي بل هو في غاية ما يكون من الجود، وذكر اليدين مع كونهم لم يذكروا إلا اليد الواحدة مبالغة في الرد عليهم بإثبات ما يدل على غاية السخاء، فإن نسبة الجود إلى اليدين أبلغ من نسبته إلى اليد الواحدة، وهذه الجملة الإضرابية معطوفة على جملة مقدرة يقتضيها المقام: أي كلا ليس الأمر كذلك "بل يداه مبسوطتان" وقيل المراد بقوله: "بل يداه مبسوطتان" نعمة الدنيا الظاهرة ونعمتها الباطنة، وقيل نعمة المطر والنبات، وقيل الثواب والعقاب. وحكى الأخفش عن ابن مسعود أنه قرأ بل يداه بسيطتان: أي منطلقتان كيف يشاء. قوله: "ينفق كيف يشاء" جملة مستأنفة مؤكدة لكمال جوده سبحانه: أي إنفاقه على ما تقتضيه مشيئته، فإن شاء وسع، وإن شاء قتر، فهو الباسط القابض، فإن قبض كان ذلك لما تقتضيه حكمته الباهرة لا لشيء آخر، فإن خزائن ملكه لا تفنى ومواد جوده لا تتناهى. قوله: "وليزيدن كثيراً منهم" إلخ، اللام هي لام القسم: أي ليزيدن كثيراً من اليهود والنصارى ما أنزل إليك من القرآن المشتمل على هذه الأحكام الحسنة "طغياناً وكفراً" أي طغياناً إلى طغيانهم وكفراً إلى كفرهم. قوله: "وألقينا بينهم" أي بين اليهود "العداوة والبغضاء" أو بين اليهود والنصارى. قوله: "كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله" أي كلما جمعوا للحرب جمعاً وأعدوا له عدة شتت الله جمعهم، وذهب بريحهم فلم يظفروا بطائل ولا عادوا بفائدة، بل لا يحصلون من ذلك إلا على الغلب لهم، وهكذا لا يزالون يهيجون الحروب ويجمعون عليها، ثم يبطل الله ذلك، والآية مشتملة على استعارة بليغة، وأسلوب بديع "ويسعون في الأرض فساداً" أي يجتهدون في فعل ما فيه فساد، ومن أعظمه ما يريدونه من إبطال الإسلام وكيد أهله، وقيل المراد بالنار هنا الغضب: أي كلما أثاروا في أنفسهم غضباً أطفأه الله بما جعله من الرعب في صدورهم والذلة والمسكنة المضروبتين عليهم. قوله: "والله لا يحب المفسدين" إن كانت اللام للجنس فهم داخلون في ذلك دخولاً أولياً، وإن كانت للعهد فوضع الظاهر موضع المضمر لبيان شدة فسادهم وكونهم لا ينفكون عنه.
قوله: 65- "ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا" أي لو أن المتمسكين بالكتاب، وهم اليهود والنصارى، على أن التعريف للجنس "آمنوا" الإيمان الذي طلبه الله منهم، ومن أهم الإيمان بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم كما أمروا بذلك في كتب الله المنزلة عليهم "واتقوا" المعاصي التي من أعظمها ما هم عليه من الشرك بالله والجحود لما جاء به رسول الله "لكفرنا عنهم سيئاتهم" التي اقترفوها، وإن كانت كثيرة متنوعة، وقيل المعنى: لوسعنا عليهم في أرزاقهم.
66- "ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل" أي أقاموا ما فيهما من الأحكام التي من جملتها الإيمان بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم. قوله: "وما أنزل إليهم من ربهم"من سائر كتب الله التي من جملتها القرآن فإنها كلها وإن نزلت على غيرهم فهي في حكم المنزلة عليهم لكونهم متعبدين بما فيها "لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم" ذكر فوق وتحت للمبالغة في تيسر أسباب الرزق لهم وكثرتها وتعدد أنواعها. قوله: "منهم أمة مقتصدة" جواب سؤال مقدر، كأنه قيل هل جميعهم متصفون بالأوصاف السابقة، أو البعض دون البعض، والمقتصدون منهم هم المؤمنون كعبد الله بن سلام ومن تبعه وطائفة من النصارى "وكثير منهم ساء ما يعملون" وهم المصرون على الكفر المتمردون عن إجابة محمد صلى الله عليه وسلم والإيمان بما جاء به. وقد أخرج ابن إسحاق والطبراني في الكبير وابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رجل من اليهود يقال له النباش بن قيس: إن ربك بخيل لا ينفق، فأنزل الله: "وقالت اليهود يد الله مغلولة" الآية. وأخرج أبو الشيخ عنه أنها نزلت في فنحاص اليهودي. وأخرج مثله ابن جرير عن عكرمة. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وقالت اليهود يد الله مغلولة" أي بخيلة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه نحوه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "وليزيدن كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً" قال: حملهم حسد محمد والعرب على أن تركوا القرآن وكفروا بمحمد ودينه وهم يجدونه مكتوباً عندهم. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "كلما أوقدوا ناراً للحرب" قال: حرب محمد صلى الله عليه وسلم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي في الآية: كلما أجمعوا أمرهم على شيء فرقه الله وأطفأ حدهم ونارهم وقذف في قلوبهم الرعب. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: "ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا" قال: آمنوا بما أنزل على محمد واتقوا ما حرم الله. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل" قال: العمل بهما، وأما ما أنزل إليهم فمحمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه، وأما "لأكلوا من فوقهم" فأرسلت عليهم مطراً، وأما "من تحت أرجلهم" يقول أنبت لهم من الأرض من رزقي ما يغنيهم، "منهم أمة مقتصدة" وهم مسلمة أهل الكتاب. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس "لأكلوا من فوقهم" يعني لأرسل عليهم السماء مدراراً "ومن تحت أرجلهم" قال: تخرج الأرض من بركتها. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن الربيع بن أنس قال: الأمة المقتصدة: الذين لا هم فسقوا في الدين ولا هم غلوا. قال: والعلو الرغبة، والفسق التقصير عنه. وأخرج أبو الشيخ عن السدي "أمة مقتصدة" يقول مؤمنة. وأخرج ابن مردويه قال: حدثنا عبد الله بن جعفر، حدثنا أحمد بن يونس الضبي، حدثنا عاصم بن علي، حدثنا أبو معشر عن يعقوب بن زيد بن طلحة عن زيد بن أسلم عن أنس بن مالك قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر حديثاً، قال: ثم حدثهم النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تفرقت أمة موسى على اثنتين وسبعين ملة، واحدة منها في الجنة وإحدى وسبعون منها في النار، وتفرقت أمة عيسى على اثنتين وسبعين ملة، واحدة منها في الجنة وإحدى وسبعون منها في النار، تعلو أمتي على الفريقين جميعاً ملة واحدة في الجنة وثنتان وسبعون منها في النار، قالوا: من هم يا رسول الله؟ قال: الجماعات الجماعات". قال يعقوب بن زيد: كان علي بن أبي طالب إذا حدث بهذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا فيه قرآناً، قال: "ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم" إلى قوله: "منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون" وتلا أيضاً: "وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون" يعني أمة محمد صلى الله عليه وسلم. قال ابن كثير في تفسيره بعد ذكره لهذا الحديث ما لفظه: وحديث افتراق الأمم إلى بضع وسبعين مروي من طرق عديدة قد ذكرناها في موضع آخر انتهى. قلت: أما زيادة كونها في النار إلا واحدة، فقد ضعفها جماعة من المحدثين، بل قال ابن حزم إنها موضوعة.
العموم الكائن في ما أنزل يفيد أنه يجب عليه صلى الله عليه وسلم أن يبلغ جميع ما أنزل الله إليه لا يكتم منه شيئاً. وفيه دليل على أنه لم يسر إلى أحد مما يتعلق بما أنزله الله إليه شيئاً، ولهذا ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: من زعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم كتم شيئاً من الوحي فقد كذب. وفي صحيح البخاري من حديث أبي جحيفة وهب بن عبد الله السوائي قال: قلت لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: هل عندكم شيء من الوحي مما ليس في القرآن؟ فقال: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، إلا فهماً يعطيه الله رجلاً في القرآن وما في هذه الصحيفة، قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك، الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر "فإن لم تفعل" ما أمرت به من تبليغ الجميع بل كتمت ولو بعضاً من ذلك " فما بلغت رسالته ". قرأ أبو عمرو وأهل الكوفة إلا شعبة "رسالته" على التوحيد. وقرأ أهل المدينة وأهل الشام "رسالاته" على الجمع، قال النحاس: والجمع أبين لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينزل عليه الوحي شيئاً فشيئاً، ثم يبينه انتهى. وفيه نظر، فإن نفي التبليغ عن الرسالة الواحدة أبلغ من نفيه عن الرسالات، كما ذكره علماء البيان على خلاف في ذلك، وقد بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته ما نزل إليهم، وقال لهم في غير موطن: هل بلغت؟ فيشهدون له بالبيان، فجزاه الله عن أمته خيراً، ثم إن الله سبحانه وعده بالعصمة من الناس دفعاً لما يظن أنه حامل على كتم البيان، وهو خوف لحوق الضرر من الناس، وقد كن ذلك بحمد الله فإنه بين لعباد الله ما نزل إليهم على وجه التمام، ثم حمل من أبى من الدخول في الدين على الدخول فيه طوعاً أو كرهاً وقتل صناديد الشرك وفرق جموعهم وبدد شملهم، وكانت كلمة الله هي العليا، فأسلم كل من نازعه ممن لم يسبق فيه السيف العذل حتى قال يوم الفتح لصناديد قريش وأكابرهم: ما تظنون أني فاعل بكم؟ فقالوا: أخ كريم وابن أخ كريم فقال: اذهبوا فأنتم الطلقاء، وهكذا من سبقت له العناية من علماء هذه الأمة يعصمه الله من الناس، إن قام ببيان حجج الله وإيضاح براهينه، وصرخ بين ظهراني من ضاد الله وعانده ولم يمتثل لشرعه كطوائف المبتدعة، وقد رأينا من هذا في أنفسنا وسمعناه في غيرنا ما يزيد المؤمن إيماناً وصلابة في دين الله وشدة شكيمة في القيام بحجة الله، وكل ما يظنه متزلزلو الأقدام ومضطربو القلوب من نزول الضرر بهم وحصول المحن عليهم فهو خيالات مختلة وتوهمات باطلة، فإن كل محنة في الظاهر هي محنة في الحقيقة، لأنها لا تأتي إلا بخير في الأولى والأخرى: "إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد". قوله: "إن الله لا يهدي القوم الكافرين" جملة متضمنة لتعليل ما سبق من العصمة: أي إن الله لا يجعل لهم سبيلاً إلى الإضرار بك، فلا تخف وبلغ ما أمرت بتبليغه. وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد قال: لما نزلت "بلغ ما أنزل إليك من ربك" قال: يا رب إنما أنا واحد كيف أصنع؟ يجتمع علي الناس، فنزلت "وإن لم تفعل فما بلغت رسالته". وأخرج أبو الشيخ عن الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله بعثني برسالته فضقت بها ذرعاً وعرفت أن الناس مكذبي، فوعدني لأبلغن أو ليعذبني، فأنزلت "يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك"". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وإن لم تفعل فما بلغت رسالته" يعني إن كتمت آية مما أنزل إليك لم تبلغ رسالته. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن أبي سعيد الخدري قال: نزلت هذه الآية "يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك" على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم غدير خم في علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال: كنا نقرأ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك إن علياً مولى المؤمنين وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس). وأخرج ابن أبي حاتم عن عنترة قال: كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال: إن ناساً يأتونا فيخبرونا أن عندكم شيئاً لم يبده رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس، فقال: ألم تعلم أن الله قال: "يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك" والله ما ورثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم سوداء في بيضاء. وأخرج ابن مردويه والضياء في المختارة عن ابن عباس "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: أي آية أنزلت من السماء أشد عليك؟ قال: كنت بمنى أيام موسم، فاجتمع مشركو العرب وأفناء الناس في الموسم، فأنزل علي جبريل فقال: "يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك" الآية، قال: فقمت عند العقبة فناديت يا أيها الناس من ينصرني على أن أبلغ رسالة ربي وله الجنة، أيها الناس قولوا لا إله إلا الله وأنا رسول الله إليكم، تفلحوا وتنجحوا ولكم الجنة، قال: فما بقي رجل ولا امرأة ولا صبي إلا يرمون بالتراب والحجارة ويبزقون في وجهي ويقولون: كذاب صابئ، فعرض علي عارض فقال: يا محمد إن كنت رسول الله فقد آن لك أن تدعو عليهم كما دعا نوح على قومه بالهلاك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون، فجاء العباس عمه فأنقذه منهم وطردهم عنه". قال الأعمش: فبذلك يفتخر بنو العباس ويقولون فيهم نزلت: "إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء" هوى النبي صلى الله عليه وسلم أبا طالب، وشاء الله عباس بن عبد المطلب. وأخرج عبد بن حميد والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرس حتى نزلت "والله يعصمك من الناس" فأخرج رأسه من القبة فقال: أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله. قال الحاكم في المستدرك: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وأخرج الطبراني وابن مردويه من حديث أبي سعيد. وقد روي في هذا المعنى أحاديث. وأخرج ابن أبي حاتم عن جابر بن عبد الله قال:" لما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بني أنمار نزل ذات الرقيع بأعلى نخل، فبينما هو جالس على رأس بئر قد دلى رجليه، فقال الوارث من بني النجار: لأقتلن محمداً، فقال له أصحابه: كيف تقتله؟ قال: أقول له أعطني سيفك فإذا أعطانيه قتلته به، فأتاه فقال: يا محمد أعطني سيفك أشمه، فأعطاه إياه، فرعدت يده حتى سقط من يده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:حال الله بينك وبين ما تريد، فأنزل الله سبحانه: "يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك" الآية". قال ابن كثير: وهذا حديث غريب من هذا الوجه. وأخرج ابن حبان في صحيحه وابن مردويه عن أبي هريرة نحو هذه القصة ولم يسم الرجل. وأخرج ابن جرير من حديث محمد بن كعب القرظي نحوه، وفي الباب روايات. وقصة غورث بن الحارث ثابتة في الصحيح، وهي معروفة ومشهورة.
قوله: 90- "على شيء" فيه تحقير وتقليل لما هم عليه: أي لستم على شيء يعتد به حتى تقيموا التوراة والإنجيل: أن تعملوا بما فيهما من أوامر الله ونواهيه التي من جملتها أمركم باتباع محمد صلى الله عليه وسلم ونهيكم عن مخالفته. قال أبو علي الفارسي: ويجوز أن يكون ذلك قبل النسخ لهما. قوله: "وما أنزل إليكم من ربكم" قيل هو القرآن، فإن إقامة الكتابين لا تصح بغير إقامته، ويجوز أن يكون المراد ما أنزل إليهم على لسان الأنبياء من غير الكتابين. قوله: "وليزيدن كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً" أي كفراً إلى كفرهم وطغياناً على طغيانهم، والمراد بالكثير منهم من لم يسلم، واستمر على المعاندة، وقيل المراد به العلماء منهم، وتصدير هذه الجملة بالقسم لتأكيد مضمونها، قوله: "فلا تأس على القوم الكافرين" أي دع عنك التأسف على هؤلاء، فإن ضرر ذلك راجع إليهم ونازل بهم، وفي المتبعين لك من المؤمنين غنى لك عنهم.
قوله: 69- "إن الذين آمنوا" إلخ، جملة مستأنفة لترغيب من عداهم من المؤمنين. والمراد بالمؤمنين هنا الذين آمنوا بألسنتهم وهم المنافقون "والذين هادوا" أي دخلوا في دين اليهود " والصابئون " مرتفع على الابتداء وخبره محذوف، والتقدير: والصابون والنصارى كذلك. قال الخليل وسيبويه: الرفع محمول على التقديم والتأخير، والتقدير: إن الذين آمنوا والذين هادوا من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والصابون والنصارى كذلك، وأنشد سيبويه، قول الشاعر: وإلا فاعلمــوا أنا وانتـــــم بغاة ما بقينا في شقاق أي وإلا فاعلموا أنا بغاة وأنتم كذلك، ومثله قوله ضابي البرجمي: فمن يك أمسى بالمدينة رحله فإني وقيار بها لغريب أي فإني لغريب وقيار كذلك. وقال الكسائي والأخفش: إن " الصابئون " معطوف على المضمر في "هادوا" قال النحاس: سمعت الزجاج يقول وقد ذكر له قول الكسائي والأخفش: هذا خطأ من وجهين: أحدهما أن المضمر المرفوع لا يعطف عليه حتى يؤكد. وثانيهما أن المعطوف شريك المعطوف عليه، فيصير المعنى: إن الصابئين قد دخلوا في اليهودية، وهذا محال. وقال الفراء: إنما جاز الرفع لأن إن ضعيفة فلا تؤثر إلا في الإسم دون الخبر، فعلى هذا هو عنده معطوف على محل اسم إن، أو على مجموع إن واسمها، وقيل إن خبر إن مقدر، والجملة الآتية خبر الصابئون والنصارى، كما في قول الشاعر: نحن بما عندنــا وأنت بما عندك راض والرأي مختلف وقيل إن إن هنا بمعنى نعم: فالصابون مرتفع بالابتداء، ومثله قول قيس بن الرقيات: بكــر العواذل في الصبـــا ح يلمــــنني وألومــــنه ويقلن شــــيب قد عـــلا ك وقد كبرت فقلت إنه قال الأخفش: إنه بمعنى نعم والهاء للسكت. وقد تقدم الكلام على الصابئين والنصارى في البقرة، وقرئ الصابيون بياء صريحة تخفيفاً للهمزة، وقرئ الصابون بدون ياء، وهو من صبا يصبو لأنهم صبوا إلى اتباع الهوى، وقرئ والصابئين عطفاً على اسم إن. قوله: "من آمن بالله" مبتدأ خبره "فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون" والمبتدأ وخبره خبر لإن، ودخول الفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط، والعائد إلى اسم إن محذوف: أي من آمن منهم، ويجوز أن يكون من آمن بدلاً من اسم إن وما عطف عليه، ويكون خبر إن "فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون". والمعنى على تقدير كون المراد بالذين آمنوا المنافقين كما قدمنا: أن من آمن من هذه الطوائف إيماناً خالصاً على الوجه المطلوب وعمل عملاً صالحاً، فهو الذي لا خوف عليه ولا حزن، وأما على تقدير كون المراد بالذين آمنوا جميع أهل الإسلام: المخلص والمنافق، فالمراد بمن آمن من اتصف بالإيمان الخالص واستمر عليه، ومن أحدث إيماناً خالصاً بعد نفاقه.
قوله: 70- "لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل" كلام مبتدأ لبيان بعض أفعالهم الخبيثة. وقد تقدم في البقرة بيان معنى الميثاق "وأرسلنا إليهم رسلاً" ليعرفوهم بالشرائع وينذروهم "كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم" جملة شرطية وقعت جواباً لسؤال ناس من الأحبار بإرسال الرسل كأنه قيل: ماذا فعلوا بالرسل؟ وجواب الشرط محذوف: أي عصوه. وقوله: "فريقاً كذبوا وفريقاً يقتلون" جملة مستأنفة أيضاً جواب عن سؤال ناس عن الجواب الأول كأنه قيل: كيف فعلوا بهم؟ فقيل فريقاً منهم كذبوهم ولم يتعرضوا لهم بضرر، وفريقاً آخر منهم قتلوهم، وإنما قال: "وفريقاً يقتلون" لمراعاة رؤوس الآي، فمن كذبوه عيسى وأمثاله من الأنبياء، وممن قتلوه زكريا ويحيى.
قوله: 71- " وحسبوا أن لا تكون فتنة " أي حسب هؤلاء الذين أخذ الله عليهم الميثاق أن لا يقع من الله عز وجل ابتلاء واختبار بالشدائد اغتراراً بقولهم: "نحن أبناء الله وأحباؤه". قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي "تكون" بالرفع على أن هي المخففة من الثقيلة، وحسب بمعنى علم، لأن أن معناها التحقيق. وقرأ الباقون بالنصب على أن ناصبة للفعل، وحسب بمعنى الظن، قال النحاس: والرفع عند النحويين في حسبت وأخواتها أجواد، ومثله: ألا زعمت بسباسة اليوم أنني كبرت وأن لا يشهد اللهو أمثالي قوله: "فعموا وصموا" أي عموا عن إبصار الهدى، وصموا عن استماع الحق، وهذه إشارة إلى ما وقع من بني إسرائيل في الابتداء من مخالفة أحكام التوراة، وقتل شعيا، ثم تاب الله عليهم حين تابوا، فكشف عنهم القحط "ثم عموا وصموا كثير منهم" وهذا إشارة إلى ما وقع منهم بعد التوبة من قتل يحيى بن زكريا وقصدهم لقتل عيسى، وارتفاع "كثير" على البدل من الضمير في الفعلين. قال الأخفش: كما تقول رأيت قومك ثلاثتهم، وإن شئت كان على إضمار مبتدأ: أي العمي والصم كثير منهم، ويجوز أن يكون كثير مرتفعاً على الفاعلية على لغة من قال: أكلوني البراغيث، ومنه قول الشاعر: ولكن دفافي أبـــوه وأمه بحوران يعصرن السليط أقاربه وقرئ "عموا وصموا" بالبناء للمفعول: أي أعماهم الله وأصمهم.
قوله: 72- "لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم" هذا كلام مبتدأ يتضمن بيان بعض فضائح أهل الكتاب، والقائلون بهذه المقالة هم فرقة منهم: يقال لهم اليعقوبية، وقيل هم الملكانية، قالوا: إن الله عز وجل حل في ذات عيسى، فرد الله عليهم بقوله: "وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم" أي والحال أنه قد قال المسيح هذه المقالة، فكيف يدعون الإلهية لمن يعترف على نفسه بأنه عبد مثلهم؟ قوله: "إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة" الضمير للشأن، وهذا كلام مبتدأ يتضمن بيان أن الشرك يوجب تحريم دخول الجنة، وقيل هو من قول عيسى: "وما للظالمين من أنصار" ينصرونهم فيدخلونهم الجنة أو يخلصونهم من النار.
قوله: 73- "لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة" وهذا كلام أيضاً مبتدأ لبيان بعض مخازيهم، والمراد بثالث ثلاثة واحد من ثلاثة، ولهذا يضاف إلى ما بعده، ولا يجوز التنوين كا قال الزجاج وغيره، وإنما ينون وينصب ما بعده إذا كان ما بعده دونه بمرتبة نحو ثالث اثنين ورابع ثلاثة، والقائل بأنه سبحانه وتعالى ثالث ثلاثة هم النصارى، والمراد بالثلاثة: الله سبحانه، وعيسى، ومريم كما يدل عليه قوله: "أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين" وهذا هو المراد بقولهم ثلاثة أقانيم: إقنيم الأب وإقنيم الابن، وإقنيم روح القدس، وقد تقدم في سورة النساء كلام في هذا، ثم رد الله سبحانه عليهم هذه الدعوى الباطلة فقال: " وما من إله إلا الله الواحد " أي ليس في الوجود إلا الله سبحانه، وهذه الجملة حالية، والمعنى: قالوا تلك المقالة، والحال أنه لا موجود إلا الله، ومن في قوله: "من إله" لتأكيد الاستغراق المستفاد من النفي "وإن لم ينتهوا عما يقولون" من الكفر "ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم" جواب قسم محذوف ساد مسد جواب الشرط، ومن في "منهم" بيانية أو تبعيضية.
74- "أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه" الفاء للعطف على مقدر، والهمزة للإنكار.
قوله: 75- "ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل" أي هو مقصور على الرسالة، لا يجاوزها كما زعمتم. وجملة "قد خلت من قبله الرسل" صفة لرسول: أي ما هو إلا رسول من جنس الرسل الذين خلوا من قبله، وما وقع منه من المعجزات لا يوجب كونه إلهاً، فقد كان لمن قبله من الرسل مثلها، فإن الله أحيا العصا في يد موسى وخلق آدم من غير أب، فكيف جعلتم إحياء عيسى للموتى ووجوده من غير أب يوجبان كونه إلهاً، فإن كان كما تزعمون إلهاً لذلك فمن قبله الرسل الذين جاءوا بمثل ما جاء به آلهة، وأنتم لا تقولون بذلك. قوله: "وأمه صديقة" عطف على المسيح: أي وما أمه إلا صديقة: أي صادقة فيما تقوله أو مصدقة لما جاء به ولدها من الرسالة، وذلك لا يستلزم الإلهية لها، بل هي كسائر من يتصف بهذا الوصف من النساء. قوله: "كانا يأكلان الطعام" استئناف يتضمن التقرير لما أشير إليه من أنهما كسائر أفراد البشر: أي من كان يأكل الطعام كسائر المخلوقين فليس برب، بل هو عبد مربوب ولدته النساء، فمتى يصلح لأن يكون رباً؟ وأما قولكم إنه كان يأكل الطعام بناسوته لا بلاهوته، فهو كلام باطل يستلزم اختلاط الإله بغير الإله واجتماع الناسوت واللاهوت، ولو جاز اختلاط القديم بالحادث لجاز أن يكون القديم حادثاً، ولو صح هذا في حق عيسى لصح في حق غيره من العباد "انظر كيف نبين لهم الآيات" أي الدلالات، وفيه تعجيب من حال هؤلاء الذين يجعلون تلك الأوصاف مستلزمة للإلهية ويغفلون عن كونها موجودة في زمن لا يقولون بأنه إله "ثم انظر أنى يؤفكون" أي كيف يصرفون عن الحق بعد هذا البيان؟ يقال: أفكه يأفكه إذا صرفه، وكرر الأمر بالنظر للمبالغة في التعجيب، وجاء بثم لإظهار ما بين العجبين من التفاوت. وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس قال: "جاء نافع بن حارثة وسلام بن مشكم ومالك بن الصيف ورافع بن حرملة فقالوا: يا محمد ألست تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه وتؤمن بما عندنا من التوراة وتشهد أنها من الله حق؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بلى ولكنكم أحدثتم وجحدتم ما فيها مما أخذ عليكم من الميثاق وكفرتم منها بما أمرتم أن تبينوه للناس، فبرئت من أحداثكم، قالوا: فإنا نؤخذ بما في أيدينا وإنا على الهدى والحق ولا نؤمن بك ولا نتبعك، فأنزل الله فيهم: "قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل" إلى قوله: "القوم الكافرين"". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الحسن في قوله: " وحسبوا أن لا تكون فتنة " قال: بلاء. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة مثله. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي نحوه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة" قال: النصارى يقولون إن الله ثالث ثلاثة وكذبوا. وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال: تفرقت بنو إسرائيل ثلاث فرق في عيسى، فقالت فرقة هو الله، وقالت فرقة هو ابن الله، وقالت فرقة هو عبد الله وروحه، وهي المقتصدة وهي مسلمة أهل الكتاب.
أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم هذا القول إلزاماً لهم وقطعاً لشبهتهم: أي أتعذبون من دون الله متجاورين إياه ما لا يملك لكم ضراً ولا نفعاً؟ بل هو عبد مأمور، وما جرى على يده من النفع، أو دفع من الضر فهو بإقدار الله له وتمكينه منه، وأما هو فهو يعجز عن أن يملك لنفسه شيئاً من ذلك فضلاً عن أن يملكه لغيره، ومن كان لا ينفع ولا يضر فكيف تتخذونه إلهاً وتعبدونه، وأي سبب يقتضي ذلك؟ والمراد هنا المسيح عليه السلام، وقدم سبحانه الضر على النفع لأن دفع المفاسد أهم من جلب المصالح 76- "والله هو السميع العليم" أي كيف تعبدون ما لا يملك لكم ضراً ولا نفعاً، والحال أن الله هو السميع العليم، ومن كان كذلك فهو القادر على الضر والنفع لإحاطته بكل مسموع ومعلوم، ومن جملة ذلك مضاركم ومنافعكم.
قوله: 77- "تغلوا في دينكم" لما أبطل سبحانه جميع ما تعلقوا به من الشبه الباطلة نهاهم عن الغلو في دينهم وهو المجاوزة للحد كإثبات الإلهية لعيسى، كما يقوله النصارى، أو حطه عن مرتبته العلية كما يقوله اليهود فإن كل ذلك من الغلو المذموم وسلوك طريقة الإفراط أو التفريط واختيارهما على طريق الصواب. "وغير" منصوب على أنه نعت لمصدر محذوف: أي غلواً غير غلو الحق، وأما الغلو في الحق بإبلاغ كلية الجهد في البحث عنه واستخراج حقائقه فليس بمذموم، وقيل إن النصب على الاستثناء المتصل، وقيل على المنقطع "ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل" وهم أسلاف أهل الكتاب من طائفتي اليهود والنصارى: أي قبل البعثة المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة والتسليم "وأضلوا كثيراً" من الناس "وضلوا عن سواء السبيل" أي عن قصدهم طريق محمد صلى الله عليه وسلم بعد البعثة، والمراد أن أسلافهم ضلوا من قبل البعثة وأضلوا كثيراً من الناس إذ ذاك، وضلوا من بعد البعثة، إما بأنفسهم، أو جعل ضلال من أضلوه ضلالاً لهم لكونهم سنوا لهم ذلك ونهجوه لهم، وقيل المراد بالأول كفرهم بما يقتضيه العقل، وبالثاني كفرهم بما يقتضيه الشرع.
قوله: 78- "لعن الذين كفروا من بني إسرائيل" أي لعنهم الله سبحانه "على لسان داود وعيسى ابن مريم" أي في الزبور والإنجيل على لسان داود وعيسى بما فعلوه من المعاصي كاعتدائهم في السبت وكفرهم بعيسى. قوله: "ذلك بما عصوا" جملة مستأنفة جواب عن سؤال مقدر، والإشارة بذلك إلى اللعن: أي ذلك اللعن بسبب المعصية والاعتداء لا بسبب آخر.
ثم بين سبحانه المعصية والاعتداء بقوله: 79- "كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه" فأسند الفعل إليهم لكون فاعله من جملتهم وإن لم يفعلوه جميعاً. والمعنى: أنهم كانوا لا ينهون العاصي عن معاودة معصية قد فعلها، أو تهيأ لفعلهان ويحتمل أن يكون وصفهم بأنهم قد فعلوا المنكر باعتبار حالة النزول لا حالة ترك الإنكار، وبيان العصيان والاعتداء بترك التناهي عن المنكر لأن من أخل بواجب النهي عن المنكر فقد عصى الله سبحانه وتعدى حدوده. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم القواعد الإسلامية وأجل الفرائض الشرعية، ولهذا كان تاركه شريكاً لفاعل المعصية ومستحقاً لغضب الله وانتقامه كما وقع لأهل السبت، فإن الله سبحانه مسخ من لم يشاركهم في الفعل ولكن ترك الإنكار عليهم، كما مسخ المعتدين فصاروا جميعاً قردة وخنازير "إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد" ثم إن الله سبحانه قال مقبحاً لعدم التناهي عن المنكر "لبئس ما كانوا يفعلون" أي من تركهم لإنكار ما يجب عليهم إنكاره.
80- "ترى كثيراً منهم" أي من اليهود مثل كعب بن الأشرف وأصحابه "يتولون الذين كفروا" أي المشركين وليسوا على دينهم "لبئس ما قدمت لهم أنفسهم" أي سولت وزينت، أو ما قدموه لأنفسهم ليردوا عليه يوم القيامة، والمخصوص بالذم هو "أن سخط الله عليهم" أي موجب سخط الله عليهم على حذف مضاف أو هو سخط الله عليهم على حذف مبتدأ، وقيل هو: أي أن سخط الله عليهم بدل من ما.
81- "ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي" أي نبيهم "وما أنزل إليه" من الكتاب "ما اتخذوهم" أي المشركين "أولياء" لأن الله سبحانه ورسوله المرسل إليهم وكتابه المنزل عليهم قد نهوهم عن ذلك "ولكن كثيراً منهم فاسقون" أي خارجون عن ولاية الله وعن الإيمان به وبرسوله وبكتابه. وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: "لا تغلوا في دينكم" يقول: لا تبتدعوا. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد قال: كانوا مما غلوا فيه أن دعوا لله صاحبة وولداً. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "وضلوا عن سواء السبيل" قال: يهود. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وأبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول له: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ثم قال: "لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود" إلى قوله: "فاسقون" ثم قال: كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطراً". وقد روي هذا الحديث من طرق كثيرة، والأحاديث في هذا الباب كثيرة جداً فلا نطول بذكرها. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود" يعني في الزبور "وعيسى ابن مريم" يعني في الإنجيل. وأخرج أبو عبيد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أبي مالك الغفاري في الآية قال: لعنوا على لسان داود فجعلوا قردة، وعلى لسان عيسى فجعلوا خنازير. وأخرج ابن جرير عن مجاهد مثله. وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن قتادة نحوه. وأخرج الديلمي في مسند الفردوس عن أبي عبيدة بن الجراح مرفوعاً: قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبياً من أول النهار، فقام مائة وإثنا عشر رجلاً من عبادهم فأمروهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعاً في آخر النهار، فهم الذين ذكر الله "لعن الذين كفروا من بني إسرائيل" الآيات. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: " لبئس ما قدمت لهم أنفسهم" قال: ما أمرتهم. وأخرج ابن أبي حاتم والخرائطي في مساوي الأخلاق وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان وضعفه عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا معشر المسلمين إياكم والزنا، فإن فيه ست خصال: ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة، فأما التي في الدنيا: فذهاب البهاء، ودوام الفقر، وقصر العمر، وأما التي في الآخرة: فسخط الله، وسوء الحساب، والخلود في النار، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون"". قال ابن كثير في تفسيره: هذا الحديث ضعيف على كل حال. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء" قال: المنافقون.
قوله: 82- "لتجدن" إلخ هذه جملة مستأنفة مقررة لما فيها من تعداد مساوئ اليهود وهناتهم، ودخول لام القسم عليها يزيدها تأكيداً وتقريراً، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لكل من يصلح له كما في غير هذا الموضع من الكتاب العزيز. والمعنى في الآية: أن اليهود والمشركين لعنهم الله أشد جميع الناس عداوة للمؤمنين وأصلبهم في ذلك، وأن النصارى أقرب الناس مودة للمؤمنين، واللام في "للذين آمنوا" في الموضعين متعلقة بمحذوف وقع صفة لعداوة ومودة، وقيل هو متعلق بعداوة ومودة، والإشارة بقوله: "ذلك" إلى كونهم أقرب مودة، والباء في "بأن منهم قسيسين" للسببية: أي ذلك بسبب أن منهم قسيسين، وهو جمع قس وقسيس قاله قطرب. والقسيس: العالم، وأصله من قس: إذا تتبع الشيء وطلبه. قال الراجز: يصبحن عن قس الأذى غوافلاً وتقسست أصواتهم بالليل تسمعتها والقس: النميمة. والقس أيضاً: رئيس النصارى في الدين والعلم، وجمعه قسوس أيضاً، وكذلك القسيس: مثل الشر والشرير، ويقال في جمع قسيس تكسيراً قساوسة بإبدال إحدى السينين واواً، والأصل قساسة، فالمراد بالقسيسين في الآية: المتبعون للعلماء والعباد، وهو إما عجمي خلطته العرب بكلامها، أو عربي. والرهبان: جمع راهب كركبان وراكب، والفعل رهب الله يرهبه: أي خافه. والرهبانية والترهب: التعبد في الصوامع. قال أبو عبيد: وقد يكون رهبان للواحد والجمع. قال الفراء: ويجمع رهبان إذا كان للمفرد رهبان وهابين كقربان وقرابين. وقد قال جرير في الجمع: رهبان مدين لو رأوك ترهبوا وقال الشاعر في استعمال رهبان مفرداً: لو أبصرت رهبان دير في الجبل لانحدر الرهبان يسعى ونزل
ثم وصفهم الله سبحانه بأنهم لا يستكبرون عن قول الحق، بل هم متواضعون، بخلاف اليهود فإنهم على ضد ذلك، وهذه الجملة معطوفة على الجملة التي قبلها 83- "وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول" معطوف على جملة "وأنهم لا يستكبرون". "تفيض من الدمع" أي تمتلئ فتفيض، لأن الفيض لا يكون إلا بعد الامتلاء، جعل الأعين تفيض، والفائض: إنما هو الدمع قصداً للمبالغة كقولهم دمعت عينه. قال امرؤ القيس: ففاضت دموع العين مني صبابة على النحر حتى بل دمعي محملي قوله: "مما عرفوا من الحق" من الأولى لابتداء الغاية، والثانية بيانية: أي كان ابتداء الفيض ناشئاً من معرفة الحق، ويجوز أن تكون الثانية تبعيضية، وقرئ "ترى أعينهم" على البناء للمجهول. وقوله: "يقولون ربنا آمنا" استئناف مسوق لجواب سؤال مقدر، كأنه قيل فما حالهم عند سماع القرآن؟ فقال: "يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين" أي آمنا بهذا الكتاب النازل من عندك على محمد وبمن أنزلته عليه فاكتبنا مع الشاهدين على الناس يوم القيامة من أمة محمد أو مع الشاهدين بأنه حق، أو مع الشاهدين بصدق محمد وأنه رسولك إلى الناس.
قوله: 84- "وما لنا لا نؤمن بالله" كلام مستأنف، والاستفهام للاستبعاد "ولنا" متعلق بمحذوف، و "لا نؤمن" في محل نصب في الحال، والتقدير: أي شيء حصل لنا حال كوننا لا نؤمن بالله وبما جاءنا من الحق؟ والمعنى: أنهم استبعدوا انتفاء الإيمان منهم مع وجود المقتضى له، وهو الطمع في إنعام الله، فالاستفهام والنفي متوجهان إلى القيد والمقيد جميعاً كقوله تعالى: "ما لكم لا ترجون لله وقاراً"، والواو في "ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين" للحال أيضاً بتقدير مبتدأ: أي أي شيء حصل لنا غير مؤمنين ونحن نطمع في الدخول مع الصالحين؟ فالحال الأولى والثانية صاحبهما الضمير في "لنا" وعاملهما الفعل المقدر: أي حصل، ويجوز أن تكون الحال الثانية من الضمير في "نؤمن" والتقدير: وما لنا نجمع بين ترك الإيمان وبين الطمع في صحبة الصالحين.
قوله: 85- "فأثابهم الله بما قالوا" إلخ أثابهم على هذا القول مخلصين له معتقدين لمضمونه.
قوله: 86- "والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم" التكذيب بالآيات كفر فهو من باب عطف الخاص على العام. والجحيم: النار الشديدة الإيقاد، ويقال جحم فلان النار: إذا شدد إيقادها، ويقال أيضاً لعين الأسد: جحمة لشدة اتقادها. قال الشاعر: والحرب لا تبقى لجاحمها التحيل والمزاح وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "ولتجدن أقربهم مودة" الآية قال: هم الوفد الذين جاءوا مع جعفر وأصحابه من أرض الحبشة. وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما خلا يهودي بمسلم إلا هم بقتله" وفي لفظ: "إلا حدث نفسه بقتله". قال ابن كثير: وهو غريب جداً. وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء قال: ما ذكر الله به النصارى من خير فإنما يراد به النجاشي وأصحابه. وأخرج أبو الشيخ عنه قال: هم ناس من الحبشة آمنوا إذا جاءتهم مهاجرة المؤمنين فذلك لهم. وأخرج النسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عن عبد الله بن الزبير قال: نزلت هذه الآية في النجاشي وأصحابه "وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع". وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية والواحدي من طريق ابن شهاب قال: أخبرني سعيد بن المسيب وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وعروة بن الزبير قالوا: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري وكتب معه كتاباً إلى النجاشي، فقدم على النجاشي فقرأ كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم دعا جعفر بن أبي طالب والمهاجرين معه، وأرسل النجاشي إلى الرهبان والقسيسين فجمعهم، ثم أمر جعفر بن أبي طالب أن يقرأ عليهم القرآن، فقرأ عليهم سورة مريم، فآمنوا بالقرآن وفاضت أعينهم من الدمع، وهم الذين أنزل الله فيهم "ولتجدن أقربهم مودة" إلى قوله: "من الشاهدين". وأخرج عبد بن حميد ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن سعيد بن جبير في الآية قال: هم رسل النجاشي بإسلامه وإسلام قومه، كانوا سبعين رجلاً يختارهم من قومه الخير فالخير في الفقه والسن، وفي لفظ: بعث من خيار أصحابه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثين رجلاً، فلما أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم دخلوا عليه فقرأ عليهم سورة يس، فبكوا حين سمعوا القرآن وعرفوا أنه الحق، فأنزل الله فيهم: "ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً" الآية ونزلت هذه الآية فيهم أيضاً: "الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون" إلى قوله: "أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا". وأخرج عبد بن حميد والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس نحوه بدون ذكر العدد. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي قال: بعث النجاشي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم اثني عشر رجلاً سبعة قسيسين وخمسة رهباناً ينظرون إليه ويسألونه فلما لقوه فقرأ عليهم ما أنزل الله بكوا وآمنوا، فأنزل الله فيهم: "وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول" الآية، والروايات في هذا الباب كثيرة، وهذا المقدار يكفي، فليس المراد إلا بيان سبب نزول الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله: "قسيسين" قال: هم علماؤهم. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد قال: القسيسون عبادهم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه من طرق عن ابن عباس في قوله: "فاكتبنا مع الشاهدين" قال: أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
الطيبات: هي المستلذات مما أحله الله لعباده، نهى الذين آمنوا عن أن يحرموا على أنفسهم شيئاً منها، إما لظنهم أن في ذلك طاعة لله وتقرباً إليه، وأنه من الزهد في الدنيا لرفع النفس عن شهواتها، أو لقصد أن يحرموا على أنفسهم شيئاً مما أحله لهم كما يقع من كثير من العوام من قولهم: حرام علي وحرمته على نفسي ونحو ذلك من الألفاظ التي تدخل تحت هذا النهي القرآني. قال ابن جرير الطبري: لا يجوز لأحد من المسلمين تحريم شيء مما أحل الله لعباده المؤمنين على نفسه من طيبات المطاعم والملابس والمناكح، ولذلك رد النبي صلى الله عليه وسلم التبتل على عثمان بن مظعون. فثبت أنه لا فضل في ترك شيء مما أحله الله لعباده، وأن الفضل والبر إنما هو في فعل ما ندب الله عباده إليه، وعمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنه لأمته، واتبعه على منهاجه الأئمة الراشدون، إذ كان خير الهدي هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. فإذا كان ذلك كذلك تبين خطأ من آثر لباس الشعر والصوف على لباس القطن والكتان إذا قدر على لباس ذلك من حله، وآثر أكل الخشن من الطعام وترك اللحم وغيره حذراً من عارض الحاجة إلى النساء. قال: فإن ظن ظان أن الفضل في غير الذي قلنا لما في لباس الخشن وأكله من المشقة على النفس وصرف ما فضل بينهما من القيمة إلى أهل الحاجة. فقد ظن خطأ، وذلك أن الأولى بالإنسان صلاح نفسه وعونه لها على طاعة ربها، ولا شيء أضر للجسم من المطاعم الردية، لأنها مفسدة لعقله ومضعفة لأدواته التي جعلها الله سبباً إلى طاعته. قوله: "ولا تعتدوا" أي لا تعتدوا على الله بتحريم طيبات ما أحل الله لكم، أو لا تعتدوا فتحلوا ما حرم الله عليكم: أي تترخصوا فتحللوا حراماً كما نهيتم عن التشديد على أنفسكم بتحريم الحلال. وقد ذهب جمهور العلماء إلى أن من حرم على نفسه شيئاً مما أحل الله له فلا يحرم عليه ولا يلزمه كفارة. وقال أبو حنيفة وأحمد ومن تابعهما: إن من حرم شيئاً صار محرماً عليه، وإذا تناوله لزمته الكفارة، وهو خلاف ما في هذه الآية وخلاف ما دلت عليه الأحاديث الصحيحة، ولعله يأتي في سورة التحريم ما هو أبسط من هذا إن شاء الله. وقوله: "إن الله لا يحب المعتدين" تعليل لما قبله، وظاهره إنه تحريم كل اعتداء: أي مجاوزة لما شرعه الله في كل أمر من الأمور.
88- "وكلوا مما رزقكم الله" حال كونه "حلالاً طيباً" أي غير محرم ولا مستقذر، أو أكلاً حلالاً طيباً، أو كلوا حلالاً طيباً مما رزقكم الله، ثم وصاهم الله سبحانه بالتقوى فقال: "واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون". وقد أخرج الترمذي وحسنه وابن جرير وابن أبي حاتم وابن عدي في الكامل والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس: أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني إذا أكلت اللحم انتشرت للنساء وأخذتني شهوة، وإني حرمت علي اللحم، فنزلت: "يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم" وقد روي من وجه آخر مرسلاً، وروي موقوفاً على ابن عباس. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه في الآية قال:" نزلت في رهط من الصحابة قالوا: نقطع مذاكيرنا ونترك شهوات الدنيا ونسيح في الأرض كما يفعل الرهبان فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليهم فذكر لهم ذلك فقالوا: نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ولكني أصوم وأفطر وأصلي وأنام وأنكح النساء، فمن أخذ بسنتي فهو مني، ومن لم يأخذ بسنتي فليس مني". وقد ثبت نحو هذا في الصحيحين وغيرهما من دون ذكر أن ذلك سبب نزول الآية. وأخرج عبد بن حميد وأبو داود في المراسيل وابن جرير عن أبي مالك أن هؤلاء الرهط: هم عثمان بن مظعون وأصحابه، وفي الباب روايات كثيرة بهذا المعنى، وكثير منها مصرح بأن ذلك سبب نزول الآية. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم "أن عبد الله بن رواحة ضافه ضيف من أهله وهو عند النبي صلى الله عليه وسلم ثم رجع إلى أهله، فوجدهم لم يطعموا ضيفهم انتظاراً له، فقال لامرأته: حبست ضيفي من أجلي هو حرام علي، فقالت امرأته: هو حرام علي فقال الضيف: هو حرام علي، فلما رأى ذلك وضع يده وقال: كلوا بسم الله، ثم ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد أصبت فأنزل الله: "يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم"" وهذا أثر منقطع، ولكن في صحيح البخاري في قصة الصديق مع أضيافه ما هو شبيه بهذا. وأخرج ابن أبي حاتم عن مسروق قال: كنا عند عبد الله فجيء بضرع، فتنحى رجل، فقال له عبد الله: ادن، فقال: إني حرمت أن آكله، فقال عبد الله: ادن فاطعم وكفر عن يمينك، وتلا هذه الآية. وأخرجه أيضاً الحاكم في مستدركه، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
قد تقدم تفسير اللغو، والخلاف فيه، في سورة البقرة، و 89- "في أيمانكم" صلة "يؤاخذكم"، قيل و "في" بمعنى من والأيمان جمع يمين. وفي الآية دليل على أن أيمان اللغو لا يؤاخذ الله الحالف بها ولا تجب بها الكفارة. وقد ذهب الجمهور من الصحابة ومن بعدهم إلى أنها قول الرجل: لا والله وبلى والله في كلامه غير معتقد لليمين، وبه فسر الصحابة الآية وهم أعرف بمعاني القرآن. قال الشافعي: وذلك عند اللجاج والغضب والعجلة. قوله: "ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان" قرئ بتشديد "عقدتم" وبتخفيفه، وقرئ " عقدتم ". والعقد على ضربين: حسي كعقد الحبل، وحكمي كعقد البيع، واليمين والعهد. قال الشاعر: قوم إذا عقدوا عقداً لجارهم شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا فاليمين المعقدة من عقد القلب ليفعلن أو لا يفعلن في المستقبل: أي ولكن يؤاخذكم بأيمانكم المعقدة الموثقة بالقصد والنية إذا حنثتم فيها. وأما اليمين الغموس: فهي يمين مكر وخديعة وكذب قد باء الحالف بإثمها، وليست بمعقودة ولا كفارة فيها كما ذهب إليه الجمهور، وقال الشافعي: هي يمين معقودة لأنها مكتسبة بالقلب معقودة بخبر مقرونة باسم الله، والراجح الأول وجميع الأحاديث الواردة في تكفير اليمين متوجهة إلى المعقودة ولا يدل شيء منها على الغموس، بل ما ورد في الغموس إلا الوعيد والترهيب، وإنها من الكبائر، بل من أكبر الكبائر، وفيها نزل قوله تعالى: "إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً" الآية. قوله: "فكفارته" الكفارة: هي مأخوذة من التكفير وهو التستير، وكذلك الكفر هو الستر، والكافر هو الساتر، لأنها تستر الذنب وتغطيه، والضمير في كفارته راجع إلى ما في قوله: "بما عقدتم". " إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم " المراد بالوسط هنا المتوسط بين طرفي الإسراف والتقتير، وليس المراد به الأعلى كما في غير هذا الموضع: أي أطعموهم من المتوسط مما تعتادون إطعام أهليكم منه، ولا يجب عليكم أن تطعموهم من أعلاه، ولا يجوز لكم أن تطعموهم من أدناه، وظاهره أنه يجزئ إطعام عشرة حتى يشبعوا. وقد روي عن علي بن أبي طالب أنه قال: لا يجزئ إطعام العشرة غداء دون عشاء حتى يغديهم ويعشيهم. قال أبو عمر: هو قول أئمة الفتوى بالأمصار. وقال الحسن البصري وابن سيرين: يكفيه أن يطعم عشرة مساكين أكلة واحدة خبزاً وسمناً أو خبزاً ولحماً. وقال عمر بن الخطاب وعائشة ومجاهد والشعبي وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي وميمون بن مهران وأبو مالك والضحاك والحكم ومكحول وأبو قلابة ومقاتل: يدفع إلى كل واحد من العشرة نصف صاع من بر أو تمر. وروي ذلك عن علي. وقال أبو حنيفة نصف صاع بر وصاع مما عداه. وقد أخرج ابن ماجه وابن مردويه عن ابن عباس قال: كفر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصاع من تمر وكفر الناس به، ومن لم يجد فنصف صاع من بر، وفي إسناده عمر بن عبد الله بن يعلى الثقفي وهو مجمع على ضعفه. وقال الدارقطني: متروك. قوله: "أو كسوتهم" عطف على إطعام. قرئ بضم الكاف وكسرها وهما لغتان مثل أسوة وإسوة. وقرأ سعيد بن جبير ومحمد بن السميفع اليماني أو كأسوتهم: يعني كأسوة أهليكم والكسوة في الرجال تصدق على ما يكسو البدن ولو كان ثوباً واحداً، وهكذا في كسوة النساء، وقيل الكسوة للنساء درع وخمار، وقيل المراد بالكسوة ما تجزئ به الصلاة. قوله: "أو تحرير رقبة" أي إعتاق مملوك، والتحرير: الإخراج من الرق، وتستعمل التحرير في فك الأسير وإعفاء المجهود يعمل عن عمله وترك إنزال الضرر به، ومنه قول الفرزدق: أبني غدانة أنني حررتــــكم فوهبتكم لعطية بن جعال أي حررتكم من الهجاء الذي كان سيضع منكم ويضر بأحسابكم. ولأهل العلم أبحاث في الرقبة التي تجزئ في الكفارة، وظاهر هذه الآية أنها تجزئ كل رقبة على أي صفة كانت. وذهب جماعة منهم الشافعي إلى اشتراط الإيمان فيها قياساً على كفارة القتل "فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام" أي فمن لم يجد شيئاً من الأمور المذكورة فكفارته صيام ثلاثة أيام، وقرئ متتابعات حكي ذلك عن ابن مسعود وأبي، فتكون هذه القراءة مقيدة لمطلق الصوم. وبه قال أبو حنيفة والثوري وهو أحد قولي الشافعي. وقال مالك والشافعي في قوله الآخر: يجزئ التفريق "ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم" أي ذلك المذكور كفارة أيمانكم إذا حلفتم وحنثتم، ثم أمرهم بحفظ الأيمان وعدم المسارعة إليها أو إلى الحنث بها، والإشارة بقوله: "كذلك" إلى مصدر الفعل المذكور بعده، أي مثل ذلك البيان "يبين الله لكم" وقد تكرر هذا في مواضع من الكتاب العزيز "لعلكم تشكرون" ما أنعم به عليكم من بيان شرائعه وإيضاح أحكامه. وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: لما نزلت: "يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم" في القوم الذين كانوا حرموا على أنفسهم النساء واللحم قالوا: يا رسول الله كيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها؟ فأنزل الله: "لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم". وأخرج عبد بن حميد عن سعيد بن جبير في اللغو قال: هو الرجل يحلف على الحلال. وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد قال: هما الرجلان يتبايعان، يقول أحدهما: والله لا أبيعك بكذا، ويقول الآخر: والله لا أشتريه بكذا. وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن النخعي قال: اللغو أن يصل كلامه بالحلف: والله لتأكلن والله لتشربن ونحو هذا لا يريد به يميناً ولا يتعمد حلفاً، فهو لغو اليمين ليس عليه كفارة، وقد تقدم الكلام في البقرة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد "ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان" قال: بما تعبدتم. وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن قتادة نحوه. وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقيم كفارة اليمين مداً من حنطة، وفي إسناده النضر بن زرارة بن عبد الكريم الذهلي الكوفي. قال أبو حاتم: مجهول، وذكره ابن حبان في الثقات. وقد تقدم حديث ابن عباس وتضعيفه. وأخرج ابن مردويه عن أسماء بنت أبي بكر قالت: كنا نعطي في كفارة اليمين بالمد الذي نقتات به. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عمر بن الخطاب قال: إني أحلف لا أعطي أقواماً، ثم يبدو لي فأعطيهم، فأطعم عشرة مساكين كل مسكين صاعاً من شعير أو صاعاً من تمر أو نصف صاع من قمح. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن علي بن أبي طالب قال: في كفارة اليمين إطعام عشرة مساكين لكل مسكين نصف صاع من حنطة. وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس مثله. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ من طرق قال: في كفارة اليمين مد من حنطة لكل مسكين. وأخرج هؤلاء إلا ابن أبي حاتم عن زيد بن ثابت مثله. وأخرج هؤلاء أيضاً عن ابن عمر مثله. وأخرج ابن المنذر عن أبي هريرة مثله. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب قال: تغديهم وتعشيهم إن شئت خبزاً ولحماً أو خبزاً وزيتاً أو خبزاً وسمناً أو خبزاً تمراً. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "من أوسط ما تطعمون أهليكم" قال: من عسركم ويسركم. وأخرج ابن ماجه عنه قال: الرجل يقوت أهله قوتاً فيه سعة وكان الرجل يقوت أهله قوتاً فيه شدة، فنزلت: "من أوسط ما تطعمون أهليكم". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عنه نحو ذلك. وأخرج الطبراني وابن مردويه عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "أو كسوتهم" قال: عباءة لكل مسكين، قال ابن كثير: حديث غريب. وأخرج ابن مردويه "عن حذيفة قال: قلت يا رسول الله "أو كسوتهم" ما هو؟ قال: عباءة عباءة". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: عباءة لكل مسكين أو شملة. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر قال: الكسوة ثوب أو إزار. وأخرج ابن جرير والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال: في كفارة اليمين هو بالخيار في هؤلاء الثلاثة الأول فالأول فإن لم يجد من ذلك شيئاً فصيام ثلاثة أيام متتابعات. وأخرج ابن مردويه عنه نحوه.
قوله: 90- "يا أيها الذين آمنوا" خطاب لجميع المؤمنين. وقد تقدم تفسير الميسر في سورة البقرة "والأنصاب" هي الأصنام المنصوبة للعبادة "والأزلام". قد تقدم تفسيرها في أول هذه السورة، والرجس يطلق على العذرة والأقذار. وهو خبر للخمر، وخبر للمعطوف عليه محذوف. وقوله: "من عمل الشيطان" صفة لرجس: أي كائن من عمل الشيطان، بسبب تحسينه لذلك وتزيينه له وقيل هو الذي كان عمل هذه الأمور بنفسه فاقتدى به بنو آدم والضمير في "فاجتنبوه" راجع إلى الرجس أو إلى المذكور. وقوله: "لعلكم تفلحون" علة لما قبله. قال في الكشاف: أكد تحريم الخمر والميسر وجوهاً من التأكيد، منها تصدير الجملة بإنما، ومنها أنه قرنهما بعبادة الأصنام ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "شارب الخمر كعابد الوثن" ومنها أنه جعلهما رجساً، كما قال: "فاجتنبوا الرجس من الأوثان"، ومنها أنه جعلهما من عمل الشيطان والشيطان لا يأتي منه إلا الشر البحت، ومنها أنه أمر بالاجتناب، ومنها أنه جعل الاجتناب من الفلاح، وإذا كان الاجتناب فلاحاً كان الارتكاب خيبة ومحقة، ومنها أنه ذكر ما ينتج منهما من الوبال، وهو وقوع التعادي والتباغض بين أصحاب الخمر والقمر، وما يؤديان إليه من الصد عن ذكر الله وعن مراعاة أوقات الصلوات انتهى. وفي هذه الآية دليل على تحريم الخمر لما تضمنه الأمر بالاجتناب من الوجوب وتحريم الصد، ولما تقرر في الشريعة من تحريم قربان الرجس فضلاً عن جعله شراباً يشرب. قال أهل العلم من المفسرين وغيرهم: كان تحريم الخمر بتدريج ونوازل كثيرة، لأنهم كانوا قد ألفوا شربها وحببها الشيطان إلى قلوبهم، فأول ما نزل في أمرها "يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس" فترك عند ذلك بعض من المسلمين شربها ولم يتركه آخرون، ثم نزل قوله تعالى: "لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى" فتركها البعض أيضاً، وقالوا: لا حاجة لنا فيما يشغلنا عن الصلاة، وشربها البعض في غير أوقات الصلاة، حتى نزلت هذه الآية: "إنما الخمر والميسر" فصارت حراماً عليهم، حتى كان يقول بعضهم ما حرم الله شيئاً أشد من الخمر، وذلك لما فهموه من التشديد فيما تضمنته هذه الآية من الزواجر، وفيما جاءت به الأحاديث الصحيحة من الوعيد لشاربها، وأنها من كبائر الذنوب.
وقد أجمع على ذلك المسلمون إجماعاً لا شك فيه ولا شبهة، وأجمعوا أيضاً على تحريم بيعها والانتفاع بها ما دامت خمراً، وكما دلت هذه الآية على تحريم الخمر دلت أيضاً على تحريم الميسر والأنصاب والأزلام. وقد أشارت هذه الآية إلى ما في الخمر والميسر من المفاسد الدنيوية بقوله: 91- "إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء" ومن المفاسد الدينية بقوله: "ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة". قوله: "فهل أنتم منتهون" فيه زجر بليغ يفيده الاستفهام الدال على التقريع والتوبيخ. ولهذا قال عمر رضي الله عنه لما سمع هذا: انتهينا.
ثم أكد الله سبحانه هذا التحريم بقوله: 92- "وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا" أي مخالفتهما: أي مخالفة الله ورسوله، فإن هذا وإن كان أمراً مطلقاً فالمجيء به في هذا الموضع يفيد ما ذكرناه من التأكيد، وهكذا ما أفاده بقوله: "فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين" أي إن أعرضتم عن الامتثال، فقد فعل الرسول ما هو الواجب عليه من البلاغ الذي فيه رشادكم وصلاحكم، ولم تضروا بالمخالفة إلا أنفسكم، وفي هذا من الزجر ما لا يقادر قدره ولا يبلغ مداه.
قوله: 93- "ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا" أي من المطاعم التي يشتهونها، والطعم وإن كان استعماله في الأكل أكثر لكنه يجوز استعماله في الشرب، ومنه قوله تعالى: "ومن لم يطعمه فإنه مني" أباح الله سبحانه لهم في هذه الآية جميع ما طعموا كائنا ما كان مقيداً بقوله: "إذا ما اتقوا" أي اتقوا ما هو محرم عليهم كالخمر وغيره من الكبائر، وجميع المعاصي "وآمنوا" بالله "وعملوا الصالحات" من الأعمال التي شرعها الله لهم: أي استمروا على عملها. قوله: "ثم اتقوا" عطف على اتقوا الأول: أي اتقوا ما حرم عليهم بعد ذلك مع كونه كان مباحاً فيما سبق "وآمنوا" بتحريمه "ثم اتقوا" ما حرم عليهم بعد التحريم المذكور قبله مما كان مباحاً من قبل "وأحسنوا" أي اعملوا الأعمال الحسنة، هذا معنى الآية، وقيل التكرير باعتبار الأوقات الثلاثة، وقيل إن التكرير باعتبار المراتب الثلاث، المبدأ، والوسط، والمنتهى، وقيل إن التكرار باعتبار ما يتقيه الإنسان، فإنه ينبغي له أن يترك المحرمات توقياً من العذاب، والشبهات توقياً من الوقوع في الحرام، وبعض المباحات حفظاً للنفس عن الخسة، وقيل إنه لمجرد التأكيد، كما في قوله تعالى: " كلا سوف تعلمون * ثم كلا سوف تعلمون " هذه الوجوه كلها مع قطع النظر عن سبب نزول الآية إما مع النظر إلى سبب نزولها، وهو أنه لما نزل تحريم الخمر، قال قوم من الصحابة: كيف بمن مات منا وهو يشربها ويأكل الميسر؟ فنزلت، فقد قيل: إن المعنى "اتقوا" الشرك "وآمنوا" بالله ورسوله "ثم اتقوا" الكبائر "وآمنوا" أي ازدادوا إيماناً "ثم اتقوا" الصغائر "وأحسنوا" أي تنفلوا. قال ابن جرير الطبري: الاتقاء الأول هو الاتقاء بتلقي أمر الله بالقبول والتصديق والدينونة به والعمل، والاتقاء الثاني الاتقاء بالثبات على التصديق، والثالث الاتقاء بالإحسان والتقرب بالنوافل، وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن ابن عمر قال: " نزل في الخمر ثلاث آيات فأول شيء " يسألونك عن الخمر والميسر " الآية ، فقيل حرمت الخمر فقيل : يا رسول الله دعنا ننتفع بها كما قال الله، فسكت عنهم، ثم نزلت هذه الآية: "لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى"، فقيل حرمت الخمر، فقالوا: يا رسول الله لا نشربها قرب الصلاة، فسكت عنهم، ثم نزلت: "يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر" الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:حرمت الخمر". وأخرج أحمد عن أبي هريرة قال: حرمت الخمر ثلاث مرات وذكر نحو حديث ابن عمر، "فقال الناس: يا رسول الله ناس قتلوا في سبيل الله وماتوا على فراشهم كانوا يشربون الخمر ويأكلون الميسر، وقد جعله الله رجساً من عمل الشيطان، فأنزل الله: "ليس على الذين آمنوا" الآية، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو حرم عليهم لتركوه كما تركتم". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس في ناسخه وأبو الشيخ وابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص قال: في نزل تحريم الخمر، صنع رجل من الأنصار طعاماً فدعا ناساً فأتوه، فأكلوا وشربوا حتى انتشوا من الخمر، وذلك قبل أن تحرم الخمر فتفاخروا، فقالت الأنصار: الأنصار خير من المهاجرين، وقال قريش: قريش خير، فأهوى رجل بلحي جمل فضرب على أنفي، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فنزلت هذه الآية: "يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر" الآية. وأخرج عبد بن حميد والنسائي وابن جرير وابن المنذر والطبراني وأبو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال: أنزل تحريم الخمر في قبيلتين من الأنصار شربوا، فلما أن ثمل القوم عبث بعضهم ببعض، فلما أن صحوا جعل يرى الرجل منهم الأثر بوجهه وبرأسه ولحيته، فيقول: صنع بي هذا أخي فلان وكانوا إخوة ليس في قلوبهم ضغائن، والله لو كان بي رؤوفاً رحيماً ما صنع بي هذا حتى وقعت الضغائن في قلوبهم، فأنزل الله هذه الآية: "يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر" إلى قوله: "فهل أنتم منتهون" فقال ناس من المتكلفين: هي رجس، وهي في بطن فلان قتل يوم بدر وفلان قتل يوم أحد، فأنزل الله هذه الآية: "ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا" الآية. وقد رويت في سبب النزول روايات كثيرة موافقة لما قد ذكرناه. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة قال: الميسر هو القمار كله. وأخرج ابن مردويه عن وهب بن كيسان قال: قلت لجابر متى حرمت الخمر؟ قال: بعد أحد. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن قتادة قال: نزل تحريم الخمر في سورة المائدة، بعد غزوة الأحزاب. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ عن ابن عباس قال: كل القمار من الميسر حتى لعب الصبيان بالجوز والكعاب. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن علي بن أبي طالب قال: النرد والشطرنج من الميسر. وأخرج عبد بن حميد عن علي قال: الشطرنج ميسر الأعاجم. وأخرج ابن أبي حاتم عن القاسم بن محمد أنه سئل عن النرد أهي من الميسر؟ قال: كل ما ألهى عن ذكر الله وعن الصلاة فهو ميسر. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي الدنيا في ذم الملاهي والبيهقي في الشعب عنه أيضاً أنه قيل له: هذه النرد تكرهونها فما بال الشطرنج؟ قال: كل ما ألهي عن ذكر الله وعن الصلاة فهو من الميسر. وأخرجوا أيضاً عن ابن الزبير قال: يا أهل مكة بلغني عن رجال يلعبون بلعبة يقال لها النردشير، والله يقول في كتابه: "يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر" إلى قوله: "فهل أنتم منتهون" وإني أحلف بالله لا أوتي بأحد يلعب بها إلا عاقبته في شعره وبشره، وأعطيت سلبه من أتاني به. وأخرج ابن أبي الدنيا عن مالك بن أنس قال: الشطرنج من النرد، بلغنا عن ابن عباس أنه ولي مال يتيم فأحرقها. وأخرج ابن أبي الدنيا عن أبي جعفر أنه سئل عن الشطرنج فقال: تلك المجوسية فلا تلعبوا بها. وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي الدنيا عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لعب بالنردشير فقد عصى الله ورسوله". وأخرج أحمد عن عبد الرحيم الخطمي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مثل الذي يلعب بالنرد ثم يقوم فيصلي مثل الذي يتوضأ بالقيح ودم الخنزير ثم يقوم فيصلي". وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي الدنيا عن عبد الله بن عمر قال: اللاعب بالنرد قماراً كآكل لحم الخنزير، واللاعب بها من غير قمار كالمدهن بودك الخنزير. وأخرج ابن أبي الدنيا عن يحيى بن كثير قال: "مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم يلعبون بالنرد فقال قلوب لاهية وأيدي عليلة وألسنة لاغية". وأخرج عبد بن حميد وابن أبي الدنيا وأبو الشيخ عن قتادة قال: الميسر القمار. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ من طريق ليث عن عطاء وطاوس ومجاهد قالوا: كل شيء فيه قمار فهو من الميسر حتى لعب الصبيان بالجوز والكعاب. وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي الدنيا وأبو الشيخ عن ابن سيرين قال: القمار من الميسر. وأخرج ابن أبي الدنيا وأبو الشيخ عن يزيد بن شريح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث من الميسر: الصفير بالحمام، والقمار، والضرب بالكعاب". وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: الأنصاب حجارة كانوا يذبحون لها، والأزلام قداح كانوا يستقسمون بها الأمور. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: كانت لهم حصيات إذا أراد أحدهم أن يغزو أو يجلس استقسم بها. وأخرج ابن المنذر عن مجاهد في الأزلام قال: هي كعاب فارس التي يقتمرون بها، وسهام العرب. وقد وردت أحاديث كثيرة في ذم الخمر وشاربها والوعيد الشديد عليه وأن كل مسكر حرام وهي مدونة في كتب الحديث فلا نطول المقام بذكرها فلسنا بصدد ذلك، بل نحن بصدد ما هو متعلق بالتفسير.
قوله: 94- "ليبلونكم" أي ليختبرنكم، واللام جواب قسم محذوف، كان الصيد أحد معايش العرب فابتلاهم الله بتحريمه مع الإحرام وفي الحرم، كما ابتلى بني إسرائيل أن لا يعتدوا في السبت، وكان نزول الآية في عام الحديبية، أحرم بعضهم وبعضهم لم يحرم، فكان إذا عرض صيد اختلفت فيه أحوالهم. وقد اختلف العلماء في المخاطبين بهذه الآية هل هم المحلون أو المحرمون؟ فذهب إلى الأول مالك وإلى الثاني ابن عباس، والراجح أن الخطاب للجميع، ولا وجه لقصره على البعض دون البعض، و من في "من الصيد" للتبعيض وهو صيد البر، قاله ابن جرير الطبري وغيره، وقيل إن من بيانية: أي شيء حقير من الصيد، وتنكير شيء للتحقير. قوله: "تناله أيديكم ورماحكم". قرأ ابن وثاب "يناله" بالياء التحتية، هذه الجملة تقتضي تعميم الصيد، وأنه لا فرق بين ما يؤخذ باليد وهو ما لا يطيق الفرار كالصغار والبيض، وبين ما تناله الرماح: وهو ما يطيق الفرار وخص الأيدي بالذكر: لأنها أكثر ما يتصرف به الصائد في أخذ الصيد، وخص الرماح بالذكر لأنها أعظم الآلات للصيد عند العرب. قوله: "ليعلم الله من يخافه بالغيب"، أي ليتميز عند الله من يخافه منكم بسبب عقابه الأخروي فإنه غائب عنكم غير حاضر "فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم" أي بعد هذا البيان الذي امتحنكم الله به، لأن الاعتداء بعد العلم بالتحريم معاندة لله سبحانه وتجرئة عليه.
قوله: 95- "لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم" نهاهم عن قتل الصيد في حال الإحرام، وفي معناه "غير محلي الصيد وأنتم حرم" وهذا النهي شامل لكل أحد من ذكور المسلمين وإناثهم، لأنه يقال رجل حرام وامرأة حرام والجمع حرم، وأحرم الرجل: دخل في الحرم. قوله: "ومن قتله منكم متعمداً" المتعمد: هو القاصد للشيء مع العلم بالإحرام، والمخطئ: هو الذي يقصد شيئاً فيصيب صيداً، والناسي: هو الذي يتعمد الصيد ولا يذكر إحرامه. وقد استدل ابن عباس وأحمد في رواية، وداود عنه باقتصاره سبحانه على العامد بأنه لا كفارة على غيره، بل لا تجب إلا عليه وحده. وبه قال سعيد بن جبير وطاوس وأبو ثور. وقيل إنها تلزم الكفارة المخطئ والناسي كما تلزم المتعمد، وجعلوا قيد التعمد خارجاً مخرج الغالب، روي عن عمر والحسن والنخعي والزهري، وبه قال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم، وروي عن ابن عباس. وقيل إنه يجب التكفير على العامد الناسي لإحرامه، وبه قال مجاهد، قال: فإن كان ذاكراً لإحرامه فقد حل ولا حج له لارتكابه محظور إحرامه، فبطل عليه كما لو تكلم في الصلاة أو أحدث فيها. قوله: "فجزاء مثل ما قتل من النعم" أي فعليه جزاء مماثل لما قتله، و "من النعم" بيان للجزاء المماثل. قيل المراد المماثلة في القيمة، وقيل في الخلقة. وقد ذهب إلى الأول أبو حنيفة، وذهب إلى الثاني مالك والشافعي وأحمد والجمهور، وهو الحق لأن البيان للمماثل بالنعم يفيد ذلك، وكذلك يفيده هدياً بالغ الكعبة. وروي عن أبي حنيفة أنه يجوز إخراج القيمة ولو وجد المثل، وأن المحرم مخير. وقرئ " فجزاء مثل ما قتل " وقرئ "فجزاء مثل" على إضافة جزاء إلى مثل، وقرئ بنصبهما على تقدير فليخرج جزاء مثل ما قتل، وقرأ الحسن "النعم" بسكون العين تخفيفاً "يحكم به" أي بالجزاء أو بمثل ما قتل "ذوا عدل منكم" أي رجلان معروفان بالعدالة بين المسلمين، فإذا حكما بشيء لزم، وإن اختلفا رجع إلى غيرهما، ولا يجوز أن يكون الجاني أحد الحكمين، وقيل يجوز، وبالأول قال أبو حنيفة، وبالثاني قال الشافعي في أحد قوليه: وظاهر الآية يقتضي حكمين غير الجاني. قوله: "هدياً بالغ الكعبة" نصب هدياً على الحال أو البدل من مثل، و "بالغ الكعبة" صفة لهدياً، لأن الإضافة غير حقيقية، والمعنى أنهما إذا حكما بالجزاء فإنه يفعل به ما يفعل بالهدي من الإرسال إلى مكة والنحر هنالك، والإشعار والتقليد، ولم يرد الكعبة بعينها فإن الهدي لا يبلغها، وإنما أراد الحرم، ولا خلاف في هذا. قوله: "أو كفارة" معطوف على محل من النعم: وهو الرفع لأنه خبر مبتدأ محذوف، و "طعام مساكين" عطف بيان لكفارة أو بدل منه أو خبر مبتدأ محذوف "أو عدل ذلك" معطوف على طعام، وقيل هو معطوف على جزاء، وفيه ضعف، فالجاني مخير بين هذه الأنواع المذكورة، وعدل الشيء ما عادله من غير جنسه، و "صياماً" منصوب على التمييز، وقد قرر العلماء عدل كل صيد من الإطعام والصيام، وقد ذهب إلى أن الجاني يخير بين الأنواع المذكورة جمهور العلماء. وروي عن ابن عباس أنه لا يجزئ المحرم الإطعام والصوم إلا إذا لم يجد الهدي، والعدل بفتح العين وكسرها لغتان وهما الميل قاله الكسائي. وقال الفراء: عدل الشيء بكسر العين مثله من جنسه، وبفتح العين مثله من غير جنسه، وبمثل قول الكسائي قال البصريون. قوله: "ليذوق وبال أمره" عليه لإيجاب الجزاء: أي أوجبنا ذلك عليه ليذوق وبال أمره، والذوق مستعار لإدراك المشقة، ومثله "ذق إنك أنت العزيز الكريم" والوبال: سوء العاقبة، والمرعى الوبيل: الذي يتأذى به بعد أكله، وطعام وبيل: إذا كان ثقيلاً. قوله: "عفا الله عما سلف" يعني في جاهليتكم من قتلكم للصيد، وقيل عما سلف قبل نزول الكفارة "ومن عاد" إلى ما نهيتم عنه من قتل الصيد بعد هذا البيان "فينتقم الله منه" خبر مبتدأ محذوف: أي فهو ينتقم الله منه. قيل المعنى: إن الله ينتقم منه في الآخرة فيعذبه بذنبه، وقيل ينتقم منه بالكفارة. قال شريح وسعيد بن جبير: يحكم عليه في أول مرة، فإذا عاد لم يحكم عليه بل يقال له: اذهب ينتقم الله منك: أي ذنبك أعظم من أن يكفر.
قوله: 96- "أحل لكم صيد البحر" الخطاب لكل مسلم أو للمحرمين خاصة، وصيد البحر ما يصاد فيه، والمراد بالبحر هنا كل ماء يوجد فيه صيد بحري وإن كان نهراً أو غديراً. قوله: "وطعامه متاعاً لكم وللسيارة" الطعام لكل ما يطعم، وقد تقدم. وقد اختلف في المراد به هنا فقيل: هو ما قذف به البحر وطفا عليه، وبه قال كثير من الصحابة والتابعين، وقيل طعامه ما ملح منه وبقي، وبه قال جماعة، وروي عن ابن عباس، وقيل طعامه ملحه الذي ينعقد من مائه وسائر ما فيه من نبات وغيره، وبه قال قوم، وقيل المراد به ما يطعم من الصيد: أي ما يحل أكله وهو السمك فقط، وبه قالت الحنفية. والمعنى: أحل لكم الانتفاع بجميع ما يصاد في البحر، وأحل لكم المأكول منه وهو السمك، فيكون التخصيص بعد التعميم، وهو تكلف لا وجه له، ونصب متاعاً على أنه مصدر: أي متعتم به متاعاً، وقيل مفعول له مختص بالطعام: أي أحل لكم طعام البحر متاعاً، وهو تكلف جاء به من قال بالقول الأخير، بل إذا كان مفعولاً له كان من الجميع: أي أحل لكم مصيد البحر وطعامه تمتيعاً لكم: أي لمن كان مقيماً منكم يأكله طرياً "وللسيارة" أي المسافرين منكم يتزودونه ويجعلونه قديداً، وقيل السيارة: هم الذين يركبونه خاصة. قوله: "وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرماً" أي حرم عليكم ما يصاد في البر ما دمتم محرمين، وظاهره تحريم صيده على المحرم ولو كان الصائد حلالاً، وإليه ذهب الجمهور إن كان الحلال صاده للمحرم لا إذا لم يصده لأجله، وهو القول الراجح، وبه يجمع بين الأحاديث، وقيل إنه يحل له مطلقاً، وإليه ذهب جماعة: وقيل يحرم عليه مطلقاً، وإليه ذهب آخرون، وقد بسطنا هذا في شرحنا للمنتقي. قوله: "واتقوا الله الذي إليه تحشرون" أي اتقوا الله فيما نهاكم عنه الذي إليه تحشرون لا إلى غيره، وفيه تشديد ومبالغة في التحذير. وقرئ "وحرم عليكم صيد البر" بالبناء للفاعل وقرئ "ما دمتم" بكسر الدال.
قوله: 97- "جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس" جعل هنا بمعنى خلق، وسميت الكعبة كعبة لأنها مربعة والتكعيب التربيع وأكثر بيوت العرب مدورة لا مربعة، وقيل سميت كعبة لنتوئها وبروزها، وكل بارز كعب مستديراً كان أو غير مستدير، ومنه كعب القدم، وكعوب القنا، وكعب ثدي المرأة، و "البيت الحرام" عطف بيان وقيل مفعول ثان ولا وجه له، وسمي بيتاً لأن له سقوفاً وجدراً وهي حقيقة البيت وإن لم يكن به ساكن، وسمي حراماً لتحريم الله سبحانه إياه. وقوله: "قياماً للناس" كذا قرأ الجمهور وقرأ ابن عامر "قيماً" وهو منصوب على أنه المفعول الثاني إن كان جعل هو المتعدي إلى مفعولين، وإن كان بمعنى خلق كما تقدم فهو منتصب على الحال، ومعنى كونه قياماً: أنه مدار لمعاشهم ودينهم: أي يقومون فيه بما يصلح دينهم ودنياهم: يأمن فيه خفائفهم، وينصر فيه ضعيفهم، ويربح فيه تجارهم، ويتعبد فيه متعبدهم. قوله: "والشهر الحرام" عطف على الكعبة، وهو ذو الحجة، وخصه من بين الأشهر الحرم لكونه زمان تأدية الحج، وقيل هو اسم جنس. والمراد به الأشهر الحرم ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، ورجب، فإنهم كانوا لا يطلبون فيها دماً، ولا يقاتلون بها عدواً، ولا يهتكون فيها حرمة، فكانت من هذه الحيثية قياماً للناس "والهدي والقلائد" أي وجعل الله الهدي والقلائد قياماً للناس. والمراد بالقلائد: ذوات القلائد من الهدي، ولا مانع من أن يراد بالقلائد أنفسها، والإشارة بذلك إلى الجعل: أي ذلك الجعل "لتعلموا أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض" أي لتعلموا أن الله يعلم تفاصيل أمر السموات والأرض ويعلم مصالحكم الدينية والدنيوية فإنها من جملة ما فيهما، فكل ما شرعه لكم فهو جلب لمصالحكم، ودفع لما يضركم "وأن الله بكل شيء عليم" هذا تعميم بعد التخصيص.
98- "اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم" ثم أمرهم بأن يعلموا بأن الله لمن انتهك محارمه ولم يتب عن ذلك شديد العقاب، وأنه لمن تاب وأناب غفور رحيم.
99- "ما على الرسول إلا البلاغ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون" ثم أخبرهم أن ما على رسوله إلا البلاغ لهم، فإن لم يمتثلوا ويطيعوا فما ضروا إلا أنفسهم وما جنوا إلا عليها، وأما الرسول عليه الصلاة والسلام فقد فعل ما يجب عليه، وقام بما أمره الله به. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله: "ومن قتله منكم متعمداً" قال: إن قتله متعمداً أو ناسياً أو خطأ حكم عليه، فإن عاد متعمداً عجلت له العقوبة إلا أن يعفو الله عنه، وفي قوله: "فجزاء مثل ما قتل من النعم" قال: إذا قتل المحرم شيئاً من الصيد حكم عليه فيه، فإن قتل ظبياً أو نحوه فعليه شاة تذبح بمكة، فإن لم يجد فإطعام ستة مساكين، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام، فإن قتل أيلاً ونحوه فعليه بقرة، فإن لم يجد أطعم عشرين مسكيناً، فإن لم يجد صام عشرين يوماً، وإن قتل نعامة أو حمار وحش أو نحوه فعليه بدنة، فإن لم يجد أطعم ستين مسكيناً، فإن لم يجد صام ثلاثين يوماً، والطعام مد مد يشبعهم. وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم عن الحكم أن عمر كتب أن يحكم عليه في الخطأ والعمد. وأخرجا نحوه عن عطاء. وقد روي نحو هذا عن جماعات من السلف من غير فرق بين العامد والخاطئ والناسي، وروي عن آخرين اختصاص ذلك بالعامد. وللسلف في تقدير الجزاء المماثل وتقدير القيمة أقوال مبسوطة في مواطنها. وأخرج أبو الشيخ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال في بيضة النعام: "صيام يوم أو إطعام مسكين". وأخرج ابن أبي شيبة عن عبد الله بن ذكوان عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله. وأخرج أيضاً عن عائشة عنه صلى الله عليه وسلم نحوه. وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه من طريق أبي المهزم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "في بيض النعام ثمنه". وقد استنثى النبي صلى الله عليه وسلم من حيوانات الحرم الخمس الفواسق كما ورد ذلك في الأحاديث فإنه يجوز للمحرم أن يقتلها ولا شيء عليه. وأخرج ابن جرير عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: "أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم" ما لفظ ميتاً فهو طعامه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي هريرة موقوفاً مثله. وأخرج أبو الشيخ عن أبي بكر الصديق نحوه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عكرمة أن أبا بكر الصديق قال في قوله: "أحل لكم صيد البحر وطعامه" قال: صيد البحر ما تصطاده أيديناً، وطعامه ما لاثه البحر، وفي لفظ: كل ما فيه. وفي لفظ: طعامه ميتته. ويؤيد هذا ما في الصحيحين من حديث العنبرة التي ألقاها البحر فأكل الصحابة منها وقررهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك، وحديث هو: "الطهور ماؤه والحل ميتته". وحديث: "أحل لكم ميتتان ودمان". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس" قال: قياماً لدينهم ومعالم حجهم. وأخرج ابن جرير عنه قال: قيامها أن يأمن من توجه إليها. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن شهاب قال: جعل الله الكعبة البيت الحرام والشهر الحرام قياماً للناس يأمنون به في الجاهلية الأولى، لا يخاف بعضهم من بعض حين يلقونهم عند البيت أو في الحرم أو في الشهر الحرام. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: "جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد" قال: حواجز أبقاها الله بين الناس في الجاهلية، فكان الرجل لو جر كل جريرة ثم لجأ إلى الحرم لم يتناول ولم يقرب، وكان الرجل لو لقي قاتل أبيه في الشهر الحرام لم يعرض له ولم يقربه، وكان الرجل لو لقي الهدي مقلداً وهو يأكل العصب من الجوع لم يعرض له ولم يقربه، وكان الرجل إذا أراد البيت تقلد قلادة من شعر فحمته ومنعته من الناس، وكان إذا نفر تقلد قلادة من الإذخر أو من السمر، فتمنعه من الناس حتى يأتي أهله حواجز أبقاها الله بين الناس في الجاهلية. وأخرج أبو الشيخ عن زيد بن أسلم "قياماً للناس" قال: أمنا.
قيل المراد بالخبيث والطيب: الحرام والحلال، وقيل المؤمن والكافر، وقيل العاصي والمطيع، وقيل الرديء والجيد. والأولى أن الاعتبار بعموم اللفظ فيشمل هذه المذكورات وغيرها مما يتصف بوصف الخبث والطيب من الأشخاص والأعمال والأقوال، فالخبيث لا يساوي الطيب بحال من الأحوال. قوله: 100- "ولو أعجبك كثرة الخبيث" قيل الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وقيل لكل مخاطب يصلح لخطابه بهذا. والمراد نفي الاستواء في كل الأحوال، ولو في حال كون الخبيث معجباً للرائي للكثرة التي فيه، فإن هذه الكثرة مع الخبيث في حكم العدم، لأن خبث الشيء يبطل فائدته، ويمحق بركته، ويذهب بمنفعته، والواو إما للحال أو للعطف على مقدر: أي لا يستوي الخبيث والطيب لو لم تعجبك كثرة الخبيث، ولو أعجبك كثرة الخبيث كقولك أحسن إلى فلان وإن أساء إليك: أي أحسن إليه إن لم يسيء إليك وإن أساء إليك، وجواب لو محذوف: أي ولو أعجبك كثرة الخبيث فلا يستويان.
قوله: 101- "يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم" أي لا تسألوا عن أشياء لا حاجة لكم بالسؤال عنها ولا هي مما يعنيكم في أمر دينكم، فقوله: "إن تبد لكم تسؤكم" في محل جر صفة لأشياء: أي لا تسألوا عن أشياء متصفة بهذه الصفة من كونها إذا بدت لكم: أي ظهرت وكلفتم بها ساءتكم، نهاهم الله عن كثرة مساءلتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن السؤال عما لا يعني ولا تدعو إليه حاجة قد يكون سبباً لإيجابه على السائل وعلى غيره. قوله: "وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم" هذه الجملة من جملة صفة أشياء. والمعنى: لا تسألوا عن أشياء أن تسألوا عنها حين ينزل القرآن، وذلك مع وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهركم ونزول الوحي عليه "تبد لكم" أي تظهر لكم بما يجيب عليكم به النبي صلى الله عليه وسلم، أو ينزل به الوحي فيكون ذلك سبباً للتكاليف الشاقة وإيجاب ما لم يكن واجباً وتحريم ما لم يكن محرماً، بخلاف السؤال عنها بعد انقطاع الوحي بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لا إيجاب ولا تحريم يتسبب عن السؤال. وقد ظن بعض أهل التفسير أن الشرطية الثانية فيها إباحة السؤال مع وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزول الوحي عليه، فقال: إن الشرطية الأولى أفادت عدم جواز السؤال، والثانية أفادت جوازه، فقال إن المعنى: وإن تسألوا عن غيرها مما مست إليه الحاجة تبد لكم بجواب رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها، وجعل الضمير في "عنها" راجعاً إلى أشياء غير الأشياء المذكورة، وجعل ذلك كقوله: "ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين" وهو آدم، ثم قال: "ثم جعلناه نطفة" أي ابن آدم. قوله: "عفا الله عنها" أي عما سلف من مسألتكم فلا تعودوا إلى ذلك. وقيل المعنى: إن تلك الأشياء التي سألتم عنها هي مما عفا عنه ولم يوجبه عليكم، فكيف تتسببون بالسؤال لإيجاب ما هو عفو من الله غير لازم؟ وضمير "عنها" عائد إلى المسألة الأولى، وإلى أشياء على الثاني على أن تكون جملة "عفا الله عنها" صفة ثالثة لأشياء، والأول أولى، لأن الثاني يستلزم أن يكون ذلك المسؤول عنه قد شرعه الله ثم عفا عنه، ويمكن أن يقال إن العفو بمعنى الترك: أي تركها الله ولم يذكرها بشيء فلا تبحثوا عنها، وهذا معنى صحيح لا يستلزم ذلك اللازم الباطل، ثم جاء سبحانه بصيغة المبالغة في كونه غفوراً حليماً ليدل بذلك على أنه لا يعاجل من عصاه بالعقوبة لكثرة مغفرته وسعة حلمه.
قوله: 102- "قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين" الضمير يرجع إلى المسألة المفهومة من "لا تسألوا" لكن ليست هذه المسألة بعينها، بل مثلها في كونها مما لا حاجة إليه ولا توجبه الضرورة الدينية ثم لم يعملوا بها، بل أصبحوا بها كافرين: أي ساترين لها تاركين للعمل بها، وذلك كسؤال قوم صالح الناقة، وأصحاب عيسى المائدة، ولا بد من تقييد النهي في هذه الآية بما لا تدعو إليه حاجة كما قدمنا، لأن الأمر الذي تدعو الحاجة إليه في أمور الدين والدنيا قد أذن الله بالسؤال عنه فقال: "فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون" وقال صلى الله عليه وسلم: "قاتلهم الله ألا سألوا فإنما شفاء العي السؤال".
قوله: 103- "ما جعل الله من بحيرة" هذا كلام مبتدأ يتضمن الرد على أهل الجاهلية فيما ابتدعوه، وجعل ههنا بمعنى سمى كما قال "إنا جعلناه قرآناً عربياً". والبحيرة: فعيلة بمعنى مفعولة كالنطيحة والذبيحة، وهي مأخوذة من البحر، وهو شق الأذن. قال ابن سيده: البحيرة هي التي خليت بلا راع، قيل هي التي يجعل درها للطواغيت فلا يحتلبها أحد من الناس، وجعل شق أذنها علامة لذلك. وقال الشافعي: كانوا إذا نتجت الناقة خمسة أبطن إناثاً بحرت أذنها فحرمت، وقيل إن الناقة إذا نتجت خمسة أبطن، فإن كان الخامس ذكراً بحروا أذنه فأكله الرجال والنساء، وإن كان الخامس أنثى بحروا أذنها وكانت حراماً على النساء لحمها ولبنها، وقيل إذا نتجت الناقة خمسة أبطن من غير تقييد بالإناث شقوا أذنها وحرموا ركوبها ودرها. والسائبة: الناقة تسيب، أو البعير يسيب نذر على الرجل إن سلمه الله من مرض أو بلغه منزله، فلا يحبس عن رعي ولا ماء، ولا يركبه أحد قاله أبو عبيد. قال الشاعر: وسائبة لله تنمي تشكــرا إن الله عافى عامراً ومجاشعا وقيل هي التي تسيب لله فلا قيد عليها ولا راعي لها، ومنه قول الشاعر: عقرتم ناقة كانت لـــربي مسيبة فقومــوا للعقــــاب وقيل هي التي تابعت بين عشر إناث ليس بينهن ذكر، فعند ذلك لا يركب ظهرها. ولا يجز وبرها ولا يشرب لبنها إلا ضيف، وقيل كانوا يسيبون العبد فيذهب حيث يشاء لا يد عليه لأحد. والوصيلة: قيل هي الناقة إذا ولدت أنثى بعد أنثى، وقيل هي الشاة كانت إذا ولدت أنثى فهي لهم، وإن ولدت ذكراً فهو لآلهتهم، وإن ولدت ذكراً وأنثى قالوا وصلت أخاها فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم، وقيل كانوا إذا ولدت الشاة سبعة أبطن نظروا، فإن كان السابع ذكراً ذبح فأكل منه الرجال والنساء، وإن كانت أنثى تركت في الغنم، وإن كان ذكراً وأنثى قالوا وصلت أخاها فلم يذبح لمكانها، وكان لحمها حراماً على النساء، إلا أن يموت فيأكلها الرجال والنساء. والحام: الفحل الحامي ظهره عن أن يركب، وكانوا إذا ركب ولد الفحل قالوا حمى ظهره فلا يركب، قال الشاعر: حماها أبو قابوس في عز ملكه كما قد حمى أولاده الفحل
وقيل هو الفحل إذا نتج من صلبه عشرة، قالوا قد حمى ظهره فلا يركب ولا يمنع من كلأ ولا ماء، ثم وصفهم الله سبحانه بأنهم ما قالوا ذلك إلا افتراء على الله وكذباً، لا لشرع شرعه الله لهم ولا لعقل دلهم عليه، وسبحان الله العظيم ما أرك عقول هؤلاء وأضعفها، يفعلون هذه الأفاعيل التي هي محض الرقاعة ونفس الحمق 104- "وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا" وهذه أفعال آبائهم وسننهم التي سنوها لهم، وصدق الله سبحانه حيث يقول: " أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون " أي ولو كانوا جهلة ضالين، والواو للحال دخلت عليها همزة الاستفهام، وقيل للعطف على جملة مقدرة: أي أحسبهم ذلك ولو كان آباؤهم. وقد تقدم الكلام على مثل هذه الآية في البقرة. وقد صارت هذه المقالة التي قالتها الجاهلية نصب أعين المقلدة وعصاهم التي يتوكأون عليها إن دعاهم داعي الحق وصرخ لهم صارخ الكتاب والسنة فاحتجاجهم بمن قلدوه ممن هو مثلهم في التعبد بشرع الله مع مخالفة قوله لكتاب الله أو لسنة رسوله هو كقول هؤلاء، وليس الفرق إلا في مجرد العبارة اللفظية، لا في المعنى الذي عليه تدور الإفادة والاستفادة، اللهم غفراً. وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في الآية: قال الخبيث هم المشركون والطيب هم المؤمنون. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس قال: "خطب النبي صلى الله عليه وسلم خطبة ما سمعت مثلها قط، فقال رجل: من أبي؟ فقال فلان، فنزلت هذه الآية: "لا تسألوا عن أشياء"". وأخرج البخاري وغيره نحوه من حديث ابن عباس، وقد بين هذا السائل في روايات أخر أنه عبد الله بن حذافة وأنه قال: من أبي؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: أبوك حذافة. وأخرج ابن حبان عن أبي هريرة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب فقال: ياأيها الناس إن الله قد افترض عليكم الحج، فقام رجل، فقال: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت عنه فأعادها ثلاث مرات، فقال:لو قلت نعم لوجبت، ولو وجبت ما قمتم بها، ذروني ما تركتكم فإنما هلك الذين قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم" وذلك أن هذه الآية: أعني "لا تسألوا عن أشياء" نزلت في ذلك. وقد أخرج عنه نحو هذا ابن جرير وأبو الشيخ وابن مردويه. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس نحوه أيضاً. وأخرج أحمد والترمذي وابن ماجه وابن المنذر وابن أبي حاتم والدارقطني والحاكم وابن مردويه عن علي نحوه، وكل هؤلاء صرحوا في أحاديثهم أن الآية نزلت في ذلك. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن سعد بن أبي وقاص قال: كانوا يسألون عن الشيء وهو لهم حلال، فما زالوا يسألون حتى يحرم عليهم، وإذا حرم عليهم وقعوا فيه. وأخرج ابن المنذر عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعظم المسلمين في المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يحرم فيحرم من أجل مسألته". وأخرج ابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه عن أبي ثعلبة الخشني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله حد حدوداً فلا تعتدوها، وفرض لكم فرائض فلا تضيعوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وترك أشياء في غير نسيان ولكن رحمة لكم فاقبلوها ولا تبحثوا عنها". وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "لا تسألوا عن أشياء" قال: البحيرة والسائبة والوصيلة والحام. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن سعيد بن المسيب قال: البحيرة التي يمنع درها للطواغيت ولا يجلبها أحد من الناس، والسائبة كانوا يسيبونها لآلهتهم لا يحمل عليها شيء، والوصيلة الناقة البكر تبكر في أول نتاج الإبل ثم تثني بعد بأنثى. وكانوا يسيبونها لطواغيتهم إن وصلت إحداهما بالأخرى ليس بينهما ذكر، والحامي فحل الإبل يضرب الضراب المعدود، فإذا قضى ضرابه ودعوه للطواغيت وأعفوه من الحمل فلم يحمل عليه شيء وسموه الحامي. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: البحيرة الناقة إذا نتجت خمسة أبطن نظروا إلى الخامس، فإن كان ذكراً ذبحوه فأكله الرجال دون النساء، وإن كانت أنثى جدعوا آذانها فقالوا هذه بحيرة، وأما السائبة فكانوا يسيبون من أنعامهم لآلهتهم لا يركبون لها ظهراً، ولا يحلبون لها لبناً، ولا يجزون لها وبراً، ولا يحملون عليها شيئاً، وأما الوصيلة فالشاة إذا نتجت سبعة أبطن نظروا إلى السابع، فإن كان ذكراً أو أنثى وهو ميت اشترك فيه الرجال دون النساء، وإن كانت أنثى استحيوها، وإن كان ذكراً أو أنثى في بطن استحيوهما وقالوا وصلته أخته فحرمته علينا. وأما الحام فالفحل من الإبل إذا ولد لولده قالوا: حمى هذا ظهره فلا يحملون عليه شيئاً، ولا يجزون له وبراً، ولا يمنعونه من حمى ولا من حوض يشرب منه، وإن كان الحوض لغير صاحبه. وأخرج نحوه عنه ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه من طريق العوفي.
أي الزموا أنفسكم أو احفظوها كما تقول عليك زيداً: أي الزمه، قرئ 105- "لا يضركم" بالجزم على أنه جواب الأمر الذي يدل عليه اسم الفعل. وقرأ نافع وغيره بالرفع على أنه مستأنف، كقول الشاعر: فقال رائدهم أرسوا نزاولها أو على أن ضم الراء للاتباع، وقرئ "لا يضركم" بكسر الضاد، وقرئ لا يضيركم والمعنى: لا يضركم ضلال من ضل من الناس إذا اهتديتم للحق أنتم في أنفسكم، وليس في الآية ما يدل على سقوط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن من تركه مع كونه من أعظم الفروض الدينية فليس بمهتد. وقد قال الله سبحانه "إذا اهتديتم" وقد دلت الآيات القرآنية، والأحاديث المتكاثرة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجوباً مضيقاً متحتماً، فتحمل هذه الآية على من لا يقدر على القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو لا يظن التأثير بحال من الأحوال، أو يخشى على نفسه أن يحل به ما يضره ضرراً يسوغ له معه الترك "إلى الله مرجعكم" يوم القيامة "فينبئكم بما كنتم تعملون" في الدنيا فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته. وقد أخرج ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد وأبو داود والترمذي وصححه، والنسائي وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان والدارقطني والضياء في المختارة وغيرهم، عن قيس بن أبي حازم قال: قام أبو بكر فحمد الله وأثنى عليه وقال: يا أيها الناس إنكم تقرأون هذه الآية "يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم" وإنكم تضعونها على غير مواضعها، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب". وفي لفظ لابن جرير عنه: "والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليعمنكم الله منه بعقاب". وأخرج الترمذي وصححه، وابن ماجة وابن جرير والبغوي في معجمه، وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ والحاكم وصححه، وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أبي أمية الشعثاني قال: "أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت له: كيف تصنع في هذه الآية؟ قال: أية آية؟ قلت: قوله "يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم" قال: أما والله لقد سألت عنها خبيراً، سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً وهوى متبعاً ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك ودع عنك أمر العوام، فإن من ورائكم أياماً الصبر فيهن مثل القبض على الجمر، للعامل فيهن أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عملكم". وفي لفظ "قيل: يا رسول الله أجر خمسين رجلاً منا أو منهم؟ قال:بل أجر خمسين منكم". وأخرج أحمد وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه "عن عامر الأشعري أنه كان فيهم أعمى، فاحتبس على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أتاه فقال: ما حبسك؟ قال: يا رسول الله قرأت هذه الآية "يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم" قال: فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:أين ذهبتم؟ إنما هي لا يضركم من ضل إذا اهتديتم". وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والطبراني وأبو الشيخ عن الحسن: أن ابن مسعود سأله رجل عن قوله: "عليكم أنفسكم" فقال: يا أيها الناس إنه ليس بزمانها إنها اليوم مقبولة، ولكنه قد أوشك أن يأتي زمان تأمرون بالمعروف فيصنع بكم كذا وكذا، أو قال: فلا يقبل منكم، فحينئذ عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حيد عنه في الآية قال: "مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر ما لم يكن من دون ذلك السوط والسيف، فإذا كان كذلك فعليكم أنفسكم". وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عمر أنه قال في هذه الآية: إنها لأقوام يجيئون من بعدنا إن قالوا لم يقبل منهم. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن رجل قال: كنت في خلافة عمر بن الخطاب بالمدينة في حلقة فيهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا فيهم شيخ حسبت أنه قال أبي بن كعب، فقرأ "عليكم أنفسكم" فقال: إنما تأويلها في آخر الزمان. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ عن أبي مازن قال: انطلقت على عهد عثمان إلى المدينة فإذا قوم جلوس فقرأ أحدهم "عليكم أنفسكم" فقال أكثرهم: لم يجئ تأويل هذه الآية اليوم. وأخرج ابن جرير عن جبير بن نفير قال: كنت في حلقة فيها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وإني لأصغر القوم، فتذاكروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقلت: أليس الله يقول: "عليكم أنفسكم"؟ فأقبلوا علي بلسان واحد فقالوا: تنزع آية من القرآن لا نعرفها ولا ندري ما تأويلها؟ حتى تمنيت أني لم أكن تكلمت، ثم أقبلوا يتحدثون، فلما حضر قيامهم قالوا: إنك غلام حدث السن، وإنك نزعت آية لا ندري ما هي؟ وعسى أن تدرك ذلك الزمان: إذا رأيت شحاً مطاعاً وهوى متبعاً وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بنفسك لا يضرك من ضل إذا اهتديت. وأخرج ابن مردويه عن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحو حديث أبي ثعلبة الخشني المتقدم، وفي آخره: "كأجر خمسين رجلاً منكم". وأخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال: ذكرت هذه الآية عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لم يجئ تأويلها، لا يجيء تأويلها حتى يهبط عيسى ابن مريم عليه السلام". والروايات في هذا الباب كثيرة، وفيما ذكرناه كفاية، ففيه ما يرشد إلى ما قدمناه من الجمع بين هذه الآية وبين الآيات والأحاديث الواردة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
قال مكي: هذه الآيات الثالث عند أهل المعاني من أشكل ما في القرآن إعراباً ومعنى وحكماً. قال ابن عطية: هذا كلام من لم يقع له النتاج في تفسيرها، وذلك بين من كتابه رحمه الله: يعني من كتاب مكي. قال القرطبي: ما ذكره مكي ذكره أبو جعفر النحاس قبله أيضاً. قال السعد في حاشيته على الكشاف: واتفقوا على أنها أصعب ما في القرآن إعراباً ونظماً وحكماً. قوله: 106- "شهادة بينكم" أضاف الشهادة إلى البين توسعاً لأنها جارية بينهم، وقيل أصله شهادة ما بينكم فحذفت ما وأضيفت إلى الظرف كقوله تعالى: "بل مكر الليل والنهار" ومنه قول الشاعر: تصافح من لاقيت لي ذا عداوة صفايا وعني بين عينيك منزوي أراد ما بين عينيك، ومثله الآخر: ويوماً شهدناه سليماً وعامرا أي شهدنا فيه، ومنه قوله تعالى: "هذا فراق بيني وبينك" قيل والشهادة هنا بمعنى الوصية، وقيل بمعنى الحضور للوصية. وقال ابن جرير الطبري: هي هنا بمعنى اليمين، فيكون المعنى: يمين ما بينكم أن يحلف اثنان. واستدل على ما قاله بأنه لا يعلم لله حكماً يجب فيه على الشاهد يمين. واختار هذا القول القفال، وضعف ذلك ابن عطية واختار أن الشهادة هنا هي الشهادة التي تؤدى من الشهود. قوله: "إذا حضر أحدكم الموت" ظرف للشهادة، والمراد إذا حضرت علاماته، لأن من مات لا يمكنه الإشهاد، وتقديم المفعول للاهتمام ولكمال تمكن الفاعل عند النفس. وقوله: "حين الوصية" ظرف لحضر أو للموت، أو بدل من الظرف الأول. وقوله: "اثنان" خبر شهادة على تقدير محذوف: أي شهادة اثنين أو فاعل للشهادة على أن خبرها محذوف: أي فيما فرض عليكم شهادة بينكم اثنان على تقدير أن يشهد اثنان، ذكر الوجهين أبو علي الفارسي. قوله: "ذوا عدل منكم" صفة للاثنان وكذا منكم: أي كائنان منكم: أي من أقاربكم "أو آخران" معطوف على "اثنان"، و "من غيركم" صفة له: أي كائنان من الأجانب، وقيل إن الضمير في "منكم" للمسلمين، وفي "غيركم" للكفار وهو الأنسب لسياق الآية، وبه قال أبو موسى الأشعري وعبد الله بن عباس وغيرهما، فيكون في الآية دليل على جواز شهادة أهل الذمة على المسلمين في السفر في خصوص الوصايا كما يفيده النظم القرآني، ويشهد له السبب للنزول وسيأتي، فإذا لم يكن مع الموصي من يشهد على وصيته من المسلمين فليشهد رجلان من أهل الكفر، فإذا قدما وأديا الشهادة على وصيته حلفا بعد الصلاة أنهما ما كذبا ولا بدلا، وأن ما شهدا به حق، فيحكم حينئذ بشهادتهم. "فإن عثر" بعد ذلك "على أنهما" كذا أو خانا حلف رجلان من أولياء الموصي وغرم الشاهدان الكافران ما ظهر عليهما من خيانة أو نحوها، هذا معنى الآية عند من تقدم ذكره، وبه قال سعيد بن المسيب ويحيى بن يعمر وسعيد بن جبير وأبو مجلز والنخعي وشريح وعبيدة السلماني وابن سيرين ومجاهد وقتادة والسدي والثوري وأبو عبيد وأحمد بن حنبل. وذهب إلى الأول: أعني تفسير ضمير "منكم" بالقرابة أو العشيرة، وتفسير "من غيركم" بالأجانب الزهري والحسن وعكرمة. وذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة وغيرهم من الفقهاء أن الآية منسوخة، واحتجوا بقوله: "ممن ترضون من الشهداء". وقوله: "وأشهدوا ذوي عدل منكم" فهما عامان في الأشخاص والأزمان والأحوال، وهذه الآية خاصة بحالة الضرب في الأرض وبالوصية وبحالة عدم الشهود المسلمين، ولا تعارض بين عام وخاص. قوله: "إن أنتم" هو فاعل فعل محذوف يفسره ضربتم، أو مبتدأ وما بعده خبره، والأول مذهب الجمهور من النحاة، والثاني مذهب الأخفش والكوفيين. والضرب في الأرض هو السفر. وقوله: "فأصابتكم مصيبة الموت" معطوف على ما قبله وجوابه محذوف، أي إن ضربتم في الأرض فنزل بكم الموت وأردتم الوصية ولم تجدوا شهوداً عليها مسلمين، ثم ذهبا إلى ورثتكم بوصيتكم وبما تركتم فارتابوا في أمرهما وادعوا عليهما خيانة، فالحكم أن تحبسوهما، ويجوز أن يكون استئنافاً لجواب سؤال مقدر، كأنهم قالوا: فكيف نصنع إن ارتبنا في الشهادة؟ فقال: تحبسونهما من بعد الصلاة إن ارتبتم في شهادتهما. وخص بعد الصلاة: أي صلاة العصر، قاله الأكثر لكونه الوقت الذي يغضب الله على من حلف فيه فاجراً كما في الحديث الصحيح، وقيل لكونه وقت اجتماع الناس وقعود الحكام للحكومة، وقيل صلاة الظهر، وقيل أي صلاة كانت. قال أبو علي الفارسي: "تحبسونهما" صفة لآخران، واعترض بين الصفة والموصوف بقوله: "إن أنتم ضربتم في الأرض"، والمراد بالحبس: توقيف الشاهدين في ذلك الوقت لتحليفهما، وفيه دليل على جواز الحبس بالمعنى العام، وعلى جواز التغليظ على الحالف بالزمان والمكان ونحوهما. قوله: "فيقسمان بالله" معطوف على "تحبسونهما" أي يقسم بالله الشاهدان على الوصية أو الوصيان. وقد استدل بذلك ابن أبي ليلى على تحليف الشاهدين مطلقاً إذا حصلت الريبة في شهادتهما. وفيه نظر لأن تحليف الشاهدين هنا إنما هو لوقوع الدعوى عليهما بالخيانة أو نحوها. قوله: "إن ارتبتم" جواب هذا الشرط محذوف دل عليه ما تقدم كما سبق. قوله: "لا نشتري به ثمناً" جواب القسم، والضمير في "به" راجع إلى الله تعالى. والمعنى: لا نبيع حظنا من الله تعالى بهذا العرض النزر، فنحلف به كاذبين لأجل المال الذي ادعيتموه علينا، وقيل يعود إلى القسم: أي لا نستبدل بصحة القسم بالله عرضاً من أعراض الدنيا، وقيل يعود إلى الشهادة، وإنما ذكر الضمير لأنها بمعنى القول: أي لا نستبدل بشهادتنا ثمناً. قال الكوفيون: المعنى ذا ثمن، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه وهذا مبني على أن العروض لا تسمى ثمناً، وعند الأكثر أنها تسمى ثمناً كا تسمى مبيعاً. قوله: "ولو كان ذا قربى" أي ولو كان المقسم له أو المشهود له قريباً فإنا نؤثر الحق والصدق، ولا نؤثر العرض الدنيوي ولا القرابة، وجواب لو محذوف لدلالة ما قبله عليه: أي ولو كان ذا قربى لا نشتري به ثمناً. قوله: "ولا نكتم شهادة الله" معطوف على "لا نشتري" داخل معه في حكم القسم، وأضاف الشهادة إلى الله سبحانه لكونه الآمر بإقامتها والناهي عن كتمها.
قوله: 107- "فإن عثر على أنهما استحقا إثماً" عثر على كذا: اطلع عليه، يقال عثرت منه على خيانة: أي اطلعت وأعثرت غيري عليه، ومنه قوله تعالى: "وكذلك أعثرنا عليهم" وأصل العثور الوقوع والسقوط على الشيء، ومنه قول الأعشى: بذات لوث عصرنا إذ عثرت فالتعس أولى لها من أن أقول لعا والمعنى: أنه إذا اطلع بعد التحليف على أن الشاهدين أو الوصيين استحقا إثماً: أي استوجبا إثماً إما بكذب في الشهادة أو اليمين أو بظهور خيانة. قال أبو علي الفارسي: الإثم هنا اسم الشيء المأخوذ، لأن آخذه يأثم بأخذه، فسمي إثماً كما سمي ما يؤخذ بغير حق مظلمة. وقال سيبويه: المظلمة اسم ما أخذ منك فكذلك سمي هذا المأخوذ باسم المصدر. قوله: "فآخران يقومان مقامهما" أي فشاهدان آخران أو فحالفان آخران يقومان مقام اللذين عثر على أنهما استحقا إثماً فيشهدان أو يحلفان على ما هو الحق، وليس المراد أنهما يقومان مقامهما في أداء الشهادة التي شهدها المستحقان للإثم. قوله: "من الذين استحق عليهم الأوليان" استحق مبني للمفعول، في قراءة الجمهور: وقرأ علي وأبي وابن عباس وحفص على البناء للفاعل، و "الأوليان" على القراءة الأولى مرتفع على أنه خبر مبتدأ محذوف: أي هما الأوليان، كأنه قيل من هما؟ فقيل هما الأوليان، وقيل هو بدل من الضمير في يقومان أو من آخران. وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة "الأولين". جمع أول على أنه بدل من الذين، أو من الهاء والميم في عليهم. وقرأ الحسن " الأوليان ". والمعنى على بناء الفعل للمفعول: من الذين استحق عليهم الإثم: أي جنى عليهم، وهم أهل الميت وعشيرته فإنهم أحق بالشهادة أو اليمين من غيرهم، فالأوليان تثنية أولى. والمعنى على قراءة البناء للفاعل: من الذين استحق عليهم الأوليان من بينهم بالشهادة أن يجردوهما للقيام بالشهادة ويظهروا بهما كذب الكاذبين لكونهما الأقربين إلى الميت، فالأوليان فاعل استحق ومفعوله أن يجردوهما للقيام بالشهادة، وقيل المفعول محذوف، والتقدير: من الذين استحق عليهم الأوليان بالميت وصيته التي أوصى بها. قوله: "فيقسمان بالله" عطف على "يقومان": أي فيحلفان بالله لشهادتنا: أي يميننا، فالمراد بالشهادة هنا اليمين، كما في قوله تعالى: "فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله" أي يحلفان لشهادتنا على أنهما كاذبان خائنان أحق من شهادتهما: أي من يمينهما على أنهما صادقان أمينان "وما اعتدينا" أي تجاوزنا الحق في يميننا "إنا إذاً لمن الظالمين" إن كنا حلفنا على باطل.
قوله: 108- "ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها" أي ذلك البيان الذي قدمه الله سبحانه في هذه القصة وعرفنا كيف يصنع من أراد الوصية في السفر؟ ولم يكن عنده أحد من أهله وعشيرته وعنده كفار "أدنى" أي أقرب إلى أن يؤدي الشهود المتحملون للشهادة على الوصية بالشهادة على وجهها فلا يحرفوا ولا يبدلوا ولا يخونوا وهذا كلام مبتدأ يتضمن ذكر المنفعة والفائدة في هذا الحكم الذي شرعه الله في هذا الموضع من كتابه، فالضمير في "يأتوا" عائد إلى شهود الوصية من الكفار، وقيل إنه راجع إلى المسلمين المخاطبين بهذا الحكم. والمراد تحذيرهم من الخيانة، وأمرهم بأن يشهدوا الحق. قوله: "أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم" أي ترد على الورثة فيحلفون على خلاف ما شهد به شهود الوصية فيفتضح حينئذ شهود الوصية، وهو معطوف على قوله: "أن يأتوا" فتكون الفائدة في شرع الله سبحانه لهذا الحكم هي أحد الأمرين: إما احتراز شهود الوصية عن الكذب والخيانة فيأتون بالشهادة على وجهها. أو يخافوا الافتضاح إذا ردت الأيمان على قرابة الميت فحلفوا بما يتضمن كذبهم أو خيانتهم فيكون ذلك سبباً لتأدية شهادة شهود الوصية على وجهها من غير كذب ولا خيانة، وقيل إن "يخافوا" معطوف على مقدر بعد الجملة الأولى، والتقدير: ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها ويخافوا عذاب الآخرة بسبب الكذب والخيانة أو يخافوا الافتضاح برد اليمين، فأي الخوفين وقع حصل المقصود "واتقوا الله" في مخالفة أحكامه "والله لا يهدي القوم الفاسقين" الخارجين عن طاعته بأي ذنب، ومنه الكذب في اليمين أو الشهادة. وحاصل ما تضمنه هذا المقام من الكتاب العزيز أن من حضرته علامات الموت أشهد على وصيته عدلين من عدول المسلمين، فإن لم يجد شهوداً مسلمين، وكان في سفر، ووجد كفاراً جاز له أن يشهد رجلين منهم على وصيته، فإن ارتاب بهما ورثة الموصي حلفا بالله على أنهما شهدا بالحق وما كتما من الشهادة شيئاً ولا خانا مما تركه الميت شيئاً، فإن تبين بعد ذلك خلاف ما أقسما عليه من خلل في الشهادة أو ظهور شيء من تركة الميت زعما أنه قد صار في ملكهما بوجه من الوجوه حلف رجلان من الورثة وعمل بذلك. وقد أخرج الترمذي وضعفه، وابن جرير وابن أبي حاتم والنحاس في تاريخه، وأبو الشيخ وابن مردويه وأبو نعيم في المعرفة من طريق أبي النضر وهو الكلبي، عن باذان مولى أم هانئ عن ابن عباس، عن تميم الداري في هذه الآية: "يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت" قال: برئ الناس منها غيري وغير عدي بن بداء، وكانا نصرانيين يختلفان إلى الشام قبل الإسلام، فأتيا الشام لتجارتهما، وقدم عليهما مولى لبني سهم يقال له بديل بن أبي مريم بتجارة، ومعه جام من فضة يريد به الملك وهو عظم تجارته، فمرض فأوصى إليهما وأمرهما أن يبلغا ما ترك أهله، قال تميم: فلما أخذنا ذلك الجامع فبعناه بألف درهم ثم اقتسمناه أنا وعدي بن بداء، فلما قدمنا إلى أهله دفعنا إليهم ما كان معنا، وفقدوا الجام فسألونا عنه، فقلنا: ما ترك غير هذا، أو ما دفع إلينا غيره، قال تميم: فلما أسلمت بعد قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة تأثمت من ذلك فأتيت أهله فأخبرتهم الخبر وأديت إليهم خمسمائة درهم وأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها، فأتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألهم البينة فلم يجدوا، فأمرهم أن يستحلفوه بما يعظم به على أهل دينه، فحلف فأنزل الله: "يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم" إلى قوله: "أن ترد أيمان بعد أيمانهم" فقام عمرو بن العاص ورجل آخر فحلفا، فنزعت الخمسمائة درهم من عدي بن بداء. وفي إسناده أبو النضر، وهو محمد بن السائب الكلبي صاحب التفسير، قال الترمذي: تركه أهل العلم بالحديث. وأخرج البخاري في تاريخه والترمذي وحسنه وابن جرير وابن المنذر والنحاس والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال: خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بداء، فمات السهمي بأرض ليس فيها مسلم، فأوصى إليهما، فلما قدما بتركته فقدوا جاماً من فضة مخرصاً بالذهب، فأحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بالله ما كتمتماها ولا أطلعتما، ثم وجدوا الجام بمكة فقيل: اشتريناه من تميم وعدي، فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وإن الجام لصاحبهم، وأخذوا الجام، قال: وفيهم نزلت "يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم" الآية، وفي إسناده محمد بن أبي القاسم الكوفي، قال الترمذي: قيل إنه صالح الحديث، وقد روى ذلك أبو داود من طريقه. وقد روى جماعة من التابعين أن هذه القصة هي السبب في نزول الآية، وذكرها المفسرون في تفاسيرهم. وقال القرطبي: إنه أجمع أهل التفسير على أن هذه القصة هي سبب نزول الآية. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس "يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم" الآية. قال: هذا لمن مات وعنده المسلمون أمره الله أن يشهد على وصيته عدلين مسلمين، ثم قال: "أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض" فهذا لمن مات وليس عنده أحد من المسلمين أمر الله بشهادة رجلين من غير المسلمين، فإن ارتيب بشهادتهما استحلفا بالله بعد الصلاة ما اشتريا بشهادتهما ثمناً قليلاً، فإن اطلع الأولياء على أن الكافرين كذبا في شهادتهما، وثم رجلان من الأولياء فحلفا بالله أن شهادة الكافرين باطلة، فذلك قوله: "فإن عثر على أنهما استحقا إثماً" يقول: إن اطلع على أن الكافرين كذبا "ذلك أدنى أن" يأتي الكفاران "بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم" فتترك شهادة الكافرين ويحكم بشهادة الأولياء، فليس على شهود المسلمين أقسام: إنما الأقسام إذا كانا كافرين. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن مسعود أنه سئل عن هذه الآية فقال: هذا رجل خرج مسافراً ومعه مال فأدركه قدره، فإن وجد رجلين من المسلمين دفع إليهما تركته وأشهد عليهما عدلين من المسلمين، فإن لم يجد عدلين من المسلمين فرجلين من أهل الكتاب، فإن أدى فسبيل ما أدى، وإن جحد استحلف بالله الذي لا إله إلا هو دبر صلاة إن هذا الذي دفع إلي وما غيبت منه شيئاً، فإذا حلف بريء، فإذا أتى بعد ذلك صاحبا الكتاب فشهدا عليه، ثم ادعى القوم عليه من تسميتهم ما لهم جعلت أيمان الورثة مع شهادتهم ثم اقتطعوا حقه، فذلك الذي يقول الله: "اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم". وأخرج ابن أبي حاتموأبو الشيخ وابن مردويه والضياء في المختارة عن ابن عباس في قوله: "أو آخران من غيركم" قال: من غير المسلمين من أهل الكتاب. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: هذه الآية منسوخة. وأخرج ابن جرير عن زيد بن أسلم في الآية قال: كان ذلك في رجل توفي وليس عنده أحد من أهل الإسلام، وذلك في أول الإسلام والأرض حرب والناس كفار إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالمدينة، وكان الناس يتوارثون بالوصية، ثم نسخت الوصية وفرضت الفرائض وعمل المسلمون بها. وأخرج ابن جرير أيضاً عن الزهري قال: مضت السنة أن لا تجوز شهادة كافر في حضر ولا سفر، إنما هي في المسلمين. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن عبيدة في قوله: "تحبسونهما من بعد الصلاة" قال: صلاة العصر. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله: "لا نشتري به ثمناً" قال: لا نأخذ به رشوة "ولا نكتم شهادة الله" وإن كان صاحبها بعيداً. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في قوله: "فإن عثر على أنهما استحقا إثماً" أي اطلع منهما على خيانة على أنهما كذبا أو كتما. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في قوله: "الأوليان" قال: بالميت. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قول: "ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها" يقول: ذلك أحرى أن يصدقوا في شهادتهم "أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم" يقول: وأن يخافوا العتب. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في قوله: "أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم" قال: فتبطل أيمانهم وتؤخذ أيمان هؤلاء.
قوله: 109- "يوم يجمع الله الرسل" العامل في الظرف فعل مقدر: أي اسمعوا، أو اذكروا، أو احذروا. وقال الزجاج: هو منصوب بقوله: "واتقوا الله" المذكور في الآية الأولى، وقيل بدل من مفعول "اتقوا" بدل اشتمال، وقيل ظرف لقوله: "لا يهدي" المذكور قبله، وقيل منصوب بفعل مقدر متأخر تقديره: "يوم يجمع الله الرسل" يكون من الأحوال كذا وكذا. قوله: "ماذا أجبتم" أي أي إجابة أجابتكم به أممكم الذين بعثكم الله إليهم؟ أو أي جواب أجابوكم به؟ وعلى الوجهين تكون ما منصوبة بالفعل المذكور بعدها، وتوجيه السؤال إلى الرسل لقصد توبيخ قومهم، وجوابهم بقولهم: "لا علم لنا" مع أنهم عالمون بما أجابوا به عليهم تفويض منهم، وإظهار للعجز، وعدم القدرة، ولا سيما مع علمهم بأن السؤال سؤال توبيخ فإن تفويض الجواب إلى الله أبلغ في حصول ذلك، وقيل المعنى: لا علم لنا بما أحدثوا بعدنا، وقيل لا علم لنا بما اشتملت عليه بواطنهم، وقيل المعنى: لا علم لنا إلا علم ما أنت أعلم به منا، وقيل إنهم ذهلوا عما أجاب به قومهم لهول المحشر.
قوله: 110- "إذ قال الله يا عيسى ابن مريم" إذ بدل من يوم يجمع، وهو تخصيص بعد التعميم وتخصيص عيسى عليه السلام من بين الرسل لاختلاف طائفتي اليهود والنصارى فيه إفراطاً وتفريطاً، هذه تجعله إلهاً، وهذه تجعله كاذباً، وقيل هو منصوب بتقدير اذكر. قوله: "اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك" ذكره سبحانه نعمته عليه وعلى أمه مع كونه ذاكراً لها عالماً بتفضل الله سبحانه بها لقصد تعريف الأمم بما خصهما الله به من الكرامة وميزهما به من علو المقام، أو لتأكيد الحجة وتبكيت الجاحد بأن منزلتهما عند الله هذه المنزلة وتوبيخ من اتخذهما إلهين ببيان أن ذلك الإنعام عليهما كله من عند الله سبحانه، وأنهما عبدان من جملة عباده منعم عليهما بنعم الله سبحانه ليس لهما من الأمر شيء. قوله: "إذ أيدتك بروح القدس" إذ ظرف للنعمة لأنها بمعنى المصدر: أي اذكر إنعامي عليك وقت تأييدي لك، أو حال من النعمة: أي كائنة ذلك الوقت "أيدتك" قويتك مأخوذ من الأيد، وهو القوة. وفي روح القدس وجهان: أحدهما أنها الروح الطاهرة التي خصه الله بها، وقيل إنه جبريل عليه السلام، وقيل إنه الكلام الذي يحيي به الأرواح. والقدس: الطهر، وإضافته إليه لكونه سببه، وجملة "تكلم الناس" مبينة لمعنى التأييد، و "في المهد" في محل نصب على الحال: أي تكلم الناس حال كونك صبياً وكهلاً لا يتفاوت كلامك في الحالتين مع أن غيرك يتفاوت كلامه فيهما تفاوتاً بيناً. وقوله: "وإذ علمتك الكتاب" معطوف على "إذ أيدتك" أي واذكر نعمتي عليك وقت تعليمي لك الكتاب: أي جنس الكتاب، أو المراد بالكتاب الخط. وعلى الأول يكون ذكر التوراة والإنجيل من عطف الخاص على العام، وتخصيصهما بالذكر لمزيد اختصاصه بهما: أما التوراة فقد كان يحتج بها على اليهود في غالب ما يدور بينه وبينهم من الجدال كما هو مصرح بذلك في الإنجيل، وأما الإنجيل فلكونه نازلاً عليه من عند الله سبحانه، والمراد بالحكمة جنس الحكمة، وقيل هي الكلام المحكم "وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير" أي تصور تصويراً مثل صورة الطير "بإذني" لك بذلك وتيسيري له "فتنفخ" في الهيئة المصورة "فتكون" هذه الهيئة " طائر " متحركاً حياً كسائر الطيور "وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني" لك وتسهيله عليك وتيسيره لك، وقد تقدم تفسير هذا مطولاً في البقرة فلا نعيده "وإذ تخرج الموتى" من قبورهم فيكون ذلك آية لك عظيمة "بإذني"، وتكرير بإذني في المواضع الأربعة للاعتناء بأن ذلك كله من جهة الله ليس لعيسى عليه السلام فيه فعل إلا مجرد امتثاله لأمر الله سبحانه. قوله: "وإذ كففت" معطوف على "إذ تخرج" كففت معناه: دفعت وصرفت "بني إسرائيل عنك" حين هموا بقتلك "إذ جئتهم بالبينات" بالمعجزات الواضحات "فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين" أي ما هذا الذي جئت به إلا سحر بين، لما عظم ذلك في صدرهم وانبهروا منه لم يقدروا على جحده بالكلية، بل نسبوه إلى السحر.
قوله: 111- "وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي" هو معطوف على ما قبله، وقد تقدم تفسير ذلك. والوحي في كلام العرب معناه الإلهام: أي ألهمت الحواريين وقذفت في قلوبهم، وقيل معناه: أمرتهم على ألسنة الرسل أن يؤمنوا بي بالتوحيد والإخلاص ويؤمنوا برسالة رسولي. قوله: "قالوا آمنا" جملة مستأنفة كأنه قيل ماذا قالوا؟ فقال: قالوا آمنا "واشهد بأننا مسلمون" أي مخلصون للإيمان: أي واشهد يا رب، أو واشهد يا عيسى. وقد أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم" فيفزعون فيقولون: "لا علم لنا" فترد إليهم أفئدتهم فيعلمون. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في الآية قال: ذلك أنهم نزلوا منزلاً ذهلت فيه العقول، فلما سئلوا قالوا: لا علم لنا، ثم نزلوا منزلاً آخر فشهدوا على قومهم. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس قال: قالوا: لا علم لنا فرقاً يذهل عقولهم، ثم يرد الله إليهم عقولهم فيكونون هم الذين يسألون بقول الله: "فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين". وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان يوم القيامة يدعى بالأنبياء وأممها ثم يدعى بعيسى فيذكره نعمته عليه فيقر بها، فيقول: يا عيسى ابن مريم "اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك "الآية، ثم يقول أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله؟ فينكر أن يكون قال ذلك، فيؤتى بالنصارى فيسألون، فيقولون نعم هو أمرنا بذلك، فيطول شعر عيسى حتى يأخذ كل ملك من الملائكة بشعرة من شعر رأسه وجسده، فيجاثيهم بين يدي الله مقدار ألف عام حتى يوقع عليهم الحجة ويرفع لهم الصليب وينطلق بهم إلى النار". وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات" أي بالآيات التي وضع على يديه من إحياء الموتى وخلقه من الطين كهيئة الطير وإبراء الأسقام والخبر بكثير من الغيوب. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله: "وإذ أوحيت إلى الحواريين" يقول: قذفت في قلوبهم. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة نحوه.
قوله: 112- "إذ قال الحواريون" الظرف منصوب بفعل مقدر: أي اذكر أو نحوه كما تقدم، قيل والخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم. قرأ الكسائي: " هل يستطيع " بالفوقية، ونصب ربك، وبه قرأ علي وابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد، وقرأ الباقون بالتحتية ورفع ربك. واستشكلت القراءة الثانية بأنه قد وصف سبحانه الحواريون بأنهم قالوا: "آمنا واشهد بأننا مسلمون" والسؤال عن استطاعته لذلك ينافي ما حكوه عن أنفسهم. وأجيب بأن هذا كان في أول معرفتهم قبل أن تستحكم معرفتهم بالله، ولهذا قال عيسى في الجواب عن هذا الاستفهام الصادر منهم: "اتقوا الله إن كنتم مؤمنين" أي لا تشكوا في قدرة الله، وقيل إنهم ادعوا الإيمان والإسلام دعوى باطلة، ويرده أن الحواريين هم خلصاء عيسى وأنصاره كما قال: "من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله" وقيل إن ذلك صدر ممن كان معهم، وقيل إنهم لم يشكوا في استطاعة الباري سبحانه، فإنهم كانوا مؤمنين عارفين بذلك، وإنما هو كقول الرجل: هل يستطيع فلان أن يأتي مع علمه بأن يستطيع ذلك ويقدر عليه، فالمعنى: هل يفعل ذلك وهل يجب إليه؟ وقيل إنهم طلبوا الطمأنينة كما قال إبراهيم عليه السلام: "رب أرني كيف تحيي الموتى" الآية، ويدل على هذا قولهم من بعد "وتطمئن قلوبنا" وأما القراءة الأولى، فالمعنى: هل تستطيع أن تسأل ربك. قال الزجاج: المعنى هل تستدعي طاعة ربك فيما تسأله فهو من باب "واسأل القرية"، والمائدة: الخوان إذا كان عليه الطعام، من ماده: إذا أعطاه ورفده كأنها تميد من تقدم إليه قاله قطرب وغيره، وقيل هي فاعلة بمعنى مفعولة كـ "عيشة راضية" قاله أبو عبيدة، فأجابهم عيسى عليه السلام بقوله: "اتقوا الله إن كنتم مؤمنين" أي اتقوه من هذا السؤال وأمثاله إن كنتم صادقين في إيمانكم، فإن شأن المؤمن ترك الاقتراح على ربه على هذه الصفة، وقيل إنه أمرهم بالتقوى ليكون ذلك ذريعة إلى حصول ما طلبوه.
قوله: 113- "قالوا نريد أن نأكل منها" بينوا به الغرض من سؤالهم نزول المائدة، وكذا ما عطف عليه من قولهم: "وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين" والمعنى: تطمئن قلوبنا بكمال قدرة الله، أو بأنك مرسل إلينا من عنده، أو بأن الله قد أجابنا إل ما سألناه، ونعلم علماً يقيناً بأنك قد صدقتنا في نبوتك، ونكون عليها من الشاهدين عند من لم يحضرها من بني إسرائيل أو من سائر الناس أو من الشاهدين لله بالوحدانية، أو من الشاهدين: أي الحاضرين دون السامعين.
ولما رأى عيسى ما حكوه عن أنفسهم من الغرض بنزول المائدة قال: "اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء" أي كائنة أو نازلة من السماء، وأصل اللهم عند سيبويه وأتباعه: يا الله، فجعلت الميم بدلاً من حرف النداء، وربنا نداء ثان، وليس بوصف، و "تكون لنا عيداً" وصف لمائدة. وقرأ الأعمش يكون لنا عيداً أي يكون يوم نزولها لنا عيداً، وقد كان نزولها يوم الأحد، وهو يوم عيد لهم، والعيد واحد الأعياد، وإنما جميع بالياء وأصله الواو للزومها في الواحد، وقيل للفرق بينه وبين أعواد جمع عود، ذكر معناه الجوهري، وقيل أصله من عاد يعود: أي رجع فهو عود بالواو، وتقلب ياء لانكسار ما قبلها مثل الميزان والميقات والميعاد، فقيل ليوم الفطر والأضحى عيدان، لأنهما يعودان في كل سنة. وقال الخليل: العيد كل يوم جمع كأنهم عادوا إليه. وقوله: "لأولنا وآخرنا" بدل من الضمير في لنا بتكرير العامل: أي لمن في عصرنا ولمن يأتي بعدنا من ذرارينا وغيرهم. قوله: "وآية منك" عطف على "عيداً": أي دلالة وحجة واضحة على كمال قدرتك وصحة إرسالك من أرسلته "وارزقنا" أي أعطنا هذه المائدة المطلوبة، أو ارزقنا رزقاً نستعين به على عبادتك "وأنت خير الرازقين" بل لا رازق في الحقيقة غيرك ولا معطي سواك.
فأجاب الله سبحانه سؤال عيسى عليه السلام فقال: 115- "إني منزلها" أي المائدة "عليكم". وقد اختلف أهل العلم هل نزلت عليهم المائدة أم لا؟ فذهب الجمهور إلى الأول وهو الحق لقوله سبحانه: "إني منزلها عليكم" ووعده الحق وهو لا يخلف الميعاد. وقال مجاهد: ما نزلت وإنما هو ضرب مثل ضربه الله لخلقه نهياً لهم عن مسألة الآيات لأنبيائه، وقال الحسن: وعدهم بالإجابة، فلما قال: "فمن يكفر بعد منكم" استغفروا الله وقالوا لا نريدها. قوله: "فمن يكفر بعد منكم" أي بعد تنزيلها "فإني أعذبه عذاباً" أي تعذيباً "لا أعذبه" صفة لعذاباً، والضمير عائد إلى العذاب بمعنى التعذيب: أي لا أعذب مثل ذلمك التعذيب "أحداً من العالمين" قيل المراد عالمي زمانهم، وقيل جمع العالمين، وفي هذا من التهديد والترهيب ما لا يقادر قدره. وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن عائشة قالت: كان الحواريون أعلم بالله من أن يقولوا: "هل يستطيع ربك" إنما قالوا: هل تستطيع أنت ربك أن تدعوه، ويؤيد هذا ما أخرجه الحاكم وصححه والطبراني وابن مردويه عن معاذ بن جبل أنه قال: أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هل يستطيع ربك " بالتاء يعني الفوقية. وأخرج أبو عبيد وعبد بن حميد وابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن عباس أنه قرأها كذلك. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: المائدة الخوان، وتطمئن: توقن. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي في قوله: "تكون لنا عيداً" يقول: نتخذ اليوم الذي نزلت فيه عيداً نعظمه نحن ومن بعدنا. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس: أنه كان يحدث عن عيسى ابن مريم أنه قال لبني إسرائيل: هل لكم أن تصوموا لله ثلاثين يوماً ثم تسألوه فيعطيكم ما سألتم؟ فإن أجر العامل على من عمل له، ففعلوا ثم قالوا: يا معلم الخير، قلت لنا إن أجر العامل على من عمل له، وأمرتنا أن نصوم ثلاثين يوماً، ففعلنا، ولم نكن نعمل لأحد ثلاثين يوماً إلا أطعمنا " هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة " إلى قوله: "أحداً من العالمين" فأقبلت الملائكة تطير بمائدة من السماء عليها سبعة أحوات وسبعة أرغفة حتى وضعتها بين أيديهم، فأكل منها آخر الناس كما أكل أولهم. وأخرج الترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن عمار بن ياسر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نزلت المائدة من السماء خبزاً ولحماً، وأمروا أن لا يخونوا ولا يدخروا لغد، فخافوا وادخروا ورفعوا لغد فمسخوا قردة وخنازير" وقد روي موقوفاً على عمار. قال الترمذي: والوقف أصح. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: المائدة سمكة وأريغفة. وأخرج ابن جرير من طريق العوفي عنه قال: نزلت على عيسى ابن مريم والحواريين خوان عليه سمك وخبز يأكلون منه أينما تولوا إذا شاءوا. وأخرج ابن جرير نحوه عنه من طريق عكرمة. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ عن عبد الله بن عمرو قال: إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة من كفر من أصحاب المائدة والمنافقون وآل فرعون.
قوله: 116- "وإذ قال الله" معطوف على ما قبله في محل نصب بعامله أو بعامل مقدر هنا: أي اذكر. وقد ذهب جمهور المفسرين إلى أن هذا القول منه سبحانه هو يوم القيامة. والنكتة توبيخ عباد المسيح وأمه من النصارى. وقال السدي وقطرب: إنه قال له هذا القول عند رفعه إلى السماء لما قالت النصارى فيه ما قالت، والأول أولى: قيل: "وإذ" هنا بمعنى إذا كقوله تعالى: "ولو ترى إذ فزعوا" أي إذا فزعوا، وقول أبي النجم: ثم جزاك الله عني إذ جزى جنات عدن في السموات العلى أي إذا جزى، وقول الأسود بن جعفر الأسدي: وفي الآن إذ هازلتهن فإنما يقلن ألا لم يذهب الشيخ مذهبا أي إذا هازلتهن تعبيراً عن المستقبل بلفظ الماضي تنبيهاً على تحقيق وقوعه. وقد قيل في توجيه هذا الاستفهام منه تعالى إنه لقصد التوبيخ كما سبق، وقيل لقصد تعريف المسيح بأن قومه غيروا بعده وادعوا عليه ما لم يقله. وقوله: "من دون الله" متعلق بقوله: "اتخذوني" على أنه حال: أي متجاوزين الحد، ويجوز أن يتعلق بمحذوف هو صفة لإلهين: أي كائنين من دون الله. قوله: "سبحانك" تنزيه له سبحانه: أي أنزهك تنزيهاً "ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق" أي ما ينبغي لي أن أدعي لنفس ما ليس من حقها "إن كنت قلته فقد علمته" رد ذلك إلى علمه سبحانه، وقد علم أنه لم يقله، فثبت بذلك عدم القول منه. قوله: "تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك" هذه الجملة في حكم التعليل لما قبلها: أي تعلم معلومي ولا أعلم معلومك، وهذا الكلام من باب المشاكلة كما هو معروف عند علماء المعاني والبيان، وقيل المعنى: تعلم ما في غيبي ولا أعلم ما في غيبك، وقيل تعلم ما أخفيه ولا أعلم ما تخفيه، وقيل تعلم ما أريد ولا أعلم ما تريد.
قوله: 117- "ما قلت لهم إلا ما أمرتني به" هذه جملة مقررة لمضمون ما تقدم: أي ما أمرتهم إلا بما أمرتني "أن اعبدوا الله ربي وربكم" هذا تفسير لمعنى "ما قلت لهم" أي ما أمرتهم، وقيل عطف بيان للمضمر في "به" وقيل بدل منه "وكنت عليهم شهيداً" أي حفيظاً ورقيباً أرعى أحوالهم وأمنعهم عن مخالفة أمرك "ما دمت فيهم" أي مدة دوامي فيهم "فلما توفيتني" قيل هذا يدل على أن الله سبحانه توفاه قبل أن يرفعه، وليس بشيء لأن الأخبار قد تظافرت بأنه لم يمت، وأنه باق في السماء على الحياة التي كان عليها في الدنيا حتى ينزل إلى الأرض آخر الزمان، ومنه قوله تعالى: "الله يتوفى الأنفس حين موتها" وبمعنى النوم، ومنه قوله تعالى: "وهو الذي يتوفاكم بالليل" أي ينيمكم، وبمعنى الرفع، ومنه "فلما توفيتني" " إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك " "كنت أنت الرقيب عليهم" أصل المراقبة: المراعاة، أي كنت الحافظ لهم والعالم بهم والشاهد عليهم.
118- "إن تعذبهم فإنهم عبادك" تصنع بهم ما شئت وتحكم فيهم بما تريد "وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم" أي القادر على ذلك الحكيم في أفعاله، قيل قاله على وجه الاستعطاف كما يستعطف السيد لعبده. ولهذا لم يقل إن تعذبهم فإنهم عصوك، وقيل قاله على وجه التسليم لأمر الله والانقياد له، ولهذا عدل عن الغفور الرحيم إلى العزيز الحكيم.
قوله: 119- "قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم" أي صدقهم في الدنيا، وقيل في الآخرة، والأول أولى. قرأ نافع وابن محيصن "يوم" بالنصب، وقرأ الباقون بالرفع، فوجه النصب أنه ظرف للقول: أي قال الله هذا القول يوم ينفع الصادقين، ووجه الرفع أنه خبر للمبتدأ هو وما أضيف إليه. وقال الكسائي نصب "يوم" ها هنا لأنه مضاف إلى الجملة، وأنشد: على حين عاتبت المشيب على الصبا وقلت ألما أصح والشيب وازع وبه قال الزجاج، ولا يجيز البصريون ما قالاه إلا إذا أضيف الظرف إلى فعل ماض. وقرأ الأعمش "هذا يوم ينفع" بتنوين يوم كما في قوله: "واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً" فكلاهما مقطوع عن الإضافة بالتنوين. وقد تقدم تفسير قوله: "لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً". قوله: "رضي الله عنهم ورضوا عنه" أي رضي عنهم بما عملوه من الطاعات الخالصة له، ورضوا عنه بما جازاهم به مما لا يخطر لهم على بال ولا تتصوره عقولهم، والرضا منه سبحانه هو أرفع درجات النعيم وأعلى منازل الكرامة، والإشارة بذلك إلى نيل ما نالوه من دخول الجنة والخلود فيها أبداً، ورضوان الله عنهم. والفوز: الظفر بالمطلوب على أتم الأحوال.
قوله: 120- "لله ملك السموات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير" جاء سبحانه بهذه الخاتمة دفعاً لما سبق من إثبات من أثبت إلهية عيسى وأمه، وأخبر بأن ملك السموات والأرض له دون عيسى وأمه ودون سائر مخلوقاته، وأنه القادر على كل شيء دون غيره، وقيل المعنى: أن له ملك السموات والأرض يعطي الجنات للمطيعين، جعلنا الله منهم. وقد أخرج الترمذي وصححه والنسائي وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي هريرة قال: تلقى عيسى حجته والله لقاه في قوله: "وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله". قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فلقاه الله سبحانه: "ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق" الآية. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال: يقول الله هذا يوم القيامة، ألا ترى أنه يقول: "هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي قال: قال الله ذلك لما رفع عيسى إليه، وقالت النصارى ما قالت. وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "أن اعبدوا الله ربي وربكم" قال: سيدي وسيدكم. وأخرج ابن المنذر عنه في قوله: "كنت أنت الرقيب عليهم" قال: الحفيظ. وأخرج الطبراني عن ابن مسعود قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم" قال: ما كنت فيهم. وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس "إن تعذبهم فإنهم عبادك" يقول: عبيدك قد استوجبوا العذاب بمقالتهم "وإن تغفر لهم" أي من تركت منهم ومد في عمره حتى أهبك من السماء إلى الأرض لقتل الدجال، فزالوا عن مقالتهم ووحدوك "فإنك أنت العزيز الحكيم". وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه في قوله "هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم" يقول: هذا يوم ينفع الموحدين توحيدهم.