islamkingdomfaceBook islamkingdomtwitter islamkingdominstagram islamkingdomyoutube islamkingdomnew

تفسير القرطبى
16241

5-المائدة

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ

سُورَة الْمَائِدَة وَهِيَ مَدَنِيَّة بِإِجْمَاعٍ , وَرُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ مُنْصَرَف رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْحُدَيْبِيَة . وَذَكَرَ النَّقَّاش عَنْ أَبِي سَلَمَة أَنَّهُ قَالَ : لَمَّا رَجَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْحُدَيْبِيَة قَالَ : ( يَا عَلِيّ أَشَعَرْت أَنَّهُ نَزَلَتْ عَلَيَّ سُورَة الْمَائِدَة وَنِعْمَتْ الْفَائِدَة ) . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : هَذَا حَدِيث مَوْضُوع لَا يَحِلّ لِمُسْلِمٍ اِعْتِقَاده ; أَمَا إِنَّا نَقُول : سُورَة | الْمَائِدَة , وَنِعْمَتْ الْفَائِدَة | فَلَا نَأْثُرهُ عَنْ أَحَد وَلَكِنَّهُ كَلَام حَسَن . وَقَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا عِنْدِي لَا يُشْبِه كَلَام النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( سُورَة الْمَائِدَة تُدْعَى فِي مَلَكُوت اللَّه الْمُنْقِذَة تُنْقِذ صَاحِبهَا مِنْ أَيْدِي مَلَائِكَة الْعَذَاب ) . وَمِنْ هَذِهِ السُّورَة مَا نَزَلَ فِي حَجَّة الْوَدَاع , وَمِنْهَا مَا أُنْزِلَ عَام الْفَتْح وَهُوَ قَوْله تَعَالَى : | وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآن قَوْم | [ الْمَائِدَة : 2 ] الْآيَة . وَكُلّ مَا أُنْزِلَ مِنْ الْقُرْآن بَعْد هِجْرَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ مَدَنِيّ , سَوَاء نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ أَوْ فِي سَفَر مِنْ الْأَسْفَار , وَإِنَّمَا يُرْسَم بِالْمَكِّيِّ مَا نَزَلَ قَبْل الْهِجْرَة . وَقَالَ أَبُو مَيْسَرَة : | الْمَائِدَة | مِنْ آخِر مَا نَزَلَ لَيْسَ فِيهَا مَنْسُوخ , وَفِيهَا ثَمَان عَشْرَة فَرِيضَة لَيْسَتْ فِي غَيْرهَا ; وَهِيَ : | الْمُنْخَنِقَة وَالْمَوْقُوذَة وَالْمُتَرَدِّيَة وَالنَّطِيحَة وَمَا أَكَلَ السَّبُع | [ الْمَائِدَة : 3 ] , | وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُب وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ | , | وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِح مُكَلِّبِينَ | [ الْمَائِدَة : 4 ] , | وَطَعَام الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب | [ الْمَائِدَة : 5 ] | وَالْمُحْصَنَات مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب مِنْ قَبْلكُمْ | [ الْمَائِدَة : 5 ] , وَتَمَام الطُّهُور | إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاة | [ الْمَائِدَة : 6 ] , | وَالسَّارِق وَالسَّارِقَة | [ الْمَائِدَة : 38 ] , | لَا تَقْتُلُوا الصَّيْد وَأَنْتُمْ حُرُم | [ الْمَائِدَة : 95 ] إِلَى قَوْله : | عَزِيز ذُو اِنْتِقَام | [ الْمَائِدَة : 95 ] و | مَا جَعَلَ اللَّه مِنْ بِحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَة وَلَا وَصِيلَة وَلَا حَامٍ | [ الْمَائِدَة : 103 ] , وَقَوْله تَعَالَى : | شَهَادَة بَيْنكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدكُمْ الْمَوْت | [ الْمَائِدَة : 106 ] الْآيَة . قُلْت : وَفَرِيضَة تَاسِعَة عَشْرَة وَهِيَ قَوْله جَلَّ وَعَزَّ : | وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاة | [ الْمَائِدَة : 58 ] لَيْسَ لِلْأَذَانِ ذِكْر فِي الْقُرْآن إِلَّا فِي هَذِهِ السُّورَة , أَمَّا مَا جَاءَ فِي سُورَة | الْجُمُعَة | فَمَخْصُوص بِالْجُمُعَةِ , وَهُوَ فِي هَذِهِ السُّورَة عَامّ لِجَمِيعِ الصَّلَوَات , وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَرَأَ سُورَة | الْمَائِدَة | فِي حَجَّة الْوَدَاع وَقَالَ : ( يَا أَيّهَا النَّاس إِنَّ سُورَة الْمَائِدَة مِنْ آخِر مَا نَزَلَ فَأَحِلُّوا حَلَالهَا وَحَرِّمُوا حَرَامهَا ) وَنَحْوه عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا مَوْقُوفًا ; قَالَ جُبَيْر بْن نُفَيْر : دَخَلْت عَلَى عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا فَقَالَتْ : هَلْ تَقْرَأ سُورَة | الْمَائِدَة | ؟ فَقُلْت : نَعَمْ , فَقَالَتْ : فَإِنَّهَا مِنْ آخِر مَا أَنْزَلَ اللَّه , فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهَا مِنْ حَلَال فَأَحِلُّوهُ وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهَا مِنْ حَرَام فَحَرِّمُوهُ , وَقَالَ الشَّعْبِيّ : لَمْ يُنْسَخ مِنْ هَذِهِ السُّورَة إِلَّا قَوْله : | وَلَا الشَّهْر الْحَرَام وَلَا الْهَدْي | [ الْمَائِدَة : 2 ] الْآيَة , وَقَالَ بَعْضهمْ : نُسِخَ مِنْهَا | أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْركُمْ | [ الْمَائِدَة : 106 ] . قَالَ عَلْقَمَة : كُلّ مَا فِي الْقُرْآن | يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا | فَهُوَ مَدَنِيّ و | يَا أَيّهَا النَّاس | [ النِّسَاء : 1 ] فَهُوَ مَكِّيّ ; وَهَذَا خُرِّجَ عَلَى الْأَكْثَر , وَقَدْ تَقَدَّمَ , وَهَذِهِ الْآيَة مِمَّا تَلُوح فَصَاحَتهَا وَكَثْرَة مَعَانِيهَا عَلَى قِلَّة أَلْفَاظهَا لِكُلِّ ذِي بَصِيرَة بِالْكَلَامِ ; فَإِنَّهَا تَضَمَّنَتْ خَمْسَة أَحْكَام : الْأَوَّل : الْأَمْر بِالْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ ; الثَّانِي : تَحْلِيل بَهِيمَة الْأَنْعَام ; الثَّالِث : اِسْتِثْنَاء مَا يَلِي بَعْد ذَلِكَ ; الرَّابِع : اِسْتِثْنَاء حَال الْإِحْرَام فِيمَا يُصَاد ; الْخَامِس : مَا تَقْتَضِيه الْآيَة مِنْ إِبَاحَة الصَّيْد لِمَنْ لَيْسَ بِمُحْرِمٍ , وَحَكَى النَّقَّاش أَنَّ أَصْحَاب الْكِنْدِيّ قَالُوا لَهُ : أَيّهَا الْحَكِيم اِعْمَلْ لَنَا مِثْل هَذَا الْقُرْآن فَقَالَ : نَعَمْ ! أَعْمَل مِثْل بَعْضه ; فَاحْتَجَبَ أَيَّامًا كَثِيرَة ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ : وَاَللَّه مَا أَقْدِر وَلَا يُطِيق هَذَا أَحَد ; إِنِّي فَتَحْت الْمُصْحَف فَخَرَجَتْ سُورَة | الْمَائِدَة | فَنَظَرْت فَإِذَا هُوَ قَدْ نَطَقَ بِالْوَفَاءِ وَنَهَى عَنْ النَّكْث , وَحَلَّلَ تَحْلِيلًا عَامًّا , ثُمَّ اِسْتَثْنَى اِسْتِثْنَاء بَعْد اِسْتِثْنَاء , ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ قُدْرَته وَحِكْمَته فِي سَطْرَيْنِ , وَلَا يَقْدِر أَحَد أَنْ يَأْتِيَ بِهَذَا إِلَّا فِي أَجْلَاد .|آمَنُوا|يُقَال : وَفَى وَأَوْفَى لُغَتَانِ : قَالَ اللَّه تَعَالَى : | وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّه | [ التَّوْبَة : 111 ] , وَقَالَ تَعَالَى : | وَإِبْرَاهِيم الَّذِي وَفَّى | [ النَّجْم : 37 ] وَقَالَ الشَّاعِر : <br>أَمَّا ابْنُ طَوْقٍ فَقَدْ أَوْفَى بِذِمَّتِهِ .......... كَمَا وَفَى بِقِلَاصِ النَّجْمِ حَادِيهَا <br>فَجَمَعَ بَيْن اللُّغَتَيْنِ .|أَوْفُوا|الْعُقُود الرُّبُوط , وَاحِدهَا عَقْد ; يُقَال : عَقَدْت الْعَهْد وَالْحَبْل , وَعَقَدْت الْعَسَل فَهُوَ يُسْتَعْمَل فِي الْمَعَانِي وَالْأَجْسَام ; قَالَ الْحُطَيْئَة : <br>قَوْم إِذَا عَقَدُوا عَقْدًا لِجَارِهِمُ .......... شَدُّوا الْعِنَاج وَشَدُّوا فَوْقه الْكَرَبَا <br>فَأَمَرَ اللَّه سُبْحَانه بِالْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ ; قَالَ الْحَسَن : يَعْنِي بِذَلِكَ عُقُود الدَّيْن وَهِيَ مَا عَقَدَهُ الْمَرْء عَلَى نَفْسه ; مِنْ بَيْع وَشِرَاء وَإِجَارَة وَكِرَاء وَمُنَاكَحَة وَطَلَاق وَمُزَارَعَة وَمُصَالَحَة وَتَمْلِيك وَتَخْيِير وَعِتْق وَتَدْبِير وَغَيْر ذَلِكَ مِنْ الْأُمُور , مَا كَانَ ذَلِكَ غَيْر خَارِج عَنْ الشَّرِيعَة ; وَكَذَلِكَ مَا عَقَدَهُ عَلَى نَفْسه لِلَّهِ مِنْ الطَّاعَات , كَالْحَجِّ وَالصِّيَام وَالِاعْتِكَاف وَالْقِيَام وَالنَّذْر وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ طَاعَات مِلَّة الْإِسْلَام , وَأَمَّا نَذْر الْمُبَاح فَلَا يَلْزَم بِإِجْمَاعٍ مِنْ الْأُمَّة ; قَالَهُ اِبْن الْعَرَبِيّ . ثُمَّ قِيلَ : إِنَّ الْآيَة نَزَلَتْ فِي أَهْل الْكِتَاب ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى : | وَإِذْ أَخَذَ اللَّه مِيثَاق الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ | [ آل عِمْرَان : 187 ] . قَالَ اِبْن جُرَيْج : هُوَ خَاصّ بِأَهْلِ الْكِتَاب وَفِيهِمْ نَزَلَتْ , وَقِيلَ : هِيَ عَامَّة وَهُوَ الصَّحِيح ; فَإِنَّ لَفْظ الْمُؤْمِنِينَ يَعُمّ مُؤْمِنِي أَهْل الْكِتَاب ; لِأَنَّ بَيْنهمْ وَبَيْن اللَّه عَقْدًا فِي أَدَاء الْأَمَانَة فِيمَا فِي كِتَابهمْ مِنْ أَمْر مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَإِنَّهُمْ مَأْمُورُونَ بِذَلِكَ فِي قَوْله : | أَوْفُوا بِالْعُقُودِ | وَغَيْر مَوْضِع . قَالَ اِبْن عَبَّاس : | أَوْفُوا بِالْعُقُودِ | مَعْنَاهُ بِمَا أَحَلَّ وَبِمَا حَرَّمَ وَبِمَا فَرَضَ وَبِمَا حَدَّ فِي جَمِيع الْأَشْيَاء ; وَكَذَلِكَ قَالَ مُجَاهِد وَغَيْره , وَقَالَ اِبْن شِهَاب : قَرَأْت كِتَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي كَتَبَهُ لِعَمْرِو بْن حَزْم حِين بَعَثَهُ إِلَى نَجْرَان وَفِي صَدْره : ( هَذَا بَيَان لِلنَّاسِ مِنْ اللَّه وَرَسُوله | يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ | فَكَتَبَ الْآيَات فِيهَا إِلَى قَوْله : | إِنَّ اللَّه سَرِيع الْحِسَاب | [ الْمَائِدَة : 4 ] ) . وَقَالَ الزَّجَّاج : الْمَعْنَى أَوْفُوا بِعَقْدِ اللَّه عَلَيْكُمْ وَبِعَقْدِكُمْ بَعْضكُمْ عَلَى بَعْض , وَهَذَا كُلّه رَاجِع إِلَى الْقَوْل بِالْعُمُومِ وَهُوَ الصَّحِيح فِي الْبَاب ; قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( الْمُؤْمِنُونَ عِنْد شُرُوطهمْ ) وَقَالَ : ( كُلّ شَرْط لَيْسَ فِي كِتَاب اللَّه فَهُوَ بَاطِل وَإِنْ كَانَ مِائَة شَرْط ) فَبَيَّنَ أَنَّ الشَّرْط أَوْ الْعَقْد الَّذِي يَجِب الْوَفَاء بِهِ مَا وَافَقَ كِتَاب اللَّه أَيْ دِين اللَّه ; فَإِنْ ظَهَرَ فِيهَا مَا يُخَالِف رُدَّ ; كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرنَا فَهُوَ رَدّ ) . ذَكَرَ اِبْن إِسْحَاق قَالَ : اِجْتَمَعَتْ قَبَائِل مِنْ قُرَيْش فِي دَار عَبْد اللَّه بْن جُدْعَان - لِشَرَفِهِ وَنَسَبه - فَتَعَاقَدُوا وَتَعَاهَدُوا عَلَى أَلَّا يَجِدُوا بِمَكَّة مَظْلُومًا مِنْ أَهْلهَا أَوْ غَيْرهمْ إِلَّا قَامُوا مَعَهُ حَتَّى تُرَدّ عَلَيْهِ مَظْلِمَته ; فَسَمَّتْ قُرَيْش ذَلِكَ الْحِلْف حِلْف الْفُضُول , وَهُوَ الَّذِي قَالَ فِيهِ الرَّسُول صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَقَدْ شَهِدْت فِي دَار عَبْد اللَّه بْن جُدْعَان حِلْفًا مَا أُحِبّ أَنَّ لِي بِهِ حُمْر النَّعَم وَلَوْ ادُّعِيَ بِهِ فِي الْإِسْلَام لَأَجَبْت ) , وَهَذَا الْحِلْف هُوَ الْمَعْنَى الْمُرَاد فِي قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( وَأَيّمَا حِلْف كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّة لَمْ يَزِدْهُ الْإِسْلَام إِلَّا شِدَّة ) لِأَنَّهُ مُوَافِق لِلشَّرْعِ إِذْ أَمَرَ بِالِانْتِصَافِ مِنْ الظَّالِم ; فَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ عُهُودهمْ الْفَاسِدَة وَعُقُودهمْ الْبَاطِلَة عَلَى الظُّلْم وَالْغَارَات فَقَدْ هَدَمَهُ الْإِسْلَام وَالْحَمْد لِلَّهِ . قَالَ اِبْن إِسْحَاق : تَحَامَلَ الْوَلِيد بْن عُتْبَة عَلَى الْحُسَيْن بْن عَلِيّ فِي مَال لَهُ - لِسُلْطَانِ الْوَلِيد ; فَإِنَّهُ كَانَ أَمِيرًا عَلَى الْمَدِينَة - فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْن : أَحْلِفُ بِاَللَّهِ لَتُنْصِفَنِّي مِنْ حَقِّي أَوْ لَآخُذَنَّ بِسَيْفِي ثُمَّ لَأَقُومَنَّ فِي مَسْجِد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ لَأَدْعُوَنَّ بِحِلْفِ الْفُضُول . قَالَ عَبْد اللَّه بْن الزُّبَيْر : وَأَنَا أَحْلِف بِاَللَّهِ لَئِنْ دَعَانِي لَآخُذَنَّ بِسَيْفِي ثُمَّ لَأَقُومَنَّ مَعَهُ حَتَّى يَنْتَصِف مِنْ حَقّه أَوْ نَمُوت جَمِيعًا ; وَبَلَغَتْ الْمِسْوَر بْن مَخْرَمَة فَقَالَ مِثْل ذَلِكَ ; وَبَلَغَتْ عَبْد الرَّحْمَن بْن عُثْمَان بْن عُبَيْد اللَّه التَّيْمِيّ فَقَالَ مِثْل ذَلِكَ ; فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ الْوَلِيدَ أَنْصَفَهُ .|بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ|الْخِطَاب لِكُلِّ مَنْ اِلْتَزَمَ الْإِيمَان عَلَى وَجْهه وَكَمَاله ; وَكَانَتْ لِلْعَرَبِ سُنَن فِي الْأَنْعَام مِنْ الْبَحِيرَة وَالسَّائِبَة وَالْوَصِيلَة وَالْحَام , يَأْتِي بَيَانهَا ; فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة رَافِعَة لِتِلْكَ الْأَوْهَام الْخَيَالِيَّة , وَالْآرَاء الْفَاسِدَة الْبَاطِلِيَّة , وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى | بَهِيمَة الْأَنْعَام | وَالْبَهِيمَة اِسْم لِكُلِّ ذِي أَرْبَع ; سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِإِبْهَامِهَا مِنْ جِهَة نَقْص نُطْقهَا وَفَهْمهَا وَعَدَم تَمْيِيزهَا وَعَقْلهَا ; وَمِنْهُ بَاب مُبْهَم أَيْ مُغْلَق , وَلَيْل بَهِيم , وَبُهْمَة لِلشُّجَاعِ الَّذِي لَا يُدْرَى مِنْ أَيْنَ يُؤْتَى لَهُ . و | الْأَنْعَام | : الْإِبِل وَالْبَقَر وَالْغَنَم , سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِلِينِ مَشْيهَا ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : | وَالْأَنْعَام خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْء وَمَنَافِع | [ النَّحْل : 5 ] إِلَى قَوْله : | وَتَحْمِل أَثْقَالكُمْ | [ النَّحْل : 7 ] , وَقَالَ تَعَالَى : | وَمِنْ الْأَنْعَام حَمُولَة وَفَرْشًا | [ الْأَنْعَام : 142 ] يَعْنِي كِبَارًا وَصِغَارًا ; ثُمَّ بَيَّنَهَا فَقَالَ : | ثَمَانِيَة أَزْوَاج | [ الزُّمَر : 6 ] إِلَى قَوْله : | أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاء | [ الْبَقَرَة : 133 ] وَقَالَ تَعَالَى : | وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُود الْأَنْعَام بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْم ظَعْنكُمْ وَيَوْم إِقَامَتكُمْ وَمِنْ أَصْوَافهَا | [ النَّحْل : 80 ] يَعْنِي الْغَنَم | وَأَوْبَارهَا | يَعْنِي الْإِبِل | وَأَشْعَارهَا | يَعْنِي الْمَعْز ; فَهَذِهِ ثَلَاثَة أَدِلَّة تُنْبِئ عَنْ تَضَمُّن اِسْم الْأَنْعَام لِهَذِهِ الْأَجْنَاس ; الْإِبِل وَالْبَقَر وَالْغَنَم ; وَهُوَ قَوْل اِبْن عَبَّاس وَالْحَسَن . قَالَ الْهَرَوِيّ : وَإِذَا قِيلَ النَّعَم فَهُوَ الْإِبِل خَاصَّة , وَقَالَ الطَّبَرِيّ : وَقَالَ قَوْم | بَهِيمَة الْأَنْعَام | وَحْشِيّهَا كَالظِّبَاءِ وَبَقَر الْوَحْش وَالْحُمُر وَغَيْر ذَلِكَ , وَذَكَرَهُ غَيْر الطَّبَرِيّ وَالرَّبِيع وَقَتَادَة وَالضَّحَّاك , كَأَنَّهُ قَالَ : أُحِلَّتْ لَكُمْ الْأَنْعَام , فَأُضِيفَ الْجِنْس إِلَى أَخَصّ مِنْهُ . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا قَوْل حَسَن ; وَذَلِكَ أَنَّ الْأَنْعَام هِيَ الثَّمَانِيَة الْأَزْوَاج , وَمَا اِنْضَافَ إِلَيْهَا مِنْ سَائِر الْحَيَوَان يُقَال لَهُ أَنْعَام بِمَجْمُوعِهِ مَعَهَا , وَكَأَنَّ الْمُفْتَرِس كَالْأَسَدِ وَكُلّ ذِي نَاب خَارِج عَنْ حَدّ الْأَنْعَام ; فَبَهِيمَة الْأَنْعَام هِيَ الرَّاعِي مِنْ ذَوَات الْأَرْبَع . قُلْت : فَعَلَى هَذَا يَدْخُل فِيهَا ذَوَات الْحَوَافِر لِأَنَّهَا رَاعِيَة غَيْر مُفْتَرِسَة وَلَيْسَ كَذَلِكَ ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ : | وَالْأَنْعَام خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْء وَمَنَافِع | [ النَّحْل : 5 ] ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهَا قَوْله : | وَالْخَيْل وَالْبِغَال وَالْحَمِير | [ النَّحْل : 8 ] فَلَمَّا اسْتَأْنَفَ ذِكْرَهَا وَعَطَفَهَا عَلَى الْأَنْعَام دَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْهَا ; وَاَللَّه أَعْلَمُ , وَقِيلَ : | بَهِيمَة الْأَنْعَام | مَا لَمْ يَكُنْ صَيْدًا ; لِأَنَّ الصَّيْد يُسَمَّى وَحْشًا لَا بَهِيمَة , وَهَذَا رَاجِع إِلَى الْقَوْل الْأَوَّل . وَرُوِيَ عَنْ عَبْد اللَّه بْن عُمَر أَنَّهُ قَالَ : | بَهِيمَة الْأَنْعَام | الْأَجِنَّة الَّتِي تَخْرُج عِنْد الذَّبْح مِنْ بُطُون الْأُمَّهَات ; فَهِيَ تُؤْكَل دُون ذَكَاة , وَقَالَهُ اِبْن عَبَّاس وَفِيهِ بُعْد ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ : | إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ | وَلَيْسَ فِي الْأَجِنَّة مَا يُسْتَثْنَى ; قَالَ مَالِك : ذَكَاة الذَّبِيحَة ذَكَاة لِجَنِينِهَا إِذَا لَمْ يُدْرَك حَيًّا وَكَانَ قَدْ نَبَتَ شَعْره وَتَمَّ خَلْقه ; فَإِنْ لَمْ يَتِمّ خَلْقه وَلَمْ يَنْبُت شَعْره لَمْ يُؤْكَل إِلَّا أَنْ يُدْرَك حَيًّا فَيُذَكَّى , وَإِنْ بَادَرُوا إِلَى تَذْكِيَته فَمَاتَ بِنَفْسِهِ , فَقِيلَ : هُوَ ذَكِيّ , وَقِيلَ : لَيْسَ بِذَكِيٍّ ; وَسَيَأْتِي لِهَذَا مَزِيد بَيَان إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى :|الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى|أَيْ يُقْرَأ عَلَيْكُمْ فِي الْقُرْآن وَالسُّنَّة مِنْ قَوْله تَعَالَى : | حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَة | [ الْمَائِدَة : 3 ] وَقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام : ( وَكُلّ ذِي نَاب مِنْ السِّبَاع حَرَام ) . فَإِنْ قِيلَ : الَّذِي يُتْلَى عَلَيْنَا الْكِتَاب لَيْسَ السُّنَّة ; قُلْنَا : كُلّ سُنَّة لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهِيَ مِنْ كِتَاب اللَّه ; وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَمْرَانِ : أَحَدهمَا : حَدِيث الْعَسِيفِ ( لَأَقْضِيَنَّ بَيْنكُمَا بِكِتَابِ اللَّه ) وَالرَّجْم لَيْسَ مَنْصُوصًا فِي كِتَاب اللَّه . الثَّانِي : حَدِيث اِبْن مَسْعُود : وَمَا لِي لَا أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي كِتَاب اللَّه ; الْحَدِيث , وَسَيَأْتِي فِي سُورَة | الْحَشْر | . وَيَحْتَمِل | إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ | الْآن أَوْ | مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ | فِيمَا بَعْدُ مِنْ مُسْتَقْبَل الزَّمَان عَلَى لِسَان رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَيَكُون فِيهِ دَلِيل عَلَى جَوَاز تَأْخِير الْبَيَان عَنْ وَقْت لَا يُفْتَقَر فِيهِ إِلَى تَعْجِيل الْحَاجَة .|عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي|أَيْ مَا كَانَ صَيْدًا فَهُوَ حَلَال فِي الْإِحْلَال دُون الْإِحْرَام , وَمَا لَمْ يَكُنْ صَيْدًا فَهُوَ حَلَال فِي الْحَالَيْنِ . وَاخْتَلَفَ النُّحَاة فِي | إِلَّا مَا يُتْلَى | هَلْ هُوَ اِسْتِثْنَاء أَوْ لَا ؟ فَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ : هُوَ اِسْتِثْنَاء مِنْ | بَهِيمَة الْأَنْعَام | و | غَيْر مُحِلِّي الصَّيْد | اِسْتِثْنَاء آخَر أَيْضًا مِنْهُ ; فَالِاسْتِثْنَاءَانِ جَمِيعًا مِنْ قَوْله : | بَهِيمَة الْأَنْعَام | وَهِيَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهَا ; التَّقْدِير : إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ إِلَّا الصَّيْد وَأَنْتُمْ مُحْرِمُونَ ; بِخِلَافِ قَوْله : | إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْم مُجْرِمِينَ . إِلَّا آل لُوط | [ الْحِجْر : 58 - 59 ] عَلَى مَا يَأْتِي , وَقِيلَ : هُوَ مُسْتَثْنًى مِمَّا يَلِيه مِنْ الِاسْتِثْنَاء ; فَيَصِير بِمَنْزِلَةِ قَوْله عَزَّ وَجَلَّ : | إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْم مُجْرِمِينَ | وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَوَجَبَ إِبَاحَة الصَّيْد فِي الْإِحْرَام ; لِأَنَّهُ مُسْتَثْنًى مِنْ الْمَحْظُور إِذْ كَانَ قَوْله تَعَالَى : | إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ | مُسْتَثْنًى مِنْ الْإِبَاحَة ; وَهَذَا وَجْه سَاقِط ; فَإِذًا مَعْنَاهُ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَة الْأَنْعَام غَيْر مُحِلِّي الصَّيْد وَأَنْتُمْ حُرُم إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ سِوَى الصَّيْد , وَيَجُوز أَنْ يَكُون مَعْنَاهُ أَيْضًا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ غَيْر مُحِلِّي الصَّيْد وَأُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَة الْأَنْعَام إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ , وَأَجَازَ الْفَرَّاء أَنْ يَكُون | إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ | فِي مَوْضِع رَفْع عَلَى الْبَدَل عَلَى أَنْ يُعْطَف بِإِلَّا كَمَا يُعْطَف بِلَا ; وَلَا يُجِيزهُ الْبَصْرِيُّونَ إِلَّا فِي النَّكِرَة أَوْ مَا قَارَبَهَا مِنْ أَسْمَاء الْأَجْنَاس نَحْو جَاءَ الْقَوْم إِلَّا زَيْد , وَالنَّصْب عِنْده بِأَنَّ | غَيْر مُحِلِّي الصَّيْد | نُصِبَ عَلَى الْحَال مِمَّا فِي | أَوْفُوا | ; قَالَ الْأَخْفَش : يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ غَيْر مُحِلِّي الصَّيْد , وَقَالَ غَيْره : حَال مِنْ الْكَاف وَالْمِيم فِي | لَكُمْ | وَالتَّقْدِير : أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَة الْأَنْعَام غَيْر مُحِلِّي الصَّيْد . ثُمَّ قِيلَ : يَجُوز أَنْ يَرْجِع الْإِحْلَال إِلَى النَّاس , أَيْ لَا تُحِلُّوا الصَّيْد فِي حَال الْإِحْرَام , وَيَجُوز أَنْ يَرْجِع إِلَى اللَّه تَعَالَى أَيْ أَحْلَلْت لَكُمْ الْبَهِيمَة إِلَّا مَا كَانَ صَيْدًا فِي وَقْت الْإِحْرَام ; كَمَا تَقُول : أَحْلَلْت لَك كَذَا غَيْر مُبِيح لَك يَوْم الْجُمُعَة . فَإِذَا قُلْت يَرْجِع إِلَى النَّاس فَالْمَعْنَى : غَيْر مُحِلِّينَ الصَّيْد , فَحُذِفَتْ النُّون تَخْفِيفًا .|الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ|يَعْنِي الْإِحْرَام بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَة ; يُقَال : رَجُل حَرَام وَقَوْم حُرُم إِذَا أَحْرَمُوا بِالْحَجِّ ; وَمِنْهُ قَوْل الشَّاعِر : <br>فَقُلْت لَهَا فِيئِي إِلَيْكِ فَإِنَّنِي .......... حَرَام وَإِنِّي بَعْد ذَاكَ لَبِيبُ <br>أَيْ مُلَبٍّ , وَسُمِّيَ ذَلِكَ إِحْرَامًا لِمَا يُحَرِّمهُ مَنْ دَخَلَ فِيهِ عَلَى نَفْسه مِنْ النِّسَاء وَالطِّيب وَغَيْرهمَا , وَيُقَال : أَحْرَمَ دَخَلَ فِي الْحَرَم ; فَيَحْرُم صَيْد الْحَرَم أَيْضًا , وَقَرَأَ الْحَسَن وَإِبْرَاهِيم وَيَحْيَى بْن وَثَّاب | حُرْم | بِسُكُونِ الرَّاء ; وَهِيَ لُغَة تَمِيمِيَّة يَقُولُونَ فِي رُسُل : رُسْل وَفِي كُتُب كُتْب وَنَحْوه .|حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا|تَقْوِيَة لِهَذِهِ الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة الْمُخَالِفَة لِمَعْهُودِ أَحْكَام الْعَرَب ; أَيْ فَأَنْتَ يَا مُحَمَّد السَّامِع لِنَسْخِ تِلْكَ الَّتِي عَهِدْت مِنْ أَحْكَامهمْ تَنَبَّهْ , فَإِنَّ الَّذِي هُوَ مَالِك الْكُلّ | يَحْكُم مَا يُرِيد | | لَا مُعَقِّب لِحُكْمِهِ | [ الرَّعْد : 41 ] يُشَرِّع مَا يَشَاء كَمَا يَشَاء .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آَمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِم

خِطَاب لِلْمُؤْمِنِينَ حَقًّا ; أَيْ لَا تَتَعَدَّوْا حُدُود اللَّه فِي أَمْر مِنْ الْأُمُور , وَالشَّعَائِر جَمْع شَعِيرَة عَلَى وَزْن فَعِيلَة , وَقَالَ اِبْن فَارِس : وَيُقَال لِلْوَاحِدَةِ شِعَارَة ; وَهُوَ أَحْسَنُ , وَالشَّعِيرَة الْبَدَنَة تُهْدَى , وَإِشْعَارُهَا أَنْ يُجَزّ سَنَامهَا حَتَّى يَسِيل مِنْهُ الدَّم فَيُعْلَم أَنَّهَا هَدْي . وَالْإِشْعَار الْإِعْلَام مِنْ طَرِيق الْإِحْسَاس ; يُقَال : أَشْعَرَ هَدْيه أَيْ جَعَلَ لَهُ عَلَامَة لِيُعْرَف أَنَّهُ هَدْي ; وَمِنْهُ الْمَشَاعِر الْمَعَالِم , وَاحِدهَا مَشْعَر وَهِيَ الْمَوَاضِع الَّتِي قَدْ أُشْعِرَتْ بِالْعَلَامَاتِ , وَمِنْهُ الشِّعْر , لِأَنَّهُ يَكُون بِحَيْثُ يَقَع الشُّعُور ; وَمِنْهُ الشَّاعِر ; لِأَنَّهُ يَشْعُر بِفِطْنَتِهِ لِمَا لَا يَفْطِن لَهُ غَيْره ; وَمِنْهُ الشَّعِير لِشَعْرَتِهِ الَّتِي فِي رَأْسه ; فَالشَّعَائِر عَلَى قَوْلٍ مَا أُشْعِرَ مِنْ الْحَيَوَانَات لِتُهْدَى إِلَى بَيْت اللَّه , وَعَلَى قَوْلٍ جَمِيع مَنَاسِك الْحَجّ ; قَالَ اِبْن عَبَّاس . وَقَالَ مُجَاهِد : الصَّفَا وَالْمَرْوَة وَالْهَدْي وَالْبُدْن كُلّ ذَلِكَ مِنْ الشَّعَائِر , وَقَالَ الشَّاعِر : <br>نُقَتِّلهُمْ جِيلًا فَجِيلًا تَرَاهُمُ .......... شَعَائِرَ قُرْبَان بِهَا يُتَقَرَّب <br>وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَحُجُّونَ وَيَعْتَمِرُونَ وَيُهْدُونَ فَأَرَادَ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يُغِيرُوا عَلَيْهِمْ ; فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى : | لَا تُحِلُّوا شَعَائِر اللَّه | . وَقَالَ عَطَاء بْن أَبِي رَبَاح : شَعَائِر اللَّه جَمِيع مَا أَمَرَ اللَّه بِهِ وَنَهَى عَنْهُ , وَقَالَ الْحَسَن : دِين اللَّه كُلّه ; كَقَوْلِهِ : | ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّم شَعَائِر اللَّه فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوب | [ الْحَجّ : 32 ] أَيْ دِين اللَّه . قُلْت : وَهَذَا الْقَوْل هُوَ الرَّاجِح الَّذِي يُقَدَّم عَلَى غَيْره لِعُمُومِهِ . وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي إِشْعَار الْهَدْي وَهِيَ : فَأَجَازَهُ الْجُمْهُور ; ثُمَّ اِخْتَلَفُوا فِي أَيّ جِهَة يُشْعَر ; فَقَالَ الشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَأَبُو ثَوْر : يَكُون فِي الْجَانِب الْأَيْمَن ; وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عُمَر , وَثَبَتَ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشْعَرَ نَاقَته فِي صَفْحَة سَنَامهَا الْأَيْمَن ; أَخْرَجَهُ مُسْلِم وَغَيْره وَهُوَ الصَّحِيح , وَرُوِيَ أَنَّهُ أَشْعَرَ بَدَنَة مِنْ الْجَانِب الْأَيْسَر ; قَالَ أَبُو عُمَر بْن عَبْد الْبَرّ : هَذَا عِنْدِي حَدِيث مُنْكَر مِنْ حَدِيث اِبْن عَبَّاس ; وَالصَّحِيح حَدِيث مُسْلِم عَنْ اِبْن عَبَّاس , قَالَ : وَلَا يَصِحّ عَنْهُ غَيْره . وَصَفْحَة السَّنَام جَانِبه , وَالسَّنَام أَعْلَى الظَّهْر , وَقَالَتْ طَائِفَة : يَكُون فِي الْجَانِب الْأَيْسَر ; وَهُوَ قَوْل مَالِك , وَقَالَ : لَا بَأْس بِهِ فِي الْجَانِب الْأَيْمَن , وَقَالَ مُجَاهِد : مِنْ أَيّ الْجَانِبَيْنِ شَاءَ ; وَبِهِ قَالَ أَحْمَد فِي أَحَد قَوْلَيْهِ , وَمَنَعَ مِنْ هَذَا كُلّه أَبُو حَنِيفَة وَقَالَ : إِنَّهُ تَعْذِيب لِلْحَيَوَانِ , وَالْحَدِيث يَرُدّ عَلَيْهِ ; وَأَيْضًا فَذَلِكَ يَجْرِي مَجْرَى الْوَسْم الَّذِي يُعْرَف بِهِ الْمِلْك كَمَا تَقَدَّمَ ; وَقَدْ أَوْغَلَ اِبْن الْعَرَبِيّ عَلَى أَبِي حَنِيفَة فِي الرَّدّ وَالْإِنْكَار حِين لَمْ يَرَ الْإِشْعَار فَقَالَ : كَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَع بِهَذِهِ الشَّعِيرَة فِي الشَّرِيعَة ! لَهِيَ أَشْهَرُ مِنْهُ فِي الْعُلَمَاء . قُلْت : وَاَلَّذِي رَأَيْته مَنْصُوصًا فِي كُتُب عُلَمَاء الْحَنَفِيَّة الْإِشْعَار مَكْرُوه مِنْ قَوْل أَبِي حَنِيفَة , وَعِنْد أَبِي يُوسُف وَمُحَمَّد لَيْسَ بِمَكْرُوهٍ وَلَا سُنَّة بَلْ هُوَ مُبَاح ; لِأَنَّ الْإِشْعَار لَمَّا كَانَ إِعْلَامًا كَانَ سُنَّة بِمَنْزِلَةِ التَّقْلِيد , وَمِنْ حَيْثُ إِنَّهُ جَرْح وَمُثْلَة كَانَ حَرَامًا , فَكَانَ مُشْتَمِلًا عَلَى السُّنَّة وَالْبِدْعَة فَجُعِلَ مُبَاحًا , وَلِأَبِي حَنِيفَة أَنَّ الْإِشْعَار مُثْلَة وَأَنَّهُ حَرَام مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ تَعْذِيب الْحَيَوَان فَكَانَ مَكْرُوهًا , وَمَا رُوِيَ عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا كَانَ فِي أَوَّل الِابْتِدَاء حِين كَانَتْ الْعَرَب تَنْتَهِب كُلّ مَال إِلَّا مَا جُعِلَ هَدْيًا , وَكَانُوا لَا يَعْرِفُونَ الْهَدْي إِلَّا بِالْإِشْعَارِ ثُمَّ زَالَ لِزَوَالِ الْعُذْر ; هَكَذَا رُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس , وَحُكِيَ عَنْ الشَّيْخ الْإِمَام أَبِي مَنْصُور الْمَاتُرِيدِيّ رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى أَنَّهُ قَالَ : يَحْتَمِل أَنْ أَبَا حَنِيفَة كَرِهَ إِشْعَار أَهْل زَمَانه وَهُوَ الْمُبَالَغَة فِي الْبَضْع عَلَى وَجْه يُخَاف مِنْهُ السِّرَايَة , أَمَّا مَا لَمْ يُجَاوِز الْحَدّ فُعِلَ كَمَا كَانَ يُفْعَل فِي عَهْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ حَسَن ; وَهَكَذَا ذَكَرَ أَبُو جَعْفَر الطَّحَاوِيّ . فَهَذَا اِعْتِذَار عُلَمَاء الْحَنَفِيَّة لِأَبِي حَنِيفَة عَنْ الْحَدِيث الَّذِي وَرَدَ فِي الْإِشْعَار , فَقَدْ سَمِعُوهُ وَوَصَلَ إِلَيْهِمْ وَعَلِمُوهُ ; قَالُوا : وَعَلَى الْقَوْل بِأَنَّهُ مَكْرُوه لَا يَصِير بِهِ أَحَد مُحْرِمًا ; لِأَنَّ مُبَاشَرَة الْمَكْرُوه لَا تُعَدّ مِنْ الْمَنَاسِك .|اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ|اِسْم مُفْرَد يَدُلّ عَلَى الْجِنْس فِي جَمِيع الْأَشْهُر الْحُرُم وَهِيَ أَرْبَعَة : وَاحِد فَرْد وَثَلَاثَة سَرْد , يَأْتِي بَيَانهَا فِي | بَرَاءَة | ; وَالْمَعْنَى : لَا تَسْتَحِلُّوهَا لِلْقِتَالِ وَلَا لِلْغَارَةِ وَلَا تُبَدِّلُوهَا ; فَإِنَّ اِسْتِبْدَالهَا اِسْتِحْلَال , وَذَلِكَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ مِنْ النَّسِيء ; وَكَذَلِكَ قَوْله : | وَلَا الْهَدْي وَلَا الْقَلَائِد | أَيْ لَا تَسْتَحِلُّوهُ , وَهُوَ عَلَى حَذْف مُضَاف أَيْ وَلَا ذَوَات الْقَلَائِد جَمْع قِلَادَة . فَنَهَى سُبْحَانه عَنْ اِسْتِحْلَال الْهَدْي جُمْلَة , ثُمَّ ذَكَرَ الْمُقَلَّد مِنْهُ تَأْكِيدًا وَمُبَالَغَة فِي التَّنْبِيه عَلَى الْحُرْمَة فِي التَّقْلِيد .|الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا|الْهَدْي مَا أُهْدِيَ إِلَى بَيْت اللَّه تَعَالَى مِنْ نَاقَة أَوْ بَقَرَة أَوْ شَاة ; الْوَاحِدَة هَدْيَة وَهَدِيَّة وَهَدْي . فَمَنْ قَالَ : أَرَادَ بِالشَّعَائِرِ الْمَنَاسِك قَالَ : ذَكَرَ الْهَدْي تَنْبِيهًا عَلَى تَخْصِيصهَا , وَمَنْ قَالَ : الشَّعَائِر الْهَدْي قَالَ : إِنَّ الشَّعَائِر مَا كَانَ مُشْعَرًا أَيْ مُعَلَّمًا بِإِسَالَةِ الدَّم مِنْ سَنَامه , وَالْهَدْي مَا لَمْ يُشْعَر , اكْتُفِيَ فِيهِ بِالتَّقْلِيدِ , وَقِيلَ : الْفَرْق أَنَّ الشَّعَائِر هِيَ الْبُدْن مِنْ الْأَنْعَام , وَالْهَدْي الْبَقَر وَالْغَنَم وَالثِّيَاب وَكُلّ مَا يُهْدَى , وَقَالَ الْجُمْهُور : الْهَدْي عَامّ فِي جَمِيع مَا يُتَقَرَّب بِهِ مِنْ الذَّبَائِح وَالصَّدَقَات ; وَمِنْهُ قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام : ( الْمُبَكِّر إِلَى الْجُمُعَة كَالْمُهْدِي بَدَنَة ) إِلَى أَنْ قَالَ : ( كَالْمُهْدِي بَيْضَة ) فَسَمَّاهَا هَدْيًا ; وَتَسْمِيَة الْبَيْضَة هَدْيًا لَا مَحْمَل لَهُ إِلَّا أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الصَّدَقَة ; وَكَذَلِكَ قَالَ الْعُلَمَاء : إِذَا قَالَ جَعَلْت ثَوْبِي هَدْيًا فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّق بِهِ ; إِلَّا أَنَّ الْإِطْلَاق إِنَّمَا يَنْصَرِف إِلَى أَحَد الْأَصْنَاف الثَّلَاثَة مِنْ الْإِبِل وَالْبَقَر وَالْغَنَم , وَسَوْقهَا إِلَى الْحَرَم وَذَبْحهَا فِيهِ , وَهَذَا إِنَّمَا تُلُقِّيَ مِنْ عُرْف الشَّرْع فِي قَوْله تَعَالَى : | فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اِسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْي | [ الْبَقَرَة : 196 ] وَأَرَادَ بِهِ الشَّاة ; وَقَالَ تَعَالَى : | يَحْكُم بِهِ ذَوَا عَدْل مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغ الْكَعْبَة | [ الْمَائِدَة : 95 ] وَقَالَ تَعَالَى : | فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجّ فَمَا اِسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْي | [ الْبَقَرَة : 196 ] وَأَقَلّه شَاة عِنْد الْفُقَهَاء , وَقَالَ مَالِك : إِذَا قَالَ ثَوْبِي هَدْي يَجْعَل ثَمَنه فِي هَدْي . | وَالْقَلَائِد | مَا كَانَ النَّاس يَتَقَلَّدُونَهُ أَمَنَة لَهُمْ ; فَهُوَ عَلَى حَذْف مُضَاف , أَيْ وَلَا أَصْحَاب الْقَلَائِد ثُمَّ نُسِخَ . قَالَ اِبْن عَبَّاس : آيَتَانِ نُسِخَتَا مِنْ | الْمَائِدَة | آيَة الْقَلَائِد وَقَوْله : | فَإِنْ جَاءُوك فَاحْكُمْ بَيْنهمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ | [ الْمَائِدَة : 42 ] فَأَمَّا الْقَلَائِد فَنَسَخَهَا الْأَمْر بِقَتْلِ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ كَانُوا وَفِي أَيّ شَهْر كَانُوا , وَأَمَّا الْأُخْرَى فَنَسَخَهَا قَوْله تَعَالَى : | وَأَنْ اُحْكُمْ بَيْنهمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّه | [ الْمَائِدَة : 49 ] عَلَى مَا يَأْتِي . وَقِيلَ : أَرَادَ بِالْقَلَائِدِ نَفْس الْقَلَائِد ; فَهُوَ نَهْي عَنْ أَخْذ لِحَاء شَجَر الْحَرَم حَتَّى يُتَقَلَّد بِهِ طَلَبًا لِلْأَمْنِ ; قَالَهُ مُجَاهِد وَعَطَاء وَمُطَرِّف بْن الشِّخِّير , وَاَللَّه أَعْلَمُ , وَحَقِيقَة الْهَدْي كُلّ مُعْطًى لَمْ يُذْكَر مَعَهُ عِوَض . وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاء عَلَى أَنَّ مَنْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ هَدْي أَنَّهُ يَبْعَث بِثَمَنِهِ إِلَى مَكَّة . وَأَمَّا الْقَلَائِد فَهِيَ كُلّ مَا عُلِّقَ عَلَى أَسْنِمَة الْهَدَايَا وَأَعْنَاقهَا عَلَامَة أَنَّهُ لِلَّهِ سُبْحَانه ; مِنْ نَعْل أَوْ غَيْره , وَهِيَ سُنَّة إِبْرَاهِيمِيَّة بَقِيَتْ فِي الْجَاهِلِيَّة وَأَقَرَّهَا الْإِسْلَام , وَهِيَ سُنَّة الْبَقَر وَالْغَنَم . قَالَتْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا : أَهْدَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّة إِلَى الْبَيْت غَنَمًا فَقَلَّدَهَا ; أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم ; وَإِلَى هَذَا صَارَ جَمَاعَة مِنْ الْعُلَمَاء : الشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر وَابْن حَبِيب ; وَأَنْكَرَهُ مَالِك وَأَصْحَاب الرَّأْي وَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَبْلُغهُمْ هَذَا الْحَدِيث فِي تَقْلِيد الْغَنَم , أَوْ بَلَغَ لَكِنَّهُمْ رَدُّوهُ لِانْفِرَادِ الْأَسْوَد بِهِ عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا ; فَالْقَوْل بِهِ أَوْلَى , وَاَللَّه أَعْلَم , وَأَمَّا الْبَقَر فَإِنْ كَانَتْ لَهَا أَسْنِمَة أُشْعِرَتْ كَالْبُدْنِ ; قَالَ اِبْن عُمَر ; وَبِهِ قَالَ مَالِك , وَقَالَ الشَّافِعِيّ : تُقَلَّد وَتُشْعَر مُطْلَقًا وَلَمْ يُفَرِّقُوا , وَقَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر : تُقَلَّد وَلَا تُشْعَر ; وَهَذَا الْقَوْل أَصَحُّ إِذْ لَيْسَ لَهَا سَنَام , وَهِيَ أَشْبَهُ بِالْغَنَمِ مِنْهَا بِالْإِبِلِ , وَاَللَّه أَعْلَمُ . وَاتَّفَقُوا فِيمَنْ قَلَّدَ بَدَنَة عَلَى نِيَّة الْإِحْرَام وَسَاقَهَا أَنَّهُ يَصِير مُحْرِمًا ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : | لَا تُحِلُّوا شَعَائِر اللَّه | إِلَى أَنْ قَالَ : | فَاصْطَادُوا | وَلَمْ يَذْكُر الْإِحْرَام لَكِنْ لَمَّا ذَكَرَ التَّقْلِيد عُرِفَ أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْإِحْرَام . فَإِنْ بَعَثَ بِالْهَدْيِ وَلَمْ يَسُقْ بِنَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ مُحْرِمًا ; لِحَدِيثِ عَائِشَة قَالَتْ : أَنَا فَتَلْت قَلَائِد هَدْي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدَيَّ ; ثُمَّ قَلَّدَهَا بِيَدَيْهِ , ثُمَّ بَعَثَ بِهَا مَعَ أَبِي فَلَمْ يَحْرُم عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْء أَحَلَّهُ اللَّه لَهُ حَتَّى نُحِرَ الْهَدْي ; أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ , وَهَذَا مَذْهَب مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَإِسْحَق وَجُمْهُور الْعُلَمَاء . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ قَالَ : يَصِير مُحْرِمًا ; قَالَ اِبْن عَبَّاس : مَنْ أَهْدَى هَدْيًا حَرُمَ عَلَيْهِ مَا يَحْرُم عَلَى الْحَاجّ حَتَّى يُنْحَر الْهَدْي ; رَوَاهُ الْبُخَارِيّ ; وَهَذَا مَذْهَب اِبْن عُمَر وَعَطَاء وَمُجَاهِد وَسَعِيد بْن جُبَيْر , وَحَكَاهُ الْخَطَّابِيّ عَنْ أَصْحَاب الرَّأْي ; وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ جَابِر بْن عَبْد اللَّه قَالَ : كُنْت عِنْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا فَقَدَّ قَمِيصه مِنْ جَيْبه ثُمَّ أَخْرَجَهُ مِنْ رِجْلَيْهِ , فَنَظَرَ الْقَوْم إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : ( إِنِّي أُمِرْت بِبُدْنِي الَّتِي بَعَثْت بِهَا أَنْ تُقَلَّد وَتُشْعَر عَلَى مَكَان كَذَا وَكَذَا فَلَبِسْت قَمِيصِي وَنَسِيت فَلَمْ أَكُنْ لِأُخْرِج قَمِيصِي مِنْ رَأْسِي ) وَكَانَ بَعَثَ بِبُدْنِهِ وَأَقَامَ بِالْمَدِينَةِ . فِي إِسْنَاده عَبْد الرَّحْمَن بْن عَطَاء بْن أَبِي لَبِيبَة وَهُوَ ضَعِيف . فَإِنْ قَلَّدَ شَاة وَتَوَجَّهَ مَعَهَا فَقَالَ الْكُوفِيُّونَ : لَا يَصِير مُحْرِمًا ; لِأَنَّ تَقْلِيد الشَّاة لَيْسَ بِمَسْنُونٍ وَلَا مِنْ الشَّعَائِر ; لِأَنَّهُ يُخَاف عَلَيْهَا الذِّئْب فَلَا تَصِل إِلَى الْحَرَم بِخِلَافِ الْبُدْن ; فَإِنَّهَا تُتْرَك حَتَّى تَرِد الْمَاء وَتَرْعَى الشَّجَر وَتَصِل إِلَى الْحَرَم , وَفِي صَحِيح الْبُخَارِيّ عَنْ عَائِشَة أُمّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ : فَتَلْت قَلَائِدهَا مِنْ عِهْن كَانَ عِنْدِي . الْعِهْن الصُّوف الْمَصْبُوغ ; وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : | وَتَكُون الْجِبَال كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوش | [ الْقَارِعَة : 5 ] . وَلَا يَجُوز بَيْع الْهَدْي وَلَا هِبَته إِذَا قُلِّدَ أَوْ أُشْعِرَ ; لِأَنَّهُ قَدْ وَجَبَ , وَإِنْ مَاتَ مُوجِبه لَمْ يُوَرَّث عَنْهُ وَنَفَذَ لِوَجْهِهِ ; بِخِلَافِ الْأُضْحِيَّة فَإِنَّهَا لَا تَجِب إِلَّا بِالذَّبْحِ خَاصَّة عِنْد مَالِك إِلَّا أَنْ يُوجِبَهَا بِالْقَوْلِ ; فَإِنْ أَوْجَبَهَا بِالْقَوْلِ قَبْل الذَّبْح فَقَالَ : جَعَلْت هَذِهِ الشَّاة أُضْحِيَّة تَعَيَّنَتْ ; وَعَلَيْهِ ; إِنْ تَلِفَتْ ثُمَّ وَجَدَهَا أَيَّام الذَّبْح أَوْ بَعْدهَا ذَبَحَهَا وَلَمْ يَجُزْ لَهُ بَيْعهَا ; فَإِنْ كَانَ اِشْتَرَى أُضْحِيَّة غَيْرهَا ذَبَحَهُمَا جَمِيعًا فِي قَوْل أَحْمَد وَإِسْحَاق , وَقَالَ الشَّافِعِيّ : لَا بَدَل عَلَيْهِ إِذَا ضَلَّتْ أَوْ سُرِقَتْ , إِنَّمَا الْإِبْدَال فِي الْوَاجِب , وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ قَالَ : إِذَا ضَلَّتْ فَقَدْ أَجْزَأَتْ , وَمَنْ مَاتَ يَوْم النَّحْر قَبْل أَنْ يُضَحِّيَ كَانَتْ ضَحِيَّتُهُ مَوْرُوثَة عَنْهُ كَسَائِرِ مَاله بِخِلَافِ الْهَدْي , وَقَالَ أَحْمَد وَأَبُو ثَوْر : تُذْبَح بِكُلِّ حَال , وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ : تُذْبَح إِلَّا أَنْ يَكُون عَلَيْهِ دَيْن لَا وَفَاء لَهُ إِلَّا مِنْ تِلْكَ الْأُضْحِيَّة فَتُبَاع فِي دَيْنه , وَلَوْ مَاتَ بَعْد ذَبْحهَا لَمْ يَرِثهَا عَنْهُ وَرَثَته , وَصَنَعُوا بِهَا مِنْ الْأَكْل وَالصَّدَقَة مَا كَانَ لَهُ أَنْ يَصْنَع بِهَا , وَلَا يَقْتَسِمُونَ لَحْمهَا عَلَى سَبِيل الْمِيرَاث , وَمَا أَصَابَ الْأُضْحِيَّة قَبْل الذَّبْح مِنْ الْعُيُوب كَانَ عَلَى صَاحِبهَا بَدَلهَا بِخِلَافِ الْهَدْي , هَذَا تَحْصِيل مَذْهَب مَالِك , وَقَدْ قِيلَ فِي الْهَدْي عَلَى صَاحِبه الْبَدَل ; وَالْأَوَّل أَصْوَبُ . وَاَللَّه أَعْلَمُ . قَالَ أَبُو اللَّيْث السَّمَرْقَنْدِيّ : وَقَوْله تَعَالَى : | وَلَا الشَّهْر الْحَرَام | مَنْسُوخ بِقَوْلِهِ : | وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّة | [ التَّوْبَة : 36 ] وَقَوْله : | وَلَا الْهَدْي وَلَا الْقَلَائِد | مُحْكَم لَمْ يُنْسَخ ; فَكُلّ مَنْ قَلَّدَ الْهَدْي وَنَوَى الْإِحْرَام صَارَ مُحْرِمًا لَا يَجُوز لَهُ أَنْ يُحِلّ بِدَلِيلِ هَذِهِ الْآيَة ; فَهَذِهِ الْأَحْكَام مَعْطُوف بَعْضهَا عَلَى بَعْض ; بَعْضهَا مَنْسُوخ وَبَعْضهَا غَيْر مَنْسُوخ .|الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ|يَعْنِي الْقَاصِدِينَ لَهُ ; مِنْ قَوْلهمْ أَمَمْت كَذَا أَيْ قَصَدْته , وَقَرَأَ الْأَعْمَش : | وَلَا آمِّي الْبَيْت الْحَرَام | بِالْإِضَافَةِ كَقَوْلِهِ : | غَيْر مُحِلِّي الصَّيْد | وَالْمَعْنَى : لَا تَمْنَعُوا الْكُفَّار الْقَاصِدِينَ الْبَيْت الْحَرَام عَلَى جِهَة التَّعَبُّد وَالْقُرْبَة ; وَعَلَيْهِ فَقِيلَ : مَا فِي هَذِهِ الْآيَات مِنْ نَهْي عَنْ مُشْرِك , أَوْ مُرَاعَاة حُرْمَة لَهُ بِقِلَادَةٍ , أَوْ أَمَّ الْبَيْت فَهُوَ كُلّه مَنْسُوخ بِآيَةِ السَّيْف فِي قَوْله : | فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ | [ التَّوْبَة : 5 ] وَقَوْله : | فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِد الْحَرَام بَعْد عَامهمْ هَذَا | [ التَّوْبَة : 28 ] فَلَا يُمَكَّن الْمُشْرِك مِنْ الْحَجّ , وَلَا يُؤَمَّن فِي الْأَشْهُر الْحُرُم وَإِنْ أَهْدَى وَقَلَّدَ وَحَجَّ ; رُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس وَقَالَهُ اِبْن زَيْد عَلَى مَا يَأْتِي ذِكْره , وَقَالَ قَوْم : الْآيَة مُحْكَمَة لَمْ تُنْسَخ وَهِيَ فِي الْمُسْلِمِينَ , وَقَدْ نَهَى اللَّه عَنْ إِخَافَة مَنْ يَقْصِد بَيْته مِنْ الْمُسْلِمِينَ , وَالنَّهْي عَامّ فِي الشَّهْر الْحَرَام وَغَيْره ; وَلَكِنَّهُ خَصَّ الشَّهْر الْحَرَام بِالذِّكْرِ تَعْظِيمًا وَتَفْضِيلًا ; وَهَذَا يَتَمَشَّى عَلَى قَوْل عَطَاء ; فَإِنَّ الْمَعْنَى لَا تُحِلُّوا مَعَالِم اللَّه , وَهِيَ أَمْره وَنَهْيه وَمَا أَعْلَمَهُ النَّاس فَلَا تُحِلُّوهُ ; وَلِذَلِكَ قَالَ أَبُو مَيْسَرَة : هِيَ مُحْكَمَة , وَقَالَ مُجَاهِد : لَمْ يُنْسَخ مِنْهَا إِلَّا | الْقَلَائِد | وَكَانَ الرَّجُل يَتَقَلَّد بِشَيْءٍ مِنْ لِحَاء الْحَرَم فَلَا يُقْرَب فَنُسِخَ ذَلِكَ . وَقَالَ اِبْن جُرَيْج : هَذِهِ الْآيَة نَهْي عَنْ الْحُجَّاج أَنْ تُقْطَع سُبُلهمْ , وَقَالَ اِبْن زَيْد : نَزَلَتْ الْآيَة عَام الْفَتْح وَرَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّة ; جَاءَ أُنَاس مِنْ الْمُشْرِكِينَ يَحُجُّونَ وَيَعْتَمِرُونَ فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ : يَا رَسُول اللَّه إِنَّمَا هَؤُلَاءِ مُشْرِكُونَ فَلَنْ نَدَعَهُمْ إِلَّا أَنْ نُغِير عَلَيْهِمْ ; فَنَزَلَ الْقُرْآن | وَلَا آمِّينَ الْبَيْت الْحَرَام | . وَقِيلَ : كَانَ هَذَا لِأَمْرِ شُرَيْح بْن ضُبَيْعَة الْبَكْرِيّ - وَيُلَقَّب بِالْحُطَمِ - أَخَذَتْهُ جُنْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي عُمْرَته فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة , ثُمَّ نُسِخَ هَذَا الْحُكْم كَمَا ذَكَرْنَا , وَأَدْرَكَ الْحُطَم هَذَا رِدَّة الْيَمَامَة فَقُتِلَ مُرْتَدًّا وَقَدْ رُوِيَ مِنْ خَبَره أَنَّهُ أَتَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ , وَخَلَّفَ خَيْله خَارِج الْمَدِينَة فَقَالَ : إِلَامَ تَدْعُو النَّاس ؟ فَقَالَ : ( إِلَى شَهَادَة أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَإِقَام الصَّلَاة وَإِيتَاء الزَّكَاة ) فَقَالَ : حَسَن , إِلَّا أَنَّ لِي أُمَرَاء لَا أَقْطَع أَمْرًا دُونهمْ وَلَعَلِّي أُسْلِم وَآتِي بِهِمْ , وَقَدْ كَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ : ( يَدْخُل عَلَيْكُمْ رَجُل يَتَكَلَّم بِلِسَانِ شَيْطَان ) ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْده فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام : ( لَقَدْ دَخَلَ بِوَجْهِ كَافِر وَخَرَجَ بِقَفَا غَادِر وَمَا الرَّجُل بِمُسْلِمٍ ) . فَمَرَّ بِسَرْحِ الْمَدِينَة فَاسْتَاقَهُ ; فَطَلَبُوهُ فَعَجَزُوا عَنْهُ , فَانْطَلَقَ وَهُوَ يَقُول : <br>قَدْ لَفَّهَا اللَّيْل بِسَوَّاقٍ حُطَمْ .......... لَيْسَ بِرَاعِي إِبِل وَلَا غَنَمْ <br><br>وَلَا بِجَزَّارٍ عَلَى ظَهْر وَضَمْ .......... بَاتُوا نِيَامًا وَابْن هِنْد لَمْ يَنَمْ <br><br>بَاتَ يُقَاسِيهَا غُلَام كَالزَّلَمْ .......... خَدَلَّج السَّاقَيْنِ خَفَّاق الْقَدَمْ <br>فَلَمَّا خَرَجَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَام الْقَضِيَّة سَمِعَ تَلْبِيَة حُجَّاج الْيَمَامَة فَقَالَ : ( هَذَا الْحُطَم وَأَصْحَابه ) , وَكَانَ قَدْ قَلَّدَ مَا نَهَبَ مِنْ سَرْح الْمَدِينَة وَأَهْدَاهُ إِلَى مَكَّة , فَتَوَجَّهُوا فِي طَلَبه ; فَنَزَلَتْ الْآيَة , أَيْ لَا تُحِلُّوا مَا أُشْعِرَ لِلَّهِ وَإِنْ كَانُوا مُشْرِكِينَ ; ذَكَرَهُ اِبْن عَبَّاس . وَعَلَى أَنَّ الْآيَة مُحْكَمَة قَوْله تَعَالَى : | لَا تُحِلُّوا شَعَائِر اللَّه | يُوجِب إِتْمَام أُمُور الْمَنَاسِك ; وَلِهَذَا قَالَ الْعُلَمَاء : إِنَّ الرَّجُل إِذَا دَخَلَ فِي الْحَجّ ثُمَّ أَفْسَدَهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِجَمِيعِ أَفْعَال الْحَجّ , وَلَا يَجُوز أَنْ يَتْرُك شَيْئًا مِنْهَا وَإِنْ فَسَدَ حَجّه ; ثُمَّ عَلَيْهِ الْقَضَاء فِي السَّنَة الثَّانِيَة .|الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ|قَالَ فِيهِ جُمْهُور الْمُفَسِّرِينَ : مَعْنَاهُ يَبْتَغُونَ الْفَضْل وَالْأَرْبَاح فِي التِّجَارَة , وَيَبْتَغُونَ مَعَ ذَلِكَ رِضْوَانه فِي ظَنّهمْ وَطَمَعهمْ , وَقِيلَ : كَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَبْتَغِي التِّجَارَة , وَمِنْهُمْ مَنْ يَطْلُب بِالْحَجِّ رِضْوَان اللَّه وَإِنْ كَانَ لَا يَنَالهُ ; وَكَانَ مِنْ الْعَرَب مَنْ يَعْتَقِد جَزَاء بَعْد الْمَوْت , وَأَنَّهُ يُبْعَث , وَلَا يَبْعُد أَنْ يَحْصُل لَهُ نَوْع تَخْفِيف فِي النَّار . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : هَذِهِ الْآيَة اِسْتِئْلَاف مِنْ اللَّه تَعَالَى لِلْعَرَبِ وَلُطْف بِهِمْ ; لِتَنْبَسِط النُّفُوس , وَتَتَدَاخَل النَّاس , وَيَرِدُونَ الْمَوْسِم فَيَسْتَمِعُونَ الْقُرْآن , وَيَدْخُل الْإِيمَان فِي قُلُوبهمْ وَتَقُوم عِنْدهمْ الْحُجَّة كَاَلَّذِي كَانَ , وَهَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ عَام الْفَتْح فَنَسَخَ اللَّه ذَلِكَ كُلّه بَعْد عَام سَنَة تِسْع ; إِذْ حَجَّ أَبُو بَكْر وَنُودِيَ النَّاس بِسُورَةِ | بَرَاءَة | .|وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ|أَمْر إِبَاحَة - بِإِجْمَاعِ النَّاس - رَفَعَ مَا كَانَ مَحْظُورًا بِالْإِحْرَامِ ; حَكَاهُ كَثِير مِنْ الْعُلَمَاء وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ , بَلْ صِيغَة | اِفْعَلْ | الْوَارِدَة بَعْد الْحَظْر عَلَى أَصْلهَا مِنْ الْوُجُوب ; وَهُوَ مَذْهَب الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّب وَغَيْره ; لِأَنَّ الْمُقْتَضِيَ لِلْوُجُوبِ قَائِم وَتَقَدُّم الْحَظْر لَا يَصْلُح مَانِعًا ; دَلِيله قَوْله تَعَالَى : | فَإِذَا اِنْسَلَخَ الْأَشْهُر الْحُرُم فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ | [ التَّوْبَة : 5 ] فَهَذِهِ | اِفْعَلْ | عَلَى الْوُجُوب ; لِأَنَّ الْمُرَاد بِهَا الْجِهَاد , وَإِنَّمَا فُهِمَتْ الْإِبَاحَة هُنَاكَ وَمَا كَانَ مِثْله مِنْ قَوْله : | فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلَاة فَانْتَشِرُوا | [ الْجُمُعَة : 10 ] | فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ | مِنْ النَّظَر إِلَى الْمَعْنَى وَالْإِجْمَاع , لَا مِنْ صِيغَة الْأَمْر . وَاَللَّه أَعْلَمُ .|فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ|أَيْ لَا يَحْمِلَنَّكُمْ ; عَنْ اِبْن عَبَّاس وَقَتَادَة , وَهُوَ قَوْل الْكِسَائِيّ وَأَبِي الْعَبَّاس , وَهُوَ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ ; يُقَال : جَرَمَنِي كَذَا عَلَى بُغْضك أَيْ حَمَلَنِي عَلَيْهِ ; قَالَ الشَّاعِر : <br>وَلَقَدْ طَعَنْت أَبَا عُيَيْنَة طَعْنَة .......... جَرَمَتْ فَزَارَة بَعْدهَا أَنْ يَغْضَبُوا <br>وَقَالَ الْأَخْفَشُ : أَيْ وَلَا يُحِقَّنَّكُمْ , وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة وَالْفَرَّاء : مَعْنَى | لَا يَجْرِمَنَّكُمْ | أَيْ لَا يَكْسِبَنَّكُمْ بُغْض قَوْم أَنْ تَعْتَدُوا الْحَقّ إِلَى الْبَاطِل , وَالْعَدْل إِلَى الظُّلْم , قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام : ( أَدِّ الْأَمَانَة إِلَى مَنْ اِئْتَمَنَك وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَك ) وَقَدْ مَضَى الْقَوْل فِي هَذَا , وَنَظِير هَذِهِ الْآيَة | فَمَنْ اِعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اِعْتَدَى عَلَيْكُمْ | [ الْبَقَرَة : 194 ] وَقَدْ تَقَدَّمَ مُسْتَوْفًى , وَيُقَال : فُلَان جَرِيمَة أَهْله أَيْ كَاسِبهمْ , فَالْجَرِيمَة وَالْجَارِم بِمَعْنَى الْكَاسِب وَأَجْرَمَ فُلَان أَيْ اكْتَسَبَ الْإِثْم . وَمِنْهُ قَوْل الشَّاعِر : <br>جَرِيمَةُ نَاهِضٍ فِي رَأْسِ نِيقٍ .......... تَرَى لِعِظَامِ مَا جَمَعَتْ صَلِيبَا <br>مَعْنَاهُ كَاسِب قُوت , وَالصَّلِيب الْوَدَك , وَهَذَا هُوَ الْأَصْل فِي بِنَاء ج ر م . قَالَ اِبْن فَارِس : يُقَال جَرَمَ وَأَجْرَمَ , وَلَا جَرَمَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلك : لَا بُدّ وَلَا مَحَالَة ; وَأَصْلهَا مِنْ جَرَمَ أَيْ اِكْتَسَبَ , قَالَ : <br>جَرَمَتْ فَزَارَة بَعْدهَا أَنْ يَغْضَبُوا <br>وَقَالَ آخَر : <br>يَا أَيُّهَا الْمُشْتَكِي عُكْلًا وَمَا جَرَمَتْ .......... إِلَى الْقَبَائِلِ مِنْ قَتْلٍ وَإِبْآسِ <br>وَيُقَال : جَرَمَ يَجْرِم جَرْمًا إِذَا قَطَعَ ; قَالَ الرُّمَّانِيّ عَلِيّ بْن عِيسَى : وَهُوَ الْأَصْل ; فَجَرَمَ بِمَعْنَى حَمَلَ عَلَى الشَّيْء لِقَطْعِهِ مِنْ غَيْره , وَجَرَمَ بِمَعْنَى كَسَبَ لِانْقِطَاعِهِ إِلَى الْكَسْب , وَجَرَمَ بِمَعْنَى حُقّ لِأَنَّ الْحَقّ يُقْطَع عَلَيْهِ , وَقَالَ الْخَلِيل : | لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمْ النَّار | [ النَّحْل : 62 ] لَقَدْ حُقّ أَنَّ لَهُمْ الْعَذَاب , وَقَالَ الْكِسَائِيّ : جَرَمَ وَأَجْرَمَ لُغَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِد , أَيْ اِكْتَسَبَ . وَقَرَأَ اِبْن مَسْعُود | يُجْرِمَنَّكُمْ | بِضَمِّ الْيَاء , وَالْمَعْنَى أَيْضًا لَا يَكْسِبَنَّكُمْ ; وَلَا يَعْرِف الْبَصْرِيُّونَ الضَّمّ , وَإِنَّمَا يَقُولُونَ : جَرَمَ لَا غَيْر , وَالشَّنَآن الْبُغْض , وَقُرِئَ بِفَتْحِ النُّون وَإِسْكَانهَا ; يُقَال : شَنِئْت الرَّجُل أَشْنَؤُهُ شَنْأً وَشَنْأَةً وَشَنَآنًا وَشَنْآنًا بِجَزْمِ النُّون , كُلّ ذَلِكَ إِذَا أَبْغَضْته ; أَيْ لَا يَكْسِبَنَّكُمْ بُغْض قَوْم بِصَدِّهِمْ إِيَّاكُمْ أَنْ تَعْتَدُوا ; وَالْمُرَاد بُغْضكُمْ قَوْمًا , فَأَضَافَ الْمَصْدَر إِلَى الْمَفْعُول . قَالَ اِبْن زَيْد : لَمَّا صُدَّ الْمُسْلِمُونَ عَنْ الْبَيْت عَام الْحُدَيْبِيَة مَرَّ بِهِمْ نَاس مِنْ الْمُشْرِكِينَ يُرِيدُونَ الْعُمْرَة ; فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ : نَصُدّهُمْ كَمَا صَدَّنَا أَصْحَابهمْ , فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة ; أَيْ لَا تَعْتَدُوا عَلَى هَؤُلَاءِ , وَلَا تَصُدُّوهُمْ | أَنْ صَدُّوكُمْ | أَصْحَابُهُمْ , بِفَتْحِ الْهَمْزَة مَفْعُول مِنْ أَجْله ; أَيْ لِأَنْ صَدُّوكُمْ , وَقَرَأَ أَبُو عَمْرو وَابْن كَثِير بِكَسْرِ الْهَمْزَة | إِنْ صَدُّوكُمْ | وَهُوَ اِخْتِيَار أَبِي عُبَيْد , وَرُوِيَ عَنْ الْأَعْمَش | إِنْ يَصُدُّوكُمْ | . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : فَإِنْ لِلْجَزَاءِ ; أَيْ إِنْ وَقَعَ مِثْل هَذَا الْفِعْل فِي الْمُسْتَقْبَل , وَالْقِرَاءَة الْأُولَى أَمْكَن فِي الْمَعْنَى , وَقَالَ النَّحَّاس : وَأَمَّا | إِنْ صَدُّوكُمْ | بِكَسْرِ | إِنْ | فَالْعُلَمَاء الْجُلَّة بِالنَّحْوِ وَالْحَدِيث وَالنَّظَر يَمْنَعُونَ الْقِرَاءَة بِهَا لِأَشْيَاءَ : مِنْهَا أَنَّ الْآيَة نَزَلَتْ عَام الْفَتْح سَنَة ثَمَان , وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ صَدُّوا الْمُسْلِمِينَ عَام الْحُدَيْبِيَة سَنَة سِتّ , فَالصَّدّ كَانَ قَبْل الْآيَة ; وَإِذَا قُرِئَ 0 بِالْكَسْرِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُون إِلَّا بَعْده ; كَمَا تَقُول : لَا تُعْطِ فُلَانًا شَيْئًا إِنْ قَاتَلَك ; فَهَذَا لَا يَكُون إِلَّا لِلْمُسْتَقْبَلِ , وَإِنْ فَتَحْت كَانَ لِلْمَاضِي , فَوَجَبَ عَلَى هَذَا أَلَّا يَجُوز إِلَّا | أَنْ صَدُّوكُمْ | , وَأَيْضًا فَلَوْ لَمْ يَصِحّ هَذَا الْحَدِيث لَكَانَ الْفَتْح وَاجِبًا ; لِأَنَّ قَوْله : | لَا تُحِلُّوا شَعَائِر اللَّه | إِلَى آخِر الْآيَة يَدُلّ عَلَى أَنَّ مَكَّة كَانَتْ فِي أَيْدِيهمْ , وَأَنَّهُمْ لَا يُنْهَوْنَ عَنْ هَذَا إِلَّا وَهُمْ قَادِرُونَ عَلَى الصَّدّ عَنْ الْبَيْت الْحَرَام , فَوَجَبَ مِنْ هَذَا فَتْح | أَنْ | لِأَنَّهُ لِمَا مَضَى .|الْحَرَامِ أَنْ|فِي مَوْضِع نَصْب ; لِأَنَّهُ مَفْعُول بِهِ , أَيْ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآن قَوْم الِاعْتِدَاء .</p><p>وَأَنْكَرَ أَبُو حَاتِم وَأَبُو عُبَيْد | شَنْآن | بِإِسْكَانِ النُّون ; لِأَنَّ الْمَصَادِر إِنَّمَا تَأْتِي فِي مِثْل هَذَا مُتَحَرِّكَة ; وَخَالَفَهُمَا غَيْرهمَا وَقَالَ : لَيْسَ هَذَا مَصْدَرًا وَلَكِنَّهُ اِسْم الْفَاعِل عَلَى وَزْن كَسْلَان وَغَضْبَان .|تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ|قَالَ الْأَخْفَش : هُوَ مَقْطُوع مِنْ أَوَّل الْكَلَام , وَهُوَ أَمْر لِجَمِيعِ الْخَلْق بِالتَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرّ وَالتَّقْوَى ; أَيْ لِيُعِنْ بَعْضكُمْ بَعْضًا , وَتَحَاثُّوا عَلَى مَا أَمَرَ اللَّه تَعَالَى وَاعْمَلُوا بِهِ , وَانْتَهُوا عَمَّا نَهَى اللَّه عَنْهُ وَامْتَنِعُوا مِنْهُ ; وَهَذَا مُوَافِق لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( الدَّالّ عَلَى الْخَيْر كَفَاعِلِهِ ) , وَقَدْ قِيلَ : الدَّالّ عَلَى الشَّرّ كَصَانِعِهِ . ثُمَّ قِيلَ : الْبِرّ وَالتَّقْوَى لَفْظَانِ بِمَعْنًى وَاحِد , وَكُرِّرَ بِاخْتِلَافِ اللَّفْظ تَأْكِيدًا وَمُبَالَغَة , إِذْ كُلّ بِرّ تَقْوَى وَكُلّ تَقْوَى بِرّ . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَفِي هَذَا تَسَامُح مَا , وَالْعُرْف فِي دَلَالَة هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ أَنَّ الْبِرّ يَتَنَاوَل الْوَاجِب وَالْمَنْدُوب إِلَيْهِ , وَالتَّقْوَى رِعَايَة الْوَاجِب , فَإِنْ جُعِلَ أَحَدهمَا بَدَل الْآخَر فَبِتَجَوُّزٍ . وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ : نَدَبَ اللَّه سُبْحَانه إِلَى التَّعَاوُن بِالْبِرِّ وَقَرَنَهُ بِالتَّقْوَى لَهُ ; لِأَنَّ فِي التَّقْوَى رِضَا اللَّه تَعَالَى , وَفِي الْبِرّ رِضَا النَّاس , وَمَنْ جَمَعَ بَيْن رِضَا اللَّه تَعَالَى وَرِضَا النَّاس فَقَدْ تَمَّتْ سَعَادَته وَعَمَّتْ نِعْمَته , وَقَالَ اِبْن خُوَيْز مَنْدَاد فِي أَحْكَامه : وَالتَّعَاوُن عَلَى الْبِرّ وَالتَّقْوَى يَكُون بِوُجُوهٍ ; فَوَاجِب عَلَى الْعَالِم أَنْ يُعِين النَّاس بِعِلْمِهِ فَيُعَلِّمهُمْ , وَيُعِينهُمْ الْغَنِيّ بِمَالِهِ , وَالشُّجَاع بِشَجَاعَتِهِ فِي سَبِيل اللَّه , وَأَنْ يَكُون الْمُسْلِمُونَ مُتَظَاهِرِينَ كَالْيَدِ الْوَاحِدَة ( الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأ دِمَاؤُهُمْ وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ وَهُمْ يَد عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ ) , وَيَجِب الْإِعْرَاض عَنْ الْمُتَعَدِّي وَتَرْك النُّصْرَة لَهُ وَرَدّه عَمَّا هُوَ عَلَيْهِ . ثُمَّ نَهَى فَقَالَ .|وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ|وَهُوَ الْحُكْم اللَّاحِق عَنْ الْجَرَائِم , وَعَنْ | الْعُدْوَان | وَهُوَ ظُلْم النَّاس .|وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ|ثُمَّ أَمَرَ بِالتَّقْوَى وَتَوَعَّدَ تَوَعُّدًا مُجْمَلًا .

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَس

تَقَدَّمَ الْقَوْل فِيهِ كَامِلًا فِي الْبَقَرَة .|وَالْمُنْخَنِقَةُ|هِيَ الَّتِي تَمُوت خَنْقًا , وَهُوَ حَبْس النَّفَس سَوَاء فَعَلَ بِهَا ذَلِكَ آدَمِيّ أَوْ اتَّفَقَ لَهَا ذَلِكَ فِي حَبْل أَوْ بَيْن عُودَيْنِ أَوْ نَحْوه , وَذَكَرَ قَتَادَة : أَنَّ أَهْل الْجَاهِلِيَّة كَانُوا يَخْنُقُونَ الشَّاة وَغَيْرهَا فَإِذَا مَاتَتْ أَكَلُوهَا ; وَذَكَرَ نَحْوه اِبْن عَبَّاس .|وَالْمَوْقُوذَةُ|الْمَوْقُوذَة هِيَ الَّتِي تُرْمَى أَوْ تُضْرَب بِحَجَرٍ أَوْ عَصًا حَتَّى تَمُوت مِنْ غَيْر تَذْكِيَة ; عَنْ اِبْن عَبَّاس وَالْحَسَن وَقَتَادَة وَالضَّحَّاك وَالسُّدِّيّ ; يُقَال مِنْهُ : وَقَذَهُ يَقِذهُ وَقْذًا وَهُوَ وَقِيذ , وَالْوَقْذ شِدَّة الضَّرْب , وَفُلَان وَقِيذ أَيْ مُثْخَن ضَرْبًا . قَالَ قَتَادَة : كَانَ أَهْل الْجَاهِلِيَّة يَفْعَلُونَ ذَلِكَ وَيَأْكُلُونَهُ , وَقَالَ الضَّحَّاك : كَانُوا يَضْرِبُونَ الْأَنْعَام بِالْخَشَبِ لِآلِهَتِهِمْ حَتَّى يَقْتُلُوهَا فَيَأْكُلُوهَا , وَمِنْهُ الْمَقْتُولَة بِقَوْسِ الْبُنْدُق , وَقَالَ الْفَرَزْدَق : <br>شَغَّارَة تَقِذ الْفَصِيل بِرِجْلِهَا .......... فَطَّارَة لِقَوَادِم الْأَبْكَارِ <br>وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ عَدِيّ بْن حَاتِم قَالَ : قُلْت يَا رَسُول اللَّه فَإِنِّي أَرْمِي بِالْمِعْرَاضِ الصَّيْد فَأُصِيب ; فَقَالَ : ( إِذَا رَمَيْت بِالْمِعْرَاضِ فَخَزَقَ فَكُلْهُ وَإِنْ أَصَابَهُ بِعَرْضِهِ فَلَا تَأْكُلهُ ) وَفِي رِوَايَة ( فَإِنَّهُ وَقِيذ ) . قَالَ أَبُو عُمَر : اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء قَدِيمًا وَحَدِيثًا فِي الصَّيْد بِالْبُنْدُقِ وَالْحَجَر وَالْمِعْرَاض ; فَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ وَقِيذ لَمْ يُجِزْهُ إِلَّا مَا أُدْرِكَ ذَكَاته ; عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ اِبْن عُمَر , وَهُوَ قَوْل مَالِك وَأَبِي حَنِيفَة وَأَصْحَابه وَالثَّوْرِيّ وَالشَّافِعِيّ , وَخَالَفَهُمْ الشَّامِيُّونَ فِي ذَلِكَ ; قَالَ الْأَوْزَاعِيّ فِي الْمِعْرَاض : كُلْهُ خَزَقَ أَوْ لَمْ يَخْزِق ; فَقَدْ كَانَ أَبُو الدَّرْدَاء وَفَضَالَة بْن عُبَيْد وَعَبْد اللَّه بْن عُمَر وَمَكْحُول لَا يَرَوْنَ بِهِ بَأْسًا ; قَالَ أَبُو عُمَر : هَكَذَا ذَكَرَ الْأَوْزَاعِيّ عَنْ عَبْد اللَّه بْن عُمَر , وَالْمَعْرُوف عَنْ اِبْن عُمَر مَا ذَكَرَهُ مَالِك عَنْ نَافِع عَنْهُ , وَالْأَصْل فِي هَذَا الْبَاب وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْعَمَل وَفِيهِ الْحُجَّة لِمَنْ لَجَأَ إِلَيْهِ حَدِيث عَدِيّ بْن حَاتِم وَفِيهِ ( وَمَا أَصَابَ بِعَرْضِهِ فَلَا تَأْكُلهُ فَإِنَّمَا هُوَ وَقِيذ ) .|وَالْمُتَرَدِّيَةُ|الْمُتَرَدِّيَة هِيَ الَّتِي تَتَرَدَّى مِنْ الْعُلُوّ إِلَى السُّفْل فَتَمُوت ; كَانَ ذَلِكَ مِنْ جَبَل أَوْ فِي بِئْر وَنَحْوه ; وَهِيَ مُتَفَعِّلَة مِنْ الرَّدَى وَهُوَ الْهَلَاك ; وَسَوَاء تَرَدَّتْ بِنَفْسِهَا أَوْ رَدَّاهَا غَيْرهَا , وَإِذَا أَصَابَ السَّهْم الصَّيْد فَتَرَدَّى مِنْ جَبَل إِلَى الْأَرْض حَرُمَ أَيْضًا ; لِأَنَّهُ رُبَّمَا مَاتَ بِالصَّدْمَةِ وَالتَّرَدِّي لَا بِالسَّهْمِ ; وَمِنْهُ الْحَدِيث ( وَإِنْ وَجَدْته غَرِيقًا فِي الْمَاء فَلَا تَأْكُلهُ فَإِنَّك لَا تَدْرِي الْمَاء قَتَلَهُ أَوْ سَهْمك ) أَخْرَجَهُ مُسْلِم , وَكَانَتْ الْجَاهِلِيَّة تَأْكُل الْمُتَرَدِّيَ وَلَمْ تَكُنْ تَعْتَقِد مَيْتَة إِلَّا مَا مَاتَ بِالْوَجَعِ وَنَحْوه دُون سَبَب يُعْرَف ; فَأَمَّا هَذِهِ الْأَسْبَاب فَكَانَتْ عِنْدهَا كَالذَّكَاةِ ; فَحَصَرَ الشَّرْع الذَّكَاة فِي صِفَة مَخْصُوصَة عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانهَا , وَبَقِيَتْ هَذِهِ كُلّهَا مَيْتَة , وَهَذَا كُلّه مِنْ الْمُحْكَم الْمُتَّفَق عَلَيْهِ . وَكَذَلِكَ النَّطِيحَة وَأَكِيلَة السَّبُع الَّتِي فَاتَ نَفَسُهَا بِالنَّطْحِ وَالْأَكْل .|وَالنَّطِيحَةُ|النَّطِيحَة فَعِيلَة بِمَعْنَى مَفْعُولَة , وَهِيَ الشَّاة تَنْطَحهَا أُخْرَى أَوْ غَيْر ذَلِكَ فَتَمُوت قَبْل أَنْ تُذَكَّى , وَتَأَوَّلَ قَوْم النَّطِيحَة بِمَعْنَى النَّاطِحَة ; لِأَنَّ الشَّاتَيْنِ قَدْ تَتَنَاطَحَانِ فَتَمُوتَانِ , وَقِيلَ : نَطِيحَة وَلَمْ يَقُلْ نَطِيح , وَحَقّ فَعِيل لَا يُذْكَر فِيهِ الْهَاء كَمَا يُقَال : كَفّ خَضِيب وَلِحْيَة دَهِين ; لَكِنْ ذَكَرَ الْهَاء هَهُنَا لِأَنَّ الْهَاء إِنَّمَا تُحْذَف مِنْ الْفَعِيلَة إِذَا كَانَتْ صِفَة لِمَوْصُوفٍ مَنْطُوق بِهِ ; يُقَال : شَاة نَطِيح وَامْرَأَة قَتِيل , فَإِنْ لَمْ تَذْكُر الْمَوْصُوف أَثْبَتّ الْهَاء فَتَقُول : رَأَيْت قَتِيلَة بَنِي فُلَان وَهَذِهِ نَطِيحَة الْغَنَم ; لِأَنَّك لَوْ لَمْ تَذْكُر الْهَاء فَقُلْت : رَأَيْت قَتِيل بَنِي فُلَان لَمْ يُعْرَف أَرَجُل هُوَ أَمْ اِمْرَأَة . وَقَرَأَ أَبُو مَيْسَرَة | وَالْمَنْطُوحَة | .|وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ|يُرِيدُ كُلَّ مَا افْتَرَسَهُ ذُو نَاب وَأَظْفَار مِنْ الْحَيَوَان , كَالْأَسَدِ وَالنَّمِر وَالثَّعْلَب وَالذِّئْب وَالضَّبْع وَنَحْوهَا , هَذِهِ كُلّهَا سِبَاع . يُقَال : سَبَعَ فُلَان فُلَانًا أَيْ عَضَّهُ بِسِنِّهِ , وَسَبَعَهُ أَيْ عَابَهُ وَوَقَعَ فِيهِ , وَفِي الْكَلَام إِضْمَار , أَيْ وَمَا أَكَلَ مِنْهُ السَّبُع ; لِأَنَّ مَا أَكَلَهُ السَّبُع فَقَدْ فَنِيَ , وَمِنْ الْعَرَب مَنْ يُوقِف اِسْم السَّبُع عَلَى الْأَسَد , وَكَانَتْ الْعَرَب إِذَا أَخَذَ السَّبُع شَاة ثُمَّ خَلَصَتْ مِنْهُ أَكَلُوهَا , وَكَذَلِكَ إِنْ أَكَلَ بَعْضهَا ; قَالَهُ قَتَادَة وَغَيْره وَقَرَأَ الْحَسَن وَأَبُو حَيْوَة | السَّبْع | بِسُكُونِ الْبَاء , وَهِيَ لُغَة لِأَهْلِ نَجْد , وَقَالَ حَسَّان فِي عُتْبَة بْن أَبِي لَهَب : <br>مَنْ يَرْجِع الْعَام إِلَى أَهْله .......... فَمَا أَكِيلُ السَّبْع بِالرَّاجِعِ <br>وَقَرَأَ اِبْن مَسْعُود : | وَأَكِيلَة السَّبُع | وَقَرَأَ عَبْد اللَّه بْن عَبَّاس : | وَأَكِيل السَّبُع | .|إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ|نُصِبَ عَلَى الِاسْتِثْنَاء الْمُتَّصِل , عِنْد الْجُمْهُور مِنْ الْعُلَمَاء وَالْفُقَهَاء , وَهُوَ رَاجِع عَلَى كُلّ مَا أُدْرِكَ ذَكَاته مِنْ الْمَذْكُورَات وَفِيهِ حَيَاة ; فَإِنَّ الذَّكَاة عَامِلَة فِيهِ ; لِأَنَّ حَقّ الِاسْتِثْنَاء أَنْ يَكُون مَصْرُوفًا إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْكَلَام , وَلَا يُجْعَل مُنْقَطِعًا إِلَّا بِدَلِيلٍ يَجِب التَّسْلِيم لَهُ . رَوَى اِبْن عُيَيْنَة وَشَرِيك وَجَرِير عَنْ الرُّكَيْن بْن الرَّبِيع عَنْ أَبِي طَلْحَة الْأَسَدِيّ قَالَ : سَأَلْت اِبْن عَبَّاس عَنْ ذِئْب عَدَا عَلَى شَاة فَشَقَّ بَطْنهَا حَتَّى انْتَثَرَ قُصْبهَا فَأَدْرَكْت ذَكَاتهَا فَذَكَّيْتهَا فَقَالَ : كُلْ وَمَا اِنْتَثَرَ مِنْ قُصْبهَا فَلَا تَأْكُل . قَالَ إِسْحَاق بْن رَاهْوَيْهِ : السُّنَّة فِي الشَّاة عَلَى مَا وَصَفَ اِبْن عَبَّاس ; فَإِنَّهَا وَإِنْ خَرَجَتْ مَصَارِينهَا فَإِنَّهَا حَيَّة بَعْد , وَمَوْضِع الذَّكَاة مِنْهَا سَالِم ; وَإِنَّمَا يُنْظَر عِنْد الذَّبْح أَحَيَّة هِيَ أَمْ مَيِّتَة , وَلَا يُنْظَر إِلَى فِعْل هَلْ يَعِيش مِثْلهَا ؟ فَكَذَلِكَ الْمَرِيضَة ; قَالَ إِسْحَاق : وَمَنْ خَالَفَ هَذَا فَقَدْ خَالَفَ السُّنَّة مِنْ جُمْهُور الصَّحَابَة وَعَامَّة الْعُلَمَاء . قُلْت : وَإِلَيْهِ ذَهَبَ اِبْن حَبِيب وَذُكِرَ عَنْ أَصْحَاب مَالِك ; وَهُوَ قَوْل اِبْن وَهْب وَالْأَشْهَرُ مِنْ مَذْهَب الشَّافِعِيّ . قَالَ الْمُزَنِيّ : وَأَحْفَظُ لِلشَّافِعِيِّ قَوْلًا آخَر أَنَّهَا لَا تُؤْكَل إِذَا بَلَغَ مِنْهَا السَّبُع أَوْ التَّرَدِّي إِلَى مَا لَا حَيَاة مَعَهُ ; وَهُوَ قَوْل الْمَدَنِيِّينَ , وَالْمَشْهُور مِنْ قَوْل مَالِك , وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ عَبْد الْوَهَّاب فِي تَلْقِينه , وَرُوِيَ عَنْ زَيْد بْن ثَابِت ; ذَكَرَهُ مَالِك فِي مُوَطَّئِهِ , وَإِلَيْهِ ذَهَبَ إِسْمَاعِيل الْقَاضِي وَجَمَاعَة الْمَالِكِيِّينَ الْبَغْدَادِيِّينَ , وَالِاسْتِثْنَاء عَلَى هَذَا الْقَوْل مُنْقَطِع ; أَيْ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ هَذِهِ الْأَشْيَاء لَكِنْ مَا ذَكَّيْتُمْ فَهُوَ الَّذِي لَمْ يُحَرَّم . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : اِخْتَلَفَ قَوْل مَالِك فِي هَذِهِ الْأَشْيَاء ; فَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يُؤْكَل إِلَّا مَا ذُكِّيَ بِذَكَاةٍ صَحِيحَة ; وَاَلَّذِي فِي الْمُوَطَّأ أَنَّهُ إِنْ كَانَ ذَبَحَهَا وَنَفَسهَا يَجْرِي , وَهِيَ تَضْطَرِب فَلْيَأْكُلْ ; وَهُوَ الصَّحِيح مِنْ قَوْله الَّذِي كَتَبَهُ بِيَدِهِ وَقَرَأَهُ عَلَى النَّاس مِنْ كُلّ بَلَد طُول عُمْره ; فَهُوَ أَوْلَى مِنْ الرِّوَايَات النَّادِرَة , وَقَدْ أَطْلَقَ عُلَمَاؤُنَا عَلَى الْمَرِيضَة أَنَّ الْمَذْهَب جَوَاز تَذْكِيَتهَا وَلَوْ أَشْرَفَتْ عَلَى الْمَوْت إِذَا كَانَتْ فِيهَا بَقِيَّة حَيَاة ; وَلَيْتَ شِعْرِي أَيّ فَرْق بَيْن بَقِيَّة حَيَاة مِنْ مَرَض , وَبَقِيَّة حَيَاة مِنْ سَبُع لَوْ اِتَّسَقَ النَّظَر , وَسَلِمَتْ مِنْ الشُّبْهَة الْفِكَرُ ! , وَقَالَ أَبُو عَمْرو : قَدْ أَجْمَعُوا فِي الْمَرِيضَة الَّتِي لَا تُرْجَى حَيَاتهَا أَنَّ ذَبْحهَا ذَكَاة لَهَا إِذَا كَانَتْ فِيهَا الْحَيَاة فِي حِين ذَبْحهَا , وَعُلِمَ ذَلِكَ مِنْهَا بِمَا ذَكَرُوا مِنْ حَرَكَة يَدهَا أَوْ رِجْلهَا أَوْ ذَنَبهَا أَوْ نَحْو ذَلِكَ ; وَأَجْمَعُوا أَنَّهَا إِذَا صَارَتْ فِي حَال النَّزْع وَلَمْ تُحَرِّك يَدًا وَلَا رِجْلًا أَنَّهُ لَا ذَكَاة فِيهَا ; وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي فِي الْقِيَاس أَنْ يَكُون حُكْم الْمُتَرَدِّيَة وَمَا ذُكِرَ مَعَهَا فِي الْآيَة , وَاَللَّه أَعْلَمُ . قَوْله تَعَالَى : | ذَكَّيْتُمْ | الذَّكَاة فِي كَلَام الْعَرَب الذَّبْح ; قَالَهُ قُطْرُب , وَقَالَ اِبْن سِيدَهْ فِي [ الْمُحْكَم ] وَالْعَرَب تَقُول ( ذَكَاة الْجَنِين ذَكَاة أُمّه ) ; قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا إِنَّمَا هُوَ حَدِيث , وَذَكَّى الْحَيَوَان ذَبَحَهُ ; وَمِنْهُ قَوْل الشَّاعِر : <br>يُذَكِّيهَا الْأَسَلْ <br>قُلْت : الْحَدِيث الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ مِنْ حَدِيث أَبِي سَعِيد وَأَبِي هُرَيْرَة وَعَلِيّ وَعَبْد اللَّه عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( ذَكَاة الْجَنِين ذَكَاة أُمّه ) , وَبِهِ يَقُول جَمَاعَة أَهْل الْعِلْم , إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَة أَنَّهُ قَالَ : إِذَا خَرَجَ الْجَنِين مِنْ بَطْن أُمّه مَيِّتًا لَمْ يَحِلّ أَكْله ; لِأَنَّ ذَكَاة نَفْس لَا تَكُون ذَكَاة نَفْسَيْنِ . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَفِي قَوْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( ذَكَاة الْجَنِين ذَكَاة أُمّه ) دَلِيل عَلَى أَنَّ الْجَنِين غَيْر الْأُمّ , وَهُوَ يَقُول : لَوْ أُعْتِقَتْ أَمَة حَامِل أَنَّ عِتْقه عِتْق أُمّه ; وَهَذَا يَلْزَمهُ أَنَّ ذَكَاته ذَكَاة أُمّه ; لِأَنَّهُ إِذَا أَجَازَ أَنْ يَكُون عِتْق وَاحِد عِتْق اِثْنَيْنِ جَازَ أَنْ يَكُون ذَكَاة وَاحِد ذَكَاة اِثْنَيْنِ ; عَلَى أَنَّ الْخَبَر عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَمَا جَاءَ عَنْ أَصْحَابه , وَمَا عَلَيْهِ جُلّ النَّاس مُسْتَغْنًى بِهِ عَنْ قَوْل كُلّ قَائِل , وَأَجْمَعَ أَهْل الْعِلْم عَلَى أَنَّ الْجَنِين إِذَا خَرَجَ حَيًّا أَنَّ ذَكَاة أُمّه لَيْسَتْ بِذَكَاةٍ لَهُ , وَاخْتَلَفُوا إِذَا ذُكِّيَتْ الْأُمّ وَفِي بَطْنهَا جَنِين ; فَقَالَ مَالِك وَجَمِيع أَصْحَابه : ذَكَاته ذَكَاة أُمّه إِذَا كَانَ قَدْ تَمَّ خَلْقه وَنَبَتَ شَعْره , وَذَلِكَ إِذَا خَرَجَ مَيِّتًا أَوْ خَرَجَ بِهِ رَمَق مِنْ الْحَيَاة , غَيْر أَنَّهُ يُسْتَحَبّ أَنْ يُذْبَح إِنْ خَرَجَ يَتَحَرَّك , فَإِنْ سَبَقَهُمْ بِنَفْسِهِ أُكِلَ , وَقَالَ اِبْن الْقَاسِم : ضَحَّيْت بِنَعْجَةٍ فَلَمَّا ذَبَحْتهَا جَعَلَ يَرْكُض وَلَدهَا فِي بَطْنهَا فَأَمَرْتهمْ أَنْ يَتْرُكُوهَا حَتَّى يَمُوت فِي بَطْنهَا , ثُمَّ أَمَرْتهمْ فَشَقُّوا جَوْفهَا فَأُخْرِجَ مِنْهُ فَذَبَحْته فَسَالَ مِنْهُ دَم ; فَأَمَرْت أَهْلِي أَنْ يَشْوُوهُ , وَقَالَ عَبْد اللَّه بْن كَعْب بْن مَالِك . كَانَ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُونَ : إِذَا أُشْعِرَ الْجَنِين فَذَكَاته ذَكَاة أُمّه . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَمِمَّنْ قَالَ ذَكَاته ذَكَاة أُمّه وَلَمْ يَذْكُر أَشْعَرَ أَوْ لَمْ يُشْعِر عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَسَعِيد بْن الْمُسَيِّب وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاق . قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيد الْبَاجِيّ : وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( ذَكَاة الْجَنِين ذَكَاة أُمّه أَشْعَرَ أَوْ لَمْ يُشْعِر | إِلَّا أَنَّهُ حَدِيث ضَعِيف ; فَمَذْهَب مَالِك هُوَ الصَّحِيح مِنْ الْأَقْوَال الَّذِي عَلَيْهِ عَامَّة فُقَهَاء الْأَمْصَار . وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيق . قَوْله تَعَالَى : | ذَكَّيْتُمْ | الذَّكَاة فِي اللُّغَة أَصْلهَا التَّمَام , وَمِنْهُ تَمَام السِّنّ , وَالْفَرَس الْمُذَكَّى الَّذِي يَأْتِي بَعْد تَمَام الْقُرُوح بِسَنَةٍ , وَذَلِكَ تَمَام اِسْتِكْمَال الْقُوَّة , وَيُقَال : ذَكَّى يُذَكِّي , وَالْعَرَب تَقُول : جَرْي الْمُذَكِّيَات غِلَاب 22 . وَالذَّكَاء حِدَّة الْقَلْب ; وَقَالَ الشَّاعِر : <br>يُفَضِّلهُ إِذَا اِجْتَهَدُوا عَلَيْهِ .......... تَمَامُ السِّنِّ مِنْهُ وَالذَّكَاءُ <br>وَالذَّكَاء سُرْعَة الْفِطْنَة , وَالْفِعْل مِنْهُ ذَكِيَ يَذْكَى ذَكًا , وَالذَّكْوَة مَا تَذْكُو بِهِ النَّار , وَأَذْكَيْت الْحَرْب وَالنَّار أَوْقَدْتهمَا , وَذُكَاء اِسْم الشَّمْس ; وَذَلِكَ أَنَّهَا تَذْكُو كَالنَّارِ , وَالصُّبْح اِبْن ذُكَاء لِأَنَّهُ مِنْ ضَوْئِهَا . فَمَعْنَى | ذَكَّيْتُمْ | أَدْرَكْتُمْ ذَكَاته عَلَى التَّمَام . ذَكَّيْت الذَّبِيحَة أُذَكِّيهَا مُشْتَقَّة مِنْ التَّطَيُّب ; يُقَال : رَائِحَة ذَكِيَّة ; فَالْحَيَوَان إِذَا أُسِيلَ دَمه فَقَدْ طُيِّبَ , لِأَنَّهُ يَتَسَارَع إِلَيْهِ التَّجْفِيف ; وَفِي حَدِيث مُحَمَّد بْن عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا | ذَكَاة الْأَرْض يُبْسهَا | يُرِيد طَهَارَتهَا مِنْ النَّجَاسَة ; فَالذَّكَاة فِي الذَّبِيحَة تَطْهِيرٌ لَهَا , وَإِبَاحَةٌ لِأَكْلِهَا فَجُعِلَ يُبْسُ الْأَرْض بَعْد النَّجَاسَة تَطْهِيرًا لَهَا وَإِبَاحَةُ الصَّلَاة فِيهَا بِمَنْزِلَةِ الذَّكَاة لِلذَّبِيحَةِ ; وَهُوَ قَوْل أَهْل الْعِرَاق , وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّهَا فِي الشَّرْع عِبَارَة عَنْ إِنْهَار الدَّم وَفَرْي الْأَوْدَاج فِي الْمَذْبُوح , وَالنَّحْر فِي الْمَنْحُور وَالْعَقْر فِي غَيْر الْمَقْدُور , مَقْرُونًا بِنِيَّةِ الْقَصْد لِلَّهِ وَذِكْره عَلَيْهِ ; عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه . وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِيمَا يَقَع بِهِ الذَّكَاة ; فَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور مِنْ الْعُلَمَاء أَنَّ كُلّ مَا أَفْرَى الْأَوْدَاج وَأَنْهَرَ الدَّم فَهُوَ مِنْ آلَات الذَّكَاة مَا خَلَا السِّنّ وَالْعَظْم ; عَلَى هَذَا تَوَاتَرَتْ الْآثَار , وَقَالَ بِهِ فُقَهَاء الْأَمْصَار , وَالسِّنّ وَالظُّفْر الْمَنْهِيّ عَنْهُمَا فِي التَّذْكِيَة هُمَا غَيْر الْمَنْزُوعَيْنِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ يَصِير خَنْقًا ; وَكَذَلِكَ قَالَ اِبْن عَبَّاس : ذَلِكَ الْخَنْق ; فَأَمَّا الْمَنْزُوعَانِ فَإِذَا فَرَيَا الْأَوْدَاج فَجَائِز الذَّكَاة بِهِمَا عِنْدهمْ , وَقَدْ كَرِهَ قَوْم السِّنّ وَالظُّفْر وَالْعَظْم عَلَى كُلّ حَال ; مَنْزُوعَة أَوْ غَيْر مَنْزُوعَة ; مِنْهُمْ إِبْرَاهِيم وَالْحَسَن وَاللَّيْث بْن سَعْد , وَرُوِيَ عَنْ الشَّافِعِيّ ; وَحُجَّتهمْ ظَاهِر حَدِيث رَافِع بْن خَدِيج قَالَ : قُلْت يَا رَسُول اللَّه إِنَّا لَاقُو الْعَدُوّ غَدًا وَلَيْسَتْ مَعَنَا مُدًى - فِي رِوَايَة - فَنُذَكِّي بِاللِّيطِ ؟ . وَفِي مُوَطَّأ مَالِك عَنْ نَافِع عَنْ رَجُل مِنْ الْأَنْصَار عَنْ مُعَاذ بْن سَعْد أَوْ سَعْد بْن مُعَاذ : أَنَّ جَارِيَة لِكَعْبِ بْن مَالِك كَانَتْ تَرْعَى غَنَمًا لَهُ بِسَلْعٍ فَأُصِيبَتْ شَاة مِنْهَا فَأَدْرَكَتْهَا فَذَكَّتْهَا بِحَجَرٍ , فَسُئِلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : ( لَا بَأْس بِهَا وَكُلُوهَا ) , وَفِي مُصَنَّف أَبِي دَاوُد : أَنَذْبَحُ بِالْمَرْوَةِ وَشِقَّة الْعَصَا ؟ قَالَ : ( أَعْجِلْ وَأَرِنْ مَا أَنْهَرَ الدَّم وَذُكِرَ اِسْم اللَّه عَلَيْهِ فَكُلْ لَيْسَ السِّنّ وَالظُّفْر وَسَأُحَدِّثُك أَمَّا السِّنّ فَعَظْم وَأَمَّا الظُّفْر فَمُدَى الْحَبَشَة ) الْحَدِيث أَخْرَجَهُ مُسْلِم , وَرُوِيَ عَنْ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب أَنَّهُ قَالَ : مَا ذُبِحَ بِاللِّيطَةِ وَالشَّطِير وَالظُّرَر فَحِلّ ذَكِيّ . اللِّيطَة فِلْقَة الْقَصَبَة وَيُمْكِن بِهَا الذَّبْح وَالنَّحْر . وَالشَّطِير فِلْقَة الْعُود , وَقَدْ يُمْكِن بِهَا الذَّبْح لِأَنَّ لَهَا جَانِبًا دَقِيقًا , وَالظُّرَر فِلْقَة الْحَجَر يُمْكِن الذَّكَاة بِهَا وَلَا يُمْكِن النَّحْر ; وَعَكْسه الشِّظَاظ يُنْحَر بِهِ , لِأَنَّهُ كَطَرَفِ السِّنَان وَلَا يُمْكِن بِهِ الذَّبْح . قَالَ مَالِك وَجَمَاعَة : لَا تَصِحّ الذَّكَاة إِلَّا بِقَطْعِ الْحُلْقُوم وَالْوَدَجَيْنِ , وَقَالَ الشَّافِعِيّ : يَصِحّ بِقَطْعِ الْحُلْقُوم وَالْمَرِيء وَلَا يَحْتَاج إِلَى الْوَدَجَيْنِ ; لِأَنَّهُمَا مَجْرَى الطَّعَام وَالشَّرَاب الَّذِي لَا يَكُون مَعَهُمَا حَيَاة , وَهُوَ الْغَرَض مِنْ الْمَوْت . وَمَالك وَغَيْره اِعْتَبَرُوا الْمَوْت عَلَى وَجْه يَطِيب مَعَهُ اللَّحْم , وَيَفْتَرِق فِيهِ الْحَلَال - وَهُوَ اللَّحْم - مِنْ الْحَرَام الَّذِي يَخْرُج بِقَطْعِ الْأَوْدَاج وَهُوَ مَذْهَب أَبِي حَنِيفَة ; وَعَلَيْهِ يَدُلّ حَدِيث رَافِع بْن خَدِيج فِي قَوْله : ( مَا أَنْهَرَ الدَّم ) , وَحَكَى الْبَغْدَادِيُّونَ عَنْ مَالِك أَنَّهُ يُشْتَرَط قَطْع أَرْبَع : الْحُلْقُوم وَالْوَدَجَيْنِ وَالْمَرِيء ; وَهُوَ قَوْل أَبِي ثَوْر , وَالْمَشْهُور مَا تَقَدَّمَ وَهُوَ قَوْل اللَّيْث . ثُمَّ اِخْتَلَفَ أَصْحَابنَا فِي قَطْع أَحَد الْوَدَجَيْنِ وَالْحُلْقُوم هَلْ هُوَ ذَكَاة أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ . وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ الذَّبْح مَهْمَا كَانَ فِي الْحَلْق تَحْت الْغَلْصَمَة فَقَدْ تَمَّتْ الذَّكَاة ; وَاخْتُلِفَ فِيمَا إِذَا ذُبِحَ فَوْقهَا وَجَازَهَا إِلَى الْبَدَن هَلْ ذَلِكَ ذَكَاة أَمْ لَا , عَلَى قَوْلَيْنِ : وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِك أَنَّهَا لَا تُؤْكَل ; وَكَذَلِكَ لَوْ ذَبَحَهَا مِنْ الْقَفَا وَاسْتَوْفَى الْقَطْع وَأَنْهَرَ الدَّم وَقَطَعَ الْحُلْقُوم وَالْوَدَجَيْنِ لَمْ تُؤْكَل , وَقَالَ الشَّافِعِيّ : تُؤْكَل ; لِأَنَّ الْمَقْصُود قَدْ حَصَلَ , وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى أَصْل , وَهُوَ أَنَّ الذَّكَاة وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُود مِنْهَا إِنْهَار الدَّم فَفِيهَا ضَرْب مِنْ التَّعَبُّد ; وَقَدْ ذَبَحَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَلْق وَنَحَرَ فِي اللَّبَّة وَقَالَ : ( إِنَّمَا الذَّكَاة فِي الْحَلْق وَاللَّبَّة ) فَبَيَّنَ مَحِلّهَا وَعَيَّنَ مَوْضِعهَا , وَقَالَ مُبَيِّنًا لِفَائِدَتِهَا : ( مَا أَنْهَرَ الدَّم وَذُكِرَ اِسْم اللَّه عَلَيْهِ فَكُلْ ) . فَإِذَا أُهْمِلَ ذَلِكَ وَلَمْ تَقَع بِنِيَّةٍ وَلَا بِشَرْطٍ وَلَا بِصِفَةٍ مَخْصُوصَة زَالَ مِنْهَا حَظّ التَّعَبُّد , فَلَمْ تُؤْكَل لِذَلِكَ , وَاللَّه أَعْلَمُ . وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ رَفَعَ يَده قَبْل تَمَام الذَّكَاة ثُمَّ رَجَعَ فِي الْفَوْر وَأَكْمَلَ الذَّكَاة ; فَقِيلَ : يُجْزِئهُ , وَقِيلَ : لَا يُجْزِئهُ ; وَالْأَوَّل أَصَحّ لِأَنَّهُ جَرَحَهَا ثُمَّ ذَكَّاهَا بَعْد وَحَيَاتهَا مُسْتَجْمَعَة فِيهَا . وَيُسْتَحَبّ أَلَّا يَذْبَح إِلَّا مَنْ تُرْضَى حَاله , وَكُلّ مَنْ أَطَاقَهُ وَجَاءَ بِهِ عَلَى سُنَّته مِنْ ذِكْر أَوْ أُنْثَى بَالِغ أَوْ غَيْر بَالِغ جَازَ ذَبْحه إِذَا كَانَ مُسْلِمًا أَوْ كِتَابِيًّا , وَذَبْح الْمُسْلِم أَفْضَلُ مِنْ ذَبْح الْكِتَابِيّ , وَلَا يَذْبَح نُسُكًا إِلَّا مُسْلِم ; فَإِنْ ذَبَحَ النُّسُك كِتَابِيّ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ ; وَلَا يَجُوز فِي تَحْصِيل الْمَذْهَب , وَقَدْ أَجَازَهُ أَشْهَب .</p><p>وَمَا اِسْتَوْحَشَ مِنْ الْإِنْسِيّ لَمْ يَجُزْ فِي ذَكَاته إِلَّا مَا يَجُوز فِي ذَكَاة الْإِنْسِيّ , فِي قَوْل مَالِك وَأَصْحَابه وَرَبِيعَة وَاللَّيْث بْن سَعْد ; وَكَذَلِكَ الْمُتَرَدِّي فِي الْبِئْر لَا تَكُون الذَّكَاة فِيهِ إِلَّا فِيمَا بَيْن الْحَلْق وَاللَّبَّة عَلَى سُنَّة الذَّكَاة , وَقَدْ خَالَفَ فِي هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ بَعْض أَهْل الْمَدِينَة وَغَيْرهمْ ; وَفِي الْبَاب حَدِيث رَافِع بْن خَدِيج وَقَدْ تَقَدَّمَ , وَتَمَامه بَعْد قَوْله : ( فَمُدَى الْحَبَشَة ) قَالَ : وَأَصَبْنَا نَهْب إِبِل وَغَنَم فَنَدَّ مِنْهَا بَعِير فَرَمَاهُ رَجُل بِسَهْمٍ فَحَبَسَهُ ; فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ لِهَذِهِ الْإِبِل أَوَابِد كَأَوَابِد الْوَحْش فَإِذَا غَلَبَكُمْ مِنْهَا شَيْء فَافْعَلُوا بِهِ هَكَذَا - وَفِي رِوَايَة - فَكُلُوهُ ) , وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَة وَالشَّافِعِيّ ; قَالَ الشَّافِعِيّ : تَسْلِيط النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى هَذَا الْفِعْل دَلِيل عَلَى أَنَّهُ ذَكَاة ; وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ عَنْ أَبِي الْعُشَرَاء عَنْ أَبِيهِ قَالَ : قُلْت يَا رَسُول اللَّه أَمَا تَكُون الذَّكَاة إِلَّا فِي الْحَلْق وَاللَّبَّة ؟ قَالَ : ( لَوْ طَعَنْت فِي فَخِذهَا لَأَجْزَأَ عَنْك ) . قَالَ يَزِيد بْن هَارُون : وَهُوَ حَدِيث صَحِيح أَعْجَبَ أَحْمَد بْن حَنْبَل وَرَوَاهُ عَنْ أَبِي دَاوُد , وَأَشَارَ عَلَى مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ مِنْ الْحُفَّاظ أَنْ يَكْتُبَهُ . قَالَ أَبُو دَاوُد : لَا يَصْلُح هَذَا إِلَّا فِي الْمُتَرَدِّيَة وَالْمُسْتَوْحِش , وَقَدْ حَمَلَ اِبْن حَبِيب هَذَا الْحَدِيث عَلَى مَا سَقَطَ فِي مَهْوَاة فَلَا يُوصَل إِلَى ذَكَاته إِلَّا بِالطَّعْنِ فِي غَيْر مَوْضِع الذَّكَاة ; وَهُوَ قَوْل انْفَرَدَ بِهِ عَنْ مَالِك وَأَصْحَابه . قَالَ أَبُو عُمَر : قَوْل الشَّافِعِيّ أَظْهَر فِي أَهْل الْعِلْم , وَأَنَّهُ يُؤْكَل بِمَا يُؤْكَل بِهِ الْوَحْشِيّ ; لِحَدِيثِ رَافِع بْن خَدِيج ; وَهُوَ قَوْل اِبْن عَبَّاس وَابْن مَسْعُود ; وَمِنْ جِهَة الْقِيَاس لَمَّا كَانَ الْوَحْشِيّ إِذَا قُدِرَ عَلَيْهِ لَمْ يَحِلّ إِلَّا بِمَا يَحِلّ بِهِ الْإِنْسِيّ ; لِأَنَّهُ صَارَ مَقْدُورًا عَلَيْهِ ; فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي فِي الْقِيَاس إِذَا تَوَحَّشَ أَوْ صَارَ فِي مَعْنَى الْوَحْشِيّ مِنْ الِامْتِنَاع أَنْ يَحِلّ بِمَا يَحِلّ بِهِ الْوَحْشِيّ . قُلْت : أَجَابَ عُلَمَاؤُنَا عَنْ حَدِيث رَافِع بْن خَدِيج بِأَنْ قَالُوا : تَسْلِيط النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا هُوَ عَلَى حَبْسه لَا عَلَى ذَكَاته , وَهُوَ مُقْتَضَى الْحَدِيث وَظَاهِره ; لِقَوْلِهِ : ( فَحَبَسَهُ ) وَلَمْ يَقُلْ إِنَّ السَّهْم قَتَلَهُ ; وَأَيْضًا فَإِنَّهُ مَقْدُور عَلَيْهِ فِي غَالِب الْأَحْوَال فَلَا يُرَاعَى النَّادِر مِنْهُ , وَإِنَّمَا يَكُون ذَلِكَ فِي الصَّيْد , وَقَدْ صَرَّحَ الْحَدِيث بِأَنَّ السَّهْم حَبَسَهُ وَبَعْد أَنْ صَارَ مَحْبُوسًا صَارَ مَقْدُورًا عَلَيْهِ ; فَلَا يُؤْكَل إِلَّا بِالذَّبْحِ وَالنَّحْر , وَاللَّه أَعْلَمُ , وَأَمَّا حَدِيث أَبِي الْعُشَرَاء فَقَدْ قَالَ فِيهِ التِّرْمِذِيّ : | حَدِيث غَرِيب لَا نَعْرِفهُ إِلَّا مِنْ حَدِيث حَمَّاد بْن سَلَمَة , وَلَا نَعْرِف لِأَبِي الْعُشَرَاء عَنْ أَبِيهِ غَيْر هَذَا الْحَدِيث , وَاخْتَلَفُوا فِي اِسْم أَبِي الْعُشَرَاء ; فَقَالَ بَعْضهمْ : اِسْمه أُسَامَة بْن قِهْطِم , وَيُقَال : اِسْمه يَسَار بْن بَرْز - وَيُقَال : بَلْز - وَيُقَال : اِسْمه عُطَارِد نُسِبَ إِلَى جَدّه | . فَهَذَا سَنَد مَجْهُول لَا حُجَّة فِيهِ ; وَلَوْ سُلِّمَتْ صِحَّته كَمَا قَالَ يَزِيد بْن هَارُون لَمَّا كَانَ فِيهِ حُجَّة ; إِذْ مُقْتَضَاهُ جَوَاز الذَّكَاة فِي أَيّ عُضْو كَانَ مُطْلَقًا فِي الْمَقْدُور وَغَيْره , وَلَا قَائِل بِهِ فِي الْمَقْدُور ; فَظَاهِره لَيْسَ بِمُرَادٍ قَطْعًا . وَتَأْوِيل أَبِي دَاوُد وَابْن حَبِيب لَهُ غَيْر مُتَّفَق عَلَيْهِ ; فَلَا يَكُون فِيهِ حُجَّة , وَاللَّه أَعْلَمُ . قَالَ أَبُو عُمَر : وَحُجَّة مَالِك أَنَّهُمْ قَدْ أَجْمَعُوا أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَنِدّ الْإِنْسِيّ أَنَّهُ لَا يُذَكَّى إِلَّا بِمَا يُذَكَّى بِهِ الْمَقْدُور عَلَيْهِ , ثُمَّ اِخْتَلَفُوا فَهُوَ عَلَى أَصْله حَتَّى يَتَّفِقُوا . وَهَذَا لَا حُجَّة فِيهِ ; لِأَنَّ إِجْمَاعهمْ إِنَّمَا اِنْعَقَدَ عَلَى مَقْدُور عَلَيْهِ , وَهَذَا غَيْر مَقْدُور عَلَيْهِ . وَمِنْ تَمَام هَذَا الْبَاب قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( إِنَّ اللَّه كَتَبَ الْإِحْسَان عَلَى كُلّ شَيْء فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَة وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْح وَلْيُحِدَّ أَحَدكُمْ شَفْرَته وَلْيُرِحْ ذَبِيحَته ) رَوَاهُ مُسْلِم عَنْ شَدَّاد بْن أَوْس قَالَ : ثِنْتَانِ حَفِظْتهمَا عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِنَّ اللَّه كَتَبَ ) فَذَكَرَهُ . قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إِحْسَان الذَّبْح فِي الْبَهَائِم الرِّفْق بِهَا ; فَلَا يَصْرَعهَا بِعُنْفٍ وَلَا يَجُرّهَا مِنْ مَوْضِع إِلَى آخَر , وَإِحْدَاد الْآلَة , وَإِحْضَار نِيَّة الْإِبَاحَة وَالْقُرْبَة وَتَوْجِيههَا إِلَى الْقِبْلَة , وَالْإِجْهَاز , وَقَطْع الْوَدَجَيْنِ وَالْحُلْقُوم , وَإِرَاحَتهَا وَتَرْكهَا إِلَى أَنْ تَبْرُد , وَالِاعْتِرَاف لِلَّهِ بِالْمِنَّةِ , وَالشُّكْر لَهُ بِالنِّعْمَةِ ; بِأَنَّهُ سَخَّرَ لَنَا مَا لَوْ شَاءَ لَسَلَّطَهُ عَلَيْنَا , وَأَبَاحَ لَنَا مَا لَوْ شَاءَ لَحَرَّمَهُ عَلَيْنَا . وَقَالَ رَبِيعَة : مِنْ إِحْسَان الذَّبْح أَلَّا يَذْبَح بَهِيمَة وَأُخْرَى تَنْظُر إِلَيْهَا ; وَحُكِيَ جَوَازه عَنْ مَالِك ; وَالْأَوَّل أَحْسَنُ , وَأَمَّا حُسْن الْقِتْلَة فَعَامّ فِي كُلّ شَيْء مِنْ التَّذْكِيَة وَالْقِصَاص وَالْحُدُود وَغَيْرهَا , وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ اِبْن عَبَّاس وَأَبِي هُرَيْرَة قَالَا : نَهَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَرِيطَة الشَّيْطَان , زَادَ اِبْن عِيسَى فِي حَدِيثه ( وَهِيَ الَّتِي تُذْبَح فَتُقْطَع وَلَا تُفْرَى الْأَوْدَاج ثُمَّ تُتْرَك فَتَمُوت ) .|وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ|قَالَ اِبْن فَارِس : | النُّصُب | حَجَر كَانَ يُنْصَب فَيُعْبَد وَتُصَبّ عَلَيْهِ دِمَاء الذَّبَائِح , وَهُوَ النَّصْب أَيْضًا , وَالنَّصَائِب حِجَارَة تُنْصَب حَوَالَيْ شَفِير الْبِئْر فَتُجْعَل عَضَائِد , وَغُبَار مُنْتَصِب مُرْتَفِع , وَقِيلَ : | النُّصُب | جَمْع , وَاحِده نِصَاب كَحِمَارٍ وَحُمُر , وَقِيلَ : هُوَ اِسْم مُفْرَد وَالْجَمْع أَنْصَاب ; وَكَانَتْ ثَلَاثمِائَةٍ وَسِتِّينَ حَجَرًا , وَقَرَأَ طَلْحَة | النُّصْب | بِجَزْمِ الصَّاد . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عُمَر | النَّصْب | بِفَتْحِ النُّون وَجَزْم الصَّاد . الْجَحْدَرِيّ : بِفَتْحِ النُّون وَالصَّاد جَعَلَهُ اِسْمًا مُوَحَّدًا كَالْجَبَلِ وَالْجَمَل , وَالْجَمْع أَنْصَاب ; كَالْأَجْمَالِ وَالْأَجْبَال . قَالَ مُجَاهِد : هِيَ حِجَارَة كَانَتْ حَوَالَيْ مَكَّة يَذْبَحُونَ عَلَيْهَا . قَالَ اِبْن جُرَيْج : كَانَتْ الْعَرَب تَذْبَح بِمَكَّة وَتَنْضَح بِالدَّمِ مَا أَقْبَلَ مِنْ الْبَيْت , وَيُشَرِّحُونَ اللَّحْم وَيَضَعُونَهُ عَلَى الْحِجَارَة ; فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَام قَالَ الْمُسْلِمُونَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : نَحْنُ أَحَقّ أَنْ نُعَظِّمَ هَذَا الْبَيْت بِهَذِهِ الْأَفْعَال , فَكَأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لَمْ يَكْرَه ذَلِكَ ; فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى : | لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا | [ الْحَجّ : 37 ] وَنَزَلَتْ | وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُب | الْمَعْنَى : وَالنِّيَّة فِيهَا تَعْظِيم النُّصُب لَا أَنَّ الذَّبْح عَلَيْهَا غَيْر جَائِز , وَقَالَ الْأَعْشَى : <br>وَذَا النُّصُبَ الْمَنْصُوبَ لَا تَنْسُكَنَّهُ .......... لِعَافِيَةٍ وَاَللَّهَ رَبَّك فَاعْبُدَا <br>وَقِيلَ : | عَلَى | بِمَعْنَى اللَّام ; أَيْ لِأَجْلِهَا ; قَالَ قُطْرُب قَالَ اِبْن زَيْد : مَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُب وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّه شَيْء وَاحِد . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : مَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُب جُزْء مِمَّا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّه , وَلَكِنْ خُصَّ بِالذِّكْرِ بَعْد جِنْسه لِشُهْرَةِ الْأَمْر وَشَرَف الْمَوْضِع وَتَعْظِيم النُّفُوس لَهُ .|وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ|مَعْطُوف عَلَى مَا قَبْله , و | أَنْ | فِي مَحَلّ رَفْع , أَيْ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ الِاسْتِقْسَام . وَالْأَزْلَام قِدَاح الْمَيْسِر , وَاحِدهَا زَلَم وَزُلَم ; قَالَ : <br>بَاتَ يُقَاسِيهَا غُلَام كَالزَّلَمْ <br>وَقَالَ آخَر , فَجَمَعَ : <br>فَلَئِنْ جَذِيمَة قَتَّلَتْ سَرَوَاتهَا .......... فَنِسَاؤُهَا يَضْرِبْنَ بِالْأَزْلَامِ <br>وَذَكَرَ مُحَمَّد بْن جَرِير : أَنَّ اِبْن وَكِيع حَدَّثَهُمْ عَنْ أَبِيهِ عَنْ شُرَيْك عَنْ أَبِي حُصَيْن عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر أَنَّ الْأَزْلَام حَصًى بِيض كَانُوا يَضْرِبُونَ بِهَا . قَالَ مُحَمَّد بْن جَرِير : قَالَ لَنَا سُفْيَان بْن وَكِيع : هِيَ الشِّطْرَنْج . فَأَمَّا قَوْل لَبِيد : <br>تَزِلُّ عَنْ الثَّرَى أَزْلَامهَا <br>فَقَالُوا : أَرَادَ أَظْلَاف الْبَقَرَة الْوَحْشِيَّة , وَالْأَزْلَام لِلْعَرَبِ ثَلَاثَة أَنْوَاع : مِنْهَا الثَّلَاثَة الَّتِي كَانَ يَتَّخِذهَا كُلّ إِنْسَان لِنَفْسِهِ , عَلَى أَحَدهَا افْعَلْ , وَعَلَى الثَّانِي لَا تَفْعَل , وَالثَّالِث مُهْمَل لَا شَيْء عَلَيْهِ , فَيَجْعَلهَا فِي خَرِيطَة مَعَهُ , فَإِذَا أَرَادَ فِعْل شَيْء أَدْخَلَ يَده - وَهِيَ مُتَشَابِهَة - فَإِذَا خَرَجَ أَحَدهَا اِئْتَمَرَ وَانْتَهَى بِحَسَبِ مَا يَخْرُج لَهُ , وَإِنْ خَرَجَ الْقِدْح الَّذِي لَا شَيْء عَلَيْهِ أَعَادَ الضَّرْب ; وَهَذِهِ هِيَ الَّتِي ضَرَبَ بِهَا سُرَاقَة بْن مَالِك بْن جُعْشُم حِين اِتَّبَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْر وَقْت الْهِجْرَة ; وَإِنَّمَا قِيلَ لِهَذَا الْفِعْل : اِسْتِقْسَام لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَقْسِمُونَ بِهِ الرِّزْق وَمَا يُرِيدُونَ ; كَمَا يُقَال : الِاسْتِسْقَاء فِي الِاسْتِدْعَاء لِلسَّقْيِ . وَنَظِير هَذَا الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّه تَعَالَى قَوْل الْمُنَجِّم : لَا تَخْرُج مِنْ أَجْل نَجْم كَذَا , وَاخْرُج مِنْ أَجْل نَجْم كَذَا , وَقَالَ جَلَّ وَعَزَّ : | وَمَا تَدْرِي نَفْس مَاذَا تَكْسِب غَدًا | الْآيَة [ لُقْمَان : 34 ] , وَسَيَأْتِي بَيَان هَذَا مُسْتَوْفًى إِنْ شَاءَ اللَّه , وَالنَّوْع الثَّانِي : سَبْعَة قِدَاح كَانَتْ عِنْد هُبَل فِي جَوْف الْكَعْبَة مَكْتُوب عَلَيْهَا مَا يَدُور بَيْن النَّاس مِنْ النَّوَازِل , كُلّ قِدْح مِنْهَا فِيهِ كِتَاب ; قِدْح فِيهِ الْعَقْل مِنْ أَمْر الدِّيَات , وَفِي آخَر | مِنْكُمْ | وَفِي آخَر | مِنْ غَيْركُمْ | , وَفِي آخَر | مُلْصَق | , وَفِي سَائِرهَا أَحْكَام الْمِيَاه وَغَيْر ذَلِكَ , وَهِيَ الَّتِي ضَرَبَ بِهَا عَبْد الْمُطَّلِب عَلَى بَنِيهِ إِذْ كَانَ نَذَرَ نَحْر أَحَدهمْ إِذَا كَمُلُوا عَشَرَة ; الْخَبَر الْمَشْهُور ذَكَرَهُ اِبْن إِسْحَاق . وَهَذِهِ السَّبْعَة أَيْضًا كَانَتْ عِنْد كُلّ كَاهِن مِنْ كُهَّان الْعَرَب وَحُكَّامهمْ ; عَلَى نَحْو مَا كَانَتْ فِي الْكَعْبَة عِنْد هُبَل , وَالنَّوْع الثَّالِث : هُوَ قِدَاح الْمَيْسِر وَهِيَ عَشَرَة ; سَبْعَة مِنْهَا فِيهَا حُظُوظ , وَثَلَاثَة أَغْفَال , وَكَانُوا يَضْرِبُونَ بِهَا مُقَامَرَة لَهْوًا وَلَعِبًا , وَكَانَ عُقَلَاؤُهُمْ يَقْصِدُونَ بِهَا إِطْعَام الْمَسَاكِين وَالْمُعْدَم فِي زَمَن الشِّتَاء وَكَلَب الْبَرْد وَتَعَذُّر التَّحَرُّف , وَقَالَ مُجَاهِد : الْأَزْلَام هِيَ كِعَاب فَارِس وَالرُّوم الَّتِي يَتَقَامَرُونَ بِهَا , وَقَالَ سُفْيَان وَوَكِيع : هِيَ الشِّطْرَنْج ; فَالِاسْتِقْسَام بِهَذَا كُلّه هُوَ طَلَب الْقَسْم وَالنَّصِيب كَمَا بَيَّنَّا ; وَهُوَ مِنْ أَكْل الْمَال بِالْبَاطِلِ , وَهُوَ حَرَام , وَكُلّ مُقَامَرَة بِحَمَامٍ أَوْ بِنَرْدٍ أَوْ شِطْرَنْج أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ هَذِهِ الْأَلْعَاب فَهُوَ اِسْتِقْسَام بِمَا هُوَ فِي مَعْنَى الْأَزْلَام حَرَام كُلّه ; وَهُوَ ضَرْب مِنْ التَّكَهُّن وَالتَّعَرُّض لِدَعْوَى عِلْم الْغَيْب . قَالَ اِبْن خُوَيْز مَنْدَاد : وَلِهَذَا نَهَى أَصْحَابنَا عَنْ الْأُمُور الَّتِي يَفْعَلهَا الْمُنَجِّمُونَ عَلَى الطُّرُقَات مِنْ السِّهَام الَّتِي مَعَهُمْ , وَرِقَاع الْفَأْل فِي أَشْبَاه ذَلِكَ , وَقَالَ الْكِيَا الطَّبَرِيّ : وَإِنَّمَا نَهَى اللَّه عَنْهَا فِيمَا يَتَعَلَّق بِأُمُورِ الْغَيْب ; فَإِنَّهُ لَا تَدْرِي نَفْس مَاذَا يُصِيبهَا غَدًا , فَلَيْسَ لِلْأَزْلَامِ فِي تَعْرِيف الْمُغَيَّبَات أَثَر ; فَاسْتَنْبَطَ بَعْض الْجَاهِلِينَ مِنْ هَذَا الرَّدّ عَلَى الشَّافِعِيّ فِي الْإِقْرَاع بَيْن الْمَمَالِيك فِي الْعِتْق , وَلَمْ يَعْلَم هَذَا الْجَاهِل أَنَّ الَّذِي قَالَهُ الشَّافِعِيّ بُنِيَ عَلَى الْأَخْبَار الصَّحِيحَة , وَلَيْسَ مِمَّا يُعْتَرَض عَلَيْهِ بِالنَّهْيِ عَنْ الِاسْتِقْسَام بِالْأَزْلَامِ ; فَإِنَّ الْعِتْق حُكْم شَرْعِيّ , يَجُوز أَنْ يَجْعَل الشَّرْع خُرُوج الْقُرْعَة عَلَمًا عَلَى إِثْبَات حُكْم الْعِتْق قَطْعًا لِلْخُصُومَةِ , أَوْ لِمَصْلَحَةٍ يَرَاهَا , وَلَا يُسَاوِي ذَلِكَ قَوْل الْقَائِل : إِذَا فَعَلْت كَذَا أَوْ قُلْت كَذَا فَذَلِكَ يَدُلّك فِي الْمُسْتَقْبَل عَلَى أَمْر مِنْ الْأُمُور , فَلَا يَجُوز أَنْ يُجْعَل خُرُوج الْقِدَاح عَلَمًا عَلَى شَيْء يَتَجَدَّد فِي الْمُسْتَقْبَل , وَيَجُوز أَنْ يُجْعَل خُرُوج الْقُرْعَة عَلَمًا عَلَى الْعِتْق قَطْعًا ; فَظَهَرَ اِفْتِرَاق الْبَابَيْنِ . وَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَاب طَلَب الْفَأْل , وَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام يُعْجِبهُ أَنْ يَسْمَع يَا رَاشِد يَا نَجِيح ; أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ وَقَالَ : حَدِيث صَحِيح غَرِيب ; وَإِنَّمَا كَانَ يُعْجِبهُ الْفَأْل لِأَنَّهُ تَنْشَرِح لَهُ النَّفْس وَتَسْتَبْشِر بِقَضَاءِ الْحَاجَة وَبُلُوغ الْأَمَل ; فَيَحْسُن الظَّنّ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ , وَقَدْ قَالَ : ( أَنَا عِنْد ظَنّ عَبْدِي بِي ) , وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَام يَكْرَه الطِّيَرَة ; لِأَنَّهَا مِنْ أَعْمَال أَهْل الشِّرْك ; وَلِأَنَّهَا تَجْلِب ظَنّ السُّوء بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ . قَالَ الْخَطَّابِيّ : الْفَرْق بَيْن الْفَأْل وَالطِّيَرَة أَنَّ الْفَأْل إِنَّمَا هُوَ مِنْ طَرِيق حُسْن الظَّنّ بِاَللَّهِ , وَالطِّيَرَة إِنَّمَا هِيَ مِنْ طَرِيق الِاتِّكَال عَلَى شَيْء سِوَاهُ , وَقَالَ الْأَصْمَعِيّ : سَأَلْت اِبْن عَوْن عَنْ الْفَأْل فَقَالَ : هُوَ أَنْ يَكُون مَرِيضًا فَيَسْمَع يَا سَالِم , أَوْ يَكُون بَاغِيًا فَيَسْمَع يَا وَاجِد ; وَهَذَا مَعْنَى حَدِيث التِّرْمِذِيّ , وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : سَمِعْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( لَا طِيَرَة وَخَيْرهَا الْفَأْل ) , قِيلَ : يَا رَسُول اللَّه وَمَا الْفَأْل ؟ قَالَ : ( الْكَلِمَة الصَّالِحَة يَسْمَعهَا أَحَدكُمْ ) , وَسَيَأْتِي لِمَعْنَى الطِّيَرَة مَزِيد بَيَان إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . رُوِيَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاء رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : إِنَّمَا الْعِلْم بِالتَّعَلُّمِ وَالْحِلْم بِالتَّحَلُّمِ , وَمَنْ يَتَحَرَّ الْخَيْر يُعْطَهُ , وَمَنْ يَتَوَقَّ الشَّرّ يُوقَهُ , وَثَلَاثَة لَا يَنَالُونَ الدَّرَجَات الْعُلَا ; مَنْ تَكَهَّنَ أَوْ اِسْتَقْسَمَ أَوْ رَجَعَ مِنْ سَفَر مِنْ طِيَرَة .|ذَلِكُمْ فِسْقٌ|إِشَارَة إِلَى الِاسْتِقْسَام بِالْأَزْلَامِ , وَالْفِسْق الْخُرُوج , وَقَدْ تَقَدَّمَ , وَقِيلَ يَرْجِع إِلَى جَمِيع مَا ذُكِرَ مِنْ الِاسْتِحْلَال لِجَمِيعِ هَذِهِ الْمُحَرَّمَات , وَكُلّ شَيْء مِنْهَا فِسْق وَخُرُوج مِنْ الْحَلَال إِلَى الْحَرَام , وَالِانْكِفَاف عَنْ هَذِهِ الْمُحَرَّمَات مِنْ الْوَفَاء بِالْعُقُودِ , إِذْ قَالَ : | أَوْفُوا بِالْعُقُودِ | [ الْمَائِدَة : 1 ] .|الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ|يَعْنِي أَنْ تَرْجِعُوا إِلَى دِينهمْ كُفَّارًا . قَالَ الضَّحَّاك : نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة حِين فَتْح مَكَّة ; وَذَلِكَ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَحَ مَكَّة لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْ رَمَضَان سَنَة تِسْع , وَيُقَال : سَنَة ثَمَان , وَدَخَلَهَا وَنَادَى مُنَادِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ | أَلَا مَنْ قَالَ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه فَهُوَ آمِن , وَمَنْ وَضَعَ السِّلَاح فَهُوَ آمِن , وَمَنْ أَغْلَقَ بَابه فَهُوَ آمِن | , وَفِي | يَئِسَ | لُغَتَانِ , يَئِسَ يَيْأَس يَأْسًا , وَأَيِسَ يَأْيَس إِيَاسًا وَإِيَاسَة ; قَالَهُ النَّضْر بْن شُمَيْل .|فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ|أَيْ لَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي فَإِنِّي أَنَا الْقَادِر عَلَى نَصْركُمْ .|الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا|وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِين كَانَ بِمَكَّة لَمْ تَكُنْ إِلَّا فَرِيضَة الصَّلَاة وَحْدهَا , فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَة أَنْزَلَ اللَّه الْحَلَال وَالْحَرَام إِلَى أَنْ حَجَّ ; فَلَمَّا حَجَّ وَكَمُلَ الدِّين نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة : | الْيَوْم أَكْمَلْت لَكُمْ دِينكُمْ | الْآيَة ; عَلَى مَا نُبَيِّنهُ . رَوَى الْأَئِمَّة عَنْ طَارِق بْن شِهَاب قَالَ : جَاءَ رَجُل مِنْ الْيَهُود إِلَى عُمَر فَقَالَ : يَا أَمِير الْمُؤْمِنِينَ آيَة فِي كِتَابكُمْ تَقْرَءُونَهَا لَوْ عَلَيْنَا أُنْزِلَتْ مَعْشَر الْيَهُود لَاتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْم عِيدًا ; قَالَ : وَأَيّ آيَة ؟ قَالَ : | الْيَوْم أَكْمَلْت لَكُمْ دِينكُمْ وَأَتْمَمْت عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيت لَكُمْ الْإِسْلَام دِينًا | فَقَالَ عُمَر : إِنِّي لَأَعْلَمُ الْيَوْم الَّذِي أُنْزِلَتْ فِيهِ وَالْمَكَان الَّذِي أُنْزِلَتْ فِيهِ ; نَزَلَتْ عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَفَة فِي يَوْم جُمُعَة . لَفْظ مُسْلِم , وَعِنْد النَّسَائِيّ لَيْلَة جُمُعَة . وَرُوِيَ أَنَّهَا لَمَّا نَزَلَتْ فِي يَوْم الْحَجّ الْأَكْبَر وَقَرَأَهَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَكَى عُمَر ; فَقَالَ لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَا يُبْكِيك ) ؟ فَقَالَ : أَبْكَانِي أَنَّا كُنَّا فِي زِيَادَة مِنْ دِيننَا فَأَمَّا إِذْ كَمُلَ فَإِنَّهُ لَمْ يَكْمُل شَيْء إِلَّا نَقَصَ . فَقَالَ لَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( صَدَقْت ) , وَرَوَى مُجَاهِد أَنَّ هَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ يَوْم فَتْح مَكَّة . قُلْت : الْقَوْل الْأَوَّل أَصَحّ , أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي يَوْم جُمُعَة وَكَانَ يَوْم عَرَفَة بَعْد الْعَصْر فِي حَجَّة الْوَدَاع سَنَة عَشْر وَرَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاقِف بِعَرَفَة عَلَى نَاقَته الْعَضْبَاء , فَكَادَ عَضُد النَّاقَة يَنْقَدّ مِنْ ثِقَلهَا فَبَرَكَتْ . و | الْيَوْم | قَدْ يُعَبَّر بِجُزْءٍ مِنْهُ عَنْ جَمِيعه , وَكَذَلِكَ عَنْ الشَّهْر بِبَعْضِهِ ; تَقُول : فَعَلْنَا فِي شَهْر كَذَا وَكَذَا وَفِي سَنَة كَذَا كَذَا , وَمَعْلُوم أَنَّك لَمْ تَسْتَوْعِب الشَّهْر وَلَا السَّنَة ; وَذَلِكَ مُسْتَعْمَل فِي لِسَان الْعَرَب وَالْعَجَم , وَالدِّين عِبَارَة عَنْ الشَّرَائِع الَّتِي شَرَعَ وَفَتَحَ لَنَا ; فَإِنَّهَا نَزَلَتْ نُجُومًا وَآخِر مَا نَزَلَ مِنْهَا هَذِهِ الْآيَة , وَلَمْ يَنْزِل بَعْدهَا حُكْم , قَالَهُ اِبْن عَبَّاس وَالسُّدِّيّ , وَقَالَ الْجُمْهُور : الْمُرَاد مُعْظَم الْفَرَائِض وَالتَّحْلِيل وَالتَّحْرِيم , قَالُوا : وَقَدْ نَزَلَ بَعْد ذَلِكَ قُرْآن كَثِير , وَنَزَلَتْ آيَة الرِّبَا , وَنَزَلَتْ آيَة الْكَلَالَة إِلَى غَيْر ذَلِكَ , وَإِنَّمَا كَمُلَ مُعْظَم الدِّين وَأَمْر الْحَجّ , إِذْ لَمْ يَطُفْ مَعَهُمْ فِي هَذِهِ السَّنَة مُشْرِك , وَلَا طَافَ بِالْبَيْتِ عُرْيَان , وَوَقَفَ النَّاس كُلّهمْ بِعَرَفَة , وَقِيلَ : | أَكْمَلْت لَكُمْ دِينكُمْ | بِأَنْ أَهْلَكْت لَكُمْ عَدُوّكُمْ وَأَظْهَرْت دِينكُمْ عَلَى الدِّين كُلّه كَمَا تَقُول : قَدْ تَمَّ لَنَا مَا نُرِيد إِذَا كُفِيت عَدُوّك . | وَأَتْمَمْت عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي | أَيْ بِإِكْمَالِ الشَّرَائِع وَالْأَحْكَام وَإِظْهَار دِين الْإِسْلَام كَمَا وَعَدْتُكُمْ , إِذْ قُلْت : | وَلِأُتِمّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ | [ الْبَقَرَة : 150 ] وَهِيَ دُخُول مَكَّة . آمِنِينَ مُطْمَئِنِّينَ وَغَيْر ذَلِكَ مِمَّا اِنْتَظَمَتْهُ هَذِهِ الْمِلَّة الْحَنِيفِيَّة إِلَى دُخُول الْجَنَّة فِي رَحْمَة اللَّه تَعَالَى . لَعَلَّ قَائِلًا يَقُول : قَوْله تَعَالَى : | الْيَوْم أَكْمَلْت لَكُمْ دِينكُمْ | يَدُلّ عَلَى أَنَّ الدِّين كَانَ غَيْر كَامِل فِي وَقْت مِنْ الْأَوْقَات , وَذَلِكَ يُوجِب أَنْ يَكُون جَمِيع مَنْ مَاتَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَار وَاَلَّذِينَ شَهِدُوا بَدْرًا وَالْحُدَيْبِيَة وَبَايَعُوا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَيْعَتَيْنِ جَمِيعًا , وَبَذَلُوا أَنْفُسهمْ لِلَّهِ مَعَ عَظِيم مَا حَلَّ بِهِمْ مِنْ أَنْوَاع الْمِحَن مَاتُوا عَلَى دِين نَاقِص , وَأَنَّ رَسُو

يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ

الْآيَة نَزَلَتْ بِسَبَبِ عَدِيّ بْن حَاتِم وَزَيْد بْن مُهَلْهَل وَهُوَ زَيْد الْخَيْل الَّذِي سَمَّاهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْد الْخَيْر ; قَالَا : يَا رَسُول اللَّه إِنَّا قَوْم نَصِيد بِالْكِلَابِ وَالْبُزَاة , وَإِنَّ الْكِلَاب تَأْخُذ الْبَقَر وَالْحُمُر وَالظِّبَاء فَمِنْهُ مَا نُدْرِك ذَكَاته , وَمِنْهُ مَا تَقْتُلهُ فَلَا نُدْرِك ذَكَاته , وَقَدْ حَرَّمَ اللَّه الْمَيْتَة فَمَاذَا يَحِلّ لَنَا ؟ فَنَزَلَتْ الْآيَة .|مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ|| مَا | فِي مَوْضِع رَفْع بِالِابْتِدَاءِ , وَالْخَبَر | أُحِلَّ لَهُمْ | و | ذَا | زَائِدَة , وَإِنْ شِئْت كَانَتْ بِمَعْنَى الَّذِي , وَيَكُون الْخَبَر | قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَات | وَهُوَ الْحَلَال , وَكُلّ حَرَام فَلَيْسَ بِطَيِّبٍ . وَقِيلَ : مَا الْتَذَّهُ آكِله وَشَارِبه وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِيهِ ضَرَر فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَة . وَقِيلَ : الطَّيِّبَات الذَّبَائِح , لِأَنَّهَا طَابَتْ بِالتَّذْكِيَةِ .|وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ|أَيْ وَصَيْد مَا عَلَّمْتُمْ ; فَفِي الْكَلَام إِضْمَار لَا بُدّ مِنْهُ , وَلَوْلَاهُ لَكَانَ الْمَعْنَى يَقْتَضِي أَنْ يَكُون الْحِلّ الْمَسْئُول عَنْهُ مُتَنَاوِلًا لِلْمُعَلَّمِ مِنْ الْجَوَارِح الْمِكَلِّبِينَ , وَذَلِكَ لَيْسَ مَذْهَبًا لِأَحَدٍ ; فَإِنَّ الَّذِي يُبِيح لَحْم الْكَلْب فَلَا يُخَصِّص الْإِبَاحَة بِالْمُعَلَّمِ ; وَسَيَأْتِي مَا لِلْعُلَمَاءِ فِي أَكْل الْكَلْب فِي | الْأَنْعَام | إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَقَدْ ذَكَرَ بَعْض مَنْ صَنَّفَ فِي أَحْكَام الْقُرْآن أَنَّ الْآيَة تَدُلّ عَلَى أَنَّ الْإِبَاحَة تَتَنَاوَل مَا عَلَّمْنَاهُ مِنْ الْجَوَارِح , وَهُوَ يَنْتَظِم الْكَلْب وَسَائِر جَوَارِح الطَّيْر , وَذَلِكَ يُوجِب إِبَاحَة سَائِر وُجُوه الِانْتِفَاع , فَدَلَّ عَلَى جَوَاز بَيْع الْكَلْب وَالْجَوَارِح وَالِانْتِفَاع بِهَا بِسَائِرِ وُجُوه الْمَنَافِع إِلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيل , وَهُوَ الْأَكْل مِنْ الْجَوَارِح أَيْ الْكَوَاسِب مِنْ الْكِلَاب وَسِبَاع الطَّيْر ; وَكَانَ لِعَدِيٍّ كِلَاب خَمْسَة قَدْ سَمَّاهَا بِأَسْمَاءِ أَعْلَام , وَكَانَ أَسْمَاء أَكْلُبه سَلْهَب وَغَلَّاب وَالْمُخْتَلِس وَالْمُتَنَاعِس , قَالَ السُّهَيْلِيّ : وَخَامِس أَشُكّ , قَالَ فِيهِ أَخْطَب , أَوْ قَالَ فِيهِ وَثَّاب . الرَّابِعَة : أَجْمَعَتْ الْأُمَّة عَلَى أَنَّ الْكَلْب إِذَا لَمْ يَكُنْ أَسْوَد وَعَلَّمَهُ مُسْلِم فَيَنْشَلِي إِذَا أُشْلِيَ وَيُجِيب إِذَا دُعِيَ , وَيَنْزَجِر بَعْد ظَفَره بِالصَّيْدِ إِذَا زُجِرَ , وَأَنْ يَكُون لَا يَأْكُل مِنْ صَيْده الَّذِي صَادَهُ , وَأَثَّرَ فِيهِ بِجُرْحٍ أَوْ تَنْيِيب , وَصَادَ بِهِ مُسْلِم وَذَكَرَ اِسْم اللَّه عِنْد إِرْسَاله أَنَّ صَيْده صَحِيح يُؤْكَل بِلَا خِلَاف ; فَإِنْ اِنْخَرَمَ شَرْط مِنْ هَذِهِ الشُّرُوط دَخَلَ الْخِلَاف . فَإِنْ كَانَ الَّذِي يُصَاد بِهِ غَيْر كَلْب كَالْفَهْدِ وَمَا أَشْبَهَهُ وَكَالْبَازِي وَالصَّقْر وَنَحْوهمَا مِنْ الطَّيْر فَجُمْهُور الْأُمَّة عَلَى أَنَّ كُلّ مَا صَادَ بَعْد التَّعْلِيم فَهُوَ جَارِح كَاسِب . يُقَال : جَرَحَ فُلَان وَاجْتَرَحَ إِذَا اِكْتَسَبَ ; وَمِنْهُ الْجَارِحَة لِأَنَّهَا يُكْتَسَب بِهَا , وَمِنْهُ اِجْتِرَاح السَّيِّئَات , وَقَالَ الْأَعْشَى : <br>ذَا جُبَار مُنْضِجًا مِيسَمُهْ .......... يُذْكِر الْجَارِح مَا كَانَ اجْتَرَحْ <br>وَفِي التَّنْزِيل | وَيَعْلَم مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ | [ الْأَنْعَام : 60 ] وَقَالَ : | أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اِجْتَرَحُوا السَّيِّئَات | [ الْجَاثِيَة : 21 ] .|مُكَلِّبِينَ|مَعْنَى | مُكَلِّبِينَ | أَصْحَاب الْكِلَاب وَهُوَ كَالْمُؤَدِّبِ صَاحِب التَّأْدِيب , وَقِيلَ : مَعْنَاهُ مُضْرِينَ عَلَى الصَّيْد كَمَا تُضْرَى الْكِلَاب ; قَالَ الرُّمَّانِيّ : وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ مُحْتَمَل . وَلَيْسَ فِي | مُكَلِّبِينَ | دَلِيل عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا أُبِيحَ صَيْد الْكِلَاب خَاصَّة ; لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ قَوْله : | مُؤْمِنِينَ | وَإِنْ كَانَ قَدْ تَمَسَّكَ بِهِ مَنْ قَصَرَ الْإِبَاحَة عَلَى الْكِلَاب خَاصَّة . رُوِيَ عَنْ اِبْن عُمَر فِيمَا حَكَى اِبْن الْمُنْذِر عَنْهُ قَالَ : وَأَمَّا مَا يُصَاد بِهِ مِنْ الْبُزَاة وَغَيْرهَا مِنْ الطَّيْر فَمَا أَدْرَكْت ذَكَاته فَذَكِّهِ فَهُوَ لَك حَلَال , وَإِلَّا فَلَا تَطْعَمْهُ . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَسُئِلَ أَبُو جَعْفَر عَنْ الْبَازِي يَحِلّ صَيْده قَالَ : لَا ; إِلَّا أَنْ تُدْرِك ذَكَاته , وَقَالَ الضَّحَّاك وَالسُّدِّيّ : | وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِح مُكَلِّبِينَ | هِيَ الْكِلَاب خَاصَّة ; فَإِنْ كَانَ الْكَلْب أَسْوَد بَهِيمًا فَكَرِهَ صَيْده الْحَسَن وَقَتَادَة وَالنَّخَعِيّ , وَقَالَ أَحْمَد : مَا أَعْرِف أَحَدًا يُرَخِّص فِيهِ إِذَا كَانَ بَهِيمًا ; وَبِهِ قَالَ إِسْحَاق بْن رَاهْوَيْهِ ; فَأَمَّا عَوَامّ أَهْل الْعِلْم بِالْمَدِينَةِ وَالْكُوفَة فَيَرَوْنَ جَوَاز صَيْد كُلّ كَلْب مُعَلَّم , أَمَّا مَنْ مَنَعَ صَيْد الْكَلْب الْأَسْوَد فَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( الْكَلْب الْأَسْوَد شَيْطَان ) , أَخْرَجَهُ مُسْلِم . اِحْتَجَّ الْجُمْهُور بِعُمُومِ الْآيَة , وَاحْتَجُّوا أَيْضًا فِي جَوَاز صَيْد الْبَازِي بِمَا ذُكِرَ مِنْ سَبَب النُّزُول , وَبِمَا خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيّ عَنْ عَدِيّ بْن حَاتِم قَالَ : سَأَلْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَيْد الْبَازِي فَقَالَ : ( مَا أَمْسَكَ عَلَيْك فَكُلْ ) . فِي إِسْنَاده مُجَالِد وَلَا يُعْرَف إِلَّا مِنْ جِهَته وَهُوَ ضَعِيف , وَبِالْمَعْنَى وَهُوَ أَنَّ كُلّ مَا يَتَأَتَّى مِنْ الْكَلْب يَتَأَتَّى مِنْ الْفَهْد مَثَلًا فَلَا فَارِق إِلَّا فِيمَا لَا مَدْخَل لَهُ فِي التَّأْثِير ; وَهَذَا هُوَ الْقِيَاس فِي مَعْنَى الْأَصْل , كَقِيَاسِ السَّيْف عَلَى الْمُدْيَة وَالْأَمَة عَلَى الْعَبْد , وَقَدْ تَقَدَّمَ . وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَاعْلَم أَنَّهُ لَا بُدّ لِلصَّائِدِ أَنْ يَقْصِد عِنْد الْإِرْسَال التَّذْكِيَة وَالْإِبَاحَة , وَهَذَا لَا يُخْتَلَف فِيهِ ; لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( إِذَا أَرْسَلْت كَلْبك وَذَكَرْت اِسْم اللَّه عَلَيْهِ فَكُلْ ) وَهَذَا يَقْتَضِي النِّيَّة وَالتَّسْمِيَة ; فَلَوْ قَصَدَ مَعَ ذَلِكَ اللَّهْوَ فَكَرِهَهُ مَالِك وَأَجَازَهُ اِبْن عَبْد الْحَكَم , وَهُوَ ظَاهِر قَوْل اللَّيْث : مَا رَأَيْت حَقًّا أَشْبَه بِبَاطِلٍ مِنْهُ , يَعْنِي الصَّيْد ; فَأَمَّا لَوْ فَعَلَهُ بِغَيْرِ نِيَّة التَّذْكِيَة فَهُوَ حَرَام ; لِأَنَّهُ مِنْ بَاب الْفَسَاد وَإِتْلَاف حَيَوَان لِغَيْرِ مَنْفَعَة , وَقَدْ نَهَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْل الْحَيَوَان إِلَّا لِمَأْكَلَةٍ , وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُور مِنْ الْعُلَمَاء إِلَى أَنَّ التَّسْمِيَة لَا بُدّ مِنْهَا بِالْقَوْلِ عِنْد الْإِرْسَال ; لِقَوْلِهِ : ( وَذَكَرْت اِسْم اللَّه ) فَلَوْ لَمْ تُوجَد عَلَى أَيّ وَجْه كَانَ لَمْ يُؤْكَل الصَّيْد ; وَهُوَ مَذْهَب أَهْل الظَّاهِر وَجَمَاعَة أَهْل الْحَدِيث , وَذَهَبَتْ جَمَاعَة مِنْ أَصْحَابنَا وَغَيْرهمْ إِلَى أَنَّهُ يَجُوز أَكْل مَا صَادَهُ الْمُسْلِم وَذَبَحَهُ وَإِنْ تَرَكَ التَّسْمِيَة عَمْدًا ; وَحَمَلُوا الْأَمْر بِالتَّسْمِيَةِ عَلَى النَّدْب , وَذَهَبَ مَالِك فِي الْمَشْهُور إِلَى الْفَرْق بَيْن تَرْك التَّسْمِيَة عَمْدًا أَوْ سَهْوًا فَقَالَ : لَا تُؤْكَل مَعَ الْعَمْد وَتُؤْكَل مَعَ السَّهْو ; وَهُوَ قَوْل فُقَهَاء الْأَمْصَار , وَأَحَد قَوْلَيْ الشَّافِعِيّ , وَسَتَأْتِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة فِي | الْأَنْعَام | إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . ثُمَّ لَا بُدّ أَنْ يَكُون اِنْبِعَاث الْكَلْب بِإِرْسَالٍ مِنْ يَد الصَّائِد بِحَيْثُ يَكُون زِمَامه بِيَدِهِ . فَيُخَلِّي عَنْهُ وَيُغْرِيه عَلَيْهِ فَيَنْبَعِث , أَوْ يَكُون الْجَارِح سَاكِنًا مَعَ رُؤْيَته الصَّيْد فَلَا يَتَحَرَّك لَهُ إِلَّا بِالْإِغْرَاءِ مِنْ الصَّائِد , فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا زِمَامه بِيَدِهِ فَأَطْلَقَهُ مُغْرِيًا لَهُ عَلَى أَحَد الْقَوْلَيْنِ ; فَأَمَّا لَوْ اِنْبَعَثَ الْجَارِح مِنْ تِلْقَاء نَفْسه مِنْ غَيْر إِرْسَال وَلَا إِغْرَاء فَلَا يَجُوز صَيْده وَلَا يَحِلّ أَكْله عِنْد الْجُمْهُور وَمَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَبِي ثَوْر وَأَصْحَاب الرَّأْي ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا صَادَ لِنَفْسِهِ مِنْ غَيْر إِرْسَال وَأَمْسَكَ عَلَيْهَا , وَلَا صُنْع لِلصَّائِدِ فِيهِ , فَلَا يُنْسَب إِرْسَالُهُ إِلَيْهِ ; لِأَنَّهُ لَا يَصْدُق عَلَيْهِ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( إِذَا أَرْسَلْت كَلْبك الْمُعَلَّم ) , وَقَالَ عَطَاء بْن أَبِي رَبَاح وَالْأَوْزَاعِيّ : يُؤْكَل صَيْده إِذَا كَانَ أَخْرَجَهُ لِلصَّيْدِ . قَرَأَ الْجُمْهُور | عَلَّمْتُمْ | بِفَتْحِ الْعَيْن وَاللَّام , وَابْن عَبَّاس وَمُحَمَّد بْن الْحَنَفِيَّة بِضَمِّ الْعَيْن وَكَسْر اللَّام , أَيْ مِنْ أَمْر الْجَوَارِح وَالصَّيْد بِهَا . وَالْجَوَارِح الْكَوَاسِب , وَسُمِّيَتْ أَعْضَاء الْإِنْسَان جَوَارِح لِأَنَّهَا تَكْسِب وَتَتَصَرَّف . وَقِيلَ : سُمِّيَتْ جَوَارِح لِأَنَّهَا تَجْرَح وَتُسِيل الدَّم , فَهُوَ مَأْخُوذ مِنْ الْجِرَاح , وَهَذَا ضَعِيف , وَأَهْل اللُّغَة عَلَى خِلَافه , وَحَكَاهُ اِبْن الْمُنْذِر عَنْ قَوْم . و | مُكَلِّبِينَ | قِرَاءَة الْجُمْهُور بِفَتْحِ الْكَاف وَشَدّ اللَّام , وَالْمُكَلِّب مُعَلِّم الْكِلَاب وَمُضْرِيهَا , وَيُقَال لِمَنْ يُعَلِّم غَيْر الْكَلْب : مُكَلِّب ; لِأَنَّهُ يَرُدّ ذَلِكَ الْحَيَوَان كَالْكَلْبِ ; حَكَاهُ بَعْضهمْ , وَيُقَال لِلصَّائِدِ : مُكَلِّب فَعَلَى هَذَا مَعْنَاهُ صَائِدِينَ , وَقِيلَ : الْمُكَلِّب صَاحِب الْكِلَاب , يُقَال : كَلَّبَ فَهُوَ مُكَلِّب وَكَلَّاب , وَقَرَأَ الْحَسَن | مُكْلِبِينَ | بِسُكُونِ الْكَاف وَتَخْفِيف اللَّام , وَمَعْنَاهُ أَصْحَاب كِلَاب , يُقَال : أَمْشَى الرَّجُل كَثُرَتْ مَاشِيَته , وَأَكْلَبَ كَثُرَتْ كِلَابه , وَأَنْشَدَ الْأَصْمَعِيّ : <br>وَكُلّ فَتًى وَإِنْ أَمْشَى فَأَثْرَى .......... سَتَخْلِجُهُ عَنْ الدُّنْيَا مَنُونَ<br>|تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ|أَنَّثَ الضَّمِير مُرَاعَاة لِلَفْظِ الْجَوَارِح ; إِذْ هُوَ جَمْع جَارِحَة , وَلَا خِلَاف بَيْن الْعُلَمَاء فِي شَرْطَيْنِ فِي التَّعْلِيم وَهُمَا : أَنْ يَأْتَمِر إِذَا أُمِرَ وَيَنْزَجِر إِذَا زُجِرَ ; لَا خِلَاف فِي هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ فِي الْكِلَاب وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ سِبَاع الْوُحُوش , وَاخْتُلِفَ فِيمَا يُصَاد بِهِ مِنْ الطَّيْر ; فَالْمَشْهُور أَنَّ ذَلِكَ مُشْتَرَط فِيهَا عِنْد الْجُمْهُور , وَذَكَرَ اِبْن حَبِيب أَنَّهُ لَا يُشْتَرَط فِيهَا أَنْ تَنْزَجِر إِذَا زُجِرَتْ ; فَإِنَّهُ لَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ فِيهَا غَالِبًا , فَيَكْفِي أَنَّهَا إِذَا أُمِرَتْ أَطَاعَتْ . وَقَالَ رَبِيعَة : مَا أَجَابَ مِنْهَا إِذَا دُعِيَ فَهُوَ الْمُعَلَّم الضَّارِي ; لِأَنَّ أَكْثَرَ الْحَيَوَان بِطَبْعِهِ يَنْشَلِي , وَقَدْ شَرَطَ الشَّافِعِيّ وَجُمْهُور مِنْ الْعُلَمَاء فِي التَّعْلِيم أَنْ يُمْسِك عَلَى صَاحِبه , وَلَمْ يَشْتَرِطهُ مَالِك فِي الْمَشْهُور عَنْهُ , وَقَالَ الشَّافِعِيّ : الْمُعَلَّم هُوَ الَّذِي إِذَا أَشْلَاهُ صَاحِبه انْشَلَى ; وَإِذَا دَعَاهُ إِلَى الرُّجُوع رَجَعَ إِلَيْهِ , وَيُمْسِك الصَّيْد عَلَى صَاحِبه وَلَا يَأْكُل مِنْهُ ; فَإِذَا فَعَلَ هَذَا مِرَارًا وَقَالَ أَهْل الْعُرْف : صَارَ مُعَلَّمًا فَهُوَ الْمُعَلَّم , وَعَنْ الشَّافِعِيّ أَيْضًا وَالْكُوفِيِّينَ : إِذَا أُشْلِيَ فَانْشَلَى وَإِذَا أَخَذَ حَبَسَ وَفَعَلَ ذَلِكَ مَرَّة بَعْد مَرَّة أُكِلَ صَيْده فِي الثَّالِثَة . وَمِنْ الْعُلَمَاء مَنْ قَالَ : يَفْعَل ذَلِكَ ثَلَاث مَرَّات وَيُؤْكَل صَيْده فِي الرَّابِعَة , وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ مَرَّة فَهُوَ مُعَلَّم وَيُؤْكَل صَيْده فِي الثَّانِيَة .|فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ|أَيْ حَبَسْنَ لَكُمْ , وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي تَأْوِيله ; فَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَأَبُو هُرَيْرَة وَالنَّخَعِيّ وَقَتَادَة وَابْن جُبَيْر وَعَطَاء بْن أَبِي رَبَاح وَعِكْرِمَة وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر وَالنُّعْمَان وَأَصْحَابه : الْمَعْنَى وَلَمْ يَأْكُل ; فَإِنْ أَكَلَ لَمْ يُؤْكَل مَا بَقِيَ , لِأَنَّهُ أَمْسَكَ عَلَى نَفْسه وَلَمْ يُمْسِك عَلَى رَبّه , وَالْفَهْد عِنْد أَبِي حَنِيفَة وَأَصْحَابه كَالْكَلْبِ وَلَمْ يَشْتَرِطُوا ذَلِكَ فِي الطُّيُور بَلْ يُؤْكَل مَا أَكَلَتْ مِنْهُ , وَقَالَ سَعْد بْن أَبِي وَقَّاص وَعَبْد اللَّه بْن عُمَر وَسَلْمَان الْفَارِسِيّ وَأَبُو هُرَيْرَة أَيْضًا : الْمَعْنَى وَإِنْ أَكَلَ ; فَإِذَا أَكَلَ الْجَارِح كَلْبًا كَانَ أَوْ فَهْدًا أَوْ طَيْرًا أُكِلَ مَا بَقِيَ مِنْ الصَّيْد وَإِنْ لَمْ يَبْقَ إِلَّا بَضْعَة ; وَهَذَا قَوْل مَالِك وَجَمِيع أَصْحَابه , وَهُوَ الْقَوْل الثَّانِي لِلشَّافِعِيِّ , وَهُوَ الْقِيَاس , وَفِي الْبَاب حَدِيثَانِ بِمَعْنَى مَا ذَكَرْنَا أَحَدهمَا : حَدِيث عَدِيّ فِي الْكَلْب الْمُعَلَّم ( وَإِذَا أَكَلَ فَلَا تَأْكُل فَإِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسه ) أَخْرَجَهُ مُسْلِم . الثَّانِي : حَدِيث أَبِي ثَعْلَبَة الْخُشَنِيّ قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَيْد الْكَلْب : ( إِذَا أَرْسَلْت كَلْبك وَذَكَرْت اِسْم اللَّه عَلَيْهِ فَكُلْ وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ وَكُلْ مَا رَدَّتْ عَلَيْك يَدَاك ) أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد , وَرُوِيَ عَنْ عَدِيّ وَلَا يَصِحّ ; وَالصَّحِيح عَنْهُ حَدِيث مُسْلِم ; وَلَمَّا تَعَارَضَتْ الرِّوَايَتَانِ رَامَ بَعْض أَصْحَابنَا وَغَيْرهمْ الْجَمْع بَيْنهمَا فَحَمَلُوا حَدِيث النَّهْي عَلَى التَّنْزِيه وَالْوَرَع , وَحَدِيث الْإِبَاحَة عَلَى الْجَوَاز , وَقَالُوا : إِنَّ عَدِيًّا كَانَ مُوَسَّعًا عَلَيْهِ فَأَفْتَاهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْكَفِّ وَرَعًا , وَأَبَا ثَعْلَبَة كَانَ مُحْتَاجًا فَأَفْتَاهُ بِالْجَوَازِ ; وَاللَّه أَعْلَمُ , وَقَدْ دَلَّ عَلَى صِحَّة هَذَا التَّأْوِيل قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فِي حَدِيث عَدِيّ : ( فَإِنِّي أَخَاف أَنْ يَكُون إِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسه ) هَذَا تَأْوِيل عُلَمَائِنَا . وَقَالَ أَبُو عُمَر فِي كِتَاب | الِاسْتِذْكَار | : وَقَدْ عَارَضَ حَدِيث عَدِيّ هَذَا حَدِيث أَبِي ثَعْلَبَة , وَالظَّاهِر أَنَّ حَدِيث أَبِي ثَعْلَبَة نَاسِخ لَهُ ; فَقَوْله : وَإِنْ أَكَلَ يَا رَسُول اللَّه ؟ قَالَ : ( وَإِنْ أَكَلَ ) . قُلْت : هَذَا فِيهِ نَظَر ; لِأَنَّ التَّارِيخ مَجْهُول ; وَالْجَمْع بَيْن الْحَدِيثَيْنِ أَوْلَى مَا لَمْ يُعْلَم التَّارِيخ ; وَاللَّه أَعْلَمُ . وَأَمَّا أَصْحَاب الشَّافِعِيّ فَقَالُوا : إِنْ كَانَ الْأَكْل عَنْ فَرْط جُوع مِنْ الْكَلْب أُكِلَ وَإِلَّا لَمْ يُؤْكَل ; فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ سُوء تَعْلِيمه , وَقَدْ رُوِيَ عَنْ قَوْم مِنْ السَّلَف التَّفْرِقَة بَيْن مَا أَكَلَ مِنْهُ الْكَلْب وَالْفَهْد فَمَنَعُوهُ , وَبَيْن مَا أَكَلَ مِنْهُ الْبَازِي فَأَجَازُوهُ , قَالَهُ النَّخَعِيّ وَالثَّوْرِيّ وَأَصْحَاب الرَّأْي وَحَمَّاد بْن أَبِي سُلَيْمَان , وَحُكِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس وَقَالُوا : الْكَلْب وَالْفَهْد يُمْكِن ضَرْبه وَزَجْره , وَالطَّيْر لَا يُمْكِن ذَلِكَ فِيهِ , وَحَدّ تَعْلِيمه أَنْ يُدْعَى فَيُجِيب , وَأَنْ يُشْلَى فَيَنْشَلِي ; لَا يُمْكِن فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ , وَالضَّرْب يُؤْذِيه . وَالْجُمْهُور مِنْ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ الْجَارِح إِذَا شَرِبَ مِنْ دَم الصَّيْد أَنَّ الصَّيْد يُؤْكَل ; قَالَ عَطَاء : لَيْسَ شُرْب الدَّم بِأَكْلٍ ; وَكَرِهَ أَكْل ذَلِكَ الصَّيْد الشَّعْبِيُّ وَسُفْيَان الثَّوْرِيّ , وَلَا خِلَاف بَيْنهمْ أَنَّ سَبَب إِبَاحَة الصَّيْد الَّذِي هُوَ عَقْر الْجَارِح لَهُ لَا بُدّ أَنْ يَكُون مُتَحَقِّقًا غَيْر مَشْكُوك فِيهِ , وَمَعَ الشَّكّ لَا يَجُوز الْأَكْل , وَهِيَ : فَإِنْ وَجَدَ الصَّائِد مَعَ كَلْبه كَلْبًا آخَر فَهُوَ مَحْمُول عَلَى أَنَّهُ غَيْر مُرْسَل مِنْ صَائِد آخَر , وَأَنَّهُ إِنَّمَا اِنْبَعَثَ فِي طَلَب الصَّيْد بِطَبْعِهِ وَنَفْسه , وَلَا يُخْتَلَف فِي هَذَا ; لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام : ( وَإِنْ خَالَطَهَا كِلَاب مِنْ غَيْرهَا فَلَا تَأْكُل - فِي رِوَايَة - فَإِنَّمَا سَمَّيْت عَلَى كَلْبك وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى غَيْره ) . فَأَمَّا لَوْ أَرْسَلَهُ صَائِد آخَر فَاشْتَرَكَ الْكَلْبَانِ فِيهِ فَإِنَّهُ لِلصَّائِدَيْنِ يَكُونَانِ شَرِيكَيْنِ فِيهِ . فَلَوْ أَنْفَذَ أَحَد الْكَلْبَيْنِ مَقَاتِله ثُمَّ جَاءَ الْآخَر فَهُوَ لِلَّذِي أَنْفَذَ مَقَاتِله , وَكَذَلِكَ لَا يُؤْكَل مَا رُمِيَ بِسَهْمٍ فَتَرَدَّى مِنْ جَبَل أَوْ غَرِقَ فِي مَاء ; لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لِعَدِيٍّ : ( وَإِنْ رَمَيْت بِسَهْمِك فَاذْكُرْ اِسْم اللَّه فَإِنْ غَابَ عَنْك يَوْمًا فَلَمْ تَجِد فِيهِ إِلَّا أَثَر سَهْمك فَكُلْ وَإِنْ وَجَدْته غَرِيقًا فِي الْمَاء فَلَا تَأْكُل فَإِنَّك لَا تَدْرِي الْمَاء قَتَلَهُ أَوْ سَهْمك ) , وَهَذَا نَصّ . لَوْ مَاتَ الصَّيْد فِي أَفْوَاه الْكِلَاب مِنْ غَيْر بَضْع لَمْ يُؤْكَل ; لِأَنَّهُ مَاتَ خَنْقًا فَأَشْبَهَ أَنْ يُذْبَح بِسِكِّينٍ كَالَّة فَيَمُوت فِي الذَّبْح قَبْل أَنْ يُفْرَى حَلْقه . وَلَوْ أَمْكَنَهُ أَخْذه مِنْ الْجَوَارِح وَذَبْحه فَلَمْ يَفْعَل حَتَّى مَاتَ لَمْ يُؤْكَل , وَكَانَ مُقَصِّرًا فِي الذَّكَاة ; لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مَقْدُورًا عَلَى ذَبْحه , وَذَكَاة الْمَقْدُور عَلَيْهِ تُخَالِف ذَكَاة غَيْر الْمَقْدُور عَلَيْهِ , وَلَوْ أَخَذَهُ ثُمَّ مَاتَ قَبْل أَنْ يُخْرِج السِّكِّين , أَوْ تَنَاوَلَهَا وَهِيَ مَعَهُ جَازَ أَكْله ; وَلَوْ لَمْ تَكُنْ السِّكِّين مَعَهُ فَتَشَاغَلَ بِطَلَبِهَا لَمْ تُؤْكَل , وَقَالَ الشَّافِعِيّ : فِيمَا نَالَتْهُ الْجَوَارِح وَلَمْ تُدْمِهِ قَوْلَانِ أَحَدهمَا : أَلَّا يُؤْكَل حَتَّى يُجْرَح ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى : | مِنْ الْجَوَارِح | وَهُوَ قَوْل اِبْن الْقَاسِم ; وَالْآخَر : أَنَّهُ حِلٌّ وَهُوَ قَوْل أَشْهَبَ , قَالَ أَشْهَبُ : إِنْ مَاتَ مِنْ صَدْمَة الْكَلْب أُكِلَ .</p><p>قَوْله : ( فَإِنْ غَابَ عَنْك يَوْمًا فَلَمْ تَجِد فِيهِ إِلَّا أَثَر سَهْمك فَكُلْ ) وَنَحْوه فِي حَدِيث أَبِي ثَعْلَبَة الَّذِي خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُد , غَيْر أَنَّهُ زَادَ ( فَكُلْهُ بَعْد ثَلَاث مَا لَمْ يُنْتِن ) يُعَارِضهُ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( كُلْ مَا أَصْمَيْت وَدَعْ مَا أَنْمَيْت ) . فَالْإِصْمَاء مَا قُتِلَ مُسْرِعًا وَأَنْتَ تَرَاهُ , وَالْإِنْمَاء أَنْ تَرْمِيَ الصَّيْد فَيَغِيب عَنْك فَيَمُوت وَأَنْتَ لَا تَرَاهُ ; يُقَال : قَدْ أَنْمَيْت الرَّمِيَّة فَنَمَتْ تَنْمِي إِذَا غَابَتْ ثُمَّ مَاتَتْ قَالَ اِمْرُؤُ الْقَيْس : <br>فَهْوَ لَا تَنْمِي رَمِيَّتُهُ .......... مَالَهُ لَا عُدَّ مِنْ نَفَرِهْ <br>وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي أَكْل الصَّيْد الْغَائِب عَلَى ثَلَاثَة أَقْوَال : يُؤْكَل , وَسَوَاء قَتَلَهُ السَّهْم أَوْ الْكَلْب . الثَّانِي : لَا يُؤْكَل شَيْء مِنْ ذَلِكَ إِذَا غَابَ ; لِقَوْلِهِ : ( كُلْ مَا أَصْمَيْت وَدَعْ مَا أَنْمَيْت ) , وَإِنَّمَا لَمْ يُؤْكَل مَخَافَة أَنْ يَكُون قَدْ أَعَانَ عَلَى قَتْله غَيْر السَّهْم مِنْ الْهَوَامّ . الثَّالِث : الْفَرْق بَيْن السَّهْم فَيُؤْكَل وَبَيْن الْكَلْب فَلَا يُؤْكَل , وَوَجْهه أَنَّ السَّهْم يَقْتُل عَلَى جِهَة وَاحِدَة فَلَا يُشْكِل ; وَالْجَارِح عَلَى جِهَات مُتَعَدِّدَة فَيُشْكِل , وَالثَّلَاثَة الْأَقْوَال لِعُلَمَائِنَا , وَقَالَ مَالِك فِي غَيْر الْمُوَطَّأ : إِذَا بَاتَ الصَّيْد ثُمَّ أَصَابَهُ مَيِّتًا لَمْ يُنْفِذ الْبَازِي أَوْ الْكَلْب أَوْ السَّهْم مَقَاتِله لَمْ يَأْكُلهُ ; قَالَ أَبُو عُمَر : فَهَذَا يَدُلّك عَلَى أَنَّهُ إِذَا بَلَغَ مَقَاتِله كَانَ حَلَالًا عِنْده أَكْله وَإِنْ بَاتَ , إِلَّا أَنَّهُ يَكْرَههُ إِذَا بَاتَ ; لَمَّا جَاءَ عَنْ اِبْن عَبَّاس : | وَإِنْ غَابَ عَنْك لَيْلَة فَلَا تَأْكُل | وَنَحْوه عَنْ الثَّوْرِيّ قَالَ : إِذَا غَابَ عَنْك يَوْمًا كَرِهْت أَكْله , وَقَالَ الشَّافِعِيّ : الْقِيَاس أَلَّا يَأْكُلهُ إِذَا غَابَ عَنْهُ مَصْرَعه , وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ : إِنْ وَجَدَهُ مِنْ الْغَد مَيِّتًا وَوَجَدَ فِيهِ سَهْمه أَوْ أَثَرًا مِنْ كَلْبه فَلْيَأْكُلْهُ ; وَنَحْوه قَالَ أَشْهَب وَعَبْد الْمَلِك وَأَصْبَغ ; قَالُوا : جَائِز أَكْل الصَّيْد وَإِنْ بَاتَ إِذَا نَفَذَتْ مَقَاتِله , وَقَوْله فِي الْحَدِيث : ( مَا لَمْ يُنْتِن ) تَعْلِيل ; لِأَنَّهُ إِذَا أَنْتَنَ لَحِقَ بِالْمُسْتَقْذَرَاتِ الَّتِي تَمُجّهَا الطِّبَاع فَيُكْرَه أَكْلهَا ; فَلَوْ أَكَلَهَا لَجَازَ , كَمَا أَكَلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِهَالَة السَّنِخَة وَهِيَ الْمُنْتِنَة , وَقِيلَ : هُوَ مُعَلَّل بِمَا يُخَاف مِنْهُ الضَّرَر عَلَى آكِله , وَعَلَى هَذَا التَّعْلِيل يَكُون أَكْله مُحَرَّمًا إِنْ كَانَ الْخَوْف مُحَقَّقًا , وَاللَّه أَعْلَمُ . وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء مِنْ هَذَا الْبَاب فِي الصَّيْد بِكَلْبِ الْيَهُودِيّ وَالنَّصْرَانِيّ إِذَا كَانَ مُعَلَّمًا , فَكَرِهَهُ الْحَسَن الْبَصْرِيّ ; وَأَمَّا كَلْب الْمَجُوسِيّ وَبَازه وَصَقْره فَكَرِهَ الصَّيْدَ بِهَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَالْحَسَن وَعَطَاء وَمُجَاهِد وَالنَّخَعِيّ وَالثَّوْرِيّ وَإِسْحَاق , وَأَجَازَ الصَّيْد بِكِلَابِهِمْ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو حَنِيفَة إِذَا كَانَ الصَّائِد مُسْلِمًا ; قَالُوا : وَذَلِكَ مِثْل شَفْرَته , وَأَمَّا إِنْ كَانَ الصَّائِد مِنْ أَهْل الْكِتَاب فَجُمْهُور الْأُمَّة عَلَى جَوَاز صَيْده غَيْر مَالِك , وَفَرَّقَ بَيْن ذَلِكَ وَبَيْن ذَبِيحَته ; وَتَلَا : | يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمْ اللَّه بِشَيْءٍ مِنْ الصَّيْد تَنَالهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحكُمْ | [ الْمَائِدَة : 94 ] , قَالَ : فَلَمْ يَذْكُر اللَّه فِي هَذَا الْيَهُود وَلَا النَّصَارَى , وَقَالَ اِبْن وَهْب وَأَشْهَبُ : صَيْد الْيَهُودِيّ وَالنَّصْرَانِيّ حَلَال كَذَبِيحَتِهِ ; وَفِي كِتَاب مُحَمَّد لَا يَجُوز صَيْد الصَّابِئ وَلَا ذَبْحه , وَهُمْ قَوْم بَيْن الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَلَا دِين لَهُمْ , وَأَمَّا إِنْ كَانَ الصَّائِد مَجُوسِيًّا فَمَنَعَ مِنْ أَكْله مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابهمْ وَجُمْهُور النَّاس , وَقَالَ أَبُو ثَوْر فِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدهمَا : كَقَوْلِ هَؤُلَاءِ , وَالْآخَر : أَنَّ الْمَجُوس مِنْ أَهْل الْكِتَاب وَأَنَّ صَيْدهمْ جَائِز , وَلَوْ اصْطَادَ السَّكْرَان أَوْ ذَبَحَ لَمْ يُؤْكَل صَيْده وَلَا ذَبِيحَته ; لِأَنَّ الذَّكَاة تَحْتَاج إِلَى قَصْد , وَالسَّكْرَان لَا قَصْد لَهُ . الْخَامِسَة عَشْرَة : وَاخْتَلَفَ النُّحَاة فِي | مِنْ | فِي قَوْله تَعَالَى : | مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ | فَقَالَ الْأَخْفَش : هِيَ زَائِدَة كَقَوْلِهِ : | كُلُوا مِنْ ثَمَره | [ الْأَنْعَام : 141 ] , وَخَطَّأَهُ الْبَصْرِيُّونَ وَقَالُوا : | مِنْ | لَا تُزَاد فِي الْإِثْبَات وَإِنَّمَا تُزَاد فِي النَّفْي وَالِاسْتِفْهَام , وَقَوْله : | مِنْ ثَمَره | , | يُكَفِّر عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتكُمْ | [ الْبَقَرَة : 271 ] و | يَغْفِر لَكُمْ مِنْ ذُنُوبكُمْ | [ الْأَحْقَاف : 31 ] لِلتَّبْعِيضِ ; أَجَابَ فَقَالَ : قَدْ قَالَ : | يَغْفِر لَكُمْ ذُنُوبكُمْ | [ الْأَحْزَاب 71 ] بِإِسْقَاطِ | مِنْ | فَدَلَّ عَلَى زِيَادَتهَا فِي الْإِيجَاب ; أُجِيبَ بِأَنَّ | مِنْ | هَهُنَا لِلتَّبْعِيضِ ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَحِلّ مِنْ الصَّيْد اللَّحْم دُون الْفَرْث وَالدَّم . قُلْت : هَذَا لَيْسَ بِمُرَادٍ وَلَا مَعْهُود فِي الْأَكْل فَيُعَكِّر عَلَى مَا قَالَ , وَيَحْتَمِل أَنْ يُرِيد | مِمَّا أَمْسَكْنَ | أَيْ مِمَّا أَبْقَتْهُ الْجَوَارِح لَكُمْ ; وَهَذَا عَلَى قَوْل مَنْ قَالَ : لَوْ أَكَلَ الْكَلْب الْفَرِيسَة لَمْ يَضُرّ وَبِسَبَبِ هَذَا الِاحْتِمَال اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي جَوَاز أَكْل الصَّيْد إِذَا أَكَلَ الْجَارِح مِنْهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ . السَّادِسَة عَشْرَة : وَدَلَّتْ الْآيَة عَلَى جَوَاز اِتِّخَاذ الْكِلَاب وَاقْتِنَائِهَا لِلصَّيْدِ , وَثَبَتَ ذَلِكَ فِي صَحِيح السُّنَّة وَزَادَتْ الْحَرْث وَالْمَاشِيَة ; وَقَدْ كَانَ أَوَّلَ الْإِسْلَامِ أَمْرٌ بِقَتْلِ الْكِلَاب حَتَّى كَانَ يَقْتُل كَلْب الْمُرَيَّةِ مِنْ الْبَادِيَة يَتْبَعهَا ; رَوَى مُسْلِم عَنْ اِبْن عُمَر عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ اقْتَنَى كَلْبًا إِلَّا كَلْب صَيْد أَوْ مَاشِيَة نَقَصَ مِنْ أَجْره كُلّ يَوْم قِيرَاطَانِ ) , وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ اِتَّخَذَ كَلْبًا إِلَّا كَلْب مَاشِيَة أَوْ صَيْد أَوْ زَرْع اِنْتَقَصَ مِنْ أَجْره كُلّ يَوْم قِيرَاط ) . قَالَ الزُّهْرِيّ : وَذُكِرَ لِابْنِ عُمَر قَوْل أَبِي هُرَيْرَة فَقَالَ : يَرْحَم اللَّه أَبَا هُرَيْرَة , كَانَ صَاحِب زَرْع ; فَقَدْ دَلَّتْ السُّنَّة عَلَى مَا ذَكَرْنَا , وَجُعِلَ النَّقْص مِنْ أَجْر مَنْ اِقْتَنَاهَا عَلَى غَيْر ذَلِكَ مِنْ الْمَنْفَعَة ; إِمَّا لِتَرْوِيعِ الْكَلْبِ الْمُسْلِمِينَ وَتَشْوِيشه عَلَيْهِمْ بِنُبَاحِهِ - كَمَا قَالَ بَعْض شُعَرَاء الْبَصْرَة , وَقَدْ نَزَلَ بِعَمَّارٍ فَسَمِعَ لِكِلَابِهِ نُبَاحًا فَأَنْشَأَ يَقُول : <br>نَزَلْنَا بِعَمَّارٍ فَأَشْلَى كِلَابه .......... عَلَيْنَا فَكِدْنَا بَيْن بَيْتَيْهِ نُؤْكَل <br><br>فَقُلْت لِأَصْحَابِي أُسِرّ إِلَيْهِمُ .......... إِذَا الْيَوْم أَمْ يَوْم الْقِيَامَة أَطْوَلُ <br>- أَوْ لِمَنْعِ دُخُول الْمَلَائِكَة الْبَيْت , أَوْ لِنَجَاسَتِهِ عَلَى مَا يَرَاهُ الشَّافِعِيّ , أَوْ لِاقْتِحَامِ النَّهْي عَنْ اِتِّخَاذ مَا لَا مَنْفَعَة فِيهِ ; وَاللَّه أَعْلَمُ , وَقَالَ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ : ( قِيرَاطَانِ ) وَفِي الْأُخْرَى ( قِيرَاط ) وَذَلِكَ يَحْتَمِل أَنْ يَكُون فِي نَوْعَيْنِ مِنْ الْكِلَاب أَحَدهمَا أَشَدّ أَذًى مِنْ الْآخَر ; كَالْأَسْوَدِ الَّذِي أَمَرَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام بِقَتْلِهِ , وَلَمْ يُدْخِلهُ فِي الِاسْتِثْنَاء حِين نَهَى عَنْ قَتْلهَا فَقَالَ : ( عَلَيْكُمْ بِالْأَسْوَدِ الْبَهِيم ذِي النُّقْطَتَيْنِ فَإِنَّهُ شَيْطَان ) أَخْرَجَهُ مُسْلِم , وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون ذَلِكَ لِاخْتِلَافِ الْمَوَاضِع , فَيَكُون مُمْسِكه بِالْمَدِينَةِ مَثَلًا أَوْ بِمَكَّة يُنْقَص قِيرَاطَانِ , وَبِغَيْرِهِمَا قِيرَاط ; وَاللَّه أَعْلَمُ , وَأَمَّا الْمُبَاح اِتِّخَاذه فَلَا يَنْقُص أَجْر مُتَّخِذه كَالْفَرَسِ وَالْهِرّ , وَيَجُوز بَيْعه وَشِرَاؤُهُ , حَتَّى قَالَ سَحْنُون : وَيَحُجّ بِثَمَنِهِ , وَكَلْب الْمَاشِيَة الْمُبَاح اِتِّخَاذه عِنْد مَالِك هُوَ الَّذِي يَسْرَح مَعَهَا لَا الَّذِي يَحْفَظهَا فِي الدَّار مِنْ السُّرَّاق , وَكَلْب الزَّرْع هُوَ الَّذِي يَحْفَظهُ مِنْ الْوُحُوش بِاللَّيْلِ وَالنَّهَار لَا مِنْ السُّرَّاق , وَقَدْ أَجَازَ غَيْر مَالِك اِتِّخَاذهَا لِسُرَّاقِ الْمَاشِيَة وَالزَّرْع وَالدَّار فِي الْبَادِيَة , وَفِي هَذِهِ الْآيَة دَلِيل عَلَى أَنَّ الْعَالِم لَهُ مِنْ الْفَضِيلَة مَا لَيْسَ لِلْجَاهِلِ ; لِأَنَّ الْكَلْب إِذَا عُلِمَ يَكُون لَهُ فَضِيلَة عَلَى سَائِر الْكِلَاب , فَالْإِنْسَان إِذَا كَانَ لَهُ عِلْم أَوْلَى أَنْ يَكُون لَهُ فَضْل عَلَى سَائِر النَّاس , لَا سِيَّمَا إِذَا عَمِلَ بِمَا عَلِمَ ; وَهَذَا كَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب كَرَّمَ اللَّه وَجْهه أَنَّهُ قَالَ : لِكُلِّ شَيْء قِيمَة وَقِيمَة الْمَرْء مَا يُحْسِنهُ .|وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ|أَمْر بِالتَّسْمِيَةِ ; قِيلَ : عِنْد الْإِرْسَال عَلَى الصَّيْد , وَفِقْه الصَّيْد وَالذَّبْح فِي مَعْنَى التَّسْمِيَة وَاحِد , يَأْتِي بَيَانه فِي | الْأَنْعَام | , وَقِيلَ : الْمُرَاد بِالتَّسْمِيَةِ هُنَا التَّسْمِيَة عِنْد الْأَكْل , وَهُوَ الْأَظْهَر , وَفِي صَحِيح مُسْلِم أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعُمَر بْن أَبِي سَلَمَة : ( يَا غُلَام سَمِّ اللَّه وَكُلْ بِيَمِينِك وَكُلْ مِمَّا يَلِيك ) , وَرُوِيَ مِنْ حَدِيث حُذَيْفَة قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ الشَّيْطَان لَيَسْتَحِلّ الطَّعَام أَلَّا يُذْكَر اِسْم اللَّه عَلَيْهِ ) الْحَدِيث . فَإِنْ نَسِيَ التَّسْمِيَة أَوَّل الْأَكْل فَلْيُسَمِّ آخِره ; وَرَوَى النَّسَائِيّ عَنْ أُمَيَّة بْن مَخْشِيّ - وَكَانَ مِنْ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا يَأْكُل وَلَمْ يُسَمِّ اللَّه , فَلَمَّا كَانَ فِي آخِر لُقْمَة قَالَ : بِسْمِ اللَّه أَوَّله وَآخِره ; فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَا زَالَ الشَّيْطَان يَأْكُل مَعَهُ فَلَمَّا سَمَّى قَاءَ مَا أَكَلَهُ ) .|وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ|أَمْرٌ بِالتَّقْوَى عَلَى الْجُمْلَة , وَالْإِشَارَة الْقَرِيبَة هِيَ مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَات مِنْ الْأَوَامِر , وَسُرْعَة الْحِسَاب هِيَ مِنْ حَيْثُ كَوْنه تَعَالَى قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْء عِلْمًا وَأَحْصَى كُلّ شَيْء عَدَدًا ; فَلَا يَحْتَاج إِلَى مُحَاوَلَة عَدّ وَلَا عَقْد كَمَا يَفْعَلهُ الْحُسَّاب ; وَلِهَذَا قَالَ : | وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ | [ الْأَنْبِيَاء : 47 ] فَهُوَ سُبْحَانه يُحَاسِب الْخَلَائِق دَفْعَة وَاحِدَة . وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون وَعِيدًا بِيَوْمِ الْقِيَامَة كَأَنَّهُ قَالَ : إِنَّ حِسَاب اللَّه لَكُمْ سَرِيع إِتْيَانه ; إِذْ يَوْم الْقِيَامَة قَرِيب , وَيَحْتَمِل أَنْ يُرِيد بِالْحِسَابِ الْمُجَازَاة ; فَكَأَنَّهُ تَوَعَّدَ فِي الدُّنْيَا بِمُجَازَاةٍ سَرِيعَة قَرِيبَة إِنْ لَمْ يَتَّقُوا اللَّه .

الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُن

أَيْ | الْيَوْم أَكْمَلْت لَكُمْ دِينكُمْ | و | الْيَوْم أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَات | فَأَعَادَ تَأْكِيدًا أَيْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَات الَّتِي سَأَلْتُمْ عَنْهَا ; وَكَانَتْ الطَّيِّبَات أُبِيحَتْ لِلْمُسْلِمِينَ قَبْل نُزُول هَذِهِ الْآيَة ; فَهَذَا جَوَاب سُؤَالهمْ إِذْ قَالُوا : مَاذَا أُحِلَّ لَنَا ؟ , وَقِيلَ : أَشَارَ بِذِكْرِ الْيَوْم إِلَى وَقْت مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا يُقَال : هَذِهِ أَيَّام فُلَان ; أَيْ هَذَا أَوَان ظُهُوركُمْ وَشُيُوع الْإِسْلَام ; فَقَدْ أَكْمَلْت بِهَذَا دِينكُمْ , وَأَحْلَلْت لَكُمْ الطَّيِّبَات , وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْر الطَّيِّبَات فِي الْآيَة قَبْل هَذَا .|وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ|اِبْتِدَاء وَخَبَر , وَالطَّعَام اِسْم لِمَا يُؤْكَل وَالذَّبَائِح مِنْهُ , وَهُوَ هُنَا خَاصّ بِالذَّبَائِحِ عِنْد كَثِير مِنْ أَهْل الْعِلْم بِالتَّأْوِيلِ , وَأَمَّا مَا حُرِّمَ عَلَيْنَا مِنْ طَعَامهمْ فَلَيْسَ بِدَاخِلٍ تَحْت عُمُوم الْخِطَاب ; قَالَ اِبْن عَبَّاس : قَالَ اللَّه تَعَالَى : | وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَر اِسْم اللَّه عَلَيْهِ | [ الْأَنْعَام : 121 ] , ثُمَّ اِسْتَثْنَى فَقَالَ : | وَطَعَام الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب حِلّ لَكُمْ | يَعْنِي ذَبِيحَة الْيَهُودِيّ وَالنَّصْرَانِيّ ; وَإِنْ كَانَ النَّصْرَانِيّ يَقُول عِنْد الذَّبْح : بِاسْمِ الْمَسِيح وَالْيَهُودِيّ يَقُول : بِاسْمِ عُزَيْر ; وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يَذْبَحُونَ عَلَى الْمِلَّة , وَقَالَ عَطَاء : كُلْ مِنْ ذَبِيحَة النَّصْرَانِيّ وَإِنْ قَالَ بِاسْمِ الْمَسِيح ; لِأَنَّ اللَّه جَلَّ وَعَزَّ قَدْ أَبَاحَ ذَبَائِحهمْ , وَقَدْ عَلِمَ مَا يَقُولُونَ , وَقَالَ الْقَاسِم بْن مُخَيْمِرَة : كُلْ مِنْ ذَبِيحَته وَإِنْ قَالَ بِاسْمِ سَرْجِس - اِسْم كَنِيسَة لَهُمْ - وَهُوَ قَوْل الزُّهْرِيّ وَرَبِيعَة وَالشَّعْبِيّ وَمَكْحُول ; وَرُوِيَ عَنْ صَحَابِيَّيْنِ : عَنْ أَبِي الدَّرْدَاء وَعُبَادَة بْن الصَّامِت . وَقَالَتْ طَائِفَة : إِذَا سَمِعْت الْكِتَابِيّ يُسَمِّي غَيْر اِسْم اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فَلَا تَأْكُل ; وَقَالَ بِهَذَا مِنْ الصَّحَابَة عَلِيّ وَعَائِشَة وَابْن عُمَر ; وَهُوَ قَوْل طَاوُس وَالْحَسَن مُتَمَسِّكِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : | وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَر اِسْم اللَّه عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْق | [ الْأَنْعَام : 121 ] , وَقَالَ مَالِك : أَكْرَه ذَلِكَ , وَلَمْ يُحَرِّمهُ . قُلْت : الْعَجَب مِنْ الْكِيَا الطَّبَرِيّ الَّذِي حَكَى الِاتِّفَاق عَلَى جَوَاز ذَبِيحَة أَهْل الْكِتَاب , ثُمَّ أَخَذَ يَسْتَدِلّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ التَّسْمِيَة عَلَى الذَّبِيحَة لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فَقَالَ : وَلَا شَكّ أَنَّهُمْ لَا يُسَمُّونَ عَلَى الذَّبِيحَة إِلَّا الْإِلَه الَّذِي لَيْسَ مَعْبُودًا حَقِيقَة مِثْل الْمَسِيح وَعُزَيْر , وَلَوْ سَمَّوْا الْإِلَه حَقِيقَة لَمْ تَكُنْ تَسْمِيَتهمْ عَلَى طَرِيق الْعِبَادَة , وَإِنَّمَا كَانَ عَلَى طَرِيق آخَر ; وَاشْتِرَاط التَّسْمِيَة لَا عَلَى وَجْه الْعِبَادَة لَا يُعْقَل , وَوُجُود التَّسْمِيَة مِنْ الْكَافِر وَعَدَمهَا بِمَثَابَةٍ وَاحِدَة ; إِذَا لَمْ تُتَصَوَّر مِنْهُ الْعِبَادَة , وَلِأَنَّ النَّصْرَانِيّ إِنَّمَا يَذْبَح عَلَى اِسْم الْمَسِيح , وَقَدْ حَكَمَ اللَّه بِحِلِّ ذَبَائِحهمْ مُطْلَقًا , وَفِي ذَلِكَ دَلِيل عَلَى أَنَّ التَّسْمِيَة لَا تُشْتَرَط أَصْلًا كَمَا يَقُول الشَّافِعِيّ , وَسَيَأْتِي مَا فِي هَذَا لِلْعُلَمَاءِ فِي | الْأَنْعَام | إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَلَا خِلَاف بَيْن الْعُلَمَاء أَنَّ مَا لَا يَحْتَاج إِلَى ذَكَاة كَالطَّعَامِ الَّذِي لَا مُحَاوَلَة فِيهِ كَالْفَاكِهَةِ وَالْبُرّ جَائِز أَكْله ; إِذْ لَا يَضُرّ فِيهِ تَمَلُّك أَحَد . وَالطَّعَام الَّذِي تَقَع فِيهِ مُحَاوَلَة عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدهمَا : مَا فِيهِ مُحَاوَلَة صَنْعَة لَا تَعَلُّق لِلدِّينِ بِهَا ; كَخَبْزِ الدَّقِيق , وَعَصْر الزَّيْت وَنَحْوه ; فَهَذَا إِنْ تُجُنِّبَ مِنْ الذِّمِّيّ فَعَلَى وَجْه التَّقَزُّز , وَالضَّرْب الثَّانِي : هِيَ التَّذْكِيَة الَّتِي ذَكَرْنَا أَنَّهَا هِيَ الَّتِي تَحْتَاج إِلَى الدِّين وَالنِّيَّة ; فَلَمَّا كَانَ الْقِيَاس أَلَّا تَجُوز ذَبَائِحهمْ - كَمَا نَقُول إِنَّهُمْ لَا صَلَاة لَهُمْ وَلَا عِبَادَة مَقْبُولَة - رَخَّصَ اللَّه تَعَالَى فِي ذَبَائِحهمْ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّة , وَأَخْرَجَهَا النَّصّ عَنْ الْقِيَاس عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَوْل اِبْن عَبَّاس ; وَاللَّه أَعْلَمُ . وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء أَيْضًا فِيمَا ذَكَّوْهُ هَلْ تَعْمَل الذَّكَاة فِيمَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ أَوْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ ; فَالْجُمْهُور عَلَى أَنَّهَا عَامِلَة فِي كُلّ الذَّبِيحَة مَا حَلَّ لَهُ مِنْهَا وَمَا حُرِّمَ عَلَيْهِ , لِأَنَّهُ مُذَكًّى , وَقَالَتْ جَمَاعَة مِنْ أَهْل الْعِلْم : إِنَّمَا حَلَّ لَنَا مِنْ ذَبِيحَتهمْ مَا حَلَّ لَهُمْ ; لِأَنَّ مَا لَا يَحِلّ لَهُمْ لَا تَعْمَل فِيهِ تَذْكِيَتهمْ ; فَمَنَعَتْ هَذِهِ الطَّائِفَة الطَّرِيف وَالشُّحُوم الْمَحْضَة مِنْ ذَبَائِح أَهْل الْكِتَاب ; وَقَصَرَتْ لَفْظ الطَّعَام عَلَى الْبَعْض , وَحَمَلَتْهُ الْأُولَى عَلَى الْعُمُوم فِي جَمِيع مَا يُؤْكَل , وَهَذَا الْخِلَاف مَوْجُود فِي مَذْهَب مَالِك . قَالَ أَبُو عُمَر : وَكَرِهَ مَالِك شُحُوم الْيَهُود وَأَكْل مَا نَحَرُوا مِنْ الْإِبِل , وَأَكْثَرُ أَهْل الْعِلْم لَا يَرَوْنَ بِذَلِكَ بَأْسًا ; وَسَيَأْتِي هَذَا فِي | الْأَنْعَام | إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى ; وَكَانَ مَالِك رَحِمَهُ اللَّه يَكْرَه مَا ذَبَحُوهُ إِذَا وُجِدَ مَا ذَبَحَهُ الْمُسْلِم , وَكَرِهَ أَنْ يَكُون لَهُمْ أَسْوَاق يَبِيعُونَ فِيهَا مَا يَذْبَحُونَ ; وَهَذَا مِنْهُ رَحِمَهُ اللَّه تَنَزُّه . وَأَمَّا الْمَجُوس فَالْعُلَمَاء مُجْمِعُونَ - إِلَّا مَنْ شَذَّ مِنْهُمْ - عَلَى أَنَّ ذَبَائِحهمْ لَا تُؤْكَل , وَلَا يُتَزَوَّج مِنْهُمْ ; لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا أَهْل كِتَاب عَلَى الْمَشْهُور عِنْد الْعُلَمَاء , وَلَا بَأْس بِأَكْلِ طَعَام مَنْ لَا كِتَاب لَهُ كَالْمُشْرِكِينَ وَعَبَدَة الْأَوْثَان مَا لَمْ يَكُنْ مِنْ ذَبَائِحهمْ وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى ذَكَاة ; إِلَّا الْجُبْن ; لِمَا فِيهِ مِنْ إِنْفَحَة الْمَيْتَة . فَإِنْ كَانَ أَبُو الصَّبِيّ مَجُوسِيًّا وَأُمّه كِتَابِيَّة فَحُكْمه حُكْم أَبِيهِ عِنْد مَالِك , وَعِنْد غَيْره لَا تُؤْكَل ذَبِيحَة الصَّبِيّ إِذَا كَانَ أَحَد أَبَوَيْهِ مِمَّنْ لَا تُؤْكَل ذَبِيحَته . وَأَمَّا ذَبِيحَة نَصَارَى بَنِي تَغْلِب وَذَبَائِح كُلّ دَخِيل فِي الْيَهُودِيَّة وَالنَّصْرَانِيَّة فَكَانَ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ يَنْهَى عَنْ ذَبَائِح بَنِي تَغْلِب ; لِأَنَّهُمْ عَرَب , وَيَقُول : إِنَّهُمْ لَمْ يَتَمَسَّكُوا بِشَيْءٍ مِنْ النَّصْرَانِيَّة إِلَّا بِشُرْبِ الْخَمْر ; وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيّ ; وَعَلَى هَذَا فَلَيْسَ يُنْهَى عَنْ ذَبَائِح النَّصَارَى الْمُحَقَّقِينَ مِنْهُمْ , وَقَالَ جُمْهُور الْأُمَّة : إِنَّ ذَبِيحَة كُلّ نَصْرَانِيّ حَلَال ; سَوَاء كَانَ مِنْ بَنِي تَغْلِب أَوْ غَيْرهمْ , وَكَذَلِكَ الْيَهُودِيّ , وَاحْتَجَّ اِبْن عَبَّاس بِقَوْلِهِ تَعَالَى : | وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ | [ الْمَائِدَة : 51 ] , فَلَوْ لَمْ تَكُنْ بَنُو تَغْلِب مِنْ النَّصَارَى إِلَّا بِتَوَلِّيهِمْ إِيَّاهُمْ لَأُكِلَتْ ذَبَائِحهمْ . وَلَا بَأْس بِالْأَكْلِ وَالشُّرْب وَالطَّبْخ فِي آنِيَة الْكُفَّار كُلّهمْ , مَا لَمْ تَكُنْ ذَهَبًا أَوْ فِضَّة أَوْ جِلْد خِنْزِير بَعْد أَنْ تُغْسَل وَتُغْلَى ; لِأَنَّهُمْ لَا يَتَوَقَّوْنَ النَّجَاسَات وَيَأْكُلُونَ الْمَيْتَات ; فَإِذَا طَبَخُوا فِي تِلْكَ الْقُدُور تَنَجَّسَتْ , وَرُبَّمَا سَرَتْ النَّجَاسَات فِي أَجْزَاء قُدُور الْفَخَّار ; فَإِذَا طُبِخَ فِيهَا بَعْد ذَلِكَ تُوُقِّعَ مُخَالَطَة تِلْكَ الْأَجْزَاء النَّجِسَة لِلْمَطْبُوخِ فِي الْقِدْر ثَانِيَة ; فَاقْتَضَى الْوَرَع الْكَفّ عَنْهَا . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ قَالَ : إِنْ كَانَ الْإِنَاء مِنْ نُحَاس أَوْ حَدِيد غُسِلَ , وَإِنْ كَانَ مِنْ فَخَّار أُغْلِيَ فِيهِ الْمَاء ثُمَّ غُسِلَ - هَذَا إِذَا اُحْتِيجَ إِلَيْهِ - وَقَالَهُ مَالِك ; فَأَمَّا مَا يَسْتَعْمِلُونَهُ لِغَيْرِ الطَّبْخ فَلَا بَأْس بِاسْتِعْمَالِهِ مِنْ غَيْر غَسْل ; لِمَا رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ عُمَر أَنَّهُ تَوَضَّأَ مِنْ بَيْت نَصْرَانِيّ فِي حُقّ نَصْرَانِيَّة ; وَهُوَ صَحِيح وَسَيَأْتِي فِي | الْفُرْقَان | بِكَمَالِهِ , وَفِي صَحِيح مُسْلِم مِنْ حَدِيث أَبِي ثَعْلَبَة الْخُشَنِيّ قَالَ أَتَيْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْت : يَا رَسُول اللَّه إِنَّا بِأَرْضِ قَوْم مِنْ أَهْل كِتَاب نَأْكُل فِي آنِيَتهمْ , وَأَرْض صَيْد , أَصِيد بِقَوْسِي وَأَصِيد بِكَلْبِي الْمُعَلَّم , وَأَصِيد بِكَلْبِي الَّذِي لَيْسَ بِمُعَلَّمٍ ; فَأَخْبِرْنِي مَا الَّذِي يَحِلّ لَنَا مِنْ ذَلِكَ ؟ قَالَ : ( أَمَّا مَا ذَكَرْت أَنَّكُمْ بِأَرْضِ قَوْم مِنْ أَهْل كِتَاب تَأْكُلُونَ فِي آنِيَتهمْ فَإِنْ وَجَدْتُمْ غَيْر آنِيَتهمْ فَلَا تَأْكُلُوا فِيهَا وَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَاغْسِلُوهَا ثُمَّ كُلُوا فِيهَا ) ثُمَّ ذَكَرَ الْحَدِيث .|وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ|دَلِيل عَلَى أَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِتَفَاصِيل شَرْعنَا ; أَيْ إِذَا اِشْتَرَوْا مِنَّا اللَّحْم يَحِلّ لَهُمْ اللَّحْم وَيَحِلّ لَنَا الثَّمَن الْمَأْخُوذ مِنْهُمْ .|وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ|الْآيَة . قَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَاهَا فِي | الْبَقَرَة | و | النِّسَاء | وَالْحَمْد لِلَّهِ , وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى : | وَالْمُحْصَنَات مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب | . هُوَ عَلَى الْعَهْد دُون دَار الْحَرْب فَيَكُون خَاصًّا , وَقَالَ غَيْره : يَجُوز نِكَاح الذِّمِّيَّة وَالْحَرْبِيَّة لِعُمُومِ الْآيَة . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ قَالَ : | الْمُحْصَنَات | الْعَفِيفَات الْعَاقِلَات , وَقَالَ الشَّعْبِيّ : هُوَ أَنْ تُحْصِن فَرْجهَا فَلَا تَزْنِي , وَتَغْتَسِل مِنْ الْجَنَابَة , وَقَرَأَ الشَّعْبِيّ | وَالْمُحْصِنَات | بِكَسْرِ الصَّاد , وَبِهِ قَرَأَ الْكِسَائِيّ , وَقَالَ مُجَاهِد : | الْمُحْصَنَات | الْحَرَائِر ; قَالَ أَبُو عُبَيْد : يَذْهَب إِلَى أَنَّهُ لَا يَحِلّ نِكَاح إِمَاء أَهْل الْكِتَاب ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى : | فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانكُمْ مِنْ فَتَيَاتكُمْ الْمُؤْمِنَات | [ النِّسَاء : 25 ] وَهَذَا الْقَوْل الَّذِي عَلَيْهِ جُلَّة الْعُلَمَاء .|وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ|قِيلَ : لَمَّا قَالَ تَعَالَى : | وَالْمُحْصَنَات مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب | قَالَ نِسَاء أَهْل الْكِتَاب : لَوْلَا أَنَّ اللَّه تَعَالَى رَضِيَ دِيننَا لَمْ يُبِحْ لَكُمْ نِكَاحنَا ; فَنَزَلَتْ | وَمَنْ يَكْفُر بِالْإِيمَانِ | أَيْ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّد . وَقَالَ أَبُو الْهَيْثَم : الْبَاء صِلَة ; أَيْ وَمَنْ يَكْفُر الْإِيمَان أَيْ يَجْحَدهُ|فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ|وَقَرَأَ اِبْن السَّمَيْقَع | فَقَدْ حَبَطَ | بِفَتْحِ الْبَاء , وَقِيلَ : لَمَّا ذُكِرَتْ فَرَائِض وَأَحْكَام يَلْزَم الْقِيَام بِهَا , ذُكِرَ الْوَعِيد عَلَى مُخَالَفَتهَا ; لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَأْكِيد الزَّجْر عَنْ تَضْيِيعهَا , وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس وَمُجَاهِد أَنَّ الْمَعْنَى : وَمَنْ يَكْفُر بِاَللَّهِ ; قَالَ الْحَسَن بْن الْفَضْل : إِنْ صَحَّتْ هَذِهِ الرِّوَايَة فَمَعْنَاهَا بِرَبِّ الْإِيمَان . وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو الْحَسَن الْأَشْعَرِيّ : وَلَا يَجُوز أَنْ يُسَمَّى اللَّه إِيمَانًا خِلَافًا لِلْحَشْوِيَّةِ وَالسَّالِمِيَّة ; لِأَنَّ الْإِيمَان مَصْدَر آمَنَ يُؤْمِن إِيمَانًا , وَاسْم الْفَاعِل مِنْهُ مُؤْمِن ; وَالْإِيمَان التَّصْدِيق , وَالتَّصْدِيق لَا يَكُون إِلَّا كَلَامًا , وَلَا يَجُوز أَنْ يَكُون الْبَارِي تَعَالَى كَلَامًا .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى

ذَكَرَ الْقُشَيْرِيّ وَابْن عَطِيَّة أَنَّ هَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ فِي قِصَّة عَائِشَة حِين فَقَدَتْ الْعِقْد فِي غَزْوَة الْمُرَيْسِيع , وَهِيَ آيَة الْوُضُوء . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : لَكِنْ مِنْ حَيْثُ كَانَ الْوُضُوء مُتَقَرِّرًا عِنْدهمْ مُسْتَعْمَلًا , فَكَأَنَّ الْآيَة لَمْ تَزِدْهُمْ فِيهِ إِلَّا تِلَاوَته , وَإِنَّمَا أَعْطَتْهُمْ الْفَائِدَة وَالرُّخْصَة فِي التَّيَمُّم , وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي آيَة | النِّسَاء | خِلَاف هَذَا , وَاللَّه أَعْلَمُ . وَمَضْمُون هَذِهِ الْآيَة دَاخِل فِيمَا أُمِرَ بِهِ مِنْ الْوَفَاء بِالْعُقُودِ وَأَحْكَام الشَّرْع , وَفِيمَا ذُكِرَ مِنْ إِتْمَام النِّعْمَة ; فَإِنَّ هَذِهِ الرُّخْصَة مِنْ إِتْمَام النِّعَم . وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْمَعْنَى الْمُرَاد بِقَوْلِهِ : | إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاة | عَلَى أَقْوَال ; فَقَالَتْ طَائِفَة : هَذَا لَفْظ عَامّ فِي كُلّ قِيَام إِلَى الصَّلَاة , سَوَاء كَانَ الْقَائِم مُتَطَهِّرًا أَوْ مُحْدِثًا ; فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاة أَنْ يَتَوَضَّأ , وَكَانَ عَلِيّ يَفْعَلهُ وَيَتْلُو هَذِهِ الْآيَة ; ذَكَرَهُ أَبُو مُحَمَّد الدَّارِمِيّ فِي مُسْنَده , وَرُوِيَ مِثْله عَنْ عِكْرِمَة , وَقَالَ اِبْن سِيرِينَ : كَانَ الْخُلَفَاء يَتَوَضَّئُونَ لِكُلِّ صَلَاة . قُلْت : فَالْآيَة عَلَى هَذَا مُحْكَمَة لَا نَسْخ فِيهَا , وَقَالَتْ طَائِفَة : الْخِطَاب خَاصّ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; قَالَ عَبْد اللَّه بْن حَنْظَلَة بْن أَبِي عَامِر الْغَسِيل : إِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمِرَ بِالْوُضُوءِ عِنْد كُلّ صَلَاة فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ ; فَأُمِرَ بِالسِّوَاكِ وَرُفِعَ عَنْهُ الْوُضُوء إِلَّا مِنْ حَدَث , وَقَالَ عَلْقَمَة بْن الْفَغْوَاء عَنْ أَبِيهِ - وَهُوَ مِنْ الصَّحَابَة , وَكَانَ دَلِيل رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى تَبُوك : نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة رُخْصَة لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; لِأَنَّهُ كَانَ لَا يَعْمَل عَمَلًا إِلَّا وَهُوَ عَلَى وُضُوء , وَلَا يُكَلِّم أَحَدًا وَلَا يَرُدّ سَلَامًا إِلَى غَيْر ذَلِكَ ; فَأَعْلَمَهُ اللَّه بِهَذِهِ الْآيَة أَنَّ الْوُضُوء إِنَّمَا هُوَ لِلْقِيَامِ إِلَى الصَّلَاة فَقَطْ دُون سَائِر الْأَعْمَال , وَقَالَتْ طَائِفَة : الْمُرَاد بِالْآيَةِ الْوُضُوء لِكُلِّ صَلَاة طَلَبًا لِلْفَضْلِ ; وَحَمَلُوا الْأَمْر عَلَى النَّدْب , وَكَانَ كَثِير مِنْ الصَّحَابَة مِنْهُمْ اِبْن عُمَر يَتَوَضَّئُونَ لِكُلِّ صَلَاة طَلَبًا لِلْفَضْلِ , وَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام يَفْعَل ذَلِكَ إِلَى أَنْ جَمَعَ يَوْم الْفَتْح بَيْن الصَّلَوَات الْخَمْس بِوُضُوءٍ وَاحِد , إِرَادَة الْبَيَان لِأُمَّتِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قُلْت : وَظَاهِر هَذَا الْقَوْل أَنَّ الْوُضُوء لِكُلِّ صَلَاة قَبْل وُرُود النَّاسِخ كَانَ مُسْتَحَبًّا لَا إِيجَابًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ ; فَإِنَّ الْأَمْر إِذَا وَرَدَ , مُقْتَضَاهُ الْوُجُوب ; لَا سِيَّمَا عِنْد الصَّحَابَة رِضْوَان اللَّه عَلَيْهِمْ , عَلَى مَا هُوَ مَعْرُوف مِنْ سِيرَتهمْ , وَقَالَ آخَرُونَ : إِنَّ الْفَرْض فِي كُلّ وُضُوء كَانَ لِكُلِّ صَلَاة ثُمَّ نُسِخَ فِي فَتْح مَكَّة ; وَهَذَا غَلَط لِحَدِيثِ أَنَس قَالَ : كَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأ لِكُلِّ صَلَاة , وَإِنَّ أُمَّته كَانَتْ عَلَى خِلَاف ذَلِكَ , وَسَيَأْتِي ; وَلِحَدِيثِ سُوَيْد بْن النُّعْمَان أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى وَهُوَ بِالصَّهْبَاءِ الْعَصْر وَالْمَغْرِب بِوُضُوءٍ وَاحِد ; وَذَلِكَ فِي غَزْوَة خَيْبَر , وَهِيَ سَنَة سِتّ , وَقِيلَ : سَنَة سَبْع , وَفَتْح مَكَّة كَانَ فِي سَنَة ثَمَان ; وَهُوَ حَدِيث صَحِيح رَوَاهُ مَالِك فِي مُوَطَّئِهِ , وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم ; فَبَانَ بِهَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ أَنَّ الْفَرْض لَمْ يَكُنْ قَبْل الْفَتْح لِكُلِّ صَلَاة . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ رَوَى مُسْلِم عَنْ بُرَيْدَة بْن الْحُصَيْب أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَوَضَّأ لِكُلِّ صَلَاة , فَلَمَّا كَانَ يَوْم الْفَتْح صَلَّى الصَّلَوَات بِوُضُوءٍ وَاحِد , وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ , فَقَالَ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : لَقَدْ صَنَعْت الْيَوْم شَيْئًا لَمْ تَكُنْ تَصْنَعهُ ; فَقَالَ : ( عَمْدًا صَنَعْته يَا عُمَر ) . فَلِمَ سَأَلَهُ عُمَر وَاسْتَفْهَمَهُ ؟ قِيلَ لَهُ : إِنَّمَا سَأَلَهُ لِمُخَالَفَتِهِ عَادَته مُنْذُ صَلَاته بِخَيْبَر ; وَاللَّه أَعْلَمُ . وَرَوَى التِّرْمِذِيّ عَنْ أَنَس أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَوَضَّأ لِكُلِّ صَلَاة طَاهِرًا وَغَيْر طَاهِر ; قَالَ حُمَيْد : قُلْت لِأَنَسٍ : وَكَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ أَنْتُمْ ؟ قَالَ : كُنَّا نَتَوَضَّأ وُضُوءًا وَاحِدًا ; قَالَ : حَدِيث حَسَن صَحِيح ; وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( الْوُضُوء عَلَى الْوُضُوء نُور ) فَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَام يَتَوَضَّأ مُجَدِّدًا لِكُلِّ صَلَاة , وَقَدْ سَلَّمَ عَلَيْهِ رَجُل وَهُوَ يَبُول فَلَمْ يَرُدّ عَلَيْهِ حَتَّى تَيَمَّمَ ثُمَّ رَدَّ السَّلَام وَقَالَ : ( إِنِّي كَرِهْت أَنْ أَذْكُر اللَّه إِلَّا عَلَى طُهْر ) رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ , وَقَالَ السُّدِّيّ وَزَيْد بْن أَسْلَمَ : مَعْنَى الْآيَة | إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاة | يُرِيد مِنْ الْمَضَاجِع يَعْنِي النَّوْم , وَالْقَصْد بِهَذَا التَّأْوِيل أَنْ يَعُمّ الْأَحْدَاث بِالذِّكْرِ , وَلَا سِيَّمَا النَّوْم الَّذِي هُوَ مُخْتَلَف فِيهِ هَلْ هُوَ حَدَث فِي نَفْسه أَمْ لَا ؟ وَفِي الْآيَة عَلَى هَذَا التَّأْوِيل تَقْدِيم وَتَأْخِير ; التَّقْدِير : يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاة مِنْ النَّوْم , أَوْ جَاءَ أَحَد مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِط أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاء - يَعْنِي الْمُلَامَسَة الصُّغْرَى - فَاغْسِلُوا ; فَتَمَّتْ أَحْكَام الْمُحْدِث حَدَثًا أَصْغَرَ . ثُمَّ قَالَ : | وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا | فَهَذَا حُكْم نَوْع آخَر ; ثُمَّ قَالَ لِلنَّوْعَيْنِ جَمِيعًا : | وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَر أَوْ جَاءَ أَحَد مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِط أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُوا مَاء فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا | [ النِّسَاء : 43 ] . وَقَالَ بِهَذَا التَّأْوِيل مُحَمَّد بْن مَسْلَمَة مِنْ أَصْحَاب مَالِك - رَحِمَهُ اللَّه - وَغَيْره , وَقَالَ جُمْهُور أَهْل الْعِلْم : مَعْنَى الْآيَة إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاة مُحْدِثِينَ ; وَلَيْسَ فِي الْآيَة عَلَى هَذَا تَقْدِيم وَتَأْخِير , بَلْ تَرَتَّبَ فِي الْآيَة حُكْم وَاجِد الْمَاء إِلَى قَوْله : | فَاطَّهَّرُوا | وَدَخَلَتْ الْمُلَامَسَة الصُّغْرَى فِي قَوْله | مُحْدِثِينَ | . ثُمَّ ذَكَرَ بَعْد قَوْله : | وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا | حُكْم عَادِم الْمَاء مِنْ النَّوْعَيْنِ جَمِيعًا , وَكَانَتْ الْمُلَامَسَة هِيَ الْجِمَاع , وَلَا بُدّ أَنْ يَذْكُر الْجُنُب الْعَادِم الْمَاء كَمَا ذَكَرَ الْوَاجِد ; وَهَذَا تَأْوِيل الشَّافِعِيّ وَغَيْره ; وَعَلَيْهِ تَجِيء أَقْوَال الصَّحَابَة كَسَعْدِ بْن أَبِي وَقَّاص وَابْن عَبَّاس وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ وَغَيْرهمْ . قُلْت : وَهَذَانِ التَّأْوِيلَانِ أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي الْآيَة ; وَاللَّه أَعْلَمُ , وَمَعْنَى | إِذَا قُمْتُمْ | إِذَا أَرَدْتُمْ , كَمَا قَالَ تَعَالَى : | فَإِذَا قَرَأْت الْقُرْآن فَاسْتَعِذْ | [ النَّحْل : 98 ] , أَيْ إِذَا أَرَدْت ; لِأَنَّ الْوُضُوء حَالَة الْقِيَام إِلَى الصَّلَاة لَا يُمْكِن .|الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى|ذَكَرَ تَعَالَى أَرْبَعَة أَعْضَاء : الْوَجْه وَفَرْضه الْغَسْل وَالْيَدَيْنِ كَذَلِكَ وَالرَّأْس وَفَرْضه الْمَسْح اِتِّفَاقًا وَاخْتُلِفَ فِي الرِّجْلَيْنِ عَلَى مَا يَأْتِي , لَمْ يُذْكَر سِوَاهَا فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهَا آدَاب وَسُنَن , وَاللَّه أَعْلَمُ , وَلَا بُدّ فِي غَسْل الْوَجْه مِنْ نَقْل الْمَاء إِلَيْهِ , وَإِمْرَار الْيَد عَلَيْهِ ; وَهَذِهِ حَقِيقَة الْغَسْل عِنْدنَا , وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي | النِّسَاء | , وَقَالَ غَيْرنَا : إِنَّمَا عَلَيْهِ إِجْرَاء الْمَاء وَلَيْسَ عَلَيْهِ دَلْك بِيَدِهِ ; وَلَا شَكّ أَنَّهُ إِذَا اِنْغَمَسَ الرَّجُل فِي الْمَاء وَغَمَسَ وَجْهه أَوْ يَده وَلَمْ يُدَلِّك يُقَال : غَسَلَ وَجْهه وَيَده , وَمَعْلُوم أَنَّهُ لَا يُعْتَبَر فِي ذَلِكَ غَيْر حُصُول الِاسْم , فَإِذَا حَصَلَ كَفَى , وَالْوَجْه فِي اللُّغَة مَأْخُوذ مِنْ الْمُوَاجَهَة , وَهُوَ عُضْو مُشْتَمِل عَلَى أَعْضَاء وَلَهُ طُول وَعَرْض ; فَحَدّه فِي الطُّول مِنْ مُبْتَدَإ سَطْح الْجَبْهَة إِلَى مُنْتَهَى اللَّحْيَيْنِ , وَمِنْ الْأُذُن إِلَى الْأُذُن فِي الْعَرْض , وَهَذَا فِي الْأَمْرَد ; وَأَمَّا الْمُلْتَحِي فَإِذَا اِكْتَسَى الذَّقْن بِالشَّعْرِ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُون خَفِيفًا أَوْ كَثِيفًا ; فَإِنْ كَانَ الْأَوَّل بِحَيْثُ تَبِين مِنْهُ الْبَشَرَة فَلَا بُدّ مِنْ إِيصَال الْمَاء إِلَيْهَا , وَإِنْ كَانَ كَثِيفًا فَقَدْ اِنْتَقَلَ الْفَرْض إِلَيْهِ كَشَعْرِ الرَّأْس ; ثُمَّ مَا زَادَ عَلَى الذَّقْن مِنْ الشَّعْر وَاسْتَرْسَلَ مِنْ اللِّحْيَة , فَقَالَ سَحْنُون عَنْ اِبْن الْقَاسِم : سَمِعْت مَالِكًا سُئِلَ : هَلْ سَمِعْت بَعْض أَهْل الْعِلْم يَقُول إِنَّ اللِّحْيَة مِنْ الْوَجْه فَلْيُمِرَّ عَلَيْهَا الْمَاء ؟ قَالَ : نَعَمْ , وَتَخْلِيلهَا فِي الْوُضُوء لَيْسَ مِنْ أَمْر النَّاس , وَعَابَ ذَلِكَ عَلَى مَنْ فَعَلَهُ , وَذَكَرَ اِبْن الْقَاسِم أَيْضًا عَنْ مَالِك قَالَ : يُحَرِّك الْمُتَوَضِّئ ظَاهِر لِحْيَته مِنْ غَيْر أَنْ يُدْخِل يَده فِيهَا ; قَالَ : وَهِيَ مِثْل أَصَابِع الرِّجْلَيْنِ . قَالَ اِبْن عَبْد الْحَكَم : تَخْلِيل اللِّحْيَة وَاجِب فِي الْوُضُوء وَالْغُسْل . قَالَ أَبُو عُمَر : رُوِيَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ خَلَّلَ لِحْيَته فِي الْوُضُوء مِنْ وُجُوه كُلّهَا ضَعِيفَة . وَذَكَرَ اِبْن خُوَيْز مَنْدَاد : أَنَّ الْفُقَهَاء اِتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ تَخْلِيل اللِّحْيَة لَيْسَ بِوَاجِبٍ فِي الْوُضُوء , إِلَّا شَيْء رُوِيَ عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر ; قَوْله : مَا بَال الرَّجُل يَغْسِل لِحْيَته قَبْل أَنْ تَنْبُت فَإِذَا نَبَتَتْ لَمْ يَغْسِلهَا , وَمَا بَال الْأَمْرَد يَغْسِل ذَقْنه وَلَا يَغْسِلهُ ذُو اللِّحْيَة ؟ قَالَ الطَّحَاوِيّ : التَّيَمُّم وَاجِب فِيهِ مَسْح الْبَشَرَة قَبْل نَبَات الشَّعْر فِي الْوَجْه ثُمَّ سَقَطَ بَعْده عِنْد جَمِيعهمْ . فَكَذَلِكَ الْوُضُوء . قَالَ أَبُو عُمَر : مَنْ جَعَلَ غَسْل اللِّحْيَة كُلّهَا وَاجِبًا جَعَلَهَا وَجْهًا ; لِأَنَّ الْوَجْه مَأْخُوذ مِنْ الْمُوَاجَهَة , وَاَللَّه قَدْ أَمَرَ بِغَسْلِ الْوَجْه أَمْرًا مُطْلَقًا لَمْ يَخُصّ صَاحِب لِحْيَة مِنْ أَمْرَد ; فَوَجَبَ غَسْلهَا بِظَاهِرِ الْقُرْآن لِأَنَّهَا بَدَل مِنْ الْبَشَرَة . قُلْت : وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْل اِبْن الْعَرَبِيّ وَقَالَ : وَبِهِ أَقُول ; لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَغْسِل لِحْيَته , خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيّ وَغَيْره ; فَعُيِّنَ الْمُحْتَمَل بِالْفِعْلِ , وَحَكَى اِبْن الْمُنْذِر عَنْ إِسْحَاق أَنَّ مَنْ تَرَكَ تَخْلِيل لِحْيَته عَامِدًا أَعَادَ , وَرَوَى التِّرْمِذِيّ عَنْ عُثْمَان بْن عَفَّان أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُخَلِّل لِحْيَته ; قَالَ : هَذَا حَدِيث حَسَن صَحِيح ; قَالَ أَبُو عُمَر : وَمَنْ لَمْ يُوجِب غَسْل مَا اِنْسَدَلَ مِنْ اللِّحْيَة ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْأَصْل الْمَأْمُور بِغَسْلِهِ الْبَشَرَة , فَوَجَبَ غَسْل مَا ظَهَرَ فَوْق الْبَشَرَة , وَمَا اِنْسَدَلَ مِنْ اللِّحْيَة لَيْسَ تَحْته مَا يَلْزَم غَسْله , فَيَكُون غَسْل اللِّحْيَة بَدَلًا مِنْهُ , وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي غَسْل مَا وَرَاء الْعِذَار إِلَى الْأُذُن ; فَرَوَى اِبْن وَهْب عَنْ مَالِك قَالَ : لَيْسَ مَا خَلْف الصُّدْغ الَّذِي مِنْ وَرَاء شَعْر اللِّحْيَة إِلَى الذَّقْن مِنْ الْوَجْه . قَالَ أَبُو عُمَر : لَا أَعْلَم أَحَدًا مِنْ فُقَهَاء الْأَمْصَار قَالَ بِمَا رَوَاهُ اِبْن وَهْب عَنْ مَالِك , وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه : الْبَيَاض بَيْن الْعِذَار وَالْأُذُن مِنْ الْوَجْه , وَغَسْله وَاجِب ; وَنَحْوه قَالَ الشَّافِعِيّ وَأَحْمَد , وَقِيلَ : يَغْسِل الْبَيَاض اِسْتِحْبَابًا ; قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَالصَّحِيح عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَلْزَم غَسْله إِلَّا لِلْأَمْرَدِ لَا لِلْمُعْذِرِ . قُلْت : وَهُوَ اِخْتِيَار الْقَاضِي عَبْد الْوَهَّاب ; وَسَبَب الْخِلَاف هَلْ تَقَع عَلَيْهِ الْمُوَاجَهَة أَمْ لَا ؟ وَاللَّه أَعْلَمُ , وَبِسَبَبِ هَذَا الِاحْتِمَال اِخْتَلَفُوا هَلْ يَتَنَاوَل الْأَمْر بِغَسْلِ الْوَجْه بَاطِن الْأَنْف وَالْفَم أَمْ لَا ؟ فَذَهَبَ أَحْمَد بْن حَنْبَل وَإِسْحَاق وَغَيْرهمَا إِلَى وُجُوب ذَلِكَ فِي الْوُضُوء وَالْغُسْل , إِلَّا أَنَّ أَحْمَد قَالَ : يُعِيد مَنْ تَرَكَ الِاسْتِنْشَاق فِي وُضُوئِهِ وَلَا يُعِيد مَنْ تَرَكَ الْمَضْمَضَة , وَقَالَ عَامَّة الْفُقَهَاء : هُمَا سُنَّتَانِ فِي الْوُضُوء وَالْغُسْل ; لِأَنَّ الْأَمْر إِنَّمَا يَتَنَاوَل الظَّاهِر دُون الْبَاطِن , وَالْعَرَب لَا تُسَمِّي وَجْهًا إِلَّا مَا وَقَعَتْ بِهِ الْمُوَاجَهَة , ثُمَّ إِنَّ اللَّه تَعَالَى لَمْ يَذْكُرهُمَا فِي كِتَابه , وَلَا أَوْجَبَهُمَا الْمُسْلِمُونَ , وَلَا اِتَّفَقَ الْجَمِيع عَلَيْهِ ; وَالْفَرَائِض لَا تَثْبُت إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْوُجُوه , وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي | النِّسَاء | , وَأَمَّا الْعَيْنَانِ فَالنَّاس كُلّهمْ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ دَاخِل الْعَيْنَيْنِ لَا يَلْزَم غَسْله , إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ عَبْد اللَّه بْن عُمَر أَنَّهُ كَانَ يَنْضَح الْمَاء فِي عَيْنَيْهِ ; وَإِنَّمَا سَقَطَ غَسْلهمَا لِلتَّأَذِّي بِذَلِكَ وَالْحَرَج بِهِ ; قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَلِذَلِكَ كَانَ عَبْد اللَّه بْن عُمَر لَمَّا عَمِيَ يَغْسِل عَيْنَيْهِ إِذْ كَانَ لَا يَتَأَذَّى بِذَلِكَ ; وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا مِنْ حُكْم الْوَجْه فَلَا بُدّ مِنْ غَسْل جُزْء مِنْ الرَّأْس مَعَ الْوَجْه مِنْ غَيْر تَحْدِيد , كَمَا لَا بُدّ عَلَى الْقَوْل بِوُجُوبِ عُمُوم الرَّأْس مِنْ مَسْح جُزْء مَعَهُ مِنْ الْوَجْه لَا يَتَقَدَّر ; وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى أَصْل مِنْ أُصُول الْفِقْه وَهُوَ : | أَنَّ مَا لَا يَتِمّ الْوَاجِب إِلَّا بِهِ وَاجِب مِثْله | وَاللَّه أَعْلَمُ . وَجُمْهُور الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ الْوُضُوء لَا بُدّ فِيهِ مِنْ نِيَّة ; لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ ) . قَالَ الْبُخَارِيّ : فَدَخَلَ فِيهِ الْإِيمَان وَالْوُضُوء وَالصَّلَاة وَالزَّكَاة وَالْحَجّ وَالصَّوْم وَالْأَحْكَام ; وَقَالَ اللَّه تَعَالَى : | قُلْ كُلٌّ يَعْمَل عَلَى شَاكِلَته | [ الْإِسْرَاء : 84 ] , يَعْنِي عَلَى نِيَّته . وَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَلَكِنْ جِهَاد وَنِيَّة ) , وَقَالَ كَثِير مِنْ الشَّافِعِيَّة : لَا حَاجَة إِلَى نِيَّة ; وَهُوَ قَوْل الْحَنَفِيَّة ; قَالُوا : لَا تَجِب النِّيَّة إِلَّا فِي الْفُرُوض الَّتِي هِيَ مَقْصُودَة لِأَعْيَانِهَا وَلَمْ تُجْعَل سَبَبًا لِغَيْرِهَا , فَأَمَّا مَا كَانَ شَرْطًا لِصِحَّةِ فِعْل آخَر فَلَيْسَ يَجِب ذَلِكَ فِيهِ بِنَفْسِ وُرُود الْأَمْر إِلَّا بِدَلَالَةٍ تُقَارِنهُ , وَالطَّهَارَة شَرْط ; فَإِنَّ مَنْ لَا صَلَاة عَلَيْهِ لَا يَجِب عَلَيْهِ فَرْض الطَّهَارَة , كَالْحَائِضِ وَالنُّفَسَاء . اِحْتَجَّ عُلَمَاؤُنَا وَبَعْض الشَّافِعِيَّة بِقَوْلِهِ تَعَالَى : | إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاة فَاغْسِلُوا وُجُوهكُمْ | فَلَمَّا وَجَبَ فِعْل الْغَسْل كَانَتْ النِّيَّة شَرْطًا فِي صِحَّة الْفِعْل ; 0 لِأَنَّ الْفَرْض مِنْ قِبَل اللَّه تَعَالَى فَيَنْبَغِي أَنْ يَجِب فِعْل مَا أَمَرَ اللَّه بِهِ ; فَإِذَا قُلْنَا : إِنَّ النِّيَّة لَا تَجِب عَلَيْهِ لَمْ يَجِب عَلَيْهِ الْقَصْد إِلَى فِعْل مَا أَمَرَهُ اللَّه تَعَالَى , وَمَعْلُوم أَنَّ الَّذِي اِغْتَسَلَ تَبَرُّدًا أَوْ لِغَرَضٍ مَا , قَصَدَ أَدَاء الْوَاجِب ; وَصَحَّ فِي الْحَدِيث أَنَّ الْوُضُوء يُكَفِّر ; فَلَوْ صَحَّ بِغَيْرِ نِيَّة لَمَا كَفَّرَ , وَقَالَ تَعَالَى : | وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّين | [ الْبَيِّنَة : 5 ] . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ , قَالَ بَعْض عُلَمَائِنَا : إِنَّ مَنْ خَرَجَ إِلَى النَّهْر بِنِيَّةِ الْغُسْل أَجْزَأَهُ , وَإِنْ عَزَبَتْ نِيَّته فِي الطَّرِيق , وَلَوْ خَرَجَ إِلَى الْحَمَّام فَعَزَبَتْ فِي أَثْنَاء الطَّرِيق بَطَلَتْ النِّيَّة . قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْر بْن الْعَرَبِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : فَرَكَّبَ عَلَى هَذَا سَفَاسِفَة الْمُفْتِينَ أَنَّ نِيَّة الصَّلَاة تَتَخَرَّج عَلَى الْقَوْلَيْنِ , وَأَوْرَدُوا فِيهَا نَصًّا عَمَّنْ لَا يُفَرِّق بَيْن الظَّنّ وَالْيَقِين بِأَنَّهُ قَالَ : يَجُوز أَنْ تَتَقَدَّم فِيهَا النِّيَّة عَلَى التَّكْبِير ; وَيَا لَلَّهِ وَيَا لَلْعَالَمِينَ مِنْ أُمَّة أَرَادَتْ أَنْ تَكُون مُفْتِيَة مُجْتَهِدَة فَمَا وَفَّقَهَا اللَّه وَلَا سَدَّدَهَا ! ; اِعْلَمُوا رَحِمَكُمْ اللَّه أَنَّ النِّيَّة فِي الْوُضُوء مُخْتَلَف فِي وُجُوبهَا بَيْن الْعُلَمَاء , وَقَدْ اِخْتَلَفَ فِيهَا قَوْل مَالِك ; فَلَمَّا نَزَلَتْ عَنْ مَرْتَبَة الِاتِّفَاق سُومِحَ فِي تَقْدِيمهَا فِي بَعْض الْمَوَاضِع , فَأَمَّا الصَّلَاة فَلَمْ يَخْتَلِف أَحَد مِنْ الْأَئِمَّة فِيهَا , وَهِيَ أَصْل مَقْصُود , فَكَيْفَ يُحْمَل الْأَصْل الْمَقْصُود الْمُتَّفَق عَلَيْهِ عَلَى الْفَرْع التَّابِع الْمُخْتَلَف فِيهِ ! هَلْ هَذَا إِلَّا غَايَة الْغَبَاوَة ؟ وَأَمَّا الصَّوْم فَإِنَّ الشَّرْع رَفَعَ الْحَرَج فِيهِ لَمَّا كَانَ اِبْتِدَاؤُهُ فِي وَقْت الْغَفْلَة بِتَقْدِيمِ النِّيَّة عَلَيْهِ . قَوْله تَعَالَى : | وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِق | وَاخْتَلَفَ النَّاس فِي دُخُول الْمَرَافِق فِي التَّحْدِيد ; فَقَالَ قَوْم : نَعَمْ ; لِأَنَّ مَا بَعْد | إِلَى | إِذَا كَانَ مِنْ نَوْع مَا قَبْلهَا دَخَلَ فِيهِ ; قَالَ سِيبَوَيْهِ وَغَيْره , وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي | الْبَقَرَة | مُبَيَّنًا , وَقِيلَ : لَا يَدْخُل الْمَرْفِقَانِ فِي الْغَسْل ; وَالرِّوَايَتَانِ مَرْوِيَّتَانِ عَنْ مَالِك ; الثَّانِيَة لِأَشْهَبَ ; وَالْأُولَى عَلَيْهَا أَكْثَرُ الْعُلَمَاء وَهُوَ الصَّحِيح ; لِمَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ جَابِر أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا تَوَضَّأَ أَدَارَ الْمَاء عَلَى مَرْفِقَيْهِ , وَقَدْ قَالَ بَعْضهمْ : إِنَّ | إِلَى | بِمَعْنَى مَعَ , كَقَوْلِهِمْ : الذَّوْد إِلَى الذَّوْد إِبِل , أَيْ مَعَ الذَّوْد , وَهَذَا لَا يُحْتَاج إِلَيْهِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي | النِّسَاء | ; وَلِأَنَّ الْيَد عِنْد الْعَرَب تَقَع عَلَى أَطْرَاف الْأَصَابِع إِلَى الْكَتِف , وَكَذَلِكَ الرِّجْل تَقَع عَلَى الْأَصَابِع إِلَى أَصْل الْفَخِذ ; فَالْمِرْفَق دَاخِل تَحْت اِسْم الْيَد , فَلَوْ كَانَ الْمَعْنَى مَعَ الْمَرَافِق لَمْ يُفِدْ , فَلَمَّا قَالَ : | إِلَى | اِقْتَطَعَ مِنْ حَدّ الْمَرَافِق عَنْ الْغَسْل , وَبَقِيَتْ الْمَرَافِق مَغْسُولَة إِلَى الظُّفْر , وَهَذَا كَلَام صَحِيح يَجْرِي عَلَى الْأُصُول لُغَة وَمَعْنًى ; قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَمَا فَهِمَ أَحَد مَقْطَع الْمَسْأَلَة إِلَّا الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّد فَإِنَّهُ قَالَ : إِنَّ قَوْله | إِلَى الْمَرَافِق | حَدّ لِلْمَتْرُوكِ مِنْ الْيَدَيْنِ لَا لِلْمَغْسُولِ فِيهِمَا ; وَلِذَلِكَ تَدْخُل الْمَرَافِق فِي الْغُسْل . قُلْت : وَلَمَّا كَانَ الْيَد وَالرِّجْل تَنْطَلِق فِي اللُّغَة عَلَى مَا ذَكَرْنَا كَانَ أَبُو هُرَيْرَة يَبْلُغ بِالْوُضُوءِ إِبْطه وَسَاقه وَيَقُول : سَمِعْت خَلِيلِي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( تَبْلُغ الْحِلْيَة مِنْ الْمُؤْمِن حَيْثُ يَبْلُغ الْوُضُوء ) . قَالَ الْقَاضِي عِيَاض : وَالنَّاس مُجْمِعُونَ عَلَى خِلَاف هَذَا , وَأَلَّا يَتَعَدَّى بِالْوُضُوءِ حُدُوده ; لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( فَمَنْ زَادَ فَقَدْ تَعَدَّى وَظَلَمَ ) . وَقَالَ غَيْره : كَانَ هَذَا الْفِعْل مَذْهَبًا لَهُ وَمِمَّا اِنْفَرَدَ بِهِ , وَلَمْ يَحْكِهِ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا اِسْتَنْبَطَهُ مِنْ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( أَنْتُمْ الْغُرّ الْمُحَجَّلُونَ ) وَمِنْ قَوْله : ( تَبْلُغ الْحِلْيَة ) كَمَا ذُكِرَ . قَوْله تَعَالَى : | وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ | تَقَدَّمَ فِي | النِّسَاء | أَنَّ الْمَسْح لَفْظ مُشْتَرَك , وَأَمَّا الرَّأْس فَهُوَ عِبَارَة عَنْ الْجُمْلَة الَّتِي يَعْلَمهَا النَّاس ضَرُورَة وَمِنْهَا الْوَجْه , فَلَمَّا ذَكَرَهُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فِي الْوُضُوء وَعَيَّنَ الْوَجْه لِلْغَسْلِ بَقِيَ بَاقِيه لِلْمَسْحِ , وَلَوْ لَمْ يَذْكُر الْغَسْل لَلَزِمَ مَسْح جَمِيعه , مَا عَلَيْهِ شَعْر مِنْ الرَّأْس وَمَا فِيهِ الْعَيْنَانِ وَالْأَنْف وَالْفَم ; وَقَدْ أَشَارَ مَالِك فِي وُجُوب مَسْح الرَّأْس إِلَى مَا ذَكَرْنَاهُ ; فَإِنَّهُ سُئِلَ عَنْ الَّذِي يَتْرُك بَعْض رَأْسه فِي الْوُضُوء فَقَالَ : أَرَأَيْت إِنْ تَرَكَ غَسْل بَعْض وَجْهه أَكَانَ يُجْزِئهُ ؟ وَوَضَحَ بِهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَنَّ الْأُذُنَيْنِ مِنْ الرَّأْس , وَأَنَّ حُكْمهمَا حُكْم الرَّأْس خِلَافًا لِلزُّهْرِيِّ , حَيْثُ قَالَ : هُمَا مِنْ الْوَجْه يُغْسَلَانِ مَعَهُ , وَخِلَافًا لِلشَّعْبِيِّ , حَيْثُ قَالَ : مَا أَقْبَلَ مِنْهُمَا مِنْ الْوَجْه وَظَاهِرهمَا مِنْ الرَّأْس ; وَهُوَ قَوْل الْحَسَن وَإِسْحَاق , وَحَكَاهُ اِبْن أَبِي هُرَيْرَة عَنْ الشَّافِعِيّ , وَسَيَأْتِي بَيَان حُجَّتهمَا ; وَإِنَّمَا سُمِّيَ الرَّأْس رَأْسًا لِعُلُوِّهِ وَنَبَات الشَّعْر فِيهِ , وَمِنْهُ رَأْس الْجَبَل ; وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ الرَّأْس اِسْم لِجُمْلَةِ أَعْضَاء لِقَوْلِ الشَّاعِر : <br>إِذَا اِحْتَمَلُوا رَأْسِي وَفِي الرَّأْس أَكْثَرِي .......... وَغُودِرَ عِنْد الْمُلْتَقَى ثَمَّ سَائِرِي <br>وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي تَقْدِير مَسْحه عَلَى أَحَد عَشَر قَوْلًا ; ثَلَاثَة لِأَبِي حَنِيفَة , وَقَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ , وَسِتَّة أَقْوَال لِعُلَمَائِنَا ; وَالصَّحِيح مِنْهَا وَاحِد وَهُوَ وُجُوب التَّعْمِيم لِمَا ذَكَرْنَاهُ . وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ مَنْ مَسَحَ رَأْسه كُلّه فَقَدْ أَحْسَنَ وَفَعَلَ مَا يَلْزَمهُ ; وَالْبَاء مُؤَكِّدَة زَائِدَة لَيْسَتْ لِلتَّبْعِيضِ : وَالْمَعْنَى وَامْسَحُوا رُءُوسكُمْ , وَقِيلَ : دُخُولهَا هُنَا كَدُخُولِهَا فِي التَّيَمُّم فِي قَوْله : | فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ | فَلَوْ كَانَ مَعْنَاهَا التَّبْعِيض لَأَفَادَتْهُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِع , وَهَذَا قَاطِع . وَقِيلَ : إِنَّمَا دَخَلَتْ لِتُفِيدَ مَعْنًى بَدِيعًا وَهُوَ أَنَّ الْغَسْل لُغَة يَقْتَضِي مَغْسُولًا بِهِ , وَالْمَسْح لُغَة لَا يَقْتَضِي مَمْسُوحًا بِهِ ; فَلَوْ قَالَ : وَامْسَحُوا رُءُوسكُمْ لَأَجْزَأَ الْمَسْح بِالْيَدِ إِمْرَارًا مِنْ غَيْر شَيْء عَلَى الرَّأْس ; فَدَخَلَتْ الْبَاء لِتُفِيدَ مَمْسُوحًا بِهِ وَهُوَ الْمَاء , فَكَأَنَّهُ قَالَ : وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ الْمَاء ; وَذَلِكَ فَصِيح فِي اللُّغَة عَلَى وَجْهَيْنِ ; إِمَّا عَلَى الْقَلْب كَمَا أَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ : <br>كَنُوَاحِ رِيش حَمَامَة بَخْدِيَّة 53 .......... وَمَسَحْتِ بِاللِّثَتَيْنِ عَصْف الْإِثْمِد <br>وَاللِّثَة هِيَ الْمَمْسُوحَة بِعَصْفِ الْإِثْمِد فَقَلَبَ , وَأَمَّا عَلَى الِاشْتِرَاك فِي الْفِعْل وَالتَّسَاوِي فِي نِسْبَته كَقَوْلِ الشَّاعِر : <br>مِثْل الْقَنَافِذ هَدَّاجُونَ قَدْ بَلَغَتْ .......... نَجْرَان أَوْ بَلَغَتْ سَوْءَاتهمْ هَجَرُ <br>فَهَذَا مَا لِعُلَمَائِنَا فِي مَعْنَى الْبَاء , وَقَالَ الشَّافِعِيّ : اِحْتَمَلَ قَوْل اللَّه تَعَالَى : | وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ | بَعْض الرَّأْس وَمَسْح جَمِيعه فَدَلَّتْ السُّنَّة أَنَّ مَسْح بَعْضه يُجْزِئ , وَهُوَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ ; وَقَالَ فِي مَوْضِع آخَر : فَإِنْ قِيلَ قَدْ قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : | فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ | فِي التَّيَمُّم أَيُجْزِئُ بَعْض الْوَجْه فِيهِ ؟ قِيلَ لَهُ : مَسْح الْوَجْه فِي التَّيَمُّم بَدَل مِنْ غَسْله ; فَلَا بُدّ أَنْ يَأْتِيَ بِالْمَسْحِ عَلَى جَمِيع مَوْضِع الْغَسْل مِنْهُ , وَمَسْح الرَّأْس أَصْل ; فَهَذَا فَرْق مَا بَيْنهمَا . أَجَابَ عُلَمَاؤُنَا عَنْ الْحَدِيث بِأَنْ قَالُوا : لَعَلَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ ذَلِكَ لِعُذْرٍ لَا سِيَّمَا وَكَانَ هَذَا الْفِعْل مِنْهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السَّفَر وَهُوَ مَظِنَّة الْأَعْذَار , وَمَوْضِع الِاسْتِعْجَال وَالِاخْتِصَار , وَحَذْف كَثِير مِنْ الْفَرَائِض لِأَجْلِ الْمَشَقَّات وَالْأَخْطَار ; ثُمَّ هُوَ لَمْ يَكْتَفِ بِالنَّاصِيَةِ حَتَّى مَسَحَ عَلَى الْعِمَامَة ; أَخْرَجَهُ مُسْلِم مِنْ حَدِيث الْمُغِيرَة بْن شُعْبَة ; فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَسْح جَمِيع الرَّأْس وَاجِبًا لَمَا مَسَحَ عَلَى الْعِمَامَة ; وَاللَّه أَعْلَمُ . وَجُمْهُور الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ مَسْحَة وَاحِدَة مُوعِبَة كَامِلَة تُجْزِئ , وَقَالَ الشَّافِعِيّ : يَمْسَح رَأْسه ثَلَاثًا ; وَرُوِيَ عَنْ أَنَس وَسَعِيد بْن جُبَيْر وَعَطَاء , وَكَانَ اِبْن سِيرِينَ يَمْسَح مَرَّتَيْنِ . قَالَ أَبُو دَاوُد : وَأَحَادِيث عُثْمَان الصِّحَاح كُلّهَا تَدُلّ عَلَى أَنَّ مَسْح الرَّأْس مَرَّة ; فَإِنَّهُمْ ذَكَرُوا الْوُضُوء ثَلَاثًا , قَالُوا فِيهَا : وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ وَلَمْ يَذْكُرُوا عَدَدًا . وَاخْتَلَفُوا مِنْ أَيْنَ يَبْدَأ بِمَسْحِهِ ; فَقَالَ مَالِك : يَبْدَأ بِمُقَدَّمِ رَأْسه , ثُمَّ يَذْهَب بِيَدَيْهِ إِلَى مُؤَخَّره , ثُمَّ يَرُدّهُمَا إِلَى مُقَدَّمه ; عَلَى حَدِيث عَبْد اللَّه بْن زَيْد أَخْرَجَهُ مُسْلِم ; وَبِهِ يَقُول الشَّافِعِيّ وَابْن حَنْبَل , وَكَانَ الْحَسَن بْن حَيّ يَقُول : يَبْدَأ بِمُؤَخَّرِ الرَّأْس ; عَلَى حَدِيث الرُّبَيِّع بِنْت مُعَوِّذ بْن عَفْرَاء ; وَهُوَ حَدِيث يُخْتَلَف فِي أَلْفَاظه , وَهُوَ يَدُور عَلَى عَبْد اللَّه بْن مُحَمَّد بْن عَقِيل وَلَيْسَ بِالْحَافِظِ عِنْدهمْ ; أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد مِنْ رِوَايَة بِشْر بْن الْمُفَضَّل عَنْ عَبْد اللَّه عَنْ الرُّبَيِّع , وَرَوَى اِبْن عَجْلَان عَنْهُ عَنْ الرُّبَيِّع : أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ عِنْدنَا فَمَسَحَ الرَّأْس كُلّه مِنْ قَرْن الشَّعْر كُلّ نَاحِيَة بِمُنْصَبّ الشَّعْر , لَا يُحَرِّك الشَّعْر عَنْ هَيْئَته ; وَرُوِيَتْ هَذِهِ الصِّفَة عَنْ اِبْن عُمَر , وَأَنَّهُ كَانَ يَبْدَأ مِنْ وَسَط رَأْسه , وَأَصَحّ مَا فِي هَذَا الْبَاب حَدِيث عَبْد اللَّه بْن زَيْد ; وَكُلّ مَنْ أَجَازَ بَعْض الرَّأْس فَإِنَّمَا يَرَى ذَلِكَ الْبَعْض فِي مُقَدَّم الرَّأْس . وَرُوِيَ عَنْ إِبْرَاهِيم وَالشَّعْبِيّ أَنَّهُمَا قَالَا : أَيّ نَوَاحِي رَأْسك مَسَحْت أَجْزَأَ عَنْك , وَمَسَحَ عُمَر الْيَافُوخ فَقَطْ , وَالْإِجْمَاع مُنْعَقِد عَلَى اِسْتِحْسَان الْمَسْح بِالْيَدَيْنِ مَعًا , وَعَلَى الْإِجْزَاء إِنْ مَسَحَ بِيَدٍ وَاحِدَة , وَاخْتُلِفَ فِيمَنْ مَسَحَ بِإِصْبَعٍ وَاحِدَة حَتَّى عَمَّ مَا يَرَى أَنَّهُ يُجْزِئهُ مِنْ الرَّأْس ; فَالْمَشْهُور أَنَّ ذَلِكَ يُجْزِئ , وَهُوَ قَوْل سُفْيَان الثَّوْرِيّ ; قَالَ سُفْيَان : إِنْ مَسَحَ رَأْسه بِإِصْبَعٍ وَاحِدَة أَجْزَأَهُ , وَقِيلَ : إِنَّ ذَلِكَ لَا يُجْزِئ ; لِأَنَّهُ خُرُوج عَنْ سُنَّة الْمَسْح وَكَأَنَّهُ لَعِب , إِلَّا أَنْ يَكُون ذَلِكَ عَنْ ضَرُورَة مَرَض فَيَنْبَغِي أَلَّا يُخْتَلَف فِي الْإِجْزَاء . قَالَ أَبُو حَنِيفَة وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمَّد : لَا يُجْزِئ مَسْح الرَّأْس بِأَقَلّ مِنْ ثَلَاث أَصَابِع ; وَاخْتَلَفُوا فِي رَدّ الْيَدَيْنِ عَلَى شَعْر الرَّأْس هَلْ هُوَ فَرْض أَوْ سُنَّة - بَعْد الْإِجْمَاع عَلَى أَنَّ الْمَسْحَة الْأُولَى فَرْض بِالْقُرْآنِ - فَالْجُمْهُور عَلَى أَنَّهُ سُنَّة , وَقِيلَ : هُوَ فَرْض . فَلَوْ غَسَلَ مُتَوَضِّئ رَأْسه بَدَل الْمَسْح فَقَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : لَا نَعْلَم خِلَافًا أَنَّ ذَلِكَ يُجْزِئهُ , إِلَّا مَا أَخْبَرَنَا الْإِمَام فَخْر الْإِسْلَام الشَّاشِيّ فِي الدَّرْس عَنْ أَبِي الْعَبَّاس بْن الْقَاصّ مِنْ أَصْحَابهمْ قَالَ : لَا يُجْزِئهُ , وَهَذَا تَوَلُّج فِي مَذْهَب الدَّاوُدِيَّة الْفَاسِد مِنْ اِتِّبَاع الظَّاهِر الْمُبْطِل لِلشَّرِيعَةِ الَّذِي ذَمَّهُ اللَّه فِي قَوْله : | يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنْ الْحَيَاة الدُّنْيَا | [ الرُّوم : 7 ] , وَقَالَ تَعَالَى : | أَمْ بِظَاهِرٍ مِنْ الْقَوْل | [ الرَّعْد : 33 ] وَإِلَّا فَقَدْ جَاءَ هَذَا الْغَاسِل بِمَا أُمِرَ وَزِيَادَة . فَإِنْ قِيلَ : هَذِهِ زِيَادَة خَرَجَتْ عَنْ اللَّفْظ الْمُتَعَبَّد بِهِ ; قُلْنَا : وَلَمْ يَخْرُج عَنْ مَعْنَاهُ فِي إِيصَال الْفِعْل إِلَى الْمَحَلّ ; وَكَذَلِكَ لَوْ مَسَحَ رَأْسه ثُمَّ حَلَقَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إِعَادَة الْمَسْح . وَأَمَّا الْأُذُنَانِ فَهُمَا مِنْ الرَّأْس عِنْد مَالِك وَأَحْمَد وَالثَّوْرِيّ وَأَبِي حَنِيفَة وَغَيْرهمْ , ثُمَّ اِخْتَلَفُوا فِي تَجْدِيد الْمَاء ; فَقَالَ مَالِك وَأَحْمَد : يَسْتَأْنِف لَهُمَا مَاء جَدِيدًا سِوَى الْمَاء الَّذِي مَسَحَ بِهِ الرَّأْس , عَلَى مَا فَعَلَ اِبْن عُمَر ; وَهَكَذَا قَالَ الشَّافِعِيّ فِي تَجْدِيد الْمَاء , وَقَالَ : هُمَا سُنَّة عَلَى حَالهمَا لَا مِنْ الْوَجْه وَلَا مِنْ الرَّأْس ; لِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّهُ لَا يَحْلِق مَا عَلَيْهِمَا مِنْ الشَّعْر فِي الْحَجّ ; وَقَوْل أَبِي ثَوْر فِي هَذَا كَقَوْلِ الشَّافِعِيّ , وَقَالَ الثَّوْرِيّ وَأَبُو حَنِيفَة : يُمْسَحَانِ مَعَ الرَّأْس بِمَاءٍ وَاحِد ; وَرُوِيَ عَنْ جَمَاعَة مِنْ السَّلَف مِثْل هَذَا الْقَوْل مِنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ , وَقَالَ دَاوُد : إِنْ مَسَحَ أُذُنَيْهِ فَحَسَن , وَإِلَّا فَلَا شَيْء عَلَيْهِ ; إِذْ لَيْسَتَا مَذْكُورَتَيْنِ فِي الْقُرْآن . قِيلَ لَهُ : اِسْم الرَّأْس تَضَمَّنَهُمَا كَمَا بَيَّنَّاهُ , وَقَدْ جَاءَتْ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة فِي كِتَاب النَّسَائِيّ وَأَبِي دَاوُد وَغَيْرهمَا بِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَحَ ظَاهِرهمَا وَبَاطِنهمَا , وَأَدْخَلَ أَصَابِعه فِي صِمَاخَيْهِ , وَإِنَّمَا يَدُلّ عَدَم ذِكْرهمَا مِنْ الْكِتَاب عَلَى أَنَّهُمَا لَيْسَتَا بِفَرْضٍ كَغَسْلِ الْوَجْه وَالْيَدَيْنِ , وَثَبَتَتْ سُنَّة مَسْحهمَا بِالسُّنَّةِ , وَأَهْل الْعِلْم يَكْرَهُونَ لِلْمُتَوَضِّئِ تَرْك مَسْح أُذُنَيْهِ وَيَجْعَلُونَهُ تَارِك سُنَّة مِنْ سُنَن النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَلَا يُوجِبُونَ عَلَيْهِ إِعَادَة إِلَّا إِسْحَاق فَإِنَّهُ قَالَ : إِنْ تَرَكَ مَسْح أُذُنَيْهِ لَمْ يُجْزِهِ , وَقَالَ أَحْمَد : إِنْ تَرَكَهُمَا عَمْدًا أَحْبَبْت أَنْ يُعِيد , وَرُوِيَ عَنْ عَلِيّ بْن زِيَاد مِنْ أَصْحَاب مَالِك أَنَّهُ قَالَ : مَنْ تَرَكَ سُنَّة مِنْ سُنَن الْوُضُوء أَوْ الصَّلَاة عَامِدًا أَعَادَ ; وَهَذَا عِنْد الْفُقَهَاء ضَعِيف , وَلَيْسَ لِقَائِلِهِ سَلَف وَلَا لَهُ حَظّ مِنْ النَّظَر , وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يُعْرَف الْفَرْض الْوَاجِب مِنْ غَيْره ; وَاللَّه أَعْلَمُ . اِحْتَجَّ مَنْ قَالَ : هُمَا مِنْ الْوَجْه بِمَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُول فِي سُجُوده : ( سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ وَصَوَّرَهُ وَشَقَّ سَمْعه وَبَصَره ) فَأَضَافَ السَّمْع إِلَى الْوَجْه فَثَبَتَ أَنْ يَكُون لَهُمَا حُكْم الْوَجْه , وَفِي مُصَنَّف أَبِي دَاوُد مِنْ حَدِيث عُثْمَان : فَغَسَلَ بُطُونهمَا وَظُهُورهمَا مَرَّة وَاحِدَة , ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ ثُمَّ قَالَ : أَيْنَ السَّائِلُونَ عَنْ الْوُضُوء ؟ هَكَذَا رَأَيْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأ . اِحْتَجَّ مَنْ قَالَ : يُغْسَل ظَاهِرهمَا مَعَ الْوَجْه , وَبَاطِنهَا يُمْسَح مَعَ الرَّأْس بِأَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَمَرَ بِغَسْلِ الْوَجْه وَأَمَرَ بِمَسْحِ الرَّأْس ; فَمَا وَاجَهَك مِنْ الْأُذُنَيْنِ وَجَبَ غَسْله ; لِأَنَّهُ مِنْ الْوَجْه وَمَا لَمْ يُوَاجِهك وَجَبَ مَسْحه لِأَنَّهُ مِنْ الرَّأْس , وَهَذَا تَرُدّهُ الْآثَار بِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَمْسَح ظَاهِر أُذُنَيْهِ وَبَاطِنهمَا مِنْ حَدِيث عَلِيّ وَعُثْمَان وَابْن عَبَّاس وَالرُّبَيِّع وَغَيْرهمْ . اِحْتَجَّ مَنْ قَالَ : هُمَا مِنْ الرَّأْس بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيث الصُّنَابِحِيّ : ( فَإِذَا مَسَحَ رَأْسه خَرَجَتْ الْخَطَايَا مِنْ رَأْسه حَتَّى تَخْرُج مِنْ أُذُنَيْهِ ) الْحَدِيث أَخْرَجَهُ مَالِك . قَوْله تَعَالَى : | وَأَرْجُلَكُمْ | قَرَأَ نَافِع وَابْن عَامِر وَالْكِسَائِيّ | وَأَرْجُلَكُمْ | بِالنَّصْبِ ; وَرَوَى الْوَلِيد بْن مُسْلِم عَنْ نَافِع أَنَّهُ قَرَأَ | وَأَرْجُلُكُمْ | بِالرَّفْعِ وَهِيَ قِرَاءَة الْحَسَن وَالْأَعْمَش سُلَيْمَان ; وَقَرَأَ اِبْن كَثِير وَأَبُو عَمْرو وَحَمْزَة | وَأَرْجُلِكُمْ | بِالْخَفْضِ وَبِحَسَبِ هَذِهِ الْقِرَاءَات اِخْتَلَفَ الصَّحَابَة وَالتَّابِعُونَ ; فَمَنْ قَرَأَ بِالنَّصْبِ جَعَلَ الْعَامّ | اِغْسِلُوا | وَبَنَى عَلَى أَنَّ الْفَرْض فِي الرِّجْلَيْنِ الْغَسْل دُون الْمَسْح , وَهَذَا مَذْهَب الْجُمْهُور وَالْكَافَّة مِنْ الْعُلَمَاء , وَهُوَ الثَّابِت مِنْ فِعْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَاللَّازِم مِنْ قَوْله فِي غَيْر مَا حَدِيث , وَقَدْ رَأَى قَوْمًا يَتَوَضَّئُونَ وَأَعْقَابهمْ تَلُوح فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْته ( وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنْ النَّار أَسْبِغُوا الْوُضُوء ) . ثُمَّ إِنَّ اللَّه حَدَّهُمَا فَقَالَ : | إِلَى الْكَعْبَيْنِ | كَمَا قَالَ فِي الْيَدَيْنِ | إِلَى الْمَرَافِق | فَدَلَّ عَلَى وُجُوب غَسْلهمَا ; وَاللَّه أَعْلَمُ , وَمَنْ قَرَأَ بِالْخَفْضِ جَعَلَ الْعَامِل الْبَاء , قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : اِتَّفَقَتْ الْعُلَمَاء عَلَى وُجُوب غَسْلهمَا , وَمَا عَلِمْت مَنْ رَدَّ ذَلِكَ سِوَى الطَّبَرِيّ مِنْ فُقَهَاء الْمُسْلِمِينَ , وَالرَّافِضَة مِنْ غَيْرهمْ , وَتَعَلَّقَ الطَّبَرِيّ بِقِرَاءَةِ الْخَفْض . قُلْت : قَدْ رُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ قَالَ : الْوُضُوء غَسْلَتَانِ وَمَسْحَتَانِ , وَرُوِيَ أَنَّ الْحَجَّاج خَطَبَ بِالْأَهْوَازِ فَذَكَرَ الْوُضُوء فَقَالَ : اِغْسِلُوا وُجُوهكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلكُمْ , فَإِنَّهُ لَيْسَ شَيْء مِنْ اِبْن آدَم أَقْرَبَ مِنْ خَبَثه مِنْ قَدَمَيْهِ , فَاغْسِلُوا بُطُونهمَا وَظُهُورهمَا وَعَرَاقِيبهمَا . فَسَمِعَ ذَلِكَ أَنَس بْن مَالِك فَقَالَ : صَدَقَ اللَّه وَكَذَبَ الْحَجَّاج ; قَالَ اللَّه وَتَعَالَى : | وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلكُمْ | . قَالَ : وَكَانَ إِذَا مَسَحَ رِجْلَيْهِ بَلَّهُمَا , وَرُوِيَ عَنْ أَنَس أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ : نَزَلَ الْقُرْآن بِالْمَسْحِ وَالسُّنَّة بِالْغَسْلِ , وَكَانَ عِكْرِمَة يَمْسَح رِجْلَيْهِ وَقَالَ : لَيْسَ فِي الرِّجْلَيْنِ غَسْل إِنَّمَا نَزَلَ فِيهِمَا الْمَسْح , وَقَالَ عَامِر الشَّعْبِيّ : نَزَلَ جِبْرِيل بِالْمَسْحِ ; أَلَا تَرَى أَنَّ التَّيَمُّم يُمْسَح فِيهِ مَا كَانَ غَسْلًا , وَيُلْغَى مَا كَانَ مَسْحًا , وَقَالَ قَتَادَة : اِفْتَرَضَ اللَّه غَسْلَتَيْنِ وَمَسْحَتَيْنِ , وَذَهَبَ اِبْن جَرِير الطَّبَرِيّ إِلَى أَنَّ فَرْضهمَا التَّخْيِير بَيْن الْغَسْل وَالْمَسْح , وَجَعَلَ الْقِرَاءَتَيْنِ كَالرِّوَايَتَيْنِ ; قَالَ النَّحَّاس : وَمِنْ أَحْسَنِ مَا قِيلَ فِيهِ أَنَّ الْمَسْح وَالْغَسْل وَاجِبَانِ جَمِيعًا , فَالْمَسْح وَاجِب عَلَى قِرَاءَة مَنْ قَرَأَ بِالْخَفْضِ , وَالْغَسْل وَاجِب عَلَى قِرَاءَة مَنْ قَرَأَ بِالنَّصْبِ , وَالْقِرَاءَتَانِ بِمَنْزِلَةِ آيَتَيْنِ . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَذَهَبَ قَوْم مِمَّنْ يَقْرَأ بِالْكَسْرِ إِلَى أَنَّ الْمَسْح فِي الرِّجْلَيْنِ هُوَ الْغَسْل . قُلْت : وَهُوَ الصَّحِيح ; فَإِنَّ لَفْظ الْمَسْح مُشْتَرَك , يُطْلَق بِمَعْنَى الْمَسْح وَيُطْلَق بِمَعْنَى الْغَسْل ; قَالَ الْهَرَوِيّ : أَخْبَرَنَا الْأَزْهَرِيّ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْر مُحَمَّد بْن عُثْمَان بْن سَعِيد الدَّارِيّ عَنْ أَبِي حَاتِم عَنْ أَبِي زَيْد الْأَنْصَارِيّ قَالَ : الْمَسْح فِي كَلَام الْعَرَب يَكُون غَسْلًا وَيَكُون مَسْحًا , وَمِنْهُ يُقَال لِلرَّجُلِ إِذَا تَوَضَّأَ فَغَسَلَ أَعْضَاءَهُ : قَدْ تَمَسَّحَ ; وَيُقَال : مَسَحَ اللَّه مَا بِك إِذَا غَسَلَك وَطَهَّرَك مِنْ الذُّنُوب , فَإِذَا ثَبَتَ بِالنَّقْلِ عَنْ الْعَرَب أَنَّ الْمَسْح يَكُون بِمَعْنَى الْغَسْل فَتَرَجَّحَ قَوْل مَنْ قَالَ : إِنَّ الْمُرَاد بِقِرَاءَةِ الْخَفْض الْغَسْل ; بِقِرَاءَةِ النَّصْب الَّتِي لَا اِحْتِمَال فِيهَا , وَبِكَثْرَةِ الْأَحَادِيث الثَّابِتَة بِالْغَسْلِ , وَالتَّوَعُّد عَلَى تَرْك غَسْلهَا فِي أَخْبَار صِحَاح لَا تُحْصَى كَثْرَة أَخْرَجَهَا الْأَئِمَّة ; ثُمَّ إِنَّ الْمَسْح فِي الرَّأْس إِنَّمَا دَخَلَ بَيْن مَا يُغْسَل لِبَيَانِ التَّرْتِيب عَلَى أَنَّهُ مَفْعُول قَبْل الرِّجْلَيْنِ , التَّقْدِير فَاغْسِلُوا وُجُوهكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِلَى الْمَرَافِق وَأَرْجُلكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ ; فَلَمَّا كَانَ الرَّأْس مَفْعُولًا قَبْل الرِّجْلَيْنِ قُدِّمَ عَلَيْهِمَا فِي التِّلَاوَة - وَاللَّه أَعْلَمُ - لَا أَنَّهُمَا مُشْتَرِكَانِ مَعَ الرَّأْس لِتَقَدُّمِهِ عَلَيْهِمَا فِي صِفَة التَّطْهِير , وَقَدْ رَوَى عَاصِم بْن كُلَيْب عَنْ أَبِي عَبْد الرَّحْمَن السُّلَمِيّ قَالَ : قَرَأَ الْحَسَن وَالْحُسَيْن - رَحْمَة اللَّه عَلَيْهِمَا - عَلَيَّ ( وَأَرْجُلِكُمْ ) فَسَمِعَ عَلِيّ ذَلِكَ وَكَانَ يَقْضِي بَيْن النَّاس فَقَالَ : ( وَأَرْجُلَكُمْ ) هَذَا مِنْ الْمُقَدَّم وَالْمُؤَخَّر مِنْ الْكَلَام , وَرَوَى أَبُو إِسْحَاق عَنْ الْحَارِث عَنْ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : اِغْسِلُوا الْأَقْدَام إِلَى الْكَعْبَيْنِ , وَكَذَا رُوِيَ عَنْ اِبْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس أَنَّهُمَا قَرَآ ( وَأَرْجُلكُمْ ) بِالنَّصْبِ , وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ الْخَفْض فِي الرِّجْلَيْنِ إِنَّمَا جَاءَ مُقَيَّدًا لِمَسْحِهِمَا لَكِنْ إِذَا كَانَ عَلَيْهِمَا خُفَّانِ , وَتَلَقَّيْنَا هَذَا الْقَيْد مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , إِذْ لَمْ يَصِحّ عَنْهُ أَنَّهُ مَسَحَ رِجْلَيْهِ إِلَّا وَعَلَيْهِمَا خُفَّانِ , فَبَيَّنَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِفِعْلِهِ الْحَال الَّتِي تُغْسَل فِيهِ الرِّجْل وَالْحَال الَّتِي تُمْسَح فِيهِ , وَهَذَا حَسَن . فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الْمَسْح عَلَى الْخُفَّيْنِ مَنْسُوخ بِسُورَةِ ( الْمَائِدَة ) - وَقَدْ قَالَهُ ابْن عَبَّاس , وَرَدَّ الْمَسْح أَبُو هُرَيْرَة وَعَائِشَة , وَأَنْكَرَهُ مَالِك فِي رِوَايَة عَنْهُ - فَالْجَوَاب أَنَّ مَنْ نَفَى شَيْئًا وَأَثْبَتَهُ غَيْره فَلَا حُجَّة لِلنَّافِي , وَقَدْ أَثْبَتَ الْمَسْح عَلَى الْخُفَّيْنِ عَدَد كَثِير مِنْ الصَّحَابَة وَغَيْرهمْ , وَقَدْ قَالَ الْحَسَن : حَدَّثَنِي سَبْعُونَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ مَسَحُوا عَلَى الْخُفَّيْنِ ; وَقَدْ ثَبَتَ بِالنَّقْلِ الصَّحِيح عَنْ هَمَّام قَالَ : بَالَ جَرِير ثُمَّ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ ; قَالَ إِبْرَاهِيم النَّخَعِيّ : وَإِنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَالَ ثُمَّ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ , وَقَالَ إِبْرَاهِيم النَّخَعِيّ : كَانَ يُعْجِبهُمْ هَذَا الْحَدِيث ; لِأَنَّ إِسْلَام جَرِير كَانَ بَعْد نُزُول ( الْمَائِدَة ) وَهَذَا نَصّ يَرُدّ مَا ذَكَرُوهُ وَمَا اِحْتَجُّوا بِهِ مِنْ رِوَايَة الْوَاقِدِيّ عَنْ عَبْد الْحَمِيد بْن جَعْفَر عَنْ أَبِيهِ أَنَّ جَرِيرًا أَسْلَمَ فِي سِتَّة عَشَرَ مِنْ شَهْر رَمَضَان , وَأَنَّ ( الْمَائِدَة ) نَزَلَتْ فِي ذِي الْحِجَّة يَوْم عَرَفَات , وَهَذَا حَدِيث لَا يَثْبُت لِوَهَاهُ ; وَإِنَّمَا نَزَلَ مِنْهَا يَوْم عَرَفَة | الْيَوْم أَكْمَلْت لَكُمْ دِينكُمْ | عَلَى مَا تَقَدَّمَ ; قَالَ أَحْمَد بْن حَنْبَل : أَنَا أَسْتَحْسِن حَدِيث جَرِير فِي الْمَسْح عَلَى الْخُفَّيْنِ ; لِأَنَّ إِسْلَامه كَانَ بَعْد نُزُول ( الْمَائِدَة ) وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة وَعَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا فَلَا يَصِحّ , أَمَّا عَائِشَة فَلَمْ يَكُنْ عِنْدهَا بِذَلِك

وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ

قِيلَ : هُوَ الْمِيثَاق الَّذِي فِي قَوْله عَزَّ وَجَلَّ : | وَإِذْ أَخَذَ رَبّك مِنْ بَنِي آدَم | [ الْأَعْرَاف : 172 ] ; قَالَ مُجَاهِد وَغَيْره , وَنَحْنُ وَإِنْ لَمْ نَذْكُرهُ فَقَدْ أَخْبَرَنَا الصَّادِق بِهِ , فَيَجُوز أَنْ نُؤْمَر بِالْوَفَاءِ بِهِ , وَقِيلَ : هُوَ خِطَاب لِلْيَهُودِ بِحِفْظِ مَا أُخِذَ عَلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاة ; وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور مِنْ الْمُفَسِّرِينَ كَابْنِ عَبَّاس وَالسُّدِّيّ هُوَ الْعَهْد وَالْمِيثَاق الَّذِي جَرَى لَهُمْ مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْع وَالطَّاعَة فِي الْمَنْشَط وَالْمَكْرَه إِذْ قَالُوا : سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا , كَمَا جَرَى لَيْلَة الْعَقَبَة وَتَحْت الشَّجَرَة , وَأَضَافَهُ تَعَالَى إِلَى نَفْسه كَمَا قَالَ : | إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّه | [ الْفَتْح : 10 ] فَبَايَعُوا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْد الْعَقَبَة عَلَى أَنْ يَمْنَعُوهُ مِمَّا يَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسهمْ وَنِسَاءَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ , وَأَنْ يَرْحَل إِلَيْهِمْ هُوَ وَأَصْحَابه , وَكَانَ أَوَّل مَنْ بَايَعَهُ الْبَرَاء بْن مَعْرُور , وَكَانَ لَهُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَة الْمَقَام الْمَحْمُود فِي التَّوَثُّق لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَالشَّدّ لِعَقْدِ أَمْره , وَهُوَ الْقَائِل : وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ لَأَمْنَعَنَّك مِمَّا نَمْنَع مِنْهُ أُزُرَنَا , فَبَايِعْنَا يَا رَسُول اللَّه فَنَحْنُ وَاَللَّه أَبْنَاء الْحُرُوب وَأَهْل الْحَلْقَة وَرِثْنَاهَا كَابِرًا عَنْ كَابِر . الْخَبَر الْمَشْهُور فِي سِيرَة اِبْن إِسْحَاق , وَيَأْتِي ذِكْر بَيْعَة الرِّضْوَان فِي مَوْضِعهَا , وَقَدْ اِتَّصَلَ هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : | أَوْفُوا بِالْعُقُودِ | [ الْمَائِدَة : 1 ] فَوَفَّوْا بِمَا قَالُوا ; جَزَاهُمْ اللَّه تَعَالَى عَنْ نَبِيّهمْ وَعَنْ الْإِسْلَام خَيْرًا , وَرَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ .|وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ|أَيْ فِي مُخَالَفَته إِنَّهُ عَالِم بِكُلِّ شَيْء .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ

الْآيَة تَقَدَّمَ مَعْنَاهَا فِي | النِّسَاء | , وَالْمَعْنَى : أَتْمَمْت عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي فَكُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ , أَيْ لِأَجْلِ ثَوَاب اللَّه ; فَقُومُوا بِحَقِّهِ , وَاشْهَدُوا بِالْحَقِّ مِنْ غَيْر مَيْل إِلَى أَقَارِبكُمْ , وَحَيْف عَلَى أَعْدَائِكُمْ .|بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا|عَلَى تَرْك الْعَدْل وَإِيثَار الْعُدْوَان عَلَى الْحَقّ , وَفِي هَذَا دَلِيل عَلَى نُفُوذ حُكْم الْعَدُوّ عَلَى عَدُوّهُ فِي اللَّه تَعَالَى وَنُفُوذ شَهَادَته عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ أَمَرَ بِالْعَدْلِ وَإِنْ أَبْغَضَهُ , وَلَوْ كَانَ حُكْمه عَلَيْهِ وَشَهَادَته لَا تَجُوز فِيهِ مَعَ الْبُغْض لَهُ لَمَا كَانَ لِأَمْرِهِ بِالْعَدْلِ فِيهِ وَجْه , وَدَلَّتْ الْآيَة أَيْضًا عَلَى أَنَّ كُفْر الْكَافِر لَا يَمْنَع مِنْ الْعَدْل عَلَيْهِ , وَأَنْ يُقْتَصَر بِهِمْ عَلَى الْمُسْتَحَقّ مِنْ الْقِتَال وَالِاسْتِرْقَاق , وَأَنَّ الْمُثْلَة بِهِمْ غَيْر جَائِزَة وَإِنْ قَتَلُوا نِسَاءَنَا وَأَطْفَالنَا وَغَمُّونَا بِذَلِكَ ; فَلَيْسَ لَنَا أَنْ نَقْتُلهُمْ بِمُثْلَةٍ قَصْدًا لِإِيصَالِ الْغَمّ وَالْحُزْن إِلَيْهِمْ ; وَإِلَيْهِ أَشَارَ عَبْد اللَّه بْن رَوَاحَة بِقَوْلِهِ فِي الْقِصَّة الْمَشْهُورَة : هَذَا مَعْنَى الْآيَة . وَتَقَدَّمَ فِي صَدْر هَذِهِ السُّورَة مَعْنَى قَوْله : | لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآن قَوْم | , وَقُرِئَ | وَلَا يُجْرِمَنَّكُمْ | قَالَ الْكِسَائِيّ : هُمَا لُغَتَانِ . وَقَالَ الزَّجَّاج : مَعْنَى | لَا يُجْرِمَنَّكُمْ | لَا يُدْخِلَنَّكُمْ فِي الْجُرْم ; كَمَا تَقُول : آثَمَنِي أَيْ أَدْخَلَنِي فِي الْإِثْم .|تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا|أَيْ لِأَنْ تَتَّقُوا اللَّه , وَقِيلَ : لِأَنْ تَتَّقُوا النَّار .|اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا|فِيهِ مَعْنَى التَّهْدِيد وَالْوَعِيد .

وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ

أَيْ قَالَ اللَّه فِي حَقّ الْمُؤْمِنِينَ : | لَهُمْ مَغْفِرَة وَأَجْر عَظِيم | أَيْ لَا تَعْرِف كُنْهَهُ أَفْهَامُ الْخَلْق ; كَمَا قَالَ : | فَلَا تَعْلَم نَفْس مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّة أَعْيُن | [ السَّجْدَة : 17 ] , وَإِذَا قَالَ اللَّه تَعَالَى : | أَجْر عَظِيم | و | أَجْر كَرِيم | [ يس : 11 ] و | أَجْر كَبِير | [ هُود : 11 ] فَمَنْ ذَا الَّذِي يَقْدُر قَدْره ؟ , وَلَمَّا كَانَ الْوَعْد مِنْ قَبِيل الْقَوْل حَسُنَ إِدْخَال اللَّام فِي قَوْله : | لَهُمْ مَغْفِرَة | وَهُوَ فِي مَوْضِع نَصْب ; لِأَنَّهُ وَقَعَ مَوْقِع الْمَوْعُود بِهِ , عَلَى مَعْنَى وَعَدَهُمْ أَنَّ لَهُمْ مَغْفِرَة أَوْ وَعَدَهُمْ مَغْفِرَة إِلَّا أَنَّ الْجُمْلَة وَقَعَتْ مَوْقِع الْمُفْرَد ; كَمَا قَالَ الشَّاعِر : <br>وَجَدْنَا الصَّالِحِينَ لَهُمْ جَزَاء .......... وَجَنَّات وَعَيْنًا سَلْسَبِيلَا <br>وَمَوْضِع الْجُمْلَة نَصْب ; وَلِذَلِكَ عُطِفَ عَلَيْهَا بِالنَّصْبِ , وَقِيلَ : هُوَ فِي مَوْضِع رَفْع عَلَى أَنَّ يَكُون الْمَوْعُود بِهِ مَحْذُوفًا ; عَلَى تَقْدِير لَهُمْ مَغْفِرَة وَأَجْر عَظِيم فِيمَا وَعَدَهُمْ بِهِ , وَهَذَا الْمَعْنَى عَنْ الْحَسَن .

وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ

نَزَلَتْ فِي بَنِي النَّضِير , وَقِيلَ فِي جَمِيع الْكُفَّار .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ

قَالَ جَمَاعَة : نَزَلَتْ بِسَبَبِ فِعْل الْأَعْرَابِيّ فِي غَزْوَة ذَات الرِّقَاع حِين اِخْتَرَطَ سَيْف النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ : مَنْ يَعْصِمك مِنِّي يَا مُحَمَّد ؟ كَمَا تَقَدَّمَ فِي | النِّسَاء | , وَفِي الْبُخَارِيّ : أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا النَّاس فَاجْتَمَعُوا وَهُوَ جَالِس عِنْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُعَاقِبهُ , وَذَكَرَ الْوَاقِدِيّ وَابْن أَبِي حَاتِم أَنَّهُ أَسْلَمَ , وَذَكَرَ قَوْم أَنَّهُ ضَرَبَ بِرَأْسِهِ فِي سَاق شَجَرَة حَتَّى مَاتَ , وَفِي الْبُخَارِيّ فِي غَزْوَة ذَات الرِّقَاع أَنَّ اِسْم الرَّجُل غَوْرَث بْن الْحَارِث ( بِالْغَيْنِ مَنْقُوطَة مَفْتُوحَة وَسُكُون الْوَاو بَعْدهَا رَاء وَثَاء مُثَلَّثَة ) وَقَدْ ضَمَّ بَعْضهمْ الْغَيْن , وَالْأَوَّل أَصَحّ , وَذَكَرَ أَبُو حَاتِم مُحَمَّد بْن إِدْرِيس الرَّازِيّ , وَأَبُو عَبْد اللَّه مُحَمَّد بْن عُمَر الْوَاقِدِيّ أَنَّ اِسْمه دُعْثُور بْن الْحَارِث , وَذَكَرَ أَنَّهُ أَسْلَمَ كَمَا تَقَدَّمَ , وَذَكَرَ مُحَمَّد بْن إِسْحَاق أَنَّ اِسْمه عَمْرو بْن جِحَاش وَهُوَ أَخُو بَنِي النَّضِير , وَذَكَرَ بَعْضهمْ أَنَّ قِصَّة عَمْرو بْن جِحَاش فِي غَيْر هَذِهِ الْقِصَّة , وَاَللَّه أَعْلَمُ , وَقَالَ قَتَادَة وَمُجَاهِد وَغَيْرهمَا : نَزَلَتْ فِي قَوْم مِنْ الْيَهُود جَاءَهُمْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَعِينهُمْ فِي دِيَة فَهَمُّوا بِقَتْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنَعَهُ اللَّه مِنْهُمْ . قَالَ الْقُشَيْرِيّ : وَقَدْ تَنْزِل الْآيَة فِي قِصَّة ثُمَّ يَنْزِل ذِكْرُهَا مَرَّة أُخْرَى لِادِّكَارِ مَا سَبَقَ . | أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ | أَيْ بِالسُّوءِ . | فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ | أَيْ مَنَعَهُمْ .

وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآَتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآَمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا

قَالَ اِبْن عَطِيَّة : هَذِهِ الْآيَاتُ الْمُتَضَمِّنَةُ الْخَبَرَ عَنْ نَقْضِهِمْ مَوَاثِيقَ اللَّه تَعَالَى تُقَوِّي أَنَّ الْآيَة الْمُتَقَدِّمَة فِي كَفّ الْأَيْدِي إِنَّمَا كَانَتْ فِي بَنِي النَّضِير , وَاخْتَلَفَ أَهْل التَّأْوِيل فِي كَيْفِيَّة بَعْث هَؤُلَاءِ النُّقَبَاء بَعْد الْإِجْمَاع عَلَى أَنَّ النَّقِيب كَبِير الْقَوْم , الْقَائِم بِأُمُورِهِمْ الَّذِي يُنَقِّب عَنْهَا وَعَنْ مَصَالِحهمْ فِيهَا , وَالنَّقَّاب : الرَّجُل الْعَظِيم الَّذِي هُوَ فِي النَّاس عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَة ; وَمِنْهُ قِيلَ فِي عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : إِنَّهُ كَانَ لَنَقَّابًا . فَالنُّقَبَاء الضُّمَّان , وَاحِدهمْ نَقِيب , وَهُوَ شَاهِد الْقَوْم وَضَمِينهمْ ; يُقَال : نَقَبَ عَلَيْهِمْ , وَهُوَ حَسَن النَّقِيبَة أَيْ حَسَن الْخَلِيقَة , وَالنَّقْب وَالنُّقْب الطَّرِيق فِي الْجَبَل , وَإِنَّمَا قِيلَ : نَقِيب لِأَنَّهُ يَعْلَم دَخِيلَة أَمْر الْقَوْم , وَيَعْرِف مَنَاقِبهمْ وَهُوَ الطَّرِيق إِلَى مَعْرِفَة أُمُورهمْ , وَقَالَ قَوْم : النُّقَبَاء الْأُمَنَاء عَلَى قَوْمهمْ ; وَهَذَا كُلّه قَرِيب بَعْضه مِنْ بَعْض , وَالنَّقِيب أَكْبَرُ مَكَانَة مِنْ الْعَرِيف . قَالَ عَطَاء بْن يَسَار : حَمَلَة الْقُرْآن عُرَفَاء أَهْل الْجَنَّة ; ذَكَرَهُ الدَّارِمِيّ فِي مُسْنَده . قَالَ قَتَادَة - رَحِمَهُ اللَّه وَغَيْره : هَؤُلَاءِ النُّقَبَاء قَوْم كِبَار مِنْ كُلّ سِبْط , تَكَفَّلَ كُلّ وَاحِد بِسِبْطِهِ بِأَنْ يُؤْمِنُوا وَيَتَّقُوا اللَّه ; وَنَحْو هَذَا كَانَ النُّقَبَاء لَيْلَة الْعَقَبَة ; بَايَعَ فِيهَا سَبْعُونَ رَجُلًا وَامْرَأَتَانِ . فَاخْتَارَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ السَّبْعِينَ اِثْنَيْ عَشَر رَجُلًا , وَسَمَّاهُمْ النُّقَبَاء اِقْتِدَاء بِمُوسَى صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَقَالَ الرَّبِيع وَالسُّدِّيّ وَغَيْرهمَا : إِنَّمَا بُعِثَ النُّقَبَاء مِنْ بَنِي إِسْرَائِيل أُمَنَاء عَلَى الِاطِّلَاع عَلَى الْجَبَّارِينَ وَالسَّبْر لِقُوَّتِهِمْ وَمَنَعَتهمْ ; فَسَارُوا لِيَخْتَبِرُوا حَال مَنْ بِهَا , وَيُعْلِمُوهُ بِمَا اِطَّلَعُوا عَلَيْهِ فِيهَا حَتَّى يَنْظُر فِي الْغَزْو إِلَيْهِمْ ; فَاطَّلَعُوا مِنْ الْجَبَّارِينَ عَلَى قُوَّة عَظِيمَة - عَلَى مَا يَأْتِي - وَظَنُّوا أَنَّهُمْ لَا قِبَل لَهُمْ بِهَا ; فَتَعَاقَدُوا بَيْنهمْ عَلَى أَنْ يُخْفُوا ذَلِكَ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيل , وَأَنْ يُعْلِمُوا بِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام , فَلَمَّا اِنْصَرَفُوا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيل خَانَ مِنْهُمْ عَشَرَة فَعَرَّفُوا قَرَابَاتهمْ , وَمَنْ وَثِقُوهُ عَلَى سِرّهمْ ; فَفَشَا الْخَبَر حَتَّى اِعْوَجَّ أَمْر بَنِي إِسْرَائِيل فَقَالُوا : | اِذْهَبْ أَنْتَ وَرَبّك فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ | [ الْمَائِدَة : 24 ] . فَفِي الْآيَة دَلِيل عَلَى قَبُول خَبَر الْوَاحِد فِيمَا يَفْتَقِر إِلَيْهِ الْمَرْء , وَيَحْتَاج إِلَى اِطِّلَاعه مِنْ حَاجَاته الدِّينِيَّة وَالدُّنْيَوِيَّة ; فَتُرَكَّب عَلَيْهِ الْأَحْكَام , وَيَرْتَبِط بِهِ الْحَلَال وَالْحَرَام ; وَقَدْ جَاءَ أَيْضًا مِثْله فِي الْإِسْلَام ; قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهَوَازِن : ( اِرْجِعُوا حَتَّى يَرْفَع إِلَيْنَا عُرَفَاؤُكُمْ أَمْركُمْ ) . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ . وَفِيهَا أَيْضًا دَلِيل عَلَى اِتِّخَاذ الْجَاسُوس , وَالتَّجَسُّس : التَّبَحُّث , وَقَدْ بَعَثَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُسْبَسَةَ عَيْنًا ; أَخْرَجَهُ مُسْلِم , وَسَيَأْتِي حُكْم الْجَاسُوس فِي | الْمُمْتَحِنَة | إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى , وَأَمَّا أَسْمَاء نُقَبَاء بَنِي إِسْرَائِيل فَقَدْ ذَكَرَ أَسْمَاءَهُمْ مُحَمَّد بْن حَبِيب فِي | الْمُحَبَّر | فَقَالَ : مِنْ سِبْط روبيل شموع بْن ركوب , وَمِنْ سِبْط شمعون شوقوط بْن حوري , وَمِنْ سِبْط يَهُوذَا كالب بْن يوقنا , وَمِنْ سِبْط السَّاحِر يوغول بْن يُوسُف , وَمِنْ سِبْط أفراثيم بْن يُوسُف يُوشَع بْن النُّون , وَمِنْ سِبْط بِنْيَامِين يلظى بْن روقو , وَمِنْ سِبْط ربالون كرابيل بْن سودا وَمِنْ سِبْط منشا بْن يُوسُف كدي بْن سوشا , وَمِنْ سِبْط دان عمائيل بْن كسل , وَمِنْ سِبْط شير ستور بْن مِيخَائِيلَ , وَمِنْ سِبْط نفتال يوحنا بْن وقوشا , وَمِنْ سِبْط كاذاكوال بْن موخي ; فَالْمُؤْمِنُونَ مِنْهُمْ يُوشَع وكالب , وَدَعَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام عَلَى الْآخَرِينَ فَهَلَكُوا مَسْخُوطًا عَلَيْهِمْ ; قَالَهُ الْمَاوَرْدِيّ , وَأَمَّا نُقَبَاء لَيْلَة الْعَقَبَة فَمَذْكُورُونَ فِي سِيرَة اِبْن إِسْحَاق فَلْيُنْظَرُوا هُنَاكَ .|وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ|قَالَ الرَّبِيع بْن أَنَس : قَالَ ذَلِكَ لِلنُّقَبَاءِ , وَقَالَ غَيْره : قَالَ ذَلِكَ لِجَمِيعِ بَنِي إِسْرَائِيل , وَكُسِرَتْ | إِنَّ | لِأَنَّهَا مُبْتَدَأَة . | مَعَكُمْ | لِأَنَّهُ ظَرْف , أَيْ بِالنَّصْرِ وَالْعَوْن . ثُمَّ اِبْتَدَأَ فَقَالَ : | لَئِنْ أَقَمْتُمْ الصَّلَاة | إِلَى أَنْ قَالَ | لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ||وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ|أَيْ رَدَدْتُمْ عَنْهُمْ أَعْدَاءَهُمْ .|وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا|يَعْنِي الصَّدَقَات ; وَلَمْ يَقُلْ إِقْرَاضًا , وَهَذَا مِمَّا جَاءَ مِنْ الْمَصْدَر بِخِلَافِ الْمَصْدَر كَقَوْلِهِ : | وَاَللَّه أَنْبَتَكُمْ مِنْ الْأَرْض نَبَاتًا | [ نُوح : 17 ] , | فَتَقَبَّلَهَا رَبّهَا بِقَبُولٍ حَسَن | [ آل عِمْرَان : 37 ] وَقَدْ تَقَدَّمَ . ثُمَّ قِيلَ : | حَسَنًا | أَيْ طَيِّبَة بِهَا نُفُوسكُمْ , وَقِيلَ : يَبْتَغُونَ بِهَا وَجْه اللَّه , وَقِيلَ : حَلَالًا , وَقِيلَ : | قَرْضًا | اِسْم لَا مَصْدَر .|لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ|أَيْ إِنْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ|وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ|وَاللَّام فِي | لَئِنْ | لَام تَوْكِيد وَمَعْنَاهَا الْقَسَم ; وَكَذَا | لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ | , | وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ | , وَقِيلَ : الْمَعْنَى لَئِنْ أَقَمْتُمْ الصَّلَاة لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتكُمْ , وَتَضَمَّنَ شَرْطًا آخَر لِقَوْلِهِ : | لَأُكَفِّرَنَّ | أَيْ إِنْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ لَأُكَفِّرَنَّ , وَقِيلَ : قَوْله | لَئِنْ أَقَمْتُمْ الصَّلَاة | جَزَاء لِقَوْلِهِ : | إِنِّي مَعَكُمْ | وَشَرْط لِقَوْلِهِ : | لَأُكَفِّرَنَّ | وَالتَّعْزِير : التَّعْظِيم وَالتَّوْقِير ; وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدَة : <br>وَكَمْ مِنْ مَاجِد لَهُمُ كَرِيم .......... وَمِنْ لَيْثٍ يُعَزَّر فِي النَّدِيّ <br>أَيْ يُعَظَّم وَيُوَقَّر , وَالتَّعْزِير : الضَّرْب دُون الْحَدّ , وَالرَّدّ ; تَقُول : عَزَّرْت فُلَانًا إِذَا أَدَّبْته وَرَدَدْته عَنْ الْقَبِيح . فَقَوْله : | عَزَّرْتُمُوهُمْ | أَيْ رَدَدْتُمْ عَنْهُمْ أَعْدَاءَهُمْ .|فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ|أَيْ بَعْد الْمِيثَاق .|فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ|أَيْ أَخْطَأَ قَصْد الطَّرِيق , وَاللَّه أَعْلَمُ .

فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَ

أَيْ فَبِنَقْضِهِمْ مِيثَاقهمْ , | مَا | زَائِدَة لِلتَّوْكِيدِ , عَنْ قَتَادَة وَسَائِر أَهْل الْعِلْم ; وَذَلِكَ أَنَّهَا تُؤَكِّد الْكَلَام بِمَعْنَى تُمَكِّنهُ فِي النَّفْس مِنْ جِهَة حُسْن النَّظْم , وَمِنْ جِهَة تَكْثِيره لِلتَّوْكِيدِ ; كَمَا قَالَ : <br>لِشَيْءٍ مَا يُسَوَّدُ مَنْ يَسُود <br>فَالتَّأْكِيد بِعَلَامَةٍ مَوْضُوعَة كَالتَّأْكِيدِ بِالتَّكْرِيرِ .|لَعَنَّاهُمْ|قَالَ اِبْن عَبَّاس : عَذَّبْنَاهُمْ بِالْجِزْيَةِ . وَقَالَ الْحَسَن وَمُقَاتِل : بِالْمَسْخِ . عَطَاء : أَبْعَدْنَاهُمْ ; وَاللَّعْن الْإِبْعَاد وَالطَّرْد مِنْ الرَّحْمَة .|وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً|أَيْ صُلْبَة لَا تَعِي خَيْرًا وَلَا تَفْعَلهُ ; وَالْقَاسِيَة وَالْعَاتِيَة بِمَعْنًى وَاحِد , وَقَرَأَ الْكِسَائِيّ وَحَمْزَة : | قَسِيَّة | بِتَشْدِيدِ الْيَاء مِنْ غَيْر أَلِف ; وَهِيَ قِرَاءَة اِبْن مَسْعُود وَالنَّخَعِيّ وَيَحْيَى بْن وَثَّاب , وَالْعَام الْقَسِيّ الشَّدِيد الَّذِي لَا مَطَر فِيهِ , وَقِيلَ : هُوَ مِنْ الدَّرَاهِم الْقَسِيَّات أَيْ الْفَاسِدَة الرَّدِيئَة ; فَمَعْنَى | قَسِيَّة | عَلَى هَذَا لَيْسَتْ بِخَالِصَةِ الْإِيمَان , أَيْ فِيهَا نِفَاق . قَالَ النَّحَّاس : وَهَذَا قَوْل حَسَن ; لِأَنَّهُ يُقَال : دِرْهَم قَسِيّ إِذَا كَانَ مَغْشُوشًا بِنُحَاسٍ أَوْ غَيْره . يُقَال : دِرْهَم قَسِيّ ( مُخَفَّف السِّين مُشَدَّد الْيَاء ) مِثَال شَقِيّ أَيْ زَائِف ; ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو عُبَيْد وَأَنْشَدَ : <br>لَهَا صَوَاهِلُ فِي صُمّ السِّلَام كَمَا .......... صَاحَ الْقَسِيَّاتُ فِي أَيْدِي الصَّيَارِيفِ <br>يَصِف وَقْع الْمَسَاحِي فِي الْحِجَارَة , وَقَالَ الْأَصْمَعِيّ وَأَبُو عُبَيْد : دِرْهَم قَسِيّ كَأَنَّهُ مُعَرَّب قَاشِي . قَالَ الْقُشَيْرِيّ : وَهَذَا بَعِيد ; لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآن مَا لَيْسَ مِنْ لُغَة الْعَرَب , بَلْ الدِّرْهَم الْقَسِيّ مِنْ الْقَسْوَة وَالشِّدَّة أَيْضًا ; لِأَنَّ مَا قَلَّتْ نُقْرَته يَقْسُو وَيَصْلُب , وَقَرَأَ الْأَعْمَش : | قَسِيَة | بِتَخْفِيفِ الْيَاء عَلَى وَزْن فَعِلَة نَحْو عَمِيَة وَشَجِيَة ; مِنْ قَسِيَ يَقْسَى لَا مِنْ قَسَا يَقْسُو , وَقَرَأَ الْبَاقُونَ عَلَى وَزْن فَاعِلَة ; وَهُوَ اِخْتِيَار أَبِي عُبَيْد ; وَهُمَا لُغَتَانِ مِثْل الْعَلِيَّة وَالْعَالِيَة , وَالزَّكِيَّة وَالزَّاكِيَة . قَالَ أَبُو جَعْفَر النَّحَّاس : أَوْلَى مَا فِيهِ أَنْ تَكُون قَسِيَّة بِمَعْنَى قَاسِيَة , إِلَّا أَنَّ فَعِيلَة أَبْلَغُ مِنْ فَاعِلَة . فَالْمَعْنَى : جَعَلْنَا قُلُوبهمْ غَلِيظَة نَابِيَة عَنْ الْإِيمَان وَالتَّوْفِيق لِطَاعَتِي ; لِأَنَّ الْقَوْم لَمْ يُوصَفُوا بِشَيْءٍ مِنْ الْإِيمَان فَتَكُون قُلُوبهمْ مَوْصُوفَة بِأَنَّ إِيمَانهَا خَالَطَهُ كُفْر , كَالدَّرَاهِمِ الْقَسِيَّة الَّتِي خَالَطَهَا غِشّ . قَالَ الرَّاجِز : <br>قَدْ قَسَوْت وَقَسَتْ لِدَاتِي<br>|يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ|أَيْ يَتَأَوَّلُونَهُ عَلَى غَيْر تَأْوِيله , وَيُلْقُونَ ذَلِكَ إِلَى الْعَوَامّ , وَقِيلَ : مَعْنَاهُ يُبَدِّلُونَ حُرُوفه . و | يُحَرِّفُونَ | فِي مَوْضِع نَصْب , أَيْ جَعَلْنَا قُلُوبهمْ قَاسِيَة مُحَرِّفِينَ , وَقَرَأَ السُّلَمِيّ وَالنَّخَعِيّ | الْكَلَام | بِالْأَلِفِ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ غَيَّرُوا صِفَة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآيَة الرَّجْم .|وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ|أَيْ نَسُوا عَهْد اللَّه الَّذِي أَخَذَهُ الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِمْ مِنْ الْإِيمَان بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَبَيَان نَعْته .|وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ|أَيْ وَأَنْتَ يَا مُحَمَّد لَا تَزَال الْآن تَقِف | عَلَى خَائِنَة مِنْهُمْ ||عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ|وَالْخَائِنَة الْخِيَانَة ; قَالَ قَتَادَة , وَهَذَا جَائِز فِي اللُّغَة , وَيَكُون مِثْل قَوْلهمْ : قَائِلَة بِمَعْنَى قَيْلُولَة , وَقِيلَ : هُوَ نَعْت لِمَحْذُوفٍ وَالتَّقْدِير فِرْقَة خَائِنَة , وَقَدْ تَقَع | خَائِنَة | لِلْوَاحِدِ كَمَا يُقَال : رَجُل نَسَّابَة وَعَلَّامَة ; فَخَائِنَة عَلَى هَذَا لِلْمُبَالَغَةِ ; يُقَال : رَجُل خَائِنَة إِذَا بَالَغْت فِي وَصْفه بِالْخِيَانَةِ . قَالَ الشَّاعِر : <br>حَدَّثْت نَفْسك بِالْوَفَاءِ وَلَمْ تَكُنْ .......... لِلْغَدْرِ خَائِنَة مُغِلّ الْإِصْبَعِ <br>قَالَ اِبْن عَبَّاس : | عَلَى خَائِنَة | أَيْ مَعْصِيَة , وَقِيلَ : كَذِب وَفُجُور , وَكَانَتْ خِيَانَتهمْ نَقْضهمْ الْعَهْد بَيْنهمْ وَبَيْن رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَمُظَاهَرَتهمْ الْمُشْرِكِينَ عَلَى حَرْب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; كَيَوْمِ الْأَحْزَاب وَغَيْر ذَلِكَ مِنْ هَمّهمْ بِقَتْلِهِ وَسَبّه .|إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ|لَمْ يَخُونُوا فَهُوَ اِسْتِثْنَاء مِنْ الْهَاء وَالْمِيم اللَّتَيْنِ فِي | خَائِنَة مِنْهُمْ | .|فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ|فِي مَعْنَاهُ قَوْلَانِ : فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ مَا دَامَ بَيْنك وَبَيْنهمْ عَهْد وَهُمْ أَهْل الذِّمَّة , وَالْقَوْل الْآخَر أَنَّهُ مَنْسُوخ بِآيَةِ السَّيْف , وَقِيلَ : بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ | وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْم خِيَانَة | [ الْأَنْفَال : 58 ] .

وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ

أَيْ فِي التَّوْحِيد وَالْإِيمَان بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; إِذْ هُوَ مَكْتُوب فِي الْإِنْجِيل , وَمَعْنَى | أَخَذْنَا مِيثَاقهمْ | هُوَ كَقَوْلِك : أَخَذْت مِنْ زَيْد ثَوْبه وَدِرْهَمه ; قَالَهُ الْأَخْفَش , وَرُتْبَة | الَّذِينَ | أَنْ تَكُون بَعْد | أَخَذْنَا | وَقَبْل الْمِيثَاق ; فَيَكُون التَّقْدِير : أَخَذْنَا مِنْ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى مِيثَاقهمْ ; لِأَنَّهُ فِي مَوْضِع الْمَفْعُول الثَّانِي لِأَخَذْنَا , وَتَقْدِيره عِنْد الْكُوفِيِّينَ وَمِنْ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى مَنْ أَخَذْنَا مِيثَاقه ; فَالْهَاء وَالْمِيم تَعُودَانِ عَلَى | مَنْ | الْمَحْذُوفَة , وَعَلَى الْقَوْل الْأَوَّل تَعُودَانِ عَلَى | الَّذِينَ | , وَلَا يُجِيز النَّحْوِيُّونَ أَخَذْنَا مِيثَاقهمْ مِنْ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى , وَلَا أَلْيَنَهَا لَبِسْت مِنْ الثِّيَاب ; لِئَلَّا يَتَقَدَّم مُضْمَر عَلَى ظَاهِر , وَفِي قَوْلهمْ : | إِنَّا نَصَارَى | وَلَمْ يَقُلْ مِنْ النَّصَارَى دَلِيل عَلَى أَنَّهُمْ اِبْتَدَعُوا النَّصْرَانِيَّة وَتَسَمَّوْا بِهَا ; رُوِيَ مَعْنَاهُ عَنْ الْحَسَن .|فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ|وَهُوَ الْإِيمَان بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ; أَيْ لَمْ يَعْمَلُوا بِمَا أُمِرُوا بِهِ , وَجَعَلُوا ذَلِكَ الْهَوَى وَالتَّحْرِيف سَبَبًا لِلْكُفْرِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .|فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ|أَيْ هَيَّجْنَا , وَقِيلَ : أَلْصَقْنَا بِهِمْ ; مَأْخُوذ مِنْ الْغِرَاء وَهُوَ مَا يُلْصِق الشَّيْء بِالشَّيْءِ كَالصَّمْغِ وَشِبْهه . يُقَال : غَرِيَ بِالشَّيْءِ يَغْرَى غَرًا | بِفَتْحِ الْغَيْن | مَقْصُورًا وَغِرَاء | بِكَسْرِ الْغَيْن | مَمْدُودًا إِذَا أُولِعَ بِهِ كَأَنَّهُ اِلْتَصَقَ بِهِ , وَحَكَى الرُّمَّانِيّ : الْإِغْرَاء تَسْلِيط بَعْضهمْ عَلَى بَعْض , وَقِيلَ : الْإِغْرَاء التَّحْرِيش , وَأَصْله اللُّصُوق ; يُقَال : غَرِيت بِالرَّجُلِ غَرًا - مَقْصُور وَمَمْدُود مَفْتُوح الْأَوَّل - إِذَا لَصِقْت بِهِ , وَقَالَ كُثَيِّر . <br>إِذَا قِيلَ مَهْلًا قَالَتْ الْعَيْن بِالْبُكَا .......... غِرَاءً وَمَدَّتْهَا حَوَافِلُ نُهَّلُ <br>وَأَغْرَيْت زَيْدًا بِكَذَا حَتَّى غَرِيَ بِهِ ; وَمِنْهُ الْغِرَاء الَّذِي يُغْرَى بِهِ لِلُصُوقِهِ ; فَالْإِغْرَاء بِالشَّيْءِ الْإِلْصَاق بِهِ مِنْ جِهَة التَّسْلِيط عَلَيْهِ , وَأَغْرَيْت الْكَلْب أَيْ أَوْلَعْته بِالصَّيْدِ . | بَيْنهمْ | ظَرْف لِلْعَدَاوَةِ . | وَالْبَغْضَاء | الْبُغْض . أَشَارَ بِهَذَا إِلَى الْيَهُود وَالنَّصَارَى لِتَقَدُّمِ ذِكْرهمَا . عَنْ السُّدِّيّ وَقَتَادَة : بَعْضهمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ , وَقِيلَ : أَشَارَ إِلَى اِفْتِرَاق النَّصَارَى خَاصَّة ; قَالَهُ الرَّبِيع بْن أَنَس , لِأَنَّهُمْ أَقْرَب مَذْكُور ; وَذَلِكَ أَنَّهُمْ اِفْتَرَقُوا إِلَى الْيَعَاقِبَة وَالنُّسُّطُورِيَّة وَالْمَلْكَانِيَّة ; أَيْ كَفَّرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا . قَالَ النَّحَّاس : وَمِنْ أَحْسَنِ مَا قِيلَ فِي مَعْنَى | أَغْرَيْنَا بَيْنهمْ الْعَدَاوَة وَالْبَغْضَاء | أَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَ بِعَدَاوَةِ الْكُفَّار وَإِبْغَاضهمْ , فَكُلّ فِرْقَة مَأْمُورَة بِعَدَاوَةِ صَاحِبَتهَا وَإِبْغَاضهَا لِأَنَّهُمْ كُفَّار .|وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ|تَهْدِيد لَهُمْ ; أَيْ سَيَلْقَوْنَ جَزَاء نَقْضِ الْمِيثَاق .

يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ

الْكِتَاب اِسْم جِنْس بِمَعْنَى الْكُتُب ; فَجَمِيعهمْ مُخَاطَبُونَ .|الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ|مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .|رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ|أَيْ مِنْ كُتُبكُمْ ; مِنْ الْإِيمَان بِهِ , وَمِنْ آيَة الرَّجْم , وَمِنْ قِصَّة أَصْحَاب السَّبْت الَّذِينَ مُسِخُوا قِرَدَة ; فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُخْفُونَهَا .|الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ|أَيْ يَتْرُكهُ وَلَا يُبَيِّنهُ , وَإِنَّمَا يُبَيِّن مَا فِيهِ حُجَّة عَلَى نُبُوَّته , وَدَلَالَة عَلَى صِدْقه وَشَهَادَة بِرِسَالَتِهِ , وَيَتْرُك مَا لَمْ يَكُنْ بِهِ حَاجَة إِلَى تَبْيِينه , وَقِيلَ | وَيَعْفُو عَنْ كَثِير | يَعْنِي يَتَجَاوَز عَنْ كَثِير فَلَا يُخْبِركُمْ بِهِ , وَذُكِرَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَحْبَارهمْ جَاءَ إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ فَقَالَ : يَا هَذَا عَفَوْت عَنَّا ؟ فَأَعْرَضَ عَنْهُ رَسُول اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُبَيِّن ; وَإِنَّمَا أَرَادَ الْيَهُودِيّ أَنْ يُظْهِر مُنَاقَضَة كَلَامه , فَلَمَّا لَمْ يُبَيِّن لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ مِنْ عِنْده فَذَهَبَ وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ : أَرَى أَنَّهُ صَادِق فِيمَا يَقُول : لِأَنَّهُ كَانَ وَجَدَ فِي كِتَابه أَنَّهُ لَا يُبَيِّن لَهُ مَا سَأَلَهُ عَنْهُ . | قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّه نُور | أَيْ ضِيَاء ; قِيلَ : الْإِسْلَام , وَقِيلَ : مُحَمَّد عَلَيْهِ السَّلَام ; عَنْ الزَّجَّاج .|كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ|أَيْ الْقُرْآن ; فَإِنَّهُ يُبَيِّن الْأَحْكَام , وَقَدْ تَقَدَّمَ .

يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ

أَيْ مَا رَضِيَهُ اللَّه .|سُبُلَ السَّلَامِ|طُرُق السَّلَامَة الْمُوصِلَة إِلَى دَار السَّلَام الْمُنَزَّهَة عَنْ كُلّ آفَة , وَالْمُؤَمَّنَة مِنْ كُلّ مَخَافَة ; وَهِيَ الْجَنَّة , وَقَالَ الْحَسَن وَالسُّدِّيّ : | السَّلَام | اللَّه عَزَّ وَجَلَّ ; فَالْمَعْنَى دِين اللَّه - وَهُوَ الْإِسْلَام - كَمَا قَالَ : | إِنَّ الدِّين عِنْد اللَّه الْإِسْلَام | [ آل عِمْرَان : 19 ] .|وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ|أَيْ مِنْ ظُلُمَات الْكُفْر وَالْجَهَالَات إِلَى نُور الْإِسْلَام وَالْهِدَايَات .|بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ|أَيْ بِتَوْفِيقِهِ وَإِرَادَته .

لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ

تَقَدَّمَ فِي آخِر | النِّسَاء | بَيَانه وَالْقَوْل فِيهِ . وَكُفْر النَّصَارَى فِي دَلَالَة هَذَا الْكَلَام إِنَّمَا كَانَ بِقَوْلِهِمْ : إِنَّ اللَّه هُوَ الْمَسِيح اِبْن مَرْيَم عَلَى جِهَة الدَّيْنُونَة بِهِ ; لِأَنَّهُمْ لَوْ قَالُوهُ عَلَى جِهَة الْحِكَايَة مُنْكِرِينَ لَهُ لَمْ يَكْفُرُوا .|قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ|أَيْ مِنْ أَمْر اللَّه . و | يَمْلِك | بِمَعْنَى يَقْدِر ; مِنْ قَوْلهمْ مَلَكْت عَلَى فُلَان أَمْرَهُ أَيْ اِقْتَدَرْت عَلَيْهِ . أَيْ فَمَنْ يَقْدِر أَنْ يَمْنَع مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ؟ فَأَعْلَمَ اللَّه تَعَالَى أَنَّ الْمَسِيح لَوْ كَانَ إِلَهًا لَقَدَرَ عَلَى دَفْع مَا يَنْزِل بِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ , وَقَدْ أَمَاتَ أُمّه وَلَمْ يَتَمَكَّن مِنْ دَفْع الْمَوْت عَنْهَا ; فَلَوْ أَهْلَكَهُ هُوَ أَيْضًا فَمَنْ يَدْفَعهُ عَنْ ذَلِكَ أَوْ يَرُدّهُ .|وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا|وَالْمَسِيح وَأُمّه بَيْنهمَا مَخْلُوقَانِ مَحْدُودَانِ مَحْصُورَانِ , وَمَا أَحَاطَ بِهِ الْحَدّ وَالنِّهَايَة لَا يَصْلُح لِلْإِلَهِيَّةِ , وَقَالَ | وَمَا بَيْنهمَا | وَلَمْ يَقُلْ وَمَا بَيْنهنَّ ; لِأَنَّهُ أَرَادَ النَّوْعَيْنِ وَالصِّنْفَيْنِ كَمَا قَالَ الرَّاعِي : <br>طَرَقَا فَتِلْكَ هَمَاهِمِي أَقْرِيهمَا .......... قُلُصًا لَوَاقِحَ كَالْقِسِيِّ وَحُوَّلَا <br>فَقَالَ : | طَرَقَا | ثُمَّ قَالَ : | فَتِلْكَ هَمَاهِمِي | .|يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ|عِيسَى مِنْ أُمّ بِلَا أَب آيَة لِعِبَادِهِ .

وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَ

قَالَ اِبْن عَبَّاس : خَوَّفَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْمًا مِنْ الْيَهُود الْعِقَاب فَقَالُوا : لَا نَخَاف فَإِنَّا أَبْنَاء اللَّه وَأَحِبَّاؤُهُ ; فَنَزَلَتْ الْآيَة . قَالَ اِبْن إِسْحَاق : أَتَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُعْمَان بْن أَضَا وَبَحْرِيّ بْن عَمْرو وَشَأْس بْن عَدِيّ فَكَلَّمُوهُ وَكَلَّمَهُمْ , وَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وَحَذَّرَهُمْ نِقْمَته فَقَالُوا : مَا تُخَوِّفنَا يَا مُحَمَّد ؟ ; نَحْنُ أَبْنَاء اللَّه وَأَحِبَّاؤُهُ , كَقَوْلِ النَّصَارَى ; فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فِيهِمْ | وَقَالَتْ الْيَهُود وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللَّه وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبكُمْ بِذُنُوبِكُمْ | إِلَى آخِر الْآيَة . قَالَ لَهُمْ مُعَاذ بْن جَبَل وَسَعْد بْن عُبَادَة وَعُقْبَة بْن وَهْب : يَا مَعْشَر يَهُود اِتَّقُوا اللَّه , فَوَاَللَّهِ إِنَّكُمْ لَتَعْلَمُونَ أَنَّهُ رَسُول اللَّه , وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَذْكُرُونَهُ لَنَا قَبْل مَبْعَثه , وَتَصِفُونَهُ لَنَا بِصِفَتِهِ ; فَقَالَ رَافِع بْن حُرَيْمِلَة وَوَهْب بْن يَهُوذَا : مَا قُلْنَا هَذَا لَكُمْ , وَلَا أَنْزَلَ اللَّه مِنْ كِتَاب بَعْد مُوسَى , وَلَا أَرْسَلَ بَشِيرًا وَلَا نَذِيرًا مِنْ بَعْده ; فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : | يَا أَهْل الْكِتَاب قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولنَا يُبَيِّن لَكُمْ عَلَى فَتْرَة مِنْ الرُّسُل | إِلَى قَوْله : | وَاَللَّه عَلَى كُلّ شَيْء قَدِير | . السُّدِّيّ : زَعَمَتْ الْيَهُود أَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أَوْحَى إِلَى إِسْرَائِيل عَلَيْهِ السَّلَام أَنَّ وَلَدك بِكْرِي مِنْ الْوَلَد . قَالَ غَيْره : وَالنَّصَارَى قَالَتْ نَحْنُ أَبْنَاء اللَّه ; لِأَنَّ فِي الْإِنْجِيل حِكَايَة عَنْ عِيسَى | أَذْهَبُ إِلَى أَبِي وَأَبِيكُمْ | , وَقِيلَ : الْمَعْنَى : نَحْنُ أَبْنَاء رُسُل اللَّه , فَهُوَ عَلَى حَذْف مُضَاف , وَبِالْجُمْلَةِ . فَإِنَّهُمْ رَأَوْا لِأَنْفُسِهِمْ فَضْلًا ; فَرَدَّ عَلَيْهِمْ قَوْلهمْ فَقَالَ|قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ|فَلَمْ يَكُونُوا يَخْلُونَ مِنْ أَحَد وَجْهَيْنِ ; إِمَّا أَنْ يَقُولُوا هُوَ يُعَذِّبنَا . فَيُقَال لَهُمْ : فَلَسْتُمْ إِذًا أَبْنَاءَهُ وَأَحِبَّاءَهُ ; فَإِنَّ الْحَبِيب لَا يُعَذِّب حَبِيبه , وَأَنْتُمْ تُقِرُّونَ بِعَذَابِهِ ; فَذَلِكَ دَلِيل عَلَى كَذِبكُمْ - وَهَذَا هُوَ الْمُسَمَّى عِنْد الْجَدَلِيِّينَ بِبُرْهَانِ الْخُلْف - أَوْ يَقُولُوا : لَا يُعَذِّبنَا فَيُكَذِّبُوا مَا فِي كُتُبهمْ , وَمَا جَاءَتْ بِهِ رُسُلهمْ , وَيُبِيحُوا الْمَعَاصِيَ وَهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِعَذَابِ الْعُصَاة مِنْهُمْ ; وَلِهَذَا يَلْتَزِمُونَ أَحْكَام كُتُبهمْ , وَقِيلَ : مَعْنَى | يُعَذِّبكُمْ | عَذَّبَكُمْ ; فَهُوَ بِمَعْنَى الْمُضِيّ ; أَيْ فَلِمَ مَسَخَكُمْ قِرَدَة وَخَنَازِير ؟ وَلِمَ عَذَّبَ مَنْ قَبْلكُمْ مِنْ الْيَهُود وَالنَّصَارَى بِأَنْوَاعِ الْعَذَاب وَهُمْ أَمْثَالكُمْ ؟ لِأَنَّ اللَّه سُبْحَانه لَا يَحْتَجّ عَلَيْهِمْ بِشَيْءٍ لَمْ يَكُنْ بَعْد , لِأَنَّهُمْ رُبَّمَا يَقُولُونَ لَا نُعَذَّب غَدًا , بَلْ يَحْتَجُّ عَلَيْهِمْ بِمَا عَرَفُوهُ .|بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ|أَيْ كَسَائِرِ خَلْقه يُحَاسِبكُمْ عَلَى الطَّاعَة وَالْمَعْصِيَة , وَيُجَازِي كُلًّا بِمَا عَمِلَ .|يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ|أَيْ لِمَنْ تَابَ مِنْ الْيَهُود .|وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ|مَنْ مَاتَ عَلَيْهَا .|وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا|فَلَا شَرِيك لَهُ يُعَارِضهُ .|وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ|أَيْ يَئُول أَمْر الْعِبَاد إِلَيْهِ فِي الْآخِرَة .

يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ

يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .|رَسُولُنَا يُبَيِّنُ|اِنْقِطَاع حُجَّتهمْ حَتَّى لَا يَقُولُوا غَدًا مَا جَاءَنَا رَسُول .|لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ|أَيْ سُكُون ; يُقَال فَتَرَ الشَّيْء سَكَنَ , وَقِيلَ : | عَلَى فَتْرَة | عَلَى اِنْقِطَاع مَا بَيْن النَّبِيِّينَ ; عَنْ أَبِي عَلِيّ وَجَمَاعَة أَهْل الْعِلْم , حَكَاهُ الرُّمَّانِيّ ; قَالَ : وَالْأَصْل فِيهَا اِنْقِطَاع الْعَمَل عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْجِدّ فِيهِ , مِنْ قَوْلهمْ : فَتَرَ عَنْ عَمَله وَفَتَّرْته عَنْهُ , وَمِنْهُ فَتَرَ الْمَاء إِذَا اِنْقَطَعَ عَمَّا كَانَ مِنْ السُّخُونَة إِلَى الْبَرْد . وَامْرَأَة فَاتِرَة الطَّرْف أَيْ مُنْقَطِعَة عَنْ حِدَّة النَّظَر , وَفُتُور الْبَدَن كَفُتُورِ الْمَاء , وَالْفِتْر مَا بَيْن السَّبَّابَة وَالْإِبْهَام إِذَا فَتَحْتهمَا , وَالْمَعْنَى ; أَيْ مَضَتْ لِلرُّسُلِ مُدَّة قَبْله , وَاخْتُلِفَ فِي قَدْر مُدَّة تِلْكَ الْفَتْرَة ; فَذَكَرَ مُحَمَّد بْن سَعْد فِي كِتَاب | الطَّبَقَات | عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : كَانَ بَيْن مُوسَى بْن عِمْرَان وَعِيسَى اِبْن مَرْيَم عَلَيْهِمَا السَّلَام أَلْف سَنَة وَسَبْعمِائَةِ سَنَة , وَلَمْ يَكُنْ بَيْنهمَا فَتْرَة , وَأَنَّهُ أُرْسِلَ بَيْنهمَا أَلْف نَبِيّ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيل سِوَى مَنْ أُرْسِلَ مِنْ غَيْرهمْ . وَكَانَ بَيْن مِيلَاد عِيسَى وَالنَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسمِائَةِ سَنَة وَتِسْع وَسِتُّونَ سَنَة , بُعِثَ فِي أَوَّلهَا ثَلَاثَة أَنْبِيَاء ; وَهُوَ قَوْله تَعَالَى : | إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ اِثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ | [ يس : 14 ] وَاَلَّذِي عُزِّزَ بِهِ | شمعون | وَكَانَ مِنْ الْحَوَارِيِّينَ , وَكَانَتْ الْفَتْرَة الَّتِي لَمْ يَبْعَث اللَّه فِيهَا رَسُولًا أَرْبَعمِائَةِ سَنَة وَأَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ سَنَة , وَذَكَرَ الْكَلْبِيّ أَنَّ بَيْن عِيسَى وَمُحَمَّد عَلَيْهِمَا السَّلَام خَمْسمِائَةِ سَنَة وَتِسْعًا وَسِتِّينَ , وَبَيْنهمَا أَرْبَعَة أَنْبِيَاء ; وَاحِد مِنْ الْعَرَب مِنْ بَنِي عَبْس وَهُوَ خَالِد بْن سِنَان . قَالَ الْقُشَيْرِيّ : وَمِثْل هَذَا مِمَّا لَا يُعْلَم إِلَّا بِخَبَرِ صِدْق . وَقَالَ قَتَادَة : كَانَ بَيْن عِيسَى وَمُحَمَّد عَلَيْهِمَا السَّلَام سِتّمِائَةِ سَنَة ; وَقَالَهُ مُقَاتِل وَالضَّحَّاك وَوَهْب بْن مُنَبِّه , إِلَّا أَنَّ وَهْبًا زَادَ عِشْرِينَ سَنَة , وَعَنْ الضَّحَّاك أَيْضًا أَرْبَعمِائَةٍ وَبِضْع وَثَلَاثُونَ سَنَة , وَذَكَرَ اِبْن سَعْد عَنْ عِكْرِمَة قَالَ : بَيْن آدَم وَنُوح عَشَرَة قُرُون , كُلّهمْ عَلَى الْإِسْلَام . قَالَ اِبْن سَعْد : أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن عَمْرو بْن وَاقِد الْأَسْلَمِيّ عَنْ غَيْر وَاحِد قَالُوا : كَانَ بَيْن آدَم وَنُوح عَشَرَة قُرُون , وَالْقَرْن مِائَة سَنَة , وَبَيْن نُوح وَإِبْرَاهِيم عَشَرَة قُرُون , وَالْقَرْن مِائَة سَنَة , وَبَيْن إِبْرَاهِيم وَمُوسَى بْن عِمْرَان عَشَرَة قُرُون , وَالْقَرْن مِائَة سَنَة ; فَهَذَا مَا بَيْن آدَم وَمُحَمَّد عَلَيْهِمَا السَّلَام مِنْ الْقُرُون وَالسِّنِينَ . وَاللَّه أَعْلَمُ .|الرُّسُلِ أَنْ|أَيْ لِئَلَّا أَوْ كَرَاهِيَة أَنْ تَقُولُوا ; فَهُوَ فِي مَوْضِع نَصْب .|تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ|| مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِير | أَيْ مُبَشِّر . | وَلَا نَذِير | أَيْ مُنْذِر , وَيَجُوز | مِنْ بَشِير وَلَا نَذِير | عَلَى الْمَوْضِع . قَالَ اِبْن عَبَّاس : قَالَ مُعَاذ بْن جَبَل وَسَعْد بْن عُبَادَة وَعُقْبَة بْن وَهْب لِلْيَهُودِ ; يَا مَعْشَر يَهُود اِتَّقُوا اللَّه , فَوَاَللَّهِ إِنَّكُمْ لَتَعْلَمُونَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّه , وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَذْكُرُونَهُ لَنَا قَبْل مَبْعَثه وَتَصِفُونَهُ بِصِفَتِهِ ; فَقَالُوا : مَا أَنْزَلَ اللَّه مِنْ كِتَاب بَعْد مُوسَى وَلَا أَرْسَلَ بَعْده مِنْ بَشِير وَلَا نَذِير ; فَنَزَلَتْ الْآيَة .|وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ|عَلَى إِرْسَال مَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقه . وَقِيلَ : قَدِير عَلَى إِنْجَاز مَا بَشَّرَ بِهِ وَأَنْذَرَ مِنْهُ .

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآَتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ

تَبْيِين مِنْ اللَّه تَعَالَى أَنَّ أَسْلَافهمْ تَمَرَّدُوا عَلَى مُوسَى وَعَصَوْهُ ; فَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ عَلَى مُحَمَّد عَلَيْهِ السَّلَام , وَهُوَ تَسْلِيَة لَهُ ; أَيْ يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اُذْكُرُوا نِعْمَة اللَّه عَلَيْكُمْ , وَاذْكُرُوا قِصَّة مُوسَى , وَرُوِيَ عَنْ عَبْد اللَّه بْن كَثِير أَنَّهُ قَرَأَ | يَا قَوْمُ اذْكُرُوا | بِضَمِّ الْمِيم , وَكَذَلِكَ مَا أَشْبَهَهُ ; وَتَقْدِيره يَا أَيّهَا الْقَوْم .|عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ|لَمْ يَنْصَرِف ; لِأَنَّهُ فِيهِ أَلِف التَّأْنِيث .|أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ|أَيْ تَمْلِكُونَ أَمْركُمْ لَا يَغْلِبكُمْ عَلَيْهِ غَالِب بَعْد أَنْ كُنْتُمْ مَمْلُوكِينَ لِفِرْعَوْن مَقْهُورِينَ , فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهُ بِالْغَرَقِ ; فَهُمْ مُلُوك بِهَذَا الْوَجْه , وَبِنَحْوِهِ فَسَّرَ السُّدِّيّ وَالْحُسَيْن وَغَيْرهمَا . قَالَ السُّدِّيّ : مَلَكَ كُلّ وَاحِد مِنْهُ نَفْسه وَأَهْله وَمَاله , وَقَالَ قَتَادَة : إِنَّمَا قَالَ : | وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا | لِأَنَّا كُنَّا نَتَحَدَّث أَنَّهُمْ أَوَّل مَنْ خَدَمَ مِنْ بَنِي آدَم . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا ضَعِيف ; لِأَنَّ الْقِبْط قَدْ كَانُوا يَسْتَخْدِمُونَ بَنِي إِسْرَائِيل , وَظَاهِر أَمْر بَنِي آدَم أَنَّ بَعْضهمْ كَانَ يُسَخِّر بَعْضًا مُذْ تَنَاسَلُوا وَكَثُرُوا , وَإِنَّمَا اِخْتَلَفَتْ الْأُمَم فِي مَعْنَى التَّمْلِيك فَقَطْ , وَقِيلَ : جَعَلَكُمْ ذَوِي مَنَازِل لَا يُدْخَل عَلَيْكُمْ إِلَّا بِإِذْنٍ ; رُوِيَ مَعْنَاهُ عَنْ جَمَاعَة مِنْ أَهْل الْعِلْم . قَالَ اِبْن عَبَّاس : إِنَّ الرَّجُل إِذَا لَمْ يَدْخُل أَحَد بَيْتَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَهُوَ مَلِك , وَعَنْ الْحَسَن أَيْضًا وَزَيْد بْن أَسْلَمَ مَنْ كَانَتْ لَهُ دَار وَزَوْجَة وَخَادِم فَهُوَ مَلِك ; وَهُوَ قَوْل عَبْد اللَّه بْن عَمْرو كَمَا فِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ أَبِي عَبْد الرَّحْمَن الْحُبُلِيّ قَالَ : سَمِعْت عَبْد اللَّه بْن عَمْرو بْن الْعَاص وَسَأَلَهُ رَجُل فَقَالَ : أَلَسْنَا مِنْ فُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ ؟ فَقَالَ لَهُ عَبْد اللَّه : أَلَك اِمْرَأَة تَأْوِي إِلَيْهَا ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ : أَلَك مَنْزِل تَسْكُنهُ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ : فَأَنْتَ مِنْ الْأَغْنِيَاء . قَالَ : فَإِنَّ لِي خَادِمًا . قَالَ : فَأَنْتَ مِنْ الْمُلُوك . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَفَائِدَة هَذَا أَنَّ الرَّجُل إِذَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ كَفَّارَة وَمَلَكَ دَارًا وَخَادِمًا بَاعَهُمَا فِي الْكَفَّارَة وَلَمْ يَجُزْ لَهُ الصِّيَام , لِأَنَّهُ قَادِر عَلَى الرَّقَبَة وَالْمُلُوك لَا يُكَفِّرُونَ بِالصِّيَامِ , وَلَا يُوصَفُونَ بِالْعَجْزِ عَنْ الْإِعْتَاق , وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَمُجَاهِد : جَعَلَهُمْ مُلُوكًا بِالْمَنِّ وَالسَّلْوَى وَالْحَجَر وَالْغَمَام , أَيْ هُمْ مَخْدُومُونَ كَالْمُلُوكِ , وَعَنْ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا يَعْنِي الْخَادِم وَالْمَنْزِل ; وَقَالَهُ مُجَاهِد وَعِكْرِمَة وَالْحَكَم بْن عُيَيْنَة , وَزَادُوا الزَّوْجَة ; وَكَذَا قَالَ زَيْد بْن أَسْلَمَ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ فِيمَا يُعْلَم - عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ كَانَ لَهُ بَيْت - أَوْ قَالَ مَنْزِل - يَأْوِي إِلَيْهِ وَزَوْجَة وَخَادِم يَخْدُمهُ فَهُوَ مَلِك ) ; ذَكَرَهُ النَّحَّاس , وَيُقَال : مَنْ اِسْتَغْنَى عَنْ غَيْره فَهُوَ مَلِك ; وَهَذَا كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ أَصْبَحَ آمِنًا فِي سِرْبه مُعَافًى فِي بَدَنه وَلَهُ قُوت يَوْمه فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا ) .|مُلُوكًا|أَيْ أَعْطَاكُمْ|وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ|وَالْخِطَاب مِنْ مُوسَى لِقَوْمِهِ فِي قَوْل جُمْهُور الْمُفَسِّرِينَ ; وَهُوَ وَجْه الْكَلَام . مُجَاهِد : وَالْمُرَاد بِالْإِيتَاءِ الْمَنّ وَالسَّلْوَى وَالْحَجَر وَالْغَمَام , وَقِيلَ : كَثْرَة الْأَنْبِيَاء فِيهِمْ , وَالْآيَات الَّتِي جَاءَتْهُمْ , وَقِيلَ : قُلُوبًا سَلِيمَة مِنْ الْغِلّ وَالْغِشّ , وَقِيلَ : إِحْلَال الْغَنَائِم وَالِانْتِفَاع بِهَا . قُلْت : وَهَذَا الْقَوْل مَرْدُود ; فَإِنَّ الْغَنَائِم لَمْ تَحِلّ لِأَحَدٍ إِلَّا لِهَذِهِ الْأُمَّة عَلَى مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيح ; وَسَيَأْتِي بَيَانه إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى , وَهَذِهِ الْمَقَالَة مِنْ مُوسَى تَوْطِئَة لِنُفُوسِهِمْ حَتَّى تُعَزَّز وَتَأْخُذ الْأَمْر بِدُخُولِ أَرْض الْجَبَّارِينَ بِقُوَّةٍ , وَتُنْقِذ فِي ذَلِكَ نُفُوذ مَنْ أَعَزَّهُ اللَّه وَرَفَعَ مِنْ شَأْنه , وَمَعْنَى | مِنْ الْعَالَمِينَ | أَيْ عَالَمِي زَمَانِكُمْ ; عَنْ الْحَسَن . وَقَالَ اِبْن جُبَيْر وَأَبُو مَالِك : الْخِطَاب لِأُمَّةِ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; وَهَذَا عُدُول عَنْ ظَاهِر الْكَلَام بِمَا لَا يَحْسُن مِثْله . وَتَظَاهَرَتْ الْأَخْبَار أَنَّ دِمَشْق قَاعِدَة الْجَبَّارِينَ .

يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ

وَ| الْمُقَدَّسَة | مَعْنَاهُ الْمُطَهَّرَة . مُجَاهِد : الْمُبَارَكَة ; وَالْبَرَكَة التَّطْهِير مِنْ الْقُحُوط وَالْجُوع وَنَحْوه . قَتَادَة : هِيَ الشَّام . مُجَاهِد : الطُّور وَمَا حَوْله . اِبْن عَبَّاس وَالسُّدِّيّ وَابْن زَيْد : هِيَ أَرِيحَاء . قَالَ الزَّجَّاج : دِمَشْق وَفِلَسْطِين وَبَعْض : الْأُرْدُنّ , وَقَوْل قَتَادَة يَجْمَع هَذَا كُلّه .|الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ|أَيْ فَرَضَ دُخُولهَا عَلَيْكُمْ وَوَعَدَكُمْ دُخُولهَا وَسُكْنَاهَا لَكُمْ . وَلَمَّا خَرَجَتْ بَنُو إِسْرَائِيل مِنْ مِصْر أَمَرَهُمْ بِجِهَادِ أَهْل أَرِيحَاء مِنْ بِلَاد فِلَسْطِين فَقَالُوا : لَا عِلْم لَنَا بِتِلْكَ الدِّيَار ; فَبَعَثَ بِأَمْرِ اللَّه اِثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا , مِنْ كُلّ سِبْط رَجُل يَتَجَسَّسُونَ الْأَخْبَار عَلَى مَا تَقَدَّمَ , فَرَأَوْا سُكَّانهَا الْجَبَّارِينَ مِنْ الْعَمَالِقَة , وَهُمْ ذَوُو أَجْسَام هَائِلَة ; حَتَّى قِيلَ : إِنَّ بَعْضهمْ رَأَى هَؤُلَاءِ النُّقَبَاء فَأَخَذَهُمْ فِي كُمّه مَعَ فَاكِهَة كَانَ قَدْ حَمَلَهَا مِنْ بُسْتَانه وَجَاءَ بِهِمْ إِلَى الْمَلِك فَنَثَرَهُمْ بَيْن يَده وَقَالَ : إِنَّ هَؤُلَاءِ يُرِيدُونَ قِتَالنَا ; فَقَالَ لَهُمْ الْمَلِك : اِرْجِعُوا إِلَى صَاحِبكُمْ فَأَخْبِرُوهُ خَبَرنَا ; عَلَى مَا تَقَدَّمَ , وَقِيلَ : إِنَّهُمْ لَمَّا رَجَعُوا أَخَذُوا مِنْ عِنَب تِلْكَ الْأَرْض عُنْقُودًا فَقِيلَ : حَمَلَهُ رَجُل وَاحِد , وَقِيلَ : حَمَلَهُ النُّقَبَاء الِاثْنَا عَشَرَ . قُلْت : وَهَذَا أَشْبَهُ ; فَإِنَّهُ يُقَال : إِنَّهُمْ لَمَّا وَصَلُوا إِلَى الْجَبَّارِينَ وَجَدُوهُمْ يَدْخُل فِي كُمّ أَحَدهمْ رَجُلَانِ مِنْهُمْ , وَلَا يَحْمِل عُنْقُود أَحَدهمْ إِلَّا خَمْسَةٌ مِنْهُمْ فِي خَشَبَة , وَيَدْخُل فِي شَطْر الرُّمَّانَة إِذَا نُزِعَ حَبّه خَمْسَة أَنْفُس أَوْ أَرْبَعَة . قُلْت : وَلَا تَعَارُض بَيْن هَذَا وَالْأَوَّل ; فَإِنَّ ذَلِكَ الْجَبَّار الَّذِي أَخَذَهُمْ فِي كُمّه - وَيُقَال : فِي حِجْره - هُوَ عوج بْن عناق وَكَانَ أَطْوَلهمْ قَامَة وَأَعْظَمَهُمْ خَلْقًا ; عَلَى مَا يَأْتِي مِنْ ذِكْره إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى , وَكَانَ طُول سَائِرهمْ سِتَّةَ أَذْرُعٍ وَنِصْفًا فِي قَوْل مُقَاتِل . وَقَالَ الْكَلْبِيّ : كَانَ طُول كُلّ رَجُل مِنْهُمْ ثَمَانِينَ ذِرَاعًا , وَاللَّه أَعْلَمُ . فَلَمَّا أَذَاعُوا الْخَبَر مَا عَدَا يُوشَع وكالب بْن يوقنا , وَامْتَنَعَتْ بَنُو إِسْرَائِيل مِنْ الْجِهَاد عُوقِبُوا بِالتِّيهِ أَرْبَعِينَ سَنَة إِلَى أَنْ مَاتَ أُولَئِكَ الْعُصَاة وَنَشَأَ أَوْلَادهمْ , فَقَاتَلُوا الْجَبَّارِينَ وَغَلَبُوهُمْ .|لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا|أَيْ لَا تَرْجِعُوا عَنْ طَاعَتِي وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ مِنْ قِتَال الْجَبَّارِينَ , وَقِيلَ : لَا تَرْجِعُوا عَنْ طَاعَة اللَّه إِلَى مَعْصِيَته , وَالْمَعْنَى وَاحِد .

قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ

أَيْ عِظَام الْأَجْسَام طِوَال , وَقَدْ تَقَدَّمَ ; يُقَال : نَخْلَة جَبَّارَة أَيْ طَوِيلَة , وَالْجَبَّار الْمُتَعَظِّم الْمُمْتَنِع مِنْ الذُّلّ وَالْفَقْر . وَقَالَ الزَّجَّاج : الْجَبَّار مِنْ الْآدَمِيِّينَ الْعَاتِي , وَهُوَ الَّذِي يُجْبِر النَّاس عَلَى مَا يُرِيد ; فَأَصْله عَلَى هَذَا مِنْ الْإِجْبَار وَهُوَ الْإِكْرَاه ; فَإِنَّهُ يُجْبِر غَيْره عَلَى مَا يُرِيدهُ ; وَأَجْبَرَهُ أَيْ أَكْرَهَهُ . وَقِيلَ : هُوَ مَأْخُوذ مِنْ جَبْر الْعَظْم ; فَأَصْل الْجَبَّار عَلَى هَذَا الْمُصْلِحُ أَمْرَ نَفْسِهِ , ثُمَّ اُسْتُعْمِلَ فِي كُلّ مَنْ جَرَّ لِنَفْسِهِ نَفْعًا بِحَقٍّ أَوْ بَاطِل , وَقِيلَ : إِنَّ جَبْر الْعَظْم رَاجِع إِلَى مَعْنَى الْإِكْرَاه . قَالَ الْفَرَّاء : لَمْ أَسْمَعْ فَعَّالًا مِنْ أَفْعَلَ إِلَّا فِي حَرْفَيْنِ ; جَبَّار مِنْ أَجْبَرَ وَدَرَّاك مِنْ أَدْرَكَ . ثُمَّ قِيلَ : كَانَ هَؤُلَاءِ مِنْ بَقَايَا عَاد , وَقِيلَ : هُمْ مِنْ وَلَد عيصوا بْن إِسْحَاق , وَكَانُوا مِنْ الرُّوم , وَكَانَ مَعَهُمْ عوج الْأَعْنَق , وَكَانَ طُوله ثَلَاثَة آلَاف ذِرَاع وَثَلَثمِائَةٍ وَثَلَاثَة وَثَلَاثِينَ ذِرَاعًا ; قَالَهُ اِبْن عُمَر , وَكَانَ يَحْتَجِنُ السَّحَاب أَيْ يَجْذِبهُ بِمِحْجَنِهِ وَيَشْرَب مِنْهُ , وَيَتَنَاوَل الْحُوت مِنْ قَاع الْبَحْر فَيَشْوِيه بِعَيْنِ الشَّمْس يَرْفَعهُ إِلَيْهَا ثُمَّ يَأْكُلهُ , وَحَضَرَ طُوفَان نُوح عَلَيْهِ السَّلَام وَلَمْ يُجَاوِز رُكْبَتَيْهِ وَكَانَ عُمْره ثَلَاثَة آلَاف وَسِتّمِائَةِ سَنَة , وَأَنَّهُ قَلَعَ صَخْرَة عَلَى قَدْر عَسْكَر مُوسَى لِيَرْضَخهُمْ بِهَا , فَبَعَثَ اللَّه طَائِرًا فَنَقَرَهَا وَوَقَعَتْ فِي عُنُقه فَصَرَعَتْهُ , وَأَقْبَلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَطُوله عَشَرَة أَذْرُع ; وَعَصَاهُ عَشَرَة أَذْرُع وَتَرَقَّى فِي السَّمَاء عَشَرَة أَذْرُع فَمَا أَصَابَ إِلَّا كَعْبه وَهُوَ مَصْرُوع فَقَتَلَهُ , وَقِيلَ : بَلْ ضَرَبَهُ فِي الْعِرْق الَّذِي تَحْت كَعْبه فَصَرَعَهُ فَمَاتَ وَوَقَعَ عَلَى نِيل مِصْر فَجَسَرَهُمْ سَنَة . ذَكَرَ هَذَا الْمَعْنَى بِاخْتِلَافِ أَلْفَاظٍ مُحَمَّدُ بْن إِسْحَاق وَالطَّبَرِيّ وَمَكِّيّ وَغَيْرهمْ , وَقَالَ الْكَلْبِيّ : عوج مِنْ وَلَد هَارُوت وَمَارُوت حَيْثُ وَقَعَا بِالْمَرْأَةِ فَحَمَلَتْ , وَاللَّه أَعْلَمُ .|جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا|يَعْنِي الْبَلْدَة إِيلِيَاء , وَيُقَال : أَرِيحَاء أَيْ حَتَّى يُسَلِّمُوهَا لَنَا مِنْ غَيْر قِتَال , وَقِيلَ : قَالُوا ذَلِكَ خَوْفًا مِنْ الْجَبَّارِينَ وَلَمْ يَقْصِدُوا الْعِصْيَان ; فَإِنَّهُمْ قَالُوا : | فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ |

قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ

قَالَ اِبْن عَبَّاس وَغَيْره : هُمَا يُوشَع وكالب بْن يوقنا وَيُقَال اِبْن قانيا , وَكَانَا مِنْ الِاثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا . و | يَخَافُونَ | أَيْ مِنْ الْجَبَّارِينَ . قَتَادَة : يَخَافُونَ اللَّه تَعَالَى , وَقَالَ الضَّحَّاك : هُمَا رَجُلَانِ كَانَا فِي مَدِينَة الْجَبَّارِينَ عَلَى دِين مُوسَى ; فَمَعْنَى | يَخَافُونَ | عَلَى هَذَا أَيْ مِنْ الْعَمَالِقَة مِنْ حَيْثُ الطَّبْع لِئَلَّا يَطَّلِعُوا عَلَى إِيمَانهمْ فَيَفْتِنُوهُمْ وَلَكِنْ وَثِقَا بِاَللَّهِ , وَقِيلَ : يَخَافُونَ ضَعْف بَنِي إِسْرَائِيل وَجُبْنهمْ , وَقَرَأَ مُجَاهِد وَابْن جُبَيْر | يُخَافُونَ | بِضَمِّ الْيَاء , وَهَذَا يُقَوِّي أَنَّهُمَا مِنْ غَيْر قَوْم مُوسَى .|أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا|أَيْ بِالْإِسْلَامِ أَوْ بِالْيَقِينِ وَالصَّلَاح .|ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ|قَالَا لِبَنِي إِسْرَائِيل لَا يَهُولَنَّكُمْ عِظَم أَجْسَامهمْ فَقُلُوبهمْ مُلِئَتْ رُعْبًا مِنْكُمْ ; فَأَجْسَامهمْ عَظِيمَة وَقُلُوبهمْ ضَعِيفَة , وَكَانُوا قَدْ عَلِمُوا أَنَّهُمْ إِذَا دَخَلُوا مِنْ ذَلِكَ الْبَاب كَانَ لَهُمْ الْغَلَب , وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُونَا قَالَا ذَلِكَ ثِقَة بِوَعْدِ اللَّه . ثُمَّ قَالَا :|وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ|مُصَدِّقِينَ بِهِ ; فَإِنَّهُ يَنْصُركُمْ . ثُمَّ قِيلَ عَلَى الْقَوْل الْأَوَّل : لَمَّا قَالَا هَذَا أَرَادَ بَنُو إِسْرَائِيل رَجْمهمَا بِالْحِجَارَةِ , وَقَالُوا : نُصَدِّقكُمَا وَنَدَع قَوْل عَشَرَة ! .

قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ

وَهَذَا عِنَاد وَحَيْد عَنْ الْقِتَال , وَإِيَاسٌ مِنْ النَّصْرِ .|فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ|ثُمَّ جَهِلُوا صِفَة الرَّبّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَقَالُوا | فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبّك فَقَاتِلَا | وَصَفُوهُ بِالذَّهَابِ وَالِانْتِقَال , وَاَللَّه مُتَعَالٍ عَنْ ذَلِكَ , وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مُشَبِّهَة ; وَهُوَ مَعْنَى قَوْل الْحَسَن ; لِأَنَّهُ قَالَ : هُوَ كُفْر مِنْهُمْ بِاَللَّهِ , وَهُوَ الْأَظْهَر فِي مَعْنَى الْكَلَام , وَقِيلَ : أَيْ أَنَّ نُصْرَة رَبّك لَك أَحَقّ مِنْ نُصْرَتنَا , وَقِتَاله مَعَك - إِنْ كُنْت رَسُوله - أَوْلَى مِنْ قِتَالنَا ; فَعَلَى هَذَا يَكُون ذَلِكَ مِنْهُمْ كُفْر ; لِأَنَّهُمْ شَكُّوا فِي رِسَالَته . وَقِيلَ الْمَعْنَى : اِذْهَبْ أَنْتَ فَقَاتِلْ وَلْيُعِنْك رَبّك , وَقِيلَ : أَرَادُوا بِالرَّبِّ هَارُون , وَكَانَ أَكْبَرَ مِنْ مُوسَى وَكَانَ مُوسَى يُطِيعهُ . وَبِالْجُمْلَةِ فَقَدْ فَسَقُوا بِقَوْلِهِمْ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى : | فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْم الْفَاسِقِينَ | أَيْ لَا تَحْزَن عَلَيْهِمْ .|فَقَاتِلَا إِنَّا هَا|أَيْ لَا نَبْرَح وَلَا نُقَاتِل , وَيَجُوز | قَاعِدِينَ | عَلَى الْحَال ; لِأَنَّ الْكَلَام قَدْ تَمَّ قَبْله .

قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ

لِأَنَّهُ كَانَ يُطِيعهُ , وَقِيلَ الْمَعْنَى : إِنِّي لَا أَمْلِك إِلَّا نَفْسِي , ثُمَّ اِبْتَدَأَ فَقَالَ : | وَأَخِي | . أَيْ وَأَخِي أَيْضًا لَا يَمْلِك إِلَّا نَفْسه ; فَأَخِي عَلَى الْقَوْل الْأَوَّل فِي مَوْضِع نَصْب عَطْفًا عَلَى نَفْسِي , وَعَلَى الثَّانِي فِي مَوْضِع رَفْع , وَإِنْ شِئْت عَطَفْت عَلَى اِسْم إِنَّ وَهِيَ الْيَاء ; أَيْ إِنِّي وَأَخِي لَا نَمْلِك إِلَّا أَنْفُسنَا , وَإِنْ شِئْت عَطَفْت عَلَى الْمُضْمَر فِي أَمْلِك كَأَنَّهُ قَالَ : لَا أَمْلِك أَنَا وَأَخِي إِلَّا أَنْفُسنَا .|فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ|يُقَال : بِأَيِّ وَجْه سَأَلَهُ الْفَرْق بَيْنه وَبَيْن هَؤُلَاءِ الْقَوْم ؟ فَفِيهِ أَجْوِبَة ; الْأَوَّل : بِمَا يَدُلّ عَلَى بُعْدهمْ عَنْ الْحَقّ , وَذَهَابهمْ عَنْ الصَّوَاب فِيمَا اِرْتَكَبُوا مِنْ الْعِصْيَان ; وَلِذَلِكَ أُلْقُوا فِي التِّيه . الثَّانِي : بِطَلَبِ التَّمْيِيز أَيْ مَيِّزْنَا عَنْ جَمَاعَتهمْ وَجُمْلَتهمْ وَلَا تُلْحِقنَا بِهِمْ فِي الْعِقَاب , وَقِيلَ الْمَعْنَى : فَاقْضِ بَيْننَا وَبَيْنهمْ بِعِصْمَتِك إِيَّانَا مِنْ الْعِصْيَان الَّذِي اِبْتَلَيْتهمْ بِهِ ; وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : | فِيهَا يُفْرَق كُلّ أَمْر حَكِيم | [ الدُّخَان : 4 ] أَيْ يُقْضَى . وَقَدْ فَعَلَ لَمَّا أَمَاتَهُمْ فِي التِّيه , وَقِيلَ : إِنَّمَا أَرَادَ فِي الْآخِرَة , أَيْ اِجْعَلْنَا فِي الْجَنَّة وَلَا تَجْعَلنَا مَعَهُمْ فِي النَّار ; وَالشَّاهِد عَلَى الْفَرْق الَّذِي يَدُلّ عَلَى الْمُبَاعَدَة فِي الْأَحْوَال قَوْل الشَّاعِر : <br>يَا رَبِّ فَافْرُقْ بَيْنه وَبَيْنِي .......... أَشَدَّ مَا فَرَّقْتَ بَيْنَ اِثْنَيْنِ <br>وَرَوَى اِبْن عُيَيْنَة عَنْ عَمْرو بْن دِينَار عَنْ عُبَيْد بْن عُمَيْر أَنَّهُ قَرَأَ : | فَافْرِقْ | بِكَسْرِ الرَّاء .

قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ

قَوْله تَعَالَى : | قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَة عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَة يَتِيهُونَ فِي الْأَرْض | اِسْتَجَابَ اللَّه دُعَاءَهُ وَعَاقَبَهُمْ فِي التِّيه أَرْبَعِينَ سَنَة , وَأَصْل التِّيه فِي اللُّغَة الْحَيْرَة ; يُقَال مِنْهُ : تَاهَ يَتِيه تِيهًا وَتَوْهًا إِذَا تَحَيَّرَ . وَتَيَّهْته وَتَوَّهْته بِالْيَاءِ وَالْوَاو , وَالْيَاء أَكْثَر , وَالْأَرْض التَّيْهَاء الَّتِي لَا يُهْتَدَى فِيهَا ; وَأَرْض تِيه وَتَيْهَاء وَمِنْهَا قَالَ : <br>تِيهٌ أَتَاوِيه عَلَى السُّقَّاطِ <br>وَقَالَ آخَر : <br>بِتَيْهَاءَ قَفْرٍ وَالْمَطِيُّ كَأَنَّهَا .......... قَطَا الْحَزْن قَدْ كَانَتْ فِرَاخًا بُيُوضُهَا <br>فَكَانُوا يَسِيرُونَ فِي فَرَاسِخ قَلِيلَة - قِيلَ : فِي قَدْر سِتَّة فَرَاسِخ - يَوْمهمْ وَلَيْلَتهمْ فَيُصْبِحُونَ حَيْثُ أَمْسَوْا وَيُمْسُونَ حَيْثُ أَصْبَحُوا ; فَكَانُوا سَيَّارَة لَا قَرَار لَهُمْ . وَاخْتُلِفَ هَلْ كَانَ مَعَهُمْ مُوسَى وَهَارُون ؟ فَقِيلَ : لَا ; لِأَنَّ التِّيه عُقُوبَة , وَكَانَتْ سِنُو التِّيهِ بِعَدَدِ أَيَّام الْعِجْل , فَقُوبِلُوا عَلَى كُلّ يَوْم سَنَة ; وَقَدْ قَالَ : | فَافْرُقْ بَيْننَا وَبَيْن الْقَوْم الْفَاسِقِينَ | , وَقِيلَ : كَانَا مَعَهُمْ لَكِنْ سَهَّلَ اللَّه الْأَمْر عَلَيْهِمَا كَمَا جَعَلَ النَّار بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيم , وَمَعْنَى | مُحَرَّمَة | أَيْ أَنَّهُمْ مَمْنُوعُونَ مِنْ دُخُولهَا ; كَمَا يُقَال : حَرَّمَ اللَّه وَجْهك عَلَى النَّار , وَحَرَّمْت عَلَيْك دُخُول الدَّار ; فَهُوَ تَحْرِيم مَنْع لَا تَحْرِيم شَرْع , عَنْ أَكْثَرِ أَهْل التَّفْسِير ; كَمَا قَالَ الشَّاعِر : <br>جَالَتْ لِتَصْرَعنِي فَقُلْت لَهَا اُقْصُرِي .......... إِنِّي اِمْرُؤٌ صَرْعِي عَلَيْك حَرَامُ <br>أَيْ أَنَا فَارِس فَلَا يُمْكِنك صَرْعِي , وَقَالَ أَبُو عَلِيّ : يَجُوز أَنْ يَكُون تَحْرِيم تَعَبُّد , وَيُقَال : كَيْفَ يَجُوز عَلَى جَمَاعَة كَثِيرَة مِنْ الْعُقَلَاء أَنْ يَسِيرُوا فِي فَرَاسِخ يَسِيرَة فَلَا يَهْتَدُوا لِلْخُرُوجِ مِنْهَا ؟ فَالْجَوَاب : قَالَ أَبُو عَلِيّ : قَدْ يَكُون ذَلِكَ بِأَنْ يُحَوِّل اللَّه الْأَرْض الَّتِي هِيَ عَلَيْهَا إِذَا نَامُوا فَيَرُدّهُمْ إِلَى الْمَكَان الَّذِي اِبْتَدَءُوا مِنْهُ , وَقَدْ يَكُون بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الِاشْتِبَاه وَالْأَسْبَاب الْمَانِعَة مِنْ الْخُرُوج عَنْهَا عَلَى طَرِيق الْمُعْجِزَة الْخَارِجَة عَنْ الْعَادَة . | أَرْبَعِينَ | ظَرْف زَمَان لِلتِّيهِ ; فِي قَوْل الْحَسَن وَقَتَادَة ; قَالَا : وَلَمْ يَدْخُلهَا أَحَد مِنْهُمْ ; فَالْوَقْف عَلَى هَذَا عَلَى | عَلَيْهِمْ | , وَقَالَ الرَّبِيع بْن أَنَس وَغَيْره : إِنَّ | أَرْبَعِينَ سَنَة | ظَرْف لِلتَّحْرِيمِ , فَالْوَقْف عَلَى هَذَا عَلَى | أَرْبَعِينَ سَنَة | ; فَعَلَى الْأَوَّل إِنَّمَا دَخَلَهَا أَوْلَادهمْ ; قَالَهُ اِبْن عَبَّاس . وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلَّا يُوشَع وكالب , فَخَرَجَ مِنْهُمْ يُوشَع بِذُرِّيَّاتِهِمْ إِلَى تِلْكَ الْمَدِينَة وَفَتَحُوهَا , وَعَلَى الثَّانِي : فَمَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ بَعْد أَرْبَعِينَ سَنَة دَخَلُوهَا . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّ مُوسَى وَهَارُون مَاتَا فِي التِّيه . قَالَ غَيْره : وَنَبَّأَ اللَّه يُوشَع وَأَمَرَهُ بِقِتَالِ الْجَبَّارِينَ , وَفِيهَا حُبِسَتْ عَلَيْهِ الشَّمْس حَتَّى دَخَلَ الْمَدِينَة , وَفِيهَا أُحْرِقَ الَّذِي وُجِدَ الْغُلُولُ عِنْده , وَكَانَتْ تَنْزِل مِنْ السَّمَاء إِذَا غَنِمُوا نَار بَيْضَاء فَتَأْكُل الْغَنَائِم ; وَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى قَبُولهَا , فَإِنْ كَانَ فِيهَا غُلُول لَمْ تَأْكُلهُ , وَجَاءَتْ السِّبَاع وَالْوُحُوش فَأَكَلَتْهُ ; فَنَزَلَتْ النَّار فَلَمْ تَأْكُل مَا غَنِمُوا فَقَالَ : إِنَّ فِيكُمْ الْغُلُول فَلْتُبَايِعْنِي كُلّ قَبِيلَة فَبَايَعَتْهُ , فَلَصِقَتْ يَد رَجُل مِنْهُمْ بِيَدِهِ فَقَالَ : فِيكُمْ الْغُلُول فَلْيُبَايِعْنِي كُلّ رَجُل مِنْكُمْ فَبَايَعُوهُ رَجُلًا رَجُلًا حَتَّى لَصِقَتْ يَد رَجُل مِنْهُمْ بِيَدِهِ فَقَالَ : عِنْدك الْغُلُول فَأَخْرَجَ مِثْل رَأْس الْبَقَرَة مِنْ ذَهَب , فَنَزَلَتْ النَّار فَأَكَلَتْ الْغَنَائِم , وَكَانَتْ نَارًا بَيْضَاء مِثْل الْفِضَّة لَهَا حَفِيف أَيْ صَوْت مِثْل صَوْت الشَّجَر وَجَنَاح الطَّائِر فِيمَا يَذْكُرُونَ ; فَذَكَرُوا أَنَّهُ أُحْرِقَ الْغَالّ وَمَتَاعه بِغَوْرٍ يُقَال لَهُ الْآن عَاجِز , عُرِفَ بِاسْمِ الْغَالّ ; وَكَانَ اِسْمه عَاجِزًا . قُلْت : وَيُسْتَفَاد مِنْ هَذَا عُقُوبَة الْغَالّ قَبْلنَا , وَقَدْ تَقَدَّمَ حُكْمه فِي مِلَّتنَا , وَبَيَان مَا اِنْبَهَمَ مِنْ اِسْم النَّبِيّ وَالْغَالّ فِي الْحَدِيث الصَّحِيح عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ( غَزَا نَبِيّ مِنْ الْأَنْبِيَاء ) الْحَدِيث أَخْرَجَهُ مُسْلِم وَفِيهِ قَالَ : ( فَغَزَا فَأَدْنَى لِلْقَرْيَةِ حِين صَلَاة الْعَصْر أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ لِلشَّمْسِ أَنْتِ مَأْمُورَة وَأَنَا مَأْمُور اللَّهُمَّ اِحْبِسْهَا عَلَيَّ شَيْئًا فَحُبِسَتْ عَلَيْهِ حَتَّى فَتَحَ اللَّه عَلَيْهِ - قَالَ : فَجَمَعُوا مَا غَنِمُوا فَأَقْبَلَتْ النَّار لِتَأْكُلهُ فَأَبَتْ أَنْ تَطْعَمهُ فَقَالَ : فِيكُمْ غُلُول فَلْيُبَايِعْنِي مِنْ كُلّ قَبِيلَة رَجُل فَبَايَعُوهُ - قَالَ - فَلَصِقَتْ يَده بِيَدِ رَجُلَيْنِ أَوْ ثَلَاثَة فَقَالَ فِيكُمْ الْغُلُول ) وَذَكَرَ نَحْو مَا تَقَدَّمَ . قَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَالْحِكْمَة فِي حَبْس الشَّمْس عَلَى يُوشَع عِنْد قِتَاله أَهْل أَرِيحَاء وَإِشْرَافه عَلَى فَتْحهَا عَشِيّ يَوْم الْجُمُعَة , وَإِشْفَاقه مِنْ أَنْ تَغْرُب الشَّمْس قَبْل الْفَتْح أَنَّهُ لَوْ لَمْ تُحْبَس عَلَيْهِ حَرُمَ عَلَيْهِ الْقِتَال لِأَجْلِ السَّبْت , وَيَعْلَم بِهِ عَدُوّهُمْ فَيُعْمِل فِيهِمْ السَّيْف وَيَجْتَاحهُمْ ; فَكَانَ ذَلِكَ آيَة لَهُ خُصَّ بِهَا بَعْد أَنْ كَانَتْ نُبُوَّته ثَابِتَة بِخَبَرِ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام , عَلَى مَا يُقَال , وَاللَّه أَعْلَمُ , وَفِي هَذَا الْحَدِيث يَقُول عَلَيْهِ السَّلَام : ( فَلَمْ تَحِلّ الْغَنَائِم لِأَحَدٍ مِنْ قَبْلنَا ) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ رَأَى ضَعْفنَا وَعَجْزنَا فَطَيَّبَهَا لَنَا , وَهَذَا يَرُدّ قَوْل مَنْ قَالَ فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : | وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنْ الْعَالَمِينَ | إِنَّهُ تَحْلِيل الْغَنَائِم وَالِانْتِفَاع بِهَا , وَمِمَّنْ قَالَ إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام مَاتَ بِالتِّيهِ عَمْرو بْن مَيْمُون الْأَوْدِيّ , وَزَادَ وَهَارُون ; وَكَانَا خَرَجَا فِي التِّيه إِلَى بَعْض الْكُهُوف فَمَاتَ هَارُون فَدَفَنَهُ مُوسَى وَانْصَرَفَ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيل ; فَقَالُوا : مَا فَعَلَ هَارُون ؟ فَقَالَ : مَاتَ ; قَالُوا : كَذَبْت وَلَكِنَّك قَتَلْته لِحُبِّنَا لَهُ , وَكَانَ مُحَبًّا فِي بَنِي إِسْرَائِيل ; فَأَوْحَى اللَّه تَعَالَى إِلَيْهِ أَنْ اِنْطَلِقْ بِهِمْ إِلَى قَبْره فَإِنِّي بَاعِثه حَتَّى يُخْبِرهُمْ أَنَّهُ مَاتَ مَوْتًا وَلَمْ تَقْتُلهُ ; فَانْطَلَقَ بِهِمْ إِلَى قَبْره فَنَادَى يَا هَارُون فَخَرَجَ مِنْ قَبْره يَنْفُض رَأْسه فَقَالَ : أَنَا قَاتِلك ؟ قَالَ : لَا ; وَلَكِنِّي مُتّ ; قَالَ : فَعُدْ إِلَى مَضْجَعك ; وَانْصَرَفَ , وَقَالَ الْحَسَن : إِنَّ مُوسَى لَمْ يَمُتْ بِالتِّيهِ , وَقَالَ غَيْره : إِنَّ مُوسَى فَتَحَ أَرِيحَاء , وَكَانَ يُوشَع عَلَى مُقَدِّمَته فَقَاتَلَ الْجَبَابِرَة الَّذِينَ كَانُوا بِهَا , ثُمَّ دَخَلَهَا مُوسَى بِبَنِي إِسْرَائِيل فَأَقَامَ فِيهَا مَا شَاءَ اللَّه أَنْ يُقِيم , ثُمَّ قَبَضَهُ اللَّه تَعَالَى إِلَيْهِ لَا يَعْلَم بِقَبْرِهِ أَحَد مِنْ الْخَلَائِق . قَالَ الثَّعْلَبِيّ : وَهُوَ أَصَحّ الْأَقَاوِيل . قُلْت : قَدْ رَوَى مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : أُرْسِلَ مَلَك الْمَوْت إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فَلَمَّا جَاءَهُ صَكَّهُ فَفَقَأَ عَيْنه فَرَجَعَ إِلَى رَبّه فَقَالَ : | أَرْسَلْتنِي إِلَى عَبْد لَا يُرِيد الْمَوْت | قَالَ : فَرَدَّ اللَّه إِلَيْهِ عَيْنه وَقَالَ : | اِرْجِعْ إِلَيْهِ فَقُلْ لَهُ يَضَع يَده عَلَى مَتْن ثَوْر فَلَهُ بِمَا غَطَّتْ يَده بِكُلِّ شَعْرَة سَنَة | قَالَ : | أَيْ رَبّ ثُمَّ مَهْ | , قَالَ : | ثُمَّ الْمَوْت | قَالَ : | فَالْآن | ; فَسَأَلَ اللَّه أَنْ يُدْنِيَهُ مِنْ الْأَرْض الْمُقَدَّسَة رَمْيَة بِحَجَرٍ ; فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( فَلَوْ كُنْت ثَمَّ لَأَرَيْتُكُمْ قَبْره إِلَى جَانِب الطَّرِيق تَحْت الْكَثِيب الْأَحْمَر ) فَهَذَا نَبِيّنَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ عَلِمَ قَبْره وَوَصَفَ مَوْضِعه , وَرَآهُ فِيهِ قَائِمًا يُصَلِّي كَمَا فِي حَدِيث الْإِسْرَاء , إِلَّا أَنَّهُ يَحْتَمِل أَنْ يَكُون أَخْفَاهُ اللَّه عَنْ الْخَلْق سِوَاهُ وَلَمْ يَجْعَلهُ مَشْهُورًا عِنْدهمْ ; وَلَعَلَّ ذَلِكَ لِئَلَّا يُعْبَد , وَاللَّه أَعْلَمُ , وَيَعْنِي بِالطَّرِيقِ طَرِيق بَيْت الْمَقْدِس , وَوَقَعَ فِي بَعْض الرِّوَايَات إِلَى جَانِب الطُّور مَكَان الطَّرِيق , وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي تَأْوِيل لَطْم مُوسَى عَيْن مَلَك الْمَوْت وَفَقْئِهَا عَلَى أَقْوَال ; مِنْهَا : أَنَّهَا كَانَتْ عَيْنًا مُتَخَيَّلَة لَا حَقِيقَة , وَهَذَا بَاطِل , لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى أَنَّ مَا يَرَاهُ الْأَنْبِيَاء مِنْ صُوَر الْمَلَائِكَة لَا حَقِيقَة لَهُ , وَمِنْهَا : أَنَّهَا كَانَتْ عَيْنًا مَعْنَوِيَّة وَإِنَّمَا فَقَأَهَا بِالْحُجَّةِ , وَهَذَا مَجَاز لَا حَقِيقَة , وَمِنْهَا : أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام لَمْ يَعْرِف الْمَوْت , وَأَنَّهُ رَأَى رَجُلًا دَخَلَ مَنْزِله بِغَيْرِ إِذْنه يُرِيد نَفْسه فَدَافَعَ عَنْ نَفْسه فَلَطَمَ عَيْنه فَفَقَأَهَا ; وَتَجِب الْمُدَافَعَة فِي هَذَا بِكُلِّ مُمْكِن , وَهَذَا وَجْه حَسَن ; لِأَنَّهُ حَقِيقَة فِي الْعَيْن وَالصَّكّ ; قَالَهُ الْإِمَام أَبُو بَكْر بْن خُزَيْمَة , غَيْر أَنَّهُ اُعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِمَا فِي الْحَدِيث ; وَهُوَ أَنَّ مَلَك الْمَوْت لَمَّا رَجَعَ إِلَى اللَّه تَعَالَى قَالَ : | يَا رَبّ أَرْسَلْتنِي إِلَى عَبْد لَا يُرِيد الْمَوْت | فَلَوْ لَمْ يَعْرِفهُ مُوسَى لَمَا صَدَقَ الْقَوْلُ مِنْ مَلَك الْمَوْت ; وَأَيْضًا قَوْله فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى : | أَجِبْ رَبّك | يَدُلّ عَلَى تَعْرِيفه بِنَفْسِهِ , وَاللَّه أَعْلَمُ . وَمِنْهَا : أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام كَانَ سَرِيع الْغَضَب , إِذَا غَضِبَ طَلَعَ الدُّخَان مِنْ قَلَنْسُوَته وَرَفَعَ شَعْرُ بَدَنه جُبَّتَهُ ; وَسُرْعَة غَضَبه كَانَتْ سَبَبًا لِصَكِّهِ مَلَك الْمَوْت . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهَذَا كَمَا تَرَى , فَإِنَّ الْأَنْبِيَاء مَعْصُومُونَ أَنْ يَقَع مِنْهُمْ اِبْتِدَاء مِثْل هَذَا فِي الرِّضَا وَالْغَضَب , وَمِنْهَا وَهُوَ الصَّحِيح مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَال : أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام عَرَفَ مَلَك الْمَوْت , وَأَنَّهُ جَاءَ لِيَقْبِض رُوحه لَكِنَّهُ جَاءَ مَجِيء الْجَزْم بِأَنَّهُ قَدْ أُمِرَ بِقَبْضِ رُوحه مِنْ غَيْر تَخْيِير , وَعِنْد مُوسَى مَا قَدْ نَصَّ عَلَيْهِ نَبِيّنَا مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ( أَنَّ اللَّه لَا يَقْبِض رُوح نَبِيّ حَتَّى يُخَيِّرهُ ) فَلَمَّا جَاءَهُ عَلَى غَيْر الْوَجْه الَّذِي أُعْلِمَ بَادَرَ بِشَهَامَتِهِ وَقُوَّة نَفْسه إِلَى أَدَبه , فَلَطَمَهُ فَفَقَأَ عَيْنه اِمْتِحَانًا لِمَلَكِ الْمَوْت ; إِذْ لَمْ يُصَرِّح لَهُ بِالتَّخْيِيرِ , وَمِمَّا يَدُلّ عَلَى صِحَّة هَذَا , أَنَّهُ لَمَّا رَجَعَ إِلَيْهِ مَلَك الْمَوْت فَخَيَّرَهُ بَيْن الْحَيَاة وَالْمَوْت اِخْتَارَ الْمَوْث وَاسْتَسْلَمَ , وَاَللَّه بِغَيْبِهِ أَحْكَمُ وَأَعْلَمُ . هَذَا أَصَحّ مَا قِيلَ فِي وَفَاة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام , وَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي ذَلِكَ قِصَصًا وَأَخْبَارًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهَا ; وَفِي الصَّحِيح غُنْيَة عَنْهَا . وَكَانَ عُمْر مُوسَى مِائَة وَعِشْرِينَ سَنَة ; فَيُرْوَى أَنَّ يُوشَع رَآهُ بَعْد مَوْته فِي الْمَنَام فَقَالَ لَهُ : كَيْفَ وَجَدْت الْمَوْت ؟ فَقَالَ : | كَشَاةٍ تُسْلَخ وَهِيَ حَيَّة | , وَهَذَا صَحِيح مَعْنًى ; قَالَ : صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيث الصَّحِيح : ( إِنَّ لِلْمَوْتِ سَكَرَات ) عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي كِتَاب | التَّذْكِرَة | , وَقَوْله : | فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْم الْفَاسِقِينَ | أَيْ لَا تَحْزَن , وَالْأَسَى الْحُزْن ; أَسِيَ يَأْسَى أَيْ حَزِنَ , قَالَ : <br>يَقُولُونَ لَا تَهْلِك أَسًى وَتَجَمَّلِ<br>

وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ

فِيهِ مَسْأَلَتَانِ </subtitle>الْأُولَى : وَجْه اِتِّصَال هَذِهِ الْآيَة بِمَا قَبْلهَا التَّنْبِيه مِنْ اللَّه تَعَالَى عَلَى أَنَّ ظُلْم الْيَهُود , وَنَقْضَهُمْ الْمَوَاثِيقَ وَالْعُهُودَ كَظُلْمِ اِبْن آدَم لِأَخِيهِ . الْمَعْنَى : إِنْ هَمَّ هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ بِالْفَتْكِ بِك يَا مُحَمَّد فَقَدْ قَتَلُوا قَبْلك الْأَنْبِيَاء , وَقَتَلَ قَابِيلُ هَابِيلَ , وَالشَّرّ قَدِيم . أَيْ ذَكِّرْهُمْ هَذِهِ الْقِصَّة فَهِيَ قِصَّة صِدْق , لَا كَالْأَحَادِيثِ الْمَوْضُوعَة ; وَفِي ذَلِكَ تَبْكِيت لِمَنْ خَالَفَ الْإِسْلَام , وَتَسْلِيَة لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَاخْتُلِفَ فِي اِبْنَيْ آدَم ; فَقَالَ الْحَسَن الْبَصْرِيّ : لَيْسَا لِصُلْبِهِ , كَانَا رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيل - ضَرَبَ اللَّه بِهِمَا الْمَثَل فِي إِبَانَة حَسَد الْيَهُود - وَكَانَ بَيْنهمَا خُصُومَة , فَتَقَرَّبَا بِقُرْبَانَيْنِ وَلَمْ تَكُنْ الْقَرَابِين إِلَّا فِي بَنِي إِسْرَائِيل . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا وَهْم , وَكَيْفَ يَجْهَل صُورَة الدَّفْن أَحَد مِنْ بَنِي إِسْرَائِيل حَتَّى يَقْتَدِيَ بِالْغُرَابِ ؟ وَالصَّحِيح أَنَّهُمَا اِبْنَاهُ لِصُلْبِهِ ; هَذَا قَوْل الْجُمْهُور مِنْ الْمُفَسِّرِينَ وَقَالَهُ اِبْن عَبَّاس وَابْن عُمَر وَغَيْرهمَا ; وَهُمَا قَابِيل وَهَابِيل , وَكَانَ قُرْبَانُ قَابِيل حُزْمَة مِنْ سُنْبُل - لِأَنَّهُ كَانَ صَاحِب زَرْع - وَاخْتَارَهَا مِنْ أَرْدَإِ زَرْعه , ثُمَّ إِنَّهُ وَجَدَ فِيهَا سُنْبُلَة طَيِّبَة فَفَرَكَهَا وَأَكَلَهَا , وَكَانَ قُرْبَانُ هَابِيل كَبْشًا - لِأَنَّهُ كَانَ صَاحِب غَنَم - أَخَذَهُ مِنْ أَجْوَدِ غَنَمه . | فَتُقُبِّلَ | فَرُفِعَ إِلَى الْجَنَّة , فَلَمْ يَزَلْ يَرْعَى فِيهَا إِلَى أَنْ فُدِيَ بِهِ الذَّبِيح عَلَيْهِ السَّلَام ; قَالَهُ سَعِيد بْن جُبَيْر وَغَيْره . فَلَمَّا تُقُبِّلَ قُرْبَانُ هَابِيل لِأَنَّهُ كَانَ مُؤْمِنًا - قَالَ لَهُ قَابِيل حَسَدًا : - لِأَنَّهُ كَانَ كَافِرًا - أَتَمْشِي عَلَى الْأَرْض يَرَاك النَّاسُ أَفْضَلَ مِنِّي ! | لَأَقْتُلَنَّك | وَقِيلَ : سَبَب هَذَا الْقُرْبَانِ أَنَّ حَوَّاء عَلَيْهَا السَّلَام كَانَتْ تَلِد فِي كُلّ بَطْن ذَكَرًا وَأُنْثَى - إِلَّا شيثا عَلَيْهِ السَّلَام فَإِنَّهَا وَلَدَتْهُ مُنْفَرِدًا عِوَضًا مِنْ هَابِيل عَلَى مَا يَأْتِي , وَاسْمه هِبَة اللَّه ; لِأَنَّ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ لِحَوَّاء لَمَّا وَلَدَتْهُ : هَذَا هِبَة اللَّه لَك بَدَل هَابِيل , وَكَانَ آدَم يَوْم وُلِدَ شِيث اِبْن ثَلَاثِينَ وَمِائَة سَنَة - وَكَانَ يُزَوِّج الذَّكَر مِنْ هَذَا الْبَطْن الْأُنْثَى مِنْ الْبَطْن الْآخَر , وَلَا تَحِلّ لَهُ أُخْته تَوْأَمَته ; فَوَلَدَتْ مَعَ قَابِيل أُخْتًا جَمِيلَة وَاسْمهَا إقليمياء , وَمَعَ هَابِيل أُخْتًا لَيْسَتْ كَذَلِكَ وَاسْمهَا ليوذا ; فَلَمَّا أَرَادَ آدَم تَزْوِيجهمَا قَالَ قَابِيل : أَنَا أَحَقّ بِأُخْتِي , فَأَمَرَهُ آدَم فَلَمْ يَأْتَمِرْ , وَزَجَرَهُ فَلَمْ يَنْزَجِر ; فَاتَّفَقُوا عَلَى التَّقْرِيب ; قَالَهُ جَمَاعَة مِنْ الْمُفَسِّرِينَ مِنْهُمْ اِبْن مَسْعُود . وَرُوِيَ أَنَّ آدَم حَضَرَ ذَلِكَ , وَاللَّه أَعْلَمُ . وَقَدْ رُوِيَ فِي هَذَا الْبَاب عَنْ جَعْفَر الصَّادِق : أَنَّ آدَم لَمْ يَكُنْ يُزَوِّج اِبْنَته مِنْ اِبْنه ; وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ آدَم لَمَا رَغِبَ عَنْهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَلَا كَانَ دِينُ آدَمَ إِلَّا دِينَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَأَنَّ اللَّه تَعَالَى لَمَّا أَهَبَطَ آدَم وَحَوَّاء إِلَى الْأَرْض وَجَمَعَ بَيْنهمَا وَلَدَتْ حَوَّاء بِنْتًا فَسَمَّاهَا عناقا فَبَغَتْ , وَهِيَ أَوَّل مَنْ بَغَى عَلَى وَجْه الْأَرْض ; فَسَلَّطَ اللَّه عَلَيْهَا مَنْ قَتَلَهَا , ثُمَّ وَلَدَتْ لِآدَم قَابِيل , ثُمَّ وَلَدَتْ لَهُ هَابِيل ; فَلَمَّا أَدْرَكَ قَابِيل أَظْهَرَ اللَّه لَهُ جِنِّيَّة مِنْ وَلَد الْجِنّ , يُقَال لَهَا : جمالة فِي صُورَة إِنْسِيَّة ; وَأَوْحَى اللَّه إِلَى آدَم أَنْ زَوِّجْهَا مِنْ قَابِيل فَزَوَّجَهَا مِنْهُ . فَلَمَّا أَدْرَكَ هَابِيل أَهْبَطَ اللَّه إِلَى آدَم حُورِيَّة فِي صِفَة إِنْسِيَّة وَخَلَقَ لَهَا رَحِمًا , وَكَانَ اِسْمهَا بزلة , فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهَا هَابِيل أَحَبَّهَا ; فَأَوْحَى اللَّه إِلَى آدَم أَنْ زَوِّجْ بزلة مِنْ هَابِيل فَفَعَلَ . فَقَالَ قَابِيل : يَا أَبَتِ أَلَسْت أَكْبَرَ مِنْ أَخِي ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ : فَكُنْتُ أَحَقَّ بِمَا فَعَلْتَ بِهِ مِنْهُ ! فَقَالَ لَهُ آدَم : يَا بُنَيّ إِنَّ اللَّه قَدْ أَمَرَنِي بِذَلِكَ , وَإِنَّ الْفَضْل بِيَدِ اللَّه يُؤْتِيه مَنْ يَشَاء , فَقَالَ : لَا وَاَللَّه , وَلَكِنَّك آثَرْته عَلَيَّ . فَقَالَ آدَم : | فَقَرِّبَا قُرْبَانًا فَأَيّكُمَا يُقْبَل قُرْبَانه فَهُوَ أَحَقُّ بِالْفَضْلِ | . قُلْت : هَذِهِ الْقِصَّة عَنْ جَعْفَر مَا أَظُنّهَا تَصِحّ , وَأَنَّ الْقَوْل مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ كَانَ يُزَوِّج غُلَام هَذَا الْبَطْن لِجَارِيَةِ تِلْكَ الْبَطْن , وَالدَّلِيل عَلَى هَذَا مِنْ الْكِتَاب قَوْله تَعَالَى : | يَا أَيّهَا النَّاس اِتَّقُوا رَبّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْس وَاحِدَة وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء | [ النِّسَاء : 1 ] , وَهَذَا كَالنَّصِّ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ , حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانه فِي سُورَة | الْبَقَرَة | . وَكَانَ جَمِيع مَا وَلَدَتْهُ حَوَّاء أَرْبَعِينَ مِنْ ذَكَر وَأُنْثَى فِي عِشْرِينَ بَطْنًا ; أَوَّلهمْ قَابِيل وَتَوْأَمَته إقليمياء , وَآخِرهمْ عَبْد الْمُغِيث . ثُمَّ بَارَكَ اللَّه فِي نَسْل آدَم . قَالَ اِبْن عَبَّاس : لَمْ يَمُتْ آدَم حَتَّى بَلَغَ وَلَده وَوَلَد وَلَده أَرْبَعِينَ أَلْفًا , وَمَا رُوِيَ عَنْ جَعْفَر - مِنْ قَوْله : فَوَلَدَتْ بِنْتًا وَأَنَّهَا بَغَتْ - فَيُقَال : مَعَ مَنْ بَغَتْ ؟ أَمَعَ جِنِّيّ تَسَوَّلَ لَهَا ! وَمِثْل هَذَا يَحْتَاج إِلَى نَقْل صَحِيح يَقْطَع الْعُذْر , وَذَلِكَ مَعْدُوم , وَاللَّه أَعْلَمُ , وَفِي قَوْل هَابِيل | قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّل اللَّه مِنْ الْمُتَّقِينَ | كَلَام قَبْله مَحْذُوف ; لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ لَهُ قَابِيل : | لَأَقْتُلَنَّك | قَالَ لَهُ : وَلِمَ تَقْتُلنِي وَأَنَا لَمْ أَجْنِ شَيْئًا ؟ , وَلَا ذَنْب لِي فِي قَبُول اللَّه قُرْبَانِي , أَمَا إِنِّي اِتَّقَيْته وَكُنْت عَلَى لَاحِبِ الْحَقّ وَإِنَّمَا يَتَقَبَّل اللَّه مِنْ الْمُتَّقِينَ . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : الْمُرَاد بِالتَّقْوَى هُنَا اِتِّقَاء الشِّرْك بِإِجْمَاعِ أَهْل السُّنَّة ; فَمَنْ اِتَّقَاهُ وَهُوَ مُوَحِّد فَأَعْمَاله الَّتِي تَصْدُق فِيهَا نِيَّته مَقْبُولَة ; وَأَمَّا الْمُتَّقِي الشِّرْك وَالْمَعَاصِي فَلَهُ الدَّرَجَة الْعُلْيَا مِنْ الْقَبُول وَالْخَتْم بِالرَّحْمَةِ ; عُلِمَ ذَلِكَ بِإِخْبَارِ اللَّه تَعَالَى لَا أَنَّ ذَلِكَ يَجِب عَلَى اللَّه تَعَالَى عَقْلًا , وَقَالَ عَدِيّ بْن ثَابِت وَغَيْره : قُرْبَان مُتَّقِي هَذِهِ الْأُمَّةِ الصَّلَاةُ . قُلْت : وَهَذَا خَاصّ فِي نَوْع مِنْ الْعِبَادَات , وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْته بِالْحَرْبِ وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبّ إِلَيَّ مِمَّا اِفْتَرَضْت عَلَيْهِ وَمَا يَزَال عَبْدِي يَتَقَرَّب إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبّهُ فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعه الَّذِي يَسْمَع بِهِ وَبَصَره الَّذِي يُبْصِر بِهِ وَيَده الَّتِي يَبْطِش بِهَا وَرِجْله الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اِسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ وَمَا تَرَدَّدْت عَنْ شَيْء أَنَا فَاعِله تَرَدُّدِي عَنْ نَفْس الْمُؤْمِن يَكْرَه الْمَوْت وَأَنَا أَكْرَه مَسَاءَتَهُ ) .

لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ

الْآيَة . أَيْ لَئِنْ قَصَدْت قَتْلِي فَأَنَا لَا أَقْصِد قَتْلك ; فَهَذَا اِسْتِسْلَام مِنْهُ . وَفِي الْخَبَر : ( إِذَا كَانَتْ الْفِتْنَة فَكُنْ كَخَيْرِ اِبْنَيْ آدَم ) , وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ سَعْد بْن أَبِي وَقَّاص قَالَ قُلْت يَا رَسُول : إِنْ دَخَلَ عَلَيَّ بَيْتِي وَبَسَطَ يَده إِلَيَّ لِيَقْتُلنِي ؟ قَالَ فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( كُنْ كَخَيْرِ اِبْنَيْ آدَم ) وَتَلَا هَذِهِ الْآيَة | لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدك لِتَقْتُلنِي | . قَالَ مُجَاهِد : كَانَ الْفَرْض عَلَيْهِمْ حِينَئِذٍ أَلَّا يَسْتَلّ أَحَد سَيْفًا , وَأَلَّا يَمْتَنِع مِمَّنْ يُرِيد قَتْله . قَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَذَلِكَ مِمَّا يَجُوز وُرُود التَّعَبُّد بِهِ , إِلَّا أَنَّ فِي شَرْعنَا يَجُوز دَفْعه إِجْمَاعًا , وَفِي وُجُوب ذَلِكَ عَلَيْهِ خِلَاف , وَالْأَصَحّ وُجُوب ذَلِكَ ; لِمَا فِيهِ مِنْ النَّهْي عَنْ الْمُنْكَر , وَفِي الْحَشْوِيَّة قَوْم لَا يُجَوِّزُونَ لِلْمَصُولِ عَلَيْهِ الدَّفْع ; وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ أَبِي ذَرّ , وَحَمَلَهُ الْعُلَمَاء عَلَى تَرْك الْقِتَال فِي الْفِتْنَة , وَكَفّ الْيَد عِنْد الشُّبْهَة ; عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي كِتَاب | التَّذْكِرَة | , وَقَالَ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو وَجُمْهُور النَّاس : كَانَ هَابِيل أَشَدّ قُوَّة مِنْ قَابِيل وَلَكِنَّهُ تَحَرَّجَ . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَر , وَمِنْ هَاهُنَا يَقْوَى أَنَّ قَابِيل إِنَّمَا هُوَ عَاصٍ لَا كَافِر ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَافِرًا لَمْ يَكُنْ لِلتَّحَرُّجِ هُنَا وَجْه , وَإِنَّمَا وَجْه التَّحَرُّج فِي هَذَا أَنَّ الْمُتَحَرِّج يَأْبَى أَنْ يُقَاتِل مُوَحِّدًا , وَيَرْضَى بِأَنْ يُظْلَم لِيُجَازَى فِي الْآخِرَة ; وَنَحْو هَذَا فَعَلَ عُثْمَان رَضِيَ اللَّه عَنْهُ , وَقِيلَ : الْمَعْنَى لَا أَقْصِد قَتْلك بَلْ أَقْصِد الدَّفْع عَنْ نَفْسِي , وَعَلَى هَذَا قِيلَ : كَانَ نَائِمًا فَجَاءَ قَابِيل وَرَضَخَ رَأْسه بِحَجَرٍ عَلَى مَا يَأْتِي , وَمُدَافَعَة الْإِنْسَان عَمَّنْ يُرِيد ظُلْمه جَائِزَة وَإِنْ أَتَى عَلَى نَفْس الْعَادِي , وَقِيلَ : لَئِنْ بَدَأْت بِقَتْلِي فَلَا أَبْدَأ بِالْقَتْلِ . وَقِيلَ : أَرَادَ لَئِنْ بَسَطْت إِلَيَّ يَدك ظُلْمًا فَمَا أَنَا بِظَالِمٍ ; إِنِّي أَخَاف اللَّه رَبّ الْعَالَمِينَ .

إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ

قِيلَ : مَعْنَاهُ مَعْنَى قَوْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِذَا اِلْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِل وَالْمَقْتُول فِي النَّار ) قِيلَ : يَا رَسُول اللَّه هَذَا الْقَاتِل فَمَا بَال الْمَقْتُول ؟ قَالَ : ( إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْل صَاحِبه ) وَكَأَنَّ هَابِيل أَرَادَ إِنِّي لَسْت بِحَرِيصٍ عَلَى قَتْلك ; فَالْإِثْم الَّذِي كَانَ يَلْحَقنِي لَوْ كُنْت , حَرِيصًا عَلَى قَتْلك أُرِيد أَنْ تَحْمِلهُ أَنْتَ مَعَ إِثْمك فِي قَتْلِي , وَقِيلَ : الْمَعْنَى | بِإِثْمِي | الَّذِي يَخْتَصّ بِي فِيمَا فَرَّطْت ; أَيْ يُؤْخَذ فِي سَيِّئَاتِي فَتُطْرَح عَلَيْك بِسَبَبِ ظُلْمك لِي , وَتَبُوء بِإِثْمِك فِي قَتْلك ; وَهَذَا يَعْضِدهُ قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام : ( يُؤْتَى يَوْم الْقِيَامَة بِالظَّالِمِ وَالْمَظْلُوم فَيُؤْخَذ مِنْ حَسَنَات الظَّالِم فَتُزَاد فِي حَسَنَات الْمَظْلُوم حَتَّى يَنْتَصِف فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَات أُخِذَ مِنْ سَيِّئَات الْمَظْلُوم فَتُطْرَح عَلَيْهِ ) . أَخْرَجَهُ مُسْلِم بِمَعْنَاهُ , وَقَدْ تَقَدَّمَ , وَيَعْضِدهُ قَوْله تَعَالَى : | وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالهمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالهمْ | [ الْعَنْكَبُوت : 13 ] وَهَذَا بَيِّن لَا إِشْكَال فِيهِ , وَقِيلَ : الْمَعْنَى إِنِّي أُرِيد أَلَّا تَبُوء بِإِثْمِي وَإِثْمك كَمَا قَالَ تَعَالَى : | وَأَلْقَى فِي الْأَرْض رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيد بِكُمْ | [ النَّحْل : 15 ] أَيْ لِئَلَّا تَمِيد بِكُمْ . وَقَوْله تَعَالَى : | يُبَيِّن اللَّه لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا | [ النِّسَاء : 176 ] أَيْ لِئَلَّا تَضِلُّوا فَحَذَفَ | لَا | . قُلْت : وَهَذَا ضَعِيف ; لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( لَا تُقْتَل نَفْس ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى اِبْن آدَم الْأَوَّل كِفْل مِنْ دَمهَا لِأَنَّهُ أَوَّل مَنْ سَنَّ الْقَتْل ) , فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ إِثْم الْقَتْل حَاصِل ; وَلِهَذَا قَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاء : إِنَّ الْمَعْنَى تَرْجِع بِإِثْمِ قَتْلِي وَإِثْمك الَّذِي عَمِلْته قَبْل قَتْلِي . قَالَ الثَّعْلَبِيّ : هَذَا قَوْل عَامَّة أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ , وَقِيلَ : هُوَ اِسْتِفْهَام , أَيْ أَوَ إِنِّي أُرِيد ؟ عَلَى جِهَة الْإِنْكَار ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى : | وَتِلْكَ نِعْمَة | أَيْ أَوَ تِلْكَ نِعْمَة ؟ وَهَذَا لِأَنَّ إِرَادَة الْقَتْل مَعْصِيَة . حَكَاهُ الْقُشَيْرِيّ وَسُئِلَ أَبُو الْحَسَن بْن كَيْسَان : كَيْفَ يُرِيد الْمُؤْمِن أَنْ يَأْثَم أَخُوهُ وَأَنْ يَدْخُل النَّار ؟ فَقَالَ : إِنَّمَا وَقَعَتْ الْإِرَادَة بَعْدَمَا بَسَطَ يَده إِلَيْهِ بِالْقَتْلِ ; وَالْمَعْنَى : لَئِنْ بَسَطْت إِلَيَّ يَدك لِتَقْتُلنِي لَأَمْتَنِعَنَّ مِنْ ذَلِكَ مُرِيدًا لِلثَّوَابِ ; فَقِيلَ لَهُ : فَكَيْفَ قَالَ : بِإِثْمِي وَإِثْمك ; وَأَيُّ إِثْم لَهُ إِذَا قُتِلَ ؟ فَقَالَ : فِيهِ ثَلَاثَة أَجْوِبَة ; أَحَدهَا : أَنْ تَبُوء بِإِثْمِ قَتْلِي وَإِثْم ذَنْبك الَّذِي مِنْ أَجْله لَمْ يُتَقَبَّل قُرْبَانك , وَيُرْوَى هَذَا الْقَوْل عَنْ مُجَاهِد , وَالْوَجْه الْآخَر : أَنْ تَبُوء بِإِثْمِ قَتْلِي وَإِثْم اِعْتِدَائِك عَلَيَّ ; لِأَنَّهُ قَدْ يَأْثَم بِالِاعْتِدَاءِ وَإِنْ لَمْ يَقْتُل , وَالْوَجْه الثَّالِث : أَنَّهُ لَوْ بَسَطَ يَده إِلَيْهِ أَثِمَ ; فَرَأَى أَنَّهُ إِذَا أَمْسَكَ عَنْ ذَلِكَ فَإِثْمه يَرْجِع عَلَى صَاحِبه . فَصَارَ هَذَا مِثْل قَوْلك : الْمَال بَيْنه وَبَيْن زَيْد ; أَيْ الْمَال بَيْنهمَا , فَالْمَعْنَى أَنْ تَبُوء بِإِثْمِنَا , وَأَصْل | بَاءَ | رَجَعَ إِلَى الْمَبَاءَة , وَهِيَ الْمَنْزِل . | وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنْ اللَّه | [ الْبَقَرَة : 61 ] أَيْ رَجَعُوا , وَقَدْ مَضَى فِي | الْبَقَرَة | مُسْتَوْفًى , وَقَالَ الشَّاعِر : <br>أَلَا تَنْتَهِي عَنَّا مُلُوك وَتَتَّقِي .......... مَحَارِمنَا لَا يَبْؤُء الدَّمُ بِالدَّمِ <br>أَيْ لَا يَرْجِع الدَّم بِالدَّمِ فِي الْقَوَد .|فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ|دَلِيل عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا فِي ذَلِكَ الْوَقْت مُكَلَّفِينَ قَدْ لَحِقَهُمْ الْوَعْد وَالْوَعِيد , وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِقَوْلِ هَابِيل لِأَخِيهِ قَابِيل : | فَتَكُون مِنْ أَصْحَاب النَّار | عَلَى أَنَّهُ كَانَ كَافِرًا ; لِأَنَّ لَفْظ أَصْحَاب النَّار إِنَّمَا وَرَدَ فِي الْكُفَّار حَيْثُ وَقَعَ فِي الْقُرْآن , وَهَذَا مَرْدُود هُنَا بِمَا ذَكَرْنَاهُ عَنْ أَهْل الْعِلْم فِي تَأْوِيل الْآيَة , وَمَعْنَى | مِنْ أَصْحَاب النَّار | مُدَّة كَوْنك فِيهَا , وَاللَّه أَعْلَمُ .

فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ

قَوْله تَعَالَى : | فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسه | . أَيْ سَوَّلَتْ وَسَهَّلَتْ نَفْسه عَلَيْهِ الْأَمْر وَشَجَّعَتْهُ وَصَوَّرَتْ لَهُ أَنَّ قَتْل أَخِيهِ طَوْع سَهْل لَهُ يُقَال : طَاعَ الشَّيْء أَيْ سَهُلَ وَانْقَادَ . وَطَوَّعَهُ فُلَان لَهُ أَيْ سَهَّلَهُ . قَالَ الْهَرَوِيّ : طَوَّعَتْ وَأَطَاعَتْ وَاحِد ; يُقَال : طَاعَ لَهُ كَذَا إِذَا أَتَاهُ طَوْعًا . وَقِيلَ : طَاوَعَتْهُ نَفْسه فِي قَتْل أَخِيهِ ; فَنُزِعَ الْخَافِضُ فَانْتَصَبَ . وَرُوِيَ أَنَّهُ جَهِلَ كَيْفَ يَقْتُلهُ فَجَاءَ إِبْلِيس بِطَائِرٍ - أَوْ حَيَوَان غَيْره - فَجَعَلَ يَشْدَخ رَأْسه بَيْن حَجَرَيْنِ لِيَقْتَدِيَ بِهِ قَابِيل فَفَعَلَ ; قَالَهُ اِبْن جُرَيْج وَمُجَاهِد وَغَيْرهمَا , وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَابْن مَسْعُود : وَجَدَهُ نَائِمًا فَشَدَّ رَأْسه بِحَجَرٍ وَكَانَ ذَلِكَ فِي ثَوْر - جَبَل بِمَكَّة - قَالَهُ اِبْن عَبَّاس , وَقِيلَ : عِنْد عَقَبَة حِرَاء ; حَكَاهُ مُحَمَّد بْن جَرِير الطَّبَرِيّ , وَقَالَ جَعْفَر الصَّادِق : بِالْبَصْرَةِ فِي مَوْضِع الْمَسْجِد الْأَعْظَم , وَكَانَ لِهَابِيل يَوْم قَتَلَهُ قَابِيل عِشْرُونَ سَنَة , وَيُقَال : إِنَّ قَابِيل كَانَ يَعْرِف الْقَتْل بِطَبْعِهِ ; لِأَنَّ الْإِنْسَان وَإِنْ لَمْ يَرَ الْقَتْل فَإِنَّهُ يَعْلَم بِطَبْعِهِ أَنَّ النَّفْس فَانِيَة وَيُمْكِن إِتْلَافهَا ; فَأَخَذَ حَجَرًا فَقَتَلَهُ بِأَرْضِ الْهِنْد , وَاللَّه أَعْلَمُ . وَلَمَّا قَتَلَهُ نَدِمَ فَقَعَدَ يَبْكِي عِنْد رَأْسه إِذْ أَقْبَلَ غُرَابَانِ فَاقْتَتَلَا فَقَتَلَ أَحَدهمَا الْآخَر ثُمَّ حَفَرَ لَهُ حُفْرَة فَدَفَنَهُ ; فَفَعَلَ الْقَاتِل بِأَخِيهِ كَذَا , وَالسَّوْءَة يُرَاد بِهَا الْعَوْرَة , وَقِيلَ : يُرَاد بِهَا جِيفَة الْمَقْتُول ; ثُمَّ إِنَّهُ هَرَبَ إِلَى أَرْض عَدَن مِنْ الْيَمَن , فَأَتَاهُ إِبْلِيس وَقَالَ : إِنَّمَا أَكَلَتْ النَّار قُرْبَان أَخِيك لِأَنَّهُ كَانَ يَعْبُد النَّار , فَانْصِبْ أَنْتَ أَيْضًا نَارًا تَكُون لَك وَلِعَقِبِك , فَبَنَى بَيْت نَار , فَهُوَ أَوَّل مَنْ عَبَدَ النَّار فِيمَا قِيلَ , وَاللَّه أَعْلَمُ , وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ لَمَّا قَتَلَهُ وَآدَم بِمَكَّة اشْتَاكَ الشَّجَر , وَتَغَيَّرَتْ الْأَطْعِمَة , وَحَمُضَتْ الْفَوَاكِه , وَمَلُحَتْ الْمِيَاه , وَاغْبَرَّتْ الْأَرْض ; فَقَالَ آدَم عَلَيْهِ السَّلَام : قَدْ حَدَثَ فِي الْأَرْض حَدَث , فَأَتَى الْهِنْد فَإِذَا قَابِيل قَدْ قَتَلَ هَابِيل . وَقِيلَ : إِنَّ قَابِيل هُوَ الَّذِي اِنْصَرَفَ إِلَى آدَم , فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِ قَالَ لَهُ : أَيْنَ هَابِيل ؟ فَقَالَ : لَا أَدْرِي كَأَنَّك وَكَّلْتنِي بِحِفْظِهِ . فَقَالَ لَهُ آدَم : أَفَعَلْتهَا ؟ ! وَاَللَّه إِنَّ دَمه لَيُنَادِي , اللَّهُمَّ اِلْعَنْ أَرْضًا شَرِبَتْ دَم هَابِيل . فَرُوِيَ أَنَّهُ مِنْ حِينِئِذٍ مَا شَرِبَتْ أَرْض دَمًا . ثُمَّ إِنَّ آدَم بَقِيَ مِائَة سَنَة لَمْ يَضْحَك , حَتَّى جَاءَهُ مَلَك فَقَالَ لَهُ : حَيَّاك اللَّه يَا آدَم وَبَيَّاك . فَقَالَ : مَا بَيَّاك ؟ قَالَ : أَضْحَكَك ; قَالَ مُجَاهِد وَسَالِم بْن أَبِي الْجَعْد . وَلَمَّا مَضَى مِنْ عُمْر آدَم مِائَة وَثَلَاثُونَ سَنَة - وَذَلِكَ بَعْد قَتْل هَابِيل بِخَمْسِ سِنِينَ وَلَدَتْ لَهُ شيثا , وَتَفْسِيره هِبَة اللَّه , أَيْ خَلَفًا مِنْ هَابِيل , وَقَالَ مُقَاتِل : كَانَ قَبْل قَتْل قَابِيل هَابِيلَ السِّبَاع وَالطُّيُور تَسْتَأْنِس بِآدَم , فَلَمَّا قَتَلَ قَابِيل هَابِيل هَرَبُوا , فَلَحِقَتْ الطُّيُور بِالْهَوَاءِ , وَالْوُحُوش بِالْبَرِيَّةِ , وَلَحِقَتْ السِّبَاع بِالْغِيَاضِ . وَرُوِيَ أَنَّ آدَم لَمَّا تَغَيَّرَتْ الْحَال قَالَ : <br>تَغَيَّرَتْ الْبِلَاد وَمَنْ عَلَيْهَا .......... فَوَجْه الْأَرْض مُغْبَرّ قَبِيحُ <br><br>تَغَيَّرَ كُلُّ ذِي طَعْم وَلَوْن .......... وَقَلَّ بَشَاشَة الْوَجْه الْمَلِيح <br>فِي أَبْيَات كَثِيرَة ذَكَرَهَا الثَّعْلَبِيّ وَغَيْره . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : هَكَذَا هُوَ الشِّعْر بِنَصْبِ | بَشَاشَةَ | وَكَفّ التَّنْوِين . قَالَ الْقُشَيْرِيّ وَغَيْره قَالَ اِبْن عَبَّاس : مَا قَالَ آدَم الشِّعْر , وَإِنَّ مُحَمَّدًا وَالْأَنْبِيَاء كُلّهمْ فِي النَّهْي عَنْ الشِّعْر سَوَاء ; لَكِنْ لَمَّا قُتِلَ هَابِيل رَثَاهُ آدَم وَهُوَ سُرْيَانِيّ , فَهِيَ مَرْثِيَّة بِلِسَانِ السُّرْيَانِيَّة أَوْصَى بِهَا إِلَى اِبْنه شيث وَقَالَ : إِنَّك وَصِيِّي فَاحْفَظْ مِنِّي هَذَا الْكَلَام لِيُتَوَارَث ; فَحُفِظَتْ مِنْهُ إِلَى زَمَان يَعْرُب بْن قَحْطَان , فَتَرْجَمَ عَنْهُ يَعْرُب بِالْعَرَبِيَّةِ وَجَعَلَهُ شِعْرًا . رُوِيَ مِنْ حَدِيث أَنَس قَالَ : سُئِلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ يَوْم الثُّلَاثَاء فَقَالَ : ( يَوْم الدَّم فِيهِ حَاضَتْ حَوَّاء وَفِيهِ قَتَلَ اِبْن آدَم أَخَاهُ ) , وَثَبَتَ فِي صَحِيح مُسْلِم وَغَيْره عَنْ عَبْد اللَّه قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا تُقْتَل نَفْس ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى اِبْن آدَم الْأَوَّل كِفْل مِنْ دَمهَا لِأَنَّهُ كَانَ أَوَّل مَنْ سَنَّ الْقَتْل ) , وَهَذَا نَصّ عَلَى التَّعْلِيل ; وَبِهَذَا الِاعْتِبَار يَكُون عَلَى إِبْلِيس كِفْل مِنْ مَعْصِيَة كُلّ مَنْ عَصَى بِالسُّجُودِ ; لِأَنَّهُ أَوَّل مَنْ عَصَى بِهِ , وَكَذَلِكَ كُلّ مَنْ أَحْدَثَ فِي دِين اللَّه مَا لَا يَجُوز مِنْ الْبِدَع وَالْأَهْوَاء ; قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَام سُنَّة حَسَنَة كَانَ لَهُ أَجْرهَا وَأَجْر مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَام سُنَّة سَيِّئَة كَانَ عَلَيْهِ وِزْرهَا وَوِزْر مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ) , وَهَذَا نَصّ فِي الْخَيْر وَالشَّرّ , وَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ أَخْوَف مَا أَخَاف عَلَى أُمَّتِي الْأَئِمَّة الْمُضِلُّونَ ) , وَهَذَا كُلّه صَرِيح , وَنَصّ صَحِيح فِي مَعْنَى الْآيَة , وَهَذَا مَا لَمْ يَتُبْ الْفَاعِل مِنْ تِلْكَ الْمَعْصِيَة , لِأَنَّ آدَم عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ أَوَّل مَنْ خَالَفَ فِي أَكْل مَا نُهِيَ عَنْهُ , وَلَا يَكُون عَلَيْهِ شَيْء مِنْ أَوْزَار مَنْ عَصَى بِأَكْلِ مَا نُهِيَ عَنْهُ وَلَا شُرْبِهِ مِنْ بَعْده بِالْإِجْمَاعِ ; لِأَنَّ آدَم تَابَ مِنْ ذَلِكَ وَتَابَ اللَّه عَلَيْهِ , فَصَارَ كَمَنْ لَمْ يَجْنِ , وَوَجْه آخَر : فَإِنَّهُ أَكَلَ نَاسِيًا عَلَى الصَّحِيح مِنْ الْأَقْوَال , كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي | الْبَقَرَة | وَالنَّاسِي غَيْر آثِم وَلَا مُؤَاخَذ . تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَة الْبَيَان عَنْ حَال الْحَاسِد , حَتَّى إِنَّهُ قَدْ يَحْمِلهُ حَسَده عَلَى إِهْلَاك نَفْسه بِقَتْلِ أَقْرَبِ النَّاس إِلَيْهِ قَرَابَة , وَأَمَسّهُ بِهِ رَحِمًا , وَأَوْلَاهُمْ بِالْحُنُوِّ عَلَيْهِ وَدَفْع الْأَذِيَّة عَنْهُ .|فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ|أَيْ مِمَّنْ خَسِرَ حَسَنَاته , وَقَالَ , مُجَاهِد : عُلِّقَتْ إِحْدَى رِجْلَيْ الْقَاتِل بِسَاقِهَا إِلَى فَخِذهَا مِنْ يَوْمئِذٍ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة , وَوَجْهه إِلَى الشَّمْس حَيْثُمَا دَارَتْ , عَلَيْهِ فِي الصَّيْف حَظِيرَة مِنْ نَار , وَعَلَيْهِ فِي الشِّتَاء مِنْ ثَلْج . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : فَإِنْ صَحَّ هَذَا فَهُوَ مِنْ خُسْرَانه الَّذِي تَضَمَّنَهُ قَوْله تَعَالَى : | فَأَصْبَحَ مِنْ الْخَاسِرِينَ | وَإِلَّا فَالْخُسْرَان يَعُمّ خُسْرَان الدُّنْيَا وَالْآخِرَة . قُلْت : وَلَعَلَّ هَذَا يَكُون عُقُوبَته عَلَى الْقَوْل بِأَنَّهُ عَاصٍ لَا كَافِر ; فَيَكُون الْمَعْنَى | فَأَصْبَحَ مِنْ الْخَاسِرِينَ | أَيْ فِي الدُّنْيَا , وَاللَّه أَعْلَمُ .

فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ

قَالَ مُجَاهِد : بَعَثَ اللَّه غُرَابَيْنِ فَاقْتَتَلَا حَتَّى قَتَلَ أَحَدهمَا صَاحِبه ثُمَّ حَفَرَ فَدَفَنَهُ , وَكَانَ اِبْن آدَمَ هَذَا أَوَّل مَنْ قُتِلَ , وَقِيلَ : إِنَّ الْغُرَاب بَحَثَ الْأَرْض عَلَى طُعْمه لِيُخْفِيَهُ إِلَى وَقْت الْحَاجَة إِلَيْهِ ; لِأَنَّهُ مِنْ عَادَة الْغُرَاب فِعْل ذَلِكَ ; فَتَنَبَّهَ قَابِيل ذَلِكَ عَلَى مُوَارَاة أَخِيهِ . وَرُوِيَ أَنَّ قَابِيل لَمَّا قَتَلَ هَابِيل جَعَلَهُ فِي جِرَاب , وَمَشَى بِهِ يَحْمِلهُ فِي عُنُقه مِائَة سَنَة ; قَالَهُ مُجَاهِد , وَرَوَى اِبْن الْقَاسِم عَنْ مَالِك أَنَّهُ حَمَلَهُ سَنَة وَاحِدَة ; وَقَالَهُ اِبْن عَبَّاس , وَقِيلَ : حَتَّى أَرْوَح وَلَا يَدْرِي مَا يَصْنَع بِهِ إِلَى أَنْ اقْتَدَى بِالْغُرَابِ كَمَا تَقَدَّمَ , وَفِي الْخَبَر عَنْ أَنَس قَالَ : سَمِعْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( اِمْتَنَّ اللَّه عَلَى اِبْن آدَم بِثَلَاثٍ بَعْد ثَلَاث بِالرِّيحِ بَعْد الرُّوح فَلَوْلَا أَنَّ الرِّيح يَقَع بَعْد الرُّوح مَا دَفَنَ حَمِيم حَمِيمًا وَبِالدُّودِ فِي الْجُثَّة فَلَوْلَا أَنَّ الدُّود يَقَع فِي الْجُثَّة لَاكْتَنَزَتْهَا الْمُلُوك وَكَانَتْ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير وَبِالْمَوْتِ بَعْد الْكِبَر وَإِنَّ الرَّجُل لَيَكْبَر حَتَّى يَمَلَّ نَفْسه وَيَمَلّهُ أَهْله وَوَلَده وَأَقْرِبَاؤُهُ فَكَانَ الْمَوْت أَسْتَرَ لَهُ ) , وَقَالَ قَوْم : كَانَ قَابِيل يَعْلَم الدَّفْن , وَلَكِنْ تَرَكَ أَخَاهُ بِالْعَرَاءِ اِسْتِخْفَافًا بِهِ , فَبَعَثَ اللَّه غُرَابًا يَبْحَث التُّرَاب عَلَى هَابِيل لِيَدْفِنهُ , فَقَالَ عِنْد ذَلِكَ : | يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْت أَنْ أَكُون مِثْل هَذَا الْغُرَاب فَأُوَارِيَ سَوْءَة أَخِي فَأَصْبَحَ مِنْ النَّادِمِينَ | , حَيْثُ رَأَى إِكْرَام اللَّه لِهَابِيل بِأَنْ قَيَّضَ لَهُ الْغُرَاب حَتَّى وَارَاهُ , وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ نَدَم تَوْبَة , وَقِيلَ : إِنَّمَا نَدَمه كَانَ عَلَى فَقْده لَا عَلَى قَتْله , وَإِنْ كَانَ فَلَمْ يَكُنْ مُوَفِّيًا شُرُوطَهُ . أَوْ نَدِمَ وَلَمْ يَسْتَمِرّ نَدَمه ; فَقَالَ اِبْن عَبَّاس : وَلَوْ كَانَتْ نَدَامَته عَلَى قَتْله لَكَانَتْ النَّدَامَة تَوْبَة مِنْهُ , وَيُقَال : إِنَّ آدَم وَحَوَّاء أَتَيَا قَبْره وَبَكَيَا أَيَّامًا عَلَيْهِ . ثُمَّ إِنَّ قَابِيل كَانَ عَلَى ذِرْوَة جَبَل فَنَطَحَهُ ثَوْر فَوَقَعَ إِلَى السَّفْح وَقَدْ تَفَرَّقَتْ عُرُوقه . وَيُقَال : دَعَا عَلَيْهِ آدَم فَانْخَسَفَتْ بِهِ الْأَرْض , وَيُقَال : إِنَّ قَابِيل اِسْتَوْحَشَ بَعْد قَتْل هَابِيل وَلَزِمَ الْبَرِيَّة , وَكَانَ لَا يَقْدِر عَلَى مَا يَأْكُلهُ إِلَّا مِنْ الْوَحْش , فَكَانَ إِذَا ظَفِرَ بِهِ وَقَذَهُ حَتَّى يَمُوت ثُمَّ يَأْكُلهُ . قَالَ اِبْن عَبَّاس : فَكَانَتْ الْمَوْقُوذَة حَرَامًا مِنْ لَدُنْ قَابِيل بْن آدَم , وَهُوَ أَوَّل مَنْ يُسَاق مِنْ الْآدَمِيِّينَ إِلَى النَّار ; وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : | رَبّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنْ الْجِنّ وَالْإِنْس | [ فُصِّلَتْ : 29 ] الْآيَة , فَإِبْلِيس رَأْس الْكَافِرِينَ مِنْ الْجِنّ , وَقَابِيل رَأْس الْخَطِيئَة مِنْ الْإِنْس ; عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه فِي | حم فُصِّلَتْ | إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى , وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ النَّدَم فِي ذَلِكَ الْوَقْت لَمْ يَكُنْ تَوْبَة , وَاَللَّه بِكُلِّ ذَلِكَ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ , وَظَاهِر الْآيَة أَنَّ هَابِيل هُوَ أَوَّل مَيِّت مِنْ بَنِي آدَم ; وَلِذَلِكَ جُهِلَتْ سُنَّة الْمُوَارَاة ; وَكَذَلِكَ حَكَى الطَّبَرِيّ عَنْ اِبْن إِسْحَاق عَنْ بَعْض أَهْل الْعِلْم بِمَا فِي كُتُب الْأَوَائِل , وَقَوْله | يَبْحَث | مَعْنَاهُ يُفَتِّش التُّرَاب بِمِنْقَارِهِ وَيُثِيرهُ . وَمِنْ هَذَا سُمِّيَتْ سُورَة | بَرَاءَة | الْبُحُوث ; لِأَنَّهَا فَتَّشَتْ عَنْ الْمُنَافِقِينَ ; وَمِنْ ذَلِكَ قَوْل الشَّاعِر : <br>إِنْ النَّاسُ غَطَّوْنِي تَغَطَّيْت عَنْهُمُ .......... وَإِنْ بَحَثُونِي كَانَ فِيهِمْ مَبَاحِث <br>وَفِي الْمَثَل : لَا تَكُنْ كَالْبَاحِثِ عَلَى الشَّفْرَة ; قَالَ الشَّاعِر : <br>فَكَانَتْ كَعَنْزِ السُّوء قَامَتْ بِرِجْلِهَا .......... إِلَى مُدْيَة مَدْفُونَة تَسْتَثِيرهَا <br>بَعَثَ اللَّه الْغُرَاب حِكْمَة ; لِيَرَى اِبْن آدَم كَيْفِيَّة الْمُوَارَاة , وَهُوَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى : | ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ | [ عَبَسَ : 21 ] , فَصَارَ فِعْل الْغُرَاب فِي الْمُوَارَاة سُنَّة بَاقِيَة فِي الْخَلْق , فَرْضًا عَلَى جَمِيع النَّاس عَلَى الْكِفَايَة , مَنْ فَعَلَهُ مِنْهُمْ سَقَطَ فَرْضه . عَنْ الْبَاقِينَ . وَأَخَصُّ النَّاس بِهِ الْأَقْرَبُونَ الَّذِينَ يَلُونَهُ , ثُمَّ الْجِيرَة , ثُمَّ سَائِر الْمُسْلِمِينَ , وَأَمَّا الْكُفَّار فَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ عَلِيّ قَالَ : قُلْت لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ عَمّك الشَّيْخ الضَّالّ قَدْ مَاتَ ; قَالَ : ( اِذْهَبْ فَوَارِ أَبَاك التُّرَاب ثُمَّ لَا تُحْدِثَنَّ شَيْئًا حَتَّى تَأْتِيَنِي ) فَذَهَبْت فَوَارَيْته وَجِئْته فَأَمَرَنِي فَاغْتَسَلْت وَدَعَا لِي , وَيُسْتَحَبّ فِي الْقَبْر سَعَته وَإِحْسَانه ; لِمَا رَوَاهُ اِبْن مَاجَهْ عَنْ هِشَام بْن عَامِر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( اِحْفِرُوا وَأَوْسِعُوا وَأَحْسِنُوا ) , وَرُوِيَ عَنْ الْأَدْرَع السُّلَمِيّ قَالَ : جِئْت لَيْلَة أَحْرُس النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَإِذَا رَجُل قِرَاءَته عَالِيَة , فَخَرَجَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْت : يَا رَسُول اللَّه : هَذَا مُرَاءٍ ; قَالَ : فَمَاتَ بِالْمَدِينَةِ فَفَرَغُوا مِنْ جِهَازه فَحَمَلُوا نَعْشه , فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( اُرْفُقُوا بِهِ رَفَقَ اللَّه بِهِ إِنَّهُ كَانَ يُحِبّ اللَّه وَرَسُوله ) . قَالَ : وَحَضَرَ حُفْرَته فَقَالَ : ( أَوْسِعُوا لَهُ وَسَّعَ اللَّه عَلَيْهِ ) فَقَالَ بَعْض أَصْحَابه : يَا رَسُول اللَّه لَقَدْ حَزِنْت عَلَيْهِ ؟ فَقَالَ : ( أَجَلْ إِنَّهُ كَانَ يُحِبّ اللَّه وَرَسُوله ) ; أَخْرَجَهُ عَنْ أَبِي بَكْر بْن أَبِي شَيْبَة عَنْ زَيْد بْن الْحُبَاب . عَنْ مُوسَى بْن عُبَيْدَة عَنْ سَعِيد بْن أَبِي سَعِيد . قَالَ أَبُو عُمَر بْن عَبْد الْبَرّ : أَدْرَعُ السُّلَمِيّ رَوَى عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثًا وَاحِدًا , وَرَوَى عَنْهُ سَعِيد بْن أَبِي سَعِيد الْمَقْبُرِيّ ; وَأَمَّا هِشَام بْن عَامِر بْن أُمَيَّة بْن الْحَسْحَاس بْن عَامِر بْن غَنْم بْن عَدِيّ بْن النَّجَّار الْأَنْصَارِيّ , كَانَ يُسَمَّى فِي الْجَاهِلِيَّة شِهَابًا فَغَيَّرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِسْمه فَسَمَّاهُ هِشَامًا , وَاسْتُشْهِدَ أَبُوهُ عَامِر يَوْم أُحُد . سَكَنَ هِشَام الْبَصْرَة وَمَاتَ بِهَا ; ذُكِرَ هَذَا فِي كِتَاب الصَّحَابَة . ثُمَّ قِيلَ : اللَّحْد أَفْضَل مِنْ الشِّقّ ; فَإِنَّهُ الَّذِي اِخْتَارَهُ اللَّه لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَإِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا تُوُفِّيَ كَانَ بِالْمَدِينَةِ رَجُلَانِ أَحَدهمَا يَلْحَد وَالْآخَر لَا يَلْحَد ; فَقَالُوا : أَيّهمَا جَاءَ أَوَّلَ عَمِلَ عَمَله , فَجَاءَ الَّذِي يَلْحَد فَلَحَدَ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; ذَكَرَهُ مَالِك فِي الْمُوَطَّأ عَنْ هِشَام بْن عُرْوَة عَنْ أَبِيهِ , وَأَخْرَجَهُ اِبْن مَاجَهْ عَنْ أَنَس بْن مَالِك وَعَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا , وَالرَّجُلَانِ هُمَا أَبُو طَلْحَة وَأَبُو عُبَيْدَة ; وَكَانَ أَبُو طَلْحَة يَلْحَد وَأَبُو عُبَيْدَة يَشُقّ , وَاللَّحْد هُوَ أَنْ يَحْفِر فِي جَانِب الْقَبْر إِنْ كَانَتْ تُرْبَة صُلْبَة , يُوضَع فِيهِ الْمَيِّت ثُمَّ يُوضَع عَلَيْهِ اللِّبْن ثُمَّ يُهَال التُّرَاب ; قَالَ سَعْد بْن أَبِي وَقَّاص فِي مَرَضه الَّذِي هَلَكَ فِيهِ : اِلْحَدُوا لِي لَحْدًا وَانْصِبُوا عَلَيَّ اللِّبْن نَصْبًا كَمَا صُنِعَ بِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . أَخْرَجَهُ مُسْلِم . وَرَوَى اِبْن مَاجَهْ وَغَيْره عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( اللَّحْد لَنَا وَالشَّقّ لِغَيْرِنَا ) . رَوَى اِبْن مَاجَهْ عَنْ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب قَالَ : حَضَرْت اِبْن عُمَر فِي جِنَازَة فَلَمَّا وَضَعَهَا فِي اللَّحْد قَالَ : بِسْمِ اللَّه وَفِي سَبِيل اللَّه وَعَلَى مِلَّة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَلَمَّا أَخَذَ فِي تَسْوِيَة [ اللَّبِن عَلَى ] اللَّحْد قَالَ : اللَّهُمَّ أَجِرْهَا مِنْ الشَّيْطَان وَمِنْ عَذَاب الْقَبْر , اللَّهُمَّ جَافِ الْأَرْض عَنْ جَنْبَيْهَا , وَصَعِّدْ رُوحهَا وَلَقِّهَا مِنْك رِضْوَانًا . قُلْت يَا اِبْن عُمَر أَشَيْء سَمِعْته مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْ قُلْته بِرَأْيِك ؟ قَالَ : إِنِّي إِذًا لَقَادِر عَلَى الْقَوْل ! بَلْ شَيْء سَمِعْته مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَى جِنَازَة ثُمَّ أَتَى قَبْر الْمَيِّت فَحَثَا عَلَيْهِ مِنْ قِبَل رَأْسه ثَلَاثًا . فَهَذَا مَا تَعَلَّقَ فِي مَعْنَى الْآيَة مِنْ الْأَحْكَام , وَالْأَصْل فِي | يَا وَيْلَتَى | يَا وَيْلَتِي ثُمَّ أُبْدِلَ مِنْ الْيَاء أَلِف , وَقَرَأَ الْحَسَن عَلَى الْأَصْل بِالْيَاءِ , وَالْأَوَّل أَفْصَحُ ; لِأَنَّ حَذْف الْيَاء فِي النِّدَاء أَكْثَرُ , وَهِيَ كَلِمَة تَدْعُو بِهَا الْعَرَب عِنْد الْهَلَاك ; قَالَهُ سِيبَوَيْهِ , وَقَالَ الْأَصْمَعِيّ : | وَيْل | بُعْد , وَقَرَأَ الْحَسَن : | أَعَجِزْت | بِكَسْرِ الْجِيم . قَالَ النَّحَّاس : وَهِيَ لُغَة شَاذَّة ; إِنَّمَا يُقَال عَجِزَتْ الْمَرْأَةُ إِذَا عَظُمَتْ عَجِيزَتهَا , وَعَجَزْت عَنْ الشَّيْء عَجْزًا وَمَعْجِزَة وَمَعْجَزَة , وَاللَّه أَعْلَمُ .

مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِال

أَيْ مِنْ جَرَّاء ذَلِكَ الْقَاتِل وَجَرِيرَته , وَقَالَ الزَّجَّاج : أَيْ مِنْ جِنَايَته ; يُقَال : أَجَلَ الرَّجُل عَلَى أَهْله شَرًّا يَأْجُل أَجْلًا إِذَا جَنَى ; مِثْل أَخَذَ يَأْخُذ أَخْذًا . قَالَ الْخِنَّوْت : <br>وَأَهْل خِبَاء صَالِح كُنْت بَيْنهمْ .......... قَدْ احْتَرَبُوا فِي عَاجِل أَنَا آجِلُه <br>أَيْ جَانِيهِ , وَقِيلَ : أَنَا جَارُّهُ عَلَيْهِمْ , وَقَالَ عَدِيّ بْن زَيْد : <br>أَجَلْ إِنَّ اللَّه قَدْ فَضَّلَكُمْ .......... فَوْق مَنْ أَحْكَأَ صُلْبًا بِإِزَارِ <br>وَأَصْله الْجَرّ ; وَمِنْهُ الْأَجَلُ لِأَنَّهُ وَقْت يُجَرّ إِلَيْهِ الْعَقْد الْأَوَّل , وَمِنْهُ الْآجِل نَقِيض الْعَاجِل , وَهُوَ بِمَعْنَى يُجَرّ إِلَيْهِ أَمْرٌ مُتَقَدِّم , وَمِنْهُ أَجَلْ بِمَعْنَى نَعَمْ . لِأَنَّهُ اِنْقِيَاد إِلَى مَا جُرَّ إِلَيْهِ , وَمِنْهُ الْإِجْل لِلْقَطِيعِ مِنْ بَقَر الْوَحْش ; لِأَنَّ بَعْضه يَنْجَرّ إِلَى بَعْض ; قَالَهُ الرُّمَّانِيّ , وَقَرَأَ يَزِيد بْن الْقَعْقَاع أَبُو جَعْفَر : | مِنِ اجْلِ ذَلِكَ | بِكَسْرِ النُّون وَحَذْف الْهَمْزَة وَهِيَ لُغَة , وَالْأَصْل | مِنْ إِجْل ذَلِكَ | فَأُلْقِيَتْ كَسْرَة الْهَمْزَة عَلَى النُّون وَحُذِفَتْ الْهَمْزَة . ثُمَّ قِيلَ : يَجُوز أَنْ يَكُون قَوْله : | مِنْ أَجْل ذَلِكَ | مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ : | مِنْ النَّادِمِينَ | [ الْمَائِدَة : 31 ] , فَالْوَقْف عَلَى قَوْله : | مِنْ أَجْل ذَلِكَ | , وَيَجُوز أَنْ يَكُون مُتَعَلِّقًا بِمَا بَعْده وَهُوَ | كَتَبْنَا | . فـ | ـمِنْ أَجْل | اِبْتِدَاء كَلَام وَالتَّمَام | مِنْ النَّادِمِينَ | ; وَعَلَى هَذَا أَكْثَر النَّاس ; أَيْ مِنْ سَبَب هَذِهِ النَّازِلَة كَتَبْنَا , وَخَصَّ بَنِي إِسْرَائِيل بِالذِّكْرِ - وَقَدْ تَقَدَّمَتْهُمْ أُمَم قَبْلهمْ كَانَ قَتْل النَّفْس فِيهِمْ مَحْظُورًا - لِأَنَّهُمْ أَوَّل أُمَّة نَزَلَ الْوَعِيد عَلَيْهِمْ فِي قَتْل الْأَنْفُس مَكْتُوبًا , وَكَانَ قَبْل ذَلِكَ قَوْلًا مُطْلَقًا ; فَغُلِّظَ الْأَمْرُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيل بِالْكِتَابِ بِحَسَبِ طُغْيَانهمْ وَسَفْكهمْ الدِّمَاء .|أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ|وَمَعْنَى | بِغَيْرِ نَفْس | أَيْ بِغَيْرِ أَنْ يَقْتُل نَفْسًا فَيَسْتَحِقّ الْقَتْل , وَقَدْ حَرَّمَ اللَّه الْقَتْل فِي جَمِيع الشَّرَائِع إِلَّا بِثَلَاثِ خِصَال : كُفْر بَعْد إِيمَان , أَوْ زِنًى بَعْد إِحْصَان , أَوْ قَتْل نَفْس ظُلْمًا وَتَعَدِّيًا .|أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ|أَيْ شِرْك , وَقِيلَ : قَطْع طَرِيق , وَقَرَأَ الْحَسَن : | أَوْ فَسَادًا | بِالنَّصْبِ عَلَى تَقْدِير حَذْف فِعْل يَدُلّ عَلَيْهِ أَوَّل الْكَلَام تَقْدِيره ; أَوْ أَحْدَثَ فَسَادًا ; وَالدَّلِيل عَلَيْهِ قَوْله : | مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْس | لِأَنَّهُ مِنْ أَعْظَم الْفَسَاد . وَقَرَأَ الْعَامَّة : | فَسَادٍ | بِالْجَرِّ عَلَى مَعْنَى أَوْ بِغَيْرِ فَسَاد .|فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا|اِضْطَرَبَ لَفْظ الْمُفَسِّرِينَ فِي تَرْتِيب هَذَا التَّشْبِيه لِأَجْلِ أَنَّ عِقَاب مَنْ قَتَلَ النَّاس جَمِيعًا أَكْثَرُ مِنْ عِقَاب مَنْ قَتَلَ وَاحِدًا ; فَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ قَالَ : الْمَعْنَى مَنْ قَتَلَ نَبِيًّا أَوْ إِمَام عَدْل فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاس جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهُ بِأَنْ شَدَّ عَضُده وَنَصَرَهُ فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاس جَمِيعًا , وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ : الْمَعْنَى مَنْ قَتَلَ نَفْسًا وَاحِدَة وَانْتَهَكَ حُرْمَتهَا فَهُوَ مِثْل مَنْ قَتَلَ النَّاس جَمِيعًا , وَمَنْ تَرَكَ قَتْل نَفْس وَاحِدَة وَصَانَ حُرْمَتهَا وَاسْتَحْيَاهَا خَوْفًا مِنْ اللَّه فَهُوَ كَمَنْ أَحْيَا النَّاس جَمِيعًا , وَعَنْهُ أَيْضًا . الْمَعْنَى فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاس جَمِيعًا عِنْد الْمَقْتُول , وَمَنْ أَحْيَاهَا وَاسْتَنْقَذَهَا مِنْ هَلَكَة فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاس جَمِيعًا عِنْد الْمُسْتَنْقَذ , وَقَالَ مُجَاهِد : الْمَعْنَى أَنَّ الَّذِي يَقْتُل النَّفْس الْمُؤْمِنَة مُتَعَمِّدًا جَعَلَ اللَّه جَزَاءَهُ جَهَنَّم وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ; يَقُول : لَوْ قَتَلَ النَّاس جَمِيعًا لَمْ يُزَدْ عَلَى ذَلِكَ , وَمَنْ لَمْ يَقْتُل فَقَدْ حَيِيَ النَّاس مِنْهُ , وَقَالَ اِبْن زَيْد : الْمَعْنَى أَنَّ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا فَيَلْزَمهُ مِنْ الْقَوَد وَالْقِصَاص مَا يَلْزَم مَنْ قَتْل النَّاس جَمِيعًا , قَالَ : وَمَنْ أَحْيَاهَا أَيْ مَنْ عَفَا عَمَّنْ وَجَبَ لَهُ قَتْله ; وَقَالَهُ الْحَسَن أَيْضًا ; أَيْ هُوَ الْعَفْو بَعْد الْمَقْدِرَة , وَقِيلَ : الْمَعْنَى أَنَّ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا فَالْمُؤْمِنُونَ كُلّهمْ خُصَمَاؤُهُ ; لِأَنَّهُ قَدْ وَتَرَ الْجَمِيع , وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاس جَمِيعًا , أَيْ يَجِب عَلَى الْكُلّ شُكْره , وَقِيلَ : جُعِلَ إِثْم قَاتِل الْوَاحِد إِثْم قَاتِل الْجَمِيع ; وَلَهُ أَنْ يَحْكُم بِمَا يُرِيد , وَقِيلَ : كَانَ هَذَا مُخْتَصًّا بِبَنِي إِسْرَائِيل تَغْلِيظًا عَلَيْهِمْ . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَعَلَى الْجُمْلَة فَالتَّشْبِيه عَلَى مَا قِيلَ 0 وَاقِع كُلّه , وَالْمُنْتَهِكُ فِي وَاحِدٍ مَلْحُوظٌ بِعَيْنِ مُنْتَهِكِ الْجَمِيعِ ; وَمِثَاله رَجُلَانِ حَلَفَا عَلَى شَجَرَتَيْنِ أَلَا يَطْعَمَا مِنْ ثَمَرهمَا شَيْئًا , فَطَعِمَ أَحَدهمَا وَاحِدَة مِنْ ثَمَر شَجَرَته , وَطَعِمَ الْآخَر ثَمَر شَجَرَته كُلّهَا , فَقَدْ اِسْتَوَيَا فِي الْحِنْث , وَقِيلَ : الْمَعْنَى أَنَّ مَنْ اِسْتَحَلَّ وَاحِدًا فَقَدْ اِسْتَحَلَّ الْجَمِيع ; لِأَنَّهُ أَنْكَرَ الشَّرْع , وَفِي قَوْله|وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ|تَجَوُّز ; فَإِنَّهُ عِبَارَة عَنْ التَّرْك وَالْإِنْقَاذ مِنْ هَلَكَة , وَإِلَّا فَالْإِحْيَاء حَقِيقَة - الَّذِي هُوَ الِاخْتِرَاع - إِنَّمَا هُوَ لِلَّهِ تَعَالَى , وَإِنَّمَا هَذَا الْإِحْيَاء بِمَنْزِلَةِ قَوْل نَمْرُود اللَّعِين : | أَنَا أُحْيِي وَأُمِيت | [ الْبَقَرَة : 258 ] فَسَمَّى التَّرْك إِحْيَاء . ثُمَّ أَخْبَرَ اللَّه عَنْ بَنِي إِسْرَائِيل أَنَّهُمْ جَاءَتْهُمْ الرُّسُل بِالْبَيِّنَاتِ , وَأَنَّ أَكْثَرهمْ مُجَاوِزُونَ الْحَدّ , وَتَارِكُونَ أَمْر اللَّه .

إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَ

فِي الْآخِرَة عَذَاب عَظِيم | <subtitle>فِيهَا ثَلَاثَة عَشْرَة مَسْأَلَة </subtitle>الْأُولَى : اِخْتَلَفَ النَّاس فِي سَبَب نُزُول هَذِهِ الْآيَة ; فَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْعُرَنِيِّينَ ; رَوَى الْأَئِمَّة وَاللَّفْظ لِأَبِي دَاوُد عَنْ أَنَس بْن مَالِك : أَنَّ قَوْمًا مِنْ عُكْل - أَوْ قَالَ مِنْ عُرَيْنَة - قَدِمُوا عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاجْتَوَوْا الْمَدِينَة ; فَأَمَرَ لَهُمْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلِقَاحٍ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالهَا وَأَلْبَانهَا فَانْطَلَقُوا , فَلَمَّا صَحُّوا قَتَلُوا رَاعِي النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَاقُوا النَّعَم ; فَبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرُهُمْ مِنْ أَوَّل النَّهَار فَأَرْسَلَ فِي آثَارهمْ ; فَمَا ارْتَفَعَ النَّهَار حَتَّى جِيءَ بِهِمْ ; فَأَمَرَ بِهِمْ فَقُطِّعَتْ أَيْدِيهمْ وَأَرْجُلهمْ وَسَمَرَ أَعْيُنهمْ وَأُلْقُوا فِي الْحَرَّة يَسْتَسْقُونَ فَلَا يُسْقَوْنَ . قَالَ أَبُو قِلَابَة : فَهَؤُلَاءِ قَوْم سَرَقُوا وَقَتَلُوا وَكَفَرُوا بَعْد إِيمَانهمْ وَحَارَبُوا اللَّه وَرَسُوله , وَفِي رِوَايَة : فَأَمَرَ بِمَسَامِير فَأُحْمِيَتْ فَكَحَلَهُمْ وَقَطَعَ أَيْدِيهمْ وَأَرْجُلهمْ وَمَا حَسَمَهُمْ ; وَفِي رِوَايَة : فَبَعَثَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طَلَبهمْ قَافَة فَأُتِيَ بِهِ قَالَ : فَأَنْزَلَ اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي ذَلِكَ : | إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّه وَرَسُوله وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْض فَسَادًا | الْآيَة , وَفِي رِوَايَة قَالَ أَنَس : فَلَقَدْ رَأَيْت أَحَدهمْ يَكْدِمُ الْأَرْض بِفِيهِ عَطَشًا حَتَّى مَاتُوا , وَفِي الْبُخَارِيّ قَالَ جَرِير بْن عَبْد اللَّه فِي حَدِيثه : فَبَعَثَنِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَفَر مِنْ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى أَدْرَكْنَاهُمْ وَقَدْ أَشْرَفُوا عَلَى بِلَادهمْ , فَجِئْنَا بِهِمْ إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قَالَ جَرِير : فَكَانُوا يَقُولُونَ الْمَاء , وَيَقُول رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( النَّار ) , وَقَدْ حَكَى أَهْل التَّوَارِيخ وَالسِّيَر : أَنَّهُمْ قَطَعُوا يَدَيْ الرَّاعِي وَرِجْلَيْهِ , وَغَرَزُوا الشَّوْك فِي عَيْنَيْهِ حَتَّى مَاتَ , وَأُدْخِلَ الْمَدِينَة مَيِّتًا , وَكَانَ اِسْمه يَسَار وَكَانَ نُوبِيًّا , وَكَانَ هَذَا الْفِعْل مِنْ الْمُرْتَدِّينَ سَنَة سِتّ مِنْ الْهِجْرَة , وَفِي بَعْض الرِّوَايَات عَنْ أَنَس : أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْرَقَهُمْ بِالنَّارِ بَعْدَمَا قَتَلَهُمْ . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس وَالضَّحَّاك : أَنَّهَا نَزَلَتْ بِسَبَبِ قَوْم مِنْ أَهْل الْكِتَاب كَانَ بَيْنهمْ وَبَيْن رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهْد فَنَقَضُوا الْعَهْد وَقَطَعُوا السَّبِيل وَأَفْسَدُوا فِي الْأَرْض , وَفِي مُصَنَّف أَبِي دَاوُد عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : | إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّه وَرَسُوله | إِلَى قَوْله : | غَفُور رَحِيم | نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة فِي الْمُشْرِكِينَ فَمَنْ أُخِذَ مِنْهُمْ قَبْل أَنْ يُقْدَر عَلَيْهِ لَمْ يَمْنَعهُ ذَلِكَ أَنْ يُقَام عَلَيْهِ الْحَدّ الَّذِي أَصَابَهُ , وَمِمَّنْ قَالَ : إِنَّ الْآيَة نَزَلَتْ فِي الْمُشْرِكِينَ عِكْرِمَةُ وَالْحَسَنُ , وَهَذَا ضَعِيف يَرُدّهُ قَوْله تَعَالَى : | قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَر لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ | [ الْأَنْفَال : 38 ] , وَقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام : ( الْإِسْلَام يَهْدِم مَا قَبْله ) أَخْرَجَهُ مُسْلِم ; وَالصَّحِيح الْأَوَّل لِنُصُوصِ الْأَحَادِيث الثَّابِتَة فِي ذَلِكَ . وَقَالَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْر وَأَصْحَاب الرَّأْي : الْآيَة نَزَلَتْ فِيمَنْ خَرَجَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَقْطَع السَّبِيل وَيَسْعَى فِي الْأَرْض بِالْفَسَادِ . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : قَوْل مَالِك صَحِيح , وَقَالَ أَبُو ثَوْر مُحْتَجًّا لِهَذَا الْقَوْل : وَفِي الْآيَة دَلِيل عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي غَيْر أَهْل الشِّرْك ; وَهُوَ قَوْله جَلَّ ثَنَاؤُهُ : | إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْل أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ | وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ أَهْل الشِّرْك إِذَا وَقَعُوا فِي أَيْدِينَا فَأَسْلَمُوا أَنَّ دِمَاءَهُمْ تُحَرَّم ; فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْآيَة نَزَلَتْ فِي أَهْل الْإِسْلَام , وَحَكَى الطَّبَرِيّ عَنْ بَعْض أَهْل الْعِلْم : أَنَّ هَذِهِ الْآيَة نَسَخَتْ فِعْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعُرَنِيِّينَ , فَوَقَفَ الْأَمْر عَلَى هَذِهِ الْحُدُود , وَرَوَى مُحَمَّد بْن سِيرِينَ قَالَ : كَانَ هَذَا قَبْل أَنْ تَنْزِل الْحُدُود ; يَعْنِي حَدِيث أَنَس ; ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد , وَقَالَ قَوْم مِنْهُمْ اللَّيْث بْن سَعْد : مَا فَعَلَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَفْدِ عُرَيْنَة نُسِخَ ; إِذْ لَا يَجُوز التَّمْثِيل بِالْمُرْتَدِّ . قَالَ أَبُو الزِّنَاد : إِنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَطَعَ الَّذِينَ سَرَقُوا لِقَاحه وَسَمَلَ أَعْيُنهمْ بِالنَّارِ عَاتَبَهُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فِي ذَلِكَ ; فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى فِي ذَلِكَ | إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّه وَرَسُوله وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْض فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا | الْآيَة . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد . قَالَ أَبُو الزِّنَاد : فَلَمَّا وُعِظَ وَنُهِيَ عَنْ الْمُثْلَة لَمْ يَعُدْ . وَحُكِيَ عَنْ جَمَاعَة أَنَّ هَذِهِ الْآيَة لَيْسَتْ بِنَاسِخَةٍ لِذَلِكَ الْفِعْل ; لِأَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ فِي مَرَّتَيْنِ , لَا سِيَّمَا وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيح مُسْلِم وَكِتَاب النَّسَائِيّ وَغَيْرهمَا قَالَ : إِنَّمَا سَمَلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْيُن أُولَئِكَ لِأَنَّهُمْ سَمَلُوا أَعْيُن الرُّعَاة ; فَكَانَ هَذَا قِصَاصًا , وَهَذِهِ الْآيَة فِي الْمُحَارِب الْمُؤْمِن . قُلْت : وَهَذَا قَوْل حَسَن , وَهُوَ مَعْنَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَالِك وَالشَّافِعِيّ ; وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّه تَعَالَى : | إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْل أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ | وَمَعْلُوم أَنَّ الْكُفَّار لَا تَخْتَلِف أَحْكَامهمْ فِي زَوَال الْعُقُوبَة عَنْهُمْ بِالتَّوْبَةِ بَعْد الْقُدْرَة كَمَا تَسْقُط قَبْل الْقُدْرَة , وَالْمُرْتَدّ يَسْتَحِقّ الْقَتْل بِنَفْسِ الرِّدَّة - دُون الْمُحَارَبَة - وَلَا يُنْفَى وَلَا تُقْطَع يَده وَلَا رِجْله وَلَا يُخَلَّى سَبِيله بَلْ يُقْتَل إِنْ لَمْ يُسْلِم , وَلَا يُصْلَب أَيْضًا ; فَدَلَّ أَنَّ مَا اِشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ الْآيَة مَا عُنِيَ بِهِ الْمُرْتَدّ , وَقَالَ تَعَالَى فِي حَقّ الْكُفَّار : | قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَر لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ | [ الْأَنْفَال : 38 ] . وَقَالَ فِي الْمُحَارِبِينَ : | إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا | الْآيَة ; وَهَذَا بَيِّن , وَعَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ فِي أَوَّل الْبَاب لَا إِشْكَال وَلَا لَوْم وَلَا عِتَاب إِذْ هُوَ مُقْتَضَى الْكِتَاب ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : | فَمَنْ اِعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اِعْتَدَى عَلَيْكُمْ | [ الْبَقَرَة : 194 ] فَمَثَّلُوا فَمُثِّلَ بِهِمْ , إِلَّا أَنَّهُ يَحْتَمِل أَنْ يَكُون الْعِتَاب إِنْ صَحَّ عَلَى الزِّيَادَة فِي الْقَتْل , وَذَلِكَ تَكْحِيلهمْ بِمَسَامِير مُحْمَاة وَتَرْكهمْ عَطَاشَى حَتَّى مَاتُوا , وَاللَّه أَعْلَمُ , وَحَكَى الطَّبَرِيّ عَنْ السُّدِّيّ : أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسْمُل أَعْيُن الْعُرَنِيِّينَ وَإِنَّمَا أَرَادَ ذَلِكَ ; فَنَزَلَتْ الْآيَة نَاهِيَة عَنْ ذَلِكَ , وَهَذَا ضَعِيف جِدًّا ; فَإِنَّ الْأَخْبَار الثَّابِتَة وَرَدَتْ بِالسَّمْلِ ; وَفِي صَحِيح الْبُخَارِيّ : فَأَمَرَ بِمَسَامِير فَأُحْمِيَتْ فَكَحَلَهُمْ , وَلَا خِلَاف بَيْن أَهْل الْعِلْم أَنَّ حُكْم هَذِهِ الْآيَة مُتَرَتِّب فِي الْمُحَارِبِينَ مِنْ أَهْل الْإِسْلَام وَإِنْ كَانَتْ نَزَلَتْ فِي الْمُرْتَدِّينَ أَوْ الْيَهُود , وَفِي قَوْله تَعَالَى : | إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّه وَرَسُوله | اِسْتِعَارَة وَمَجَاز ; إِذْ اللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى لَا يُحَارَب وَلَا يُغَالَب لِمَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ صِفَات الْكَمَال , وَلِمَا وَجَبَ لَهُ مِنْ التَّنْزِيه عَنْ الْأَضْدَاد وَالْأَنْدَاد , وَالْمَعْنَى : يُحَارِبُونَ أَوْلِيَاء اللَّه ; فَعَبَّرَ بِنَفْسِهِ الْعَزِيزَة عَنْ أَوْلِيَائِهِ إِكْبَارًا لِإِذَايَتهمْ , كَمَا عَبَّرَ بِنَفْسِهِ عَنْ الْفُقَرَاء الضُّعَفَاء فِي قَوْله : | مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِض اللَّه قَرْضًا حَسَنًا | [ الْبَقَرَة : 245 ] حَثًّا عَلَى الِاسْتِعْطَاف عَلَيْهِمْ ; وَمِثْله فِي صَحِيح السُّنَّة ( اِسْتَطْعَمْتُك فَلَمْ تُطْعِمنِي ) . الْحَدِيث أَخْرَجَهُ مُسْلِم , وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي | الْبَقَرَة | , وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِيمَنْ يَسْتَحِقّ اِسْم الْمُحَارَبَة ; فَقَالَ مَالِك : الْمُحَارِب عِنْدنَا مَنْ حَمَلَ عَلَى النَّاس فِي مِصْر أَوْ فِي بَرِّيَّة وَكَابَرَهُمْ عَنْ أَنْفُسهمْ وَأَمْوَالهمْ دُون نَائِرَة وَلَا ذَحْل وَلَا عَدَاوَة ; قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : اُخْتُلِفَ عَنْ مَالِك فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة , فَأَثْبَتَ الْمُحَارَبَة فِي الْمِصْر مَرَّة وَنَفَى ذَلِكَ مَرَّة ; وَقَالَتْ طَائِفَة : حُكْم ذَلِكَ فِي الْمِصْر أَوْ فِي الْمَنَازِل وَالطُّرُق وَدِيَار أَهْل الْبَادِيَة وَالْقُرَى سَوَاء وَحُدُودهمْ وَاحِدَة ; وَهَذَا قَوْل الشَّافِعِيّ وَأَبِي ثَوْر ; قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : كَذَلِكَ هُوَ لِأَنَّ كُلًّا يَقَع عَلَيْهِ اِسْم الْمُحَارَبَة , وَالْكِتَاب عَلَى الْعُمُوم , وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُخْرِج مِنْ جُمْلَة الْآيَة قَوْمًا بِغَيْرِ حُجَّة , وَقَالَتْ طَائِفَة : لَا تَكُون الْمُحَارَبَة فِي الْمِصْر إِنَّمَا تَكُون خَارِجًا عَنْ الْمِصْر ; هَذَا قَوْل سُفْيَان الثَّوْرِيّ وَإِسْحَاق وَالنُّعْمَان , وَالْمُغْتَال كَالْمُحَارِبِ وَهُوَ الَّذِي يَحْتَال فِي قَتْل إِنْسَان عَلَى أَخْذ مَاله , وَإِنْ لَمْ يُشْهِر السِّلَاح لَكِنْ دَخَلَ عَلَيْهِ بَيْته أَوْ صَحِبَهُ فِي سَفَر فَأَطْعَمَهُ سُمًّا فَقَتَلَهُ فَيُقْتَل حَدًّا لَا قَوَدًا , وَاخْتَلَفُوا فِي حُكْم الْمُحَارِب ; فَقَالَتْ طَائِفَة : يُقَام عَلَيْهِ بِقَدْرِ فِعْله ; فَمَنْ أَخَافَ السَّبِيل وَأَخَذَ الْمَال قُطِعَتْ يَده وَرِجْله مِنْ خِلَاف , وَإِنْ أَخَذَ الْمَال وَقَتَلَ قُطِعَتْ يَده وَرِجْله ثُمَّ صُلِبَ , فَإِذَا قَتَلَ وَلَمْ يَأْخُذ الْمَال قُتِلَ , وَإِنْ هُوَ لَمْ يَأْخُذ الْمَال وَلَمْ يَقْتُل نُفِيَ ; قَالَهُ اِبْن عَبَّاس , وَرُوِيَ عَنْ أَبِي مِجْلَز وَالنَّخَعِيّ وَعَطَاء الْخُرَاسَانِيّ وَغَيْرهمْ , وَقَالَ أَبُو يُوسُف : إِذَا أَخَذَ الْمَال وَقَتَلَ صُلِبَ وَقُتِلَ عَلَى الْخَشَبَة ; قَالَ اللَّيْث : بِالْحَرْبَةِ مَصْلُوبًا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : إِذَا قَتَلَ قُتِلَ , وَإِذَا أَخَذَ الْمَال وَلَمْ يَقْتُل قُطِعَتْ يَده وَرِجْله مِنْ خِلَاف , وَإِذَا أَخَذَ الْمَال وَقَتَلَ فَالسُّلْطَان مُخَيَّر فِيهِ , إِنْ شَاءَ قَطَعَ يَده وَرِجْله وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَقْطَع وَقَتَلَهُ وَصَلَبَهُ ; قَالَ أَبُو يُوسُف : الْقَتْل يَأْتِي عَلَى كُلّ شَيْء , وَنَحْوه قَوْل الْأَوْزَاعِيّ , وَقَالَ الشَّافِعِيّ : إِذَا أَخَذَ الْمَال قُطِعَتْ يَده الْيُمْنَى وَحُسِمَتْ , ثُمَّ قُطِعَتْ رِجْله الْيُسْرَى وَحُسِمَتْ وَخُلِّيَ ; لِأَنَّ هَذِهِ الْجِنَايَة زَادَتْ عَلَى السَّرِقَة بِالْحِرَابَةِ , وَإِذَا قَتَلَ قُتِلَ , وَإِذَا أَخَذَ الْمَال وَقَتَلَ قُتِلَ وَصُلِبَ ; وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : يُصْلَب ثَلَاثَة أَيَّام ; قَالَ : وَإِنْ حَضَرَ وَكَثَّرَ وَهِيبَ وَكَانَ رِدْءًا لِلْعَدُوِّ حُبِسَ , وَقَالَ أَحْمَد : إِنْ قَتَلَ قُتِلَ , وَإِنْ أَخَذَ الْمَال قُطِعَتْ يَده وَرِجْله كَقَوْلِ الشَّافِعِيّ , وَقَالَ قَوْم : لَا يَنْبَغِي أَنْ يُصْلَب قَبْل الْقَتْل فَيُحَال بَيْنه وَبَيْن الصَّلَاة وَالْأَكْل وَالشُّرْب ; وَحُكِيَ عَنْ الشَّافِعِيّ : أَكْرَه أَنْ يُقْتَل مَصْلُوبًا لِنَهْيِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْمُثْلَة , وَقَالَ أَبُو ثَوْر : الْإِمَام مُخَيَّر عَلَى ظَاهِر الْآيَة , وَكَذَلِكَ قَالَ مَالِك , وَهُوَ مَرْوِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس , وَهُوَ قَوْل سَعِيد بْن الْمُسَيِّب وَعُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز وَمُجَاهِد وَالضَّحَّاك وَالنَّخَعِيّ كُلّهمْ قَالَ : الْإِمَام مُخَيَّر فِي الْحُكْم عَلَى الْمُحَارِبِينَ , يَحْكُم عَلَيْهِمْ بِأَيِّ الْأَحْكَام الَّتِي أَوْجَبَهَا اللَّه تَعَالَى مِنْ الْقَتْل وَالصَّلْب أَوْ الْقَطْع أَوْ النَّفْي بِظَاهِرِ الْآيَة ; قَالَ اِبْن عَبَّاس : مَا كَانَ فِي الْقُرْآن | أَوْ | فَصَاحِبه بِالْخِيَارِ ; وَهَذَا الْقَوْل أَشْعَرَ بِظَاهِرِ الْآيَة ; فَإِنَّ أَهْل الْقَوْل الْأَوَّل الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ | أَوْ | لِلتَّرْتِيبِ وَإِنْ اِخْتَلَفُوا - فَإِنَّك تَجِد أَقْوَالهمْ أَنَّهُمْ يَجْمَعُونَ عَلَيْهِ حَدَّيْنِ فَيَقُولُونَ : يُقْتَل وَيُصْلَب ; وَيَقُول بَعْضهمْ : يُصْلَب وَيُقْتَل ; وَيَقُول بَعْضهمْ : تُقْطَع يَده وَرِجْله وَيُنْفَى ; وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْآيَة وَلَا مَعْنَى | أَوْ | فِي اللُّغَة ; قَالَ النَّحَّاس , وَاحْتَجَّ الْأَوَّلُونَ بِمَا ذَكَرَهُ الطَّبَرِيّ عَنْ أَنَس بْن مَالِك أَنَّهُ قَالَ : سَأَلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام عَنْ الْحُكْم فِي الْمُحَارِب فَقَالَ : | مَنْ أَخَاف السَّبِيل وَأَخَذَ الْمَال فَاقْطَعْ يَده لِلْأَخْذِ وَرِجْله لِلْإِخَافَةِ وَمَنْ قَتَلَ فَاقْتُلْهُ وَمَنْ جَمَعَ ذَلِكَ فَاصْلُبْهُ | . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَبَقِيَ النَّفْي لِلْمُخِيفِ فَقَطْ , وَالْمُخِيفُ فِي حُكْم الْقَاتِل , وَمَعَ ذَلِكَ فَمَالك يَرَى فِيهِ الْأَخْذ بِأَيْسَرِ [ الْعَذَاب وَ ] الْعِقَاب اِسْتِحْسَانًا . قَوْله تَعَالَى : | أَوْ يُنْفَوْا مِنْ الْأَرْض | اُخْتُلِفَ فِي مَعْنَاهُ ; فَقَالَ السُّدِّيّ : هُوَ أَنْ يُطْلَب أَبَدًا بِالْخَيْلِ وَالرِّجْل حَتَّى يُؤْخَذ فَيُقَام عَلَيْهِ حَدّ اللَّه , أَوْ يَخْرُج مِنْ دَار الْإِسْلَام هَرَبًا مِمَّنْ يَطْلُبهُ ; عَنْ اِبْن عَبَّاس وَأَنَس بْن مَالِك وَمَالِك بْن أَنَس وَالْحَسَن وَالسُّدِّيّ وَالضَّحَّاك وَقَتَادَة وَسَعِيد بْن جُبَيْر وَالرَّبِيع بْن أَنَس وَالزُّهْرِيّ . حَكَاهُ الرُّمَّانِيّ فِي كِتَابه ; وَحُكِيَ عَنْ الشَّافِعِيّ أَنَّهُمْ يُخْرَجُونَ مِنْ بَلَد إِلَى بَلَد , وَيُطْلَبُونَ لِتُقَامَ عَلَيْهِمْ الْحُدُود ; وَقَالَ اللَّيْث بْن سَعْد وَالزُّهْرِيّ أَيْضًا , وَقَالَ مَالِك أَيْضًا : يُنْفَى مِنْ الْبَلَد الَّذِي أَحْدَثَ فِيهِ هَذَا إِلَى غَيْره وَيُحْبَس فِيهِ كَالزَّانِي , وَقَالَ مَالِك أَيْضًا وَالْكُوفِيُّونَ : نَفْيهمْ سَجْنهمْ فَيُنْفَى مِنْ سَعَة الدُّنْيَا إِلَى ضِيقهَا , فَصَارَ كَأَنَّهُ إِذَا سُجِنَ فَقَدْ نُفِيَ مِنْ الْأَرْض إِلَّا مِنْ مَوْضِع اِسْتِقْرَاره ; وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ بَعْض أَهْل السُّجُون فِي ذَلِكَ : <br>خَرَجْنَا مِنْ الدُّنْيَا وَنَحْنُ مِنَ اهْلِهَا .......... فَلَسْنَا مِنْ الْأَمْوَات فِيهَا وَلَا الْأَحْيَا <br><br>إِذَا جَاءَنَا السَّجَّان يَوْمًا لِحَاجَةٍ .......... عَجِبْنَا وَقُلْنَا جَاءَ هَذَا مِنْ الدُّنْيَا <br>حَكَى مَكْحُول أَنَّ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَوَّل مَنْ حَبَسَ فِي السُّجُون وَقَالَ : أَحْبِسهُ حَتَّى أَعْلَمَ مِنْهُ التَّوْبَة , وَلَا أَنْفِيه مِنْ بَلَد إِلَى بَلَد فَيُؤْذِيهِمْ ; وَالظَّاهِر أَنَّ الْأَرْض فِي الْآيَة هِيَ أَرْض النَّازِلَة وَقَدْ تَجَنَّبَ النَّاس قَدِيمًا الْأَرْض الَّتِي أَصَابُوا فِيهَا الذُّنُوب ; وَمِنْهُ الْحَدِيث ( الَّذِي نَاءَ بِصَدْرِهِ نَحْو الْأَرْض الْمُقَدَّسَة ) , وَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ إِنْ كَانَ هَذَا الْمُحَارِب مَخُوف الْجَانِب يَظُنّ أَنَّهُ يَعُود إِلَى حِرَابَة أَوْ إِفْسَاد أَنْ يَسْجُنهُ فِي الْبَلَد الَّذِي يُغَرَّب إِلَيْهِ , وَإِنْ كَانَ غَيْر مَخُوف الْجَانِب فَظَنَّ أَنَّهُ لَا يَعُود إِلَى جِنَايَة سُرِّحَ ; قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا صَرِيح مَذْهَب مَالِك أَنْ يُغَرَّب وَيُسْجَن حَيْثُ يُغَرَّب , وَهَذَا عَلَى الْأَغْلَب فِي أَنَّهُ مَخُوف , وَرَجَّحَهُ الطَّبَرِيّ وَهُوَ الْوَاضِح ; لِأَنَّ نَفْيه مِنْ أَرْض النَّازِلَة هُوَ نَصّ الْآيَة , وَسَجْنه بَعْد بِحَسَبِ الْخَوْف مِنْهُ , فَإِنْ تَابَ وَفُهِمَتْ حَاله سُرِّحَ . قَوْله تَعَالَى : | أَوْ يُنْفَوْا مِنْ الْأَرْض | النَّفْي أَصْله الْإِهْلَاك ; وَمِنْهُ الْإِثْبَات وَالنَّفْي , فَالنَّفْي الْإِهْلَاك بِالْإِعْدَامِ ; وَمِنْهُ النُّفَايَة لِرَدِيِّ الْمَتَاع ; وَمِنْهُ النَّفِيّ لِمَا تَطَايَرَ مِنْ الْمَاء عَنْ الدَّلْو . قَالَ الرَّاجِز : <br>كَأَنَّ مَتْنَيْهِ مِنْ النَّفِيِّ .......... مَوَاقِعُ الطَّيْرِ عَلَى الصُّفِيِّ <br>السَّادِسَة : قَالَ اِبْن خُوَيْز مَنْدَاد : وَلَا يُرَاعَى الْمَال الَّذِي يَأْخُذهُ الْمُحَارِب نِصَابًا كَمَا يُرَاعَى فِي السَّارِق , وَقَدْ قِيلَ : يُرَاعَى فِي ذَلِكَ النِّصَاب رُبُع دِينَار ; قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ , قَالَ الشَّافِعِيّ وَأَصْحَاب الرَّأْي : لَا يُقْطَع مِنْ قُطَّاع الطَّرِيق إِلَّا مَنْ أَخَذَ قَدْر مَا تُقْطَع فِيهِ يَد السَّارِق ; وَقَالَ مَالِك : يُحْكَم عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْمُحَارِب وَهُوَ الصَّحِيح ; فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى وَقَّتَ عَلَى لِسَان نَبِيّه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام الْقَطْع فِي السَّرِقَة فِي رُبُع دِينَار , وَلَمْ يُوَقِّت فِي الْحِرَابَة شَيْئًا , بَلْ ذَكَرَ جَزَاء الْمُحَارِب , فَاقْتَضَى ذَلِكَ تَوْفِيَة الْجَزَاء لَهُمْ عَلَى الْمُحَارَبَة عَنْ حَبَّة ; ثُمَّ إِنَّ هَذَا قِيَاس أَصْل عَلَى أَصْل وَهُوَ مُخْتَلَف فِيهِ , وَقِيَاس الْأَعْلَى بِالْأَدْنَى وَالْأَدْنَى بِالْأَسْفَلِ وَذَلِكَ عَكْس الْقِيَاس . وَكَيْفَ يَصِحّ أَنْ يُقَاسَ الْمُحَارِب عَلَى السَّارِق وَهُوَ يَطْلُب خَطْف الْمَال فَإِنْ شَعَرَ بِهِ فَرَّ ; حَتَّى إِنَّ السَّارِق إِذَا دَخَلَ بِالسِّلَاحِ يَطْلُب الْمَال فَإِنْ مُنِعَ مِنْهُ أَوْ صِيحَ عَلَيْهِ وَحَارَبَ عَلَيْهِ فَهُوَ مُحَارِب حُكِمَ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْمُحَارِب . قَالَ الْقَاضِي اِبْن الْعَرَبِيّ : كُنْت فِي أَيَّام حُكْمِي بَيْن النَّاس إِذَا جَاءَنِي أَحَد بِسَارِقٍ , وَقَدْ دَخَلَ الدَّار بِسِكِّينٍ يَحْبِسهُ عَلَى قَلْب صَاحِب الدَّار وَهُوَ نَائِم , وَأَصْحَابه يَأْخُذُونَ مَال الرَّجُل , حَكَمْت فِيهِمْ بِحُكْمِ الْمُحَارِبِينَ , فَافْهَمُوا هَذَا مِنْ أَصْل الدِّين , وَارْتَفِعُوا إِلَى يَفَاع الْعِلْم عَنْ حَضِيض الْجَاهِلِينَ . قُلْت : الْيَفَع أَعْلَى الْجَبَل وَمِنْهُ غُلَام يَفَعَة إِذَا اِرْتَفَعَ إِلَى الْبُلُوغ ; وَالْحَضِيض الْحُفْرَة فِي أَسْفَل الْوَادِي ; كَذَا قَالَ أَهْل اللُّغَة , وَلَا خِلَاف فِي أَنَّ الْحِرَابَة يُقْتَل فِيهَا مَنْ قَتَلَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمَقْتُول مُكَافِئًا لِلْقَاتِلِ ; وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ : أَحَدهمَا : أَنَّهَا تُعْتَبَر الْمُكَافَأَة لِأَنَّهُ قَتْل فَاعْتُبِرَ فِيهِ الْمُكَافَأَة كَالْقِصَاصِ ; وَهَذَا ضَعِيف ; لِأَنَّ الْقَتْل هُنَا لَيْسَ عَلَى مُجَرَّد الْقَتْل وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى الْفَسَاد الْعَامّ مِنْ التَّخْوِيف وَسَلْب الْمَال ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : | إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّه وَرَسُوله وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْض فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا | فَأَمَرَ تَعَالَى بِإِقَامَةِ الْحُدُود عَلَى الْمُحَارِب إِذَا جَمَعَ شَيْئَيْنِ مُحَارَبَة وَسَعْيًا فِي الْأَرْض بِالْفَسَادِ , وَلَمْ يَخُصّ شَرِيفًا مِنْ وَضِيع , وَلَا رَفِيعًا مِنْ دَنِيء , وَإِذَا خَرَجَ الْمُحَارِبُونَ فَاقْتَتَلُوا مَعَ الْقَافِلَة فَقَتَلَ بَعْضُ الْمُحَارِبِينَ وَلَمْ يَقْتُل بَعْضٌ قُتِلَ الْجَمِيع . وَقَالَ الشَّافِعِيّ : لَا يُقْتَل إِلَّا مَنْ قَتَلَ ; وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيف ; فَإِنَّ مَنْ حَضَرَ الْوَقِيعَة شُرَكَاء فِي الْغَنِيمَة وَإِنْ لَمْ يَقْتُل جَمِيعهمْ ; وَقَدْ اُتُّفِقَ مَعَنَا عَلَى قَتْل الرِّدْء وَهُوَ الطَّلِيعَة , فَالْمُحَارِب أَوْلَى , وَإِذَا أَخَافَ الْمُحَارِبُونَ السَّبِيل وَقَطَعُوا الطَّرِيق وَجَبَ عَلَى الْإِمَام قِتَالهمْ مِنْ غَيْر أَنْ يَدْعُوَهُمْ , وَوَجَبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ التَّعَاوُن عَلَى قِتَالهمْ وَكَفّهمْ عَنْ أَذَى الْمُسْلِمِينَ , فَإِنْ اِنْهَزَمُوا لَمْ يَتْبَع مِنْهُمْ مُدْبِرًا إِلَّا أَنْ يَكُون قَدْ قَتَلَ وَأَخَذَ مَالًا , فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ أُتْبِعَ لِيُؤْخَذ وَيُقَام عَلَيْهِ مَا وَجَبَ لِجِنَايَتِهِ ; وَلَا يُذَفَّف مِنْهُمْ عَلَى جَرِيح إِلَّا أَنْ يَكُون قَدْ قَتَلَ ; فَإِنْ أَخَذُوا وَوُجِدَ فِي أَيْدِيهمْ مَال لِأَحَدٍ بِعَيْنِهِ رُدَّ إِلَيْهِ أَوْ إِلَى وَرَثَته , وَإِنْ لَمْ يُوجَد لَهُ صَاحِب جُعِلَ فِي بَيْت الْمَال ; وَمَا أَتْلَفُوهُ مِنْ مَال لِأَحَدٍ غَرِمُوهُ ; وَلَا دِيَة لِمَنْ قَتَلُوا إِذَا قُدِرَ عَلَيْهِمْ قَبْل التَّوْبَة , فَإِنْ تَابُوا وَجَاءُوا تَائِبِينَ وَهِيَ : لَمْ يَكُنْ لِلْإِمَامِ عَلَيْهِمْ سَبِيل , وَسَقَطَ عَنْهُمْ مَا كَانَ حَدًّا لِلَّهِ وَأُخِذُوا بِحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ , فَاقْتُصَّ مِنْهُمْ مِنْ النَّفْس وَالْجِرَاح , وَكَانَ عَلَيْهِمْ مَا أَتْلَفُوهُ مِنْ مَال وَدَم لِأَوْلِيَائِهِ فِي ذَلِكَ , وَيَجُوز لَهُمْ الْعَفْو وَالْهِبَة كَسَائِرِ الْجُنَاة مِنْ غَيْر الْمُحَارِبِينَ ; هَذَا مَذْهَب مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَبِي ثَوْر وَأَصْحَاب الرَّأْي . وَإِنَّمَا أُخِذَ مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنْ الْأَمْوَال وَضَمِنُوا قِيَمَة مَا اِسْتَهْلَكُوا ; لِأَنَّ ذَلِكَ غَصْب فَلَا يَجُوز مِلْكه لَهُمْ , وَيُصْرَف إِلَى أَرْبَابه أَوْ يُوقِفهُ الْإِمَام عِنْده حَتَّى يَعْلَم صَاحِبه , وَقَالَ قَوْم مِنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ : لَا يُطْلَب مِنْ الْمَال إِلَّا بِمَا وُجِدَ عِنْده , وَأَمَّا مَا اِسْتَهْلَكَهُ فَلَا يُطَالَب بِهِ ; وَذَكَرَ الطَّبَرِيّ ذَلِكَ عَنْ مَالِك مِنْ رِوَايَة الْوَلِيد بْن مُسْلِم عَنْهُ , وَهُوَ الظَّاهِر مِنْ فِعْل عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ بِحَارِثَة بْن بَدْر الْغُدَانِيّ فَإِنَّهُ كَانَ مُحَارِبًا ثُمَّ تَابَ قَبْل الْقُدْرَة عَلَيْهِ , فَكَتَبَ لَهُ بِسُقُوطِ الْأَمْوَال وَالدَّم عَنْهُ كِتَابًا مَنْشُورًا ; قَالَ اِبْن خُوَيْز مَنْدَاد : وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَة عَنْ مَالِك فِي الْمُحَارِب إِذَا أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدّ وَلَمْ يُوجَد لَهُ مَال ; هَلْ يُتْبَع دَيْنًا بِمَا أَخَذَ , أَوْ يُسْقَط عَنْهُ كَمَا يُسْقَط عَنْ السَّارِق ؟ وَالْمُسْلِم وَالذِّمِّيّ فِي ذَلِكَ سَوَاء , وَأَجْمَعَ أَهْل الْعِلْم عَلَى أَنَّ السُّلْطَان وَلِيّ مَنْ حَارَبَ ; فَإِنْ قَتَلَ مُحَارِب أَخَا اِمْرِئٍ أَوْ أَبَاهُ فِي حَال الْمُحَارَبَة , فَلَيْسَ إِلَى طَالِب الدَّم مِنْ أَمْر الْمُحَارِب شَيْء , وَلَا يَجُوز عَفْو وَلِيّ الدَّم , وَالْقَائِم بِذَلِكَ الْإِمَام ; جَعَلُوا ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ حَدّ مِنْ حُدُود اللَّه تَعَالَى . قُلْت : فَهَذِهِ جُمْلَة مِنْ أَحْكَام الْمُحَارِبِينَ جَمَعْنَا غُرَرهَا , وَاجْتَلَبْنَا دُرَرهَا ; وَمِنْ أَغْرَبِ مَا قِيلَ فِي تَفْسِيرهَا وَهِيَ : تَفْسِير مُجَاهِد لَهَا ; الْمُرَاد بِالْمُحَارَبَةِ فِي هَذِهِ الْآيَة الزِّنَى وَالسَّرِقَة ; وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ; فَإِنَّ اللَّه سُبْحَانه بَيَّنَ فِي كِتَابه وَعَلَى لِسَان نَبِيّه أَنَّ السَّارِق تُقْطَع يَده , وَأَنَّ الزَّانِي يُجْلَد وَيُغَرَّب إِنْ كَانَ بِكْرًا , وَيُرْجَم إِنْ كَانَ ثَيِّبًا مُحْصَنًا , وَأَحْكَام الْمُحَارِب فِي هَذِهِ الْآيَة مُخَالِف لِذَلِكَ , اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُرِيد إِخَافَة الطَّرِيق بِإِظْهَارِ السِّلَاح قَصْدًا لِلْغَلَبَةِ عَلَى الْفُرُوج , فَهَذَا أَفْحَشُ الْمُحَارَبَة , وَأَقْبَحُ مِنْ أَخْذ الْأَمْوَال وَقَدْ دَخَلَ فِي مَعْنَى قَوْله تَعَالَى : | وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْض فَسَادًا | . قَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَيُنَاشَد اللِّصّ بِاَللَّهِ تَعَالَى , فَإِنْ كَفَّ تُرِكَ وَإِنْ أَبَى قُوتِلَ , فَإِنْ أَنْتَ قَتَلْته فَشَرّ قَتِيل وَدَمه هَدَر . رَوَى النَّسَائِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُول اللَّه أَرَأَيْت إِنْ عُدِيَ عَلَى مَالِي ؟ قَالَ : ( فَانْشُدْ بِاَللَّهِ ) قَالَ : فَإِنْ أَبَوْا عَلَيَّ . قَالَ : ( فَانْشُدْ بِاَللَّهِ ) قَالَ : فَإِنْ أَبَوْا عَلَيَّ قَالَ : ( فَانْشُدْ بِاَللَّهِ ) قَالَ : فَإِنْ أَبَوْا عَلَيَّ قَالَ : ( فَقَاتِلْ فَإِنْ قُتِلْتَ فَفِي الْجَنَّة وَإِنْ قَتَلْتَ فَفِي النَّار ) وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم - وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْر الْمُنَاشَدَة - عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : جَاءَ رَجُل إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُول اللَّه أَرَأَيْت إِنْ جَاءَ رَجُل يُرِيد أَخْذ مَالِي ؟ قَالَ : ( فَلَا تُعْطِهِ مَالَك ) قَالَ : أَرَأَيْت إِنْ قَاتَلَنِي ؟ قَالَ : ( فَقَاتِلْهُ ) قَالَ : أَرَأَيْت إِنْ قَتَلَنِي ؟ قَالَ : ( فَأَنْتَ شَهِيد ) قَالَ : فَإِنْ قَتَلْته ؟ قَالَ : ( هُوَ فِي النَّار ) . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَرُوِّينَا عَنْ جَمَاعَة مِنْ أَهْل الْعِلْم أَنَّهُمْ رَأَوْا قِتَال اللُّصُوص وَدَفْعهمْ عَنْ أَنْفُسهمْ وَأَمْوَالهمْ ; هَذَا مَذْهَب اِبْن عُمَر وَالْحَسَن الْبَصْرِيّ وَإِبْرَاهِيم النَّخَعِيّ وَقَتَادَة وَمَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَالنُّعْمَان , وَبِهَذَا يَقُول عَوَامّ أَهْل الْعِلْم : إِنَّ لِلرَّجُلِ أَنْ يُقَاتِل عَنْ نَفْسه وَأَهْله وَمَاله إِذَا أُرِيدَ ظُلْمًا ; لِلْأَخْبَارِ الَّتِي جَاءَتْ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَخُصّ وَقْتًا دُون وَقْت , وَلَا حَالًا دُون حَال إِلَّا السُّلْطَان ; فَإِنَّ جَمَاعَة أَهْل الْحَدِيث كَالْمُجْتَمِعِينَ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يُمْكِنهُ أَنْ يَمْنَع عَنْ نَفْسه وَمَاله إِلَّا بِالْخُرُوجِ عَلَى السُّلْطَان وَمُحَارَبَته أَنَّهُ لَا يُحَارِبهُ وَلَا يَخْرُج عَلَيْهِ ; لِلْأَخْبَارِ الدَّالَّة عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , الَّتِي فِيهَا الْأَمْر بِالصَّبْرِ عَلَى مَا يَكُون مِنْهُمْ , مِنْ الْجَوْر وَالظُّلْم , وَتَرْك قِتَالهمْ وَالْخُرُوج عَلَيْهِمْ مَا أَقَامُوا الصَّلَاة . قُلْت : وَقَدْ اِخْتَلَفَ مَذْهَبنَا إِذَا طُلِبَ الشَّيْء الْخَفِيف كَالثَّوْبِ وَالطَّعَام هَلْ يُعْطُونَهُ أَوْ يُقَاتِلُونَ ؟ وَهَذَا الْخِلَاف مَبْنِيّ عَلَى أَصْل , وَهُوَ هَلْ الْأَمْر بِقِتَالِهِمْ لِأَنَّهُ تَغْيِير مُنْكَر أَوْ هُوَ مِنْ بَاب دَفْع الضَّرَر ؟ وَعَلَى هَذَا أَيْضًا يَنْبَنِي الْخِلَاف فِي دَعْوَتهمْ قَبْل الْقِتَال , وَاَللَّه أَعْلَم . قَوْله تَعَالَى : | ذَلِكَ لَهُمْ خِزْي فِي الدُّنْيَا | لِشَنَاعَةِ الْمُحَارَبَة وَعِظَم ضَرَرهَا , وَإِنَّمَا كَانَتْ الْمُحَارَبَة عَظِيمَة الضَّرَر ; لِأَنَّ فِيهَا سَدّ سَبِيل الْكَسْب عَلَى النَّاس , لِأَنَّ أَكْثَرَ الْمَكَاسِب وَأَعْظَمهَا التِّجَارَات , وَرُكْنهَا وَعِمَادهَا الضَّرْب فِي الْأَرْض ; كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ : | وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْض يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْل اللَّه | [ الْمُزَّمِّل : 20 ] فَإِذَا أُخِيفَ الطَّرِيق اِنْقَطَعَ النَّاس عَنْ السَّفَر , وَاحْتَاجُوا إِلَى لُزُوم الْبُيُوت , فَانْسَدَّ بَاب التِّجَارَة عَلَيْهِمْ , وَانْقَطَعَتْ أَكْسَابهمْ ; فَشَرَعَ اللَّه عَلَى قُطَّاع الطَّرِيق الْحُدُود الْمُغَلَّظَة , وَذَلِكَ الْخِزْي فِي الدُّنْيَا رَدْعًا لَهُمْ عَنْ سُوء فِعْلهمْ , وَفَتْحًا لِبَابِ التِّجَارَة الَّتِي أَبَاحَهَا لِعِبَادِهِ لِمَنْ أَرَادَهَا مِنْهُمْ , وَوَعَدَ فِيهَا بِالْعَذَابِ الْعَظِيم فِي الْآخِرَة . وَتَكُون هَذِهِ الْمَعْصِيَة خَارِجَة عَنْ الْمَعَاصِي , وَمُسْتَثْنَاة مِنْ حَدِيث عُبَادَة فِي قَوْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( فَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ لَهُ كَفَّارَة ) وَاللَّه أَعْلَمُ , وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون الْخِزْي لِمَنْ عُوقِبَ , وَعَذَاب الْآخِرَة لِمَنْ سَلِمَ فِي الدُّنْيَا , وَيَجْرِي هَذَا الذَّنْب مَجْرَى غَيْره . وَلَا خُلُود لِمُؤْمِنٍ فِي النَّار عَلَى مَا تَقَدَّمَ , وَلَكِنْ يَعْظُم عِقَابه لِعِظَمِ الذَّنْب , ثُمَّ يُخْرَج إِمَّا بِالشَّفَاعَةِ وَإِمَّا بِالْقَبْضَةِ , ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْوَعِيد مَشْرُوط الْإِنْفَاذ بِالْمَشِيئَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : | وَيَغْفِر مَا دُون ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء | [ النِّسَاء : 116 ] أَمَّا إِنَّ الْخَوْف يَغْلِب عَلَيْهِمْ بِحَسَبِ الْوَعِيد وَكِبَر الْمَعْصِيَة .

إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ

اِسْتَثْنَى جَلَّ وَعَزَّ التَّائِبِينَ قَبْل أَنْ يُقْدَر عَلَيْهِمْ , وَأَخْبَرَ بِسُقُوطِ حَقّه عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ : | فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّه غَفُور رَحِيم | . أَمَّا الْقِصَاص وَحُقُوق الْآدَمِيِّينَ فَلَا تَسْقُط , وَمَنْ تَابَ بَعْد الْقُدْرَة فَظَاهِر الْآيَة أَنَّ التَّوْبَة لَا تَنْفَع , وَتُقَام الْحُدُود عَلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ , وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْل إِنَّهُ يَسْقُط كُلّ حَدّ بِالتَّوْبَةِ , وَالصَّحِيح مِنْ مَذْهَبه أَنَّ مَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقّ الْآدَمِيّ قِصَاصًا كَانَ أَوْ غَيْره فَإِنَّهُ لَا يَسْقُط بِالتَّوْبَةِ قَبْل الْقُدْرَة عَلَيْهِ , وَقِيلَ : أَرَادَ بِالِاسْتِثْنَاءِ الْمُشْرِك إِذَا تَابَ وَآمَنَ قَبْل الْقُدْرَة عَلَيْهِ فَإِنَّهُ تَسْقُط عَنْهُ الْحُدُود ; وَهَذَا ضَعِيف ; لِأَنَّهُ إِنْ آمَنَ بَعْد الْقُدْرَة عَلَيْهِ لَمْ يُقْتَل أَيْضًا بِالْإِجْمَاعِ , وَقِيلَ : إِنَّمَا لَا يُسْقَط الْحَدّ عَنْ الْمُحَارِبِينَ بَعْد الْقُدْرَة عَلَيْهِمْ - وَاللَّه أَعْلَمُ - لِأَنَّهُمْ مُتَّهَمُونَ بِالْكَذِبِ فِي تَوْبَتهمْ وَالتَّصَنُّع فِيهَا إِذَا نَالَتْهُمْ يَد الْإِمَام , أَوْ لِأَنَّهُ لَمَّا قُدِرَ عَلَيْهِمْ صَارُوا بِمَعْرِضٍ أَنْ يُنَكَّل بِهِمْ فَلَمْ تُقْبَل تَوْبَتهمْ ; كَالْمُتَلَبِّسِ بِالْعَذَابِ مِنْ الْأُمَم قَبْلنَا , أَوْ مَنْ صَارَ إِلَى حَال الْغَرْغَرَة فَتَابَ ; فَأَمَّا إِذَا تَقَدَّمَتْ تَوْبَتُهُمْ الْقُدْرَةَ عَلَيْهِمْ , فَلَا تُهْمَة وَهِيَ نَافِعَة عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه فِي سُورَة | يُونُس | ; فَأَمَّا الشُّرَّاب وَالزُّنَاة وَالسُّرَّاق إِذَا تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَعُرِفَ ذَلِكَ مِنْهُمْ , ثُمَّ رُفِعُوا إِلَى الْإِمَام فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَحُدّهُمْ , وَإِنْ رُفِعُوا إِلَيْهِ فَقَالُوا تُبْنَا لَمْ يُتْرَكُوا , وَهُمْ فِي هَذِهِ الْحَال كَالْمُحَارِبِينَ إِذَا غُلِبُوا , وَاللَّه أَعْلَمُ .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ

الْوَسِيلَة هِيَ الْقُرْبَة عَنْ أَبِي وَائِل وَالْحَسَن وَمُجَاهِد وَقَتَادَة وَعَطَاء وَالسُّدِّيّ وَابْن زَيْد وَعَبْد اللَّه بْن كَثِير , وَهِيَ فَعِيلَة مِنْ تَوَسَّلْت إِلَيْهِ أَيْ تَقَرَّبْت ; قَالَ عَنْتَرَة : <br>إِنَّ الرِّجَال لَهُمْ إِلَيْكِ وَسِيلَة .......... أَنْ يَأْخُذُوكِ تَكَحَّلِي وَتَخَضَّبِي <br>وَالْجَمْع الْوَسَائِل ; قَالَ : <br>إِذَا غَفَلَ الْوَاشُونَ عُدْنَا لِوَصْلِنَا .......... وَعَادَ التَّصَافِي بَيْننَا وَالْوَسَائِل <br>وَيُقَال : مِنْهُ سُلْت أَسْأَل أَيْ طَلَبْت , وَهُمَا يَتَسَاوَلَانِ أَيْ يَطْلُب كُلّ وَاحِد مِنْ صَاحِبه ; فَالْأَصْل الطَّلَب ; وَالْوَسِيلَة الْقُرْبَة الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ يُطْلَب بِهَا , وَالْوَسِيلَة دَرَجَة فِي الْجَنَّة , وَهِيَ الَّتِي جَاءَ الْحَدِيث الصَّحِيح بِهَا فِي قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام : ( فَمَنْ سَأَلَ لِيَ الْوَسِيلَة حَلَّتْ لَهُ الشَّفَاعَة ) .

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ

يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ

قَالَ يَزِيد الْفَقِير : قِيلَ لِجَابِرِ بْن عَبْد اللَّه إِنَّكُمْ يَا أَصْحَاب مُحَمَّد تَقُولُونَ إِنَّ قَوْمًا يَخْرُجُونَ مِنْ النَّار وَاَللَّه تَعَالَى يَقُول : | وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا | فَقَالَ جَابِر : إِنَّكُمْ تَجْعَلُونَ الْعَامّ خَاصًّا وَالْخَاصّ عَامًّا , إِنَّمَا هَذَا فِي الْكُفَّار خَاصَّة ; فَقَرَأْت الْآيَة كُلّهَا مِنْ أَوَّلهَا إِلَى آخِرهَا فَإِذَا هِيَ فِي الْكُفَّار خَاصَّة . و | مُقِيم | مَعْنَاهُ دَائِم ثَابِت لَا يَزُول وَلَا يَحُول ; قَالَ الشَّاعِر : <br>فَإِنَّ لَكُمْ بِيَوْمِ الشَّعْب مِنِّي .......... عَذَابًا دَائِمًا لَكُمُ مُقِيمَا<br>

وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ

لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَخْذ الْأَمْوَال بِطَرِيقِ السَّعْي فِي الْأَرْض وَالْفَسَاد ذَكَرَ حُكْم السَّارِق مِنْ غَيْر حِرَاب عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه أَثْنَاء الْبَاب ; وَبَدَأَ سُبْحَانه بِالسَّارِقِ قَبْل السَّارِقَة عَكْس الزِّنَى عَلَى مَا نُبَيِّنهُ آخِر الْبَاب , وَقَدْ قُطِعَ السَّارِق فِي الْجَاهِلِيَّة , وَأَوَّل مَنْ حُكِمَ بِقَطْعِهِ فِي الْجَاهِلِيَّة الْوَلِيد بْن الْمُغِيرَة , فَأَمَرَ اللَّه بِقَطْعِهِ فِي الْإِسْلَام , فَكَانَ أَوَّل سَارِق قَطَعَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْإِسْلَام مِنْ الرِّجَال الْخِيَار بْن عَدِيّ بْن نَوْفَل بْن عَبْد مَنَاف , وَمِنْ النِّسَاء مُرَّة بِنْت سُفْيَان بْن عَبْد الْأَسَد مِنْ بَنِي مَخْزُوم , وَقَطَعَ أَبُو بَكْر يَد الْيَمَنِيّ الَّذِي سَرَقَ الْعِقْد ; وَقَطَعَ عُمَر يَد اِبْن سَمُرَة أَخِي عَبْد الرَّحْمَن بْن سَمُرَةَ وَلَا خِلَاف فِيهِ , وَظَاهِر الْآيَة الْعُمُوم فِي كُلّ سَارِق وَلَيْسَ كَذَلِكَ ; لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام ( لَا تُقْطَع يَد السَّارِق إِلَّا فِي رُبُع دِينَار فَصَاعِدًا ) فَبَيَّنَ أَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ : | وَالسَّارِق وَالسَّارِقَة | بَعْض السُّرَّاق دُون بَعْض ; فَلَا تُقْطَع يَد السَّارِق إِلَّا فِي رُبُع دِينَار , أَوْ فِيمَا قِيمَته رُبُع دِينَار ; وَهَذَا قَوْل عُمَر بْن الْخَطَّاب وَعُثْمَان بْن عَفَّان وَعَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ , وَبِهِ قَالَ عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز وَاللَّيْث وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْر ; وَقَالَ مَالِك : تُقْطَع الْيَد فِي رُبُع دِينَار أَوْ فِي ثَلَاثَة دَرَاهِم , فَإِنْ سَرَقَ دِرْهَمَيْنِ وَهُوَ رُبُع دِينَار لِانْحِطَاطِ الصَّرْف لَمْ تُقْطَع يَده فِيهِمَا , وَالْعُرُوض لَا تُقْطَع فِيهَا إِلَّا أَنْ تَبْلُغ ثَلَاثَة دَرَاهِم قَلَّ الصَّرْف أَوْ كَثُرَ ; فَجَعَلَ مَالِك الذَّهَب وَالْوَرِق كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا أَصْلًا بِنَفْسِهِ , وَجَعَلَ تَقْوِيم الْعُرُوض بِالدَّرَاهِمِ فِي الْمَشْهُور , وَقَالَ أَحْمَد وَإِسْحَاق : إِنْ سَرَقَ ذَهَبًا فَرُبُع دِينَار , وَإِنْ سَرَقَ غَيْر الذَّهَب وَالْفِضَّة كَانَتْ قِيمَته رُبُع دِينَار أَوْ ثَلَاثَة دَرَاهِم مِنْ الْوَرِق , وَهَذَا نَحْو مَا صَارَ إِلَيْهِ مَالِك فِي الْقَوْل الْآخَر ; وَالْحُجَّة لِلْأَوَّلِ حَدِيث اِبْن عُمَر أَنَّ رَجُلًا سَرَقَ حَجَفَة , فَأُتِيَ بِهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ بِهَا فَقُوِّمَتْ بِثَلَاثَةِ دَرَاهِم , وَجَعَلَ الشَّافِعِيّ حَدِيث عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا فِي الرُّبُع دِينَار أَصْلًا رَدَّ إِلَيْهِ تَقْوِيمَ الْعُرُوض لَا بِالثَّلَاثَةِ دَرَاهِم عَلَى غَلَاء الذَّهَب وَرُخْصه , وَتَرَكَ حَدِيث اِبْن عُمَر لِمَا رَآهُ - وَاَللَّه أَعْلَمُ - مِنْ اِخْتِلَاف الصَّحَابَة فِي الْمِجَنّ الَّذِي قَطَعَ فِيهِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَابْن عُمَر يَقُول : ثَلَاثَة دَرَاهِم ; وَابْن عَبَّاس يَقُول : عَشَرَة دَرَاهِم ; وَأَنَس يَقُول : خَمْسَة دَرَاهِم , وَحَدِيث عَائِشَة فِي الرُّبُع دِينَار حَدِيث صَحِيح ثَابِت لَمْ يُخْتَلَف فِيهِ عَنْ عَائِشَة إِلَّا أَنَّ بَعْضهمْ وَقَفَهُ , وَرَفَعَهُ مَنْ يَجِبُ الْعَمَلُ بِقَوْلِهِ لِحِفْظِهِ وَعَدَالَته ; قَالَهُ أَبُو عُمَر وَغَيْره , وَعَلَى هَذَا فَإِنْ بَلَغَ الْعَرَض الْمَسْرُوق رُبُع دِينَار بِالتَّقْوِيمِ قُطِعَ سَارِقه ; وَهُوَ قَوْل إِسْحَاق ; فَقِفْ عَلَى هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ فَهُمَا عُمْدَة الْبَاب , وَمَا أَصَحّ مَا قِيلَ فِيهِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَصَاحِبَاهُ وَالثَّوْرِيّ : لَا تُقْطَع يَد السَّارِق إِلَّا فِي عَشَرَة دَرَاهِم كَيْلًا , أَوْ دِينَارًا ذَهَبًا عَيْنًا أَوْ وَزْنًا ; وَلَا يُقْطَع حَتَّى يَخْرُجَ بِالْمَتَاعِ مِنْ مِلْك الرَّجُل ; وَحُجَّتهمْ حَدِيث اِبْن عَبَّاس ; قَالَ : قُوِّمَ الْمِجَنّ الَّذِي قَطَعَ فِيهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَشَرَةِ دَرَاهِم , وَرَوَاهُ عَمْرو بْن شُعَيْب عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّه قَالَ : كَانَ ثَمَن الْمِجَنّ يَوْمئِذٍ عَشَرَة دَرَاهِم ; أَخْرَجَهُمَا الدَّارَقُطْنِيّ وَغَيْره , وَفِي الْمَسْأَلَة قَوْل رَابِع , وَهُوَ مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ عُمَر قَالَ : لَا تُقْطَع الْخَمْس إِلَّا فِي خَمْس ; وَبِهِ قَالَ سُلَيْمَان بْن يَسَار وَابْن أَبِي لَيْلَى وَابْن شُبْرُمَة ; وَقَالَ أَنَس بْن مَالِك : قَطَعَ أَبُو بَكْر - رَحِمَهُ اللَّه - فِي مِجَنّ قِيمَته خَمْسَة دَرَاهِم , وَقَوْل خَامِس : وَهُوَ أَنَّ الْيَد تُقْطَع فِي أَرْبَعَة دَرَاهِم فَصَاعِدًا ; رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة وَأَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ , وَقَوْل سَادِس : وَهُوَ أَنَّ الْيَد تُقْطَع فِي دِرْهَم فَمَا فَوْقَه ; قَالَهُ عُثْمَان الْبَتِّيّ . وَذَكَرَ الطَّبَرِيّ أَنَّ عَبْد اللَّه بْن الزُّبَيْر قَطَعَ فِي دِرْهَم , وَقَوْل سَابِع : وَهُوَ أَنَّ الْيَد تُقْطَع فِي كُلّ مَا لَهُ قِيمَة عَلَى ظَاهِر الْآيَة ; هَذَا قَوْل الْخَوَارِج , وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَن الْبَصْرِيّ , وَهِيَ إِحْدَى الرِّوَايَات الثَّلَاث عَنْهُ , وَالثَّانِيَة كَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَر , وَالثَّالِثَة حَكَاهَا قَتَادَة عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : تَذَاكَرْنَا الْقَطْع فِي كَمْ يَكُون عَلَى عَهْد زِيَاد ؟ فَاتَّفَقَ رَأَيْنَا عَلَى دِرْهَمَيْنِ , وَهَذِهِ أَقْوَال مُتَكَافِئَة وَالصَّحِيح مِنْهَا مَا قَدَّمْنَاهُ لَك ; فَإِنْ قِيلَ : قَدْ رَوَى الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم وَغَيْرهمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَعَنَ اللَّه السَّارِق يَسْرِق الْبَيْضَة فَتُقْطَع يَده وَيَسْرِق الْحَبْل فَتُقْطَع يَده ) وَهَذَا مُوَافِق لِظَاهِرِ الْآيَة فِي الْقَطْع فِي الْقَلِيل وَالْكَثِير ; فَالْجَوَاب أَنَّ هَذَا خَرَجَ مَخْرَج التَّحْذِير بِالْقَلِيلِ عَنْ الْكَثِير , كَمَا جَاءَ فِي مَعْرِض التَّرْغِيب بِالْقَلِيلِ مَجْرَى الْكَثِير فِي قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا وَلَوْ مِثْل مَفْحَص قَطَاة بَنَى اللَّه لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّة ) , وَقِيلَ : إِنَّ ذَلِكَ مَجَاز مِنْ وَجْه آخَر ; وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا ضَرِيَ بِسَرِقَةِ الْقَلِيل سَرَقَ الْكَثِير فَقُطِعَتْ يَده , وَأَحْسَنُ مِنْ هَذَا مَا قَالَهُ الْأَعْمَش وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيّ فِي آخِر الْحَدِيث كَالتَّفْسِيرِ قَالَ : كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ بَيْض الْحَدِيد , وَالْحَبْل كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ مِنْهَا مَا يُسَاوِي دَرَاهِم . قُلْت : كَحِبَالِ السَّفِينَة وَشِبْه ذَلِكَ , وَاللَّه أَعْلَمُ .</p><p>اِتَّفَقَ جُمْهُور النَّاس عَلَى أَنَّ الْقَطْع لَا يَكُون إِلَّا عَلَى مَنْ أَخْرَجَ مِنْ حِرْزٍ مَا يَجِب فِيهِ الْقَطْع , وَقَالَ الْحَسَن بْن أَبِي الْحَسَن : إِذَا جَمَعَ الثِّيَاب فِي الْبَيْت , وَقَالَ الْحَسَن بْن أَبِي الْحَسَن أَيْضًا فِي قَوْل آخَر مِثْل قَوْل سَائِر أَهْل الْعِلْم فَصَارَ اِتِّفَاقًا صَحِيحًا , وَالْحَمْد لِلَّهِ . الْحِرْز هُوَ مَا نُصِبَ عَادَة لِحِفْظِ أَمْوَال النَّاس , وَهُوَ يَخْتَلِف فِي كُلّ شَيْء بِحَسَبِ حَاله عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : لَيْسَ فِي هَذَا الْبَاب خَبَر ثَابِت لَا مَقَال فِيهِ لِأَهْلِ الْعِلْم , وَإِنَّمَا ذَلِكَ كَالْإِجْمَاعِ مِنْ أَهْل الْعِلْم , وَحُكِيَ عَنْ الْحَسَن وَأَهْل الظَّاهِر أَنَّهُمْ لَمْ يَشْتَرِطُوا الْحِرْز , وَفِي الْمُوَطَّأ لِمَالِكٍ عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَبْد الرَّحْمَن بْن أَبِي حُسَيْن الْمَكِّيّ ; أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ مُعَلَّقٍ وَلَا فِي حَرِيسَةِ جَبَلٍ فَإِذَا آوَاهُ الْمُرَاحُ أَوْ الْجَرِينُ فَالْقَطْعُ فِيمَا بَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ ) قَالَ أَبُو عُمَر : هَذَا حَدِيث يَتَّصِل مَعْنَاهُ مِنْ حَدِيث عَبْد اللَّه بْن عَمْرو بْن الْعَاص وَغَيْره , وَعَبْد اللَّه هَذَا ثِقَة عِنْد الْجَمِيع , وَكَانَ أَحْمَدُ يُثْنِي عَلَيْهِ , وَعَنْ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الثَّمَر الْمُعَلَّق فَقَالَ : ( مَنْ أَصَابَ مِنْهُ مِنْ ذِي حَاجَة غَيْرَ مُتَّخِذٍ خُبْنَةً فَلَا شَيْء عَلَيْهِ وَمَنْ خَرَجَ بِشَيْءٍ مِنْهُ فَعَلَيْهِ الْقَطْع وَمَنْ سَرَقَ دُون ذَلِكَ فَعَلَيْهِ غَرَامَة مِثْلَيْهِ وَالْعُقُوبَة ) وَفِي رِوَايَة . ( وَجَلَدَات نَكَال ) بَدَل ( وَالْعُقُوبَة ) . قَالَ الْعُلَمَاء : ثُمَّ نُسِخَ الْجَلْد وَجُعِلَ مَكَانه الْقَطْع . قَالَ أَبُو عُمَر : قَوْله ( غَرَامَة مِثْلَيْهِ ) مَنْسُوخ لَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ الْفُقَهَاء قَالَ بِهِ إِلَّا مَا جَاءَ عَنْ عُمَر فِي دَقِيق حَاطِب بْن أَبِي بَلْتَعَة ; خَرَّجَهُ مَالِك ; وَرِوَايَة عَنْ أَحْمَد بْن حَنْبَل , وَاَلَّذِي عَلَيْهِ النَّاس فِي الْغُرْم بِالْمِثْلِ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى : | فَمَنْ اِعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اِعْتَدَى عَلَيْكُمْ | [ الْبَقَرَة : 194 ] , وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ صَفْوَان بْن أُمَيَّة قَالَ : كُنْت نَائِمًا فِي الْمَسْجِد عَلَيَّ خَمِيصَةٌ لِي ثَمَنُ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا , فَجَاءَ رَجُل فَاخْتَلَسَهَا مِنِّي , فَأُخِذَ الرَّجُل فَأُتِيَ بِهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ بِهِ لِيُقْطَع , قَالَ : فَأَتَيْته فَقُلْت أَتَقْطَعُهُ مِنْ أَجْل ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا ؟ أَنَا أَبِيعهُ وَأُنْسِئهُ ثَمَنهَا ; قَالَ : ( فَهَلَّا كَانَ هَذَا قَبْل أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ ) ؟ , وَمِنْ جِهَة النَّظَر أَنَّ الْأَمْوَال خُلِقَتْ مُهَيَّأَة لِلِانْتِفَاعِ بِهَا لِلْخَلْقِ أَجْمَعِينَ , ثُمَّ الْحِكْمَة الْأَوَّلِيَّة حَكَمَتْ فِيهَا بِالِاخْتِصَاصِ الَّذِي هُوَ الْمِلْك شَرْعًا , وَبَقِيَتْ الْأَطْمَاع مُتَعَلِّقَة بِهَا , وَالْآمَال مَحُوَّمَة عَلَيْهَا ; فَتَكُفّهَا الْمُرُوءَة وَالدِّيَانَة فِي أَقَلّ الْخَلْق , وَيَكُفّهَا الصَّوْن وَالْحِرْز عَنْ أَكْثَرهمْ , فَإِذَا أَحْرَزَهَا مَالِكهَا فَقَدْ اِجْتَمَعَ فِيهَا الصَّوْن وَالْحِرْز الَّذِي هُوَ غَايَة الْإِمْكَان لِلْإِنْسَانِ ; فَإِذَا هُتِكَا فَحُشَتْ الْجَرِيمَة فَعَظُمَتْ الْعُقُوبَة , وَإِذَا هُتِكَ أَحَد الصَّوْنَيْنِ وَهُوَ الْمِلْك وَجَبَ الضَّمَان وَالْأَدَب . فَإِذَا اِجْتَمَعَ جَمَاعَة فَاشْتَرَكُوا فِي إِخْرَاج نِصَاب مِنْ حِرْزه , فَلَا يَخْلُو , إِمَّا أَنْ يَكُون بَعْضهمْ مِمَّنْ يَقْدِر عَلَى إِخْرَاجه , أَوْ لَا إِلَّا بِتَعَاوُنِهِمْ , فَإِذَا كَانَ الْأَوَّل فَاخْتَلَفَ فِيهِ عُلَمَاؤُنَا عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدهمَا يُقْطَع فِيهِ , وَالثَّانِي لَا يُقْطَع فِيهِ ; وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَة وَالشَّافِعِيّ ; قَالَا : لَا يُقْطَع فِي السَّرِقَة الْمُشْتَرِكُونَ إِلَّا بِشَرْطِ أَنْ يَجِب لِكُلِّ وَاحِد مِنْ حِصَّته نِصَاب ; لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا تُقْطَع يَد السَّارِق إِلَّا فِي رُبُع دِينَار فَصَاعِدًا ) وَكُلّ وَاحِد مِنْ هَؤُلَاءِ لَمْ يَسْرِق نِصَابًا فَلَا قَطْع عَلَيْهِمْ , وَوَجْه الْقَطْع فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ أَنَّ الِاشْتِرَاك فِي الْجِنَايَة لَا يُسْقِط عُقُوبَتهَا كَالِاشْتِرَاكِ فِي الْقَتْل ; قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَمَا أَقْرَبَ مَا بَيْنهمَا فَإِنَّا إِنَّمَا قَتَلْنَا الْجَمَاعَة بِالْوَاحِدِ صِيَانَة لِلدِّمَاءِ ; لِئَلَّا يَتَعَاوَن عَلَى سَفْكهَا الْأَعْدَاء , فَكَذَلِكَ فِي الْأَمْوَال مِثْله ; لَا سِيَّمَا وَقَدْ سَاعَدَنَا الشَّافِعِيّ عَلَى أَنَّ الْجَمَاعَة إِذَا اِشْتَرَكُوا فِي قَطْع يَد رَجُل قُطِعُوا وَلَا فَرْق بَيْنهمَا , وَإِنْ كَانَ الثَّانِي وَهُوَ مِمَّا لَا يُمْكِن إِخْرَاجه إِلَّا بِالتَّعَاوُنِ فَإِنَّهُ يُقْطَع جَمِيعهمْ بِالِاتِّفَاقِ مِنْ الْعُلَمَاء ; ذَكَرَهُ اِبْن الْعَرَبِيّ . فَإِنْ اِشْتَرَكُوا فِي السَّرِقَة بِأَنْ نَقَبَ وَاحِد الْحِرْز وَأَخْرَجَ آخَر , فَإِنْ كَانَا مُتَعَاوِنَيْنِ قُطِعَا , وَإِنْ اِنْفَرَدَ كُلّ مِنْهُمَا بِفِعْلِهِ دُون اِتِّفَاق بَيْنهمَا , بِأَنْ يَجِيء آخَر فَيُخْرِج فَلَا قَطْع عَلَى وَاحِد مِنْهُمَا . وَإِنْ تَعَاوَنَا فِي النَّقْب وَانْفَرَدَ أَحَدهمَا بِالْإِخْرَاجِ فَالْقَطْع عَلَيْهِ خَاصَّة ; وَقَالَ الشَّافِعِيّ : لَا قَطْع ; لِأَنَّ هَذَا نَقَبَ وَلَمْ يَسْرِق , وَالْآخَر سَرَقَ مِنْ حِرْز مَهْتُوك الْحُرْمَة . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : إِنْ شَارَكَ فِي النَّقْب وَدَخَلَ وَأَخَذَ قُطِعَ , وَلَا يُشْتَرَط فِي الِاشْتِرَاك فِي النَّقْب التَّحَامُل عَلَى آلَة وَاحِدَة , بَلْ التَّعَاقُب فِي الضَّرْب تَحْصُل بِهِ الشَّرِكَة , وَلَوْ دَخَلَ أَحَدهمَا فَأَخْرَجَ الْمَتَاع إِلَى بَاب الْحِرْز فَأَدْخَلَ الْآخَر يَده فَأَخَذَهُ فَعَلَيْهِ الْقَطْع , وَيُعَاقَب الْأَوَّل ; وَقَالَ أَشْهَب : يُقْطَعَانِ . وَإِنْ وَضَعَهُ خَارِج الْحِرْز فَعَلَيْهِ الْقَطْع لَا عَلَى الْآخِذ , وَإِنْ وَضَعَهُ فِي وَسَط النَّقْب فَأَخَذَهُ الْآخَر وَالْتَقَتْ أَيْدِيهمَا فِي النَّقْب قُطِعَا جَمِيعًا . وَالْقَبْر وَالْمَسْجِد حِرْز , فَيُقْطَع النَّبَّاش عِنْد الْأَكْثَر ; وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : لَا قَطْع عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ سَرَقَ مِنْ غَيْر حِرْز مَالًا مُعَرَّضًا لِلتَّلَفِ لَا مَالِك لَهُ ; لِأَنَّ الْمَيِّت لَا يَمْلِك , وَمِنْهُمْ مَنْ يُنْكِر السَّرِقَة ; لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ سَاكِن , وَإِنَّمَا تَكُون السَّرِقَة بِحَيْثُ تُتَّقَى الْأَعْيُن , وَيُتَحَفَّظ مِنْ النَّاس ; وَعَلَى نَفْي السَّرِقَة عَوَّلَ أَهْل مَا وَرَاء النَّهَر , وَقَالَ الْجُمْهُور : هُوَ سَارِق لِأَنَّهُ تَدَرَّعَ اللَّيْل لِبَاسًا وَاتَّقَى الْأَعْيُن , وَقَصَدَ وَقْتًا لَا نَاظِر فِيهِ وَلَا مَارّ عَلَيْهِ , فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ سَرَقَ فِي وَقْت بُرُوز النَّاس لِلْعِيدِ , وَخُلُوّ الْبَلَد مِنْ جَمِيعهمْ , وَأَمَّا قَوْلهمْ : إِنَّ الْقَبْر غَيْر حِرْز فَبَاطِل ; لِأَنَّ حِرْز كُلّ شَيْء بِحَسَبِ حَاله الْمُمْكِنَة فِيهِ . وَأَمَّا قَوْلهمْ : إِنَّ الْمَيِّت لَا يَمْلِك فَبَاطِل أَيْضًا ; لِأَنَّهُ لَا يَجُوز تَرْك الْمَيِّت عَارِيًا فَصَارَتْ هَذِهِ الْحَاجَة قَاضِيَة بِأَنَّ الْقَبْر حِرْز , وَقَدْ نَبَّهَ اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ : | أَلَمْ نَجْعَل الْأَرْض كِفَاتًا . أَحْيَاء وَأَمْوَاتًا | [ الْمُرْسَلَات : 25 - 26 ] لِيَسْكُن فِيهَا حَيًّا , وَيُدْفَن فِيهَا مَيِّتًا , وَأَمَّا قَوْلهمْ : إِنَّهُ عُرْضَة لِلتَّلَفِ ; فَكُلّ مَا يَلْبَسهُ الْحَيّ أَيْضًا مُعَرَّض لِلتَّلَفِ وَالْإِخْلَاق بِلِبَاسِهِ , إِلَّا أَنَّ أَحَد الْأَمْرَيْنِ أَعْجَلُ مِنْ الثَّانِي ; وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي ذَرّ قَالَ : دَعَانِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : ( كَيْفَ أَنْتَ إِذَا أَصَابَ النَّاس مَوْت يَكُون الْبَيْت فِيهِ بِالْوَصِيفِ ) , يَعْنِي الْقَبْر ; قُلْت : اللَّه وَرَسُول أَعْلَم قَالَ : ( عَلَيْك بِالصَّبْرِ ) قَالَ حَمَّاد : فَبِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ تُقْطَع يَد السَّارِق ; لِأَنَّهُ دَخَلَ عَلَى الْمَيِّت بَيْته , وَأَمَّا الْمَسْجِد , فَمَنْ سَرَقَ حُصُره قُطِعَ ; رَوَاهُ عِيسَى عَنْ اِبْن الْقَاسِم , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَسْجِدِ بَاب ; وَرَآهَا مُحْرَزَة , وَإِنْ سَرَقَ الْأَبْوَاب قُطِعَ أَيْضًا ; وَرُوِيَ عَنْ اِبْن الْقَاسِم أَيْضًا إِنْ كَانَتْ سَرِقَته لِلْحُصُرِ نَهَارًا لَمْ يُقْطَع , وَإِنْ كَانَ تَسَوَّرَ عَلَيْهَا لَيْلًا قُطِعَ ; وَذُكِرَ عَنْ سَحْنُون إِنْ كَانَتْ حُصُره خِيطَ بَعْضهَا إِلَى بَعْض قُطِعَ , وَإِلَّا لَمْ يُقْطَع . قَالَ أَصْبَغُ : يُقْطَع سَارِق حُصُر الْمَسْجِد وَقَنَادِيله وَبَلَاطه , كَمَا لَوْ سَرَقَ بَابه مُسْتَسِرًّا أَوْ خَشَبَة مِنْ سَقْفه أَوْ مِنْ جَوَائِزه , وَقَالَ أَشْهَبُ فِي كِتَاب مُحَمَّد : لَا قَطْع فِي شَيْء مِنْ حُصُر الْمَسْجِد وَقَنَادِيله وَبَلَاطه . وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء هَلْ يَكُون غُرْم مَعَ الْقَطْع أَمْ لَا ؟ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : لَا يَجْتَمِع الْغُرْم مَعَ الْقَطْع بِحَالٍ ; لِأَنَّ اللَّه سُبْحَانه قَالَ : | وَالسَّارِق وَالسَّارِقَة فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنْ اللَّه | وَلَمْ يَذْكُر غُرْمًا . وَقَالَ الشَّافِعِيّ : يَغْرَم قِيمَة السَّرِقَة مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا , وَتَكُون دَيْنًا عَلَيْهِ إِذَا أَيْسَرَ أَدَّاهُ ; وَهُوَ قَوْل أَحْمَد وَإِسْحَاق , وَأَمَّا عُلَمَاؤُنَا مَالِك وَأَصْحَابه فَقَالُوا : إِنْ كَانَتْ الْعَيْن قَائِمَة رَدَّهَا , وَإِنْ تَلِفَتْ فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا غَرِمَ , وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا لَمْ يُتْبَع دَيْنًا وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْء ; وَرَوَى مَالِك مِثْل ذَلِكَ عَنْ الزُّهْرِيّ ; قَالَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق : وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ يُتْبَع بِهَا دَيْنًا مَعَ الْقَطْع مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا ; قَالَ : وَهُوَ قَوْل غَيْر وَاحِد مِنْ عُلَمَائِنَا مِنْ أَهْل الْمَدِينَة , وَاسْتُدِلَّ عَلَى صِحَّته بِأَنَّهُمَا حَقَّانِ لِمُسْتَحِقَّيْنِ فَلَا يُسْقِط أَحَدُهُمَا الْآخَرَ كَالدِّيَةِ وَالْكَفَّارَة , ثُمَّ قَالَ : وَبِهَذَا أَقُول , وَاسْتَدَلَّ الْقَاضِي أَبُو الْحَسَن لِلْمَشْهُورِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِذَا أُقِيمَ عَلَى السَّارِق الْحَدّ فَلَا ضَمَان عَلَيْهِ ) وَأَسْنَدَهُ فِي كِتَابه . وَقَالَ بَعْضهمْ : إِنَّ الْإِتْبَاع بِالْغُرْمِ عُقُوبَة , وَالْقَطْع عُقُوبَة , وَلَا تَجْتَمِع عُقُوبَتَانِ ; وَعَلَيْهِ عَوَّلَ الْقَاضِي عَبْد الْوَهَّاب , وَالصَّحِيح قَوْل الشَّافِعِيّ وَمَنْ وَافَقَهُ ; قَالَ الشَّافِعِيّ : يَغْرَم السَّارِق مَا سَرَقَ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا ; قُطِعَ أَوْ لَمْ يُقْطَع , وَكَذَلِكَ إِذَا قَطَعَ الطَّرِيق ; قَالَ : وَلَا يُسْقِط الْحَدُّ لِلَّهِ مَا أَتْلَفَ لِلْعِبَادِ , وَأَمَّا مَا اِحْتَجَّ بِهِ عُلَمَاؤُنَا مِنْ الْحَدِيث ( إِذَا كَانَ مُعْسِرًا ) فَبِهِ اِحْتَجَّ الْكُوفِيُّونَ وَهُوَ قَوْل الطَّبَرِيّ , وَلَا حُجَّة فِيهِ ; رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ عَنْ عَبْد الرَّحْمَن بْن عَوْف . قَالَ أَبُو عُمَر : هَذَا حَدِيث لَيْسَ بِالْقَوِيِّ وَلَا تَقُوم بِهِ حُجَّة , وَقَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهَذَا حَدِيث بَاطِل , وَقَالَ الطَّبَرِيّ : الْقِيَاس أَنَّ عَلَيْهِ غُرْم مَا اِسْتَهْلَكَ , وَلَكِنْ تَرَكْنَا ذَلِكَ اِتِّبَاعًا لِلْأَثَرِ فِي ذَلِكَ . قَالَ أَبُو عُمَر : تَرْك الْقِيَاس لِضَعِيفِ الْأَثَر غَيْر جَائِز ; لِأَنَّ الضَّعِيف لَا يُوجِب حُكْمًا . وَاخْتُلِفَ فِي قَطْع يَد مَنْ سَرَقَ الْمَال مِنْ الَّذِي سَرَقَهُ ; فَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : يُقْطَع , وَقَالَ الشَّافِعِيّ : لَا يُقْطَع ; لِأَنَّهُ سَرَقَ مِنْ غَيْر مَالِك وَمِنْ غَيْر حِرْز , وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : حُرْمَة الْمَالِك عَلَيْهِ بَاقِيَة لَمْ تَنْقَطِع عَنْهُ , وَيَد السَّارِق كَلَا يَدٍ , كَالْغَاصِبِ لَوْ سَرَقَ مِنْهُ الْمَال الْمَغْصُوب قُطِعَ , فَإِنْ قِيلَ : اِجْعَلُوا حِرْزه كَلَا حِرْز ; قُلْنَا : الْحِرْز قَائِم وَالْمِلْك قَائِم وَلَمْ يَبْطُل الْمِلْك فِيهِ فَيَقُولُوا لَنَا أَبْطِلُوا الْحِرْز . وَاخْتَلَفُوا إِذَا كَرَّرَ السَّرِقَة بَعْد الْقَطْع فِي الْعَيْن الْمَسْرُوقَة ; فَقَالَ الْأَكْثَر : يُقْطَع , وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : لَا قَطْع عَلَيْهِ , وَعُمُوم الْقُرْآن يُوجِب عَلَيْهِ الْقَطْع , وَهُوَ يَرُدّ قَوْله , وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة أَيْضًا فِي السَّارِق يَمْلِك الشَّيْء الْمَسْرُوق بِشِرَاء أَوْ هِبَة قَبْل الْقَطْع : فَإِنَّهُ لَا يُقْطَع , وَاَللَّه تَعَالَى يَقُول : | وَالسَّارِق وَالسَّارِقَة فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا | فَإِذَا وَجَبَ الْقَطْع حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى لَمْ يُسْقِطهُ شَيْء .</p><p>قَرَأَ الْجُمْهُور | وَالسَّارِقُ | بِالرَّفْعِ . قَالَ سِيبَوَيْهِ : الْمَعْنَى وَفِيمَا فُرِضَ عَلَيْكُمْ السَّارِق وَالسَّارِقَة , وَقِيلَ : الرَّفْع فِيهِمَا عَلَى الِابْتِدَاء وَالْخَبَر | فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا | . وَلَيْسَ الْقَصْد إِلَى مُعَيَّن إِذْ لَوْ قَصَدَ مُعَيَّنًا لَوَجَبَ النَّصْب ; تَقُول : زَيْدًا اِضْرِبْهُ ; بَلْ هُوَ كَقَوْلِك : مَنْ سَرَقَ فَاقْطَعْ يَده . قَالَ الزَّجَّاج : وَهَذَا الْقَوْل هُوَ الْمُخْتَار , وَقُرِئَ | وَالسَّارِقَ | بِالنَّصْبِ فِيهِمَا عَلَى تَقْدِير اِقْطَعُوا السَّارِق وَالسَّارِقَة ; وَهُوَ اِخْتِيَار سِيبَوَيْهِ ; لِأَنَّ الْفِعْل بِالْأَمْرِ أَوْلَى ; قَالَ سِيبَوَيْهِ رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى : الْوَجْه فِي كَلَام الْعَرَب النَّصْب ; كَمَا تَقُول : زَيْدًا اِضْرِبْهُ ; وَلَكِنَّ الْعَامَّة أَبَتْ إِلَّا الرَّفْع ; يَعْنِي عَامَّة الْقُرَّاء وَجُلّهمْ , فَأَنْزَلَ سِيبَوَيْهِ النَّوْع السَّارِق مَنْزِلَة الشَّخْص الْمُعَيَّن , وَقَرَأَ اِبْن مَسْعُود | وَالسَّارِقُونَ وَالسَّارِقَات فَاقْطَعُوا أَيْمَانَهُمْ | وَهُوَ يُقَوِّي قِرَاءَة الْجَمَاعَة , وَالسَّرِق وَالسَّرِقَة بِكَسْرِ الرَّاء فِيهِمَا هُوَ اِسْم الشَّيْء الْمَسْرُوق , وَالْمَصْدَر مِنْ سَرَقَ يَسْرِق سَرَقًا بِفَتْحِ الرَّاء . قَالَهُ الْجَوْهَرِيّ , وَأَصْل هَذَا اللَّفْظ إِنَّمَا هُوَ أَخْذ الشَّيْء فِي خُفْيَة مِنْ الْأَعْيُن , وَمِنْهُ اسْتَرَقَ السَّمْع , وَسَارَقَهُ النَّظَر . قَالَ اِبْن عَرَفَة : السَّارِق عِنْد الْعَرَب هُوَ مَنْ جَاءَ مُسْتَتِرًا إِلَى حِرْز فَأَخَذَ مِنْهُ مَا لَيْسَ لَهُ , فَإِنْ أَخَذَ مِنْ ظَاهِر فَهُوَ مُخْتَلِس وَمُسْتَلِب وَمُنْتَهِب وَمُحْتَرِس , فَإِنْ تَمَنَّعَ بِمَا فِي يَده فَهُوَ غَاصِب . قُلْت : وَفِي الْخَبَر عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( وَأَسْوَأ السَّرِقَة الَّذِي يَسْرِق صَلَاته ) قَالُوا : وَكَيْفَ يَسْرِق صَلَاته ؟ قَالَ : لَا يُتِمّ رُكُوعهَا وَلَا سُجُودهَا ) خَرَّجَهُ الْمُوَطَّأ وَغَيْره , فَسَمَّاهُ سَارِقًا وَإِنْ كَانَ لَيْسَ سَارِقًا مِنْ حَيْثُ هُوَ مَوْضِع الِاشْتِقَاق , فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مُسَارَقَة الْأَعْيُن غَالِبًا .</p><p>قَوْله تَعَالَى : | فَاقْطَعُوا | الْقَطْع مَعْنَاهُ الْإِبَانَة وَالْإِزَالَة , وَلَا يَجِب إِلَّا بِجَمْعِ أَوْصَاف تُعْتَبَر فِي السَّارِق وَفِي الشَّيْء الْمَسْرُوق , وَفِي الْمَوْضِع الْمَسْرُوق مِنْهُ , وَفِي صِفَته . فَأَمَّا مَا يُعْتَبَر فِي السَّارِق فَخَمْسَة أَوْصَاف ; وَهِيَ الْبُلُوغ وَالْعَقْل , وَأَنْ يَكُون غَيْر مَالِك لِلْمَسْرُوقِ مِنْهُ , وَأَلَّا يَكُون لَهُ عَلَيْهِ وِلَايَة , فَلَا يُقْطَع الْعَبْد إِنْ سَرَقَ مِنْ مَال سَيِّده , وَكَذَلِكَ السَّيِّد إِنْ أَخَذَ مَال عَبْده لَا قَطْع بِحَالٍ ; لِأَنَّ الْعَبْد وَمَاله لِسَيِّدِهِ . وَلَمْ يُقْطَع أَحَد بِأَخْذِ مَال عَبْده لِأَنَّهُ آخِذ لِمَالِهِ , وَسَقَطَ قَطْع الْعَبْد بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَة وَبِقَوْلِ الْخَلِيفَة : غُلَامكُمْ سَرَقَ مَتَاعكُمْ . وَذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَيْسَ عَلَى الْعَبْد الْآبِق إِذَا سَرَقَ قَطْعٌ وَلَا عَلَى الذِّمِّيّ ) قَالَ : لَمْ يَرْفَعهُ غَيْر فَهْد بْن سُلَيْمَان , وَالصَّوَاب أَنَّهُ مَوْقُوف , وَذَكَرَ اِبْن مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِذَا سَرَقَ الْعَبْد فَبِيعُوهُ وَلَوْ بِنَشٍّ ) أَخْرَجَهُ عَنْ أَبِي بَكْر بْن أَبِي شَيْبَة حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَة عَنْ أَبِي عَوَانَة عَنْ عُمَر بْن أَبِي سَلَمَة عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة ; قَالَ اِبْن مَاجَهْ : وَحَدَّثَنَا جُبَارَة بْن الْمُغَلِّس حَدَّثَنَا حَجَّاج بْن تَمِيم عَنْ مَيْمُون بْن مِهْرَان عَنْ اِبْن عَبَّاس ; أَنَّ عَبْدًا مِنْ رَقِيق الْخُمُس سَرَقَ مِنْ الْخُمُس , فَرُفِعَ إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَقْطَعهُ , وَقَالَ : ( مَال اللَّه سَرَقَ بَعْضُهُ بَعْضًا ) وَجُبَارَة بْن الْمُغَلِّس مَتْرُوك ; قَالَهُ أَبُو زُرْعَة الرَّازِيّ , وَلَا قَطْع عَلَى صَبِيّ وَلَا مَجْنُون , وَيَجِب عَلَى الذِّمِّيّ وَالْمُعَاهَد , وَالْحَرْبِيّ إِذَا دَخَلَ بِأَمَانٍ , وَأَمَّا مَا يُعْتَبَر فِي الشَّيْء الْمَسْرُوق فَأَرْبَعَة أَوْصَاف ; وَهِيَ النِّصَاب وَقَدْ مَضَى الْقَوْل فِيهِ , وَأَنْ يَكُون مِمَّا يُتَمَوَّل وَيُتَمَلَّك وَيَحِلّ بَيْعه , وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُتَمَوَّل وَلَا يَحِلّ بَيْعه كَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِير فَلَا يُقْطَع فِيهِ بِاتِّفَاقٍ حَاشَا الْحُرّ الصَّغِير عِنْد مَالِك , وَابْن الْقَاسِم ; وَقِيلَ : لَا قَطْع عَلَيْهِ ; وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيّ وَأَبُو حَنِيفَة ; لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ , وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : هُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْمَال ; وَلَمْ يُقْطَع السَّارِق فِي الْمَال لِعَيْنِهِ , وَإِنَّمَا قُطِعَ لِتَعَلُّقِ النُّفُوس بِهِ , وَتَعَلُّقهَا بِالْحُرِّ أَكْثَرُ مِنْ تَعَلُّقهَا بِالْعَبْدِ , وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَجُوز تَمَلُّكه وَلَا يَجُوز بَيْعه كَالْكَلْبِ الْمَأْذُون فِي اِتِّخَاذه وَلُحُوم الضَّحَايَا , فَفِي ذَلِكَ اِخْتِلَاف بَيْن اِبْن الْقَاسِم وَأَشْهَبَ . قَالَ اِبْن الْقَاسِم : وَلَا يُقْطَع سَارِق الْكَلْب ; وَقَالَ أَشْهَب : ذَلِكَ فِي الْمَنْهِيّ عَنْ اِتِّخَاذه , فَأَمَّا الْمَأْذُون فِي اِتِّخَاذه فَيُقْطَع سَارِقه . قَالَ : وَمَنْ سَرَقَ لَحْم أُضْحِيَّة أَوْ جِلْدهَا قُطِعَ إِذَا كَانَ قِيمَة ذَلِكَ ثَلَاثَة دَرَاهِم , وَقَالَ اِبْن حَبِيب قَالَ أَصْبَغُ : إِنْ سَرَقَ الْأُضْحِيَّة قَبْل الذَّبْح قُطِعَ ; وَأَمَّا إِنْ سَرَقَهَا بَعْد الذَّبْح فَلَا يُقْطَع , وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَجُوز اِتِّخَاذ أَصْله وَبَيْعه , فَصَنَعَ مِنْهُ مَا لَا يَجُوز اِسْتِعْمَالُهُ كَالطُّنْبُورِ وَالْمَلَاهِي مِنْ الْمِزْمَار وَالْعُود وَشِبْهه مِنْ آلَات اللَّهْو فَيُنْظَر ; فَإِنْ كَانَ يَبْقَى مِنْهَا بَعْد فَسَاد صُوَرهَا وَإِذْهَاب الْمَنْفَعَة الْمَقْصُودَة بِهَا رُبُع دِينَار فَأَكْثَر قُطِعَ , وَكَذَلِكَ الْحُكْم فِي أَوَانِي الذَّهَب وَالْفِضَّة الَّتِي لَا يَجُوز اِسْتِعْمَالهَا وَيُؤْمَر بِكَسْرِهَا فَإِنَّمَا يُقَوَّم مَا فِيهَا مِنْ ذَهَب أَوْ فِضَّة دُون صَنْعَة , وَكَذَلِكَ الصَّلِيب مِنْ ذَهَب أَوْ فِضَّة , وَالزَّيْت النَّجِس إِنْ كَانَتْ قِيمَته عَلَى نَجَاسَته نِصَابًا قُطِعَ فِيهِ . الْوَصْف الثَّالِث ; أَلَّا يَكُون لِلسَّارِقِ فِيهِ مِلْكٌ , كَمَنْ سَرَقَ مَا رَهَنَهُ أَوْ مَا اِسْتَأْجَرَهُ , وَلَا شُبْهَةُ مِلْك , عَلَى اِخْتِلَاف بَيْن عُلَمَائِنَا وَغَيْرهمْ فِي مُرَاعَاة شُبْهَة مِلْك كَاَلَّذِي يَسْرِق مِنْ الْمَغْنَم أَوْ مِنْ بَيْت الْمَال ; لِأَنَّ لَهُ فِيهِ نَصِيبًا . وَرُوِيَ عَنْ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ أُتِيَ بِرَجُلٍ سَرَقَ مِغْفَرًا مِنْ الْخُمُس فَلَمْ يَرَ عَلَيْهِ قَطْعًا وَقَالَ : لَهُ فِيهِ نَصِيب , وَعَلَى هَذَا مَذْهَب الْجَمَاعَة فِي بَيْت الْمَال , وَقِيلَ : يَجِب عَلَيْهِ الْقَطْع تَعَلُّقًا بِعُمُومِ لَفْظ آيَة السَّرِقَة , وَأَنْ يَكُون مِمَّا تَصِحّ سَرِقَته كَالْعَبْدِ الصَّغِير وَالْأَعْجَمِيّ الْكَبِير ; لِأَنَّ مَا لَا تَصِحّ سَرِقَته كَالْعَبْدِ الْفَصِيح فَإِنَّهُ . لَا يُقْطَع فِيهِ , وَأَمَّا مَا يُعْتَبَر فِي الْمَوْضِع الْمَسْرُوق مِنْهُ فَوَصْف وَاحِد وَهُوَ الْحِرْز لِمِثْلِ ذَلِكَ الشَّيْء الْمَسْرُوق , وَجُمْلَة الْقَوْل فِيهِ أَنَّ كُلّ شَيْء لَهُ مَكَان مَعْرُوف فَمَكَانه حِرْزه , وَكُلّ شَيْء مَعَهُ حَافِظ فَحَافِظه حِرْزه ; فَالدُّور وَالْمَنَازِل وَالْحَوَانِيت حِرْز لِمَا فِيهَا , غَابَ عَنْهَا أَهْلهَا أَوْ حَضَرُوا , وَكَذَلِكَ بَيْت الْمَال حِرْز لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ , وَالسَّارِق لَا يَسْتَحِقّ فِيهِ شَيْئًا , وَإِنْ كَانَ قَبْل السَّرِقَة مِمَّنْ يَجُوز أَنْ يُعْطِيَهُ الْإِمَام وَإِنَّمَا يَتَعَيَّن حَقّ كُلّ مُسْلِم بِالْعَطِيَّةِ ; أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِمَام قَدْ يَجُوز أَنْ يَصْرِف جَمِيع الْمَال إِلَى وَجْه مِنْ وُجُوه الْمَصَالِح وَلَا يُفَرِّقهُ فِي النَّاس , أَوْ يُفَرِّقهُ فِي بَلَد دُون بَلَد آخَر وَيَمْنَع مِنْهُ قَوْمًا دُون قَوْم ; فَفِي التَّقْدِير أَنَّ هَذَا السَّارِق مِمَّنْ لَا حَقّ لَهُ فِيهِ . وَكَذَلِكَ الْمَغَانِم لَا تَخْلُو : أَنْ تَتَعَيَّن بِالْقِسْمَةِ ; فَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي بَيْت الْمَال ; وَتَتَعَيَّن بِنَفْسِ التَّنَاوُل لِمَنْ شَهِدَ الْوَاقِعَة ; فَيَجِب أَنْ يُرَاعَى قَدْر مَا سَرَقَ , فَإِنْ كَانَ فَوْق حَقّه قُطِعَ وَإِلَّا لَمْ يُقْطَع , وَظُهُور الدَّوَابّ حِرْز لِمَا حَمَلَتْ , وَأَفْنِيَة الْحَوَانِيت حِرْز لِمَا وُضِعَ فِيهَا فِي مَوْقِف الْبَيْع وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ حَانُوت , كَانَ مَعَهُ أَهْله أَمْ لَا ; سُرِقَتْ بِلَيْلٍ أَوْ نَهَار , وَكَذَلِكَ مَوْقِف الشَّاة فِي السُّوق مَرْبُوطَة أَوْ غَيْر مَرْبُوطَة , وَالدَّوَابّ عَلَى مَرَابِطهَا مُحْرَزَة , كَانَ مَعَهَا أَهْلهَا أَمْ لَا ; فَإِنْ كَانَتْ الدَّابَّة بِبَابِ الْمَسْجِد أَوْ فِي السُّوق لَمْ تَكُنْ مُحْرَزَة إِلَّا أَنْ يَكُون مَعَهَا حَافِظ ; وَمَنْ رَبَطَهَا بِفِنَائِهِ أَوْ اِتَّخَذَ مَوْضِعًا مَرْبِطًا لِدَوَابِّهِ فَإِنَّهُ حِرْز لَهَا . وَالسَّفِينَة حِرْز لِمَا فِيهَا وَسَوَاء كَانَتْ سَائِبَة أَوْ مَرْبُوطَة ; فَإِنْ سُرِقَتْ السَّفِينَة نَفْسهَا فَهِيَ كَالدَّابَّةِ إِنْ كَانَتْ سَائِبَة فَلَيْسَتْ بِمُحْرَزَةٍ , وَإِنْ كَانَ صَاحِبهَا رَبَطَهَا فِي مَوْضِع وَأَرْسَاهَا فِيهِ فَرَبْطُهَا حِرْزٌ ; وَهَكَذَا إِنْ كَانَ مَعَهَا أَحَد حَيْثُمَا كَانَتْ فَهِيَ مُحْرَزَة , كَالدَّابَّةِ بِبَابِ الْمَسْجِد مَعَهَا حَافِظ ; إِلَّا أَنْ يَنْزِلُوا بِالسَّفِينَةِ فِي سَفَرهمْ مَنْزِلًا فَيَرْبِطُوهَا فَهُوَ حِرْز لَهَا كَانَ صَاحِبهَا مَعَهَا أَمْ لَا , وَلَا خِلَاف أَنَّ السَّاكِنِينَ فِي دَار وَاحِدَة كَالْفَنَادِقِ الَّتِي يَسْكُن فِيهَا كُلّ رَجُل بَيْته عَلَى حِدَة , يُقْطَع مَنْ سَرَقَ مِنْهُمْ مِنْ بَيْت صَاحِبه إِذَا أَخَذَ - وَقَدْ خَرَجَ بِسَرِقَتِهِ إِلَى قَاعَة الدَّار - شَيْئًا وَإِنْ لَمْ يَدْخُل بِهَا بَيْته وَلَا خَرَجَ بِهَا مِنْ الدَّار , وَلَا خِلَاف فِي أَنَّهُ لَا يُقْطَع مَنْ سَرَقَ مِنْهُمْ مِنْ قَاعَة الدَّار شَيْئًا وَإِنْ أَدْخَلَهُ بَيْته أَوْ أَخْرَجَهُ مِنْ الدَّار ; لِأَنَّ قَاعَتهَا مُبَاحَة لِلْجَمِيعِ لِلْبَيْعِ وَالشِّرَاء , إِلَّا أَنْ تَكُون دَابَّة فِي مَرْبِطهَا أَوْ مَا يُشْبِههَا مِنْ الْمَتَاع , وَلَا يُقْطَع الْأَبَوَانِ بِسَرِقَةِ مَال اِبْنهمَا ; لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك ) . وَيُقْطَع فِي سَرِقَة مَالهمَا ; لِأَنَّهُ لَا شُبْهَة لَهُ فِيهِ , وَقِيلَ : لَا يُقْطَع ; وَهُوَ قَوْل اِبْن وَهْب وَأَشْهَبَ ; لِأَنَّ الِابْن يَنْبَسِط فِي مَال أَبِيهِ فِي الْعَادَة , أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَبْد لَا يُقْطَع فِي مَال سَيِّده فَلِأَنْ لَا يُقْطَع اِبْنه فِي مَاله أَوْلَى . وَاخْتَلَفُوا فِي الْجَدّ ; فَقَالَ مَالِك وَابْن الْقَاسِم : لَا يُقْطَع , وَقَالَ أَشْهَبُ : يُقْطَع , وَقَوْل مَالِك أَصَحُّ أَنَّهُ أَب ; قَالَ مَالِك : أَحَبُّ إِلَيَّ أَلَّا يُقْطَع الْأَجْدَاد مِنْ قِبَل الْأَب وَالْأُمّ وَإِنْ لَمْ تَجِب لَهُمْ نَفَقَة . قَالَ اِبْن الْقَاسِم وَأَشْهَب : وَيُقْطَع مَنْ سِوَاهُمَا مِنْ الْقَرَابَات . قَالَ اِبْن الْقَاسِم : وَلَا يُقْطَع مَنْ سَرَقَ مِنْ جُوع أَصَابَهُ , وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : لَا قَطْع عَلَى أَحَد مِنْ ذَوِي الْمَحَارِم مِثْل الْعَمَّة وَالْخَالَة وَالْأُخْت وَغَيْرهمْ ; وَهُوَ قَوْل الثَّوْرِيّ , وَقَالَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاق : يُقْطَع مَنْ سَرَقَ مِنْ هَؤُلَاءِ , وَقَالَ أَبُو ثَوْر : يَقَع كُلّ سَارِق سَرَقَ مَا تُقْطَع فِيهِ الْيَد ; إِلَّا أَنْ يُجْمِعُوا عَلَى شَيْء فَيُسَلَّم لِلْإِجْمَاعِ , وَاللَّه أَعْلَمُ , وَاخْتَلَفُوا فِي سَارِق الْمُصْحَف ; فَقَالَ الشَّافِعِيّ وَأَبُو يُوسُف وَأَبُو ثَوْر : يُقْطَع إِذَا كَانَتْ قِيمَته مَا تُقْطَع فِيهِ الْيَد ; وَبِهِ قَالَ اِبْن الْقَاسِم , وَقَالَ النُّعْمَان : لَا يُقْطَع مَنْ سَرَقَ مُصْحَفًا . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : يُقْطَع سَارِق الْمُصْحَف , وَاخْتَلَفُوا فِي الطَّرَّار يَطُرّ النَّفَقَة مِنْ الْكُمّ , فَقَالَتْ طَائِفَة : يُقْطَع مَنْ طَرَّ مِنْ دَاخِل الْكُمّ أَوْ مِنْ خَارِج ; وَهُوَ قَوْل مَالِك وَالْأَوْزَاعِيّ وَأَبِي ثَوْر وَيَعْقُوب . قَالَ أَبُو حَنِيفَة وَمُحَمَّد بْن الْحَسَن وَإِسْحَاق : إِنْ كَانَتْ الدَّرَاهِم مَصْرُورَة فِي ظَاهِر كُمّه فَطَرَّهَا فَسَرَقَهَا لَمْ يُقْطَع , وَإِنْ كَانَتْ مَصْرُورَة إِلَى دَاخِل الْكُمّ فَأَدْخَلَ يَده فَسَرَقَهَا قُطِعَ , وَقَالَ الْحَسَن : يُقْطَع . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : يُقْطَع عَلَى أَيّ جِهَة طَرَّ , وَاخْتَلَفُوا فِي قَطْع الْيَد فِي السَّفَر , وَإِقَامَة الْحُدُود فِي أَرْض الْحَرْب ; فَقَالَ مَالِك وَاللَّيْث بْن سَعْد : تُقَام الْحُدُود فِي أَرْض الْحَرْب وَلَا فَرْق بَيْن دَار الْحَرْب وَالْإِسْلَام , وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ : يُقِيم مَنْ غَزَا عَلَى جَيْش - وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَمِير مِصْر مِنْ الْأَمْصَار - الْحُدُود فِي عَسْكَره غَيْر الْقَطْع . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : إِذَا غَزَا الْجُنْد أَرْض الْحَرْب وَعَلَيْهِمْ أَمِير فَإِنَّهُ لَا يُقِيم الْحُدُود فِي عَسْكَره , إِلَّا أَنْ يَكُون إِمَام مِصْر أَوْ الشَّام أَوْ الْعِرَاق أَوْ مَا أَشْبَهَهُ فَيُقِيم الْحُدُود فِي عَسْكَره . اِسْتَدَلَّ الْأَوْزَاعِيّ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ بِحَدِيثِ جُنَادَة بْن أَبِي أُمَيَّة قَالَ : كُنَّا مَعَ بُسْر بْن أَرْطَاة فِي الْبَحْر , فَأُتِيَ بِسَارِقٍ يُقَال لَهُ مِصْدَرٌ قَدْ سَرَقَ بُخْتِيَّة , فَقَالَ : سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( لَا تُقْطَع الْأَيْدِي فِي الْغَزْو ) وَلَوْلَا ذَلِكَ لَقَطَعْته . بُسْر هَذَا يُقَال وُلِدَ فِي زَمَن النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَكَانَتْ لَهُ أَخْبَار سُوء فِي جَانِب عَلِيّ وَأَصْحَابه , وَهُوَ الَّذِي ذَبَحَ طِفْلَيْنِ لِعَبْدِ اللَّه بْن الْعَبَّاس فَفَقَدَتْ أُمّهمَا عَقْلهَا فَهَامَتْ عَلَى وَجْههَا , فَدَعَا عَلَيْهِ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنْ يُطِيل اللَّهُ عُمُرَهُ وَيُذْهِبَ عَقْله , فَكَانَ كَذَلِكَ . قَالَ يَحْيَى بْن مَعِين : كَانَ بُسْر بْن أَرْطَاة رَجُل سُوء . اِسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ بِالْقَطْعِ بِعُمُومِ الْقُرْآن ; وَهُوَ الصَّحِيح إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى , وَأَوْلَى مَا يُحْتَجُّ بِهِ لِمَنْ مَنَعَ الْقَطْع فِي أَرْض الْحَرْب وَالْحُدُود : مَخَافَة أَنْ يَلْحَق ذَلِكَ بِالشِّرْكِ , وَاللَّه أَعْلَمُ . فَإِذَا قُطِعَتْ الْيَد أَوْ الرِّجْل فَإِلَى أَيْنَ تُقْطَع ؟ فَقَالَ الْكَافَّة : تُقْطَع مِنْ الرُّسْغ وَالرِّجْل مِنْ الْمَفْصِل , وَيُحْسَم السَّاق إِذَا قُطِعَ , وَقَالَ بَعْضهمْ : يُقْطَع إِلَى الْمَرْفِق , وَقِيلَ : إِلَى الْمَنْكِب , لِأَنَّ اِسْم الْيَد يَتَنَاوَل ذَلِكَ . وَقَالَ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : تُقْطَع الرِّجْل مِنْ شَطْر الْقَدَم وَيُتْرَك لَهُ الْعَقِب ; وَبِهِ قَالَ أَحْمَد وَأَبُو ثَوْر . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَقَدْ رُوِّينَا عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَمَرَ بِقَطْعِ يَد رَجُل فَقَالَ : ( اِحْسِمُوهَا ) وَفِي إِسْنَاده مَقَال ; وَاسْتَحَبَّ ذَلِكَ جَمَاعَة مِنْهُمْ الشَّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْر وَغَيْرهمَا , وَهَذَا أَحْسَنُ وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى الْبُرْء وَأَبْعَدُ مِنْ التَّلَف . لَا خِلَاف أَنَّ الْيُمْنَى هِيَ الَّتِي تُقْطَع أَوَّلًا , ثُمَّ اِخْتَلَفُوا إِنْ سَرَقَ ثَانِيَة ; فَقَالَ مَالِك وَأَهْل الْمَدِينَة وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْر وَغَيْرهمْ : تُقْطَع رِجْله الْيُسْرَى , ثُمَّ فِي الثَّالِثَة يَده الْيُسْرَى , ثُمَّ فِي الرَّابِعَة رِجْله الْيُمْنَى , ثُمَّ إِنْ سَرَقَ خَامِسَة يُعَزَّر وَيُحْبَس , وَقَالَ أَبُو مُصْعَب مِنْ عُلَمَائِنَا : يُقْتَل بَعْد الرَّابِعَة ; وَاحْتَجَّ بِحَدِيثٍ خَرَّجَهُ النَّسَائِيّ عَنْ الْحَارِث بْن حَاطِب أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِلِصٍّ فَقَالَ : ( اُقْتُلُوهُ ) فَقَالُوا : يَا رَسُول اللَّه , إِنَّمَا سَرَقَ , قَالَ : ( اُقْتُلُوهُ ) , قَالُوا : يَا رَسُول إِنَّمَا سَرَقَ , قَالَ : ( اِقْطَعُوا يَده ) , قَالَ : ثُمَّ سَرَقَ فَقُطِعَتْ رِجْله , ثُمَّ سَرَقَ عَلَى عَهْد أَبِي بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ حَتَّى قُطِعَتْ قَوَائِمه كُلّهَا , ثُمَّ سَرَقَ أَيْضًا الْخَامِسَة , فَقَالَ أَبُو بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمَ بِهَذَا حِين قَالَ : ( اُقْتُلُوهُ ) ثُمَّ دَفَعَهُ إِلَى فِتْيَة مِنْ قُرَيْش لِيَقْتُلُوهُ ; مِنْهُمْ عَبْد اللَّه بْن الزُّبَيْر وَكَانَ يُحِبّ الْإِمَارَة فَقَالَ : أَمِّرُونِي عَلَيْكُمْ فَأَمَّرُوهُ عَلَيْهِمْ , فَكَانَ إِذَا ضَرَبَ ضَرَبُوهُ حَتَّى قَتَلُوهُ , وَبِحَدِيثِ جَابِر أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِسَارِقٍ فِي الْخَامِسَة فَقَالَ : ( اُقْتُلُوهُ ) . قَالَ جَابِر : فَانْطَلَقْنَا بِهِ فَقَتَلْنَاهُ , ثُمَّ اِجْتَرَرْنَاهُ فَرَمَيْنَاهُ فِي بِئْر وَرَمَيْنَا عَلَيْهِ الْحِجَارَة . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَخَرَّجَهُ النَّسَائِيّ وَقَالَ : هَذَا حَدِيث مُنْكَر وَأَحَد رُوَاته لَيْسَ بِالْقَوِيِّ , وَلَا أَعْلَم فِي هَذَا الْبَاب حَدِيثًا صَحِيحًا . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : ثَبَتَ عَنْ أَبِي بَكْر وَعُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّهُمَا قَطَعَا الْيَد بَعْد الْيَد وَالرِّجْل بَعْد الرِّجْل . وَقِيلَ : تُقْطَع فِي الثَّانِيَة رِجْله الْيُسْرَى ثُمَّ لَا قَطْع فِي غَيْرهَا , ثُمَّ إِذَا عَادَ عُزِّرَ وَحُبِسَ ; وَرُوِيَ عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب , وَبِهِ قَالَ الزُّهْرِيّ وَحَمَّاد بْن أَبِي سُلَيْمَان وَأَحْمَد بْن حَنْبَل . قَالَ الزُّهْرِيّ : لَمْ يَبْلُغنَا فِي السُّنَّة إِلَّا قَطْع الْيَد وَالرِّجْل , وَقَالَ عَطَاء : تُقْطَع يَده الْيُمْنَى خَاصَّة وَلَا يَعُود عَلَيْهِ الْقَطْع : ذَكَرَهُ اِبْن الْعَرَبِيّ وَقَالَ : أَمَّا قَوْل عَطَاء فَإِنَّ الصَّحَابَة قَالُوا قَبْله خِلَافه , وَاخْتَلَفُوا فِي الْحَاكِم يَأْمُر بِقَطْعِ يَد السَّارِق الْيُمْنَى فَتُقْطَع يَسَاره , فَقَالَ قَتَادَة : قَدْ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدّ وَلَا يُزَاد عَلَيْهِ ; وَبِهِ قَالَ مَالِك : إِذَا أَخْطَأَ الْقَاطِع فَقَطَعَ شِمَاله , وَبِهِ قَالَ أَصْحَاب الرَّأْي اِسْتِحْسَانًا , وَقَالَ أَبُو ثَوْر : عَلَى الْحَزَّاز الدِّيَة لِأَنَّهُ أَخْطَأَ وَتُقْطَع يَمِينه إِلَّا أَنْ يُمْنَع بِإِجْمَاعٍ . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : لَيْسَ يَخْلُو قَطْع يَسَار السَّارِق مِنْ أَحَد مَعْنَيَيْنِ ; إِمَّا أَنْ يَكُون الْقَاطِع عَمَدَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ الْقَوَد , أَوْ يَكُون أَخْطَأَ فَدِيَته عَلَى عَاقِلَة الْقَاطِع ; وَقَطْع يَمِين السَّارِق يَجِب , وَلَا يَجُوز إِزَالَة مَا أَوْجَبَ اللَّه سُبْحَانه بِتَعَدِّي مُعْتَدٍ أَوْ خَطَأ مُخْطِئ , وَقَالَ الثَّوْرِيّ فِي الَّذِي يُقْتَصّ مِنْهُ فِي يَمِينه فَيُقَدِّم شِمَالَهُ فَتُقْطَع ; قَالَ : تُقْطَع يَمِينه أَيْضًا . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَهَذَا صَحِيح . وَقَالَتْ طَائِفَة : تُقْطَع يَمِينه إِذَا بَرِئَ ; وَذَلِكَ أَنَّهُ هُوَ أَتْلَفَ يَسَاره , وَلَا شَيْء عَلَى الْقَاطِع فِي قَوْل أَصْحَاب الرَّأْي , وَقِيَاس قَوْل الشَّافِعِيّ , وَتُقْطَع يَمِينه إِذَا بَرِئَتْ , وَقَالَ قَتَادَة وَالشَّعْبِيّ : لَا شَيْء عَلَى الْقَاطِع وَحَسْبه مَا قَطَعَ مِنْهُ , وَتُعَلَّق يَد السَّارِق فِي عُنُقه , قَالَ عَبْد اللَّه بْن مُحَيْرِيز سَأَلْت فَضَالَة عَنْ تَعْلِيق يَد السَّارِق فِي عُنُقه أَمِنَ السُّنَّة هُوَ ؟ فَقَالَ : جِيءَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَارِقٍ فَقُطِعَتْ يَده , ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَعُلِّقَتْ فِي عُنُقه ; أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ - وَقَالَ : حَدِيث حَسَن غَرِيب - وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ . إِذَا وَجَبَ حَدّ السَّرِقَة فَقَتَلَ السَّارِق رَجُلًا ; فَقَالَ مَالِك : يُقْتَل وَيَدْخُل الْقَطْع فِيهِ , وَقَالَ الشَّافِعِيّ : يُقْطَع وَيُقْتَل ; لِأَنَّهُمَا حَقَّانِ لِمُسْتَحِقَّيْنِ فَوَجَبَ أَنْ يُوَفَّى لِكُلِّ وَاحِد مِنْهُمَا حَقُّهُ , وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى , وَهُوَ اِخْتِيَار اِبْن الْعَرَبِيّ . قَوْله تَعَالَى : | أَيْدِيَهُمَا | لَمَّا قَالَ | أَيْدِيَهُمَا | وَلَمْ يَقُلْ يَدَيْهِمَا تَكَلَّمَ عُلَمَاء اللِّسَان فِي ذَلِكَ - قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَتَابَعَهُمْ الْفُقَهَاء عَلَى مَا ذَكَرُوهُ حُسْن ظَنّ بِهِمْ - فَقَالَ الْخَلِيل بْن أَحْمَد وَالْفَرَّاء : كُلّ شَيْء يُوجَد مِنْ خَلْق الْإِنْسَان إِذَا أُضِيفَ إِلَى اِثْنَيْنِ جُمِعَ تَقُول : هُشِّمَتْ رُءُوسهمَا وَأُشْبِعَتْ بُطُونهمَا , و | إ

فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ

قَوْله تَعَالَى | فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْد ظُلْمه وَأَصْلَحَ | شَرْط وَجَوَابه | فَإِنَّ اللَّه يَتُوب عَلَيْهِ | | مِنْ بَعْد ظُلْمه | مِنْ بَعْد السَّرِقَة ; فَإِنَّ اللَّه يَتَجَاوَز عَنْهُ , وَالْقَطْع لَا يَسْقُط بِالتَّوْبَةِ , وَقَالَ عَطَاء وَجَمَاعَة : يَسْقُط بِالتَّوْبَةِ قَبْل الْقُدْرَة عَلَى السَّارِق , وَقَالَهُ بَعْض الشَّافِعِيَّة وَعَزَاهُ إِلَى الشَّافِعِيّ قَوْلًا . وَتَعَلَّقُوا بِقَوْلِ اللَّه تَعَالَى : | إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْل أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ | وَذَلِكَ اِسْتِثْنَاء مِنْ الْوُجُوب , فَوَجَبَ حَمْل جَمِيع الْحُدُود عَلَيْهِ , وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : هَذَا بِعَيْنِهِ دَلِيلنَا ; لِأَنَّ اللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ حَدّ الْمُحَارِب قَالَ : | إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْل أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ | وَعَطَفَ عَلَيْهِ حَدّ السَّارِق وَقَالَ فِيهِ : | فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْد ظُلْمه وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّه يَتُوب عَلَيْهِ | فَلَوْ كَانَ مِثْله فِي الْحُكْم مَا غَايَرَ الْحُكْم بَيْنهمَا . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَيَا مَعْشَر الشَّافِعِيَّة سُبْحَان اللَّه ! أَيْنَ الدَّقَائِق الْفِقْهِيَّة , وَالْحِكَم الشَّرْعِيَّة , الَّتِي تَسْتَنْبِطُونَهَا مِنْ غَوَامِض الْمَسَائِل ؟ ! أَلَمْ تَرَوْا إِلَى الْمُحَارِب الْمُسْتَبِدّ بِنَفْسِهِ , الْمُعْتَدِي بِسِلَاحٍ , الَّذِي يَفْتَقِر الْإِمَام مَعَهُ إِلَى الْإِيجَاف بِالْخَيْلِ وَالرِّكَاب كَيْفَ أَسْقَطَ جَزَاءَهُ بِالتَّوْبَةِ اِسْتِنْزَالًا عَنْ تِلْكَ الْحَالَة , كَمَا فَعَلَ بِالْكَافِرِ فِي مَغْفِرَة جَمِيع مَا سَلَفَ اِسْتِئْلَافًا عَلَى الْإِسْلَام ; فَأَمَّا السَّارِق وَالزَّانِي وَهُمَا فِي قَبْضَة الْمُسْلِمِينَ وَتَحْت حُكْم الْإِمَام , فَمَا الَّذِي يُسْقِط عَنْهُمْ حُكْم مَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ ؟ ! أَوْ كَيْفَ يَجُوز أَنْ يُقَال : يُقَاس عَلَى الْمُحَارِب وَقَدْ فَرَّقَتْ بَيْنهمَا الْحِكْمَة وَالْحَالَة ! هَذَا مَا لَا يَلِيق بِمِثْلِكُمْ يَا مَعْشَر الْمُحَقِّقِينَ , وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْحَدّ لَا يَسْقُط بِالتَّوْبَةِ , فَالتَّوْبَة مَقْبُولَة وَالْقَطْع كَفَّارَة لَهُ . | وَأَصْلَحَ | أَيْ كَمَا تَابَ عَنْ السَّرِقَة تَابَ عَنْ كُلّ ذَنْب , وَقِيلَ : | وَأَصْلَحَ | أَيْ تَرَكَ الْمَعْصِيَة بِالْكُلِّيَّةِ , فَأَمَّا مَنْ تَرَكَ السَّرِقَة بِالزِّنَى أَوْ التَّهَوُّد بِالتَّنَصُّرِ فَهَذَا لَيْسَ بِتَوْبَةٍ , وَتَوْبَة اللَّه عَلَى الْعَبْد أَنْ يُوَفِّقَهُ لِلتَّوْبَةِ , وَقِيلَ : أَنْ تُقْبَل مِنْهُ التَّوْبَة . يُقَال : بَدَأَ اللَّه بِالسَّارِقِ فِي هَذِهِ الْآيَة قَبْل السَّرِقَة , وَفِي الزِّنَى بِالزَّانِيَةِ قَبْل الزَّانِي مَا الْحِكْمَة فِي ذَلِكَ ؟ فَالْجَوَاب أَنْ يُقَال : لَمَّا كَانَ حُبّ الْمَال عَلَى الرِّجَال أَغْلَب , وَشَهْوَة الِاسْتِمْتَاع عَلَى النِّسَاء أَغْلَب بَدَأَ بِهِمَا فِي الْمَوْضِع ; هَذَا أَحَد الْوُجُوه فِي الْمَرْأَة عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه فِي سُورَة | النُّور | مِنْ الْبِدَايَة بِهَا عَلَى الزَّانِي إِنْ شَاءَ اللَّه . ثُمَّ جَعَلَ اللَّه حَدّ السَّرِقَة قَطْع الْيَد لِتَنَاوُلِ الْمَال , وَلَمْ يَجْعَل حَدّ الزِّنَى قَطْع الذَّكَر مَعَ مُوَاقَعَة الْفَاحِشَة بِهِ لِثَلَاثَةِ مَعَانٍ : أَحَدهَا : أَنَّ لِلسَّارِقِ مِثْل يَده الَّتِي قُطِعَتْ فَإِنْ اِنْزَجَرَ بِهَا اِعْتَاضَ بِالثَّانِيَةِ , وَلَيْسَ لِلزَّانِي مِثْل ذَكَره إِذَا قُطِعَ فَلَمْ يَعْتَضْ بِغَيْرِهِ لَوْ اِنْزَجَرَ بِقَطْعِهِ . الثَّانِي : أَنَّ الْحَدّ زَجْر لِلْمَحْدُودِ وَغَيْره , وَقَطْع الْيَد فِي السَّرِقَة ظَاهِر : وَقَطْع الذَّكَر فِي الزِّنَى بَاطِن . الثَّالِث : أَنَّ قَطْع الذَّكَر فِيهِ إِبْطَال لِلنَّسْلِ وَلَيْسَ فِي قَطْع الْيَد إِبْطَاله , وَاللَّه أَعْلَمُ .

أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ

الْآيَة . خِطَاب لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْره ; أَيْ لَا قَرَابَة بَيْن اللَّه تَعَالَى وَبَيْن أَحَد تُوجِب الْمُحَابَاة حَتَّى يَقُول الْقَائِل : نَحْنُ أَبْنَاء اللَّه وَأَحِبَّاؤُهُ , وَالْحُدُود تُقَام عَلَى كُلّ مَنْ يُقَارِف مُوجِب الْحَدّ , وَقِيلَ : أَيْ لَهُ أَنْ يَحْكُم بِمَا يُرِيد ; فَلِهَذَا فُرِّقَ بَيْن الْمُحَارِب وَبَيْن السَّارِق غَيْر الْمُحَارِب , وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظَائِر هَذِهِ الْآيَة وَالْكَلَام فِيهَا فَلَا مَعْنَى لِإِعَادَتِهَا وَاَللَّه الْمُوَفِّق . هَذَا مَا يَتَعَلَّق بِآيَةِ السَّرِقَة مِنْ بَعْض أَحْكَام السَّرِقَة , وَاَللَّه أَعْلَمُ .

يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آَمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آَخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُ

فِي خَمْس مَسَائِل </subtitle>الْأُولَى : الْآيَة فِي سَبَب نُزُولهَا ثَلَاثَة أَقْوَال : قِيلَ نَزَلَتْ فِي بَنِي قُرَيْظَة وَالنَّضِير ; قَتَلَ قُرَظِيّ نَضِيرِيًّا وَكَانَ بَنُو النَّضِير إِذَا قَتَلُوا مِنْ بَنِي قُرَيْظَة لَمْ يُقِيدُوهُمْ , وَإِنَّمَا يُعْطُونَهُمْ الدِّيَة عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه , فَتَحَاكَمُوا إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَكَمَ بِالتَّسْوِيَةِ بَيْن الْقُرَظِيّ وَالنَّضِيرِيّ , فَسَاءَهُمْ ذَلِكَ وَلَمْ يَقْبَلُوا . وَقِيلَ ; إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْن أَبِي لُبَابَة حِين أَرْسَلَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَة فَخَانَهُ حِين أَشَارَ إِلَيْهِمْ أَنَّهُ الذَّبْح , وَقِيلَ : إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي زِنَى الْيَهُودِيَّيْنِ وَقِصَّة الرَّجْم ; وَهَذَا أَصَحُّ الْأَقْوَال ; رَوَاهُ الْأَئِمَّة مَالِك وَالْبُخَارِيّ وَمُسْلِم وَالتِّرْمِذِيّ وَأَبُو دَاوُد . قَالَ أَبُو دَاوُد عَنْ جَابِر بْن عَبْد اللَّه أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُمْ ( اِئْتُونِي بِأَعْلَم رَجُلَيْنِ مِنْكُمْ ) فَجَاءُوا بِابْنَيْ صُورِيَّا فَنَشَدَهُمَا اللَّه تَعَالَى ( كَيْفَ تَجِدَانِ أَمْر هَذَيْنِ فِي التَّوْرَاة ) ؟ قَالَا : نَجِد فِي التَّوْرَاة إِذَا شَهِدَ أَرْبَعَة أَنَّهُمْ رَأَوْا ذَكَره فِي فَرْجهَا كَالْمِرْوَدِ فِي الْمُكْحُلَة رُجِمَا . قَالَ : ( فَمَا يَمْنَعكُمْ أَنْ تَرْجُمُوهُمَا ) , قَالَا : ذَهَبَ سُلْطَاننَا فَكَرِهْنَا الْقَتْل . فَدَعَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالشُّهُودِ , فَجَاءُوا فَشَهِدُوا أَنَّهُمْ رَأَوْا ذَكَره فِي فَرْجهَا مِثْل الْمِيل فِي الْمُكْحُلَة , فَأَمَرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجْمِهِمَا , وَفِي غَيْر الصَّحِيحَيْنِ عَنْ الشَّعْبِيّ عَنْ جَابِر بْن عَبْد اللَّه قَالَ : زَنَى رَجُل مِنْ أَهْل فَدَك , فَكَتَبَ أَهْل فَدَك إِلَى نَاس مِنْ الْيَهُود بِالْمَدِينَةِ أَنْ سَلُوا مُحَمَّدًا عَنْ ذَلِكَ , فَإِنْ أَمَرَكُمْ بِالْجَلْدِ فَخُذُوهُ , وَإِنْ أَمَرَكُمْ بِالرَّجْمِ فَلَا تَأْخُذُوهُ ; فَسَأَلُوهُ فَدَعَا بِابْنِ صُورِيَّا وَكَانَ عَالِمهمْ وَكَانَ أَعْوَرَ ; فَقَالَ لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَنْشُدك اللَّه كَيْفَ تَجِدُونَ حَدّ الزَّانِي فِي كِتَابكُمْ ) , فَقَالَ اِبْن صُورِيَّا : فَأَمَا إِذْ نَاشَدْتنِي اللَّه فَإِنَّا نَجِد فِي التَّوْرَاة أَنَّ النَّظَر زَنْيَة , وَالِاعْتِنَاق زَنْيَة , وَالْقُبْلَة زَنْيَة , فَإِنْ شَهِدَ أَرْبَعَة بِأَنَّهُمْ رَأَوْا ذَكَره فِي فَرْجهَا مِثْل الْمِيل فِي الْمُكْحُلَة فَقَدْ وَجَبَ الرَّجْم . فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( هُوَ ذَاكَ ) , وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ الْبَرَاء بْن عَازِب قَالَ : مُرَّ عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَهُودِيٍّ مُحَمَّمًا مَجْلُودًا , فَدَعَاهُمْ فَقَالَ : هَكَذَا تَجِدُونَ حَدّ الزَّانِي فِي كِتَابكُمْ ) قَالُوا : نَعَمْ . فَدَعَا رَجُلًا مِنْ عُلَمَائِهِمْ فَقَالَ : ( أَنْشُدك بِاَللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاة عَلَى مُوسَى أَهَكَذَا تَجِدُونَ حَدّ الزَّانِي فِي كِتَابكُمْ ) قَالَ : لَا - وَلَوْلَا أَنَّك نَشَدْتنِي بِهَذَا لَمْ أُخْبِرك - نَجِدهُ الرَّجْم , وَلَكِنَّهُ كَثُرَ فِي أَشْرَافنَا فَكُنَّا إِذَا أَخَذْنَا الشَّرِيف تَرَكْنَاهُ , وَإِذَا أَخَذْنَا الضَّعِيف أَقَمْنَا عَلَيْهِ الْحَدّ , قُلْنَا : تَعَالَوْا فَلْنَجْتَمِعْ عَلَى شَيْء نُقِيمهُ عَلَى الشَّرِيف وَالْوَضِيع , فَجَعَلْنَا التَّحْمِيم وَالْجَلْد مَكَان الرَّجْم ; فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( اللَّهُمَّ إِنِّي أَوَّل مَنْ أَحْيَا أَمْرك إِذْ أَمَاتُوهُ ) فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ ; فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى : | يَا أَيّهَا الرَّسُول لَا يَحْزُنك الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْر | إِلَى قَوْله : | إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ | يَقُول : اِئْتُوا مُحَمَّدًا , فَإِنْ أَمَرَكُمْ بِالتَّحْمِيمِ وَالْجَلْد فَخُذُوهُ وَإِنْ أَفْتَاكُمْ بِالرَّجْمِ فَاحْذَرُوا , فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : | وَمَنْ لَمْ يَحْكُم بِمَا أَنْزَلَ اللَّه فَأُولَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ | [ الْمَائِدَة 44 ] , | وَمَنْ لَمْ يَحْكُم بِمَا أَنْزَلَ اللَّه فَأُولَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ | [ الْمَائِدَة : 45 ] , | وَمَنْ لَمْ يَحْكُم بِمَا أَنْزَلَ اللَّه فَأُولَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ | [ الْمَائِدَة : 47 ] فِي الْكُفَّار كُلّهَا . هَكَذَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَة ( مُرَّ عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) , وَفِي حَدِيث اِبْن عُمَر : أُتِيَ بِيَهُودِيٍّ وَيَهُودِيَّة قَدْ زَنَيَا فَانْطَلَقَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى جَاءَ يَهُودَ , قَالَ : ( مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاة عَلَى مَنْ زَنَى ) الْحَدِيث , وَفِي رِوَايَة ; أَنَّ الْيَهُود جَاءُوا إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجُلٍ وَامْرَأَة قَدْ زَنَيَا , وَفِي كِتَاب أَبِي دَاوُد مِنْ حَدِيث اِبْن عُمَر قَالَ : أَتَى نَفَر مِنْ الْيَهُود , فَدَعَوْا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْقُفّ فَأَتَاهُمْ فِي بَيْت الْمِدْرَاس فَقَالُوا : يَا أَبَا الْقَاسِم , إِنَّ رَجُلًا مِنَّا زَنَى بِامْرَأَةٍ فَاحْكُمْ بَيْننَا , وَلَا تَعَارُض فِي شَيْء مِنْ هَذَا كُلّه , وَهِيَ كُلّهَا قِصَّة وَاحِدَة , وَقَدْ سَاقَهَا أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة سِيَاقَة حَسَنَة فَقَالَ : زَنَى رَجُل مِنْ الْيَهُود وَامْرَأَة , فَقَالَ بَعْضهمْ لِبَعْضٍ : اِذْهَبُوا بِنَا إِلَى هَذَا النَّبِيّ , فَإِنَّهُ نَبِيّ بُعِثَ بِالتَّخْفِيفَاتِ , فَإِنْ أَفْتَى بِفُتْيَا دُون الرَّجْم قَبِلْنَاهَا وَاحْتَجَجْنَا بِهَا عِنْد اللَّه , وَقُلْنَا فُتْيَا نَبِيّ مِنْ أَنْبِيَائِك ; قَالَ : فَأَتَوْا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ جَالِس فِي الْمَسْجِد فِي أَصْحَابه ; فَقَالُوا : يَا أَبَا الْقَاسِم مَا تَرَى فِي رَجُل وَامْرَأَة مِنْهُمْ زَنَيَا ؟ فَلَمْ يُكَلِّمهُمْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَتَى بَيْت مِدْرَاسِهِمْ , فَقَامَ عَلَى الْبَاب , فَقَالَ : ( أَنْشُدكُمْ بِاَللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاة عَلَى مُوسَى مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاة عَلَى مَنْ زَنَى إِذَا أُحْصِنَ ) , فَقَالُوا : يُحَمَّم وَجْهه وَيُجَبَّه وَيُجْلَد , وَالتَّجْبِيَة أَنْ يُحْمَل الزَّانِيَانِ عَلَى حِمَار وَتُقَابَل أَقْفِيَتهمَا وَيُطَاف بِهِمَا ; قَالَ : وَسَكَتَ شَابّ مِنْهُمْ , فَلَمَّا رَآهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَكَتَ أَلَظَّ بِهِ النِّشْدَة ; فَقَالَ : اللَّهُمَّ إِذْ نَشَدْتنَا فَإِنَّا نَجِد فِي التَّوْرَاة الرَّجْم . وَسَاقَ الْحَدِيث إِلَى أَنْ قَالَ : قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( فَإِنِّي أَحْكُم بِمَا فِي التَّوْرَاة ) فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَا . الثَّانِيَة : وَالْحَاصِل مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَات أَنَّ الْيَهُود حَكَّمَتْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَحَكَمَ عَلَيْهِمْ بِمُقْتَضَى مَا فِي التَّوْرَاة . وَاسْتَنَدَ فِي ذَلِكَ إِلَى قَوْل اِبْنَيْ صُورِيَّا , وَأَنَّهُ سَمِعَ شَهَادَة الْيَهُود وَعَمِلَ بِهَا , وَأَنَّ الْإِسْلَام لَيْسَ شَرْطًا فِي الْإِحْصَان . فَهَذِهِ مَسَائِل أَرْبَع . فَإِذَا تَرَافَعَ أَهْل الذِّمَّة إِلَى الْإِمَام ; فَإِنْ كَانَ مَا رَفَعُوهُ ظُلْمًا كَالْقَتْلِ وَالْعُدْوَان وَالْغَصْب حَكَمَ بَيْنهمْ , وَمَنَعَهُمْ مِنْهُ بِلَا خِلَاف , وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَالْإِمَام مُخَيَّر فِي الْحُكْم بَيْنهمْ وَتَرْكه عِنْد مَالِك وَالشَّافِعِيّ , غَيْر أَنَّ مَالِكًا رَأَى الْإِعْرَاض عَنْهُمْ أَوْلَى , فَإِنْ حَكَمَ حَكَمَ بَيْنهمْ بِحُكْمِ الْإِسْلَام . وَقَالَ الشَّافِعِيّ : لَا يَحْكُم بَيْنهمْ فِي الْحُدُود , وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : يَحْكُم بَيْنهمْ عَلَى كُلّ حَال , وَهُوَ قَوْل الزُّهْرِيّ وَعُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز وَالْحَكَم , وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس وَهُوَ أَحَد قَوْلَيْ الشَّافِعِيّ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى : | وَأَنْ اُحْكُمْ بَيْنهمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّه | [ الْمَائِدَة : 49 ] عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه بَعْد , اِحْتَجَّ مَالِك بِقَوْلِهِ تَعَالَى : | فَإِنْ جَاءُوك فَاحْكُمْ بَيْنهمْ أَوْ أَعْرِض عَنْهُمْ | [ الْمَائِدَة : 42 ] وَهِيَ نَصّ فِي التَّخْيِير . قَالَ اِبْن الْقَاسِم : إِذَا جَاءَ الْأَسَاقِفَة وَالزَّانِيَانِ فَالْحَاكِم مُخَيَّر ; لِأَنَّ إِنْفَاذ الْحُكْم حَقّ لِلْأَسَاقِفَةِ وَالْمُخَالِف يَقُول : لَا يُلْتَفَت إِلَى الْأَسَاقِفَة . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهُوَ الْأَصَحّ ; لِأَنَّ مُسْلِمَيْنِ لَوْ حَكَّمَا بَيْنهمَا رَجُلًا لَنَفَذَ , وَلَمْ يُعْتَبَر رِضَا الْحَاكِم . فَالْكِتَابِيُّونَ بِذَلِكَ أَوْلَى , وَقَالَ عِيسَى عَنْ اِبْن الْقَاسِم : لَمْ يَكُونُوا أَهْل ذِمَّة إِنَّمَا كَانُوا أَهْل حَرْب . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ عِيسَى عَنْهُ إِنَّمَا نَزَعَ بِهِ لِمَا رَوَاهُ الطَّبَرِيّ وَغَيْره : أَنَّ الزَّانِيَيْنِ كَانَا مِنْ أَهْل خَيْبَر أَوْ فَدَك , وَكَانُوا حَرْبًا لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَاسْم الْمَرْأَة الزَّانِيَة بُسْرَة , وَكَانُوا بَعَثُوا إِلَى يَهُود الْمَدِينَة يَقُولُونَ لَهُمْ اِسْأَلُوا مُحَمَّدًا عَنْ هَذَا , فَإِنْ أَفْتَاكُمْ بِغَيْرِ الرَّجْم فَخُذُوهُ مِنْهُ وَاقْبَلُوهُ , وَإِنْ أَفْتَاكُمْ بِهِ فَاحْذَرُوهُ ; الْحَدِيث . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهَذَا لَوْ كَانَ صَحِيحًا لَكَانَ مَجِيئُهُمْ بِالزَّانِيَيْنِ وَسُؤَالهمْ عَهْدًا وَأَمَانًا ; وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَهْد وَذِمَّة وَدَار لَمَا كَانَ 127 لَهُ حُكْم الْكَفّ عَنْهُمْ وَالْعَدْل فِيهِمْ ; فَلَا حُجَّة لِرِوَايَةِ عِيسَى فِي هَذَا ; وَعَنْهُمْ أَخْبَرَ اللَّه تَعَالَى بِقَوْلِهِ : | سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوك | وَلَمَّا حَكَّمُوا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَّذَ الْحُكْم عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ الرُّجُوع ; فَكُلّ مَنْ حَكَّمَ رَجُلًا فِي الدِّين وَهِيَ : الثَّالِثَة : فَأَصْله هَذِهِ الْآيَة . قَالَ مَالِك : إِذَا حَكَّمَ رَجُلًا فَحُكْمه مَاضٍ وَإِنْ رُفِعَ إِلَى قَاضٍ أَمْضَاهُ , إِلَّا أَنْ يَكُون جَوْرًا بَيِّنًا , وَقَالَ سَحْنُون : يُمْضِيه إِنْ رَآهُ صَوَابًا . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَذَلِكَ فِي الْأَمْوَال وَالْحُقُوق الَّتِي تَخْتَصّ بِالطَّالِبِ , فَأَمَّا الْحُدُود فَلَا يَحْكُم فِيهَا إِلَّا السُّلْطَان ; وَالضَّابِط أَنَّ كُلّ حَقّ اُخْتُصَّ بِهِ الْخَصْمَانِ جَازَ التَّحْكِيم فِيهِ وَنُفِّذَ تَحْكِيم الْمُحَكَّم فِيهِ , وَتَحْقِيقه أَنَّ التَّحْكِيم بَيْن النَّاس إِنَّمَا هُوَ حَقّهمْ لَا حَقّ الْحَاكِم بَيْدَ أَنَّ الِاسْتِرْسَال عَلَى التَّحْكِيم خَرْم لِقَاعِدَةِ الْوِلَايَة , وَمُؤَدٍّ إِلَى تَهَارُج النَّاس كَتَهَارُج الْحُمُر , فَلَا بُدّ مِنْ فَاصِل ; فَأَمَرَ الشَّرْع بِنَصْبِ الْوَالِي لِيَحْسِم قَاعِدَة الْهَرْج ; وَأَذِنَ فِي التَّحْكِيم تَخْفِيفًا عَنْهُ وَعَنْهُمْ فِي مَشَقَّة التَّرَافُع لِتَتِمّ الْمَصْلَحَتَانِ وَتَحْصُل الْفَائِدَة , وَقَالَ الشَّافِعِيّ وَغَيْره : التَّحْكِيم جَائِز وَإِنَّمَا هُوَ فَتْوَى . وَقَالَ بَعْض الْعُلَمَاء : إِنَّمَا كَانَ حُكْم النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْيَهُود بِالرَّجْمِ إِقَامَة لِحُكْمِ كِتَابهمْ , لِمَا حَرَّفُوهُ وَأَخْفَوْهُ وَتَرَكُوا الْعَمَل بِهِ ; أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ : ( اللَّهُمَّ إِنِّي أَوَّل مَنْ أَحْيَا أَمْرك إِذْ أَمَاتُوهُ ) وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ حِين قَدِمَ الْمَدِينَة , وَلِذَلِكَ اِسْتَثْبَتَ اِبْنَيْ صُورِيَّا عَنْ حُكْم التَّوْرَاة وَاسْتَحْلَفَهُمَا عَلَى ذَلِكَ , وَأَقْوَال الْكُفَّار فِي الْحُدُود وَفِي شَهَادَتهمْ عَلَيْهَا غَيْر مَقْبُولَة بِالْإِجْمَاعِ , لَكِنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَلَى طَرِيق إِلْزَامهمْ مَا اِلْتَزَمُوهُ وَعَمِلُوا بِهِ , وَقَدْ يَحْتَمِل أَنْ يَكُون حُصُول طَرِيق الْعِلْم بِذَلِكَ الْوَحْي , أَوْ مَا أَلْقَى اللَّه فِي رَوْعه مِنْ تَصْدِيق اِبْنَيْ صُورِيَّا فِيمَا قَالَاهُ مِنْ ذَلِكَ لَا قَوْلهمَا مُجَرَّدًا ; فَبَيَّنَ لَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَأَخْبَرَ بِمَشْرُوعِيَّةِ الرَّجْم , وَمَبْدَؤُهُ ذَلِكَ الْوَقْت , فَيَكُون أَفَادَ بِمَا فَعَلَهُ إِقَامَة حُكْم التَّوْرَاة , وَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ حُكْم شَرِيعَته , وَأَنَّ التَّوْرَاة حُكْم اللَّه سُبْحَانه ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى : | إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاة فِيهَا هُدًى وَنُور يَحْكُم بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا | [ الْمَائِدَة : 44 ] وَهُوَ مِنْ الْأَنْبِيَاء , وَقَدْ قَالَ عَنْهُ أَبُو هُرَيْرَة : ( فَإِنِّي أَحْكُم بِمَا فِي التَّوْرَاة ) وَاللَّه أَعْلَمُ . الرَّابِعَة : وَالْجُمْهُور عَلَى رَدّ شَهَادَة الذِّمِّيّ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلهَا فَلَا تُقْبَل عَلَى مُسْلِم وَلَا عَلَى كَافِر , وَقَدْ قَبِلَ شَهَادَتهمْ جَمَاعَةٌ مِنْ التَّابِعِينَ وَغَيْرهمْ إِذْ لَمْ يُوجَد مُسْلِم عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه آخِر السُّورَة فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ حَكَمَ بِشَهَادَتِهِمْ وَرَجَمَ الزَّانِيَيْنِ : فَالْجَوَاب ; أَنَّهُ إِنَّمَا نَفَّذَ عَلَيْهِمْ مَا عَلِمَ أَنَّهُ حُكْم التَّوْرَاة وَأَلْزَمَهُمْ الْعَمَل بِهِ , عَلَى نَحْو مَا عَمِلَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيل إِلْزَامًا لِلْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ , وَإِظْهَارًا لِتَحْرِيفِهِمْ وَتَغْيِيرهمْ , فَكَانَ مُنَفِّذًا لَا حَاكِمًا , وَهَذَا عَلَى التَّأْوِيل الْأَوَّل , وَعَلَى مَا ذُكِرَ مِنْ الِاحْتِمَال فَيَكُون ذَلِكَ خَاصًّا بِتِلْكَ الْوَاقِعَة , إِذْ لَمْ يُسْمَع فِي الصَّدْر الْأَوَّل مَنْ قَبِلَ شَهَادَتهمْ فِي مِثْل ذَلِكَ , وَاللَّه أَعْلَمُ .</p><p>الْخَامِسَة : قَوْله تَعَالَى : | لَا يَحْزُنك | قَرَأَ نَافِع بِضَمِّ الْيَاء وَكَسْر الزَّاي , وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْيَاء وَضَمّ الزَّاي , وَالْحُزْن وَالْحَزَن خِلَاف السُّرُور , وَحَزِنَ الرَّجُل بِالْكَسْرِ فَهُوَ حَزِن وَحَزِين , وَأَحْزَنَهُ غَيْره وَحَزَنَهُ أَيْضًا مِثْل أَسْلَكَهُ وَسَلَكَهُ , وَمَحْزُون بُنِيَ عَلَيْهِ . قَالَ الْيَزِيدِيّ : حَزَنَهُ لُغَة قُرَيْش , وَأَحْزَنَهُ لُغَة تَمِيم , وَقَدْ قُرِئَ بِهِمَا , وَاحْتَزَنَ وَتَحَزَّنَ بِمَعْنًى , وَالْمَعْنَى فِي الْآيَة تَأْنِيس لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَيْ لَا يَحْزُنك مُسَارَعَتهمْ إِلَى الْكُفْر , فَإِنَّ اللَّه قَدْ وَعَدَك النَّصْر عَلَيْهِمْ .|الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا|وَهُمْ الْمُنَافِقُونَ|بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ|أَيْ لَمْ يُضْمِرُوا فِي قُلُوبهمْ الْإِيمَان كَمَا نَطَقَتْ بِهِ أَلْسِنَتهمْ|قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ|يَعْنِي يَهُود الْمَدِينَة وَيَكُون هَذَا تَمَام الْكَلَام , ثُمَّ اِبْتَدَأَ فَقَالَ | سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ ||هَادُوا سَمَّاعُونَ|أَيْ هُمْ سَمَّاعُونَ , وَمِثْله | طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ | [ النُّور : 58 ] , وَقِيلَ الِابْتِدَاء مِنْ قَوْله : | وَمِنْ الَّذِينَ هَادُوا | وَمِنْ الَّذِينَ هَادُوا قَوْم سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ , أَيْ قَابِلُونَ لِكَذِبِ رُؤَسَائِهِمْ مِنْ تَحْرِيف التَّوْرَاة , وَقِيلَ : أَيْ يَسْمَعُونَ كَلَامك يَا مُحَمَّد لِيَكْذِبُوا عَلَيْك , فَكَانَ فِيهِمْ مَنْ يَحْضُر النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَكْذِب عَلَيْهِ عِنْد عَامَّتهمْ , وَيُقَبِّح صُورَته فِي أَعْيُنهمْ ; وَهُوَ مَعْنَى قَوْله|لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ|وَكَانَ فِي الْمُنَافِقِينَ مَنْ يَفْعَل هَذَا . قَالَ الْفَرَّاء وَيَجُوز سَمَّاعِينَ وَطَوَّافِينَ , كَمَا قَالَ : | مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا | وَكَمَا قَالَ : | إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّات وَنَعِيم | . [ الطُّور : 17 ] ثُمَّ قَالَ : | فَاكِهِينَ | | آخِذِينَ | , وَقَالَ سُفْيَان بْن عُيَيْنَة : إِنَّ اللَّه سُبْحَانه ذَكَرَ الْجَاسُوس فِي الْقُرْآن بِقَوْلِهِ : | سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوك | وَلَمْ يَعْرِض النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ مَعَ عِلْمه بِهِمْ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ تَقَرَّرَتْ الْأَحْكَام وَلَا تَمَكَّنَ الْإِسْلَام , وَسَيَأْتِي حُكْم الْجَاسُوس فِي | الْمُمْتَحِنَة | إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .|يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ|أَيْ يَتَأَوَّلُونَهُ عَلَى غَيْر تَأْوِيله بَعْد أَنْ فَهِمُوهُ عَنْك وَعَرَفُوا مَوَاضِعه الَّتِي أَرَادَهَا اللَّه عَزَّ وَجَلَّ ; وَبَيَّنَ أَحْكَامه ; فَقَالُوا : شَرْعه تَرْك الرَّجْم ; وَجَعْلُهُمْ بَدَلَ رَجْمِ الْمُحْصَنِ جَلْدَ أَرْبَعِينَ تَغْيِيرًا لِحُكْمِ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ . و | يُحَرِّفُونَ | فِي مَوْضِع الصِّفَة لِقَوْلِهِ | سَمَّاعُونَ | وَلَيْسَ بِحَالٍ مِنْ الضَّمِير الَّذِي فِي | يَأْتُوك | لِأَنَّهُمْ إِذَا لَمْ يَأْتُوا لَمْ يَسْمَعُوا , وَالتَّحْرِيف إِنَّمَا هُوَ مِمَّنْ يَشْهَد وَيَسْمَع فَيُحَرِّف , وَالْمُحَرِّفُونَ مِنْ الْيَهُود بَعْضهمْ لَا كُلّهمْ , وَلِذَلِكَ كَانَ حَمْلُ الْمَعْنَى عَلَى | مِنْ الَّذِينَ هَادُوا | فَرِيق سَمَّاعُونَ أَشْبَهَ|مَوَاضِعِهِ|فِي مَوْضِع الْحَال مِنْ الْمُضْمَر فِي | يُحَرِّفُونَ ||يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ|أَيْ إِنْ أَتَاكُمْ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجَلْدِ فَاقْبَلُوا وَإِلَّا فَلَا .|فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ|أَيْ ضَلَالَته فِي الدُّنْيَا وَعُقُوبَته فِي الْآخِرَة|فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ|أَيْ فَلَنْ تَنْفَعهُ|شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ|بَيَان مِنْهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ قَضَى عَلَيْهِمْ بِالْكُفْرِ , وَدَلَّتْ الْآيَة عَلَى أَنَّ الضَّلَال بِمَشِيئَةِ اللَّه تَعَالَى رَدًّا عَلَى مَنْ قَالَ خِلَاف ذَلِكَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ; أَيْ لَمْ يُرِدْ اللَّه أَنْ يُطَهِّر قُلُوبهمْ مِنْ الطَّبْع عَلَيْهَا وَالْخَتْم كَمَا طَهَّرَ قُلُوب الْمُؤْمِنِينَ ثَوَابًا لَهُمْ|قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ|قِيلَ : هُوَ فَضِيحَتهمْ حِين أَنْكَرُوا الرَّجْم , ثُمَّ أُحْضِرَتْ التَّوْرَاة فَوُجِدَ فِيهَا الرَّجْم وَقِيلَ : خِزْيهمْ فِي الدُّنْيَا أَخْذ الْجِزْيَة وَالذُّلّ , وَاللَّه أَعْلَمُ .

سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ

أَيْ هُمْ سَمَّاعُونَ , وَمِثْله | طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ | [ النُّور : 58 ] لِلْكَذِبِ , أَيْ قَابِلُونَ لِكَذِبِ رُؤَسَائِهِمْ مِنْ تَحْرِيف التَّوْرَاة , وَقِيلَ : أَيْ يَسْمَعُونَ كَلَامك يَا مُحَمَّد لِيَكْذِبُوا عَلَيْك , فَكَانَ فِيهِمْ مَنْ يَحْضُر النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَكْذِب عَلَيْهِ عِنْد عَامَّتهمْ , وَيُقَبِّح صُورَته فِي أَعْيُنهمْ ; كَرَّرَهُ تَأْكِيدًا وَتَفْخِيمًا|أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ|عَلَى التَّكْثِير , وَالسُّحْت فِي اللُّغَة أَصْله الْهَلَاك وَالشِّدَّة ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : | فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ | , وَقَالَ الْفَرَزْدَق : <br>وَعَضَّ زَمَانٌ يَا بْن مَرْوَان لَمْ يَدَعْ .......... مِنْ الْمَال إِلَّا مُسْحَتًا أَوْ مُجَلَّفَا <br>كَذَا الرِّوَايَة . أَوْ مُجَلَّفُ بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى الْمَعْنَى ; لِأَنَّ مَعْنَى لَمْ يَدَع لَمْ يَبْقَ . وَيُقَال لِلْحَالِقِ : أَسْحَتَ أَيْ اِسْتَأْصَلَ , وَسُمِّيَ الْمَال الْحَرَام سُحْتًا لِأَنَّهُ يَسْحَت الطَّاعَات أَيْ يُذْهِبهَا وَيَسْتَأْصِلهَا , وَقَالَ الْفَرَّاء : أَصْله كَلَب الْجُوع , يُقَال رَجُل مَسْحُوت الْمَعِدَة أَيْ أَكُول ; فَكَأَنَّ بِالْمُسْتَرْشِي وَآكِل الْحَرَام مِنْ الشَّرَه إِلَى مَا يُعْطَى مِثْلَ الَّذِي بِالْمَسْحُوتِ الْمَعِدَة مِنْ النَّهَم , وَقِيلَ : سُمِّيَ الْحَرَام سُحْتًا لِأَنَّهُ يَسْحَت مُرُوءَة الْإِنْسَان . قُلْت : وَالْقَوْل الْأَوَّل أَوْلَى ; لِأَنَّ بِذَهَابِ الدِّين تَذْهَب الْمُرُوءَة , وَلَا مُرُوءَة لِمَنْ لَا دِين لَهُ . قَالَ اِبْن مَسْعُود وَغَيْره : السُّحْت الرِّشَا , وَقَالَ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : رِشْوَة الْحَاكِم مِنْ السُّحْت , وَعَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( كُلّ لَحْم نَبَتَ بِالسُّحْتِ فَالنَّار أَوْلَى بِهِ ) قَالُوا : يَا رَسُول اللَّه ; وَمَا السُّحْت ؟ قَالَ : ( الرِّشْوَة فِي الْحُكْم ) , وَعَنْ اِبْن مَسْعُود أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ : السُّحْت أَنْ يَقْضِيَ الرَّجُل لِأَخِيهِ حَاجَة فَيُهْدِيَ إِلَيْهِ هَدِيَّة فَيَقْبَلهَا , وَقَالَ اِبْن خُوَيْز مَنْدَاد : مِنْ السُّحْت أَنْ يَأْكُل الرَّجُل بِجَاهِهِ , وَذَلِكَ أَنْ يَكُون لَهُ جَاه عِنْد السُّلْطَان فَيَسْأَلهُ إِنْسَان حَاجَة فَلَا يَقْضِيهَا إِلَّا بِرِشْوَةٍ يَأْخُذهَا , وَلَا خِلَاف بَيْن السَّلَف أَنَّ أَخْذَ الرِّشْوَة عَلَى إِبْطَال حَقّ أَوْ مَا لَا يَجُوز سُحْت حَرَام , وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : إِذَا اِرْتَشَى الْحَاكِم اِنْعَزَلَ فِي الْوَقْت وَإِنْ لَمْ يُعْزَل , وَبَطَلَ كُلّ حُكْم حَكَمَ بِهِ بَعْد ذَلِكَ . قُلْت : وَهَذَا لَا يَجُوز أَنْ يُخْتَلَف فِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّه ; لِأَنَّ أَخْذ الرِّشْوَة مِنْهُ فِسْق , وَالْفَاسِق لَا يَجُوز حُكْمه . وَاللَّه أَعْلَمُ , وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام : ( لَعَنَ اللَّه الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ ) , وَعَنْ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : السُّحْت الرِّشْوَة وَحُلْوَان الْكَاهِن وَالِاسْتِجْعَال فِي الْقَضِيَّة , وَرُوِيَ عَنْ وَهْب بْن مُنَبِّه أَنَّهُ قِيلَ لَهُ : الرِّشْوَة حَرَام فِي كُلّ شَيْء ؟ فَقَالَ : لَا ; إِنَّمَا يُكْرَه مِنْ الرِّشْوَة أَنْ تَرْشِيَ لِتُعْطَى مَا لَيْسَ لَك , أَوْ تَدْفَع حَقًّا قَدْ لَزِمَك ; فَأَمَّا أَنْ تَرْشِي لِتَدْفَع عَنْ دِينك وَدَمك وَمَالك فَلَيْسَ بِحَرَامٍ . قَالَ أَبُو اللَّيْث السَّمَرْقَنْدِيّ الْفَقِيه : وَبِهَذَا نَأْخُذ ; لَا بَأْس بِأَنْ يَدْفَع الرَّجُل عَنْ نَفْسه وَمَاله بِالرِّشْوَةِ . وَهَذَا كَمَا رُوِيَ عَنْ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود أَنَّهُ كَانَ بِالْحَبَشَةِ فَرَشَا دِينَارَيْنِ وَقَالَ : إِنَّمَا الْإِثْم عَلَى الْقَابِض دُون الدَّافِع ; قَالَ الْمَهْدَوِيّ : وَمَنْ جَعَلَ كَسْب الْحَجَّام وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ سُحْتًا فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ يَسْحَت مُرُوءَة آخِذه . قُلْت : الصَّحِيح فِي كَسْب الْحَجَّام أَنَّهُ طَيِّب , وَمَنْ أَخَذَ طَيِّبًا لَا تَسْقُط مُرُوءَته وَلَا تَنْحَطّ مَرْتَبَته , وَقَدْ رَوَى مَالِك عَنْ حُمَيْد الطَّوِيل عَنْ أَنَس أَنَّهُ قَالَ : اِحْتَجَمَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , حَجَمَهُ أَبُو طَيِّبَة فَأَمَرَ لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَاعٍ مِنْ تَمْر وَأَمَرَ أَهْله أَنْ يُخَفِّفُوا عَنْهُ مِنْ خَرَاجه ; قَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ : هَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ كَسْب الْحَجَّام طَيِّب ; لِأَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَجْعَل ثَمَنًا وَلَا جُعْلًا وَلَا عِوَضًا لِشَيْءٍ مِنْ الْبَاطِل , وَحَدِيث أَنَس هَذَا نَاسِخ لِمَا حَرَّمَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ثَمَن الدَّم , وَنَاسِخ لِمَا كَرِهَهُ مِنْ إِجَارَة الْحَجَّام . وَرَوَى الْبُخَارِيّ وَأَبُو دَاوُد عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : اِحْتَجَمَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَعْطَى الْحَجَّام أَجْره , وَلَوْ كَانَ سُحْتًا لَمْ يُعْطِهِ , وَالسُّحْت وَالسُّحُت لُغَتَانِ قُرِئَ بِهِمَا ; قَرَأَ أَبُو عَمْرو وَابْن كَثِير وَالْكِسَائِيّ بِضَمَّتَيْنِ , وَالْبَاقُونَ بِضَمِّ السِّين وَحْدهَا , وَرَوَى الْعَبَّاس بْن الْفَضْل عَنْ خَارِجَة بْن مُصْعَب عَنْ نَافِع | أَكَّالُونَ لِلسَّحْتِ | بِفَتْحِ السِّين وَإِسْكَان الْحَاء وَهَذَا مَصْدَر مِنْ سَحَتَهُ ; يُقَال : أَسْحَتَ وَسَحَتَ بِمَعْنًى وَاحِد . وَقَالَ الزَّجَّاج : سَحَتَهُ ذَهَبَ بِهِ قَلِيلًا قَلِيلًا .|فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا|هَذَا تَخْيِير مِنْ اللَّه تَعَالَى ; ذَكَرَهُ الْقُشَيْرِيّ ; وَتَقَدَّمَ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ كَانُوا أَهْل مُوَادَعَة لَا أَهْل ذِمَّة ; فَإِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَة وَادَعَ الْيَهُود , وَلَا يَجِب عَلَيْنَا الْحُكْم بَيْن الْكُفَّار إِذَا لَمْ يَكُونُوا أَهْل ذِمَّة , بَلْ يَجُوز الْحُكْم إِنْ أَرَدْنَا . فَأَمَّا أَهْل الذِّمَّة فَهَلْ يَجِب عَلَيْنَا الْحُكْم بَيْنهمْ إِذَا تَرَافَعُوا إِلَيْنَا ؟ قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ ; وَإِنْ اِرْتَبَطَتْ الْخُصُومَة بِمُسْلِمٍ يَجِب الْحُكْم . قَالَ الْمَهْدَوِيّ : أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ عَلَى الْحَاكِم أَنْ يَحْكُم بَيْن الْمُسْلِم وَالذِّمِّيّ , وَاخْتَلَفُوا فِي الذِّمِّيِّينَ ; فَذَهَبَ بَعْضهمْ إِلَى أَنَّ الْآيَة مُحْكَمَة وَأَنَّ الْحَاكِم مُخَيَّر ; رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ النَّخَعِيّ وَالشَّعْبِيّ وَغَيْرهمَا , وَهُوَ مَذْهَب مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَغَيْرهمَا , سِوَى مَا رُوِيَ عَنْ مَالِك فِي تَرْك إِقَامَة الْحَدّ عَلَى أَهْل الْكِتَاب فِي الزِّنَى ; فَإِنَّهُ إِنْ زَنَى الْمُسْلِم بِالْكِتَابِيَّةِ حُدَّ وَلَا حَدّ عَلَيْهَا , فَإِنْ كَانَ الزَّانِيَانِ ذِمِّيَّيْنِ فَلَا حَدّ عَلَيْهِمَا ; وَهُوَ مَذْهَب أَبِي حَنِيفَة وَمُحَمَّد بْن الْحَسَن وَغَيْرهمَا , وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَة أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ : يُجْلَدَانِ وَلَا يُرْجَمَانِ , وَقَالَ الشَّافِعِيّ وَأَبُو يُوسُف وَأَبُو ثَوْر وَغَيْرهمْ : عَلَيْهِمَا الْحَدّ إِنْ أَتَيَا رَاضِيَيْنِ بِحُكْمِنَا . قَالَ اِبْن خُوَيْز مَنْدَاد : وَلَا يُرْسِل الْإِمَام إِلَيْهِمْ إِذَا اِسْتَعْدَى بَعْضهمْ عَلَى بَعْض , وَلَا يُحْضِر الْخَصْم مَجْلِسَهُ إِلَّا أَنْ يَكُون فِيمَا يَتَعَلَّق بِالْمَظَالِمِ الَّتِي يَنْتَشِر مِنْهَا الْفَسَاد كَالْقَتْلِ وَنَهْب الْمَنَازِل وَأَشْبَاه ذَلِكَ , فَأَمَّا الدُّيُون وَالطَّلَاق وَسَائِر الْمُعَامَلَات فَلَا يَحْكُم بَيْنهمْ إِلَّا بَعْد التَّرَاضِي , وَالِاخْتِيَارُ لَهُ أَلَّا يَحْكُم وَيَرُدّهُمْ إِلَى حُكَّامهمْ . فَإِنْ حَكَمَ بَيْنهمْ حَكَمَ بِحُكْمِ الْإِسْلَام , وَأَمَّا إِجْبَارهمْ عَلَى حُكْم الْمُسْلِم فِيمَا يَنْتَشِر مِنْهُ الْفَسَاد فَلَيْسَ عَلَى الْفَسَاد عَاهَدْنَاهُمْ , وَوَاجِب قَطْع الْفَسَاد عَنْهُمْ , مِنْهُمْ وَمِنْ غَيْرهمْ ; لِأَنَّ فِي ذَلِكَ حِفْظ أَمْوَالهمْ وَدِمَائِهِمْ ; وَلَعَلَّ فِي دِينهمْ اِسْتِبَاحَة ذَلِكَ فَيَنْتَشِر مِنْهُ الْفَسَاد بَيْننَا ; وَلِذَلِكَ مَنَعْنَاهُمْ أَنْ يَبِيعُوا الْخَمْر جِهَارًا وَأَنْ يُظْهِرُوا الزِّنَى وَغَيْر ذَلِكَ مِنْ الْقَاذُورَات ; لِئَلَّا يَفْسُد بِهِمْ سُفَهَاء الْمُسْلِمِينَ , وَأَمَّا الْحُكْم فِيمَا يَخْتَصّ بِهِ دِينهمْ مِنْ الطَّلَاق وَالزِّنَى وَغَيْره فَلَيْسَ يَلْزَمهُمْ أَنْ يَتَدَيَّنُوا بِدِينِنَا , وَفِي الْحُكْم بَيْنهمْ بِذَلِكَ إِضْرَار بِحُكَّامِهِمْ وَتَغْيِير مِلَّتهمْ , وَلَيْسَ كَذَلِكَ الدُّيُون وَالْمُعَامَلَات ; لِأَنَّ فِيهَا وَجْهًا مِنْ الْمَظَالِم وَقَطْع الْفَسَاد . وَاللَّه أَعْلَمُ , وَفِي الْآيَة قَوْل ثَانٍ : وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز وَالنَّخَعِيّ أَيْضًا أَنَّ التَّخْيِير الْمَذْكُور فِي الْآيَة مَنْسُوخ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : | وَأَنْ اُحْكُمْ بَيْنهمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّه | وَأَنَّ عَلَى الْحَاكِم أَنْ يَحْكُم بَيْنهمْ ; وَهُوَ مَذْهَب عَطَاء الْخُرَاسَانِيّ وَأَبِي حَنِيفَة وَأَصْحَابه وَغَيْرهمْ , وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَة أَنَّهُ قَالَ : | فَإِنْ جَاءُوك فَاحْكُمْ بَيْنهمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ | نَسَخَتْهَا آيَة أُخْرَى | وَأَنْ اُحْكُمْ بَيْنهمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّه | [ الْمَائِدَة : 49 ] , وَقَالَ مُجَاهِد : لَمْ يُنْسَخ مِنْ | الْمَائِدَة | إِلَّا آيَتَانِ ; قَوْله : فَاحْكُمْ بَيْنهمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ | نَسَخَتْهَا | وَأَنْ اُحْكُمْ بَيْنهمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّه | ; وَقَوْله : | لَا تُحِلُّوا شَعَائِر اللَّه | [ الْمَائِدَة : 2 ] نَسَخَتْهَا | فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ | [ التَّوْبَة : 5 ] , وَقَالَ الزُّهْرِيّ : مَضَتْ السُّنَّة أَنْ يُرَدّ أَهْل الْكِتَاب فِي حُقُوقهمْ وَمَوَارِيثهمْ إِلَى أَهْل دِينهمْ , إِلَّا أَنْ يَأْتُوا رَاغِبِينَ فِي حُكْم اللَّه فَيُحْكَم بَيْنهمْ بِكِتَابِ اللَّه . قَالَ السَّمَرْقَنْدِيّ : وَهَذَا الْقَوْل يُوَافِق قَوْل أَبِي حَنِيفَة إِنَّهُ لَا يُحْكَم بَيْنهمْ مَا لَمْ يَتَرَاضَوْا بِحُكْمِنَا , وَقَالَ النَّحَّاس فِي | النَّاسِخ وَالْمَنْسُوخ | لَهُ قَوْله تَعَالَى : | فَإِنْ جَاءُوك فَاحْكُمْ بَيْنهمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ | مَنْسُوخ ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا نَزَلَ أَوَّل مَا قَدِمَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَة وَالْيَهُود فِيهَا يَوْمئِذٍ كَثِير , وَكَانَ الْأَدْعَى لَهُمْ وَالْأَصْلَح أَنْ يُرَدُّوا إِلَى أَحْكَامهمْ , فَلَمَّا قَوِيَ الْإِسْلَام أَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ | وَأَنْ اُحْكُمْ بَيْنهمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّه | . وَقَالَهُ اِبْن عَبَّاس وَمُجَاهِد وَعِكْرِمَة وَالزُّهْرِيّ وَعُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز وَالسُّدِّيّ ; وَهُوَ الصَّحِيح مِنْ قَوْل الشَّافِعِيّ ; قَالَ فِي كِتَاب الْجِزْيَة : وَلَا خِيَار لَهُ إِذَا تَحَاكَمُوا إِلَيْهِ ; لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : | حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَة عَنْ يَد وَهُمْ صَاغِرُونَ | [ التَّوْبَة : 29 ] . قَالَ النَّحَّاس : وَهَذَا مِنْ أَصَحّ الِاحْتِجَاجَات ; لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مَعْنَى قَوْله : | وَهُمْ صَاغِرُونَ | أَنْ تَجْرِيَ عَلَيْهِمْ أَحْكَام الْمُسْلِمِينَ وَجَبَ أَلَّا يُرَدُّوا إِلَى أَحْكَامهمْ ; فَإِذَا وَجَبَ هَذَا فَالْآيَة مَنْسُوخَة , وَهُوَ أَيْضًا قَوْل الْكُوفِيِّينَ أَبِي حَنِيفَة وَزُفَر وَأَبِي يُوسُف وَمُحَمَّد , لَا اِخْتِلَاف بَيْنهمْ إِذَا تَحَاكَمَ أَهْل الْكِتَاب إِلَى الْإِمَام أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُعْرِض عَنْهُمْ , غَيْر أَنَّ أَبَا حَنِيفَة قَالَ : إِذَا جَاءَتْ الْمَرْأَة وَالزَّوْج فَعَلَيْهِ أَنْ يَحْكُم بَيْنهمَا بِالْعَدْلِ , وَإِنْ جَاءَتْ الْمَرْأَة وَحْدهَا وَلَمْ يَرْضَ الزَّوْج لَمْ يَحْكُم , وَقَالَ الْبَاقُونَ : يَحْكُم ; فَثَبَتَ أَنَّ قَوْل أَكْثَرِ الْعُلَمَاء إِنَّ الْآيَة مَنْسُوخَة مَعَ مَا ثَبَتَ فِيهَا مِنْ تَوْقِيف اِبْن عَبَّاس ; وَلَوْ لَمْ يَأْتِ الْحَدِيث عَنْ اِبْن عَبَّاس لَكَانَ النَّظَر يُوجِب أَنَّهَا مَنْسُوخَة ; لِأَنَّهُمْ قَدْ أَجْمَعُوا أَنَّ أَهْل الْكِتَاب إِذَا تَحَاكَمُوا إِلَى الْإِمَام فَلَهُ أَنْ يَنْظُر بَيْنهمْ , وَأَنَّهُ إِذَا نَظَرَ بَيْنهمْ مُصِيب عِنْد الْجَمَاعَة , وَأَلَّا يُعْرِض عَنْهُمْ فَيَكُون عِنْد بَعْض الْعُلَمَاء تَارِكًا فَرْضًا , فَاعِلًا مَا لَا يَحِلّ وَلَا يَسَعهُ . قَالَ النَّحَّاس : وَلِمَنْ قَالَ بِأَنَّهَا مَنْسُوخَة مِنْ الْكُوفِيِّينَ قَوْل آخَر ; مِنْهُمْ مَنْ يَقُول : عَلَى الْإِمَام إِذَا عَلِمَ مِنْ أَهْل الْكِتَاب حَدًّا مِنْ حُدُود اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُقِيمَهُ وَإِنْ لَمْ يَتَحَاكَمُوا إِلَيْهِ وَيَحْتَجّ بِأَنَّ قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : | وَأَنْ اُحْكُمْ بَيْنهمْ | يَحْتَمِل أَمْرَيْنِ : أَحَدهمَا : وَأَنْ اُحْكُمْ بَيْنهمْ إِذَا تَحَاكَمُوا إِلَيْك . وَالْآخَر : وَأَنْ اُحْكُمْ بَيْنهمْ وَإِنْ لَمْ يَتَحَاكَمُوا إِلَيْك - إِذَا عَلِمْت ذَلِكَ مِنْهُمْ - قَالُوا : فَوَجَدْنَا فِي كِتَاب اللَّه تَعَالَى وَسُنَّة رَسُوله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يُوجِب إِقَامَة الْحَقّ عَلَيْهِمْ وَإِنْ لَمْ يَتَحَاكَمُوا إِلَيْنَا ; فَأَمَّا مَا فِي كِتَاب اللَّه فَقَوْله تَعَالَى : | يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلَّهِ | [ النِّسَاء : 135 ] , وَأَمَّا مَا فِي السُّنَّة فَحَدِيث الْبَرَاء بْن عَازِب قَالَ : مُرَّ عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَهُودِيٍّ قَدْ جُلِدَ وَحُمِّمَ فَقَالَ : ( أَهَكَذَا حَدّ الزَّانِي عِنْدكُمْ ) فَقَالُوا : نَعَمْ . فَدَعَا رَجُلًا مِنْ عُلَمَائِهِمْ فَقَالَ : ( سَأَلْتُك بِاَللَّهِ أَهَكَذَا حَدّ الزَّانِي فِيكُمْ ) فَقَالَ : لَا . الْحَدِيث , وَقَدْ تَقَدَّمَ . قَالَ النَّحَّاس : فَاحْتَجُّوا بِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَكَمَ بَيْنهمْ وَلَمْ يَتَحَاكَمُوا إِلَيْهِ فِي هَذَا الْحَدِيث . فَإِنْ قَالَ قَائِل : فَفِي حَدِيث مَالِك عَنْ نَافِع عَنْ اِبْن عُمَر أَنَّ الْيَهُود أَتَوْا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; قِيلَ لَهُ : لَيْسَ فِي حَدِيث مَالِك أَيْضًا أَنَّ اللَّذَيْنِ زَنَيَا رَضِيَا بِالْحُكْمِ وَقَدْ رَجَمَهُمَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قَالَ أَبُو عُمَر بْن عَبْد الْبَرّ : لَوْ تَدَبَّرَ مَنْ اِحْتَجَّ بِحَدِيثِ الْبَرَاء لَمْ يَحْتَجّ ; لِأَنَّ فِي دَرْج الْحَدِيث تَفْسِير قَوْله عَزَّ وَجَلَّ : | إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا | [ الْمَائِدَة : 41 ] يَقُول : إِنْ أَفْتَاكُمْ بِالْجَلْدِ وَالتَّحْمِيم فَخُذُوهُ , وَإِنْ أَفْتَاكُمْ بِالرَّجْمِ فَاحْذَرُوا , دَلِيل عَلَى أَنَّهُمْ حَكَّمُوهُ , وَذَلِكَ بَيِّن فِي حَدِيث اِبْن عُمَر وَغَيْره . فَإِنْ قَالَ قَائِل : لَيْسَ فِي حَدِيث اِبْن عُمَر أَنَّ الزَّانِيَيْنِ حَكَّمَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا رَضِيَا بِحُكْمِهِ . قِيلَ لَهُ : حَدّ الزَّانِي حَقّ مِنْ حُقُوق اللَّه تَعَالَى عَلَى الْحَاكِم إِقَامَته . وَمَعْلُوم أَنَّ الْيَهُود كَانَ لَهُمْ حَاكِم يَحْكُم بَيْنهمْ , وَيُقِيم حُدُودهمْ عَلَيْهِمْ , وَهُوَ الَّذِي حَكَّمَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَاللَّه أَعْلَمُ .|وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ|رَوَى النَّسَائِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ كَانَ قُرَيْظَة وَالنَّضِير , وَكَانَ النَّضِير أَشْرَفَ مِنْ قُرَيْظَة , وَكَانَ إِذَا قَتَلَ رَجُل مِنْ قُرَيْظَة رَجُلًا مِنْ النَّضِير قُتِلَ بِهِ , وَإِذَا قَتَلَ رَجُل مِنْ النَّضِير رَجُلًا مِنْ قُرَيْظَة وَدَى مِائَة وَسْق مِنْ تَمْر ; فَلَمَّا بُعِثَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتَلَ رَجُل مِنْ النَّضِير رَجُلًا مِنْ قُرَيْظَة فَقَالُوا : اِدْفَعُوهُ إِلَيْنَا لِنَقْتُلهُ ; فَقَالُوا : بَيْننَا وَبَيْنكُمْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ : | وَإِنْ حَكَمْت فَاحْكُمْ بَيْنهمْ بِالْقِسْطِ | النَّفْس بِالنَّفْسِ , وَنَزَلَتْ : | أَفَحُكْم الْجَاهِلِيَّة يَبْغُونَ | [ الْمَائِدَة : 50 ] .

وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ

قَالَ الْحَسَن : هُوَ الرَّجْم , وَقَالَ قَتَادَة : هُوَ الْقَوَد , وَيُقَال : هَلْ يَدُلّ قَوْله تَعَالَى : فِيهَا حُكْم اللَّه | عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُنْسَخ ؟ الْجَوَاب : وَقَالَ أَبُو عَلِيّ : نَعَمْ ; لِأَنَّهُ لَوْ نُسِخَ لَمْ يُطْلَق عَلَيْهِ بَعْد النَّسْخ أَنَّهُ حُكْم اللَّه , كَمَا لَا يُطْلَق أَنَّ حُكْم اللَّه تَحْلِيل الْخَمْر أَوْ تَحْرِيم السَّبْت|ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ|أَيْ بِحُكْمِك أَنَّهُ مِنْ عِنْد اللَّه , وَقَالَ أَبُو عَلِيّ : إِنَّ مَنْ طَلَبَ غَيْر حُكْم اللَّه مِنْ حَيْثُ لَمْ يَرْضَ بِهِ فَهُوَ كَافِر ; وَهَذِهِ حَالَة الْيَهُود .

إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَا

أَيْ بَيَان وَضِيَاء وَتَعْرِيف أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقّ . | هُدًى | فِي مَوْضِع رَفْع بِالِابْتِدَاءِ | وَنُور | عَطْف عَلَيْهِ|يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ|قِيلَ : الْمُرَاد بِالنَّبِيِّينَ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَعَبَّرَ عَنْهُ بِلَفْظِ الْجَمْع , وَقِيلَ : كُلّ مَنْ بُعِثَ مِنْ بَعْد مُوسَى بِإِقَامَةِ التَّوْرَاة , وَأَنَّ الْيَهُود قَالَتْ : إِنَّ الْأَنْبِيَاء كَانُوا يَهُودًا . وَقَالَتْ النَّصَارَى : كَانُوا نَصَارَى ; فَبَيَّنَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ كَذِبهمْ .|الَّذِينَ أَسْلَمُوا|صَدَّقُوا بِالتَّوْرَاةِ مِنْ لَدُنْ مُوسَى إِلَى زَمَان عِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَام وَبَيْنهمَا أَلْف نَبِيّ ; وَيُقَال : أَرْبَعَة آلَاف , وَيُقَال : أَكْثَر مِنْ ذَلِكَ , كَانُوا يَحْكُمُونَ بِمَا فِي التَّوْرَاة , وَقِيلَ : مَعْنَى | أَسْلَمُوا | خَضَعُوا وَانْقَادُوا لِأَمْرِ اللَّه فِيمَا بُعِثُوا بِهِ , وَقِيلَ : أَيْ يَحْكُم بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى دِين إِبْرَاهِيم صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمَعْنَى وَاحِد . و | الَّذِينَ أَسْلَمُوا | هَهُنَا نَعْت فِيهِ مَعْنَى الْمَدْح مِثْل | بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَن الرَّحِيم | .|لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ|عَلَى الَّذِينَ هَادُوا فَاللَّام بِمَعْنَى | عَلَى | , وَقِيلَ : الْمَعْنَى يَحْكُم بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَعَلَيْهِمْ , فَحَذَفَ | عَلَيْهِمْ | . | هَادُوا | أَيْ تَابُوا مِنْ الْكُفْر , وَقِيلَ : فِيهِ تَقْدِيم وَتَأْخِير ; أَيْ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاة فِيهَا هُدًى وَنُور لِلَّذِينَ هَادُوا يَحْكُم بِهَا النَّبِيُّونَ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَار ; أَيْ وَيَحْكُم بِهَا الرَّبَّانِيُّونَ وَهُمْ الَّذِينَ يَسُوسُونَ النَّاس بِالْعِلْمِ وَيُرَبُّونَهُمْ بِصِغَارِهِ قَبْل كِبَاره ; عَنْ اِبْن عَبَّاس وَغَيْره , وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي آل عِمْرَان , وَقَالَ أَبُو رَزِين : الرَّبَّانِيُّونَ الْعُلَمَاء الْحُكَمَاء وَالْأَحْبَار . قَالَ اِبْن عَبَّاس : هُمْ الْفُقَهَاء : وَالْحِبْر وَالْحَبْر الرَّجُل الْعَالِم وَهُوَ مَأْخُوذ مِنْ التَّحْبِير وَهُوَ التَّحْسِين , فَهُمْ يُحَبِّرُونَ الْعِلْم أَيْ يُبَيِّنُونَهُ وَيُزَيِّنُونَهُ , وَهُوَ مُحَبَّر فِي صُدُورهمْ . قَالَ مُجَاهِد : الرَّبَّانِيُّونَ فَوْق الْعُلَمَاء , وَالْأَلِف وَاللَّام لِلْمُبَالَغَةِ . قَالَ الْجَوْهَرِيّ : وَالْحِبْر وَالْحَبْر وَاحِد أَحْبَار الْيَهُود , وَبِالْكَسْرِ أَفْصَحُ : لِأَنَّهُ يُجْمَع عَلَى أَفْعَال دُون الْفُعُول ; قَالَ الْفَرَّاء : هُوَ حِبْر بِالْكَسْرِ يُقَال ذَلِكَ لِلْعَالِمِ , وَقَالَ الثَّوْرِيّ : سَأَلْت الْفَرَّاء لِمَ سُمِّيَ الْحِبْر حِبْرًا ؟ فَقَالَ : يُقَال لِلْعَالِمِ حِبْر وَحَبْر فَالْمَعْنَى مِدَاد حِبْر ثُمَّ حُذِفَ كَمَا قَالَ : | وَاسْأَلْ الْقَرْيَة | [ يُوسُف : 82 ] أَيْ أَهْل الْقَرْيَة . قَالَ : فَسَأَلْت الْأَصْمَعِيّ يُقَال لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ ; إِنَّمَا سُمِّيَ حِبْرًا لِتَأْثِيرِهِ , يُقَال : عَلَى أَسْنَانه حِبْر أَيْ صُفْرَة أَوْ سَوَاد , وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس : سُمِّيَ الْحِبْر الَّذِي يُكْتَب بِهِ حِبْرًا لِأَنَّهُ يُحْبَر بِهِ أَيْ يُحَقَّق بِهِ , وَقَالَ أَبُو عُبَيْد : وَاَلَّذِي عِنْدِي فِي وَاحِد الْأَحْبَار الْحَبْر بِالْفَتْحِ وَمَعْنَاهُ الْعَالِم بِتَحْبِيرِ الْكَلَام وَالْعِلْم وَتَحْسِينه . قَالَ : وَهَكَذَا يَرْوِيه الْمُحَدِّثُونَ كُلّهمْ بِالْفَتْحِ , وَالْحِبْر الَّذِي يُكْتَب بِهِ وَمَوْضِعه الْمِحْبَرَة بِالْكَسْرِ . وَالْحِبْر أَيْضًا الْأَثَر وَالْجَمْع حُبُور|بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ|أَيْ اُسْتُوْدِعُوا مِنْ عِلْمه , وَالْبَاء مُتَعَلِّقَة بـ | الرَّبَّانِيِّينَ وَالْأَحْبَار | كَأَنَّهُ قَالَ : وَالْعُلَمَاء بِمَا اُسْتُحْفِظُوا . أَوْ تَكُون مُتَعَلِّقَة بـ | يَحْكُم | أَيْ يَحْكُمُونَ بِمَا اُسْتُحْفِظُوا .|وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ|أَيْ عَلَى الْكِتَاب بِأَنَّهُ مِنْ عِنْد اللَّه . اِبْن عَبَّاس : شُهَدَاء عَلَى حُكْم النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ فِي التَّوْرَاة|فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ|أَيْ فِي إِظْهَار صِفَة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَإِظْهَار الرَّجْم|وَاخْشَوْنِ|أَيْ فِي كِتْمَان ذَلِكَ ; فَالْخِطَاب لِعُلَمَاء الْيَهُود , وَقَدْ يَدْخُل بِالْمَعْنَى كُلّ مَنْ كَتَمَ حَقًّا وَجَبَ عَلَيْهِ وَلَمْ يُظْهِرهُ , وَتَقَدَّمَ مَعْنَى | وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا | مُسْتَوْفًى .|وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا|تَقَدَّمَ الْمَعْنَى مُسْتَوْفًى|وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ|و | الظَّالِمُونَ | و | الْفَاسِقُونَ | نَزَلَتْ كُلّهَا فِي الْكُفَّار ; ثَبَتَ ذَلِكَ فِي صَحِيح مُسْلِم مِنْ حَدِيث الْبَرَاء , وَقَدْ تَقَدَّمَ , وَعَلَى هَذَا الْمُعْظَم . فَأَمَّا الْمُسْلِم فَلَا يَكْفُر وَإِنْ اِرْتَكَبَ كَبِيرَة . وَقِيلَ : فِيهِ إِضْمَار ; أَيْ وَمَنْ لَمْ يَحْكُم بِمَا أَنْزَلَ اللَّه رَدًّا لِلْقُرْآنِ , وَجَحْدًا لِقَوْلِ الرَّسُول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فَهُوَ كَافِر ; قَالَهُ اِبْن عَبَّاس وَمُجَاهِد , فَالْآيَة عَامَّة عَلَى هَذَا . قَالَ اِبْن مَسْعُود وَالْحَسَن : هِيَ عَامَّة فِي كُلّ مَنْ لَمْ يَحْكُم بِمَا أَنْزَلَ اللَّه مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُود وَالْكُفَّار أَيْ مُعْتَقِدًا ذَلِكَ وَمُسْتَحِلًّا لَهُ ; فَأَمَّا مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَهُوَ مُعْتَقِد أَنَّهُ رَاكِبُ مُحَرَّمٍ فَهُوَ مِنْ فُسَّاق الْمُسْلِمِينَ , وَأَمْره إِلَى اللَّه تَعَالَى إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ , وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ , وَقَالَ اِبْن عَبَّاس فِي رِوَايَة : وَمَنْ لَمْ يَحْكُم بِمَا أَنْزَلَ اللَّه فَقَدْ فَعَلَ فِعْلًا يُضَاهِي أَفْعَال الْكُفَّار , وَقِيلَ : أَيْ وَمَنْ لَمْ يَحْكُم بِجَمِيعِ مَا أَنْزَلَ اللَّه فَهُوَ كَافِر ; فَأَمَّا مَنْ حَكَمَ بِالتَّوْحِيدِ وَلَمْ يَحْكُم بِبَعْضِ الشَّرَائِع فَلَا يَدْخُل فِي هَذِهِ الْآيَة , وَالصَّحِيح الْأَوَّل , إِلَّا أَنَّ الشَّعْبِيّ قَالَ : هِيَ فِي الْيَهُود خَاصَّة , وَاخْتَارَهُ النَّحَّاس ; قَالَ : وَيَدُلّ عَلَى ذَلِكَ ثَلَاثَة أَشْيَاء ; مِنْهَا أَنَّ الْيَهُود قَدْ ذُكِرُوا قَبْل هَذَا فِي قَوْله : | لِلَّذِينَ هَادُوا | ; فَعَادَ الضَّمِير عَلَيْهِمْ , وَمِنْهَا أَنَّ سِيَاق الْكَلَام يَدُلّ عَلَى ذَلِكَ ; أَلَا تَرَى أَنَّ بَعْده | وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ | فَهَذَا الضَّمِير لِلْيَهُودِ بِإِجْمَاعٍ ; وَأَيْضًا فَإِنَّ الْيَهُود هُمْ الَّذِينَ أَنْكَرُوا الرَّجْم وَالْقِصَاص . فَإِنْ قَالَ قَائِل : | مَنْ | إِذَا كَانَتْ لِلْمُجَازَاةِ فَهِيَ عَامَّة إِلَّا أَنْ يَقَع دَلِيل عَلَى تَخْصِيصهَا ؟ قِيلَ لَهُ : | مَنْ | هُنَا بِمَعْنَى الَّذِي مَعَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْأَدِلَّة ; وَالتَّقْدِير : وَالْيَهُود الَّذِينَ لَمْ يَحْكُمُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّه فَأُولَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ ; فَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ مَا قِيلَ فِي هَذَا ; وَيُرْوَى أَنَّ حُذَيْفَة سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَات أَهِيَ فِي بَنِي إِسْرَائِيل ؟ قَالَ : نَعَمْ هِيَ فِيهِمْ , وَلَتَسْلُكُنَّ سَبِيلهمْ حَذْو النَّعْل بِالنَّعْلِ , وَقِيلَ : | الْكَافِرُونَ | لِلْمُسْلِمِينَ , و | الظَّالِمُونَ | لِلْيَهُودِ , و | الْفَاسِقُونَ | لِلنَّصَارَى ; وَهَذَا اِخْتِيَار أَبِي بَكْر بْن الْعَرَبِيّ , قَالَ : لِأَنَّهُ ظَاهِر الْآيَات , وَهُوَ اِخْتِيَار اِبْن عَبَّاس وَجَابِر بْن زَيْد وَابْن أَبِي زَائِدَة وَابْن شُبْرُمَة وَالشَّعْبِيّ أَيْضًا . قَالَ طَاوُس وَغَيْره : لَيْسَ بِكُفْرٍ يَنْقُل عَنْ الْمِلَّة , وَلَكِنَّهُ كُفْر دُون كُفْر , وَهَذَا يَخْتَلِف إِنْ حَكَمَ بِمَا عِنْده عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْد اللَّه , فَهُوَ تَبْدِيل لَهُ يُوجِب الْكُفْر ; وَإِنْ حَكَمَ بِهِ هَوًى وَمَعْصِيَة فَهُوَ ذَنْب تُدْرِكهُ الْمَغْفِرَة عَلَى أَصْل أَهْل السُّنَّة فِي الْغُفْرَان لِلْمُذْنِبِينَ . قَالَ الْقُشَيْرِيّ : وَمَذْهَب الْخَوَارِج أَنَّ مَنْ اِرْتَشَى وَحَكَمَ بِغَيْرِ حُكْم اللَّه فَهُوَ كَافِر , وَعُزِيَ هَذَا إِلَى الْحَسَن وَالسُّدِّيّ , وَقَالَ الْحَسَن أَيْضًا : أَخَذَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَلَى الْحُكَّام ثَلَاثَة أَشْيَاء : أَلَّا يَتَّبِعُوا الْهَوَى , وَأَلَّا يَخْشَوْا النَّاس وَيَخْشَوْهُ , وَأَلَّا يَشْتَرُوا بِآيَاتِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا .

وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ ا

بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ سَوَّى بَيْن النَّفْس وَالنَّفْس فِي التَّوْرَاة فَخَالَفُوا ذَلِكَ , فَضَلُّوا ; فَكَانَتْ دِيَة النَّضِيرِيّ أَكْثَرَ , وَكَانَ النَّضِيرِيّ لَا يُقْتَل بِالْقُرَظِيِّ , وَيُقْتَل بِهِ الْقُرَظِيّ فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَام رَاجَعَ بَنُو قُرَيْظَة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ , فَحَكَمَ بِالِاسْتِوَاءِ ; فَقَالَتْ بَنُو النَّضِير : قَدْ حَطَطْت مِنَّا ; فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة . و | كَتَبْنَا | بِمَعْنَى فَرَضْنَا , وَقَدْ تَقَدَّمَ , وَكَانَ شَرْعهمْ الْقِصَاص أَوْ الْعَفْو , وَمَا كَانَ فِيهِمْ الدِّيَة ; كَمَا تَقَدَّمَ فِي | الْبَقَرَة | بَيَانه , وَتَعَلَّقَ أَبُو حَنِيفَة وَغَيْره بِهَذِهِ الْآيَة فَقَالَ : يُقْتَل الْمُسْلِم بِالذِّمِّيِّ ; لِأَنَّهُ نَفْس بِنَفْسٍ , وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي | الْبَقَرَة | بَيَان هَذَا , وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ عَنْ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ هَلْ خَصَّك رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَيْءٍ ؟ فَقَالَ : لَا , إِلَّا مَا فِي هَذَا , وَأَخْرَجَ كِتَابًا مِنْ قِرَاب سَيْفه وَإِذَا فِيهِ ( الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأ دِمَاؤُهُمْ وَهُمْ يَد عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ وَلَا يُقْتَل مُسْلِم بِكَافِرٍ وَلَا ذُو عَهْد فِي عَهْده ) وَأَيْضًا فَإِنَّ الْآيَة إِنَّمَا جَاءَتْ لِلرَّدِّ عَلَى الْيَهُود فِي الْمُفَاضَلَة بَيْن الْقَبَائِل , وَأَخْذهمْ مِنْ قَبِيلَة رَجُلًا بِرَجُلٍ , وَمِنْ قَبِيلَة أُخْرَى رَجُلًا بِرَجُلَيْنِ , وَقَالَتْ الشَّافِعِيَّة : هَذَا خَبَر عَنْ شَرْع مَنْ قَبْلنَا , وَشَرْع مَنْ قَبْلنَا لَيْسَ شَرْعًا لَنَا ; وَقَدْ مَضَى فِي | الْبَقَرَة | فِي الرَّدّ عَلَيْهِمْ مَا يَكْفِي فَتَأَمَّلْهُ هُنَاكَ , وَوَجْه رَابِع : وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ : | وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْس بِالنَّفْسِ | وَكَانَ ذَلِكَ مَكْتُوبًا عَلَى أَهْل التَّوْرَاة وَهُمْ مِلَّة وَاحِدَة , وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَهْل ذِمَّة كَمَا لِلْمُسْلِمِينَ أَهْل ذِمَّة ; لِأَنَّ الْجِزْيَة فَيْء وَغَنِيمَة أَفَاءَهَا اللَّه عَلَى الْمُؤْمِنِينَ , وَلَمْ يَجْعَل الْفَيْء لِأَحَدٍ قَبْل هَذِهِ الْأُمَّة , وَلَمْ يَكُنْ نَبِيّ فِيمَا مَضَى مَبْعُوثًا إِلَّا إِلَى قَوْمه ; فَأَوْجَبَتْ الْآيَة الْحُكْم عَلَى بَنِي إِسْرَائِيل إِذْ كَانَتْ دِمَاؤُهُمْ تَتَكَافَأ ; فَهُوَ مِثْل قَوْل الْوَاحِد مِنَّا فِي دِمَاء سِوَى الْمُسْلِمِينَ النَّفْس بِالنَّفْسِ , إِذْ يُشِير إِلَى قَوْم مُعَيَّنِينَ , وَيَقُول : إِنَّ الْحُكْم فِي هَؤُلَاءِ أَنَّ النَّفْس مِنْهُمْ بِالنَّفْسِ ; فَاَلَّذِي يَجِب بِحُكْمِ هَذِهِ الْآيَة عَلَى أَهْل الْقُرْآن أَنْ يُقَال لَهُمْ فِيمَا بَيْنهمْ - عَلَى هَذَا الْوَجْه - : النَّفْس بِالنَّفْسِ , وَلَيْسَ فِي كِتَاب اللَّه مَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ النَّفْس بِالنَّفْسِ مَعَ اِخْتِلَاف الْمِلَّة . قَالَ أَصْحَاب الشَّافِعِيّ وَأَبُو حَنِيفَة : إِذَا جَرَحَ أَوْ قَطَعَ الْأُذُن أَوْ الْيَد ثُمَّ قَتَلَ فُعِلَ ذَلِكَ بِهِ ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ : | وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْس بِالنَّفْسِ وَالْعَيْن بِالْعَيْنِ | فَيُؤْخَذ مِنْهُ مَا أَخَذَ , وَيُفْعَل بِهِ كَمَا فَعَلَ , وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : إِنْ قَصَدَ بِهِ الْمُثْلَة فُعِلَ بِهِ مِثْله , وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي أَثْنَاء مُضَارَبَته وَمُدَافَعَته قُتِلَ بِالسَّيْفِ ; وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ فِي الْمُثْلَة يَجِب ; لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمَلَ أَعْيُن الْعُرَنِيِّينَ ; حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانه فِي هَذِهِ السُّورَة .|وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ|فِيهِ سَبْع مَسَائِل </subtitle>الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ | قَرَأَ نَافِع وَعَاصِم وَالْأَعْمَش وَحَمْزَة بِالنَّصْبِ فِي جَمِيعهَا عَلَى الْعَطْف , وَيَجُوز تَخْفِيف | أَنَّ | وَرَفْع الْكُلّ بِالِابْتِدَاءِ وَالْعَطْف , وَقَرَأَ اِبْن كَثِير وَابْن عَامِر وَأَبُو عَمْرو وَأَبُو جَعْفَر بِنَصْبِ الْكُلّ إِلَّا الْجُرُوح , وَكَانَ الْكِسَائِيّ وَأَبُو عُبَيْد يَقْرَآنِ | وَالْعَيْنُ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفُ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنُ بِالْأُذُنِ وَالسِّنُّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحُ | بِالرَّفْعِ فِيهَا كُلّهَا . قَالَ أَبُو عُبَيْد : حَدَّثَنَا حَجَّاج عَنْ هَارُون عَنْ عَبَّاد بْن كَثِير عَنْ عُقَيْل عَنْ الزُّهْرِيّ عَنْ أَنَس أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ | وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنُ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفُ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنُ بِالْأُذُنِ وَالسِّنُّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحُ قِصَاص | , وَالرَّفْع مِنْ ثَلَاث جِهَات ; بِالِابْتِدَاءِ وَالْخَبَر , وَعَلَى الْمَعْنَى عَلَى مَوْضِع | أَنَّ النَّفْس | ; لِأَنَّ الْمَعْنَى قُلْنَا لَهُمْ : النَّفْس بِالنَّفْسِ . وَالْوَجْه الثَّالِث : قَالَهُ الزَّجَّاج يَكُون عَطْفًا عَلَى الْمُضْمَر فِي النَّفْس ; لِأَنَّ الضَّمِير فِي النَّفْس فِي مَوْضِع رَفْع ; لِأَنَّ التَّقْدِير أَنَّ النَّفْس هِيَ مَأْخُوذَة بِالنَّفْسِ ; فَالْأَسْمَاء مَعْطُوفَة عَلَى هِيَ . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَمَنْ قَرَأَ بِالرَّفْعِ جَعَلَ ذَلِكَ اِبْتِدَاء كَلَام , حُكْم فِي الْمُسْلِمِينَ ; وَهَذَا أَصَحّ الْقَوْلَيْنِ , وَذَلِكَ أَنَّهَا قِرَاءَة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ | وَالْعَيْنُ بِالْعَيْنِ | وَكَذَا مَا بَعْده , وَالْخِطَاب لِلْمُسْلِمِينَ أُمِرُوا بِهَذَا . وَمَنْ خَصَّ الْجُرُوح بِالرَّفْعِ فَعَلَى الْقَطْع مِمَّا قَبْلهَا وَالِاسْتِئْنَاف بِهَا ; كَأَنَّ الْمُسْلِمِينَ أُمِرُوا بِهَذَا خَاصَّة , وَمَا قَبْله لَمْ يُوَاجَهُوا بِهِ . الثَّانِيَة : هَذِهِ الْآيَة تَدُلّ عَلَى جَرَيَان الْقِصَاص فِيمَا ذُكِرَ وَقَدْ تَعَلَّقَ اِبْن شُبْرُمَة بِعُمُومِ قَوْله : | وَالْعَيْن بِالْعَيْنِ | عَلَى أَنَّ الْيُمْنَى تُفْقَأ بِالْيُسْرَى وَكَذَلِكَ عَلَى الْعَكْس , وَأَجْرَى ذَلِكَ فِي الْيَد الْيُمْنَى وَالْيُسْرَى , وَقَالَ : تُؤْخَذ الثَّنِيَّة بِالضِّرْسِ وَالضِّرْس بِالثَّنِيَّةِ ; لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى : | وَالسِّنّ بِالسِّنِّ | . وَاَلَّذِينَ خَالَفُوهُ وَهُمْ عُلَمَاء الْأُمَّة قَالُوا : الْعَيْن الْيُمْنَى هِيَ الْمَأْخُوذَة بِالْيُمْنَى عِنْد وُجُودهَا , وَلَا يَتَجَاوَز ذَلِكَ إِلَى الْيُسْرَى مَعَ الرِّضَا ; وَذَلِكَ يُبَيِّن لَنَا أَنَّ الْمُرَاد بِقَوْلِهِ : | وَالْعَيْن بِالْعَيْنِ | اِسْتِيفَاء مَا يُمَاثِلهُ مِنْ الْجَانِي ; فَلَا يَجُوز لَهُ أَنْ يَتَعَدَّى إِلَى غَيْره كَمَا لَا يَتَعَدَّى مِنْ الرِّجْل إِلَى الْيَد فِي الْأَحْوَال كُلّهَا , وَهَذَا لَا رَيْب فِيهِ . الثَّالِثَة : وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ الْعَيْنَيْنِ إِذَا أُصِيبَتَا خَطَأ فَفِيهِمَا الدِّيَة , وَفِي الْعَيْن الْوَاحِدَة نِصْف الدِّيَة , وَفِي عَيْن الْأَعْوَر إِذَا فُقِئَتْ الدِّيَة كَامِلَة ; رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَر وَعُثْمَان , وَبِهِ قَالَ عَبْد الْمَلِك بْن مَرْوَان وَالزُّهْرِيّ وَقَتَادَة وَمَالِك وَاللَّيْث بْن سَعْد وَأَحْمَد وَإِسْحَاق , وَقِيلَ : نِصْف الدِّيَة ; رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَبْد اللَّه بْن الْمُغَفَّل وَمَسْرُوق وَالنَّخَعِيّ ; وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيّ وَالشَّافِعِيّ وَالنُّعْمَان . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَبِهِ نَقُول ; لِأَنَّ فِي الْحَدِيث ( فِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَة ) وَمَعْقُول إِذْ كَانَ كَذَلِكَ أَنَّ فِي إِحْدَاهُمَا نِصْف الدِّيَة . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهُوَ الْقِيَاس الظَّاهِر , وَلَكِنْ عُلَمَاؤُنَا قَالُوا : إِنَّ مَنْفَعَة الْأَعْوَر بِبَصَرِهِ كَمَنْفَعَةِ السَّالِم أَوْ قَرِيب مِنْ ذَلِكَ , فَوَجَبَ عَلَيْهِ مِثْل دِيَته .</p><p>الرَّابِعَة : وَاخْتَلَفُوا فِي الْأَعْوَر يَفْقَأ عَيْن صَحِيح ; فَرُوِيَ عَنْ عُمَر وَعُثْمَان وَعَلِيّ أَنَّهُ لَا قَوَد عَلَيْهِ , وَعَلَيْهِ الدِّيَة كَامِلَة ; وَبِهِ قَالَ عَطَاء وَسَعِيد بْن الْمُسَيِّب وَأَحْمَد بْن حَنْبَل , وَقَالَ مَالِك : إِنْ شَاءَ اِقْتَصَّ فَتَرَكَهُ أَعْمَى , وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الدِّيَة كَامِلَة ( دِيَة عَيْن الْأَعْوَر ) , وَقَالَ النَّخَعِيّ : إِنْ شَاءَ اِقْتَصَّ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ نِصْف الدِّيَة . وَقَالَ الشَّافِعِيّ وَأَبُو حَنِيفَة وَالثَّوْرِيّ : عَلَيْهِ الْقِصَاص , وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيّ أَيْضًا , وَهُوَ قَوْل مَسْرُوق وَابْن سِيرِينَ وَابْن مَعْقِل , وَاخْتَارَهُ اِبْن الْمُنْذِر وَابْن الْعَرَبِيّ ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ : | وَالْعَيْن بِالْعَيْنِ | وَجَعَلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَة ; فَفِي الْعَيْن نِصْف الدِّيَة , وَالْقِصَاص بَيْن صَحِيح الْعَيْن وَالْأَعْوَر كَهَيْئَتِهِ بَيْن سَائِر النَّاس , وَمُتَعَلَّق أَحْمَد بْن حَنْبَل أَنَّ فِي الْقِصَاص مِنْهُ أَخْذ جَمِيع الْبَصَر بِبَعْضِهِ وَذَلِكَ لَيْسَ بِمُسَاوَاةٍ , وَبِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَر وَعُثْمَان وَعَلِيّ فِي ذَلِكَ , وَمُتَمَسَّك مَالِك أَنَّ الْأَدِلَّة لَمَّا تَعَارَضَتْ خُيِّرَ الْمَجْنِيّ عَلَيْهِ . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَالْأَخْذ بِعُمُومِ الْقُرْآن أَوْلَى ; فَإِنَّهُ أَسْلَمُ عِنْد اللَّه تَعَالَى .</p><p>الْخَامِسَة : وَاخْتَلَفُوا فِي عَيْن الْأَعْوَر الَّتِي لَا يُبْصِر بِهَا ; فَرُوِيَ عَنْ زَيْد بْن ثَابِت أَنَّهُ قَالَ : فِيهَا مِائَة دِينَار , وَعَنْ عُمَر بْن الْخَطَّاب أَنَّهُ قَالَ : فِيهَا ثُلُث دِيَتهَا ; وَبِهِ قَالَ إِسْحَاق , وَقَالَ مُجَاهِد : فِيهَا نِصْف دِيَتهَا , وَقَالَ مَسْرُوق وَالزُّهْرِيّ وَمَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْر وَالنُّعْمَان : فِيهَا حُكُومَة ; قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَبِهِ نَقُول لِأَنَّهُ الْأَقَلّ مِمَّا قِيلَ . السَّادِسَة : وَفِي إِبْطَال الْبَصَر مِنْ الْعَيْنَيْنِ مَعَ بَقَاء الْحَدَقَتَيْنِ كَمَال الدِّيَة , وَيَسْتَوِي فِيهِ الْأَعْمَش وَالْأَخْفَش , وَفِي إِبْطَاله مِنْ إِحْدَاهُمَا مَعَ بَقَائِهَا النِّصْف . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر وَأَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي ذَلِكَ مَا قَالَهُ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب : أَنَّهُ أَمَرَ بِعَيْنِهِ الصَّحِيحَة فَغُطِّيَتْ وَأُعْطِيَ رَجُلٌ بَيْضَةً فَانْطَلَقَ بِهَا وَهُوَ يَنْظُر حَتَّى اِنْتَهَى نَظَره , ثُمَّ أَمَرَ بِخَطٍّ عِنْد ذَلِكَ , ثُمَّ أَمَرَ بِعَيْنِهِ الْأُخْرَى فَغُطِّيَتْ وَفُتِحَتْ الصَّحِيحَة , وَأُعْطِيَ رَجُل بَيْضَة فَانْطَلَقَ بِهَا وَهُوَ يَنْظُر حَتَّى اِنْتَهَى نَظَره ثُمَّ خَطَّ عِنْد ذَلِكَ , ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَحُوِّلَ إِلَى مَكَان آخَر فَفُعِلَ بِهِ مِثْل ذَلِكَ فَوَجَدَهُ سَوَاء ; فَأَعْطَى مَا نَقَصَ مِنْ بَصَره مِنْ مَال الْآخَر , وَهَذَا عَلَى مَذْهَب الشَّافِعِيّ ; وَهُوَ قَوْل عُلَمَائِنَا , وَهِيَ : السَّابِعَة : وَلَا خِلَاف بَيْن أَهْل الْعِلْم عَلَى أَنْ لَا قَوَد فِي بَعْض الْبَصَر , إِذْ غَيْر مُمْكِن الْوُصُول إِلَيْهِ , وَكَيْفِيَّة الْقَوَد فِي الْعَيْن أَنْ تُحْمَى مِرْآة ثُمَّ تُوضَع عَلَى الْعَيْن الْأُخْرَى قُطْنَة , ثُمَّ تُقَرَّب الْمِرْآة مِنْ عَيْنه حَتَّى يَسِيل إِنْسَانهَا ; رُوِيَ عَنْ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ ; ذَكَرَهُ الْمَهْدَوِيّ وَابْن الْعَرَبِيّ . وَاخْتُلِفَ فِي جَفْن الْعَيْن ; فَقَالَ زَيْد بْن ثَابِت : فِيهِ رُبُع الدِّيَة , وَهُوَ قَوْل الشَّعْبِيّ وَالْحَسَن وَقَتَادَة وَأَبِي هَاشِم وَالثَّوْرِيّ وَالشَّافِعِيّ وَأَصْحَاب الرَّأْي , وَرُوِيَ عَنْ الشَّعْبِيّ أَنَّهُ قَالَ : فِي الْجَفْن الْأَعْلَى ثُلُث الدِّيَة وَفِي الْجَفْن الْأَسْفَل ثُلُثَا الدِّيَة , وَبِهِ قَالَ مَالِك .|وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ|جَاءَ الْحَدِيث عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( وَفِي الْأَنْف إِذَا أُوعِبَ جَدْعًا الدِّيَةُ ) . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَأَجْمَعَ كُلّ مَنْ يُحْفَظ عَنْهُ مِنْ أَهْل الْعِلْم عَلَى الْقَوْل بِهِ ; وَالْقِصَاص مِنْ الْأَنْف إِذَا كَانَتْ الْجِنَايَة عَمْدًا كَالْقِصَاصِ مِنْ سَائِر الْأَعْضَاء عَلَى كِتَاب اللَّه تَعَالَى , وَاخْتَلَفُوا فِي كَسْر الْأَنْف . فَكَانَ مَالِك يَرَى فِي الْعَمْد مِنْهُ الْقَوَد , وَفِي الْخَطَأ الِاجْتِهَاد , وَرَوَى اِبْن نَافِع أَنَّهُ لَا دِيَة لِلْأَنْفِ حَتَّى يَسْتَأْصِلهُ مِنْ أَصْله . قَالَ أَبُو إِسْحَاق التُّونِسِيّ : وَهَذَا شَاذّ , وَالْمَعْرُوف الْأَوَّل , وَإِذَا فَرَّعْنَا عَلَى الْمَعْرُوف فَفِي بَعْض الْمَارِن مِنْ الدِّيَة بِحِسَابِهِ مِنْ الْمَارِن . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَمَا قُطِعَ مِنْ الْأَنْف فَبِحِسَابِهِ ; رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز وَالشَّعْبِيّ , وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيّ . قَالَ أَبُو عُمَر : وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَارِن إِذَا قُطِعَ وَلَمْ يَسْتَأْصِل الْأَنْف ; فَذَهَبَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابهمْ إِلَى أَنَّ فِي ذَلِكَ الدِّيَة كَامِلَة , ثُمَّ إِنْ قُطِعَ مِنْهُ شَيْء بَعْد ذَلِكَ فَفِيهِ حُكُومَة . قَالَ مَالِك : الَّذِي فِيهِ الدِّيَة مِنْ الْأَنْف أَنْ يُقْطَع الْمَارِن ; وَهُوَ دُون الْعَظْم . قَالَ اِبْن الْقَاسِم : وَسَوَاء قُطِعَ الْمَارِن مِنْ الْعَظْم أَوْ اُسْتُؤْصِلَ الْأَنْف مِنْ الْعَظْم مِنْ تَحْت الْعَيْنَيْنِ إِنَّمَا فِيهِ الدِّيَة ; كَالْحَشَفَةِ فِيهَا الدِّيَة : وَفِي اِسْتِئْصَال الذَّكَر الدِّيَة . قَالَ اِبْن الْقَاسِم : وَإِذَا خُرِمَ الْأَنْف أَوْ كُسِرَ فَبَرِئَ عَلَى عَثْم فَفِيهِ الِاجْتِهَاد , وَلَيْسَ فِيهِ دِيَة مَعْلُومَة . وَإِنْ بَرِئَ عَلَى غَيْر عَثْم فَلَا شَيْء فِيهِ . قَالَ : وَلَيْسَ الْأَنْف إِذَا خُرِمَ فَبَرِئَ عَلَى غَيْر عَثْم كَالْمُوضِحَةِ تَبْرَأ عَلَى غَيْر عَثْم فَيَكُون فِيهَا دِيَتهَا ; لِأَنَّ تِلْكَ جَاءَتْ بِهَا السُّنَّة , وَلَيْسَ فِي خَرْم الْأَنْف أَثَر . قَالَ : وَالْأَنْف عَظْم مُنْفَرِد لَيْسَ فِيهِ مُوضِحَة , وَاتَّفَقَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَصْحَابهمَا عَلَى أَنْ لَا جَائِفَة فِيهِ , وَلَا جَائِفَة عِنْدهمْ إِلَّا فِيمَا كَانَ فِي الْجَوْف , وَالْمَارِن مَا لَانَ مِنْ الْأَنْف ; وَكَذَلِكَ قَالَ الْخَلِيل وَغَيْره . قَالَ أَبُو عُمَر : وَأَظُنّ رَوْثَته مَارِنه , وَأَرْنَبَته طَرَفه , وَقَدْ قِيلَ : الْأَرْنَبَة وَالرَّوْثَة وَالْعَرْتَمَة طَرَف الْأَنْف . وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْفُقَهَاء مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَالْكُوفِيُّونَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ , فِي الشَّمّ إِذَا نَقَصَ أَوْ فُقِدَ حُكُومَة .|وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ|قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَة اللَّه عَلَيْهِمْ فِي الَّذِي يَقْطَع أُذُنَيْ رَجُل : عَلَيْهِ حُكُومَة , وَإِنَّمَا تَكُون عَلَيْهِ الدِّيَة فِي السَّمْع , وَيُقَاس فِي نُقْصَانه كَمَا يُقَاس فِي الْبَصَر , وَفِي إِبْطَاله مِنْ إِحْدَاهُمَا نِصْف الدِّيَة وَلَوْ لَمْ يَكُنْ يَسْمَع إِلَّا بِهَا , بِخِلَافِ الْعَيْن الْعَوْرَاء فِيهَا الدِّيَة كَامِلَة ; عَلَى مَا تَقَدَّمَ , وَقَالَ أَشْهَبُ : إِنْ كَانَ السَّمْع إِذَا سُئِلَ عَنْهُ قِيلَ إِنَّ أَحَد السَّمْعَيْنِ يَسْمَع مَا يَسْمَع السَّمْعَانِ فَهُوَ عِنْدِي كَالْبَصَرِ , وَإِذَا شُكَّ فِي السَّمْع جُرِّبَ بِأَنْ يُصَاح بِهِ مِنْ مَوَاضِع عِدَّة , يُقَاس ذَلِكَ ; فَإِنْ تَسَاوَتْ أَوْ تَقَارَبَتْ أُعْطِيَ بِقَدْرِ مَا ذَهَبَ مِنْ سَمْعه وَيُحَلَّف عَلَى ذَلِكَ . قَالَ أَشْهَبُ : وَيُحْسَب لَهُ ذَلِكَ عَلَى سَمْعٍ وَسَطٍ مِنْ الرِّجَال مِثْله ; فَإِنْ اُخْتُبِرَ فَاخْتَلَفَ قَوْله لَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْء , وَقَالَ عِيسَى بْن دِينَار : إِذَا اِخْتَلَفَ قَوْله عُقِلَ لَهُ الْأَقَلّ مَعَ يَمِينه .|وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ|فِيهَا تِسْع مَسَائِل </subtitle>الْأُولَى : قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَثَبَتَ عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَقَادَ مِنْ سِنّ وَقَالَ : ( كِتَاب اللَّه الْقِصَاص ) . وَجَاءَ الْحَدِيث عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( فِي السِّنّ خَمْس مِنْ الْإِبِل ) . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : فَبِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيث نَقُول ; لَا فَضْل لِلثَّنَايَا مِنْهَا عَلَى الْأَنْيَاب وَالْأَضْرَاس وَالرَّبَاعِيَات ; لِدُخُولِهَا كُلّهَا فِي ظَاهِر الْحَدِيث ; وَبِهِ يَقُول الْأَكْثَر مِنْ أَهْل الْعِلْم , وَمِمَّنْ قَالَ بِظَاهِرِ الْحَدِيث وَلَمْ يُفَضِّل شَيْئًا مِنْهَا عَلَى شَيْء عُرْوَة بْن الزُّبَيْر وَطَاوُس وَالزُّهْرِيّ وَقَتَادَة وَمَالِك وَالثَّوْرِيّ وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَالنُّعْمَان وَابْن الْحَسَن , وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب وَابْن عَبَّاس وَمُعَاوِيَة , وَفِيهِ قَوْل ثَانٍ - رُوِّينَاهُ عَنْ عُمَر بْن الْخَطَّاب أَنَّهُ قَضَى فِيمَا أَقْبَلَ مِنْ الْفَم بِخَمْسِ فَرَائِض خَمْس فَرَائِض , وَذَلِكَ خَمْسُونَ دِينَارًا , قِيمَة كُلّ فَرِيضَة عَشَرَة دَنَانِير , وَفِي الْأَضْرَاس بِبَعِيرٍ بَعِير , وَكَانَ عَطَاء يَقُول : فِي السِّنّ وَالرَّبَاعِيَتَيْنِ وَالنَّابَيْنِ خَمْس خَمْس , وَفِيمَا بَقِيَ بَعِيرَانِ بَعِيرَانِ , أَعْلَى الْفَم وَأَسْفَله سَوَاء , وَالْأَضْرَاس سَوَاء ; قَالَ أَبُو عُمَر : أَمَّا مَا رَوَاهُ مَالِك فِي مُوَطَّئِهِ عَنْ يَحْيَى بْن سَعِيد عَنْ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب أَنَّ عُمَر قَضَى فِي الْأَضْرَاس بِبَعِيرٍ بَعِير فَإِنَّ الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ أَنَّ الْأَضْرَاس عِشْرُونَ ضِرْسًا , وَالْأَسْنَان اِثْنَا عَشَرَ سِنًّا : أَرْبَع ثَنَايَا وَأَرْبَع رَبَاعِيَات وَأَرْبَع أَنْيَاب ; فَعَلَى قَوْل عُمَر تَصِير الدِّيَة ثَمَانِينَ بَعِيرًا ; فِي الْأَسْنَان خَمْسَة خَمْسَة , وَفِي الْأَضْرَاس بَعِير بَعِير , وَعَلَى قَوْل مُعَاوِيَة فِي الْأَضْرَاس وَالْأَسْنَان خَمْسَة أَبْعِرَة خَمْسَة أَبْعِرَة ; تَصِير الدِّيَة سِتِّينَ وَمِائَة بَعِير . وَعَلَى قَوْل سَعِيد بْن الْمُسَيِّب , بَعِيرَيْنِ بَعِيرَيْنِ فِي الْأَضْرَاس وَهِيَ عِشْرُونَ ضِرْسًا . يَجِب لَهَا أَرْبَعُونَ , وَفِي الْأَسْنَان خَمْسَة أَبْعِرَة فَذَلِكَ سِتُّونَ , وَهِيَ تَتِمَّة لِمِائَةِ بَعِير , وَهِيَ الدِّيَة كَامِلَة مِنْ الْإِبِل , وَالِاخْتِلَاف بَيْنهمْ إِنَّمَا هُوَ فِي الْأَضْرَاس لَا فِي الْأَسْنَان . قَالَ أَبُو عُمَر : وَاخْتِلَاف الْعُلَمَاء مِنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ فِي دِيَات الْأَسْنَان وَتَفْضِيل بَعْضهَا عَلَى بَعْض كَثِير جِدًّا , وَالْحُجَّة قَائِمَة لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْفُقَهَاء مَالِك وَأَبُو حَنِيفَة وَالثَّوْرِيّ ; بِظَاهِرِ قَوْل رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَفِي السِّنّ خَمْس مِنْ الْإِبِل ) وَالضِّرْس سِنّ مِنْ الْأَسْنَان . رَوَى اِبْن عَبَّاس أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( الْأَصَابِع سَوَاء وَالْأَسْنَان سَوَاء الثَّنِيَّة وَالضِّرْس سَوَاء هَذِهِ وَهَذِهِ سَوَاء ) وَهَذَا نَصّ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد , وَرَوَى أَبُو دَاوُد أَيْضًا عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : جَعَلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصَابِع الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ سَوَاء . قَالَ أَبُو عُمَر : عَلَى هَذِهِ الْآثَار جَمَاعَة فُقَهَاء الْأَمْصَار وَجُمْهُور أَهْل الْعِلْم أَنَّ الْأَصَابِع فِي الدِّيَة كُلّهَا سَوَاء , وَأَنَّ الْأَسْنَان فِي الدِّيَة كُلّهَا سَوَاء , الثَّنَايَا وَالْأَضْرَاس وَالْأَنْيَاب لَا يُفَضَّل شَيْء مِنْهَا عَلَى شَيْء ; عَلَى مَا فِي كِتَاب عَمْرو بْن حَزْم . ذَكَرَ الثَّوْرِيّ عَنْ أَزْهَر بْن مُحَارِب قَالَ : اِخْتَصَمَ إِلَى شُرَيْح رَجُلَانِ ضَرَبَ أَحَدهمَا ثَنِيَّة الْآخَر وَأَصَابَ الْآخَر ضِرْسه فَقَالَ شُرَيْح : الثَّنِيَّة وَجَمَالهَا وَالضِّرْس وَمَنْفَعَته سِنّ بِسِنٍّ قُوِّمَا . قَالَ أَبُو عُمَر : عَلَى هَذَا الْعَمَل الْيَوْم فِي جَمِيع الْأَمْصَار , وَاَللَّه أَعْلَم . الثَّانِيَة : فَإِنْ ضَرَبَ سِنّه فَاسْوَدَّتْ فَفِيهَا دِيَتهَا كَامِلَة عِنْد مَالِك وَاللَّيْث بْن سَعْد , وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَة , وَرُوِيَ عَنْ زَيْد بْن ثَابِت ; وَهُوَ قَوْل سَعِيد بْن الْمُسَيِّب وَالزُّهْرِيّ وَالْحَسَن وَابْن سِيرِينَ وَشُرَيْح . وَرُوِيَ عَنْ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ فِيهَا ثُلُث دِيَتهَا ; وَبِهِ قَالَ أَحْمَد وَإِسْحَاق , وَقَالَ الشَّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْر : فِيهَا حُكُومَة . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهَذَا عِنْدِي خِلَاف يَئُول إِلَى وِفَاق ; فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ سَوَادهَا أَذْهَبَ مَنْفَعَتهَا وَإِنَّمَا بَقِيَتْ صُورَتهَا كَالْيَدِ الشَّلَّاء وَالْعَيْن الْعَمْيَاء , فَلَا خِلَاف فِي وُجُوب الدِّيَة ; ثُمَّ إِنْ كَانَ بَقِيَ مِنْ مَنْفَعَتهَا شَيْء أَوْ جَمِيعهَا لَمْ يَجِب إِلَّا بِمِقْدَارِ مَا نَقَصَ مِنْ الْمَنْفَعَة حُكُومَة ; وَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فِيهَا ثُلُث دِيَتهَا لَمْ يَصِحّ عَنْهُ سَنَدًا وَلَا فِقْهًا . الثَّالِثَة : وَاخْتَلَفُوا فِي سِنّ الصَّبِيّ يُقْلَع قَبْل أَنْ يُثْغِر ; فَكَانَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَصْحَاب الرَّأْي يَقُولُونَ : إِذَا قُلِعَتْ سِنّ الصَّبِيّ فَنَبَتَتْ فَلَا شَيْء عَلَى الْقَالِع , إِلَّا أَنَّ مَالِكًا وَالشَّافِعِيّ قَالَا : إِذَا نَبَتَتْ نَاقِصَة الطُّول عَنْ الَّتِي تُقَارِبهَا أُخِذَ لَهُ مِنْ أَرْشهَا بِقَدْرِ نَقْصهَا , وَقَالَتْ طَائِفَة : فِيهَا حُكُومَة , وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الشَّعْبِيّ ; وَبِهِ قَالَ النُّعْمَان . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : يُسْتَأْنَى بِهَا إِلَى الْوَقْت الَّذِي يَقُول أَهْل الْمَعْرِفَة إِنَّهَا لَا تَنْبُت , فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَانَ فِيهَا قَدْرهَا تَامًّا ; عَلَى ظَاهِر الْحَدِيث , وَإِنْ نَبَتَتْ رُدَّ الْأَرْش , وَأَكْثَرُ مَنْ يُحْفَظ عَنْهُ مِنْ أَهْل الْعِلْم يَقُولُونَ : يُسْتَأْنَى بِهَا سَنَة ; رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيّ وَزَيْد وَعُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز وَشُرَيْح وَالنَّخَعِيّ وَقَتَادَة وَمَالِك وَأَصْحَاب الرَّأْي , وَلَمْ يَجْعَل الشَّافِعِيّ لِهَذَا مُدَّة مَعْلُومَة . الرَّابِعَة : إِذَا قُلِعَ سِنّ الْكَبِير فَأَخَذَ دِيَتهَا ثُمَّ نَبَتَتْ ; فَقَالَ مَالِك لَا يَرُدّ مَا أَخَذَ , وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ : يَرُدّ إِذَا نَبَتَتْ , وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ : يَرُدّ وَلَا يَرُدّ ; لِأَنَّ هَذَا نَبَات لَمْ تَجْرِ بِهِ عَادَة , وَلَا يَثْبُت الْحُكْم بِالنَّادِرِ ; هَذَا قَوْل عُلَمَائِنَا . تَمَسَّكَ الْكُوفِيُّونَ بِأَنَّ عِوَضهَا قَدْ نَبَتَ فَيُرَدّ ; أَصْله سِنّ الصَّغِير . قَالَ الشَّافِعِيّ : وَلَوْ جَنَى عَلَيْهَا جَانٍ آخَر وَقَدْ نَبَتَتْ صَحِيحَة كَانَ فِيهَا أَرْشهَا تَامًّا . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : هَذَا أَصَحّ الْقَوْلَيْنِ ; لِأَنَّ كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا قَالِع سِنّ , وَقَدْ جَعَلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السِّنّ خَمْسًا مِنْ الْإِبِل . الْخَامِسَة : فَلَوْ قَلَعَ رَجُل سِنّ رَجُل فَرَدَّهَا صَاحِبهَا فَالْتَحَمَتْ فَلَا شَيْء فِيهَا عِنْدنَا , وَقَالَ الشَّافِعِيّ : لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدّهَا مِنْ قِبَل أَنَّهَا نَجِسَة ; وَقَالَهُ اِبْن الْمُسَيِّب وَعَطَاء , وَلَوْ رَدَّهَا أَعَادَ كُلّ صَلَاة صَلَّاهَا لِأَنَّهَا مَيْتَة ; وَكَذَلِكَ لَوْ قُطِعَتْ أُذُنه فَرَدَّهَا بِحَرَارَةِ الدَّم فَالْتَزَقَتْ مِثْله , وَقَالَ عَطَاء : يُجْبِرهُ السُّلْطَان عَلَى قَلْعهَا لِأَنَّهَا مَيْتَة أَلْصَقَهَا . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهَذَا غَلَط , وَقَدْ جَهِلَ مَنْ خَفِيَ عَلَيْهِ أَنَّ رَدَّهَا وَعَوْدهَا بِصُورَتِهَا لَا يُوجِب عَوْدهَا بِحُكْمِهَا ; لِأَنَّ النَّجَاسَة كَانَتْ فِيهَا لِلِانْفِصَالِ , وَقَدْ عَادَتْ مُتَّصِلَة , وَأَحْكَام الشَّرِيعَة لَيْسَتْ صِفَات لِلْأَعْيَانِ , وَإِنَّمَا هِيَ أَحْكَام تَعُود إِلَى قَوْل اللَّه سُبْحَانه فِيهَا وَإِخْبَاره عَنْهَا . قُلْت : مَا حَكَاهُ اِبْن الْعَرَبِيّ عَنْ عَطَاء خِلَاف مَا حَكَاهُ اِبْن الْمُنْذِر عَنْهُ ; قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَاخْتَلَفُوا فِي السِّنّ تُقْلَع قَوَدًا ثُمَّ تُرَدّ مَكَانهَا فَتَنْبُت ; فَقَالَ عَطَاء الْخُرَاسَانِيّ وَعَطَاء بْن أَبِي رَبَاح : لَا بَأْس بِذَلِكَ . وَقَالَ الثَّوْرِيّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاق : تُقْلَع ; لِأَنَّ الْقِصَاص لِلشَّيْنِ , وَقَالَ الشَّافِعِيّ : لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدّهَا مِنْ قِبَل أَنَّهَا نَجِسَة , وَيُجْبِرهُ السُّلْطَان عَلَى الْقَلْع . السَّادِسَة : فَلَوْ كَانَتْ لَهُ سِنّ زَائِدَة فَقُلِعَتْ فَفِيهَا حُكُومَة ; وَبِهِ قَالَ فُقَهَاء الْأَمْصَار , وَقَالَ زَيْد بْن ثَابِت : فِيهَا ثُلُث الدِّيَة . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَلَيْسَ فِي التَّقْدِير دَلِيل , فَالْحُكُومَة أَعْدَلُ . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَلَا يَصِحّ مَا رُوِيَ عَنْ زَيْد ; وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيّ أَنَّهُ قَالَ : فِي السِّنّ إِذَا كُسِرَ بَعْضهَا أُعْطِيَ صَاحِبهَا بِحِسَابِ مَا نَقَصَ مِنْهُ ; وَهَذَا قَوْل مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَغَيْرهمَا . قُلْت : وَهُنَا اِنْتَهَى مَا نَصَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ مِنْ الْأَعْضَاء , وَلَمْ يَذْكُر الشَّفَتَيْنِ وَاللِّسَان وَهِيَ : السَّابِعَة : فَقَالَ الْجُمْهُور : وَفِي الشَّفَتَيْنِ الدِّيَة , وَفِي كُلّ وَاحِدَة مِنْهُمَا نِصْف الدِّيَة لَا فَضْل لِلْعُلْيَا مِنْهُمَا عَلَى السُّفْلَى , وَرُوِيَ عَنْ زَيْد بْن ثَابِت وَسَعِيد بْن الْمُسَيِّب وَالزُّهْرِيّ : فِي الشَّفَة الْعُلْيَا ثُلُث الدِّيَة , وَفِي الشَّفَة السُّفْلَى ثُلُثَا الدِّيَة . وَقَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَبِالْقَوْلِ الْأَوَّل أَقُول ; لِلْحَدِيثِ الْمَرْفُوع عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( وَفِي الشَّفَتَيْنِ الدِّيَة ) وَلِأَنَّ فِي الْيَدَيْنِ الدِّيَة وَمَنَافِعهمَا مُخْتَلِفَة , وَمَا قُطِعَ مِنْ الشَّفَتَيْنِ فَبِحِسَابِ ذَلِكَ , وَأَمَّا اللِّسَان فَجَاءَ الْحَدِيث عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( فِي اللِّسَان الدِّيَة ) . وَأَجْمَعَ أَهْل الْعِلْم مِنْ أَهْل الْمَدِينَة وَأَهْل الْكُوفَة وَأَصْحَاب الْحَدِيث وَأَهْل الرَّأْي عَلَى الْقَوْل بِهِ ; قَالَهُ اِبْن الْمُنْذِر . الثَّامِنَة : وَاخْتَلَفُوا فِي الرَّجُل يَجْنِي عَلَى لِسَان الرَّجُل فَيَقْطَع مِنْ اللِّسَان شَيْئًا , وَيَذْهَب مِنْ الْكَلَام بَعْضه ; فَقَالَ أَكْثَر أَهْل الْعِلْم : يُنْظَر إِلَى مِقْدَار مَا ذَهَبَ مِنْ الْكَلَام مِنْ ثَمَانِيَة وَعِشْرِينَ حَرْفًا فَيَكُون عَلَيْهِ مِنْ الدِّيَة بِقَدْرِ مَا ذَهَبَ مِنْ كَلَامه , وَإِنْ ذَهَبَ الْكَلَام كُلّه فَفِيهِ الدِّيَة ; هَذَا قَوْل مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَأَصْحَاب الرَّأْي , وَقَالَ مَالِك : لَيْسَ فِي اللِّسَان قَوَد لِعَدَمِ الْإِحَاطَة بِاسْتِيفَاءِ الْقَوَد . فَإِنْ أَمْكَنَ فَالْقَوَد هُوَ الْأَصْل .</p><p>التَّاسِعَة : وَاخْتَلَفُوا فِي لِسَان الْأَخْرَس يُقْطَع ; فَقَالَ الشَّعْبِيّ وَمَالِك وَأَهْل الْمَدِينَة وَالثَّوْرِيّ وَأَهْل الْعِرَاق وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْر وَالنُّعْمَان وَصَاحِبَاهُ : فِيهِ حُكُومَة . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَفِيهِ قَوْلَانِ شَاذَّانِ : أَحَدهمَا : قَوْل النَّخَعِيّ إِنَّ فِيهِ الدِّيَة , وَالْآخَر : قَوْل قَتَادَة إِنَّ فِيهِ ثُلُث الدِّيَة . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَالْقَوْل الْأَوَّل أَصَحّ ; لِأَنَّهُ الْأَقَلّ مِمَّا قِيلَ . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : نَصَّ اللَّه سُبْحَانه عَلَى أُمَّهَات الْأَعْضَاء وَتَرَكَ بَاقِيَهَا لِلْقِيَاسِ عَلَيْهَا ; فَكُلّ عُضْو فِيهِ الْقِصَاص إِذَا أَمْكَنَ وَلَمْ يُخْشَ عَلَيْهِ الْمَوْت , وَكَذَلِكَ كُلّ عُضْو بَطَلَتْ مَنْفَعَته وَبَقِيَتْ صُورَته فَلَا قَوَد فِيهِ , وَفِيهِ الدِّيَة لِعَدَمِ إِمْكَان الْقَوَد فِيهِ .|وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ|فِيهَا ثَمَانِي مَسَائِل </subtitle>الْأُولَى : أَيْ مُقَاصَّة , وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي | الْبَقَرَة | , وَلَا قِصَاص فِي كُلّ مَخُوف وَلَا فِيمَا لَا يُوصَل إِلَى الْقِصَاص فِيهِ إِلَّا بِأَنْ يُخْطِئَ الضَّارِب أَوْ يَزِيد أَوْ يَنْقُص , وَيُقَاد مِنْ جِرَاح الْعَمْد إِذَا كَانَ مِمَّا يُمْكِن الْقَوَد مِنْهُ , وَهَذَا كُلّه فِي الْعَمْد ; فَأَمَّا الْخَطَأ فَالدِّيَة , وَإِذَا كَانَتْ الدِّيَة فِي قَتْل الْخَطَأ فَكَذَلِكَ فِي الْجِرَاح , وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ أَنَس أَنَّ أُخْت الرُّبَيِّع - أُمّ حَارِثَة - جَرَحَتْ إِنْسَانًا فَاخْتَصَمُوا إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( الْقِصَاص الْقِصَاص ) , فَقَالَتْ أُمّ الرُّبَيِّع : يَا رَسُول اللَّه أَيُقْتَصُّ مِنْ فُلَانَة ؟ ! وَاَللَّه لَا يُقْتَصّ مِنْهَا . فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : سُبْحَان اللَّه يَا أُمّ الرُّبَيِّع الْقِصَاص كِتَاب اللَّه ) قَالَتْ : لَا وَاَللَّه لَا يُقْتَصّ مِنْهَا أَبَدًا ; قَالَ فَمَا زَالَتْ حَتَّى قَبِلُوا الدِّيَة ; فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ مِنْ عِبَاد اللَّه مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّه لَأَبَرَّهُ ) . قُلْت : الْمَجْرُوح فِي هَذَا الْحَدِيث جَارِيَة , وَالْجُرْح كَسْر ثَنِيَّتهَا ; أَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ عَنْ أَنَس أَيْضًا أَنَّ عَمَّته كَسَرَتْ ثَنِيَّة جَارِيَة فَقَضَى نَبِيّ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقِصَاصِ ; فَقَالَ أَخُوهَا أَنَس بْن النَّضْر : أَتُكْسَرُ ثَنِيَّة فُلَانَة ؟ لَا وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ لَا تُكْسَر ثَنِيَّتهَا . قَالَ : وَكَانُوا قَبْل ذَلِكَ سَأَلُوا أَهْلهَا الْعَفْو وَالْأَرْش , فَلَمَّا حَلَفَ أَخُوهَا وَهُوَ عَمّ أَنَس - وَهُوَ الشَّهِيد يَوْم أُحُد - رَضِيَ الْقَوْم بِالْعَفْوِ ; فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ مِنْ عِبَاد اللَّه مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّه لَأَبَرَّهُ ) . وَخَرَّجَهُ أَبُو دَاوُد أَيْضًا , وَقَالَ : سَمِعْت أَحْمَد بْن حَنْبَل قِيلَ لَهُ : كَيْفَ يُقْتَصّ مِنْ السِّنّ ؟ قَالَ : تُبْرَدُ . قُلْت : وَلَا تَعَارُض بَيْن الْحَدِيثَيْنِ ; فَإِنَّهُ يَحْتَمِل أَنْ يَكُون كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا حَلَفَ فَبَرَّ اللَّه قَسَمَهُمَا , وَفِي هَذَا مَا يَدُلّ عَلَى كَرَامَات الْأَوْلِيَاء عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه فِي قِصَّة الْخَضِر إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . فَنَسْأَل اللَّه التَّثَبُّت عَلَى الْإِيمَان بِكَرَامَاتِهِمْ وَأَنْ يَنْظِمنَا فِي سِلْكهمْ مِنْ غَيْر مِحْنَة وَلَا فِتْنَة . الثَّانِيَة : أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ قَوْله تَعَالَى : | وَالسِّنّ بِالسِّنِّ | أَنَّهُ فِي الْعَمْد ; فَمَنْ أَصَابَ سِنّ أَحَد عَمْدًا فَفِيهِ الْقِصَاص عَلَى حَدِيث أَنَس , وَاخْتَلَفُوا فِي سَائِر عِظَام الْجَسَد إِذَا كُسِرَتْ عَمْدًا ; فَقَالَ مَالِك : عِظَام الْجَسَد كُلّهَا فِيهَا الْقَوَد إِلَّا مَا كَانَ مَخُوفًا مِثْل الْفَخِذ وَالصُّلْب وَالْمَأْمُومَة وَالْمُنَقِّلَة وَالْهَاشِمَة , فَفِي ذَلِكَ الدِّيَة , وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ : لَا قِصَاص فِي عَظْم يُكْسَر مَا خَلَا السِّنّ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى : | وَالسِّنّ بِالسِّنِّ | وَهُوَ قَوْل اللَّيْث وَالشَّافِعِيّ . قَالَ الشَّافِعِيّ : لَا يَكُون كَسْر كَكَسْرٍ أَبَدًا ; فَهُوَ مَمْنُوع . قَالَ الطَّحَاوِيّ : اِتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا قِصَاص فِي عَظْم الرَّأْس ; فَكَذَلِكَ فِي سَائِر الْعِظَام , وَالْحُجَّة لِمَالِكٍ حَدِيثُ أَنَس فِي السِّنّ وَهِيَ عَظْم ; فَكَذَلِكَ سَائِر الْعِظَام إِلَّا عَظْمًا أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا قِصَاص فِيهِ ; لِخَوْفِ ذَهَاب النَّفْس مِنْهُ . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَمَنْ قَالَ لَا قِصَاص فِي عَظْم فَهُوَ مُخَالِف لِلْحَدِيثِ ; وَالْخُرُوج إِلَى النَّظِير غَيْر جَائِز مَعَ وُجُود الْخَبَر . قُلْت : وَيَدُلّ عَلَى هَذَا أَيْضًا قَوْله تَعَالَى : | فَمَنْ اِعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اِعْتَدَى عَلَيْكُمْ | [ الْبَقَرَة : 194 ] , وَقَوْله : | وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ | [ النَّحْل : 126 ] وَمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ فَغَيْر دَاخِل فِي الْآي , وَاللَّه أَعْلَمُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيق .</p><p>الثَّالِثَة : قَالَ أَبُو عُبَيْد فِي حَدِيث النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمُوضِحَة , وَمَا جَاءَ عَنْ غَيْره فِي الشِّجَاج . قَالَ الْأَصْمَعِيّ وَغَيْره : دَخَلَ كَلَام بَعْضهمْ فِي بَعْض ; أَوَّل الشِّجَاج - الْحَارِصَة وَهِيَ : الَّتِي تَحْرِص الْجِلْد - يَعْنِي الَّتِي تَشُقّهُ قَلِيلًا - وَمِنْهُ قِيلَ : حَرَصَ الْقَصَّار الثَّوْب إِذَا شَقَّهُ ; وَقَدْ يُقَال لَهَا : الْحَرْصَة أَيْضًا . ثُمَّ الْبَاضِعَة - وَهِيَ : الَّتِي تَشُقّ اللَّحْم تَبْضَعهُ بَعْد الْجِلْد . ثُمَّ الْمُتَلَاحِمَة - وَهِيَ : الَّتِي أَخَذَتْ فِي الْجِلْد وَلَمْ تَبْلُغ السِّمْحَاق , وَالسِّمْحَاق : جِلْدَة أَوْ قِشْرَة رَقِيقَة بَيْن اللَّحْم وَالْعَظْم , وَقَالَ الْوَاقِدِيّ : هِيَ عِنْدنَا الْمِلْطَى , وَقَالَ غَيْره : هِيَ الْمِلْطَاة , قَالَ : وَهِيَ الَّتِي جَاءَ فِيهَا الْحَدِيث ( يُقْضَى فِي الْمِلْطَاة بِدَمِهَا ) . ثُمَّ الْمُوضِحَة - وَهِيَ : الَّتِي تَكْشِط عَنْهَا ذَلِكَ الْقِشْر أَوْ تَشُقّ حَتَّى يَبْدُوَ وَضَحُ الْعَظْم , فَتِلْكَ الْمُوضِحَة . قَالَ أَبُو عُبَيْد : وَلَيْسَ فِي شَيْء مِنْ الشِّجَاج قِصَاص إِلَّا فِي الْمُوضِحَة خَاصَّة ; لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْهَا شَيْء لَهُ حَدّ يُنْتَهَى إِلَيْهِ سِوَاهَا , وَأَمَّا غَيْرهَا مِنْ الشِّجَاج فَفِيهَا دِيَتهَا . ثُمَّ الْهَاشِمَة - وَهِيَ الَّتِي تَهْشِم الْعَظْم . ثُمَّ الْمُنَقِّلَة - بِكَسْرِ الْقَاف حَكَاهُ الْجَوْهَرِيّ - وَهِيَ الَّتِي تُنَقِّل الْعَظْم - أَيْ تَكْسِرهُ - حَتَّى يَخْرُج مِنْهَا فَرَاش الْعِظَام مَعَ الدَّوَاء . ثُمَّ الْآمَّة - وَيُقَال لَهَا الْمَأْمُومَة - وَهِيَ الَّتِي تَبْلُغ أُمّ الرَّأْس , يَعْنِي الدِّمَاغ . قَالَ أَبُو عُبَيْد وَيُقَال فِي قَوْله : ( وَيُقْضَى فِي الْمِلْطَاة بِدَمِهَا ) أَنَّهُ إِذَا شَجَّ الشَّاجّ حُكِمَ عَلَيْهِ لِلْمَشْجُوجِ بِمَبْلَغِ الشَّجَّة سَاعَة شُجَّ وَلَا يُسْتَأْنَى بِهَا . قَالَ : وَسَائِر الشِّجَاج عِنْدنَا يُسْتَأْنَى بِهَا حَتَّى يُنْظَر إِلَى مَا يَصِير أَمْرهَا ثُمَّ يُحْكَم فِيهَا حِينَئِذٍ . قَالَ أَبُو عُبَيْد : وَالْأَمْر عِنْدنَا فِي الشِّجَاج كُلّهَا وَالْجِرَاحَات كُلّهَا أَنَّهُ يُسْتَأْنَى بِهَا ; حَدَّثَنَا هُشَيْم عَنْ حُصَيْن قَالَ : قَالَ عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز : مَا دُون الْمُوضِحَة خُدُوش وَفِيهَا صُلْح , وَقَالَ الْحَسَن الْبَصْرِيّ : لَيْسَ فِيمَا دُون الْمُوضِحَة قِصَاص , وَقَالَ مَالِك : الْقِصَاص فِيمَا دُون الْمُوضِحَة الْمِلْطَى وَالدَّامِيَة وَالْبَاضِعَة وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ; وَكَذَلِكَ قَالَ الْكُوفِيُّونَ وَزَادُوا السِّمْحَاق , حَكَاهُ اِبْن الْمُنْذِر , وَقَالَ أَبُو عُبَيْد : الدَّامِيَة الَّتِي تَدْمَى مِنْ غَيْر أَنْ يَسِيل مِنْهَا دَم , وَالدَّامِعَة : أَنْ يَسِيل مِنْهَا دَم , وَلَيْسَ فِيمَا دُون الْمُوضِحَة قِصَاص , وَقَالَ الْجَوْهَرِيّ : وَالدَّامِيَة الشَّجَّة الَّتِي تَدْمَى وَلَا تَسِيل . وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : الدَّامِيَة هِيَ الَّتِي تُسِيل الدَّم , وَلَا قِصَاص فِيمَا بَعْد الْمُوضِحَة , مِنْ الْهَاشِمَة لِلْعَظْمِ , وَالْمُنَقِّلَة - عَلَى خِلَاف فِيهَا خَاصَّة - وَالْآمَّة هِيَ الْبَالِغَة إِلَى أُمّ الرَّأْس , وَالدَّامِغَة الْخَارِقَة لِخَرِيطَةِ الدِّمَاغ , وَفِي هَاشِمَة الْجَسَد الْقِصَاص , إِلَّا مَا هُوَ مَخُوف كَالْفَخِذِ وَشِبْهه , وَأَمَّا هَاشِمَة الرَّأْس فَقَالَ اِبْن الْقَاسِم : لَا قَوَد فِيهَا ; لِأَنَّهَا لَا بُدّ تَعُود مُنَقِّلَة , وَقَالَ أَشْهَبُ : فِيهَا الْقِصَاص , إِلَّا أَنْ تُنَقِّل فَتَصِير مُنَقِّلَة لَا قَوَد فِيهَا , وَأَمَّا الْأَطْرَاف فَيَجِب الْقِصَاص فِي جَمِيع الْمَفَاصِل إِلَّا الْمَخُوف مِنْهَا , وَفِي مَعْنَى الْمَفَاصِل أَبْعَاض الْمَارِن وَالْأُذُنَيْنِ وَالذَّكَر وَالْأَجْفَان وَالشَّفَتَيْنِ ; لِأَنَّهَا تَقْبَل التَّقْدِير , وَفِي اللِّسَان رِوَايَتَانِ , وَالْقِصَاص فِي كَسْر الْعِظَام , إِلَّا مَا كَانَ مُتْلِفًا كَعِظَامِ الصَّدْر وَالْعُنُق وَالصُّلْب وَالْفَخِذ وَشِبْهه , وَفِي كَسْر عِظَام الْعَضُد الْقِصَاص , وَقَضَى أَبُو بَكْر بْن مُحَمَّد بْن عَمْرو بْن حَزْم فِي رَجُل كَسَرَ فَخِذ رَجُل أَنْ يُكْسَر فَخِذه ; وَفَعَلَ ذَلِكَ عَبْد الْعَزِيز بْن عَبْد اللَّه بْن خَالِد بْن أَسِيد بِمَكَّة , وَرُوِيَ عَنْ عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز أَنَّهُ فَعَلَهُ ; وَهَذَا مَذْهَب مَالِك عَلَى مَا ذَكَرْنَا , وَقَالَ : إِنَّهُ الْأَمْر الْمُجْمَع عَلَيْهِ عِنْدهمْ , وَالْمَعْمُول بِهِ فِي بِلَادنَا فِي الرَّجُل يَضْرِب الرَّجُل فَيَتَّقِيه بِيَدِهِ فَيَكْسِرهَا يُقَاد مِنْهُ . الرَّابِعَة : قَالَ الْعُلَمَاء : الشِّجَاج فِي الرَّأْس , وَالْجِرَاح فِي الْبَدَن . وَأَجْمَعَ أَهْل الْعِلْم عَلَى أَنَّ فِيمَا دُون الْمُوضِحَة أَرْش فِيمَا ذَكَرَ اِبْن الْمُنْذِر ; وَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ الْأَرْش وَمَا دُون الْمُوضِحَة شِجَاج خَمْس : الدَّامِيَة وَالدَّامِعَة وَالْبَاضِعَة وَالْمُتَلَاحِمَة وَالسِّمْحَاق ; فَقَالَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَأَصْحَاب الرَّأْي فِي الدَّامِيَة حُكُومَة , وَفِي الْبَاضِعَة حُكُومَة , وَفِي الْمُتَلَاحِمَة حُكُومَة , وَذَكَرَ عَبْد الرَّزَّاق عَنْ زَيْد بْن ثَابِت قَالَ : فِي الدَّامِيَة بَعِير , وَفِي الْبَاضِعَة بَعِيرَانِ , وَفِي الْمُتَلَاحِمَة ثَلَاثَة أَبْعِرَة مِنْ الْإِبِل , وَفِي السِّمْحَاق أَرْبَع , وَفِي الْمُوضِحَة خَمْس , وَفِي الْهَاشِمَة عَشْر , وَفِي الْمُنَقِّلَة خَمْس عَشْرَة , وَفِي الْمَأْمُومَة ثُلُث الدِّيَة , وَفِي الرَّجُل يُضْرَب حَتَّى يَذْهَب عَقْله الدِّيَة كَامِلَة , أَوْ يُضْرَب حَتَّى يُغَنَّ وَلَا يُفْهِم الدِّيَة كَامِلَة , أَوْ حَتَّى يُبَحّ وَلَا يُفْهِم الدِّيَة كَامِلَة , وَفِي جَفْن الْعَيْن رُبُع الدِّيَة , وَفِي حَلَمَة الثَّدْي رُبُع الدِّيَة . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَرُوِيَ عَنْ عَلِيّ فِي السِّمْحَاق مِثْل قَوْل زَيْد , وَرُوِيَ عَنْ عُمَر وَعُثْمَان أَنَّهُمَا قَالَا : فِيهَا نِصْف الْمُوضِحَة , وَقَالَ الْحَسَن الْبَصْرِيّ وَعُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز وَالنَّخَعِيّ فِيهَا حُكُومَة ; وَكَذَلِكَ قَالَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد , وَلَا يَخْتَلِف الْعُلَمَاء أَنَّ الْمُوضِحَة فِيهَا خَمْس مِنْ الْإِبِل ; عَلَى مَا فِي حَدِيث عَمْرو بْن حَزْم , وَفِيهِ : وَفِي الْمُوضِحَة خَمْس , وَأَجْمَعَ أَهْل الْعِلْم عَلَى أَنَّ الْمُوضِحَة تَكُون فِي الرَّأْس وَالْوَجْه , وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْضِيل مُوضِحَة الْوَجْه عَلَى مُوضِحَة الرَّأْس ; فَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْر وَعُمَر أَنَّهُمَا سَوَاء , وَقَالَ بِقَوْلِهِمَا جَمَاعَة مِنْ التَّابِعِينَ ; وَبِهِ يَقُول الشَّافِعِيّ وَإِسْحَاق , وَرُوِيَ عَنْ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب تَضْعِيف مُوضِحَة الْوَجْه عَلَى مُوضِحَة الرَّأْس , وَقَالَ أَحْمَد : مُوضِحَة الْوَجْه أَحْرَى أَنْ يُزَاد فِيهَا , وَقَالَ مَالِك : الْمَأْمُومَة وَالْمُنَقِّلَة وَالْمُوضِحَة لَا تَكُون إِلَّا فِي الرَّأْس وَالْوَجْه , وَلَا تَكُون الْمَأْمُومَة إِلَّا فِي الرَّأْس خَاصَّة إِذَا وَصَلَ إِلَى الدِّمَاغ , قَالَ : وَالْمُوضِحَة مَا تَكُون فِي جُمْجُمَة الرَّأْس , وَمَا دُونهَا فَهُوَ مِنْ الْعُنُق لَيْسَ فِيهِ مُوضِحَة . قَالَ مَالِك : وَالْأَنْف لَيْسَ مِنْ الرَّأْس وَلَيْسَ فِيهِ مُوضِحَة , وَكَذَلِكَ اللَّحْي الْأَسْفَل لَيْسَ فِيهِ مُوضِحَة , وَقَدْ اِخْتَلَفُوا فِي الْمُوضِحَة فِي غَيْر الرَّأْس وَالْوَجْه ; فَقَالَ أَشْهَبُ وَابْن الْقَاسِم : لَيْسَ فِي مُوضِحَة الْجَسَد وَمُنَقِّلَته وَمَأْمُومَته إِلَّا الِاجْتِهَاد , وَلَيْسَ فِيهَا أَرْش مَعْلُوم . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : هَذَا قَوْل مَالِك وَالثَّوْرِيّ وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاق , وَبِهِ نَقُول . وَرُوِيَ عَنْ عَطَاء الْخُرَاسَانِيّ أَنَّ الْمُوضِحَة إِذَا كَانَتْ فِي جَسَد الْإِنْسَان فِيهَا خَمْس وَعِشْرُونَ دِينَارًا . قَالَ أَبُو عُمَر : وَاتَّفَقَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَصْحَابهمَا أَنَّ مَنْ شَجَّ رَجُلًا مَأْمُومَتَيْنِ أَوْ مُوضِحَتَيْنِ أَوْ ثَلَاث مَأْمُومَات أَوْ مُوضِحَات أَوْ أَكْثَر فِي ضَرْبَة وَاحِدَة أَنَّ فِيهِنَّ كُلّهنَّ - وَإِنْ اِنْخَرَقَتْ فَصَارَتْ وَاحِدَة - دِيَة كَامِلَة , وَأَمَّا الْهَاشِمَة فَلَا دِيَة فِيهَا عِنْدنَا بَلْ حُكُومَة . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَلَمْ أَجِد فِي كُتُب الْمَدَنِيِّينَ ذِكْر الْهَاشِمَة , بَلْ قَدْ قَالَ مَالِك فِيمَنْ كَسَرَ أَنْف رَجُل إِنْ كَانَ خَطَأ فَفِيهِ الِاجْتِهَاد , وَكَانَ الْحَسَن الْبَصْرِيّ لَا يُوَقِّت فِي الْهَاشِمَة شَيْئًا . وَقَالَ أَبُو ثَوْر : إِنْ اِخْتَلَفُوا فِيهِ فَفِيهَا حُكُومَة . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : النَّظَر يَدُلّ عَل

وَقَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ

أَيْ جَعَلْنَا عِيسَى يَقْفُو آثَارهمْ , أَيْ آثَار النَّبِيِّينَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا|مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ|يَعْنِي التَّوْرَاة ; فَإِنَّهُ رَأَى التَّوْرَاة حَقًّا , وَرَأَى وُجُوب الْعَمَل بِهَا إِلَى أَنْ يَأْتِيَ نَاسِخ . | مُصَدِّقًا | نُصِبَ عَلَى الْحَال مِنْ عِيسَى .|وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ|فِي مَوْضِع رَفْع بِالِابْتِدَاءِ . | وَنُور | عُطِفَ عَلَيْهِ . | وَمُصَدِّقًا | فِيهِ وَجْهَانِ ; يَجُوز أَنْ يَكُون لِعِيسَى وَتَعْطِفهُ عَلَى مُصَدِّقًا الْأَوَّل , وَيَجُوز أَنْ يَكُون حَالًا مِنْ الْإِنْجِيل , وَيَكُون التَّقْدِير : وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيل مُسْتَقِرًّا فِيهِ هُدًى وَنُور وَمُصَدِّقًا|وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ|عُطِفَ عَلَى | مُصَدِّقًا | أَيْ هَادِيًا وَوَاعِظًا | لِلْمُتَّقِينَ | وَخَصَّهُمْ لِأَنَّهُمْ الْمُنْتَفِعُونَ بِهِمَا , وَيَجُوز رَفْعهمَا عَلَى الْعَطْف عَلَى قَوْله : | فِيهِ هُدًى وَنُور | .

وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ

قَرَأَ الْأَعْمَش وَحَمْزَة بِنَصْبِ الْفِعْل عَلَى أَنْ تَكُون اللَّام لَام كَيْ , وَالْبَاقُونَ بِالْجَزْمِ عَلَى الْأَمْر ; فَعَلَى الْأَوَّل تَكُون اللَّام مُتَعَلِّقَة بِقَوْلِهِ : | وَآتَيْنَاهُ | فَلَا يَجُوز الْوَقْف ; أَيْ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيل لِيَحْكُم أَهْله بِمَا أَنْزَلَ اللَّه فِيهِ , وَمَنْ قَرَأَهُ عَلَى الْأَمْر فَهُوَ كَقَوْلِهِ : | وَأَنْ اُحْكُمْ بَيْنهمْ | [ الْمَائِدَة : 49 ] فَهُوَ إِلْزَام مُسْتَأْنَف يُبْتَدَأ بِهِ , أَيْ لِيَحْكُم أَهْل الْإِنْجِيل أَيْ فِي ذَلِكَ الْوَقْت , فَأَمَّا الْآن فَهُوَ مَنْسُوخ , وَقِيلَ : هَذَا أَمْر لِلنَّصَارَى الْآن بِالْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَإِنَّ فِي الْإِنْجِيل وُجُوب الْإِيمَان بِهِ , وَالنَّسْخ إِنَّمَا يُتَصَوَّر فِي الْفُرُوع لَا فِي الْأُصُول . قَالَ مَكِّيّ : وَالِاخْتِيَار الْجَزْم ; لِأَنَّ الْجَمَاعَة عَلَيْهِ ; وَلِأَنَّ مَا بَعْده مِنْ الْوَعِيد وَالتَّهْدِيد يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ إِلْزَام مِنْ اللَّه تَعَالَى لِأَهْلِ الْإِنْجِيل . قَالَ النَّحَّاس : وَالصَّوَاب عِنْدِي أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ حَسَنَتَانِ ; لِأَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يُنَزِّل كِتَابًا إِلَّا لِيُعْمَل بِمَا فِيهِ , وَأَمَرَ بِالْعَمَلِ بِمَا فِيهِ ; فَصَحَّتَا جَمِيعًا .|وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ|نَزَلَتْ كُلّهَا فِي الْكُفَّار ; ثَبَتَ ذَلِكَ فِي صَحِيح مُسْلِم مِنْ حَدِيث الْبَرَاء , وَقَدْ تَقَدَّمَ , وَعَلَى هَذَا الْمُعْظَمُ . فَأَمَّا الْمُسْلِم فَلَا يَكْفُر وَإِنْ اِرْتَكَبَ كَبِيرَة . وَقِيلَ : فِيهِ إِضْمَار ; أَيْ وَمَنْ لَمْ يَحْكُم بِمَا أَنْزَلَ اللَّه رَدًّا لِلْقُرْآنِ , وَجَحْدًا لِقَوْلِ الرَّسُول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فَهُوَ كَافِر ; قَالَهُ اِبْن عَبَّاس وَمُجَاهِد , فَالْآيَة عَامَّة عَلَى هَذَا . قَالَ اِبْن مَسْعُود وَالْحَسَن : هِيَ عَامَّة فِي كُلّ مَنْ لَمْ يَحْكُم بِمَا أَنْزَلَ اللَّه مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُود وَالْكُفَّار أَيْ مُعْتَقِدًا ذَلِكَ وَمُسْتَحِلًّا لَهُ ; فَأَمَّا مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَهُوَ مُعْتَقِد أَنَّهُ رَاكِب مُحَرَّمٍ فَهُوَ مِنْ فُسَّاق الْمُسْلِمِينَ , وَأَمْره إِلَى اللَّه تَعَالَى إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ , وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ , وَقَالَ اِبْن عَبَّاس فِي رِوَايَة : وَمَنْ لَمْ يَحْكُم بِمَا أَنْزَلَ اللَّه فَقَدْ فَعَلَ فِعْلًا يُضَاهِي أَفْعَال الْكُفَّار , وَقِيلَ : أَيْ وَمَنْ لَمْ يَحْكُم بِجَمِيعِ مَا أَنْزَلَ اللَّه فَهُوَ كَافِر ; فَأَمَّا مَنْ حَكَمَ بِالتَّوْحِيدِ وَلَمْ يَحْكُم بِبَعْضِ الشَّرَائِع فَلَا يَدْخُل فِي هَذِهِ الْآيَة , وَالصَّحِيح الْأَوَّل , إِلَّا أَنَّ الشَّعْبِيّ قَالَ : هِيَ فِي الْيَهُود خَاصَّة , وَاخْتَارَهُ النَّحَّاس ; قَالَ : وَيَدُلّ عَلَى ذَلِكَ ثَلَاثَة أَشْيَاء ; مِنْهَا أَنَّ الْيَهُود قَدْ ذُكِرُوا قَبْل هَذَا فِي قَوْله : | لِلَّذِينَ هَادُوا | ; فَعَادَ الضَّمِير عَلَيْهِمْ , وَمِنْهَا أَنَّ سِيَاق الْكَلَام يَدُلّ عَلَى ذَلِكَ ; أَلَا تَرَى أَنَّ بَعْده | وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ | فَهَذَا الضَّمِير لِلْيَهُودِ بِإِجْمَاعٍ ; وَأَيْضًا فَإِنَّ الْيَهُود هُمْ الَّذِينَ أَنْكَرُوا الرَّجْم وَالْقِصَاص . فَإِنْ قَالَ قَائِل : | مَنْ | إِذَا كَانَتْ لِلْمُجَازَاةِ فَهِيَ عَامَّة إِلَّا أَنْ يَقَع دَلِيل عَلَى تَخْصِيصهَا ؟ قِيلَ لَهُ : | مَنْ | هُنَا بِمَعْنَى الَّذِي مَعَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْأَدِلَّة ; وَالتَّقْدِير : وَالْيَهُود الَّذِينَ لَمْ يَحْكُمُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّه فَأُولَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ ; فَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ مَا قِيلَ فِي هَذَا ; وَيُرْوَى أَنَّ حُذَيْفَة سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَات أَهِيَ فِي بَنِي إِسْرَائِيل ؟ قَالَ : نَعَمْ هِيَ فِيهِمْ , وَلَتَسْلُكُنَّ سَبِيلهمْ حَذْو النَّعْل بِالنَّعْلِ . وَقِيلَ : | الْكَافِرُونَ | لِلْمُسْلِمِينَ , و | الظَّالِمُونَ | لِلْيَهُودِ , و | الْفَاسِقُونَ | لِلنَّصَارَى ; وَهَذَا اِخْتِيَار أَبِي بَكْر بْن الْعَرَبِيّ , قَالَ : لِأَنَّهُ ظَاهِر الْآيَات , وَهُوَ اِخْتِيَار اِبْن عَبَّاس وَجَابِر بْن زَيْد وَابْن أَبِي زَائِدَة وَابْن شُبْرُمَة وَالشَّعْبِيّ أَيْضًا . قَالَ طَاوُس وَغَيْره : لَيْسَ بِكُفْرٍ يَنْقُل عَنْ الْمِلَّة , وَلَكِنَّهُ كُفْر دُون كُفْر , وَهَذَا يَخْتَلِف إِنْ حَكَمَ بِمَا عِنْده عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْد اللَّه , فَهُوَ تَبْدِيل لَهُ يُوجِب الْكُفْر ; وَإِنْ حَكَمَ بِهِ هَوًى وَمَعْصِيَة فَهُوَ ذَنْب تُدْرِكهُ الْمَغْفِرَة عَلَى أَصْل أَهْل السُّنَّة فِي الْغُفْرَان لِلْمُذْنِبِينَ . قَالَ الْقُشَيْرِيّ : وَمَذْهَب الْخَوَارِج أَنَّ مَنْ اِرْتَشَى وَحَكَمَ بِغَيْرِ حُكْم اللَّه فَهُوَ كَافِر , وَعُزِيَ هَذَا إِلَى الْحَسَن وَالسُّدِّيّ , وَقَالَ الْحَسَن أَيْضًا : أَخَذَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَلَى الْحُكَّام ثَلَاثَة أَشْيَاء : أَلَّا يَتَّبِعُوا الْهَوَى , وَأَلَّا يَخْشَوْا النَّاس وَيَخْشَوْهُ , وَأَلَّا يَشْتَرُوا بِآيَاتِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا .

وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً

الْخِطَاب لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ | الْكِتَاب | الْقُرْآن|بِالْحَقِّ|أَيْ هُوَ بِالْأَمْرِ الْحَقّ|مُصَدِّقًا|حَال|لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ|أَيْ مِنْ جِنْس الْكُتُب|وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ|أَيْ عَالِيًا عَلَيْهِ وَمُرْتَفِعًا , وَهَذَا يَدُلّ عَلَى تَأْوِيل مَنْ يَقُول بِالتَّفْضِيلِ أَيْ فِي كَثْرَة الثَّوَاب , عَلَى مَا تَقَدَّمَتْ إِلَيْهِ الْإِشَارَة فِي | الْفَاتِحَة | وَهُوَ اِخْتِيَار اِبْن الْحَصَّار فِي كِتَاب شَرْح السُّنَّة لَهُ , وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا ذَكَرَهُ فِي كِتَابنَا فِي شَرْح الْأَسْمَاء الْحُسْنَى وَالْحَمْد لِلَّهِ , وَقَالَ قَتَادَة : الْمُهَيْمِن مَعْنَاهُ الشَّاهِد , وَقِيلَ : الْحَافِظ , وَقَالَ الْحَسَن : الْمُصَدِّق ; وَمِنْهُ قَوْل الشَّاعِر : <br>إِنَّ الْكِتَاب مُهَيْمِن لِنَبِيِّنَا .......... وَالْحَقّ يَعْرِفهُ ذَوُو الْأَلْبَابِ <br>وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : | وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ | أَيْ مُؤْتَمَنًا عَلَيْهِ . قَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر : الْقُرْآن مُؤْتَمَن عَلَى مَا قَبْله مِنْ الْكُتُب , وَعَنْ اِبْن عَبَّاس وَالْحَسَن أَيْضًا : الْمُهَيْمِن الْأَمِين . قَالَ الْمُبَرِّد : أَصْله مُؤَيْمِن أُبْدِلَ مِنْ الْهَمْزَة هَاء ; كَمَا قِيلَ فِي أَرَقْت الْمَاء هَرَقْت , وَقَالَهُ الزَّجَّاج أَيْضًا وَأَبُو عَلِيّ , وَقَدْ صُرِفَ فَقِيلَ : هَيْمَنَ يُهَيْمِن هَيْمَنَة , وَهُوَ مُهَيْمِنٌ بِمَعْنَى كَانَ أَمِينًا . الْجَوْهَرِيّ : هُوَ مَنْ آمَنَ غَيْره مِنْ الْخَوْف ; وَأَصْله أَأْمَنَ فَهُوَ مُؤَأْمَنٌ بِهَمْزَتَيْنِ , قُلِبَتْ الْهَمْزَة الثَّانِيَة يَاء كَرَاهَة لِاجْتِمَاعِهِمَا فَصَارَ مُؤَيْمَن , ثُمَّ صُيِّرَتْ الْأُولَى هَاء كَمَا قَالُوا : هَرَاقَ الْمَاء وَأَرَاقَهُ ; يُقَال مِنْهُ : هَيْمَنَ عَلَى الشَّيْء يُهَيْمِن إِذَا كَانَ لَهُ حَافِظًا , فَهُوَ مُهَيْمِن ; عَنْ أَبِي عُبَيْد , وَقَرَأَ مُجَاهِد وَابْن مُحَيْصِن : | وَمُهَيْمَنًا عَلَيْهِ | بِفَتْحِ الْمِيم . قَالَ مُجَاهِد : أَيْ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُؤْتَمَن عَلَى الْقُرْآن .|فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ|يُوجِب الْحُكْم ; فَقِيلَ : هَذَا نَسْخ لِلتَّخْيِيرِ فِي قَوْله : | فَاحْكُمْ بَيْنهمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ | وَقِيلَ : لَيْسَ هَذَا وُجُوبًا , وَالْمَعْنَى : فَاحْكُمْ بَيْنهمْ إِنْ شِئْت ; إِذْ لَا يَجِب عَلَيْنَا الْحُكْم بَيْنهمْ إِذَا لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْل الذِّمَّة , وَفِي أَهْل الذِّمَّة تَرَدُّد وَقَدْ مَضَى الْكَلَام فِيهِ , وَقِيلَ : أَرَادَ فَاحْكُمْ بَيْن الْخَلْق ; فَهَذَا كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ .|وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ|يَعْنِي لَا تَعْمَل بِأَهْوَائِهِمْ وَمُرَادهمْ عَلَى مَا جَاءَك مِنْ الْحَقّ ; يَعْنِي لَا تَتْرُك الْحُكْم بِمَا بَيَّنَ اللَّه تَعَالَى مِنْ الْقُرْآن مِنْ بَيَان الْحَقّ وَبَيَان الْأَحْكَام . وَالْأَهْوَاء جَمْع هَوًى ; وَلَا يُجْمَع أَهْوِيَة ; وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي | الْبَقَرَة | . فَنَهَاهُ عَنْ أَنْ يَتَّبِعهُمْ فِيمَا يُرِيدُونَهُ ; وَهُوَ يَدُلّ عَلَى بُطْلَان قَوْل مَنْ قَالَ : تُقَوَّم الْخَمْر عَلَى مَنْ أَتْلَفَهَا عَلَيْهِمْ ; لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مَالًا لَهُمْ فَتَكُون مَضْمُونَة عَلَى مُتْلِفهَا ; لِأَنَّ إِيجَاب ضَمَانهَا عَلَى مُتْلِفهَا حُكْم بِمُوجَبِ أَهْوَاء الْيَهُود ; وَقَدْ أُمِرْنَا بِخِلَافِ ذَلِكَ .|عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ|عَلَى مَا جَاءَك|لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا|يَدُلّ عَلَى عَدَم التَّعَلُّق بِشَرَائِع الْأَوَّلِينَ . وَالشِّرْعَة وَالشَّرِيعَة الطَّرِيقَة الظَّاهِرَة الَّتِي يُتَوَصَّل بِهَا إِلَى النَّجَاة , وَالشَّرِيعَة فِي اللُّغَة : الطَّرِيق الَّذِي يُتَوَصَّل مِنْهُ إِلَى الْمَاء , وَالشَّرِيعَة مَا شَرَعَ اللَّه لِعِبَادِهِ مِنْ الدِّين ; وَقَدْ شَرَعَ لَهُمْ يَشْرَع شَرْعًا أَيْ سَنَّ , وَالشَّارِع الطَّرِيق الْأَعْظَم , وَالشِّرْعَة أَيْضًا الْوَتَر , وَالْجَمْع شِرَعٌ وَشِرَاعٌ جَمْع الْجَمْع ; عَنْ أَبِي عُبَيْد ; فَهُوَ مُشْتَرَك , وَالْمِنْهَاج الطَّرِيق الْمُسْتَمِرّ , وَهُوَ النَّهْج وَالْمَنْهَج , أَيْ الْبَيِّن ; قَالَ الرَّاجِز : <br>مَنْ يَكُ ذَا شَكٍّ فَهَذَا فَلْجُ .......... مَاءٌ رَوَاءٌ وَطَرِيقٌ نَهْجُ <br>وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس مُحَمَّد بْن يَزِيد : الشَّرِيعَة اِبْتِدَاء الطَّرِيق ; الْمِنْهَاج الطَّرِيق الْمُسْتَمِرّ , وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس وَالْحَسَن وَغَيْرهمَا | شِرْعَة وَمِنْهَاجًا | سُنَّة وَسَبِيلًا , وَمَعْنَى الْآيَة أَنَّهُ جَعَلَ التَّوْرَاة لِأَهْلِهَا ; وَالْإِنْجِيل لِأَهْلِهِ ; وَالْقُرْآن لِأَهْلِهِ ; وَهَذَا فِي الشَّرَائِع وَالْعِبَادَات ; وَالْأَصْل التَّوْحِيد لَا اِخْتِلَاف فِيهِ ; رُوِيَ مَعْنَى ذَلِكَ عَنْ قَتَادَة , وَقَالَ مُجَاهِد : الشِّرْعَة وَالْمِنْهَاج دِين مُحَمَّد عَلَيْهِ السَّلَام ; وَقَدْ نُسِخَ بِهِ كُلّ مَا سِوَاهُ .|وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً|أَيْ لَجَعَلَ شَرِيعَتكُمْ وَاحِدَة فَكُنْتُمْ عَلَى الْحَقّ ; فَبَيَّنَ أَنَّهُ أَرَادَ بِالِاخْتِلَافِ إِيمَان قَوْم وَكُفْر قَوْم .|وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ|فِي الْكَلَام حَذْف تَتَعَلَّق بِهِ لَام كَيْ ; أَيْ وَلَكِنْ جَعَلَ شَرَائِعكُمْ مُخْتَلِفَة لِيَخْتَبِرَكُمْ ; وَالِابْتِلَاء الِاخْتِبَار .|فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ|أَيْ سَارِعُوا إِلَى الطَّاعَات ; وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ تَقْدِيم الْوَاجِبَات أَفْضَلُ مِنْ تَأْخِيرهَا , وَذَلِكَ لَا اِخْتِلَاف فِيهِ فِي الْعِبَادَات كُلّهَا إِلَّا فِي الصَّلَاة فِي أَوَّل الْوَقْت ; فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَة يَرَى أَنَّ الْأَوْلَى تَأْخِيرهَا , وَعُمُوم الْآيَة دَلِيل عَلَيْهِ ; قَالَهُ الْكِيَا , وَفِيهِ دَلِيل عَلَى أَنَّ الصَّوْم فِي السَّفَر أَوْلَى مِنْ الْفِطْر , وَقَدْ تَقَدَّمَ جَمِيع هَذَا فِي | الْبَقَرَة ||إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ|أَيْ بِمَا اِخْتَلَفْتُمْ فِيهِ , وَتَزُول الشُّكُوك .

وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِ

تَقَدَّمَ الْكَلَام فِيهَا , وَأَنَّهَا نَاسِخَة لِلتَّخْيِيرِ . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهَذِهِ دَعْوَى عَرِيضَة ; فَإِنَّ شُرُوط النَّسْخ أَرْبَعَة : مِنْهَا مَعْرِفَة التَّارِيخ بِتَحْصِيلِ الْمُتَقَدِّم وَالْمُتَأَخِّر , وَهَذَا مَجْهُول مِنْ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ ; فَامْتَنَعَ أَنْ يُدَّعَى أَنَّ وَاحِدَة مِنْهُمَا نَاسِخَة لِلْأُخْرَى , وَبَقِيَ الْأَمْر عَلَى حَاله . قُلْت : قَدْ ذَكَرْنَا عَنْ أَبِي جَعْفَر النَّحَّاس أَنَّ هَذِهِ الْآيَة مُتَأَخِّرَة فِي النُّزُول ; فَتَكُون نَاسِخَة إِلَّا أَنْ يُقَدَّر فِي الْكَلَام | وَأَنْ اُحْكُمْ بَيْنهمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّه | إِنْ شِئْت ; لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْر التَّخْيِير لَهُ , فَآخِر الْكَلَام حُذِفَ التَّخْيِيرُ مِنْهُ لِدَلَالَةِ الْأَوَّل عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ مَعْطُوف عَلَيْهِ , فَحُكْم التَّخْيِير كَحُكْمِ الْمَعْطُوف عَلَيْهِ , فَهُمَا شَرِيكَانِ وَلَيْسَ الْآخَر بِمُنْقَطِعٍ مِمَّا قَبْله ; إِذْ لَا مَعْنَى لِذَلِكَ وَلَا يَصِحّ , فَلَا بُدّ مِنْ أَنْ يَكُون قَوْله : | وَأَنْ اُحْكُمْ بَيْنهمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّه | مَعْطُوفًا عَلَى مَا قَبْله مِنْ قَوْله : | وَإِنْ حَكَمْت فَاحْكُمْ بَيْنهمْ بِالْقِسْطِ | وَمِنْ قَوْله : | فَإِنْ جَاءُوك فَاحْكُمْ بَيْنهمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ | فَمَعْنَى | وَأَنْ اُحْكُمْ بَيْنهمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّه | أَيْ اُحْكُمْ بِذَلِكَ إِنْ حَكَمْت وَاخْتَرْت الْحُكْم ; فَهُوَ كُلّه مُحْكَم غَيْر مَنْسُوخ , لِأَنَّ النَّاسِخ لَا يَكُون مُرْتَبِطًا بِالْمَنْسُوخِ مَعْطُوفًا عَلَيْهِ , فَالتَّخْيِير لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ مُحْكَم غَيْر مَنْسُوخ , قَالَهُ مَكِّيّ رَحِمَهُ اللَّه . | وَأَنْ اُحْكُمْ | فِي مَوْضِع نَصْب عَطْفًا عَلَى الْكِتَاب ; أَيْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْك أَنْ اُحْكُمْ بَيْنهمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّه , أَيْ بِحُكْمِ اللَّه الَّذِي أَنْزَلَهُ إِلَيْك فِي كِتَابه .|وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ|| أَنْ | بَدَلٌ مِنْ الْهَاء وَالْمِيم فِي | وَاحْذَرْهُمْ | وَهُوَ بَدَل اِشْتِمَال . أَوْ مَفْعُول مِنْ أَجْله ; أَيْ مِنْ أَجْل أَنْ يَفْتِنُوك , وَعَنْ اِبْن إِسْحَاق قَالَ اِبْن عَبَّاس : اِجْتَمَعَ قَوْم مِنْ الْأَحْبَار مِنْهُمْ اِبْن صُورِيَّا وَكَعْب بْن أَسَد وَابْن صَلُوبَا وَشَأْس بْن عَدِيّ وَقَالُوا : اِذْهَبُوا بِنَا إِلَى مُحَمَّد فَلَعَلَّنَا نَفْتِنهُ عَنْ دِينه فَإِنَّمَا هُوَ بَشَر ; فَأَتَوْهُ فَقَالُوا : قَدْ عَرَفْت يَا مُحَمَّد أَنَّا أَحْبَار الْيَهُود , وَإِنْ اِتَّبَعْنَاك لَمْ يُخَالِفنَا أَحَد مِنْ الْيَهُود , وَإِنَّ بَيْننَا وَبَيْن قَوْم خُصُومَة فَنُحَاكِمهُمْ إِلَيْك , فَاقْضِ لَنَا عَلَيْهِمْ حَتَّى نُؤْمِن بِك ; فَأَبَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة , وَأَصْل الْفِتْنَة الِاخْتِبَار حَسْبَمَا تَقَدَّمَ , ثُمَّ يَخْتَلِف مَعْنَاهَا ; فَقَوْله تَعَالَى هُنَا | يَفْتِنُوك | مَعْنَاهُ يَصُدُّوك وَيَرُدُّوك ; وَتَكُون الْفِتْنَة بِمَعْنَى الشِّرْك ; وَمِنْهُ قَوْله : | وَالْفِتْنَة أَكْبَرُ مِنْ الْقَتْل | [ الْبَقَرَة : 217 ] وَقَوْله : | وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُون فِتْنَة | [ الْأَنْفَال : 39 ] , وَتَكُون الْفِتْنَة بِمَعْنَى الْعِبْرَة ; كَقَوْلِهِ : | لَا تَجْعَلنَا فِتْنَة لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ | [ يُونُس : 85 ] . و | لَا تَجْعَلنَا فِتْنَة لِلَّذِينَ كَفَرُوا | [ الْمُمْتَحِنَة : 5 ] , وَتَكُون الْفِتْنَة الصَّدّ عَنْ السَّبِيل كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَة , وَتَكْرِير | وَأَنْ اُحْكُمْ بَيْنهمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّه | لِلتَّأْكِيدِ , أَوْ هِيَ أَحْوَال وَأَحْكَام أَمَرَهُ أَنْ يَحْكُم فِي كُلّ وَاحِد بِمَا أَنْزَلَ اللَّه , وَفِي الْآيَة دَلِيل عَلَى جَوَاز النِّسْيَان عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; لِأَنَّهُ قَالَ : | أَنْ يَفْتِنُوك | وَإِنَّمَا يَكُون ذَلِكَ عَنْ نِسْيَان لَا عَنْ تَعَمُّد . وَقِيلَ : الْخِطَاب لَهُ وَالْمُرَاد غَيْره , وَسَيَأْتِي بَيَان هَذَا فِي | الْأَنْعَام | إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى|عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ|عَنْ كُلّ مَا أَنْزَلَ اللَّه إِلَيْك , وَالْبَعْض يُسْتَعْمَل بِمَعْنَى الْكُلّ قَالَ الشَّاعِر : <br>أَوْ يَعْتَبِطَ بَعْضَ النُّفُوسِ حِمَامُهَا <br>وَيُرْوَى أَوْ يَرْتَبِط . أَرَادَ كُلّ النُّفُوس ; وَعَلَيْهِ حَمَلُوا قَوْله تَعَالَى : | وَلِأُبَيِّن لَكُمْ بَعْض الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ | [ الزُّخْرُف : 63 ] . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَالصَّحِيح أَنَّ | بَعْض | عَلَى حَالهَا فِي هَذِهِ الْآيَة , وَأَنَّ الْمُرَاد بِهِ الرَّجْم أَوْ الْحُكْم الَّذِي كَانُوا أَرَادُوهُ وَلَمْ يَقْصِدُوا أَنْ يَفْتِنُوهُ عَنْ الْكُلّ , وَاللَّه أَعْلَمُ .|فَإِنْ تَوَلَّوْا|أَيْ فَإِنْ أَبَوْا حُكْمك وَأَعْرَضُوا عَنْهُ|فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ|أَيْ يُعَذِّبهُمْ بِالْجَلَاءِ وَالْجِزْيَة وَالْقَتْل , وَكَذَلِكَ كَانَ , وَإِنَّمَا قَالَ : | بِبَعْضِ | لِأَنَّ الْمُجَازَاة بِالْبَعْضِ كَانَتْ كَافِيَة فِي التَّدْمِير عَلَيْهِمْ .|وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ|يَعْنِي الْيَهُود .

أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ

| أَفَحُكْم | نُصِبَ بـ | يَبْغُونَ | وَالْمَعْنَى : أَنَّ الْجَاهِلِيَّة كَانُوا يَجْعَلُونَ حُكْم الشَّرِيف خِلَاف حُكْم الْوَضِيع ; كَمَا تَقَدَّمَ فِي غَيْر مَوْضِع , وَكَانَتْ الْيَهُود تُقِيم الْحُدُود عَلَى الضُّعَفَاء الْفُقَرَاء , وَلَا يُقِيمُونَهَا عَلَى الْأَقْوِيَاء الْأَغْنِيَاء ; فَضَارَعُوا الْجَاهِلِيَّة فِي هَذَا الْفِعْل . رَوَى سُفْيَان بْن عُيَيْنَة عَنْ اِبْن أَبِي نَجِيح عَنْ طَاوُس قَالَ : كَانَ إِذَا سَأَلُوهُ عَنْ الرَّجُل يُفَضِّل بَعْض وَلَده عَلَى بَعْض يَقْرَأ هَذِهِ الْآيَة | أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّة يَبْغُونَ | فَكَانَ طَاوُس يَقُول : لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُفَضِّل بَعْض وَلَده عَلَى بَعْض , فَإِنْ فَعَلَ لَمْ يَنْفُذ وَفُسِخَ ; وَبِهِ قَالَ أَهْل الظَّاهِر , وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَد بْن حَنْبَل مِثْله , وَكَرِهَهُ الثَّوْرِيّ وَابْن الْمُبَارَك وَإِسْحَاق ; فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ أَحَد نَفَذَ وَلَمْ يُرَدّ , وَأَجَازَ ذَلِكَ مَالِك وَالثَّوْرِيّ وَاللَّيْث وَالشَّافِعِيّ وَأَصْحَاب الرَّأْي ; وَاسْتَدَلُّوا بِفِعْلِ الصِّدِّيق فِي نَحْله عَائِشَةَ دُون سَائِر وَلَده , وَبِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( فَارْجِعْهُ ) وَقَوْله : ( فَأَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي ) , وَاحْتَجَّ الْأَوَّلُونَ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام لِبَشِيرٍ : ( أَلَك وَلَد سِوَى هَذَا ) قَالَ نَعَمْ , فَقَالَ : ( أَكُلّهمْ وَهَبْت لَهُ مِثْل هَذَا ) فَقَالَ لَا , قَالَ : ( فَلَا تُشْهِدنِي إِذًا فَإِنِّي لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْر ) فِي رِوَايَة ( وَإِنِّي لَا أَشْهَدُ إِلَّا عَلَى حَقّ ) . قَالُوا : وَمَا كَانَ جَوْرًا وَغَيْر حَقّ فَهُوَ بَاطِل لَا يَجُوز . وَقَوْله : ( أَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي ) لَيْسَ إِذْنًا فِي الشَّهَادَة وَإِنَّمَا هُوَ زَجْر عَنْهَا ; لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام قَدْ سَمَّاهُ جَوْرًا وَامْتَنَعَ مِنْ الشَّهَادَة فِيهِ ; فَلَا يُمْكِن أَنْ يَشْهَد أَحَد مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ بِوَجْهٍ , وَأَمَّا فِعْل أَبِي بَكْر فَلَا يُعَارَض بِهِ قَوْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَلَعَلَّهُ قَدْ كَانَ نَحَلَ أَوْلَاده نُحْلًا يُعَادِل ذَلِكَ . فَإِنْ قِيلَ : الْأَصْل تَصَرُّف الْإِنْسَان فِي مَاله مُطْلَقًا , قِيلَ لَهُ : الْأَصْل الْكُلِّيّ وَالْوَاقِعَة الْمُعَيَّنَة الْمُخَالِفَة لِذَلِكَ الْأَصْل لَا تَعَارُض بَيْنهمَا كَالْعُمُومِ وَالْخُصُوص , وَفِي الْأُصُول أَنَّ الصَّحِيح بِنَاء الْعَامّ عَلَى الْخَاصّ , ثُمَّ إِنَّهُ يَنْشَأ عَنْ ذَلِكَ الْعُقُوق الَّذِي هُوَ أَكْبَرُ الْكَبَائِر , وَذَلِكَ مُحَرَّمٌ , وَمَا يُؤَدِّي إِلَى الْمُحَرَّم فَهُوَ مَمْنُوع ; وَلِذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( اِتَّقُوا اللَّه وَاعْدِلُوا بَيْن أَوْلَادكُمْ ) . قَالَ النُّعْمَان : فَرَجَعَ أَبِي فَرَدَّ تِلْكَ الصَّدَقَة , وَالصَّدَقَة لَا يَعْتَصِرهَا الْأَب بِالْإِنْفَاقِ وَقَوْله : ( فَارْجِعْهُ ) مَحْمُول عَلَى مَعْنَى فَارْدُدْهُ , وَالرَّدّ ظَاهِر فِي الْفَسْخ ; كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام ( مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرنَا فَهُوَ رَدٌّ ) أَيْ مَرْدُود مَفْسُوخ . وَهَذَا كُلّه ظَاهِر قَوِيّ , وَتَرْجِيح جَلِيّ فِي الْمَنْع . قَرَأَ اِبْن وَثَّاب وَالنَّخَعِيّ | أَفَحُكْمُ | بِالرَّفْعِ عَلَى مَعْنَى يَبْغُونَهُ ; فَحَذَفَ الْهَاء كَمَا حَذَفَهَا أَبُو النَّجْم فِي قَوْله : <br>قَدْ أَصْبَحَتْ أُمُّ الْخِيَار تَدَّعِي .......... عَلَيَّ ذَنْبًا كُلّه لَمْ أَصْنَعِ <br>فِيمَنْ رَوَى | كُلُّهُ | بِالرَّفْعِ . وَيَجُوز أَنْ يَكُون التَّقْدِير : أَفَحُكْمُ الْجَاهِلِيَّة حُكْمٌ يَبْغُونَهُ , فَحَذَفَ الْمَوْصُوف , وَقَرَأَ الْحَسَن وَقَتَادَة وَالْأَعْرَج وَالْأَعْمَش | أَفَحَكَمَ | بِنَصَبِ الْحَاء وَالْكَاف وَفَتْح الْمِيم ; وَهِيَ رَاجِعَة إِلَى مَعْنَى قِرَاءَة الْجَمَاعَة إِذْ لَيْسَ الْمُرَاد نَفْس الْحَكَم , وَإِنَّمَا الْمُرَاد الْحُكْم ; فَكَأَنَّهُ قَالَ : أَفَحُكْم حَكَم الْجَاهِلِيَّة يَبْغُونَ , وَقَدْ يَكُون الْحَكَم وَالْحَاكِم فِي اللُّغَة وَاحِدًا وَكَأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ الْكَاهِن وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ حُكَّام الْجَاهِلِيَّة ; فَيَكُون الْمُرَاد بِالْحُكْمِ الشُّيُوع وَالْجِنْس , إِذْ لَا يُرَاد بِهِ حَاكِم بِعَيْنِهِ ; وَجَازَ وُقُوع الْمُضَاف جِنْسًا كَمَا جَازَ فِي قَوْلهمْ : مَنَعَتْ مِصْر إِرْدَبّهَا , وَشِبْهه , وَقَرَأَ اِبْن عَامِر | تَبْغُونَ | بِالتَّاءِ , الْبَاقُونَ بِالْيَاءِ .|وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ|هَذَا اِسْتِفْهَام عَلَى جِهَة الْإِنْكَار بِمَعْنَى : لَا أَحَد أَحْسَن ; فَهَذَا اِبْتِدَاء وَخَبَر . و | حُكْمًا | نُصِبَ عَلَى الْبَيَان . [ لِقَوْلِهِ ] | لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ | أَيْ عِنْد قَوْم يُوقِنُونَ .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ

قَوْله تَعَالَى : | الْيَهُود وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء | مَفْعُولَانِ لِتَتَّخِذُوا ; وَهَذَا يَدُلّ عَلَى قَطْع الْمُوَالَاة شَرْعًا , وَقَدْ مَضَى فِي | آل عِمْرَان | بَيَان ذَلِكَ . ثُمَّ قِيلَ : الْمُرَاد بِهِ الْمُنَافِقُونَ ; الْمَعْنَى يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بِظَاهِرِهِمْ , وَكَانُوا يُوَالُونَ الْمُشْرِكِينَ وَيُخْبِرُونَهُمْ بِأَسْرَارِ الْمُسْلِمِينَ , وَقِيلَ : نَزَلَتْ فِي أَبِي لُبَابَة , عَنْ عِكْرِمَة . قَالَ السُّدِّيّ : نَزَلَتْ فِي قِصَّة يَوْم أُحُد حِين خَافَ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى هَمَّ قَوْم مِنْهُمْ أَنْ يُوَالُوا الْيَهُود وَالنَّصَارَى , وَقِيلَ : نَزَلَتْ فِي عُبَادَة بْن الصَّامِت وَعَبْد اللَّه بْن أُبَيّ بْن سَلُول ; فَتَبَرَّأَ عُبَادَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ مِنْ مُوَالَاة الْيَهُود , وَتَمَسَّكَ بِهَا اِبْن أُبَيّ وَقَالَ : إِنِّي أَخَاف أَنْ تَدُور الدَّوَائِر .|أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ|مُبْتَدَأ وَخَبَره ; وَهُوَ يَدُلّ عَلَى إِثْبَات الشَّرْع الْمُوَالَاةَ فِيمَا بَيْنهمْ حَتَّى يَتَوَارَث الْيَهُود وَالنَّصَّارِي بَعْضهمْ مِنْ بَعْض .|بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ|أَيْ يَعْضُدهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ|مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ|قَوْله | فَإِنَّهُ مِنْهُمْ | بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ حُكْمه كَحُكْمِهِمْ ; وَهُوَ يَمْنَع إِثْبَات الْمِيرَاث لِلْمُسْلِمِ مِنْ الْمُرْتَدّ , وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّاهُمْ اِبْن أُبَيّ ثُمَّ هَذَا الْحُكْم بَاقٍ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة فِي قَطْع الْمُوَالَاة ; وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : | وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسّكُمْ النَّار | [ هُود : 113 ] وَقَالَ تَعَالَى فِي | آل عِمْرَان | : | لَا يَتَّخِذ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِنْ دُون الْمُؤْمِنِينَ | [ آل عِمْرَان : 28 ] وَقَالَ تَعَالَى : | لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَة مِنْ دُونكُمْ | [ آل عِمْرَان : 118 ] وَقَدْ مَضَى الْقَوْل فِيهِ , وَقِيلَ : إِنَّ مَعْنَى | بَعْضهمْ أَوْلِيَاء بَعْض | أَيْ فِي النَّصْر | وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ | شَرْط وَجَوَابه ; أَيْ لِأَنَّهُ قَدْ خَالَفَ اللَّه تَعَالَى وَرَسُوله كَمَا خَالَفُوا , وَوَجَبَتْ مُعَادَاته كَمَا وَجَبَتْ مُعَادَاتهمْ , وَوَجَبَتْ لَهُ النَّار كَمَا وَجَبَتْ لَهُمْ ; فَصَارَ مِنْهُمْ أَيْ مِنْ أَصْحَابهمْ .

فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ

شَكّ وَنِفَاق , وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي | الْبَقَرَة | وَالْمُرَاد اِبْن أُبَيّ وَأَصْحَابه|يُسَارِعُونَ فِيهِمْ|أَيْ فِي مُوَالَاتهمْ وَمُعَاوَنَتهمْ .|يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ|أَيْ يَدُور الدَّهْر عَلَيْنَا إِمَّا بِقَحْطٍ فَلَا يُمَيِّزُونَنَا وَلَا يُفْضِلُوا عَلَيْنَا , وَإِمَّا أَنْ يَظْفَر الْيَهُود بِالْمُسْلِمِينَ فَلَا يَدُوم الْأَمْر لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَهَذَا الْقَوْل أَشْبَهُ بِالْمَعْنَى ; كَأَنَّهُ مِنْ دَارَتْ تَدُور , أَيْ نَخْشَى أَنْ يَدُور الْأَمْر ; وَيَدُلّ عَلَيْهِ قَوْله عَزَّ وَجَلَّ : | فَعَسَى اللَّه أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ | ; وَقَالَ الشَّاعِر : <br>يَرُدّ عَنْك الْقَدَر الْمَقْدُورَا .......... وَدَائِرَاتِ الدَّهْر أَنْ تَدُورَا <br>يَعْنِي دُوَلَ الدَّهْر الدَّائِرَة مِنْ قَوْم إِلَى قَوْم|فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ|وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى الْفَتْح , فَقِيلَ : الْفَتْح الْفَصْل وَالْحُكْم , عَنْ قَتَادَة وَغَيْره . قَالَ اِبْن عَبَّاس : أَتَى اللَّه بِالْفَتْحِ فَقُتِلَتْ مُقَاتِلَة بَنِي قُرَيْظَة وَسُبِيَتْ ذَرَارِيّهمْ وَأُجْلِيَ بَنُو النَّضِير . وَقَالَ أَبُو عَلِيّ : هُوَ فَتْح بِلَاد الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ , وَقَالَ السُّدِّيّ : يَعْنِي بِالْفَتْحِ فَتْح مَكَّة .|أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ|قَالَ السُّدِّيّ : هُوَ الْجِزْيَة . الْحَسَن : إِظْهَار أَمْر الْمُنَافِقِينَ وَالْإِخْبَار بِأَسْمَائِهِمْ وَالْأَمْر بِقَتْلِهِمْ , وَقِيلَ : الْخِصْب وَالسَّعَة لِلْمُسْلِمِينَ|فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ|أَيْ فَيُصْبِحُوا نَادِمِينَ عَلَى تَوَلِّيهمْ الْكُفَّارَ إِذَا رَأَوْا نَصْر اللَّه لِلْمُؤْمِنِينَ , وَإِذَا عَايَنُوا عِنْد الْمَوْت فَبُشِّرُوا بِالْعَذَابِ .

وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ

وَقَرَأَ أَهْل الْمَدِينَة وَأَهْل الشَّام : | يَقُول | بِغَيْرِ وَاو , وَقَرَأَ أَبُو عَمْرو وَابْن أَبِي إِسْحَاق : | وَيَقُولَ | بِالْوَاوِ وَالنَّصْب عَطْفًا عَلَى | أَنْ يَأْتِيَ | عِنْد أَكْثَرِ النَّحْوِيِّينَ , التَّقْدِير : فَعَسَى اللَّه أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ وَأَنْ يَقُول , وَقِيلَ : هُوَ عَطْف عَلَى الْمَعْنَى ; لِأَنَّ مَعْنَى | عَسَى اللَّه أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ | وَعَسَى أَنْ يَأْتِيَ اللَّه بِالْفَتْحِ ; إِذْ لَا يَجُوز عَسَى زَيْد أَنْ يَأْتِيَ وَيَقُومَ عَمْرو ; لِأَنَّهُ لَا يَصِحّ الْمَعْنَى إِذَا قُلْت وَعَسَى زَيْد أَنْ يَقُوم عَمْرو , وَلَكِنْ لَوْ قُلْت : عَسَى أَنْ يَقُوم زَيْد وَيَأْتِيَ عَمْرو كَانَ جَيِّدًا . فَإِذَا قَدَّرْت التَّقْدِيم فِي أَنْ يَأْتِيَ إِلَى جَنْب عَسَى حَسُنَ ; لِأَنَّهُ يَصِير التَّقْدِير : عَسَى أَنْ يَأْتِيَ وَعَسَى أَنْ يَقُوم , وَيَكُون مِنْ بَاب قَوْله : <br>وَرَأَيْت زَوْجك فِي الْوَغَى .......... مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحَا <br>وَفِيهِ قَوْل ثَالِث : وَهُوَ أَنْ تَعْطِفَهُ عَلَى الْفَتْح ; كَمَا قَالَ الشَّاعِر : <br>لَلُبْس عَبَاءَة وَتَقَرَّ عَيْنِي .......... [ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ لُبْسِ الشُّفُوفِ ] <br>وَيَجُوز أَنْ يُجْعَل | أَنْ يَأْتِيَ | بَدَلًا مِنْ اِسْم اللَّه جَلَّ ذِكْره ; فَيَصِير التَّقْدِير : عَسَى أَنْ يَأْتِيَ اللَّه وَيَقُول الَّذِينَ آمَنُوا , وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ | وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا | بِالرَّفْعِ عَلَى الْقَطْع مِنْ الْأَوَّل .|أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ|إِشَارَة إِلَى الْمُنَافِقِينَ|أَقْسَمُوا بِاللَّهِ|حَلَفُوا وَاجْتَهَدُوا فِي الْأَيْمَان|جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ|أَيْ قَالُوا إِنَّهُمْ , وَيَجُوز | أَنَّهُمْ | نُصِبَ ب | أَقْسَمُوا | أَيْ قَالَ الْمُؤْمِنُونَ لِلْيَهُودِ عَلَى جِهَة التَّوْبِيخ : أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاَللَّهِ جَهْد أَيْمَانهمْ أَنَّهُمْ يُعِينُونَكُمْ عَلَى مُحَمَّد , وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون مِنْ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضهمْ لِبَعْضٍ ; أَيْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَانُوا يَحْلِفُونَ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ فَقَدْ هَتَكَ اللَّه الْيَوْم سِتْرهمْ|حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ|بَطَلَتْ بِنِفَاقِهِمْ .|فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ|أَيْ خَاسِرِينَ الثَّوَاب , وَقِيلَ : خَسِرُوا فِي مُوَالَاة الْيَهُود فَلَمْ تَحْصُل لَهُمْ ثَمَرَة بَعْد قَتْل الْيَهُود وَإِجْلَائِهِمْ .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِ

قَوْله تَعَالَى : | مَنْ يَرْتَدّ مِنْكُمْ عَنْ دِينه | شَرْط وَجَوَابه | فَسَوْفَ | , وَقِرَاءَة أَهْل الْمَدِينَة وَالشَّام | مَنْ يَرْتَدِدْ | بِدَالَيْنِ . الْبَاقُونَ | مَنْ يَرْتَدّ | . وَهَذَا مِنْ إِعْجَاز الْقُرْآن وَالنَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِذْ أَخْبَرَ عَنْ اِرْتِدَادهمْ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي عَهْده وَكَانَ ذَلِكَ غَيْبًا , فَكَانَ عَلَى مَا أَخْبَرَ بَعْد مُدَّة , وَأَهْل الرِّدَّة كَانُوا بَعْد مَوْته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قَالَ اِبْن إِسْحَاق : لَمَّا قُبِضَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِرْتَدَّتْ الْعَرَب إِلَّا ثَلَاثَة مَسَاجِد مَسْجِد الْمَدِينَة , وَمَسْجِد مَكَّة , وَمَسْجِد جُؤَاثَى , وَكَانُوا فِي رِدَّتهمْ عَلَى قِسْمَيْنِ : قِسْم نَبَذَ الشَّرِيعَة كُلّهَا وَخَرَجَ عَنْهَا , وَقِسْم نَبَذَ وُجُوب الزَّكَاة وَاعْتَرَفَ بِوُجُوبِ غَيْرهَا ; قَالُوا نَصُوم وَنُصَلِّي وَلَا نُزَكِّي ; فَقَاتَلَ الصِّدِّيق جَمِيعهمْ ; وَبَعَثَ خَالِد بْن الْوَلِيد إِلَيْهِمْ بِالْجُيُوشِ فَقَاتَلَهُمْ وَسَبَاهُمْ ; عَلَى مَا هُوَ مَشْهُور مِنْ أَخْبَارهمْ .|دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ|فِي مَوْضِع النَّعْت . قَالَ الْحَسَن وَقَتَادَة وَغَيْرهمَا : نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْر الصِّدِّيق وَأَصْحَابه , وَقَالَ السُّدِّيّ : نَزَلَتْ فِي الْأَنْصَار . وَقِيلَ : هِيَ إِشَارَة إِلَى قَوْم لَمْ يَكُونُوا مَوْجُودِينَ فِي ذَلِكَ الْوَقْت , وَأَنَّ أَبَا بَكْر قَاتَلَ أَهْل الرِّدَّة بِقَوْمٍ لَمْ يَكُونُوا وَقْت نُزُول الْآيَة ; وَهُمْ أَحْيَاء مِنْ الْيَمَن مِنْ كِنْدَة وَبَجِيلَة , وَمِنْ أَشْجَع , وَقِيلَ : إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْأَشْعَرِيِّينَ ; فَفِي الْخَبَر أَنَّهَا لَمَّا نَزَلَتْ قَدِمَ بَعْد ذَلِكَ بِيَسِيرٍ سَفَائِن الْأَشْعَرِيِّينَ , وَقَبَائِل الْيَمَن مِنْ طَرِيق الْبَحْر , فَكَانَ لَهُمْ بَلَاء فِي الْإِسْلَام فِي زَمَن رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَكَانَتْ عَامَّة فُتُوح الْعِرَاق فِي زَمَن عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ عَلَى يَدَيْ قَبَائِل الْيَمَن ; هَذَا أَصَحّ مَا قِيلَ فِي نُزُولهَا , وَاللَّه أَعْلَمُ , وَرَوَى الْحَاكِم أَبُو عَبْد اللَّه فِي | الْمُسْتَدْرَك | بِإِسْنَادِهِ : أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَارَ إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة فَقَالَ : ( هُمْ قَوْم هَذَا ) قَالَ الْقُشَيْرِيّ : فَأَتْبَاع أَبِي الْحَسَن مِنْ قَوْمه ; لِأَنَّ كُلّ مَوْضِع أُضِيفَ فِيهِ قَوْم إِلَى نَبِيّ أُرِيدَ بِهِ الْأَتْبَاع .|وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى||أَذِلَّة | نَعْت لِقَوْمٍ , وَكَذَلِكَ|الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى|أَيْ يَرْأَفُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ وَيَرْحَمُونَهُمْ وَيَلِينُونَ لَهُمْ ; مِنْ قَوْلهمْ : دَابَّة ذَلُول أَيْ تَنْقَاد سَهْلَة , وَلَيْسَ مِنْ الذُّلّ فِي شَيْء , وَيَغْلُظُونَ عَلَى الْكَافِرِينَ وَيُعَادُونَهُمْ . قَالَ اِبْن عَبَّاس : هُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ كَالْوَالِدِ لِلْوَلَدِ وَالسَّيِّد لِلْعَبْدِ , وَهُمْ فِي الْغِلْظَة عَلَى الْكُفَّار كَالسَّبُعِ عَلَى فَرِيسَته ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : | أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّار رُحَمَاء بَيْنهمْ | [ الْفَتْح : 29 ] , وَيَجُوز | أَذِلَّةً | بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَال ; أَيْ يُحِبّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ فِي هَذَا الْحَال , وَقَدْ تَقَدَّمَتْ مَعْنَى مَحَبَّة اللَّه تَعَالَى لِعِبَادِهِ وَمَحَبَّتهمْ لَهُ .|الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ|فِي مَوْضِع الصِّفَة أَيْضًا .|اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ|بِخِلَافِ الْمُنَافِقِينَ يَخَافُونَ الدَّوَائِر ; فَدَلَّ بِهَذَا عَلَى تَثْبِيت إِمَامَة أَبِي بَكْر وَعُمَر وَعُثْمَان وَعَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ ; لِأَنَّهُمْ جَاهَدُوا فِي اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فِي حَيَاة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَقَاتَلُوا الْمُرْتَدِّينَ بَعْده , وَمَعْلُوم أَنَّ مَنْ كَانَتْ فِيهِ هَذِهِ الصِّفَات فَهُوَ وَلِيّ لِلَّهِ تَعَالَى , وَقِيلَ : الْآيَة عَامَّة فِي كُلّ مَنْ يُجَاهِد الْكُفَّار إِلَى قِيَام السَّاعَة , وَاللَّه أَعْلَمُ .|لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ|اِبْتِدَاء وَخَبَر أَيْ وَاسِع الْفَضْل , عَلِيم بِمَصَالِح خَلْقه .

إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ

قَوْله تَعَالَى : | إِنَّمَا وَلِيّكُمْ اللَّه وَرَسُوله | قَالَ جَابِر بْن عَبْد اللَّه قَالَ عَبْد اللَّه بْن سَلَام لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ قَوْمنَا مِنْ قُرَيْظَة وَالنَّضِير قَدْ هَجَرُونَا وَأَقْسَمُوا أَلَّا يُجَالِسُونَا , وَلَا نَسْتَطِيع مُجَالَسَة أَصْحَابك لِبُعْدِ الْمَنَازِل , فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة , فَقَالَ : رَضِينَا بِاَللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ أَوْلِيَاء . | وَاَلَّذِينَ | عَامّ فِي جَمِيع الْمُؤْمِنِينَ , وَقَدْ سُئِلَ أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بْن عَلِيّ بْن الْحُسَيْن بْن عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ عَنْ مَعْنَى | إِنَّمَا وَلِيّكُمْ اللَّه وَرَسُوله وَاَلَّذِينَ آمَنُوا | هَلْ هُوَ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب ؟ فَقَالَ : عَلِيّ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ ; يَذْهَب إِلَى أَنَّ هَذَا لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ . قَالَ النَّحَّاس : وَهَذَا قَوْل بَيِّن ; لِأَنَّ | الَّذِينَ | لِجَمَاعَةٍ , وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ , وَقَالَ فِي رِوَايَة أُخْرَى : نَزَلَتْ فِي عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ ; وَقَالَهُ مُجَاهِد وَالسُّدِّيّ , وَحَمَلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ|الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ|وَذَلِكَ أَنَّ سَائِلًا سَأَلَ فِي مَسْجِد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُعْطِهِ أَحَد شَيْئًا , وَكَانَ عَلِيّ فِي الصَّلَاة فِي الرُّكُوع وَفِي يَمِينه خَاتَم , فَأَشَارَ إِلَى السَّائِل بِيَدِهِ حَتَّى أَخَذَهُ . قَالَ الْكِيَا الطَّبَرِيّ : وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْعَمَل الْقَلِيل لَا يُبْطِل الصَّلَاة ; فَإِنَّ التَّصَدُّق بِالْخَاتَمِ فِي الرُّكُوع عَمَل جَاءَ بِهِ فِي الصَّلَاة وَلَمْ تَبْطُل بِهِ الصَّلَاة , وَقَوْله : | وَيُؤْتُونَ الزَّكَاة وَهُمْ رَاكِعُونَ | يَدُلّ عَلَى أَنَّ صَدَقَة التَّطَوُّع تُسَمَّى زَكَاة . ; فَإِنَّ عَلِيًّا تَصَدَّقَ بِخَاتَمِهِ فِي الرُّكُوع , وَهُوَ نَظِير قَوْله تَعَالَى : | وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاة تُرِيدُونَ وَجْه اللَّه فَأُولَئِكَ هُمْ الْمُضْعِفُونَ | [ الرُّوم : 39 ] وَقَدْ اِنْتَظَمَ الْفَرْض وَالنَّفْل , فَصَارَ اِسْم الزَّكَاة شَامِلًا لِلْفَرْضِ وَالنَّفْل , كَاسْمِ الصَّدَقَة وَكَاسْمِ الصَّلَاة يَنْتَظِم الْأَمْرَيْنِ . قُلْت : فَالْمُرَاد عَلَى هَذَا بِالزَّكَاةِ التَّصَدُّق بِالْخَاتَمِ , وَحَمْلُ لَفْظِ الزَّكَاة عَلَى التَّصَدُّق بِالْخَاتَمِ فِيهِ بُعْدٌ ; لِأَنَّ الزَّكَاة لَا تَأْتِي إِلَّا بِلَفْظِهَا الْمُخْتَصّ بِهَا وَهُوَ الزَّكَاة الْمَفْرُوضَة عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانه فِي أَوَّل سُورَة | الْبَقَرَة | . وَأَيْضًا فَإِنَّ قَبْله | يُقِيمُونَ الصَّلَاة | وَمَعْنَى يُقِيمُونَ الصَّلَاة يَأْتُونَ بِهَا فِي أَوْقَاتهَا بِجَمِيعِ حُقُوقهَا , وَالْمُرَاد صَلَاة الْفَرْض . ثُمَّ قَالَ : | وَهُمْ رَاكِعُونَ | أَيْ النَّفْل , وَقِيلَ : أَفْرَدَ الرُّكُوع بِالذِّكْرِ تَشْرِيفًا , وَقِيلَ : الْمُؤْمِنُونَ وَقْت نُزُول الْآيَة كَانُوا بَيْن مُتَمِّم لِلصَّلَاةِ وَبَيْن رَاكِع , وَقَالَ اِبْن خُوَيْز مَنْدَاد قَوْله تَعَالَى : | وَيُؤْتُونَ الزَّكَاة وَهُمْ رَاكِعُونَ | تَضَمَّنَتْ جَوَاز الْعَمَل الْيَسِير فِي الصَّلَاة ; وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا خَرَجَ مَخْرَج الْمَدْح , وَأَقَلُّ مَا فِي بَاب الْمَدْح أَنْ يَكُون مُبَاحًا ; وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَعْطَى السَّائِل شَيْئًا وَهُوَ فِي الصَّلَاة , وَقَدْ يَجُوز أَنْ يَكُون هَذِهِ صَلَاة تَطَوُّع , وَذَلِكَ أَنَّهُ مَكْرُوه فِي الْفَرْض , وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون الْمَدْح مُتَوَجِّهًا عَلَى اِجْتِمَاع حَالَتَيْنِ ; كَأَنَّهُ وَصْف مَنْ يَعْتَقِد وُجُوب الصَّلَاة وَالزَّكَاة ; فَعُبِّرَ عَنْ الصَّلَاة بِالرُّكُوعِ , وَعَنْ الِاعْتِقَاد لِلْوُجُوبِ بِالْفِعْلِ ; كَمَا تَقُول : الْمُسْلِمُونَ هُمْ الْمُصَلُّونَ , وَلَا تُرِيد أَنَّهُمْ فِي تِلْكَ الْحَال مُصَلُّونَ وَلَا يُوَجَّه الْمَدْح حَال الصَّلَاة ; فَإِنَّمَا يُرِيد مَنْ يَفْعَل هَذَا الْفِعْل وَيَعْتَقِدهُ . قَوْله تَعَالَى : وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّه وَرَسُوله وَاَلَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْب اللَّه هُمْ الْغَالِبُونَ ( 56 )

وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ

أَيْ مَنْ فَوَّضَ أَمْره إِلَى اللَّه , وَامْتَثَلَ أَمْر رَسُوله , وَوَالَى الْمُسْلِمِينَ , فَهُوَ مِنْ حِزْب اللَّه , وَقِيلَ : أَيْ وَمَنْ يَتَوَلَّ الْقِيَام بِطَاعَةِ اللَّه وَنُصْرَة رَسُوله وَالْمُؤْمِنِينَ .|فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ|قَالَ الْحَسَن : حِزْب اللَّه جُنْد اللَّه , وَقَالَ غَيْره : أَنْصَار اللَّه قَالَ الشَّاعِر : <br>وَكَيْفَ أَضْوَى وَبِلَالُ حِزْبِي <br>أَيْ نَاصِرِي , وَالْمُؤْمِنُونَ حِزْب اللَّه ; فَلَا جَرَم غَلَبُوا الْيَهُود بِالسَّبْيِ وَالْقَتْل وَالْإِجْلَاء وَضَرْب الْجِزْيَة , وَالْحِزْب الصِّنْف مِنْ النَّاس , وَأَصْله مِنْ النَّائِبَة مِنْ قَوْلهمْ : حَزَبَهُ كَذَا أَيْ نَابَهُ ; فَكَأَنَّ الْمُحْتَزِبِينَ مُجْتَمِعُونَ كَاجْتِمَاعِ أَهْل النَّائِبَة عَلَيْهَا . وَحِزْب الرَّجُل أَصْحَابُهُ , وَالْحِزْب الْوِرْد ; وَمِنْهُ الْحَدِيث ( فَمَنْ فَاتَهُ حِزْبه مِنْ اللَّيْل ) , وَقَدْ حَزَّبْت الْقُرْآن , وَالْحِزْب الطَّائِفَة , وَتَحَزَّبُوا اِجْتَمَعُوا , وَالْأَحْزَاب : الطَّوَائِف الَّتِي تَجْتَمِع عَلَى مُحَارَبَة الْأَنْبِيَاء , وَحَزَبَهُ أَمْر أَيْ أَصَابَهُ .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ

فِيهِ مَسْأَلَتَانِ : </subtitle>الْأُولَى : رُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّ قَوْمًا مِنْ الْيَهُود وَالْمُشْرِكِينَ ضَحِكُوا مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَقْت سُجُودهمْ فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى : | يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اِتَّخَذُوا دِينكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا إِلَى آخِر الْآيَات . وَتَقَدَّمَ مَعْنَى الْهُزُؤ فِي | الْبَقَرَة | . | مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب مِنْ قَبْلكُمْ وَالْكُفَّار أَوْلِيَاء | قَرَأَهُ أَبُو عَمْرو وَالْكِسَائِيّ بِالْخَفْضِ بِمَعْنَى وَمِنْ الْكُفَّار . قَالَ الْكِسَائِيّ : وَفِي حَرْف أُبَيّ رَحِمَهُ اللَّه | وَمِنْ الْكُفَّار | , و | مِنْ | هَهُنَا لِبَيَانِ الْجِنْس ; وَالنَّصْب أَوْضَحُ وَأَبْيَنُ . قَالَهُ النَّحَّاس , وَقِيلَ : هُوَ مَعْطُوف عَلَى أَقْرَبِ الْعَامِلَيْنِ مِنْهُ وَهُوَ قَوْله : | مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب | فَنَهَاهُمْ اللَّه أَنْ يَتَّخِذُوا الْيَهُود وَالْمُشْرِكِينَ أَوْلِيَاءَ , وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّ الْفَرِيقَيْنِ اِتَّخَذُوا دِين الْمُؤْمِنِينَ هُزُوًا وَلَعِبًا , وَمَنْ نَصَبَ عَطَفَ عَلَى | الَّذِينَ | الْأَوَّل فِي قَوْله : | لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اِتَّخَذُوا دِينكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا - وَالْكُفَّار أَوْلِيَاء | أَيْ لَا تَتَّخِذُوا هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ أَوْلِيَاء ; فَالْمَوْصُوف بِالْهُزُؤِ وَاللَّعِب فِي هَذِهِ الْقِرَاءَة الْيَهُود لَا غَيْر , وَالْمَنْهِيّ عَنْ اِتِّخَاذهمْ أَوْلِيَاء الْيَهُود وَالْمُشْرِكُونَ , وَكِلَاهُمَا فِي الْقِرَاءَة بِالْخَفْضِ مَوْصُوف بِالْهُزُؤِ وَاللَّعِب . قَالَ مَكِّيّ : وَلَوْلَا اِتِّفَاق الْجَمَاعَة عَلَى النَّصْب لَاخْتَرْت الْخَفْض , لِقُوَّتِهِ فِي الْإِعْرَاب وَفِي الْمَعْنَى وَالتَّفْسِير وَالْقُرْب مِنْ الْمَعْطُوف عَلَيْهِ . وَقِيلَ : الْمَعْنَى لَا تَتَّخِذُوا الْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ أَوْلِيَاء ; بِدَلِيلِ قَوْلهمْ : | إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ | [ الْبَقَرَة : 14 ] وَالْمُشْرِكُونَ كُلّ كُفَّار , لَكِنْ يُطْلَق فِي الْغَالِب لَفْظ الْكُفَّار عَلَى الْمُشْرِكِينَ ; فَلِهَذَا فَصَلَ ذِكْر أَهْل الْكِتَاب مِنْ الْكَافِرِينَ .</p><p>الثَّانِيَة : قَالَ اِبْن خُوَيْز مَنْدَاد : هَذِهِ الْآيَة مِثْل قَوْله تَعَالَى : | لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُود وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضهمْ أَوْلِيَاء بَعْض | [ الْمَائِدَة : 51 ] , و | لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَة مِنْ دُونكُمْ | [ آل عِمْرَان : 118 ] تَضَمَّنَتْ الْمَنْع مِنْ التَّأْيِيد وَالِانْتِصَار بِالْمُشْرِكِينَ وَنَحْو ذَلِكَ , وَرَوَى جَابِر : أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَرَادَ الْخُرُوج إِلَى أُحُد جَاءَهُ قَوْم مِنْ الْيَهُود فَقَالُوا : نَسِير مَعَك ; فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام : ( إِنَّا لَا نَسْتَعِين عَلَى أَمْرنَا بِالْمُشْرِكِينَ ) وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح مِنْ مَذْهَب الشَّافِعِيّ , وَأَبُو حَنِيفَة جَوَّزَ الِانْتِصَار بِهِمْ عَلَى الْمُشْرِكِينَ لِلْمُسْلِمِينَ ; وَكِتَاب اللَّه تَعَالَى يَدُلّ عَلَى خِلَاف مَا قَالُوهُ مَعَ مَا جَاءَ مِنْ السُّنَّة فِي ذَلِكَ , وَاللَّه أَعْلَمُ .

وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ

فِيهِ إِحْدَى عَشْرَة مَسْأَلَة : </subtitle>الْأُولَى : قَالَ الْكَلْبِيّ : كَانَ إِذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّن وَقَامَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى الصَّلَاة قَالَتْ الْيَهُود : قَدْ قَامُوا لَا قَامُوا ; وَكَانُوا يَضْحَكُونَ إِذَا رَكَعَ الْمُسْلِمُونَ وَسَجَدُوا وَقَالُوا فِي حَقّ الْأَذَان : لَقَدْ اِبْتَدَعْت شَيْئًا لَمْ نَسْمَع بِهِ فِيمَا مَضَى مِنْ الْأُمَم , فَمِنْ أَيْنَ لَك صِيَاح مِثْل صِيَاح الْعِير ؟ فَمَا أَقْبَحَهُ مِنْ صَوْت , وَمَا أَسْمَجَهُ مِنْ أَمْر . وَقِيلَ : إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّن لِلصَّلَاةِ تَضَاحَكُوا فِيمَا بَيْنهمْ وَتَغَامَزُوا عَلَى طَرِيق السُّخْف وَالْمُجُون ; تَجْهِيلًا لِأَهْلِهَا , وَتَنْفِيرًا لِلنَّاسِ عَنْهَا وَعَنْ الدَّاعِي إِلَيْهَا . وَقِيلَ : إِنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَ الْمُنَادِيَ إِلَيْهَا بِمَنْزِلَةِ اللَّاعِب الْهَازِئ بِفِعْلِهَا , جَهْلًا مِنْهُمْ بِمَنْزِلَتِهَا ; فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة , وَنَزَلَ قَوْله سُبْحَانه : | وَمَنْ أَحْسَن قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّه وَعَمِلَ صَالِحًا | [ فُصِّلَتْ : 33 ] وَالنِّدَاء الدُّعَاء بِرَفْعِ الصَّوْت , وَقَدْ يُضَمّ مِثْل الدُّعَاء وَالرُّغَاء , وَنَادَاهُ مُنَادَاة وَنِدَاء أَيْ صَاحَ بِهِ . وَتَنَادَوْا أَيْ نَادَى بَعْضهمْ بَعْضًا , وَتَنَادَوْا أَيْ جَلَسُوا فِي النَّادِي , وَنَادَاهُ جَالَسَهُ فِي النَّادِي , وَلَيْسَ فِي كِتَاب اللَّه تَعَالَى ذِكْر الْأَذَان إِلَّا فِي هَذِهِ الْآيَة , أَمَا إِنَّهُ ذُكِرَ فِي الْجُمُعَة عَلَى الِاخْتِصَاص .</p><p>الثَّانِيَة : قَالَ الْعُلَمَاء : وَلَمْ يَكُنْ الْأَذَان بِمَكَّة قَبْل الْهِجْرَة , وَإِنَّمَا كَانُوا يُنَادُونَ | الصَّلَاة جَامِعَة | فَلَمَّا هَاجَرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصُرِفَتْ الْقِبْلَة إِلَى الْكَعْبَة أُمِرَ بِالْأَذَانِ , وَبَقِيَ | الصَّلَاة جَامِعَة | لِلْأَمْرِ يَعْرِض , وَكَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَهَمَّهُ أَمْر الْأَذَان حَتَّى أُرِيَهُ عَبْد اللَّه بْن زَيْد , وَعُمَر بْن الْخَطَّاب , وَأَبُو بَكْر الصِّدِّيق رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ , وَقَدْ كَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ الْأَذَان لَيْلَة الْإِسْرَاء فِي السَّمَاء , وَأَمَّا رُؤْيَا عَبْد اللَّه بْن زَيْد الْخَزْرَجِيّ الْأَنْصَارِيّ وَعُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا فَمَشْهُورَة ; وَأَنَّ عَبْد اللَّه بْن زَيْد أَخْبَرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ لَيْلًا طَرَقَهُ بِهِ , وَأَنَّ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : إِذَا أَصْبَحْت أَخْبَرْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَأَمَرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَالًا فَأَذَّنَ بِالصَّلَاةِ أَذَان النَّاس الْيَوْم , وَزَادَ بِلَال فِي الصُّبْح | الصَّلَاة خَيْر مِنْ النَّوْم | فَأَقَرَّهَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَتْ فِيمَا أُرِيَ الْأَنْصَارِيّ ; ذَكَرَهُ اِبْن سَعْد عَنْ اِبْن عُمَر , وَذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيّ رَحِمَهُ اللَّه أَنَّ الصِّدِّيق رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أُرِيَ الْأَذَان , وَأَنَّهُ أَخْبَرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ , وَأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِلَالًا قَبْل أَنْ يُخْبِرَهُ الْأَنْصَارِيّ ; ذَكَرَهُ فِي كِتَاب | الْمَدِيح | لَهُ فِي حَدِيث النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَبِي بَكْر الصِّدِّيق وَحَدِيث أَبِي بَكْر عَنْهُ .</p><p>الثَّالِثَة : وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي وُجُوب الْأَذَان وَالْإِقَامَة ; فَأَمَّا مَالِك وَأَصْحَابه فَإِنَّ الْأَذَان عِنْدهمْ إِنَّمَا يَجِب فِي الْمَسَاجِد لِلْجَمَاعَاتِ حَيْثُ يَجْتَمِع النَّاس , وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ مَالِك فِي مُوَطَّئِهِ , وَاخْتَلَفَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ أَصْحَابه عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدهمَا : سُنَّة مُؤَكَّدَة وَاجِبَة عَلَى الْكِفَايَة فِي الْمِصْر وَمَا جَرَى مَجْرَى الْمِصْر مِنْ الْقُرَى . وَقَالَ بَعْضهمْ : هُوَ فَرْض عَلَى الْكِفَايَة . وَكَذَلِكَ اِخْتَلَفَ أَصْحَاب الشَّافِعِيّ , وَحَكَى الطَّبَرِيّ عَنْ مَالِك قَالَ : إِنْ تَرَكَ أَهْل مِصْر الْأَذَان عَامِدِينَ أَعَادُوا الصَّلَاة ; قَالَ أَبُو عُمَر : وَلَا أَعْلَمُ اِخْتِلَافًا فِي وُجُوب الْأَذَان جُمْلَة عَلَى أَهْل الْمِصْر ; لِأَنَّ الْأَذَان هُوَ الْعَلَامَة الدَّالَّة الْمُفَرِّقَة بَيْن دَار الْإِسْلَام وَدَار الْكُفْر ; وَكَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا بَعَثَ سَرِيَّة قَالَ لَهُمْ : ( إِذْ سَمِعْتُمْ الْأَذَان فَأَمْسِكُوا وَكُفُّوا وَإِنْ لَمْ تَسْمَعُوا الْأَذَان فَأَغِيرُوا - أَوْ قَالَ - فَشُنُّوا الْغَارَة ) , وَفِي صَحِيح مُسْلِم قَالَ : كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُغِير إِذَا طَلَعَ الْفَجْر , فَإِنْ سَمِعَ أَذَانًا أَمْسَكَ وَإِلَّا أَغَارَ الْحَدِيث وَقَالَ عَطَاء وَمُجَاهِد وَالْأَوْزَاعِيّ وَدَاوُد : الْأَذَان فَرْض , وَلَمْ يَقُولُوا عَلَى الْكِفَايَة , وَقَالَ الطَّبَرِيّ : الْأَذَان سُنَّة وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ , وَذُكِرَ عَنْ أَشْهَبَ عَنْ مَالِك : إِنْ تَرَكَ الْأَذَان مُسَافِر عَمْدًا فَعَلَيْهِ إِعَادَة الصَّلَاة , وَكَرِهَ الْكُوفِيُّونَ أَنْ يُصَلِّيَ الْمُسَافِر بِغَيْرِ أَذَان وَلَا إِقَامَة ; قَالُوا : وَأَمَّا سَاكِن الْمِصْر فَيُسْتَحَبّ لَهُ أَنْ يُؤَذِّن وَيُقِيم ; فَإِنْ اسْتَجْزَأَ بِأَذَانِ النَّاس وَإِقَامَتهمْ أَجْزَأَهُ , وَقَالَ الثَّوْرِيّ : تُجْزِئهُ الْإِقَامَة عَنْ الْأَذَان فِي السَّفَر , وَإِنْ شِئْت أَذَّنْت وَأَقَمْت , وَقَالَ أَحْمَد بْن حَنْبَل : يُؤَذِّن الْمُسَافِر عَلَى حَدِيث مَالِك بْن الْحُوَيْرِث . وَقَالَ دَاوُد : الْأَذَان وَاجِب عَلَى كُلّ مُسَافِر فِي خَاصَّته وَالْإِقَامَة ; لِقَوْلِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَالِك بْن الْحُوَيْرِث وَلِصَاحِبِهِ : | إِذَا كُنْتُمَا فِي سَفَر فَأَذِّنَا وَأَقِيمَا وَلْيَؤُمَّكُمَا أَكْبَرُكُمَا ) خَرَّجَهُ الْبُخَارِيّ وَهُوَ قَوْل أَهْل الظَّاهِر . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : ثَبَتَ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِمَالِك بْن الْحُوَيْرِث وَلِابْنِ عَمّ لَهُ : ( إِذَا سَافَرْتُمَا فَأَذِّنَا وَأَقِيمَا وَلْيَؤُمَّكُمَا أَكْبَرُكُمَا ) . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : فَالْأَذَان وَالْإِقَامَة وَاجِبَانِ عَلَى كُلّ جَمَاعَة فِي الْحَضَر وَالسَّفَر ; لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِالْأَذَانِ وَأَمْره عَلَى الْوُجُوب . قَالَ أَبُو عُمَر : وَاتَّفَقَ الشَّافِعِيّ وَأَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابهمَا وَالثَّوْرِيّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر وَالطَّبَرِيّ عَلَى أَنَّ الْمُسَافِر إِذَا تَرَكَ الْأَذَان عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا أَجْزَأَتْهُ صَلَاته ; وَكَذَلِكَ لَوْ تَرَكَ الْإِقَامَة عِنْدهمْ , وَهُمْ أَشَدُّ كَرَاهَة لِتَرْكِهِ الْإِقَامَةَ , وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيّ فِي أَنَّ الْأَذَان غَيْر وَاجِب وَلَيْسَ فَرْضًا مِنْ فُرُوض الصَّلَاة بِسُقُوطِ الْأَذَان لِلْوَاحِدِ عِنْد الْجَمْع بِعَرَفَة وَالْمُزْدَلِفَة , وَتَحْصِيل مَذْهَب مَالِك فِي الْأَذَان فِي السَّفَر كَالشَّافِعِيِّ سَوَاء . الرَّابِعَة : وَاتَّفَقَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَصْحَابهمَا عَلَى أَنَّ الْأَذَان مَثْنَى وَالْإِقَامَة مَرَّة مَرَّة , إِلَّا أَنَّ الشَّافِعِيّ يُرَبِّع التَّكْبِير الْأَوَّل ; وَذَلِكَ مَحْفُوظ مِنْ رِوَايَات الثِّقَات فِي حَدِيث أَبِي مَحْذُورَة , وَفِي حَدِيث عَبْد اللَّه بْن زَيْد ; قَالَ : وَهِيَ زِيَادَة يَجِب قَبُولهَا , وَزَعَمَ الشَّافِعِيّ أَنَّ أَذَان أَهْل مَكَّة لَمْ يَزَلْ فِي آل أَبِي مَحْذُورَة كَذَلِكَ إِلَى وَقْته وَعَصْره . قَالَ أَصْحَابه : وَكَذَلِكَ هُوَ الْآن عِنْدهمْ ; وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَالِك مَوْجُود أَيْضًا فِي أَحَادِيث صِحَاح فِي أَذَان أَبِي مَحْذُورَة , وَفِي أَذَان عَبْد اللَّه بْن زَيْد , وَالْعَمَل عِنْدهمْ بِالْمَدِينَةِ عَلَى ذَلِكَ فِي آل سَعْد الْقُرَظِيّ إِلَى زَمَانهمْ , وَاتَّفَقَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ عَلَى التَّرْجِيع فِي الْأَذَان ; وَذَلِكَ رُجُوع الْمُؤَذِّن إِذَا قَالَ : | أَشْهَد أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه مَرَّتَيْنِ أَشْهَد أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّه مَرَّتَيْنِ | رَجَّعَ فَمَدَّ مِنْ صَوْته جُهْده . وَلَا خِلَاف بَيْن مَالِك وَالشَّافِعِيّ فِي الْإِقَامَة إِلَّا قَوْله : | قَدْ قَامَتْ الصَّلَاة | فَإِنَّ مَالِكًا يَقُولهَا مَرَّة , وَالشَّافِعِيّ مَرَّتَيْنِ ; وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاء عَلَى مَا قَالَ الشَّافِعِيّ , وَبِهِ جَاءَتْ الْآثَار , وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه وَالثَّوْرِيّ وَالْحَسَن بْن حَيّ : الْأَذَان وَالْإِقَامَة جَمِيعًا مَثْنَى مَثْنَى , وَالتَّكْبِير عِنْدهمْ فِي أَوَّل الْأَذَان وَأَوَّل وَالْإِقَامَة | اللَّه أَكْبَر | أَرْبَع مَرَّات , وَلَا تَرْجِيع عِنْدهمْ فِي الْأَذَان ; وَحُجَّتهمْ فِي ذَلِكَ حَدِيث عَبْد الرَّحْمَن بْن أَبِي لَيْلَى قَالَ : حَدَّثَنَا أَصْحَاب مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ عَبْد اللَّه بْن زَيْد جَاءَ إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُول اللَّه , رَأَيْت فِي الْمَنَام كَأَنَّ رَجُلًا قَامَ وَعَلَيْهِ بُرْدَانِ أَخْضَرَانِ عَلَى جِذْم حَائِط فَأَذَّنَ مَثْنَى وَأَقَامَ مَثْنَى وَقَعَدَ بَيْنهمَا قَعْدَة , فَسَمِعَ بِلَال بِذَلِكَ فَقَامَ وَأَذَّنَ مَثْنَى وَقَعَدَ قَعْدَة وَأَقَامَ مَثْنَى ; رَوَاهُ الْأَعْمَش وَغَيْره عَنْ عَمْرو بْن مُرَّة عَنْ اِبْن أَبِي لَيْلَى , وَهُوَ قَوْل جَمَاعَة التَّابِعِينَ وَالْفُقَهَاء بِالْعِرَاقِ . قَالَ أَبُو إِسْحَاق السَّبِيعِيّ : كَانَ أَصْحَاب عَلِيّ وَعَبْد اللَّه يَشْفَعُونَ الْأَذَان وَالْإِقَامَة ; فَهَذَا أَذَان الْكُوفِيِّينَ , مُتَوَارَث عِنْدهمْ بِهِ الْعَمَل قَرْنًا بَعْد قَرْن أَيْضًا , كَمَا يَتَوَارَث الْحِجَازِيُّونَ ; فَأَذَانهمْ تَرْبِيع التَّكْبِير مِثْل الْمَكِّيِّينَ . ثُمَّ الشَّهَادَة بِأَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه مَرَّة وَاحِدَة , وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّه مَرَّة وَاحِدَة , ثُمَّ حَيَّ عَلَى الصَّلَاة مَرَّة , ثُمَّ حَيَّ عَلَى الْفَلَاح مَرَّة , ثُمَّ يُرَجِّع الْمُؤَذِّن فَيَمُدّ صَوْته وَيَقُول : أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه - الْأَذَان كُلّه - مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ إِلَى آخِره . قَالَ أَبُو عُمَر : ذَهَبَ أَحْمَد بْن حَنْبَل وَإِسْحَاق بْن رَاهْوَيْهِ وَدَاوُد بْن عَلِيّ وَمُحَمَّد بْن جَرِير الطَّبَرِيّ إِلَى إِجَازَة الْقَوْل بِكُلِّ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَحَمَلُوهُ عَلَى الْإِبَاحَة وَالتَّخْيِير , قَالُوا : كُلّ ذَلِكَ جَائِز ; لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمِيع ذَلِكَ , وَعَمِلَ بِهِ أَصْحَابه , فَمَنْ شَاءَ قَالَ : اللَّه أَكْبَر مَرَّتَيْنِ فِي أَوَّل الْأَذَان , وَمَنْ شَاءَ قَالَ ذَلِكَ أَرْبَعًا , وَمَنْ شَاءَ رَجَّعَ فِي أَذَانه , وَمَنْ شَاءَ لَمْ يُرَجِّع , وَمَنْ شَاءَ ثَنَّى الْإِقَامَة , وَمَنْ شَاءَ أَفْرَدَهَا , إِلَّا قَوْله : | قَدْ قَامَتْ الصَّلَاة | فَإِنَّ ذَلِكَ مَرَّتَانِ مَرَّتَانِ عَلَى كُلّ حَال ! ! . الْخَامِسَة : وَاخْتَلَفُوا فِي التَّثْوِيب لِصَلَاةِ الصُّبْح - وَهُوَ قَوْل الْمُؤَذِّن : الصَّلَاة خَيْر مِنْ النَّوْم - فَقَالَ مَالِك وَالثَّوْرِيّ وَاللَّيْث : يَقُول الْمُؤَذِّن فِي صَلَاة الصُّبْح - بَعْد قَوْله : حَيَّ عَلَى الْفَلَاح مَرَّتَيْنِ - الصَّلَاة خَيْر مِنْ النَّوْم مَرَّتَيْنِ ; وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيّ بِالْعِرَاقِ , وَقَالَ بِمِصْر : لَا يَقُول ذَلِكَ , وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه : يَقُولهُ بَعْد الْفَرَاغ مِنْ الْأَذَان إِنْ شَاءَ , وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُمْ أَنَّ ذَلِكَ فِي نَفْس الْأَذَان ; وَعَلَيْهِ النَّاس فِي صَلَاة الْفَجْر . قَالَ أَبُو عُمَر رُوِيَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيث أَبِي مَحْذُورَة أَنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يَقُول فِي أَذَان الصُّبْح : ( الصَّلَاة خَيْر مِنْ النَّوْم ) . وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا ذَلِكَ مِنْ حَدِيث عَبْد اللَّه بْن زَيْد , وَرُوِيَ عَنْ أَنَس أَنَّهُ قَالَ : مِنْ السُّنَّة أَنْ يُقَال فِي الْفَجْر | الصَّلَاة خَيْر مِنْ النَّوْم | , وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عُمَر أَنَّهُ كَانَ يَقُولهُ ; وَأَمَّا قَوْل مَالِك فِي | الْمُوَطَّأ | أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ الْمُؤَذِّن جَاءَ إِلَى عُمَر بْن الْخَطَّاب يُؤْذِنهُ بِصَلَاةِ الصُّبْح فَوَجَدَهُ نَائِمًا فَقَالَ : الصَّلَاة خَيْر مِنْ النَّوْم ; فَأَمَرَهُ عُمَر أَنْ يَجْعَلهَا فِي نِدَاء الصُّبْح فَلَا أَعْلَمُ أَنَّ هَذَا رُوِيَ عَنْ عُمَر مِنْ جِهَة يُحْتَجّ بِهَا وَتُعْلَم صِحَّتهَا ; وَإِنَّمَا فِيهِ حَدِيث هِشَام بْن عُرْوَة عَنْ رَجُل يُقَال لَهُ | إِسْمَاعِيل | فَاعْرِفْهُ ; ذَكَرَ اِبْن أَبِي شَيْبَة حَدَّثَنَا عَبْدَة بْن سُلَيْمَان عَنْ هِشَام بْن عُرْوَة عَنْ رَجُل يُقَال لَهُ | إِسْمَاعِيل | قَالَ : جَاءَ الْمُؤَذِّن يُؤْذِن عُمَر بِصَلَاةِ الصُّبْح فَقَالَ : الصَّلَاة خَيْر مِنْ النَّوْم | فَأُعْجِبَ بِهِ عُمَرُ وَقَالَ لِلْمُؤَذِّنِ : | أَقِرَّهَا فِي أَذَانك | . قَالَ أَبُو عُمَر : وَالْمَعْنَى فِيهِ عِنْدِي أَنَّهُ قَالَ لَهُ : نِدَاء الصُّبْح مَوْضِع الْقَوْل بِهَا لَا هَهُنَا , كَأَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَكُون مِنْهُ نِدَاء آخَر عِنْد بَاب الْأَمِير كَمَا أَحْدَثَهُ الْأُمَرَاء بَعْد . قَالَ أَبُو عُمَر : وَإِنَّمَا حَمَلَنِي عَلَى هَذَا التَّأْوِيل وَإِنْ كَانَ الظَّاهِر مِنْ الْخَبَر خِلَافه ; لِأَنَّ التَّثْوِيب فِي صَلَاة الصُّبْح أَشْهَرُ عِنْد الْعُلَمَاء , وَالْعَامَّة مِنْ أَنْ يُظَنَّ بِعُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ جَهِلَ شَيْئًا سَنَّهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَرَ بِهِ مُؤَذِّنِيهِ , بِالْمَدِينَةِ بِلَالًا , وَبِمَكَّة أَبَا مَحْذُورَة ; فَهُوَ مَحْفُوظ مَعْرُوف فِي تَأْذِين بِلَال , وَأَذَان أَبِي مَحْذُورَة فِي صَلَاة الصُّبْح لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; مَشْهُور عِنْد الْعُلَمَاء . رَوَى وَكِيع عَنْ سُفْيَان عَنْ عِمْرَان بْن مُسْلِم عَنْ سُوَيْد بْن غَفَلَة أَنَّهُ أَرْسَلَ إِلَى مُؤَذِّنه إِذَا بَلَغْت | حَيَّ عَلَى الْفَلَاح | فَقُلْ : الصَّلَاة خَيْر مِنْ النَّوْم ; فَإِنَّهُ أَذَان بِلَال ; وَمَعْلُوم أَنَّ بِلَالًا لَمْ يُؤَذِّن قَطُّ لِعُمَر , وَلَا سَمِعَهُ بَعْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا مَرَّة بِالشَّامِ إِذْ دَخَلَهَا . السَّادِسَة : وَأَجْمَعَ أَهْل الْعِلْم عَلَى أَنَّ مِنْ السُّنَّة أَلَّا يُؤَذَّن لِلصَّلَاةِ إِلَّا بَعْد دُخُول وَقْتهَا إِلَّا الْفَجْر , فَإِنَّهُ يُؤَذَّن لَهَا قَبْل طُلُوع الْفَجْر فِي قَوْل مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَأَبِي ثَوْر ; وَحُجَّتهمْ قَوْل رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ بِلَالًا يُؤَذِّن بِلَيْلٍ فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادِيَ اِبْن أُمّ مَكْتُوم ) . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَالثَّوْرِيّ وَمُحَمَّد بْن الْحَسَن : لَا يُؤَذَّن لِصَلَاةِ الصُّبْح حَتَّى يَدْخُل وَقْتهَا لِقَوْلِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَالِك بْن الْحُوَيْرِث وَصَاحِبه : ( إِذَا حَضَرَتْ الصَّلَاة فَأَذِّنَا ثُمَّ أَقِيمَا وَلْيَؤُمَّكُمَا أَكْبَركُمَا ) وَقِيَاسًا عَلَى سَائِر الصَّلَوَات , وَقَالَتْ طَائِفَة مِنْ أَهْل الْحَدِيث : إِذَا كَانَ لِلْمَسْجِدِ مُؤَذِّنَانِ أَذَّنَ أَحَدهمَا قَبْل طُلُوع الْفَجْر , وَالْآخَر بَعْد طُلُوع الْفَجْر .</p><p>السَّابِعَة : وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُؤَذِّن يُؤَذِّن وَيُقِيم غَيْره ; فَذَهَبَ مَالِك وَأَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابهمَا إِلَى أَنَّهُ لَا بَأْس بِذَلِكَ ; لِحَدِيثِ مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه بْن زَيْد عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ إِذْ رَأَى النِّدَاء فِي النَّوْم أَنْ يُلْقِيَهُ عَلَى بِلَال ; ثُمَّ أَمَرَ عَبْد اللَّه بْن زَيْد فَأَقَامَ . وَقَالَ الثَّوْرِيّ وَاللَّيْث وَالشَّافِعِيّ : مَنْ أَذَّنَ فَهُوَ يُقِيم ; لِحَدِيثِ عَبْد الرَّحْمَن بْن زِيَاد بْن أَنْعُم عَنْ زِيَاد بْن نُعَيْم عَنْ زِيَاد بْن الْحَارِث الصُّدَائِيّ قَالَ : أَتَيْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا كَانَ أَوَّل الصُّبْح أَمَرَنِي فَأَذَّنْت , ثُمَّ قَامَ إِلَى الصَّلَاة فَجَاءَ بِلَال لِيُقِيمَ . فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ أَخَا صُدَاء أَذَّنَ وَمَنْ أَذَّنَ فَهُوَ يُقِيم ) . قَالَ أَبُو عُمَر : عَبْد الرَّحْمَن بْن زِيَاد هُوَ الْإِفْرِيقِيّ , وَأَكْثَرُهمْ يُضَعِّفُونَهُ , وَلَيْسَ يَرْوِي هَذَا الْحَدِيث غَيْره ; وَالْأَوَّل أَحْسَنُ إِسْنَادًا إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَإِنْ صَحَّ حَدِيث الْإِفْرِيقِيّ فَإِنَّ مِنْ أَهْل الْعِلْم مَنْ يُوَثِّقهُ وَيُثْنِي عَلَيْهِ ; فَالْقَوْل بِهِ أَوْلَى لِأَنَّهُ نَصّ فِي مَوْضِع الْخِلَاف , وَهُوَ مُتَأَخِّر عَنْ قِصَّة عَبْد اللَّه بْن زَيْد مَعَ بِلَال , وَالْآخَر ; فَالْآخَرُ مِنْ أَمْر رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى أَنْ يُتَّبَع , وَمَعَ هَذَا فَإِنِّي أَسْتَحِبّ إِذَا كَانَ الْمُؤَذِّن وَاحِدًا رَاتِبًا أَنْ يَتَوَلَّى الْإِقَامَة ; فَإِنْ أَقَامَهَا غَيْره فَالصَّلَاة مَاضِيَة بِإِجْمَاعٍ , وَالْحَمْد لِلَّهِ . الثَّامِنَة : وَحُكْم الْمُؤَذِّن أَنْ يَتَرَسَّل فِي أَذَانه , وَلَا يُطَرِّب بِهِ كَمَا يَفْعَلهُ الْيَوْم كَثِير مِنْ الْجُهَّال , بَلْ وَقَدْ أَخْرَجَهُ كَثِير مِنْ الطَّغَام وَالْعَوَامّ عَنْ حَدّ الْإِطْرَاب ; فَيُرَجِّعُونَ فِيهِ التَّرْجِيعَات , وَيُكْثِرُونَ فِيهِ التَّقْطِيعَات حَتَّى لَا يُفْهَم مَا يَقُول , وَلَا بِمَا بِهِ يَصُول . رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ مِنْ حَدِيث اِبْن جُرَيْج عَنْ عَطَاء عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : كَانَ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُؤَذِّن يُطَرِّب فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ الْأَذَان سَهْل سَمْح فَإِنْ كَانَ أَذَانك سَهْلًا سَمْحًا وَإِلَّا فَلَا تُؤَذِّن ) , وَيَسْتَقْبِل فِي أَذَانه الْقِبْلَة عِنْد جَمَاعَة الْعُلَمَاء , وَيَلْوِي رَأْسه يَمِينًا وَشِمَالًا فِي | حَيَّ عَلَى الصَّلَاة حَيَّ عَلَى الْفَلَاح | عِنْد كَثِير مِنْ أَهْل الْعِلْم . قَالَ أَحْمَد : لَا يَدُور إِلَّا أَنْ يَكُون فِي مَنَارَة يُرِيد أَنْ يُسْمِع النَّاس ; وَبِهِ قَالَ إِسْحَاق , وَالْأَفْضَل أَنْ يَكُون مُتَطَهِّرًا . التَّاسِعَة : وَيُسْتَحَبّ لِسَامِعِ الْأَذَان أَنْ يَحْكِيَهُ إِلَى آخِر التَّشَهُّدَيْنِ وَإِنْ أَتَمَّهُ جَازَ ; لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيد ; وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ عُمَر بْن الْخَطَّاب قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِذَا قَالَ الْمُؤَذِّن : اللَّه أَكْبَر اللَّه أَكْبَر فَقَالَ : أَحَدكُمْ اللَّه أَكْبَر اللَّه أَكْبَر , ثُمَّ قَالَ : أَشْهَد أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه , قَالَ : أَشْهَد أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه ثُمَّ قَالَ : أَشْهَد أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّه قَالَ : أَشْهَد أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّه , ثُمَّ قَالَ : حَيَّ عَلَى الصَّلَاة قَالَ : لَا حَوْل وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاَللَّهِ , ثُمَّ قَالَ : حَيَّ عَلَى الْفَلَاح قَالَ : لَا حَوْل وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاَللَّهِ , ثُمَّ قَالَ : اللَّه أَكْبَر اللَّه أَكْبَر قَالَ : اللَّه أَكْبَر اللَّه أَكْبَر , ثُمَّ قَالَ : لَا إِلَه إِلَّا اللَّه قَالَ : لَا إِلَه إِلَّا اللَّه مِنْ قَلْبه دَخَلَ الْجَنَّة ) , وَفِيهِ عَنْ سَعْد بْن أَبِي وَقَّاص عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( مَنْ قَالَ حِين يَسْمَع الْمُؤَذِّن : أَشْهَد أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَحْده لَا شَرِيك لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْده وَرَسُوله رَضِيت بِاَللَّهِ رَبًّا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبه ) . الْعَاشِرَة : وَأَمَّا فَضْل الْأَذَان وَالْمُؤَذِّن فَقَدْ جَاءَتْ فِيهِ أَيْضًا آثَار صِحَاح ; مِنْهَا مَا رَوَاهُ مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ أَدْبَرَ الشَّيْطَان لَهُ ضُرَاط حَتَّى لَا يَسْمَع التَّأْذِين ) الْحَدِيث . وَحَسْبك أَنَّهُ شِعَار الْإِسْلَام , وَعَلَم عَلَى الْإِيمَان كَمَا تَقَدَّمَ , وَأَمَّا الْمُؤَذِّن فَرَوَى مُسْلِم عَنْ مُعَاوِيَة قَالَ : سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( الْمُؤَذِّنُونَ أَطْوَلُ النَّاس أَعْنَاقًا يَوْم الْقِيَامَة ) , وَهَذِهِ إِشَارَة إِلَى الْأَمْن مِنْ هَوْل ذَلِكَ الْيَوْم . وَاللَّه أَعْلَمُ , وَالْعَرَب تُكَنِّي بِطُولِ الْعُنُق عَنْ أَشْرَاف الْقَوْم وَسَادَاتهمْ ; كَمَا قَالَ قَائِلهمْ : <br>[ يُشَبَّهُونَ مُلُوكًا فِي تَجِلَّتِهِمْ ] .......... طِوَال أَنْضِيَةِ الْأَعْنَاقِ وَاللِّمَمِ <br>وَفِي الْمُوَطَّأ عَنْ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ سَمِعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( لَا يَسْمَع مَدَى صَوْت الْمُؤَذِّن جِنّ وَلَا إِنْس وَلَا شَيْء إِلَّا شَهِدَ لَهُ يَوْم الْقِيَامَة ) , وَفِي سُنَن اِبْن مَاجَهْ عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ أَذَّنَ مُحْتَسِبًا سَبْع سِنِينَ كُتِبَتْ لَهُ بَرَاءَة مِنْ النَّار ) وَفِيهِ عَنْ اِبْن عُمَر أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ أَذَّنَ ثِنْتَيْ عَشْرَة سَنَة وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّة وَكُتِبَ لَهُ بِتَأْذِينِهِ فِي كُلّ يَوْم سِتُّونَ حَسَنَة وَلِكُلِّ إِقَامَة ثَلَاثُونَ حَسَنَة ) . قَالَ أَبُو حَاتِم : هَذَا الْإِسْنَاد . مُنْكَر وَالْحَدِيث صَحِيح . وَعَنْ عُثْمَان بْن أَبِي الْعَاص قَالَ : كَانَ آخِر مَا عَهِدَ إِلَيَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَلَّا أَتَّخِذ مُؤَذِّنًا يَأْخُذ عَلَى أَذَانه أَجْرًا ) حَدِيث ثَابِت . الْحَادِيَة عَشْرَة : وَاخْتَلَفُوا فِي أَخْذ الْأُجْرَة عَلَى الْأَذَان ; فَكَرِهَ ذَلِكَ الْقَاسِم بْن عَبْد الرَّحْمَن وَأَصْحَاب الرَّأْي , وَرَخَّصَ فِيهِ مَالِك , وَقَالَ : لَا بَأْس بِهِ , وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ : ذَلِكَ مَكْرُوه , وَلَا بَأْس بِأَخْذِ الرِّزْق عَلَى ذَلِكَ مِنْ بَيْت الْمَال , وَقَالَ الشَّافِعِيّ : لَا يُرْزَق الْمُؤَذِّن إِلَّا مِنْ خُمُس الْخُمُس سَهْم النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : لَا يَجُوز أَخْذ الْأُجْرَة عَلَى الْأَذَان . وَقَدْ اِسْتَدَلَّ عُلَمَاؤُنَا بِأَخْذِ الْأُجْرَة بِحَدِيثِ أَبِي مَحْذُورَة , وَفِيهِ نَظَر ; أَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَهْ وَغَيْرهمَا قَالَ : خَرَجْت فِي نَفَر فَكُنَّا بِبَعْضِ الطَّرِيق فَأَذَّنَ مُؤَذِّن رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّلَاةِ عِنْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَسَمِعْنَا صَوْت الْمُؤَذِّن وَنَحْنُ عَنْهُ مُتَنَكِّبُونَ فَصَرَخْنَا نَحْكِيه نَهْزَأ بِهِ ; فَسَمِعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَرْسَلَ إِلَيْنَا قَوْمًا فَأَقْعَدُونَا بَيْن يَدَيْهِ فَقَالَ : ( أَيّكُمْ الَّذِي سَمِعْت صَوْته قَدْ اِرْتَفَعَ ) فَأَشَارَ إِلَيَّ الْقَوْم كُلّهمْ وَصَدَقُوا فَأَرْسَلَ كُلّهمْ وَحَبَسَنِي وَقَالَ لِي : ( قُمْ فَأَذِّنْ ) فَقُمْت وَلَا شَيْء أَكْرَه إِلَيَّ مِنْ أَمْر رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا مِمَّا يَأْمُرنِي بِهِ , فَقُمْت بَيْن يَدَيْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَأَلْقَى عَلَيَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّأْذِين هُوَ بِنَفْسِهِ فَقَالَ : ( قُلْ اللَّه أَكْبَر اللَّه أَكْبَر اللَّه أَكْبَر اللَّه أَكْبَر أَشْهَد أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه أَشْهَد أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه أَشْهَد أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّه أَشْهَد أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّه ) , ثُمَّ قَالَ لِي : ( اِرْفَعْ فَمُدَّ صَوْتك أَشْهَد أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه أَشْهَد أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه أَشْهَد أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّه أَشْهَد أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّه حَيَّ عَلَى الصَّلَاة حَيَّ عَلَى الصَّلَاة حَيَّ عَلَى الْفَلَاح حَيَّ عَلَى الْفَلَاح اللَّه أَكْبَر اللَّه أَكْبَر لَا إِلَه إِلَّا اللَّه ) , ثُمَّ دَعَانِي حِين قَضَيْت التَّأْذِين فَأَعْطَانِي صُرَّة فِيهَا شَيْء مِنْ فِضَّة , قَدْ وَضَعَ يَده عَلَى نَاصِيَة أَبِي مَحْذُورَة ثُمَّ أَمَرَّهَا عَلَى وَجْهه , ثُمَّ عَلَى ثَدْيَيْهِ , ثُمَّ عَلَى كَبِده حَتَّى بَلَغَتْ يَد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُرَّة أَبِي مَحْذُورَة ; ثُمَّ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( بَارَكَ اللَّه لَك وَبَارَكَ عَلَيْك ) , فَقُلْت : يَا رَسُول اللَّه مُرْنِي بِالتَّأْذِينِ بِمَكَّة , قَالَ : ( قَدْ أَمَرْتُك ) . فَذَهَبَ كُلّ شَيْء كَانَ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ كَرَاهِيَة , وَعَادَ ذَلِكَ كُلّه مَحَبَّة لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَقَدِمْت عَلَى عَتَّاب بْن أُسَيْد عَامِل رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّة فَأَذَّنْت مَعَهُ بِالصَّلَاةِ عَنْ أَمْر رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; لَفْظ اِبْن مَاجَهْ .|ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ|أَيْ أَنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَا عَقْل لَهُ يَمْنَعهُ مِنْ الْقَبَائِح . رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ النَّصَارَى وَكَانَ بِالْمَدِينَةِ إِذَا سَمِعَ الْمُؤَذِّن يَقُول : | أَشْهَد أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّه | قَالَ : حُرِقَ الْكَاذِب ; فَسَقَطَتْ فِي بَيْته شَرَارَة مِنْ نَار وَهُوَ نَائِم فَتَعَلَّقَتْ بِالْبَيْتِ فَأَحْرَقَتْهُ وَأَحْرَقَتْ ذَلِكَ الْكَافِر مَعَهُ ; فَكَانَتْ عِبْرَة لِلْخَلْقِ | وَالْبَلَاء مُوَكَّل بِالْمَنْطِقِ | وَقَدْ كَانُوا يُمْهَلُونَ مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يَسْتَفْتِحُوا , فَلَا يُؤَخَّرُوا بَعْد ذَلِكَ ; ذَكَرَهُ اِبْن الْعَرَبِيّ .

قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ

قَالَ اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : جَاءَ نَفَر مِنْ الْيَهُود فِيهِمْ أَبُو يَاسِر بْن أَخْطَبَ وَرَافِع بْن أَبِي رَافِع - إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلُوهُ عَمَّنْ يُؤْمِن بِهِ مِنْ الرُّسُل عَلَيْهِمْ السَّلَام ; فَقَالَ : ( نُؤْمِن بِاَللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل إِلَى قَوْله : | وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ | ) [ الْبَقَرَة : 133 ] , فَلَمَّا ذُكِرَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام جَحَدُوا نُبُوَّته وَقَالُوا : وَاَللَّه مَا نَعْلَم أَهْل دِين أَقَلَّ حَظًّا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة مِنْكُمْ وَلَا دِينًا شَرًّا مِنْ دِينكُمْ ; فَنَزَلَتْ هَدّه الْآيَة وَمَا بَعْدهَا , وَهِيَ مُتَّصِلَة بِمَا سَبَقَهَا مِنْ إِنْكَارهمْ الْأَذَان ; فَهُوَ جَامِع لِلشَّهَادَةِ لِلَّهِ بِالتَّوْحِيدِ , وَلِمُحَمَّدٍ بِالنُّبُوَّةِ , وَالْمُتَنَاقِض دِين مَنْ فَرَّقَ بَيْن أَنْبِيَاء اللَّه لَا دِين مَنْ يُؤْمِن بِالْكُلِّ , وَيَجُوز إِدْغَام اللَّام فِي التَّاء لِقُرْبِهَا مِنْهَا . و | تَنْقِمُونَ | مَعْنَاهُ تَسْخَطُونَ , وَقِيلَ : تَكْرَهُونَ وَقِيلَ : تُنْكِرُونَ , وَالْمَعْنَى مُتَقَارِب ; يُقَال : نَقَمَ مِنْ كَذَا يَنْقِم وَنَقِمَ يَنْقَم , وَالْأَوَّل أَكْثَر قَالَ عَبْد اللَّه بْن قَيْس الرُّقَيَّات : <br>مَا نَقَمُوا مِنْ بَنِي أُمَيَّة إِلَّا .......... أَنَّهُمْ يَحْلُمُونَ إِنْ غَضِبُوا <br>وَفِي التَّنْزِيل | وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ | [ الْبُرُوج : 8 ] وَيُقَال : نَقِمْت عَلَى الرَّجُل بِالْكَسْرِ فَأَنَا نَاقِم إِذَا عَتَبْت عَلَيْهِ ; يُقَال : مَا نَقِمْت عَلَيْهِ الْإِحْسَان . قَالَ الْكِسَائِيّ : نَقِمْت بِالْكَسْرِ لُغَة , وَنَقَمْت الْأَمْرَ أَيْضًا وَنَقِمْته إِذَا كَرِهْته , وَانْتَقَمَ اللَّه مِنْهُ أَيْ عَاقَبَهُ , وَالِاسْم مِنْهُ النَّقِمَة , وَالْجَمْع نَقِمَات وَنَقِم مِثْل كَلِمَة وَكَلِمَات وَكَلِم , وَإِنْ شِئْت سَكَّنْت الْقَاف وَنَقَلْت حَرَكَتهَا إِلَى النُّون فَقُلْت : نِقْمَة وَالْجَمْع نِقَم ; مِثْل نِعْمَة وَنِعَم ,|مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ|فِي مَوْضِع نَصْب بـ | تَنْقِمُونَ | وَتَنْقِمُونَ | بِمَعْنَى تَعِيبُونَ , أَيْ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا إِيمَاننَا بِاَللَّهِ وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّا عَلَى الْحَقّ .|قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ|أَيْ فِي تَرْككُمْ الْإِيمَان , وَخُرُوجكُمْ عَنْ اِمْتِثَال أَمْر اللَّه فَقِيلَ هُوَ مِثْل قَوْل الْقَائِل : هَلْ تَنْقِم مِنِّي إِلَّا أَنِّي عَفِيف وَأَنَّك فَاجِر , وَقِيلَ : أَيْ لِأَنَّ أَكْثَركُمْ فَاسِقُونَ تَنْقِمُونَ مِنَّا ذَلِكَ .

قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ

أَيْ بِشَرٍّ مِنْ نَقْمكُمْ عَلَيْنَا , وَقِيلَ : بِشَرِّ مَا تُرِيدُونَ لَنَا مِنْ الْمَكْرُوه ; وَهَذَا جَوَاب قَوْلهمْ : مَا نَعْرِف دِينًا شَرًّا مِنْ دِينكُمْ .|مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ|نُصِبَ عَلَى الْبَيَان وَأَصْلهَا مَفْعُولَة فَأُلْقِيَتْ حَرَكَة الْوَاو عَلَى الثَّاء فَسُكِّنَتْ الْوَاو وَبَعْدهَا وَاو سَاكِنَة فَحُذِفَتْ إِحْدَاهُمَا لِذَلِكَ ; وَمِثْله مَقُولَة وَمَجُوزَة وَمَضُوفَة عَلَى مَعْنَى الْمَصْدَر ; كَمَا قَالَ الشَّاعِر : <br>وَكُنْت إِذَا جَارِي دَعَا لِمَضُوفَة .......... أُشَمِّر حَتَّى يَنْصُفَ السَّاقَ مِئْزَرِي <br>وَقِيلَ : مَفْعُلَة كَقَوْلِك مَكْرُمَة وَمَعْقُلَة|مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ|| مَنْ | فِي مَوْضِع رَفْع ; كَمَا قَالَ : | بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمْ النَّار | [ الْحَجّ : 72 ] وَالتَّقْدِير هُوَ لَعْن مَنْ لَعَنَهُ اللَّه , وَيَجُوز أَنْ يَكُون فِي مَوْضِع نَصْب بِمَعْنَى : قُلْ هَلْ أُنَبِّئكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَنْ لَعَنَهُ اللَّه , وَيَجُوز أَنْ يَكُون فِي مَوْضِع خَفْض عَلَى الْبَدَل مِنْ شَرّ وَالتَّقْدِير : هَلْ أُنَبِّئكُمْ بِمَنْ لَعَنَهُ اللَّه ; وَالْمُرَاد الْيَهُود , وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْل فِي الطَّاغُوت , أَيْ وَجَعَلَ مِنْهُمْ مَنْ عَبَدَ الطَّاغُوت , وَالْمَوْصُول مَحْذُوف عِنْد الْفَرَّاء , وَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ : لَا يَجُوز حَذْف الْمَوْصُول ; وَالْمَعْنَى مَنْ لَعَنَهُ اللَّه وَعَبَدَ الطَّاغُوت . وَقَرَأَ اِبْن وَثَّاب النَّخَعِيّ | وَأُنْبِئكُمْ | بِالتَّخْفِيفِ , وَقَرَأَ حَمْزَة : | عَبُدَ الطَّاغُوتِ | بِضَمِّ الْبَاء وَكَسْر التَّاء ; جَعَلَهُ اِسْمًا عَلَى فَعُل كَعَضُد فَهُوَ بِنَاء لِلْمُبَالَغَةِ وَالْكَثْرَة كَيَقُظ وَنَدُس وَحَذُر , وَأَصْله الصِّفَة ; وَمِنْهُ قَوْل النَّابِغَة : <br>مِنْ وَحْش وَجْرَة مُوشِيّ أَكَارِعه .......... طَاوِي الْمَصِيرِ كَسَيْفِ الصَّيْقَل الْفَرُد <br>بِضَمِّ الرَّاء وَنَصْبه ب | جَعَلَ | ; أَيْ جَعَلَ مِنْهُمْ عَبُدًا لِلطَّاغُوتِ , وَأَضَافَ عَبُد إِلَى الطَّاغُوت فَخَفَضَهُ , وَجَعَلَ بِمَعْنَى خَلَقَ , وَالْمَعْنَى وَجَعَلَ مِنْهُمْ مَنْ يُبَالِغ فِي عِبَادَة الطَّاغُوت . وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْبَاء وَالتَّاء ; وَجَعَلُوهُ فِعْلًا مَاضِيًا , وَعَطَفُوهُ عَلَى فِعْل مَاضٍ وَهُوَ غَضِبَ وَلَعَنَ ; وَالْمَعْنَى عِنْدهمْ مَنْ لَعَنَهُ اللَّه وَمَنْ عَبَدَ الطَّاغُوت , أَوْ مَنْصُوبًا ب | جَعَلَ | ; أَيْ جَعَلَ مِنْهُمْ الْقِرَدَة وَالْخَنَازِير وَعَبَدَةَ الطَّاغُوت , وَوَحَّدَ الضَّمِير فِي عَبَدَ حَمْلًا عَلَى لَفْظ | مَنْ | دُون مَعْنَاهَا . وَقَرَأَ أُبَيّ وَابْن مَسْعُود | وَعَبَدُوا الطَّاغُوت | عَلَى الْمَعْنَى . اِبْن عَبَّاس : | وَعُبُدَ الطَّاغُوتِ | , فَيَجُوز أَنْ يَكُون جَمْع عَبْد كَمَا يُقَال : رَهْن وَرُهُن , وَسَقْف وَسُقُف , وَيَجُوز أَنْ يَكُون جَمْع عِبَاد كَمَا يُقَال : مِثَال وَمُثُل , وَيَجُوز أَنْ يَكُون جَمْع عَبِيد كَرَغِيفِ وَرُغُف , وَيَجُوز أَنْ يَكُون جَمْع عَادِل كَبَازِلٍ وَبُزُل ; وَالْمَعْنَى : وَخَدَم الطَّاغُوت , وَعِنْ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا | وَعُبَّدَ الطَّاغُوت | جَعَلَهُ جَمْع عَابِد كَمَا يُقَال شَاهِد وَشُهَّد وَغَايِب وَغُيَّب , وَعَنْ أَبِي وَاقِد : وَعُبَّاد الطَّاغُوت لِلْمُبَالَغَةِ , جَمْع عَابِد أَيْضًا ; كَعَامِلٍ وَعُمَّال , وَضَارِب وَضُرَّاب , وَذَكَرَ مَحْبُوب أَنَّ الْبَصْرِيِّينَ قَرَءُوا : ( وَعُبَّاد الطَّاغُوت ) جَمْع عَابِد أَيْضًا , كَقَائِمٍ وَقُيَّام , وَيَجُوز أَنْ يَكُون جَمْع عَبْد . وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَر الرُّؤَاسِيّ ( وَعُبِدَ الطَّاغُوت ) عَلَى الْمَفْعُول , وَالتَّقْدِير : وَعُبِدَ الطَّاغُوت فِيهِمْ , وَقَرَأَ عَوْن الْعُقَيْلِيّ وَابْن بُرَيْدَة : ( وَعَابِد الطَّاغُوت ) عَلَى التَّوْحِيد , وَهُوَ يُؤَدِّي عَنْ جَمَاعَة , وَقَرَأَ اِبْن مَسْعُود أَيْضًا ( وَعُبِدَ 173 الطَّاغُوت ) وَعَنْهُ أَيْضًا [ وَأُبَيّ ] ( وَعُبِدَتْ الطَّاغُوت ) عَلَى تَأْنِيث الْجَمَاعَة ; كَمَا قَالَ تَعَالَى : ( قَالَتْ الْأَعْرَاب ) [ الْحُجُرَات : 14 ] وَقَرَأَ عُبَيْد بْن عُمَيْر : ( وَأَعْبُدَ الطَّاغُوت ) مِثْل كَلْب وَأَكْلُب . فَهَذِهِ اِثْنَا عَشَرَ وَجْهًا .|أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ|| أُولَئِكَ شَرّ مَكَانًا | لِأَنَّ مَكَانهمْ النَّار ; وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَلَا شَرّ فِي مَكَانهمْ , وَقَالَ الزَّجَّاج : أُولَئِكَ شَرّ مَكَانًا عَلَى قَوْلكُمْ . النَّحَّاس : وَمَنْ أَحْسَن مَا قِيلَ فِيهِ : أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّه شَرّ مَكَانًا فِي الْآخِرَة مِنْ مَكَانكُمْ فِي الدُّنْيَا لِمَا لَحِقَكُمْ مِنْ الشَّرّ , وَقِيلَ : أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّه شَرّ مَكَانًا مِنْ الَّذِينَ نَقَمُوا عَلَيْكُمْ , وَقِيلَ : أُولَئِكَ الَّذِينَ نَقَمُوا عَلَيْكُمْ شَرّ مَكَانًا مِنْ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّه , وَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة قَالَ الْمُسْلِمُونَ لَهُمْ : يَا إِخْوَة الْقِرَدَة وَالْخَنَازِير فَنَكَسُوا رُءُوسهمْ اِفْتِضَاحًا , وَفِيهِمْ يَقُول الشَّاعِر : <br>فَلَعْنَة اللَّه عَلَى الْيَهُود .......... إِنَّ الْيَهُود إِخْوَة الْقُرُود<br>

وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ

هَذِهِ صِفَة الْمُنَافِقِينَ , وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِشَيْءٍ مِمَّا سَمِعُوهُ , بَلْ دَخَلُوا كَافِرِينَ وَخَرَجُوا كَافِرِينَ . | وَاللَّه أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ | أَيْ مِنْ نِفَاقهمْ , وَقِيلَ : الْمُرَاد الْيَهُود الَّذِينَ قَالُوا : آمِنُوا بِاَلَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْه النَّهَار إِذَا دَخَلْتُمْ الْمَدِينَة , وَاكْفُرُوا آخِره إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَى بُيُوتكُمْ , يَدُلّ عَلَيْهِ مَا قَبْله مِنْ ذِكْرهمْ وَمَا يَأْتِي .

وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ

يَعْنِي مِنْ الْيَهُود . | يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْم وَالْعُدْوَان | أَيْ يُسَابِقُونَ فِي الْمَعَاصِي وَالظُّلْم | وَأَكْلهمْ السُّحْت لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ |

لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ

( لَوْلَا ) بِمَعْنَى فَلَا . ( يَنْهَاهُمْ ) يَزْجُرهُمْ . ( الرَّبَّانِيُّونَ ) عُلَمَاء النَّصَارَى . ( وَالْأَحْبَار ) عُلَمَاء الْيَهُود قَالَهُ الْحَسَن , وَقِيلَ الْكُلّ فِي الْيَهُود ; لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَات فِيهِمْ . ثُمَّ وَبَّخَ عُلَمَاءَهُمْ فِي تَرْكهمْ نَهْيهمْ فَقَالَ|عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ|كَمَا وَبَّخَ مَنْ يُسَارِع فِي الْإِثْم بِقَوْلِهِ : | لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ | وَدَلَّتْ الْآيَة عَلَى أَنَّ تَارِك النَّهْي عَنْ الْمُنْكَر كَمُرْتَكِبِ الْمُنْكَر ; فَالْآيَة تَوْبِيخ لِلْعُلَمَاءِ فِي تَرْك الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر , وَقَدْ مَضَى الْقَوْل فِي هَذَا الْمَعْنَى فِي ( الْبَقَرَة وَآل عِمْرَان ) , وَرَوَى سُفْيَان بْن عُيَيْنَة قَالَ : حَدَّثَنِي سُفْيَان بْن سَعِيد عَنْ مِسْعَر قَالَ : بَلَغَنِي أَنَّ مَلَكًا أُمِرَ أَنْ يَخْسِف بِقَرْيَةٍ فَقَالَ : يَا رَبّ فِيهَا فُلَان الْعَابِد فَأَوْحَى اللَّه تَعَالَى إِلَيْهِ : ( أَنْ بِهِ فَابْدَأْ فَإِنَّهُ لَمْ يَتَمَعَّر وَجْهه فِي سَاعَة قَطُّ ) , وَفِي صَحِيح التِّرْمِذِيّ : ( إِنَّ النَّاس إِذَا رَأَوْا الظَّالِم وَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمّهُمْ اللَّه بِعِقَابٍ مِنْ عِنْده ) , وَسَيَأْتِي . وَالصُّنْع بِمَعْنَى الْعَمَل إِلَّا أَنَّهُ يَقْتَضِي الْجَوْدَة ; يُقَال : سَيْف صَنِيع إِذَا جُوِّدَ عَمَله .

وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُم

قَالَ عِكْرِمَة : إِنَّمَا قَالَ هَذَا فِنْحَاص بْن عَازُورَاء , لَعَنَهُ اللَّه , وَأَصْحَابه , وَكَانَ لَهُمْ أَمْوَال فَلَمَّا كَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَلَّ مَالهمْ ; فَقَالُوا : إِنَّ اللَّه بَخِيل , وَيَد اللَّه مَقْبُوضَة عَنَّا فِي الْعَطَاء ; فَالْآيَة خَاصَّة فِي بَعْضهمْ , وَقِيلَ : لَمَّا قَالَ قَوْم هَذَا وَلَمْ يُنْكِر الْبَاقُونَ صَارُوا كَأَنَّهُمْ بِأَجْمَعِهِمْ قَالُوا هَذَا , وَقَالَ الْحَسَن : الْمَعْنَى يَد اللَّه مَقْبُوضَة عَنْ عَذَابنَا , وَقِيلَ : إِنَّهُمْ لَمَّا رَأَوْا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي فَقْر وَقِلَّة مَال وَسَمِعُوا ( مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِض اللَّه قَرْضًا حَسَنًا ) وَرَأَوْا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَانَ يَسْتَعِين بِهِمْ فِي الدِّيَات قَالُوا : إِنَّ إِلَه مُحَمَّد فَقِير , وَرُبَّمَا قَالُوا : بَخِيل ; وَهَذَا مَعْنَى قَوْلهمْ : ( يَد اللَّه مَغْلُولَة ) فَهَذَا عَلَى التَّمْثِيل كَقَوْلِهِ : ( وَلَا تَجْعَل يَدك مَغْلُولَة إِلَى عُنُقك ) [ الْإِسْرَاء : 29 ] , وَيُقَال لِلْبَخِيلِ : جَعْد الْأَنَامِل , وَمَقْبُوض الْكَفّ , وَكَزّ الْأَصَابِع , وَمَغْلُول الْيَد ; قَالَ الشَّاعِر : <br>كَانَتْ خُرَاسَان أَرْضًا إِذْ يَزِيد بِهَا .......... وَكُلّ بَاب مِنْ الْخَيْرَات مَفْتُوحُ <br><br>فَاسْتَبْدَلَتْ بَعْده جَعْدًا أَنَامِله .......... كَأَنَّمَا وَجْهه بِالْخَلِّ مَنْضُوحُ <br>وَالْيَد فِي كَلَام الْعَرَب تَكُون لِلْجَارِحَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : | وَخُذْ بِيَدِك ضِغْثًا | [ ص : 44 ] هَذَا مُحَال عَلَى اللَّه تَعَالَى , وَتَكُون لِلنِّعْمَةِ ; تَقُول الْعَرَب : كَمْ يَد لِي عِنْد فُلَان , أَيْ كَمْ مِنْ نِعْمَة لِي قَدْ أَسْدَيْتهَا لَهُ , وَتَكُون لِلْقُوَّةِ ; قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : | وَاذْكُرْ عَبْدنَا دَاوُد ذَا الْأَيْد | [ ص : 17 ] , أَيْ ذَا الْقُوَّة وَتَكُون يَد الْمُلْك وَالْقُدْرَة ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : | قُلْ إِنَّ الْفَضْل بِيَدِ اللَّه يُؤْتِيه مَنْ يَشَاء | [ آل عِمْرَان : 73 ] . وَتَكُون بِمَعْنَى الصِّلَة , قَالَ اللَّه تَعَالَى : | مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا | [ يس : 71 ] أَيْ مِمَّا عَمِلْنَا نَحْنُ , وَقَالَ : | أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَة النِّكَاح | [ الْبَقَرَة : 237 ] أَيْ الَّذِي لَهُ عُقْدَة النِّكَاح , وَتَكُون بِمَعْنَى التَّأْيِيد وَالنُّصْرَة , وَمِنْ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( يَد اللَّه مَعَ الْقَاضِي حَتَّى يَقْضِيَ وَالْقَاسِم حَتَّى يَقْسِمَ ) , وَتَكُون لِإِضَافَةِ الْفِعْل إِلَى الْمُخْبَر عَنْهُ تَشْرِيفًا لَهُ وَتَكْرِيمًا ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : | يَا إِبْلِيس مَا مَنَعَك أَنْ تَسْجُد لِمَا خَلَقْت بِيَدَيَّ | [ ص : 75 ] فَلَا يَجُوز أَنْ يُحْمَل عَلَى الْجَارِحَة ; لِأَنَّ الْبَارِيَ جَلَّ وَتَعَالَى وَاحِد لَا يَجُوز عَلَيْهِ التَّبْعِيض , وَلَا عَلَى الْقُوَّة وَالْمِلْك وَالنِّعْمَة وَالصِّلَة , لِأَنَّ الِاشْتِرَاك يَقَع حِينَئِذٍ . بَيْن وَلِيّه آدَم وَعَدُوّهُ إِبْلِيس , وَيَبْطُل مَا ذُكِرَ مِنْ تَفْضِيله عَلَيْهِ ; لِبُطْلَانِ مَعْنَى التَّخْصِيص , فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ تُحْمَل عَلَى صِفَتَيْنِ تَعَلَّقَتَا بِخَلْقِ آدَم تَشْرِيفًا لَهُ دُون خَلْق إِبْلِيس تَعَلُّق الْقُدْرَة بِالْمَقْدُورِ , لَا مِنْ طَرِيق الْمُبَاشَرَة وَلَا مِنْ حَيْثُ الْمُمَاسَّة ; وَمِثْله مَا رُوِيَ أَنَّهُ عَزَّ اِسْمه وَتَعَالَى عُلَاهُ وَجَدّه أَنَّهُ كَتَبَ التَّوْرَاة بِيَدِهِ , وَغَرَسَ دَار الْكَرَامَة بِيَدِهِ لِأَهْلِ الْجَنَّة , وَغَيْر ذَلِكَ تَعَلُّق الصِّفَة بِمُقْتَضَاهَا .|غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا|حُذِفَتْ الضَّمَّة مِنْ الْيَاء لِثِقَلِهَا ; أَيْ غُلَّتْ فِي الْآخِرَة , وَيَجُوز أَنْ يَكُون دُعَاء عَلَيْهِمْ , وَكَذَا | وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا | وَالْمَقْصُود تَعْلِيمنَا كَمَا قَالَ : | لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِد الْحَرَام إِنْ شَاءَ اللَّه | [ الْفَتْح : 27 ] ; عَلَّمَنَا الِاسْتِثْنَاء كَمَا عَلَّمَنَا الدُّعَاء عَلَى أَبِي لَهَب بِقَوْلِهِ : | تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَب | [ الْمَسَد : 1 ] وَقِيلَ : الْمُرَاد أَنَّهُمْ أَبْخَلُ الْخَلْق ; فَلَا تَرَى يَهُودِيًّا غَيْر لَئِيم , وَفِي الْكَلَام عَلَى هَذَا الْقَوْل إِضْمَار الْوَاو ; أَيْ قَالُوا : يَد اللَّه مَغْلُولَة وَغُلَّتْ أَيْدِيهمْ . وَاللَّعْن بِالْإِبْعَادِ , وَقَدْ تَقَدَّمَ .|بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ|اِبْتِدَاء وَخَبَر ; أَيْ بَلْ نِعْمَته مَبْسُوطَة ; فَالْيَد بِمَعْنَى النِّعْمَة . قَالَ بَعْضهمْ : هَذَا غَلَط ; لِقَوْلِهِ : | بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ | فَنِعَم اللَّه تَعَالَى أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى فَكَيْفَ تَكُون بَلْ نِعْمَتَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ يَجُوز أَنْ يَكُون هَذَا تَثْنِيَة جِنْس لَا تَثْنِيَة وَاحِد مُفْرَد ; فَيَكُون مِثْل قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( مَثَل الْمُنَافِق كَالشَّاةِ الْعَائِرَة بَيْن الْغَنَمَيْنِ ) . فَأَحَد الْجِنْسَيْنِ نِعْمَة الدُّنْيَا , وَالثَّانِي نِعْمَة الْآخِرَة . وَقِيلَ : نِعْمَتَا الدُّنْيَا النِّعْمَة الظَّاهِرَة وَالنِّعْمَة الْبَاطِنَة ; كَمَا قَالَ : | وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمه ظَاهِرَة وَبَاطِنَة | [ لُقْمَان : 20 ] . وَرَوَى اِبْن عَبَّاس عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , أَنَّهُ قَالَ فِيهِ : ( النِّعْمَة الظَّاهِرَة مَا حَسُنَ مِنْ خُلُقك , وَالْبَاطِنَة مَا سُتِرَ عَلَيْك مِنْ سَيِّئ عَمَلك ) , وَقِيلَ : نِعْمَتَاهُ الْمَطَر وَالنَّبَات اللَّتَانِ النِّعْمَة بِهِمَا وَمِنْهُمَا . وَقِيلَ : إِنَّ النِّعْمَة لِلْمُبَالَغَةِ ; كَقَوْلِ الْعَرَب : ( لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْك ) وَلَيْسَ يُرِيد الِاقْتِصَار عَلَى مَرَّتَيْنِ ; وَقَدْ يَقُول الْقَائِل : مَا لِي بِهَذَا الْأَمْر يَد أَيْ قُوَّة . قَالَ السُّدِّيّ ; مَعْنَى قَوْله ( يَدَاهُ ) قُوَّتَاهُ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَاب , بِخِلَافِ مَا قَالَتْ الْيَهُود : إِنَّ يَده مَقْبُوضَة عَنْ عَذَابهمْ , وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ لِي أَنْفِقْ أُنْفِق عَلَيْك ) , وَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يَمِين اللَّه مَلْأَى لَا يَغِيضهَا سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ رَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُذْ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالْأَرْض فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَمِينه - قَالَ - وَعَرْشه عَلَى الْمَاء وَبِيَدِهِ الْأُخْرَى الْقَبْض يَرْفَع وَيَخْفِض ) . السَّحَّاء الصَّبّ الْكَثِير , وَيَغِيض يَنْقُص ; وَنَظِير هَذَا الْحَدِيث قَوْله جَلَّ ذِكْره : | وَاَللَّه يَقْبِض وَيَبْسُط | [ الْبَقَرَة : 245 ] . وَأَمَّا هَذِهِ الْآيَة فَفِي قِرَاءَة اِبْن مَسْعُود | بَلْ يَدَاهُ بُسْطَانِ | [ الْمَائِدَة : 64 ] حَكَاهُ الْأَخْفَش , وَقَالَ يُقَال : يَد بُسْطَة , أَيْ مُنْطَلِقَة مُنْبَسِطَة .|يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ|أَيْ يَرْزُق كَمَا يُرِيد , وَيَجُوز أَنْ تَكُون الْيَد فِي هَذِهِ الْآيَة بِمَعْنَى الْقُدْرَة ; أَيْ قُدْرَته شَامِلَة , فَإِنْ شَاءَ وَسَّعَ وَإِنْ شَاءَ قَتَّرَ .|وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ|لَام قَسَم .|مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ|أَيْ بِاَلَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْك .|طُغْيَانًا وَكُفْرًا|أَيْ إِذَا نَزَلَ شَيْء مِنْ الْقُرْآن فَكَفَرُوا اِزْدَادَ كُفْرهمْ .|وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ|قَالَ مُجَاهِد : أَيْ بَيْن الْيَهُود وَالنَّصَارَى ; لِأَنَّهُ قَالَ قَبْل هَذَا | لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُود وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء | [ الْمَائِدَة : 51 ] , وَقِيلَ : أَيْ أَلْقَيْنَا بَيْن طَوَائِف الْيَهُود , كَمَا قَالَ : | تَحْسَبهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبهمْ شَتَّى | [ الْحَشْر : 14 ] فَهُمْ مُتَبَاغِضُونَ غَيْرُ مُتَّفِقِينَ ; فَهُمْ أَبْغَضُ خَلْق اللَّه إِلَى النَّاس .|كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ|يُرِيد الْيَهُود . و | كُلَّمَا | ظَرْف أَيْ كُلَّمَا جَمَعُوا وَأَعَدُّوا شَتَّتَ اللَّه جَمْعهمْ , وَقِيلَ : إِنَّ الْيَهُود لَمَّا أَفْسَدُوا وَخَالَفُوا كِتَاب اللَّه - التَّوْرَاة - أَرْسَلَ اللَّه عَلَيْهِمْ بُخْتنَصَّرَ , ثُمَّ أَفْسَدُوا فَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ بُطْرُس الرُّومِيّ , ثُمَّ أَفْسَدُوا فَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ الْمَجُوس , ثُمَّ أَفْسَدُوا فَبَعَثَ اللَّه عَلَيْهِمْ الْمُسْلِمِينَ ; فَكَانُوا كُلَّمَا اِسْتَقَامَ أَمْرهمْ شَتَّتَهُمْ اللَّه فَكُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا أَيْ أَهَاجُوا شَرًّا , وَأَجْمَعُوا أَمْرهمْ عَلَى حَرْب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ | أَطْفَأَهَا اللَّه | وَقَهَرَهُمْ وَوَهَّنَ أَمْرهمْ فَذِكْر النَّار مُسْتَعَار . قَالَ قَتَادَة : أَذَلَّهُمْ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ ; فَلَقَدْ بَعَثَ اللَّه النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ تَحْت أَيْدِي الْمَجُوس , وَقِيلَ : الْمُرَاد بِالنَّارِ هُنَا نَار الْغَضَب , أَيْ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَار الْغَضَب فِي أَنْفُسهمْ وَتَجَمَّعُوا بِأَبْدَانِهِمْ وَقُوَّة النُّفُوس مِنْهُمْ بِاحْتِدَامِ نَار الْغَضَب أَطْفَأَهَا اللَّه حَتَّى يَضْعُفُوا ; وَذَلِكَ بِمَا جَعَلَهُ مِنْ الرُّعْب نُصْرَة بَيْن يَدَيْ نَبِيّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .|وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ|أَيْ يَسْعَوْنَ فِي إِبْطَال الْإِسْلَام , وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْفَسَاد , وَاللَّه أَعْلَمُ .

وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ

( أَنَّ ) فِي مَوْضِع رَفْع , وَكَذَا | وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاة | .|آمَنُوا|صَدَّقُوا .|وَاتَّقَوْا|أَيْ الشِّرْك وَالْمَعَاصِيَ .|لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ|اللَّام جَوَاب ( لَوْ ) . كَفَّرْنَا غَطَّيْنَا , وَقَدْ تَقَدَّمَ , وَإِقَامَة التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل الْعَمَل بِمُقْتَضَاهُمَا وَعَدَم تَحْرِيفهمَا ; وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى فِي ( الْبَقَرَة ) مُسْتَوْفًى

وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ

( أَنَّ ) فِي مَوْضِع رَفْع ,|وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ|أَيْ الْقُرْآن , وَقِيلَ : كُتُب أَنْبِيَائِهِمْ .|لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ|قَالَ اِبْن عَبَّاس وَغَيْره : يَعْنِي الْمَطَر وَالنَّبَات ; وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا فِي جَدْب . وَقِيلَ : الْمَعْنَى لَوَسَّعْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَرْزَاقهمْ وَأَكَلُوا أَكْلًا مُتَوَاصِلًا ; وَذِكْر فَوْق وَتَحْت لِلْمُبَالَغَةِ فِيمَا يُفْتَح عَلَيْهِمْ مِنْ الدُّنْيَا ; وَنَظِير هَذِهِ الْآيَة | وَمَنْ يَتَّقِ اللَّه يَجْعَل لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِب | [ الطَّلَاق : 2 ] , | وَأَلَّوِ اِسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَة لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاء غَدَقًا | [ الْجِنّ : 16 ] | وَلَوْ أَنَّ أَهْل الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَات مِنْ السَّمَاء وَالْأَرْض | [ الْأَعْرَاف : 96 ] فَجَعَلَ تَعَالَى التُّقَى مِنْ أَسْبَاب الرِّزْق كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَات , وَوَعَدَ بِالْمَزِيدِ لِمَنْ شَكَرَ فَقَالَ : | لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ | [ إِبْرَاهِيم : 7 ] ,|مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ|ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ مِنْهُمْ مُقْتَصِدًا . الْمُؤْمِنُونَ مِنْهُمْ كَالنَّجَاشِيِّ وَسَلْمَان بْن عَبْد اللَّه بْن سَلَام اِقْتَصَدُوا فَلَمْ يَقُولُوا فِي عِيسَى وَمُحَمَّد عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام إِلَّا مَا يَلِيق بِهِمَا , وَقِيلَ : أَرَادَ بِالِاقْتِصَادِ قَوْمًا لَمْ يُؤْمِنُوا , وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ الْمُؤْذِينَ الْمُسْتَهْزِئِينَ , وَاَللَّه أَعْلَمُ , وَالِاقْتِصَاد الِاعْتِدَال فِي الْعَمَل ; وَهُوَ مِنْ الْقَصْد , وَالْقَصْد إِتْيَان الشَّيْء ; تَقُول : قَصَدْته وَقَصَدْت لَهُ وَقَصَدْت إِلَيْهِ بِمَعْنًى .|وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ|أَيْ بِئْسَ شَيْء عَمِلُوهُ ; كَذَّبُوا الرُّسُل , وَحَرَّفُوا الْكُتُب وَأَكَلُوا السُّحْت .

يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ

قِيلَ : مَعْنَاهُ أَظْهِرْ التَّبْلِيغ ; لِأَنَّهُ كَانَ فِي أَوَّل الْإِسْلَام يُخْفِيه خَوْفًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ , ثُمَّ أُمِرَ بِإِظْهَارِهِ فِي هَذِهِ الْآيَة , وَأَعْلَمَهُ اللَّه أَنَّهُ يَعْصِمهُ مِنْ النَّاس , وَكَانَ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَوَّل مَنْ أَظْهَرَ إِسْلَامه وَقَالَ : لَا نَعْبُد اللَّه سِرًّا ; وَفِي ذَلِكَ نَزَلَتْ : | يَا أَيّهَا النَّبِيّ حَسْبك اللَّه وَمَنْ اِتَّبَعَك مِنْ الْمُؤْمِنِينَ | [ الْأَنْفَال : 64 ] فَدَلَّتْ الْآيَة عَلَى رَدّ قَوْل مَنْ قَالَ : إِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَمَ شَيْئًا مِنْ أَمْر الدِّين تَقِيَّة , وَعَلَى بُطْلَانه , وَهُمْ الرَّافِضَة , وَدَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُسِرّ إِلَى أَحَد شَيْئًا مِنْ أَمْر الدِّين ; لِأَنَّ الْمَعْنَى بَلِّغْ جَمِيع مَا أُنْزِلَ إِلَيْك ظَاهِرًا , وَلَوْلَا هَذَا مَا كَانَ فِي قَوْله عَزَّ وَجَلَّ : | وَإِنْ لَمْ تَفْعَل فَمَا بَلَّغْت رِسَالَته | فَائِدَةٌ , وَقِيلَ : بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْك مِنْ رَبّك فِي أَمْر زَيْنَب بِنْت جَحْش الْأَسَدِيَّة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا , وَقِيلَ غَيْر هَذَا , وَالصَّحِيح الْقَوْل بِالْعُمُومِ ; قَالَ اِبْن عَبَّاس : الْمَعْنَى بَلِّغْ جَمِيع مَا أُنْزِلَ إِلَيْك مِنْ رَبّك , فَإِنْ كَتَمْت شَيْئًا مِنْهُ فَمَا بَلَّغْت رِسَالَته ; وَهَذَا تَأْدِيب لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَتَأْدِيب لِحَمَلَةِ الْعِلْم مِنْ أُمَّته أَلَّا يَكْتُمُوا شَيْئًا مِنْ أَمْر شَرِيعَته , وَقَدْ عَلِمَ اللَّه تَعَالَى مِنْ أَمْر نَبِيّه أَنَّهُ لَا يَكْتُم شَيْئًا مِنْ وَحْيه ; وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ مَسْرُوق عَنْ عَائِشَة أَنَّهَا قَالَتْ : مَنْ حَدَّثَك أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَمَ شَيْئًا مِنْ الْوَحْي فَقَدْ كَذَبَ ; وَاَللَّه تَعَالَى يَقُول : | يَا أَيّهَا الرَّسُول بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْك مِنْ رَبّك وَإِنْ لَمْ تَفْعَل فَمَا بَلَّغْت رِسَالَته | وَقَبَّحَ اللَّه الرَّوَافِض حَيْثُ قَالُوا : إِنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَمَ شَيْئًا مِمَّا أُوحِيَ إِلَيْهِ كَانَ بِالنَّاسِ حَاجَة إِلَيْهِ .|رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ|فِيهِ دَلِيل عَلَى نُبُوَّته ; لِأَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ مَعْصُوم , وَمَنْ ضَمِنَ سُبْحَانه لَهُ الْعِصْمَة فَلَا يَجُوز أَنْ يَكُون قَدْ تَرَكَ شَيْئًا مِمَّا أَمَرَهُ اللَّه بِهِ , وَسَبَب نُزُول هَذِهِ الْآيَة أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ نَازِلًا تَحْت شَجَرَة فَجَاءَ أَعْرَابِيّ فَاخْتَرَطَ سَيْفه وَقَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ يَمْنَعك مِنِّي ؟ فَقَالَ : [ اللَّه ] ; فَذُعِرَتْ يَد الْأَعْرَابِيّ وَسَقَطَ السَّيْف مِنْ يَده ; وَضَرَبَ بِرَأْسِهِ الشَّجَرَة حَتَّى اِنْتَثَرَ دِمَاغه ; ذَكَرَهُ الْمَهْدَوِيّ , وَذَكَرَهُ الْقَاضِي عِيَاض فِي كِتَاب الشِّفَاء قَالَ : وَقَدْ رُوِيَتْ هَذِهِ الْقِصَّة فِي الصَّحِيح , وَأَنَّ غَوْرَث بْن الْحَارِث صَاحِب الْقِصَّة , وَأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَفَا عَنْهُ ; فَرَجَعَ إِلَى قَوْمه وَقَالَ : جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْد خَيْر النَّاس , وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَام فِي هَذَا الْمَعْنَى فِي هَذِهِ السُّورَة عِنْد قَوْله : | إِذْ هَمَّ قَوْم أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ | [ الْمَائِدَة : 11 ] مُسْتَوْفًى , وَفِي | النِّسَاء | أَيْضًا فِي ذِكْر صَلَاة الْخَوْف , وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ جَابِر بْن عَبْد اللَّه قَالَ : غَزَوْنَا مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزْوَة قِبَل نَجْد فَأَدْرَكَنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَادٍ كَثِير الْعِضَاه فَنَزَلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْت شَجَرَة فَعَلَّقَ سَيْفه بِغُصْنٍ مِنْ أَغْصَانهَا , قَالَ : وَتَفَرَّقَ النَّاس فِي الْوَادِي يَسْتَظِلُّونَ بِالشَّجَرِ , قَالَ فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ رَجُلًا أَتَانِي وَأَنَا نَائِم فَأَخَذَ السَّيْف فَاسْتَيْقَظْت وَهُوَ قَائِم عَلَى رَأْسِي فَلَمْ أَشْعُر إِلَّا وَالسَّيْف صَلْتًا فِي يَده فَقَالَ لِي : مَنْ يَمْنَعك مِنِّي - قَالَ - قُلْت : اللَّهُ ثُمَّ قَالَ فِي الثَّانِيَة مَنْ يَمْنَعك مِنِّي - قَالَ - قُلْت : اللَّهُ قَالَ فَشَامَ السَّيْف فَهَا هُوَ ذَا جَالِس ) ثُمَّ لَمْ يَعْرِض لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ اِبْن عَبَّاس قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَمَّا بَعَثَنِي اللَّه بِرِسَالَتِهِ ضِقْت بِهَا ذَرْعًا وَعَرَفْت أَنَّ مِنْ النَّاس مَنْ يُكَذِّبنِي فَأَنْزَلَ اللَّه هَذِهِ الْآيَة ) وَكَانَ أَبُو طَالِب يُرْسِل كُلّ يَوْم مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رِجَالًا مِنْ بَنِي هَاشِم يَحْرُسُونَهُ حَتَّى نَزَلَ : | وَاَللَّه يَعْصِمك مِنْ النَّاس | فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يَا عَمَّاهُ إِنَّ اللَّه قَدْ عَصَمَنِي مِنْ الْجِنّ وَالْإِنْس فَلَا أَحْتَاج إِلَى مَنْ يَحْرُسنِي ) . قُلْت : وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِمَكَّة , وَأَنَّ الْآيَة مَكِّيَّة وَلَيْسَ كَذَلِكَ , وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ هَذِهِ السُّورَة مَدَنِيَّة بِإِجْمَاعٍ ; وَمِمَّا يَدُلّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَة مَدَنِيَّة مَا رَوَاهُ مُسْلِم فِي الصَّحِيح عَنْ عَائِشَة قَالَتْ : سَهِرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقْدَمه الْمَدِينَة لَيْلَة فَقَالَ : ( لَيْتَ رَجُلًا صَالِحًا مِنْ أَصْحَابِي يَحْرُسنِي اللَّيْلَة ) قَالَتْ : فَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ سَمِعْنَا خَشْخَشَة سِلَاح ; فَقَالَ : ( مَنْ هَذَا ) ؟ قَالَ : سَعْد بْن أَبِي وَقَّاص فَقَالَ لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَا جَاءَ بِك ) ؟ فَقَالَ : وَقَعَ فِي نَفْسِي خَوْف عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجِئْت أَحْرُسهُ ; فَدَعَا لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ نَامَ , وَفِي غَيْر الصَّحِيح قَالَتْ : فَبَيْنَمَا نَحْنُ كَذَلِكَ سَمِعْت صَوْت السِّلَاح ; فَقَالَ : ( مَنْ هَذَا ) ؟ فَقَالُوا : سَعْد وَحُذَيْفَة جِئْنَا نَحْرُسك ; فَنَامَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى سَمِعْت غَطِيطه وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة ; فَأَخْرَجَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْسه مِنْ قُبَّة أَدَم وَقَالَ : ( اِنْصَرِفُوا أَيّهَا النَّاس فَقَدْ عَصَمَنِي اللَّه ) , وَقَرَأَ أَهْل الْمَدِينَة : | رِسَالَاته | عَلَى الْجَمْع , وَأَبُو عَمْرو وَأَهْل الْكُوفَة : | رِسَالَته | عَلَى التَّوْحِيد ; قَالَ النَّحَّاس : وَالْقِرَاءَتَانِ حَسَنَتَانِ وَالْجَمْع أَبْيَنُ ; لِأَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَنْزِل عَلَيْهِ الْوَحْي شَيْئًا فَشَيْئًا ثُمَّ يُبَيِّنهُ , وَالْإِفْرَاد يَدُلّ عَلَى الْكَثْرَة ; فَهِيَ كَالْمَصْدَرِ وَالْمَصْدَر فِي أَكْثَرِ الْكَلَام لَا يُجْمَع وَلَا يُثَنَّى لِدَلَالَتِهِ عَلَى نَوْعه بِلَفْظِهِ كَقَوْلِهِ : | وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَة اللَّه لَا تُحْصُوهَا | [ إِبْرَاهِيم : 34 ] .|النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ|أَيْ لَا يُرْشِدهُمْ وَقَدْ تَقَدَّمَ , وَقِيلَ : أَبْلِغْ أَنْتَ فَأَمَّا الْهِدَايَة فَإِلَيْنَا . نَظِيره | مَا عَلَى الرَّسُول إِلَّا الْبَلَاغ | [ الْمَائِدَة : 99 ] وَاللَّه أَعْلَمُ .

قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ ال

قَالَ اِبْن عَبَّاس : جَاءَ جَمَاعَة مِنْ الْيَهُود إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا : أَلَسْت تُقِرّ أَنَّ التَّوْرَاة حَقّ مِنْ عِنْد اللَّه ؟ قَالَ : ( بَلَى ) . فَقَالُوا : فَإِنَّا نُؤْمِن بِهَا وَلَا نُؤْمِن بِمَا عَدَاهَا ; فَنَزَلَتْ الْآيَة ; أَيْ لَسْتُمْ عَلَى شَيْء مِنْ الدِّين حَتَّى تَعْلَمُوا بِمَا فِي الْكِتَابَيْنِ مِنْ الْإِيمَان بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَام , وَالْعَمَل بِمَا يُوجِبهُ ذَلِكَ مِنْهُمَا ; وَقَالَ أَبُو عَلِيّ : وَيَجُوز أَنْ يَكُون ذَلِكَ قَبْل النَّسْخ لَهُمَا .|رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا|أَيْ يَكْفُرُونَ بِهِ فَيَزْدَادُونَ كُفْرًا عَلَى كُفْرهمْ , وَالطُّغْيَان تَجَاوُز الْحَدّ فِي الظُّلْم وَالْغُلُوّ فِيهِ , وَذَلِكَ أَنَّ الظُّلْم مِنْهُ صَغِيرَة وَمِنْهُ كَبِيرَة , فَمَنْ تَجَاوَزَ مَنْزِلَة الصَّغِيرَة فَقَدْ طَغَى , وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : | كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَان لَيَطْغَى | [ الْعَلَق : 6 ] أَيْ يَتَجَاوَز الْحَدّ فِي الْخُرُوج عَنْ الْحَقّ .|وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ|أَيْ لَا تَحْزَن عَلَيْهِمْ . أَسِيَ يَأْسَى أَسًى إِذَا حَزِنَ . قَالَ : <br>وَانْحَلَبَتْ عَيْنَاهُ مِنْ فَرْط الْأَسَى <br>وَهَذِهِ تَسْلِيَة لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَلَيْسَ بِنَهْيٍ عَنْ الْحُزْن ; لِأَنَّهُ لَا يَقْدِر عَلَيْهِ وَلَكِنَّهُ تَسْلِيَة وَنَهْي عَنْ التَّعَرُّض لِلْحُزْنِ . وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي آخِر ( آل عِمْرَان ) مُسْتَوْفًى .

إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ

أَيْ صَدَّقُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَقَالَ سُفْيَان : الْمُرَاد الْمُنَافِقُونَ . كَأَنَّهُ قَالَ : الَّذِينَ آمَنُوا فِي ظَاهِر أَمْرهمْ ; فَلِذَلِكَ قَرَنَهُمْ بِالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ , ثُمَّ بَيَّنَ حُكْم مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْم الْآخِر مِنْ جَمِيعهمْ|وَالَّذِينَ هَادُوا|مَعْنَاهُ صَارُوا يَهُودَ ; نُسِبُوا إِلَى يَهُوذَا وَهُوَ أَكْبَرُ وَلَد يَعْقُوب عَلَيْهِ السَّلَام ; فَقَلَبَتْ الْعَرَب الذَّال دَالًا ; لِأَنَّ الْأَعْجَمِيَّة إِذَا عُرِّبَتْ غُيِّرَتْ عَنْ لَفْظهَا , وَقِيلَ : سُمُّوا بِذَلِكَ لِتَوْبَتِهِمْ عَنْ عِبَادَة الْعِجْل . هَادَ : تَابَ , وَالْهَائِد : التَّائِب ; قَالَ الشَّاعِر : <br>إِنِّي اِمْرُؤٌ مِنْ حُبّه هَائِدُ <br>أَيْ تَائِب , وَفِي التَّنْزِيل : | إِنَّا هُدْنَا إِلَيْك | [ الْأَعْرَاف : 156 ] أَيْ تُبْنَا , وَهَادَ الْقَوْم يَهُودُونَ هَوْدًا وَهِيَادَة إِذَا تَابُوا . وَقَالَ اِبْن عَرَفَة : | هُدْنَا إِلَيْك | أَيْ سَكَنَّا إِلَى أَمْرك , وَالْهَوَادَة السُّكُون وَالْمُوَادَعَة . قَالَ : وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : | إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَاَلَّذِينَ هَادُوا | , وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّال : | هَادَوْا | بِفَتْحِ الدَّال . | وَاَلَّذِينَ هَادُوا | مَعْطُوف , وَكَذَا | وَالصَّابِئُونَ | مَعْطُوف عَلَى الْمُضْمَر فِي | هَادُوا | فِي قَوْل الْكِسَائِيّ وَالْأَخْفَش . قَالَ النَّحَّاس : سَمِعْت الزَّجَّاج يَقُول : وَقَدْ ذُكِرَ لَهُ قَوْل الْأَخْفَش وَالْكِسَائِيّ : هَذَا خَطَأ مِنْ جِهَتَيْنِ ; إِحْدَاهُمَا أَنَّ الْمُضْمَر الْمَرْفُوع يَقْبُح الْعَطْف عَلَيْهِ حَتَّى يُؤَكَّد . وَالْجِهَة الْأُخْرَى أَنَّ الْمَعْطُوف شَرِيك الْمَعْطُوف عَلَيْهِ فَيَصِير الْمَعْنَى أَنَّ الصَّابِئِينَ قَدْ دَخَلُوا فِي الْيَهُودِيَّة وَهَذَا مُحَال , وَقَالَ الْفَرَّاء : إِنَّمَا جَازَ الرَّفْع فِي | وَالصَّابِئُونَ | لِأَنَّ | إِنَّ | ضَعِيفَة فَلَا تُؤَثِّر إِلَّا فِي الِاسْم دُون الْخَبَر ; و | الَّذِينَ | هُنَا لَا يَتَبَيَّن فِيهِ الْإِعْرَاب فَجَرَى عَلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ الْأَمْرَانِ , فَجَازَ رَفْع الصَّابِئِينَ رُجُوعًا إِلَى أَصْل الْكَلَام . قَالَ الزَّجَّاج : وَسَبِيل مَا يَتَبَيَّن فِيهِ الْإِعْرَاب وَمَا لَا يَتَبَيَّن فِيهِ الْإِعْرَاب وَاحِد , وَقَالَ الْخَلِيل وَسِيبَوَيْهِ : الرَّفْع مَحْمُول عَلَى التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير ; وَالتَّقْدِير : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَاَلَّذِينَ هَادُوا مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْم الْآخِر وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْف عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى كَذَلِكَ , وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ وَهُوَ نَظِيره : <br>وَإِلَّا فَاعْلَمُوا أَنَّا وَأَنْتُمْ .......... بُغَاة مَا بَقِينَا فِي شِقَاق <br>وَقَالَ ضَابِئ الْبُرْجُمِيّ : <br>فَمَنْ يَكُ أَمْسَى بِالْمَدِينَةِ رَحْله .......... فَإِنِّي وَقَيَّارٌ بِهَا لَغَرِيب <br>وَقِيلَ : | إِنَّ | بِمَعْنَى | نَعَمْ | فَالصَّابِئُونَ مُرْتَفِع بِالِابْتِدَاءِ , وَحُذِفَ الْخَبَر لِدَلَالَةِ الثَّانِي عَلَيْهِ , فَالْعَطْف يَكُون عَلَى هَذَا التَّقْدِير بَعْد تَمَام الْكَلَام وَانْقِضَاء الِاسْم وَالْخَبَر , وَقَالَ قَيْس الرُّقَيَّات : <br>بَكَرَ الْعَوَاذِلُ فِي الصَّبَا .......... حِ يَلُمْنَنِي وَأَلُومُهُنَّهْ <br><br>وَيَقُلْنَ شَيْبٌ قَدْ عَلَا .......... كَ وَقَدْ كَبِرْتَ فَقُلْتُ إِنَّهْ <br>قَالَ الْأَخْفَش : ( إِنَّهْ ) بِمَعْنَى ( نَعَمْ ) , وَهَذِهِ ( الْهَاء ) أُدْخِلَتْ لِلسَّكْتِ .|وَالصَّابِئُونَ|جَمْع صَابِئ , وَقِيلَ : صَابٍ ; وَلِذَلِكَ اِكْتَفَوْا فِي هَمْزه , وَهَمَزَهُ الْجُمْهُور إِلَّا نَافِعًا . فَمَنْ هَمَزَهُ جَعَلَهُ مِنْ صَبَأَتْ النُّجُوم إِذَا طَلَعَتْ , وَصَبَأَتْ ثَنِيَّة الْغُلَام إِذَا خَرَجَتْ , وَمَنْ لَمْ يَهْمِز جَعَلَهُ مِنْ صَبَا يَصْبُو إِذَا مَالَ . فَالصَّابِئ فِي اللُّغَة : مَنْ خَرَجَ وَمَالَ مِنْ دِين إِلَى دِين ; وَلِهَذَا كَانَتْ الْعَرَب تَقُول لِمَنْ أَسْلَمَ قَدْ صَبَأَ . فَالصَّابِئُونَ قَدْ خَرَجُوا مِنْ دِين أَهْل الْكِتَاب .</p><p>لَا خِلَاف فِي أَنَّ الْيَهُود وَالنَّصَارَى أَهْل كِتَاب وَلِأَجْلِ كِتَابهمْ جَازَ نِكَاح نِسَائِهِمْ وَأَكْل طَعَامهمْ وَضَرْب الْجِزْيَة عَلَيْهِمْ ; عَلَى مَا يَأْتِي فِي سُورَة | بَرَاءَة | إِنْ شَاءَ اللَّه , وَاخْتُلِفَ فِي الصَّابِئِينَ ; فَقَالَ السُّدِّيّ : هُمْ فِرْقَة مِنْ أَهْل الْكِتَاب , وَقَالَهُ إِسْحَاق بْن رَاهْوَيْهِ . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر وَقَالَ إِسْحَاق : لَا بَأْس بِذَبَائِح الصَّابِئِينَ لِأَنَّهُمْ طَائِفَة مِنْ أَهْل الْكِتَاب , وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : لَا بَأْس بِذَبَائِحِهِمْ وَمُنَاكَحَة نِسَائِهِمْ , وَقَالَ الْخَلِيل : هُمْ قَوْم يُشْبِه دِينهمْ دِين النَّصَارَى , إِلَّا أَنَّ قِبْلَتهمْ نَحْو مَهَبّ الْجَنُوب ; يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ عَلَى دِين نُوح عَلَيْهِ السَّلَام . وَقَالَ مُجَاهِد وَالْحَسَن وَابْن أَبِي نَجِيح : هُمْ قَوْم تَرَكَّبَ دِينهمْ بَيْن الْيَهُودِيَّة وَالْمَجُوسِيَّة , لَا تُؤْكَل ذَبَائِحهمْ . اِبْن عَبَّاس : وَلَا تُنْكَح نِسَاؤُهُمْ , وَقَالَ الْحَسَن أَيْضًا وَقَتَادَة هُمْ قَوْم يَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَة وَيُصَلُّونَ إِلَى الْقِبْلَة وَيَقْرَءُونَ الزَّبُور وَيُصَلُّونَ الْخَمْس ; رَآهُمْ زِيَاد بْن أَبِي سُفْيَان فَأَرَادَ وَضْع الْجِزْيَة عَنْهُمْ حِين عَرَفَ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَة , وَاَلَّذِي تَحَصَّلَ مِنْ مَذْهَبهمْ فِيمَا ذَكَرَهُ بَعْض عُلَمَائِنَا أَنَّهُمْ مُوَحِّدُونَ مُعْتَقِدُونَ تَأْثِير النُّجُوم وَأَنَّهَا فَعَّالَة ; وَلِهَذَا أَفْتَى أَبُو سَعِيد الْإِصْطَخْرِيّ الْقَادِر بِاَللَّهِ بِكُفْرِهِمْ حِين سَأَلَ عَنْهُمْ . | وَاَلَّذِينَ هَادُوا | مَعْطُوف , وَكَذَا | وَالصَّابِئُونَ | مَعْطُوف عَلَى الْمُضْمَر فِي | هَادُوا | فِي قَوْل الْكِسَائِيّ وَالْأَخْفَش . قَالَ النَّحَّاس : سَمِعْت الزَّجَّاج يَقُول : وَقَدْ ذُكِرَ لَهُ قَوْل الْأَخْفَش وَالْكِسَائِيّ : هَذَا خَطَأ مِنْ جِهَتَيْنِ ; إِحْدَاهُمَا أَنَّ الْمُضْمَر الْمَرْفُوع يَقْبُح الْعَطْف عَلَيْهِ حَتَّى يُؤَكَّد . وَالْجِهَة الْأُخْرَى أَنَّ الْمَعْطُوف شَرِيك الْمَعْطُوف عَلَيْهِ فَيَصِير الْمَعْنَى أَنَّ الصَّابِئِينَ قَدْ دَخَلُوا فِي الْيَهُودِيَّة وَهَذَا مُحَال , وَقَالَ الْفَرَّاء : إِنَّمَا جَازَ الرَّفْع فِي | وَالصَّابِئُونَ | لِأَنَّ | إِنَّ | ضَعِيفَة فَلَا تُؤَثِّر إِلَّا فِي الِاسْم دُون الْخَبَر ; و | الَّذِينَ | هُنَا لَا يَتَبَيَّن فِيهِ الْإِعْرَاب فَجَرَى عَلَى جِهَة وَاحِدَة الْأَمْرَانِ , فَجَازَ رَفْع الصَّابِئِينَ رُجُوعًا إِلَى أَصْل الْكَلَام . قَالَ الزَّجَّاج : وَسَبِيل مَا يُتَبَيَّن فِيهِ الْإِعْرَاب وَمَا لَا يُتَبَيَّن فِيهِ الْإِعْرَاب وَاحِد , وَقَالَ الْخَلِيل وَسِيبَوَيْهِ : الرَّفْع مَحْمُول عَلَى التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير ; وَالتَّقْدِير : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَاَلَّذِينَ هَادُوا مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْم الْآخِر وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْف عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى كَذَلِكَ , وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ وَهُوَ نَظِيره : <br>وَإِلَّا فَاعْلَمُوا أَنَّا وَأَنْتُمْ .......... بُغَاة مَا بَقِينَا فِي شِقَاق <br>وَقَالَ ضَابِئ الْبُرْجُمِيّ : <br>فَمَنْ يَكُ أَمْسَى بِالْمَدِينَةِ رَحْله .......... فَإِنِّي وَقَيَّار بِهَا لَغَرِيب <br>وَقِيلَ : | إِنَّ | بِمَعْنَى | نَعَمْ | فَالصَّابِئُونَ مُرْتَفِع بِالِابْتِدَاءِ , وَحُذِفَ الْخَبَر لِدَلَالَةِ الثَّانِي عَلَيْهِ , فَالْعَطْف يَكُون عَلَى هَذَا التَّقْدِير بَعْد تَمَام الْكَلَام وَانْقِضَاء الِاسْم وَالْخَبَر , وَقَالَ قَيْس الرُّقَيَّات : <br>بَكَرَ الْعَوَاذِل فِي الصَّبَا .......... حِ يَلُمْنَنِي وَأَلُومُهُنَّهْ <br><br>وَيَقُلْنَ شَيْب قَدْ عَلَا .......... كَ وَقَدْ كَبِرْتَ فَقُلْتُ إِنَّهْ <br>قَالَ الْأَخْفَش : ( إِنَّهْ ) بِمَعْنَى ( نَعَمْ ) , وَهَذِهِ ( الْهَاء ) أُدْخِلَتْ لِلسَّكْتِ .|وَالنَّصَارَى|جَمْع وَاحِده نَصْرَانِيّ , وَقِيلَ : نَصْرَان بِإِسْقَاطِ الْيَاء ; وَهَذَا قَوْل سِيبَوَيْهِ , وَالْأُنْثَى نَصْرَانَة ; كَنَدْمَان وَنَدْمَانَة , وَهُوَ نَكِرَة يُعَرَّف بِالْأَلِفِ وَاللَّام ; قَالَ الشَّاعِر : <br>صَدَّتْ كَمَا صَدَّ عَمَّا لَا يَحِلّ لَهُ .......... سَاقِي نَصَارَى قُبَيْل الْفِصْح صَوَّام <br>فَوَصَفَهُ بِالنَّكِرَةِ , وَقَالَ الْخَلِيل : وَاحِد النَّصَارَى نَصْرِيّ ; كَمَهْرِيّ وَمَهَارَى , وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ شَاهِدًا عَلَى قَوْلِهِ : <br>تَرَاهُ إِذَا دَارَ الْعِشَا مُتَحَنِّفًا .......... وَيَضْحَى لَدَيْهِ وَهْوَ نَصْرَان شَامِس <br>وَأَنْشَدَ : <br>فَكِلْتَاهُمَا خَرَّتْ وَأَسْجَدَ رَأْسُهَا .......... كَمَا أَسْجَدَتْ نَصْرَانَة لَمْ تَحَنَّفِ <br>يُقَال : أَسْجَدَ إِذَا مَالَ , وَلَكِنْ لَا يُسْتَعْمَل نَصْرَان وَنَصْرَانَة إِلَّا بِيَاءَيْ النَّسَب ; لِأَنَّهُمْ قَالُوا : رَجُل نَصْرَانِيّ وَامْرَأَة نَصْرَانِيَّة . وَنَصَّرَهُ : جَعَلَهُ نَصْرَانِيًّا , وَفِي الْحَدِيث : [ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ ] , وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام : [ لَا يَسْمَع بِي أَحَد مِنْ هَذِهِ الْأُمَّة يَهُودِيّ وَلَا نَصْرَانِيّ ثُمَّ لَمْ يُؤْمِن بِاَلَّذِي أُرْسِلْت بِهِ إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَاب النَّار ] , وَقَدْ جَاءَتْ جُمُوع عَلَى غَيْر مَا يُسْتَعْمَل وَاحِدهَا ; وَقِيَاسه النَّصْرَانِيُّونَ . ثُمَّ قِيلَ : سُمُّوا بِذَلِكَ لِقَرْيَةٍ تُسَمَّى | نَاصِرَة | كَانَ يَنْزِلهَا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام فَنُسِبَ إِلَيْهَا فَقِيلَ : عِيسَى النَّاصِرِيّ ; فَلَمَّا نُسِبَ أَصْحَابه إِلَيْهِ قِيلَ النَّصَارَى ; قَالَهُ اِبْن عَبَّاس وَقَتَادَة . وَقَالَ الْجَوْهَرِيّ : وَنَصْرَان قَرْيَة بِالشَّامِ يُنْسَب إِلَيْهَا النَّصَارَى ; وَيُقَال نَاصِرَة , وَقِيلَ : سُمُّوا بِذَلِكَ لِنُصْرَةِ بَعْضهمْ بَعْضًا ; قَالَ الشَّاعِر : <br>لَمَّا رَأَيْت نَبَطًا أَنْصَارَا .......... شَمَّرْت عَنْ رُكْبَتِي الْإِزَارَا <br><br>كُنْت لَهُمْ مِنْ النَّصَارَى جَارَا <br>وَقِيلَ : سُمُّوا بِذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى | مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّه قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَار اللَّه | [ آل عِمْرَان : 52 ] .|مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا|أَيْ صَدَّقَ . و | مَنْ | فِي قَوْله : | مَنْ آمَنَ | فِي مَوْضِع نَصْب بَدَل مِنْ | الَّذِينَ | , وَفِي الْإِيمَان بِاَللَّهِ وَالْيَوْم الْآخِر اِنْدِرَاج الْإِيمَان بِالرُّسُلِ وَالْكُتُب وَالْبَعْث .|فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ|الْخَوْف هُوَ الذُّعْر وَلَا يَكُون إِلَّا فِي الْمُسْتَقْبَل وَخَوَّفَنِي فُلَان فَخِفْته أَيْ كُنْت أَشَدّ خَوْفًا مِنْهُ وَالتَّخَوُّف التَّنَقُّص وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى | أَوْ يَأْخُذهُمْ عَلَى تَخَوُّف | [ النَّحْل : 47 ] وَقَرَأَ الزُّهْرِيّ وَالْحَسَن وَعِيسَى بْن عُمَر وَابْن أَبِي إِسْحَاق وَيَعْقُوب | فَلَا خَوْفَ | بِفَتْحِ الْفَاء عَلَى التَّبْرِئَة وَالِاخْتِيَار عِنْد النَّحْوِيِّينَ الرَّفْع وَالتَّنْوِين عَلَى الِابْتِدَاء لِأَنَّ الثَّانِيَ مَعْرِفَة لَا يَكُون فِيهِ إِلَّا الرَّفْع لِأَنَّ | لَا | لَا تَعْمَل فِي مَعْرِفَة فَاخْتَارُوا فِي الْأَوَّل الرَّفْع أَيْضًا لِيَكُونَ الْكَلَام مِنْ وَجْه وَاحِد وَيَجُوز أَنْ تَكُون | لَا | فِي قَوْله فَلَا خَوْف بِمَعْنَى لَيْسَ . وَالْحُزْن وَالْحَزَن ضِدّ السُّرُور وَلَا يَكُون إِلَّا عَلَى مَاضٍ وَحَزِنَ الرَّجُل ( بِالْكَسْرِ ) فَهُوَ حَزِن وَحَزِين وَأَحْزَنَهُ غَيْره وَحَزَنَهُ أَيْضًا مِثْل أَسْلَكَهُ وَسَلَكَهُ وَمَحْزُون بُنِىَ عَلَيْهِ قَالَ الْيَزِيدِيّ حَزَنَهُ لُغَة قُرَيْش وَأَحْزَنَهُ لُغَة تَمِيم وَقَدْ قُرِئَ بِهِمَا وَاحْتَزَنَ وَتَحَزَّنَ بِمَعْنًى وَالْمَعْنَى فِي الْآيَة فَلَا خَوْف عَلَيْهِمْ فِيمَا بَيْن أَيْدِيهمْ مِنْ الْآخِرَة وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ عَلَى مَا فَاتَهُمْ مِنْ الدُّنْيَا وَقِيلَ لَيْسَ فِيهِ دَلِيل عَلَى نَفْي أَهْوَال يَوْم الْقِيَامَة وَخَوْفهَا عَلَى الْمُطِيعِينَ لِمَا وَصَفَهُ اللَّه تَعَالَى وَرَسُوله مِنْ شَدَائِد الْقِيَامَة إِلَّا أَنَّهُ يُخَفِّفهُ عَنْ الْمُطِيعِينَ وَإِذَا صَارُوا إِلَى رَحْمَته فَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَخَافُوا وَاللَّه أَعْلَمُ .</p><p>رُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّ قَوْله : | إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَاَلَّذِينَ هَادُوا | [ الْحَجّ : 17 ] الْآيَة . مَنْسُوخ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : | وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْر الْإِسْلَام دِينًا فَلَنْ يُقْبَل مِنْهُ | [ آل عِمْرَان : 85 ] الْآيَة , وَقَالَ غَيْره : لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ . وَهَى فِيمَنْ ثَبَتَ عَلَى إِيمَانه مِنْ الْمُؤْمِنِينَ بِالنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَام .

لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ

قَدْ تَقَدَّمَ فِي ( الْبَقَرَة ) مَعْنَى الْمِيثَاق وَهُوَ أَلَّا يَعْبُدُوا إِلَّا اللَّه , وَمَا يَتَّصِل بِهِ , وَالْمَعْنَى فِي هَذِهِ الْآيَة لَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْم الْكَافِرِينَ فَإِنَّا قَدْ أَعْذَرْنَا إِلَيْهِمْ , وَأَرْسَلْنَا الرُّسُل فَنَقَضُوا الْعُهُود , وَكُلّ هَذَا يَرْجِع إِلَى مَا اُفْتُتِحَتْ بِهِ السُّورَة وَهُوَ قَوْله : | أَوْفُوا بِالْعُقُودِ | [ الْمَائِدَة : 1 ] .<BR> قَدْ تَقَدَّمَ فِي ( الْبَقَرَة ) مَعْنَى الْمِيثَاق وَهُوَ أَلَّا يَعْبُدُوا إِلَّا اللَّه , وَمَا يَتَّصِل بِهِ , وَالْمَعْنَى فِي هَذِهِ الْآيَة لَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْم الْكَافِرِينَ فَإِنَّا قَدْ أَعْذَرْنَا إِلَيْهِمْ , وَأَرْسَلْنَا الرُّسُل فَنَقَضُوا الْعُهُود , وَكُلّ هَذَا يَرْجِع إِلَى مَا اُفْتُتِحَتْ بِهِ السُّورَة وَهُوَ قَوْله : | أَوْفُوا بِالْعُقُودِ | [ الْمَائِدَة : 1 ] .' ><B><font color=red>كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ</font></B><BR><span id=tafseer1 ><BR><BR>أَيْ الْيَهُود<BR> أَيْ الْيَهُود' ><B><font color=red>بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ</font></B><BR><span id=tafseer2 ><BR><BR>لَا يُوَافِق هَوَاهُمْ<BR></span><input name=hidtafseer2 type=hidden value='<BR><BR>لَا يُوَافِق هَوَاهُمْ' ><B><font color=red>فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ</font></B><BR><span id=tafseer3 ><BR><BR>أَيْ كَذَّبُوا فَرِيقًا وَقَتَلُوا فَرِيقًا ; فَمَنْ كَذَّبُوهُ عِيسَى وَمَنْ مِثْله مِنْ الْأَنْبِيَاء , وَقَتَلُوا زَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَغَيْرهمَا مِنْ الْأَنْبِيَاء , وَإِنَّمَا قَالَ : | يَقْتُلُونَ | لِمُرَاعَاةِ رَأْس الْآيَة , وَقِيلَ : أَرَادَ فَرِيقًا كَذَّبُوا , وَفَرِيقًا قَتَلُوا , وَفَرِيقًا يُكَذِّبُونَ وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ , فَهَذَا دَأْبهمْ وَعَادَتهمْ فَاخْتَصَرَ , وَقِيلَ : فَرِيقًا كَذَّبُوا لَمْ يَقْتُلُوهُمْ , وَفَرِيقًا قَتَلُوهُمْ فَكَذَّبُوا . و | يَقْتُلُونَ | نَعْت لِفَرِيقٍ , وَاَللَّه أَعْلَمُ .<BR></span><input name=hidtafseer3 type=hidden value='<BR><BR>أَيْ كَذَّبُوا فَرِيقًا وَقَتَلُوا فَرِيقًا ; فَمَنْ كَذَّبُوهُ عِيسَى وَمَنْ مِثْله مِنْ الْأَنْبِيَاء , وَقَتَلُوا زَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَغَيْرهمَا مِنْ الْأَنْبِيَاء , وَإِنَّمَا قَالَ : | يَقْتُلُونَ | لِمُرَاعَاةِ رَأْس الْآيَة , وَقِيلَ : أَرَادَ فَرِيقًا كَذَّبُوا , وَفَرِيقًا قَتَلُوا , وَفَرِيقًا يُكَذِّبُونَ وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ , فَهَذَا دَأْبهمْ وَعَادَتهمْ فَاخْتَصَرَ , وَقِيلَ : فَرِيقًا كَذَّبُوا لَمْ يَقْتُلُوهُمْ , وَفَرِيقًا قَتَلُوهُمْ فَكَذَّبُوا . و | يَقْتُلُونَ | نَعْت لِفَرِيقٍ , وَاَللَّه أَعْلَمُ .'

وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ

الْمَعْنَى ; ظَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أُخِذَ عَلَيْهِمْ الْمِيثَاق أَنَّهُ لَا يَقَع مِنْ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ اِبْتِلَاء وَاخْتِبَار بِالشَّدَائِدِ , اِغْتِرَارًا بِقَوْلِهِمْ : نَحْنُ أَبْنَاء اللَّه وَأَحِبَّاؤُهُ , وَإِنَّمَا اِغْتَرُّوا بِطُولِ الْإِمْهَال , وَقَرَأَ أَبُو عَمْرو وَحَمْزَة وَالْكِسَائِيّ | تَكُون | بِالرَّفْعِ ; وَنَصَبَ الْبَاقُونَ ; فَالرَّفْع عَلَى أَنَّ حَسِبَ بِمَعْنَى عَلِمَ وَتَيَقَّنَ . و | أَنْ | مُخَفَّفَة مِنْ الثَّقِيلَة وَدُخُول | لَا | عِوَض مِنْ التَّخْفِيف , وَحُذِفَ الضَّمِير لِأَنَّهُمْ كَرِهُوا أَنْ يَلِيَهَا الْفِعْل وَلَيْسَ مِنْ حُكْمهَا أَنْ تَدْخُل عَلَيْهِ ; فَفَصَلُوا بَيْنهمَا ( بِلَا ) , وَمَنْ نَصَبَ جَعَلَ | أَنَّ | نَاصِبَة لِلْفِعْلِ , وَبَقِيَ حَسِبَ عَلَى بَابه مِنْ الشَّكّ وَغَيْره . قَالَ سِيبَوَيْهِ : حَسِبْت أَلَّا يَقُول ذَلِكَ ; أَيْ حَسِبْت أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ , وَإِنْ شِئْت نَصَبْت ; قَالَ النَّحَّاس : وَالرَّفْع عِنْد النَّحْوِيِّينَ فِي حَسِبَ وَأَخَوَاتهَا أَجْوَد كَمَا قَالَ : <br>أَلَا زَعَمَتْ بَسْبَاسَةُ الْيَوْمَ أَنَّنِي .......... كَبِرْتُ وَأَلَّا يَشْهَدُ اللَّهْوَ أَمْثَالِي <br>وَإِنَّمَا صَارَ الرَّفْع أَجْوَدَ ; لِأَنَّ حَسِبَ وَأَخَوَاتهَا بِمَنْزِلَةِ الْعِلْم لِأَنَّهُ شَيْء ثَابِت .|فَعَمُوا|أَيْ عَنْ الْهُدَى .|وَصَمُّوا|أَيْ عَنْ سَمَاع الْحَقّ ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِمَا رَأَوْهُ وَلَا سَمِعُوهُ .|ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ|فِي الْكَلَام إِضْمَار , أَيْ أُوقِعَتْ بِهِمْ الْفِتْنَة فَتَابُوا فَتَابَ اللَّه عَلَيْهِمْ بِكَشْفِ الْقَحْط , أَوْ بِإِرْسَالِ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخْبِرهُمْ بِأَنَّ اللَّه يَتُوب عَلَيْهِمْ إِنْ آمَنُوا , فَهَذَا بَيَان | تَابَ اللَّه عَلَيْهِمْ | أَيْ يَتُوب عَلَيْهِمْ إِنْ آمَنُوا وَصَدَّقُوا لَا أَنَّهُمْ تَابُوا عَلَى الْحَقِيقَة .|ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ|أَيْ عَمِيَ كَثِير مِنْهُمْ وَصَمَّ بَعْد تَبَيُّن الْحَقّ لَهُمْ بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ; فَارْتَفَعَ | كَثِير | عَلَى الْبَدَل مِنْ الْوَاو , وَقَالَ الْأَخْفَش سَعِيد : كَمَا تَقُول رَأَيْت قَوْمك ثُلُثَيْهِمْ , وَإِنْ شِئْت كَانَ عَلَى إِضْمَار مُبْتَدَإٍ أَيْ الْعُمْي وَالصُّمّ كَثِير مِنْهُمْ . وَإِنْ شِئْت كَانَ التَّقْدِير الْعُمْي وَالصُّمّ مِنْهُمْ كَثِير , وَجَوَاب رَابِع أَنْ يَكُون عَلَى لُغَة مَنْ قَالَ : ( أَكَلُونِي الْبَرَاغِيث ) وَعَلَيْهِ قَوْل الشَّاعِر : <br>وَلَكِنْ دِيَافِيٌّ أَبُوهُ وَأُمّه .......... بِحَوْرَانَ يَعْصِرْنَ السَّلِيط أَقَارِبه <br>وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْله : | وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا | [ الْأَنْبِيَاء : 3 ] , وَيَجُوز فِي غَيْر الْقُرْآن ( كَثِيرًا ) بِالنَّصْبِ يَكُون نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوف .|وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ|قَالَ الْعُلَمَاء : وَصَفَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ نَفْسه بِأَنَّهُ بَصِير عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ عَالِم بِخَفِيَّاتِ الْأُمُور , وَالْبَصِير فِي كَلَام الْعَرَب : الْعَالِم بِالشَّيْءِ الْخَبِير بِهِ ; وَمِنْهُ قَوْلهمْ : فُلَان بَصِير بِالطِّبِّ , وَبَصِير بِالْفِقْهِ , وَبَصِير بِمُلَاقَاةِ الرِّجَال ; قَالَ : <br>فَإِنْ تَسْأَلُونِي بِالنِّسَاءِ فَإِنَّنِي .......... بَصِير بِأَدْوَاءِ النِّسَاء طَبِيب <br>قَالَ الْخَطَّابِيّ : الْبَصِير الْعَالِم , وَالْبَصِير الْمُبْصِر , وَقِيلَ : وَصَفَ تَعَالَى نَفْسه بِأَنَّهُ بَصِير عَلَى مَعْنَى جَاعِل الْأَشْيَاء الْمُبْصِرَة ذَوَات إِبْصَار , أَيْ مُدْرِكَة لِلْمُبْصَرَاتِ بِمَا خَلَقَ لَهَا مِنْ الْآلَة الْمُدْرِكَة وَالْقُوَّة ; فَاَللَّه بَصِير بِعِبَادِهِ , أَيْ جَاعِل عِبَاده مُبْصِرِينَ .

لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَم

هَذَا قَوْل الْيَعْقُوبِيَّة فَرَدَّ اللَّه ذَلِكَ بِحُجَّةٍ قَاطِعَة مِمَّا يُقِرُّونَ بِهِ ;|وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي|أَيْ إِذَا كَانَ الْمَسِيح يَقُول : يَا رَبّ وَيَا اللَّه فَكَيْفَ يَدْعُو نَفْسه أَمْ كَيْفَ يَسْأَلهَا ؟ هَذَا مُحَال|وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ|قِيلَ : هُوَ مِنْ قَوْل عِيسَى , وَقِيلَ : اِبْتِدَاء كَلَام مِنْ اللَّه تَعَالَى , وَالْإِشْرَاك أَنْ يَعْتَقِد مَعَهُ مُوجِدًا , وَقَدْ مَضَى فِي ( آل عِمْرَان ) الْقَوْل فِي اِشْتِقَاق الْمَسِيح فَلَا مَعْنَى لِإِعَادَتِهِ .

لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ

أَيْ أَحَد ثَلَاثَة , وَلَا يَجُوز فِيهِ التَّنْوِين ; عَنْ الزَّجَّاج وَغَيْره , وَفِيهِ لِلْعَرَبِ مَذْهَب آخَر ; يَقُولُونَ : رَابِع ثَلَاثَة ; فَعَلَى هَذَا يَجُوز الْجَرّ وَالنَّصْب ; لِأَنَّ مَعْنَاهُ الَّذِي صَيَّرَ الثَّلَاثَة أَرْبَعَة بِكَوْنِهِ مِنْهُمْ . وَكَذَلِكَ إِذَا قُلْت : ثَالِث اِثْنَيْنِ ; جَازَ التَّنْوِين , وَهَذَا قَوْل فِرَق النَّصَارَى مِنْ الْمَلْكِيَّة وَالنُّسُّطُورِيَّة وَالْيَعْقُوبِيَّة ; لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ أَب وَابْن وَرُوح الْقُدُس إِلَه وَاحِد ; وَلَا يَقُولُونَ ثَلَاثَة آلِهَة وَهُوَ مَعْنَى مَذْهَبهمْ , وَإِنَّمَا يَمْتَنِعُونَ مِنْ الْعِبَارَة وَهِيَ لَازِمَة لَهُمْ , وَمَا كَانَ هَكَذَا صَحَّ أَنْ يُحْكَى بِالْعِبَارَةِ اللَّازِمَة ; وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ : إِنَّ الِابْن إِلَه وَالْأَب إِلَه وَرُوح الْقُدُس إِلَه , وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْل فِي هَذَا فِي ( النِّسَاء ) فَأَكْفَرَهُمْ اللَّه بِقَوْلِهِمْ هَذَا ,|وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ|أَيْ أَنَّ الْإِلَه لَا يَتَعَدَّد وَهُمْ يَلْزَمهُمْ الْقَوْل بِثَلَاثَةِ آلِهَة كَمَا تَقَدَّمَ , وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحُوا بِذَلِكَ لَفْظًا ; وَقَدْ مَضَى فِي | الْبَقَرَة | مَعْنَى الْوَاحِد . و ( مِنْ ) زَائِدَة . وَيَجُوز فِي غَيْر الْقُرْآن ( إِلَهًا وَاحِدًا ) عَلَى الِاسْتِثْنَاء , وَأَجَازَ الْكِسَائِيّ الْخَفْض عَلَى الْبَدَل .|وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ|أَيْ يَكُفُّوا عَنْ الْقَوْل بِالتَّثْلِيثِ لَيَمَسَّنهُمْ عَذَاب أَلِيم فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة .

أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ

تَقْرِير وَتَوْبِيخ . أَيْ فَلْيَتُوبُوا إِلَيْهِ وَلْيَسْأَلُوهُ سَتْر ذُنُوبهمْ ; وَالْمُرَاد الْكَفَرَة مِنْهُمْ , وَإِنَّمَا خُصَّ الْكَفَرَة بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُمْ الْقَائِلُونَ بِذَلِكَ دُون الْمُؤْمِنِينَ .

مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآَيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ

اِبْتِدَاء وَخَبَر ; أَيْ مَا الْمَسِيح وَإِنْ ظَهَرَتْ الْآيَات عَلَى يَدَيْهِ فَإِنَّمَا جَاءَ بِهَا كَمَا جَاءَتْ بِهَا الرُّسُل ; فَإِنْ كَانَ إِلَهًا فَلْيَكُنْ كُلّ رَسُول إِلَهًا ; فَهَذَا رَدّ لِقَوْلِهِمْ وَاحْتِجَاج عَلَيْهِمْ ,|وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ|ثُمَّ بَالَغَ فِي الْحُجَّة فَقَالَ : | وَأُمّه صِدِّيقَة | اِبْتِدَاء وَخَبَر | كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَام | أَيْ أَنَّهُ مَوْلُود مَرْبُوب , وَمَنْ وَلَدَتْهُ النِّسَاء وَكَانَ يَأْكُل الطَّعَام مَخْلُوق مُحْدَث كَسَائِرِ الْمَخْلُوقِينَ ; وَلَمْ يَدْفَع هَذَا أَحَد مِنْهُمْ , فَمَتَى يَصْلُح الْمَرْبُوب لِأَنْ يَكُون رَبًّا ؟ ! وَقَوْلهمْ : كَانَ يَأْكُل بِنَاسُوتِهِ لَا بِلَاهُوتِهِ فَهَذَا مِنْهُمْ مَصِير إِلَى الِاخْتِلَاط , وَلَا يُتَصَوَّر اِخْتِلَاط إِلَه بِغَيْرِ إِلَه , وَلَوْ جَازَ اِخْتِلَاط الْقَدِيم بِالْمُحْدَثِ لَجَازَ أَنْ يَصِير الْقَدِيم مُحْدَثًا , وَلَوْ صَحَّ هَذَا فِي حَقّ عِيسَى لَصَحَّ فِي حَقّ غَيْره حَتَّى يُقَال : اللَّاهُوت مُخَالِط لِكُلِّ مُحْدَث , وَقَالَ بَعْض الْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْله : | كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَام | إِنَّهُ كِنَايَة عَنْ الْغَائِط وَالْبَوْل , وَفِي هَذَا دَلَالَة عَلَى أَنَّهُمَا بَشَرَانِ , وَقَدْ اِسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ : إِنَّ مَرْيَم عَلَيْهَا السَّلَام لَمْ تَكُنْ نَبِيَّة بِقَوْلِهِ تَعَالَى : | وَأُمّه صِدِّيقَة | . قُلْت : وَفِيهِ نَظَر , فَإِنَّهُ يَجُوز أَنْ تَكُون صِدِّيقَة مَعَ كَوْنهَا نَبِيَّة كَإِدْرِيس عَلَيْهِ السَّلَام ; وَقَدْ مَضَى فِي | آل عِمْرَان | مَا يَدُلّ عَلَى هَذَا . وَاللَّه أَعْلَمُ . وَإِنَّمَا قِيلَ لَهَا صِدِّيقَة لِكَثْرَةِ تَصْدِيقهَا بِآيَاتِ رَبّهَا وَتَصْدِيقهَا وَلَدهَا فِيمَا أَخْبَرَهَا بِهِ ; عَنْ الْحَسَن وَغَيْره . وَاللَّه أَعْلَمُ .|انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ|أَيْ الدَّلَالَات .|ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ|أَيْ كَيْفَ يُصْرَفُونَ عَنْ الْحَقّ بَعْد هَذَا الْبَيَان ; يُقَال : أَفَكَهُ يَأْفِكهُ إِذَا صَرَفَهُ , وَفِي هَذَا رَدّ عَلَى الْقَدَرِيَّة وَالْمُعْتَزِلَة .

قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ

زِيَادَة فِي الْبَيَان وَإِقَامَة حُجَّة عَلَيْهِمْ ; أَيْ أَنْتُمْ مُقِرُّونَ أَنَّ عِيسَى كَانَ جَنِينًا فِي بَطْن أُمّه , لَا يَمْلِك لِأَحَدٍ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا , وَإِذْ أَقْرَرْتُمْ أَنَّ عِيسَى كَانَ فِي حَال مِنْ الْأَحْوَال لَا يَسْمَع وَلَا يُبْصِر وَلَا يَعْلَم وَلَا يَنْفَع وَلَا يَضُرّ , فَكَيْفَ اِتَّخَذْتُمُوهُ إِلَهًا ؟ .|وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ|أَيْ لَمْ يَزَلْ سَمِيعًا عَلِيمًا يَمْلِك الضَّرّ وَالنَّفْع , وَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِفَته فَهُوَ الْإِلَه عَلَى الْحَقِيقَة , وَاللَّه أَعْلَمُ .

قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ

أَيْ لَا تُفَرِّطُوا كَمَا أَفْرَطَتْ الْيَهُود وَالنَّصَارَى فِي عِيسَى ; غُلُوّ الْيَهُود قَوْلهمْ فِي عِيسَى , لَيْسَ وَلَد رِشْدَة , وَغُلُوّ النَّصَارَى قَوْلهمْ : إِنَّهُ إِلَه , وَالْغُلُوّ مُجَاوَزَة الْحَدّ ; وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي ( النِّسَاء ) بَيَانه .|الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ|الْأَهْوَاء جَمْع هَوًى وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي | الْبَقَرَة | , وَسُمِّيَ الْهَوَى هَوًى لِأَنَّهُ يَهْوِي بِصَاحِبِهِ فِي النَّار . | قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْل | قَالَ مُجَاهِد وَالْحَسَن : يَعْنِي الْيَهُود .|قَبْلُ وَأَضَلُّوا|أَيْ أَضَلُّوا كَثِيرًا مِنْ النَّاس .|كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ|أَيْ عَنْ قَصْد طَرِيق مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَتَكْرِير ضَلُّوا عَلَى مَعْنَى أَنَّهُمْ ضَلُّوا مِنْ قَبْل وَضَلُّوا مِنْ بَعْد ; وَالْمُرَاد الْأَسْلَاف الَّذِينَ سَنُّوا الضَّلَالَة وَعَمِلُوا بِهَا مِنْ رُؤَسَاء الْيَهُود وَالنَّصَارَى .

لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ

فِيهِ مَسْأَلَة وَاحِدَة : وَهِيَ جَوَاز لَعْن الْكَافِرِينَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ أَوْلَاد الْأَنْبِيَاء , وَأَنَّ شَرَف النَّسَب لَا يَمْنَع إِطْلَاق اللَّعْنَة فِي حَقّهمْ , وَمَعْنَى | عَلَى لِسَان دَاوُد وَعِيسَى اِبْن مَرْيَم | أَيْ لُعِنُوا فِي الزَّبُور وَالْإِنْجِيل ; فَإِنَّ الزَّبُور لِسَان دَاوُد , وَالْإِنْجِيل لِسَان عِيسَى أَيْ لَعَنَهُمْ اللَّه فِي الْكِتَابَيْنِ , وَقَدْ تَقَدَّمَ اِشْتِقَاقهمَا . قَالَ مُجَاهِد وَقَتَادَة وَغَيْرهمَا : لَعَنَهُمْ مَسَخَهُمْ قِرَدَة وَخَنَازِير . قَالَ أَبُو مَالِك : الَّذِينَ لُعِنُوا عَلَى لِسَان دَاوُد مُسِخُوا قِرَدَة . وَاَلَّذِينَ لُعِنُوا عَلَى لِسَان عِيسَى مُسِخُوا خَنَازِير , وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : الَّذِينَ لُعِنُوا عَلَى لِسَان دَاوُد أَصْحَاب السَّبْت , وَاَلَّذِينَ لُعِنُوا عَلَى لِسَان عِيسَى الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْمَائِدَةِ بَعْد نُزُولهَا , وَرُوِيَ نَحْوه عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَقِيلَ : لُعِنَ الْأَسْلَاف وَالْأَخْلَاف مِمَّنْ كَفَرَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى لِسَان دَاوُد وَعِيسَى ; لِأَنَّهُمَا أَعْلَمَا أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيّ مَبْعُوث فَلَعَنَا مَنْ يَكْفُر بِهِ .|ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ|ذَلِكَ فِي مَوْضِع رَفْع بِالِابْتِدَاءِ أَيْ ذَلِكَ اللَّعْن بِمَا عَصَوْا ; أَيْ بِعِصْيَانِهِمْ . وَيَجُوز أَنْ يَكُون عَلَى إِضْمَار مُبْتَدَإ ; أَيْ الْأَمْر ذَلِكَ , وَيَجُوز أَنْ يَكُون فِي مَوْضِع نَصْب أَيْ فَعَلْنَا ذَلِكَ بِهِمْ لِعِصْيَانِهِمْ وَاعْتِدَائِهِمْ .

كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ

| كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ | أَيْ لَا يَنْهَى بَعْضهمْ بَعْضًا : | لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ | ذَمّ لِتَرْكِهِمْ النَّهْي , وَكَذَا مَنْ بَعْدهمْ يُذَمّ مَنْ فَعَلَ فِعْلهمْ . خَرَّجَ أَبُو دَاوُد عَنْ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ أَوَّل مَا دَخَلَ النَّقْص عَلَى بَنِي إِسْرَائِيل كَانَ الرَّجُل أَوَّل مَا يَلْقَى الرَّجُل فَيَقُول يَا هَذَا اِتَّقِ اللَّه وَدَعْ مَا تَصْنَع فَإِنَّهُ لَا يَحِلّ لَك ثُمَّ يَلْقَاهُ مِنْ الْغَد فَلَا يَمْنَعهُ ذَلِكَ أَنْ يَكُون أَكِيلهُ وَشَرِيبه وَقَعِيده فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ ضَرَبَ اللَّه قُلُوب بَعْضهمْ بِبَعْضٍ ) ثُمَّ قَالَ : | لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيل عَلَى لِسَان دَاوُد وَعِيسَى اِبْن مَرْيَم ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ | إِلَى قَوْله : | فَاسِقُونَ | ثُمَّ قَالَ : ( كَلَّا وَاَللَّه لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنْ الْمُنْكَر وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدَيْ الظَّالِم وَلَتَأْطُرُنَّهُ عَلَى الْحَقّ وَلَتَقْصُرُنَّهُ عَلَى الْحَقّ قَصْرًا أَوْ لَيَضْرِبَنَّ اللَّه بِقُلُوبِ بَعْضكُمْ عَلَى بَعْض وَلَيَلْعَنَنَّكُمْ كَمَا لَعَنَهُمْ ) وَخَرَّجَهُ التِّرْمِذِيّ أَيْضًا , وَمَعْنَى لَتَأْطُرُنَّهُ لَتَرُدُّنَّهُ . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَالْإِجْمَاع مُنْعَقِد عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَر فَرْض لِمَنْ أَطَاقَهُ وَأَمِنَ الضَّرَر عَلَى نَفْسه وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ ; فَإِنْ خَافَ فَيُنْكِر بِقَلْبِهِ وَيَهْجُر ذَا الْمُنْكَر وَلَا يُخَالِطهُ . وَقَالَ حُذَّاق أَهْل الْعِلْم : وَلَيْسَ مِنْ شَرْط النَّاهِي أَنْ يَكُون سَلِيمًا عَنْ مَعْصِيَة بَلْ يَنْهَى الْعُصَاة بَعْضهمْ بَعْضًا , وَقَالَ بَعْض الْأُصُولِيِّينَ : فُرِضَ عَلَى الَّذِينَ يَتَعَاطَوْنَ الْكُؤُوس أَنْ يَنْهَى بَعْضهمْ بَعْضًا وَاسْتَدَلُّوا بِهَذِهِ الْآيَة ; قَالُوا : لِأَنَّ قَوْله : | كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَر فَعَلُوهُ | يَقْتَضِي اِشْتِرَاكهمْ فِي الْفِعْل وَذَمّهمْ عَلَى تَرْك التَّنَاهِي , وَفِي الْآيَة دَلِيل عَلَى النَّهْي عَنْ مُجَالَسَة الْمُجْرِمِينَ وَأَمْر بِتَرْكِهِمْ وَهِجْرَانهمْ , وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ فِي الْإِنْكَار عَلَى الْيَهُود : | تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا | | وَمَا | مِنْ قَوْله : | مَا كَانُوا | يَجُوز أَنْ تَكُون فِي مَوْضِع نَصْب وَمَا بَعْدهَا نَعْت لَهَا ; التَّقْدِير لَبِئْسَ شَيْئًا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ . أَوْ تَكُون فِي مَوْضِع رَفْع وَهِيَ بِمَعْنَى الَّذِي .

تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ

أَيْ مِنْ الْيَهُود ; قِيلَ : كَعْب بْن الْأَشْرَف وَأَصْحَابه , وَقَالَ مُجَاهِد : يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ|يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا|أَيْ الْمُشْرِكِينَ ; وَلَيْسُوا عَلَى دِينهمْ .|لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ|أَيْ سَوَّلَتْ وَزَيَّنَتْ , وَقِيلَ : الْمَعْنَى لَبِئْسَ مَا قَدَّمُوا لِأَنْفُسِهِمْ وَمَعَادهمْ .|أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ|| أَنْ | فِي مَوْضِع رَفْع عَلَى إِضْمَار مُبْتَدَأ كَقَوْلِك : بِئْسَ رَجُلًا زَيْد , وَقِيلَ : بَدَل مِنْ | مَا | فِي قَوْله | لَبِئْسَ | عَلَى أَنْ تَكُون | مَا | نَكِرَة فَتَكُون رَفْعًا أَيْضًا , وَيَجُوز أَنْ تَكُون فِي مَوْضِع نَصْب بِمَعْنَى لِأَنْ سَخِطَ اللَّه عَلَيْهِ : | وَفِي الْعَذَاب هُمْ خَالِدُونَ | اِبْتِدَاء وَخَبَر .

وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ

يَدُلّ بِهَذَا عَلَى أَنَّ مَنْ اِتَّخَذَ كَافِرًا وَلِيًّا فَلَيْسَ بِمُؤْمِنٍ إِذَا اِعْتَقَدَ اِعْتِقَاده وَرَضِيَ أَفْعَاله .|وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ|أَيْ خَارِجُونَ عَنْ الْإِيمَان بِنَبِيِّهِمْ لِتَحْرِيفِهِمْ , أَوْ عَنْ الْإِيمَان بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنِفَاقِهِمْ .

لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَ

قَوْله تَعَالَى | لَتَجِدَنَّ أَشَدّ النَّاس عَدَاوَة لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُود | اللَّام لَام الْقَسَم وَدَخَلَتْ النُّون عَلَى قَوْل الْخَلِيل وَسِيبَوَيْهِ فَرْقًا بَيْن الْحَال وَالْمُسْتَقْبَل . | عَدَاوَة | نُصِبَ عَلَى الْبَيَان وَكَذَا | وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبهمْ مَوَدَّة لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى | وَهَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ فِي النَّجَاشِيّ وَأَصْحَابه لَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِمْ الْمُسْلِمُونَ فِي الْهِجْرَة الْأُولَى - حَسَب مَا هُوَ مَشْهُور فِي سِيرَة اِبْن إِسْحَاق وَغَيْره - خَوْفًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَفِتْنَتهمْ ; وَكَانُوا ذَوِي عَدَد . ثُمَّ هَاجَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَة بَعْد ذَلِكَ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الْوُصُول إِلَيْهِ , حَالَتْ بَيْنهمْ وَبَيْن رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَرْب . فَلَمَّا كَانَتْ وَقْعَة بَدْر وَقَتَلَ اللَّه فِيهَا صَنَادِيد الْكُفَّار , قَالَ كُفَّار قُرَيْش : إِنَّ ثَأْركُمْ بِأَرْضِ الْحَبَشَة , فَاهْدُوا إِلَى النَّجَاشِيّ وَابْعَثُوا إِلَيْهِ رَجُلَيْنِ مِنْ ذَوِي رَأْيكُمْ لَعَلَّهُ يُعْطِيكُمْ مَنْ عِنْده فَتَقْتُلُونَهُمْ بِمَنْ قُتِلَ مِنْكُمْ بِبَدْرٍ , فَبَعَثَ كُفَّار قُرَيْش عَمْرو بْن الْعَاص وَعَبْد اللَّه بْن أَبِي رَبِيعَة بِهَدَايَا , فَسَمِعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ , فَبَعَثَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمْرو بْن أُمَيَّة الضَّمْرِيّ , وَكَتَبَ مَعَهُ إِلَى النَّجَاشِيّ , فَقَدِمَ عَلَى النَّجَاشِيّ , فَقَرَأَ كِتَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , ثُمَّ دَعَا جَعْفَر بْن أَبِي طَالِب وَالْمُهَاجِرِينَ , وَأَرْسَلَ إِلَى الرُّهْبَان وَالْقِسِّيسِينَ فَجَمَعَهُمْ . ثُمَّ أَمَرَ جَعْفَر أَنْ يَقْرَأ عَلَيْهِمْ الْقُرْآن فَقَرَأَ سُورَة ( مَرْيَم ) فَقَامُوا تَفِيض أَعْيُنهمْ مِنْ الدَّمْع , فَهُمْ الَّذِينَ أَنْزَلَ اللَّه فِيهِمْ | وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبهمْ مَوَدَّة لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى | وَقَرَأَ إِلَى | الشَّاهِدِينَ | رَوَاهُ أَبُو دَاوُد . قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن سَلَمَة الْمُرَادِيّ قَالَ حَدَّثَنَا اِبْن وَهْب قَالَ أَخْبَرَنِي يُونُس عَنْ اِبْن شِهَاب عَنْ أَبِي بَكْر بْن عَبْد الرَّحْمَن بْن الْحَارِث بْن هِشَام , وَعَنْ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب وَعَنْ عُرْوَة بْن الزُّبَيْر , أَنَّ الْهِجْرَة الْأُولَى هِجْرَة الْمُسْلِمِينَ إِلَى أَرْض الْحَبَشَة , وَسَاقَ الْحَدِيث بِطُولِهِ , وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيّ عَنْ اِبْن إِسْحَاق قَالَ : قَدِمَ عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِشْرُونَ رَجُلًا وَهُوَ بِمَكَّة أَوْ قَرِيب مِنْ ذَلِكَ , مِنْ النَّصَارَى حِين ظَهَرَ خَبَره مِنْ الْحَبَشَة , فَوَجَدُوهُ فِي الْمَسْجِد فَكَلَّمُوهُ وَسَأَلُوهُ , وَرِجَال مِنْ قُرَيْش فِي أَنْدِيَتهمْ حَوْل الْكَعْبَة فَلَمَّا فَرَغُوا مِنْ مَسْأَلَتهمْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّا أَرَادُوا , دَعَاهُمْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ , وَتَلَا عَلَيْهِمْ الْقُرْآن , فَلَمَّا سَمِعُوهُ فَاضَتْ أَعْيُنهمْ مِنْ الدَّمْع , ثُمَّ اِسْتَجَابُوا لَهُ وَآمَنُوا بِهِ وَصَدَّقُوهُ , وَعَرَفُوا مِنْهُ مَا كَانَ يُوصَف لَهُمْ فِي كِتَابهمْ مِنْ أَمْره , فَلَمَّا قَامُوا مِنْ عِنْده اِعْتَرَضَهُمْ أَبُو جَهْل فِي نَفَر مِنْ قُرَيْش فَقَالُوا : خَيَّبَكُمْ اللَّه مِنْ رَكْب ! بَعَثَكُمْ مَنْ وَرَاءَكُمْ مِنْ أَهْل دِينكُمْ تَرْتَادُونَ لَهُمْ فَتَأْتُونَهُمْ بِخَبَرِ الرَّجُل , فَلَمْ تَظْهَر مُجَالَسَتكُمْ عِنْده حَتَّى فَارَقْتُمْ دِينكُمْ وَصَدَّقْتُمُوهُ بِمَا قَالَ لَكُمْ , مَا نَعْلَم رَكْبًا أَحْمَق مِنْكُمْ - أَوْ كَمَا قَالَ لَهُمْ - فَقَالُوا : سَلَام عَلَيْكُمْ لَا نُجَاهِلكُمْ لَنَا أَعْمَالنَا وَلَكُمْ أَعْمَالكُمْ , لَا نَأْلُوا أَنْفُسنَا خَيْرًا . فَيُقَال : إِنَّ النَّفَر النَّصَارَى مِنْ أَهْل نَجْرَان , وَيُقَال : إِنَّ فِيهِمْ نَزَلَتْ هَؤُلَاءِ الْآيَات | الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَاب مِنْ قَبْله هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ | [ الْقَصَص : 52 ] إِلَى قَوْله : | لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ | [ الْقَصَص : 55 ] وَقِيلَ : إِنَّ جَعْفَرًا وَأَصْحَابه قَدِمَ عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَبْعِينَ رَجُلًا عَلَيْهِمْ ثِيَاب الصُّوف , فِيهِمْ اِثْنَانِ وَسِتُّونَ مِنْ الْحَبَشَة وَثَمَانِيَة مِنْ أَهْل الشَّام وَهُمْ بَحِيرَاء الرَّاهِب وَإِدْرِيس وَأَشْرَف وَأَبْرَهَة وَثُمَامَة وَقُثَم وَدُرَيْد وَأَيْمَن , فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُورَة | يس | إِلَى آخِرهَا , فَبَكَوْا حِين سَمِعُوا الْقُرْآن وَآمَنُوا , وَقَالُوا : مَا أَشْبَه هَذَا بِمَا كَانَ يَنْزِل عَلَى عِيسَى فَنَزَلَتْ فِيهِمْ | لَتَجِدَنَّ أَشَدّ النَّاس عَدَاوَة لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُود وَاَلَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبهمْ مَوَدَّة لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى | يَعْنِي وَفْد النَّجَاشِيّ وَكَانُوا أَصْحَاب الصَّوَامِع , وَقَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر : وَأَنْزَلَ اللَّه فِيهِمْ أَيْضًا | الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَاب مِنْ قَبْله هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ | [ الْقَصَص : 52 ] إِلَى قَوْله : | أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرهمْ مَرَّتَيْنِ | [ الْقَصَص : 54 ] إِلَى آخِر الْآيَة , وَقَالَ مُقَاتِل وَالْكَلْبِيّ : كَانُوا أَرْبَعِينَ رَجُلًا مِنْ أَهْل نَجْرَان مِنْ بَنِي الْحَارِث بْن كَعْب , وَاثْنَانِ وَثَلَاثُونَ مِنْ الْحَبَشَة , وَثَمَانِيَة وَسِتُّونَ مِنْ أَهْل الشَّام . وَقَالَ قَتَادَة : نَزَلَتْ فِي نَاس مِنْ أَهْل الْكِتَاب كَانُوا عَلَى شَرِيعَة مِنْ الْحَقّ مِمَّا جَاءَ بِهِ عِيسَى , فَلَمَّا بَعَثَ اللَّه مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آمَنُوا بِهِ فَأَثْنَى اللَّه عَلَيْهِمْ .|ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ|وَاحِد | الْقِسِّيسِينَ | قَسّ وَقِسِّيس ; قَالَهُ قُطْرُب . وَالْقِسِّيس الْعَالِم ; وَأَصْله مِنْ قَسَّ إِذَا تَتَبَّعَ الشَّيْء فَطَلَبَهُ ; قَالَ الرَّاجِز : <br>يُصْبِحْنَ عَنْ قَسّ الْأَذَى غَوَافِلَا <br>وَتَقَسَّسْت أَصْوَاتهمْ بِاللَّيْلِ تَسَمَّعْتهَا , وَالْقَسّ النَّمِيمَة , وَالْقَسّ أَيْضًا رَئِيس مِنْ رُؤَسَاء النَّصَارَى فِي الدِّين وَالْعِلْم , وَجَمْعه قُسُوس , وَكَذَلِكَ الْقِسِّيس مِثْل الشَّرّ وَالشِّرِّير فَالْقِسِّيسُونَ هُمْ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الْعُلَمَاء وَالْعُبَّاد , وَيُقَال فِي جَمْع قِسِّيس مُكَسَّرًا : قَسَاوِسَة أُبْدِلَ مِنْ إِحْدَى السِّينَيْنِ وَاوًا وَقَسَاوِسَة أَيْضًا كَمَهَالِبَة , وَالْأَصْل قَسَاسِسَة فَأَبْدَلُوا إِحْدَى السِّينَات وَاوًا لِكَثْرَتِهَا . وَلَفْظ الْقِسِّيس إِمَّا أَنْ يَكُون عَرَبِيًّا , وَإِمَّا أَنْ يَكُون بِلُغَةِ الرُّوم وَلَكِنْ خَلَطَتْهُ الْعَرَب بِكَلَامِهِمْ فَصَارَ مِنْ لُغَتهمْ إِذْ لَيْسَ فِي الْكِتَاب مَا لَيْسَ مِنْ لُغَة الْعَرَب كَمَا تَقَدَّمَ . وَقَالَ أَبُو بَكْر الْأَنْبَارِيّ : حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا نَصْر بْن دَاوُد حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْد , قَالَ : حُدِّثْت عَنْ مُعَاوِيَة بْن هِشَام عَنْ نُصَيْر الطَّائِيّ عَنْ الصَّلْت عَنْ حَامِيَة بْن رَبَاب قَالَ : قُلْت لِسَلْمَان | بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا | فَقَالَ : دَعْ الْقِسِّيسِينَ فِي الصَّوَامِع وَالْمِحْرَاب أَقْرَأَنِيهَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ | بِأَنَّ مِنْهُمْ صِدِّيقِينَ وَرُهْبَانًا | , وَقَالَ عُرْوَة بْن الزُّبَيْر : ضَيَّعَتْ النَّصَارَى الْإِنْجِيل , وَأَدْخَلُوا فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ ; وَكَانُوا أَرْبَعَة نَفَر الَّذِينَ غَيَّرُوهُ ; لُوقَاس ومرقوس وَيُحَنَّس ومقبوس وَبَقِيَ قِسِّيس عَلَى الْحَقّ وَعَلَى الِاسْتِقَامَة , فَمَنْ كَانَ عَلَى دِينه وَهَدْيه فَهُوَ قِسِّيس .|وَرُهْبَانًا|الرُّهْبَان جَمْع رَاهِب كَرُكْبَانٍ وَرَاكِب . قَالَ النَّابِغَة : <br>لَوْ أَنَّهَا عَرَضَتْ لِأَشْمَط رَاهِب .......... عَبَدَ الْإِلَه صَرُورَة مُتَعَبِّد <br><br>لَرَنَا لِرُؤْيَتِهَا وَحُسْن حَدِيثهَا .......... وَلَخَالَهُ رَشَدًا وَإِنْ لَمْ يَرْشُدِ <br>وَالْفِعْل مِنْهُ رَهِبَ اللَّه يَرْهَبهُ أَيْ خَافَهُ رَهْبًا وَرَهَبًا وَرَهْبَة , وَالرَّهْبَانِيَّة وَالتَّرَهُّب التَّعَبُّد فِي صَوْمَعَة . قَالَ أَبُو عُبَيْد : وَقَدْ يَكُون ( رُهْبَان ) لِلْوَاحِدِ وَالْجَمْع ; قَالَ الْفَرَّاء : وَيُجْمَع ( رُهْبَان ) إِذَا كَانَ لِلْمُفْرَدِ رَهَابِنَة وَرَهَابِين كَقُرْبَانٍ وَقَرَابِين ; قَالَ جَرِير فِي الْجَمْع : <br>رُهْبَان مَدْيَن لَوْ رَأَوْك تَنَزَّلُوا .......... وَالْعُصْم مِنْ شَعَف الْعُقُول الْفَادِرُ <br>الْفَادِر الْمُسِنّ مِنْ الْوُعُول , وَيُقَال : الْعَظِيم , وَكَذَلِكَ الْفَدُور وَالْجَمْع فُدْر وَفُدُور وَمَوْضِعهَا الْمَفْدَرَة ; قَالَهُ الْجَوْهَرِيّ , وَقَالَ آخَر فِي التَّوْحِيد : <br>لَوْ أَبْصَرَتْ رُهْبَان دَيْر فِي الْجَبَل .......... لَانْحَدَرَ الرُّهْبَان يَسْعَى وَيُصَلْ <br>مِنْ الصَّلَاة . وَالرَّهَابَة عَلَى وَزْن السَّحَابَة عَظْم فِي الصَّدْر مُشْرِف عَلَى الْبَطْن مِثْل اللِّسَان , وَهَذَا الْمَدْح لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُون مَنْ أَصَرَّ عَلَى كُفْره وَلِهَذَا قَالَ :|وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ|يَسْتَكْبِرُونَ | أَيْ عَنْ الِانْقِيَاد إِلَى الْحَقّ

وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ

| مِنْ الدَّمْع | أَيْ بِالدَّمْعِ وَهُوَ فِي مَوْضِع الْحَال ; وَكَذَا | يَقُولُونَ | , وَقَالَ اِمْرُؤُ الْقَيْس : <br>فَفَاضَتْ دُمُوع الْعَيْن مِنِّي صَبَابَة .......... عَلَى النَّحْر حَتَّى بَلَّ دَمْعِي مِحْمَلِي <br>وَخَبَر مُسْتَفِيض إِذَا كَثُرَ وَانْتَشَرَ كَفَيْضِ الْمَاء عَنْ الْكَثْرَة , وَهَذِهِ أَحْوَال الْعُلَمَاء يَبْكُونَ وَلَا يُصْعَقُونَ , وَيَسْأَلُونَ وَلَا يَصِيحُونَ , وَيَتَحَازَنُونَ وَلَا يَتَمَوَّتُونَ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى : | اللَّه نَزَّلَ أَحْسَن الْحَدِيث كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرّ مِنْهُ جُلُود الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبّهمْ ثُمَّ تَلِينَ جُلُودهمْ وَقُلُوبهمْ إِلَى ذِكْر اللَّه | [ الزُّمَر : 23 ] وَقَالَ : | إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّه وَجِلَتْ قُلُوبهمْ | . وَفِي الْأَنْفَال يَأْتِي بَيَان هَذَا الْمَعْنَى إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى , وَبَيَّنَ اللَّه سُبْحَانه فِي هَذِهِ الْآيَات أَنَّ أَشَدّ الْكُفَّار تَمَرُّدًا وَعُتُوًّا وَعَدَاوَة لِلْمُسْلِمِينَ الْيَهُود , وَيُضَاهِيهِمْ الْمُشْرِكُونَ , وَبَيَّنَ أَنَّ أَقْرَبهمْ مَوَدَّة النَّصَارَى , وَاللَّه أَعْلَمُ .|يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ|| فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ | أَيْ مَعَ أُمَّة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ بِالْحَقِّ مِنْ قَوْله عَزَّ وَجَلَّ : | وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاس | [ الْبَقَرَة : 143 ] عَنْ اِبْن عَبَّاس وَابْن جُرَيْج . وَقَالَ الْحَسَن : الَّذِينَ يَشْهَدُونَ بِالْإِيمَانِ , وَقَالَ أَبُو عَلِيّ : الَّذِينَ يَشْهَدُونَ بِتَصْدِيقِ نَبِيّك وَكِتَابك . وَمَعْنَى | فَاكْتُبْنَا | اِجْعَلْنَا , فَيَكُون بِمَنْزِلَةِ مَا قَدْ كُتِبَ وَدُوِّنَ .

وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ

بَيَّنَ اِسْتِبْصَارهمْ فِي الدِّين ; أَيْ يَقُولُونَ وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِن ; أَيْ وَمَا لَنَا تَارِكِينَ الْإِيمَان . ف | نُؤْمِن | فِي مَوْضِع نَصْب عَلَى الْحَال .|وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ|أَيْ مَعَ أُمَّة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدَلِيلِ قَوْله : | أَنَّ الْأَرْض يَرِثهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ | [ الْأَنْبِيَاء : 105 ] يُرِيد أُمَّة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَفِي الْكَلَام إِضْمَار أَيْ نَطْمَع أَنْ يُدْخِلنَا رَبّنَا الْجَنَّة , وَقِيلَ : | مَعَ | بِمَعْنَى ( فِي ) كَمَا تُذْكَر ( فِي ) بِمَعْنَى ( مَعَ ) تَقُول : كُنْت فِيمَنْ لَقِيَ الْأَمِير ; أَيْ مَعَ مَنْ لَقِيَ الْأَمِير , وَالطَّمَع يَكُون مُخَفَّفًا وَغَيْر مُخَفَّف ; يُقَال : طَمِعَ فِيهِ طَمَعًا وَطَمَاعَة وَطَمَاعِيَة مُخَفَّف فَهُوَ طَمِع .

فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ

دَلِيل عَلَى إِخْلَاص إِيمَانهمْ وَصِدْق مَقَالهمْ ; فَأَجَابَ اللَّه سُؤَالهمْ وَحَقَّقَ طَمَعهمْ - وَهَكَذَا مَنْ خَلَصَ إِيمَانه وَصَدَقَ يَقِينه يَكُون ثَوَابه الْجَنَّة . ثُمَّ قَالَ

وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ

مِنْ الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَمِنْ الْمُشْرِكِينَ|أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ|وَالْجَحِيم النَّار الشَّدِيدَة الِاتِّقَاد . يُقَال : جَحَمَ فُلَان النَّار إِذَا شَدَّدَ إِيقَادهَا , وَيُقَال أَيْضًا لِعَيْنِ الْأَسَد : جَحْمَة ; لِشِدَّةِ اِتِّقَادهَا , وَيُقَال ذَلِكَ لِلْحَرْبِ قَالَ الشَّاعِر : <br>وَالْحَرْب لَا يَبْقَى لِجَا .......... حِمِهَا التَّخَيُّل وَالْمِرَاح <br><br>إِلَّا الْفَتَى الصَّبَّار فِي .......... النَّجَدَات وَالْفَرَس الْوَقَاح<br>

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ

فِيهِ خَمْس مَسَائِل : </subtitle>الْأُولَى : أَسْنَدَ الطَّبَرِيّ إِلَى اِبْن عَبَّاس أَنَّ الْآيَة نَزَلَتْ بِسَبَبِ رَجُل أَتَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُول اللَّه إِنِّي إِذَا أَصَبْت مِنْ اللَّحْم اِنْتَشَرْت وَأَخَذَتْنِي شَهْوَتِي فَحَرَّمْت اللَّحْم ; فَأَنْزَلَ اللَّه هَذِهِ الْآيَة . وَقِيلَ : إِنَّهَا نَزَلَتْ بِسَبَبِ جَمَاعَة مِنْ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ أَبُو بَكْر وَعَلِيّ وَابْن مَسْعُود وَعَبْد اللَّه بْن عُمَر وَأَبُو ذَرّ الْغِفَارِيّ وَسَالِم مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَة وَالْمِقْدَاد بْن الْأَسْوَد وَسَلْمَان الْفَارِسِيّ وَمَعْقِل بْن مُقَرِّن رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ , اِجْتَمَعُوا فِي دَار عُثْمَان بْن مَظْعُون , وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنْ يَصُومُوا النَّهَار وَيَقُومُوا اللَّيْل وَلَا يَنَامُوا عَلَى الْفُرُش , وَلَا يَأْكُلُوا اللَّحْم وَلَا الْوَدَك وَلَا يَقْرَبُوا النِّسَاء وَالطِّيب , وَيَلْبَسُوا الْمُسُوح وَيَرْفُضُوا الدُّنْيَا وَيَسِيحُوا فِي الْأَرْض , وَيَتَرَهَّبُوا وَيَجُبُّوا الْمَذَاكِير ; فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْآيَة , وَالْأَخْبَار بِهَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَة وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا ذِكْر النُّزُول وَهِيَ الثَّانِيَة : خَرَّجَ مُسْلِم عَنْ أَنَس أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلُوا أَزْوَاج النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عَمَله فِي السِّرّ ; فَقَالَ بَعْضهمْ : لَا أَتَزَوَّج النِّسَاء ; وَقَالَ بَعْضهمْ : لَا آكُل اللَّحْم ; وَقَالَ بَعْضهمْ : لَا أَنَام عَلَى الْفِرَاش ; فَحَمِدَ اللَّه وَأَثْنَى عَلَيْهِ فَقَالَ : ( وَمَا بَال أَقْوَام قَالُوا كَذَا وَكَذَا لَكِنِّي أُصَلِّي وَأَنَام وَأَصُوم وَأُفْطِر وَأَتَزَوَّج النِّسَاء فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي ) , وَخَرَّجَهُ الْبُخَارِيّ عَنْ أَنَس أَيْضًا وَلَفْظه قَالَ : جَاءَ ثَلَاثَة رَهْط إِلَى بُيُوت أَزْوَاج النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَته ; فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا - فَقَالُوا : وَأَيْنَ نَحْنُ مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَدْ غَفَرَ اللَّه لَهُ مِنْ ذَنْبه مَا تَقَدَّمَ وَمَا تَأَخَّرَ . فَقَالَ أَحَدهمْ : أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْل أَبَدًا , وَقَالَ آخَر : أَمَّا أَنَا فَأَصُوم الدَّهْر وَلَا أُفْطِر , وَقَالَ آخَر : أَمَّا أَنَا فَأَعْتَزِل النِّسَاء وَلَا أَتَزَوَّج أَبَدًا . فَجَاءَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : ( أَنْتُمْ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا أَمَا وَاَللَّه إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ لَكِنِّي أَصُوم وَأُفْطِر وَأُصَلِّي وَأَرْقُد وَأَتَزَوَّج النِّسَاء فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي ) . وَخَرَّجَا عَنْ سَعْد بْن أَبِي وَقَّاص قَالَ : أَرَادَ عُثْمَان بْن مَظْعُون أَنْ يَتَبَتَّل فَنَهَاهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ أَجَازَ لَهُ ذَلِكَ لَاخْتَصَيْنَا , وَخَرَّجَ الْإِمَام أَحْمَد بْن حَنْبَل رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فِي مُسْنَده قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الْمُغِيرَة قَالَ حَدَّثَنَا مُعَان بْن رِفَاعَة , قَالَ حَدَّثَنِي عَلِيّ بْن يَزِيد عَنْ الْقَاسِم عَنْ أَبِي أُمَامَة الْبَاهِلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ , قَالَ : خَرَجْنَا مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَرِيَّة مِنْ سَرَايَاهُ ; قَالَ : فَمَرَّ رَجُل بِغَارٍ فِيهِ شَيْء مِنْ الْمَاء فَحَدَّثَ نَفْسه بِأَنْ يُقِيمَ فِي ذَلِكَ الْغَار فَيَقُوتهُ مَا كَانَ فِيهِ مِنْ مَاء , وَيُصِيب مَا حَوْله مِنْ الْبَقْل , وَيَتَخَلَّى عَنْ الدُّنْيَا ; قَالَ : لَوْ أَنِّي أَتَيْت إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْت لَهُ ذَلِكَ , فَإِنْ أَذِنَ لِي فَعَلْت وَإِلَّا لَمْ أَفْعَل ; فَأَتَاهُ فَقَالَ : يَا نَبِيّ اللَّه إِنِّي مَرَرْت بِغَارٍ فِيهِ مَا يَقُوتنِي مِنْ الْمَاء وَالْبَقْل , فَحَدَّثَتْنِي نَفْسِي بِأَنْ أُقِيمَ فِيهِ وَأَتَخَلَّى عَنْ الدُّنْيَا ; قَالَ : فَقَالَ لَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ بِالْيَهُودِيَّةِ وَلَا النَّصْرَانِيَّة وَلَكِنِّي بُعِثْت بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَة وَاَلَّذِي نَفْس مُحَمَّد بِيَدِهِ لَغَدْوَة أَوْ رَوْحَة فِي سَبِيل اللَّه خَيْر مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا وَلَمُقَام أَحَدكُمْ فِي الصَّفّ خَيْر مِنْ صَلَاته سِتِّينَ سَنَة ) . الثَّالِثَة : قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَة اللَّه عَلَيْهِمْ فِي هَذِهِ الْآيَة وَمَا شَابَهَهَا وَالْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي مَعْنَاهَا رَدّ عَلَى غُلَاة الْمُتَزَهِّدِينَ , وَعَلَى أَهْل الْبَطَالَة مِنْ الْمُتَصَوِّفِينَ ; إِذْ كُلّ فَرِيق مِنْهُمْ قَدْ عَدَلَ عَنْ طَرِيقه , وَحَادَ عَنْ تَحْقِيقه ; قَالَ الطَّبَرِيّ : لَا يَجُوز لِأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ تَحْرِيم شَيْء مِمَّا أَحَلَّ اللَّه لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى نَفْسه مِنْ طَيِّبَات الْمَطَاعِم وَالْمَلَابِس وَالْمَنَاكِح إِذَا خَافَ عَلَى نَفْسه بِإِحْلَالِ ذَلِكَ بِهَا بَعْضَ الْعَنَت وَالْمَشَقَّة ; وَلِذَلِكَ رَدَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّبَتُّل عَلَى اِبْن مَظْعُون فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا فَضْل فِي تَرْك شَيْء مِمَّا أَحَلَّهُ اللَّه لِعِبَادِهِ , وَأَنَّ الْفَضْل وَالْبِرّ إِنَّمَا هُوَ فِي فِعْل مَا نَدَبَ عِبَاده إِلَيْهِ , وَعَمِلَ بِهِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَسَنَّهُ لِأُمَّتِهِ , وَاتَّبَعَهُ عَلَى مِنْهَاجه الْأَئِمَّة الرَّاشِدُونَ , إِذْ كَانَ خَيْر الْهَدْي هَدْي نَبِيّنَا مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ تَبَيَّنَ خَطَأ مَنْ آثَرَ لِبَاس الشَّعْر وَالصُّوف عَلَى لِبَاس الْقُطْن وَالْكَتَّان إِذَا قَدَرَ عَلَى لِبَاس ذَلِكَ مِنْ حِلّه , وَآثَرَ أَكْل الْخَشِن مِنْ الطَّعَام وَتَرْك اللَّحْم وَغَيْره حَذَرًا مِنْ عَارِض الْحَاجَة إِلَى النِّسَاء . قَالَ الطَّبَرِيّ : فَإِنْ ظَنَّ ظَانّ أَنَّ الْخَيْر فِي غَيْر الَّذِي قُلْنَا لِمَا فِي لِبَاس الْخَشِن وَأَكْله مِنْ الْمَشَقَّة عَلَى النَّفْس وَصَرْف مَا فَضَلَ بَيْنهمَا مِنْ الْقِيمَة إِلَى أَهْل الْحَاجَة فَقَدْ ظَنَّ خَطَأ ; وَذَلِكَ أَنَّ الْأَوْلَى بِالْإِنْسَانِ صَلَاح نَفْسه وَعَوْنه لَهَا عَلَى طَاعَة رَبّهَا , وَلَا شَيْء أَضَرّ لِلْجِسْمِ مِنْ الْمَطَاعِم الرَّدِيئَة لِأَنَّهَا مُفْسِدَة لِعَقْلِهِ وَمُضْعِفَة لِأَدَوَاتِهِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّه سَبَبًا إِلَى طَاعَته , وَقَدْ جَاءَ رَجُل إِلَى الْحَسَن الْبَصْرِيّ ; فَقَالَ : إِنَّ لِي جَارًا لَا يَأْكُل الْفَالَوْذَج فَقَالَ : وَلِمَ ؟ قَالَ : يَقُول لَا يُؤَدِّي شُكْره ; فَقَالَ الْحَسَن : أَفَيَشْرَب الْمَاء الْبَارِد ؟ فَقَالَ : نَعَمْ . فَقَالَ : إِنَّ جَارك جَاهِل , فَإِنَّ نِعْمَة اللَّه عَلَيْهِ فِي الْمَاء الْبَارِد أَكْثَر مِنْ نِعْمَته عَلَيْهِ فِي الْفَالُوذَج . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ قَالَ عُلَمَاؤُنَا : هَذَا إِذَا كَانَ الدِّين قَوَامًا , وَلَمْ يَكُنْ الْمَال حَرَامًا ; فَأَمَّا إِذَا فَسَدَ الدِّين عِنْد النَّاس وَعَمَّ الْحَرَام فَالتَّبَتُّل أَفْضَل , وَتَرْك اللَّذَّات أَوْلَى , وَإِذَا وُجِدَ الْحَلَال فَحَال النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَل وَأَعْلَى . قَالَ الْمُهَلَّب : إِنَّمَا نَهَى صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ التَّبَتُّل وَالتَّرَهُّب مِنْ أَجْل أَنَّهُ مُكَاثِر بِأُمَّتِهِ الْأُمَم يَوْم الْقِيَامَة , وَأَنَّهُ فِي الدُّنْيَا مُقَاتِل بِهِمْ طَوَائِف الْكُفَّار , وَفِي آخِر الزَّمَان يُقَاتِلُونَ الدَّجَّال ; فَأَرَادَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَكْثُر النَّسْل . الرَّابِعَة : قَوْله تَعَالَى : | وَلَا تَعْتَدُوا | قِيلَ : الْمَعْنَى لَا تَعْتَدُوا فَتُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّه فَالنَّهْيَانِ عَلَى هَذَا تَضَمَّنَا الطَّرَفَيْنِ ; أَيْ لَا تَشَدَّدُوا فَتُحَرِّمُوا حَلَالًا , وَلَا تَتَرَخَّصُوا فَتُحِلُّوا حَرَامًا ; قَالَهُ الْحَسَن الْبَصْرِيّ , وَقِيلَ : مَعْنَاهُ التَّأْكِيد لِقَوْلِهِ : | تُحَرِّمُوا | ; قَالَهُ السُّدِّيّ وَعِكْرِمَة وَغَيْرهمَا ; أَيْ لَا تُحَرِّمُوا مَا أَحَلَّ اللَّه وَشَرَعَ , وَالْأَوَّل أَوْلَى , وَاللَّه أَعْلَمُ . الْخَامِسَة : مَنْ حَرَّمَ عَلَى نَفْسه طَعَامًا أَوْ شَرَابًا أَوْ أَمَة لَهُ , أَوْ شَيْئًا مِمَّا أَحَلَّ اللَّه فَلَا شَيْء عَلَيْهِ , وَلَا كَفَّارَة فِي شَيْء مِنْ ذَلِكَ عِنْد مَالِك ; إِلَّا أَنَّهُ إِنْ نَوَى بِتَحْرِيمِ الْأَمَة عِتْقهَا صَارَتْ حُرَّة وَحَرُمَ عَلَيْهِ وَطْؤُهَا إِلَّا بِنِكَاحٍ جَدِيد بَعْد عِتْقهَا , وَكَذَلِكَ إِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَام فَإِنَّهُ تَطْلُق عَلَيْهِ ثَلَاثًا ; وَذَلِكَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى قَدْ أَبَاحَ لَهُ أَنْ يُحَرِّم اِمْرَأَته عَلَيْهِ بِالطَّلَاقِ صَرِيحًا وَكِنَايَة , وَحَرَام مِنْ كِنَايَات الطَّلَاق . وَسَيَأْتِي مَا لِلْعُلَمَاءِ فِيهِ فِي سُورَة ( التَّحْرِيم ) إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى , وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : إِنَّ مَنْ حَرَّمَ شَيْئًا صَارَ مُحَرَّمًا عَلَيْهِ , وَإِذَا تَنَاوَلَهُ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَة ; وَهَذَا بَعِيد وَالْآيَة تَرُدّ عَلَيْهِ , وَقَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر : لَغْو الْيَمِين تَحْرِيم الْحَلَال , وَهُوَ مَعْنَى قَوْل الشَّافِعِيّ عَلَى مَا يَأْتِي .

وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ

فِيهِ مَسْأَلَة وَاحِدَة : </subtitle>الْأَكْل فِي هَذِهِ الْآيَة عِبَارَة عَنْ التَّمَتُّع بِالْأَكْلِ وَالشُّرْب وَاللِّبَاس وَالرُّكُوب وَنَحْو ذَلِكَ , وَخُصَّ الْأَكْل بِالذِّكْرِ ; لِأَنَّهُ أَعْظَم الْمَقْصُود وَأَخَصّ الِانْتِفَاعَات بِالْإِنْسَانِ , وَسَيَأْتِي بَيَان حُكْم الْأَكْل وَالشُّرْب وَاللِّبَاس فِي | الْأَعْرَاف | إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى , وَأَمَّا شَهْوَة الْأَشْيَاء الْمُلِذَّة , وَمُنَازَعَة النَّفْس إِلَى طَلَب الْأَنْوَاع الشَّهِيَّة , فَمَذَاهِب النَّاس فِي تَمْكِين النَّفْس مِنْهَا مُخْتَلِفَة ; فَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى صَرْف النَّفْس عَنْهَا وَقَهْرهَا عَنْ اِتِّبَاع شَهَوَاتهَا أَحْرَى لِيَذِلّ لَهُ قِيَادهَا , وَيَهُون عَلَيْهِ عِنَادهَا ; فَإِنَّهُ إِذَا أَعْطَاهَا الْمُرَاد يَصِير أَسِير شَهَوَاتهَا , وَمُنْقَادًا بِانْقِيَادِهَا . حُكِيَ أَنَّ أَبَا حَازِم كَانَ يَمُرّ عَلَى الْفَاكِهَة فَيَشْتَهِيهَا فَيَقُول : مَوْعِدك الْجَنَّة , وَقَالَ آخَرُونَ : تَمْكِين النَّفْس مِنْ لَذَّاتهَا أَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنْ اِرْتِيَاحهَا وَنَشَاطهَا بِإِدْرَاكِ إِرَادَتهَا , وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ التَّوَسُّط فِي ذَلِكَ أَوْلَى ; لِأَنَّ فِي إِعْطَائِهَا ذَلِكَ مَرَّة وَمَنْعهَا أُخْرَى جَمْع بَيْن الْأَمْرَيْنِ ; وَذَلِكَ النَّصَف مِنْ غَيْر شَيْن . وَتَقَدَّمَ مَعْنَى الِاعْتِدَاء وَالرِّزْق فِي | الْبَقَرَة | وَالْحَمْد لِلَّهِ .

لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِ

فِيهِ ثَلَاث مَسَائِل </subtitle>الْأُولَى : تَقَدَّمَ مَعْنَى اللَّغْو فِي | الْبَقَرَة | وَمَعْنَى | فِي أَيْمَانكُمْ | أَيْ مِنْ أَيْمَانكُمْ , وَالْأَيْمَان جَمْع يَمِين , وَقِيلَ : وَيَمِين فَعِيل مِنْ الْيُمْن وَهُوَ الْبَرَكَة ; سَمَّاهَا اللَّه تَعَالَى بِذَلِكَ ; لِأَنَّهَا تَحْفَظ الْحُقُوق , وَيَمِين تُذَكَّر وَتُؤَنَّث وَتُجْمَع أَيْمَان وَأَيْمُن . قَالَ زُهَيْر : <br>فَتُجْمَع أَيْمُنٌ مِنَّا وَمِنْكُمْ <br>الثَّانِيَة : وَاخْتُلِفَ فِي سَبَب نُزُول هَذِهِ الْآيَة ; فَقَالَ اِبْن عَبَّاس : سَبَب نُزُولهَا الْقَوْم الَّذِينَ حَرَّمُوا طَيِّبَات الْمَطَاعِم وَالْمَلَابِس وَالْمَنَاكِح عَلَى أَنْفُسهمْ , حَلَفُوا عَلَى ذَلِكَ فَلَمَّا نَزَلَتْ | لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَات مَا أَحَلَّ اللَّه لَكُمْ | قَالُوا : كَيْفَ نَصْنَع بِأَيْمَانِنَا ؟ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة . وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا الْقَوْل ; إِذَا أَتَيْتُمْ بِالْيَمِينِ ثُمَّ أَلْغَيْتُمُوهَا - أَيْ أَسْقَطْتُمْ حُكْمهَا بِالتَّكْفِيرِ وَكَفَّرْتُمْ - فَلَا يُؤَاخِذكُمْ اللَّه بِذَلِكَ ; وَإِنَّمَا يُؤَاخِذكُمْ بِمَا أَقَمْتُمْ عَلَيْهِ فَلَمْ تُلْغُوهُ ; أَيْ فَلَمْ تُكَفِّرُوا ; فَبَانَ بِهَذَا أَنَّ الْحَلِف لَا يُحَرِّم شَيْئًا . وَهُوَ دَلِيل الشَّافِعِيّ عَلَى أَنَّ الْيَمِين لَا يَتَعَلَّق بِهَا تَحْرِيم الْحَلَال , وَأَنَّ تَحْرِيم الْحَلَال لَغْو , كَمَا أَنَّ تَحْلِيل الْحَرَام لَغْو مِثْل قَوْل الْقَائِل : اِسْتَحْلَلْت شُرْب الْخَمْر , فَتَقْتَضِي الْآيَة عَلَى هَذَا الْقَوْل أَنَّ اللَّه تَعَالَى جَعَلَ تَحْرِيم الْحَلَال لَغْوًا فِي أَنَّهُ لَا يُحَرِّم ; فَقَالَ : | لَا يُؤَاخِذكُمْ اللَّه بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانكُمْ | أَيْ بِتَحْرِيمِ الْحَلَال , وَرُوِيَ أَنَّ عَبْد اللَّه بْن رَوَاحَة كَانَ لَهُ أَيْتَام وَضَيْف , فَانْقَلَبَ مِنْ شُغْله بَعْد سَاعَة مِنْ اللَّيْل . فَقَالَ : أَعَشَّيْتُمْ ضَيْفِي ؟ فَقَالُوا : اِنْتَظَرْنَاك ; فَقَالَ : لَا وَاَللَّه لَا آكُلهُ اللَّيْلَة ; فَقَالَ ضَيْفه : وَمَا أَنَا بِاَلَّذِي يَأْكُل ; وَقَالَ أَيْتَامه : وَنَحْنُ لَا نَأْكُل ; فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَكَلَ وَأَكَلُوا . ثُمَّ أَتَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ لَهُ : | أَطَعْت الرَّحْمَن وَعَصَيْت الشَّيْطَان | فَنَزَلَتْ الْآيَة . الثَّالِثَة : الْأَيْمَان فِي الشَّرِيعَة عَلَى أَرْبَعَة أَقْسَام : قِسْمَانِ فِيهِمَا الْكَفَّارَة , وَقِسْمَانِ لَا كَفَّارَة فِيهِمَا . خَرَّجَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي سُنَنه , حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن مُحَمَّد بْن عَبْد الْعَزِيز حَدَّثَنَا خَلَف بْن هِشَام حَدَّثَنَا عَبْثَر عَنْ لَيْث عَنْ حَمَّاد عَنْ إِبْرَاهِيم عَنْ عَلْقَمَة عَنْ عَبْد اللَّه , قَالَ : الْأَيْمَان أَرْبَعَة , يَمِينَانِ يُكَفَّرَانِ وَيَمِينَانِ لَا يُكَفَّرَانِ ; فَالْيَمِينَانِ اللَّذَانِ يُكَفَّرَانِ فَالرَّجُل الَّذِي يَحْلِف وَاَللَّه لَا أَفْعَل كَذَا وَكَذَا فَيَفْعَل , وَالرَّجُل يَقُول وَاَللَّه لَأَفْعَلَنَّ كَذَا وَكَذَا فَلَا يَفْعَل , وَالْيَمِينَانِ اللَّذَانِ لَا يُكَفَّرَانِ فَالرَّجُل يَحْلِف وَاَللَّه مَا فَعَلْت كَذَا وَكَذَا وَقَدْ فَعَلَ , وَالرَّجُل يَحْلِف لَقَدْ فَعَلْت كَذَا وَكَذَا وَلَمْ يَفْعَلهُ . قَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ : وَذَكَرَ سُفْيَان الثَّوْرِيّ فِي ( جَامِعه ) وَذَكَرَهُ الْمَرْوَزِيّ عَنْهُ أَيْضًا , قَالَ سُفْيَان : الْأَيْمَان أَرْبَعَة ; يَمِينَانِ يُكَفَّرَانِ وَهُوَ أَنْ يَقُول الرَّجُل وَاَللَّه لَا أَفْعَل فَيَفْعَل , أَوْ يَقُول وَاَللَّه لَأَفْعَلَنَّ ثُمَّ لَا يَفْعَل ; وَيَمِينَانِ لَا يُكَفَّرَانِ وَهُوَ أَنْ يَقُول الرَّجُل وَاَللَّه مَا فَعَلْت وَقَدْ فَعَلَ , أَوْ يَقُول وَاَللَّه لَقَدْ فَعَلْت وَمَا فَعَلَ ; قَالَ الْمَرْوَزِيّ : أَمَّا الْيَمِينَانِ الْأُولَيَانِ فَلَا اِخْتِلَاف فِيهِمَا بَيْن الْعُلَمَاء عَلَى مَا قَالَ سُفْيَان ; وَأَمَّا الْيَمِينَانِ الْأُخْرَيَانِ فَقَدْ اِخْتَلَفَ أَهْل الْعِلْم فِيهِمَا ; فَإِنْ كَانَ الْحَالِف حَلَفَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَفْعَل كَذَا وَكَذَا , أَوْ أَنَّهُ قَدْ فَعَلَ كَذَا وَكَذَا عِنْد نَفْسه صَادِقًا يَرَى أَنَّهُ عَلَى مَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَلَا إِثْم عَلَيْهِ وَلَا كَفَّارَة عَلَيْهِ فِي قَوْل مَالِك وَسُفْيَان الثَّوْرِيّ وَأَصْحَاب الرَّأْي وَكَذَلِكَ قَالَ أَحْمَد وَأَبُو عُبَيْد ; وَقَالَ الشَّافِعِيّ لَا إِثْم عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَة . قَالَ الْمَرْوَزِيّ : وَلَيْسَ قَوْل الشَّافِعِيّ فِي هَذَا بِالْقَوِيِّ . قَالَ : وَإِنْ كَانَ الْحَالِف عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَفْعَل كَذَا وَكَذَا وَقَدْ فَعَلَ مُتَعَمِّدًا لِلْكَذِبِ فَهُوَ آثِم وَلَا كَفَّارَة عَلَيْهِ فِي قَوْل عَامَّة الْعُلَمَاء : مَالِك وَسُفْيَان الثَّوْرِيّ وَأَصْحَاب الرَّأْي وَأَحْمَد بْن حَنْبَل وَأَبِي ثَوْر وَأَبِي عُبَيْد , وَكَانَ الشَّافِعِيّ يَقُول يُكَفِّر ; قَالَ : وَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْض التَّابِعِينَ مِثْل قَوْل الشَّافِعِيّ . قَالَ الْمَرْوَزِيّ : أَمِيل إِلَى قَوْل مَالِك وَأَحْمَد . قَالَ : فَأَمَّا يَمِين اللَّغْو الَّذِي اِتَّفَقَ عَامَّة الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّهَا لَغْو فَهُوَ قَوْل الرَّجُل : لَا وَاَللَّه , وَبَلَى وَاَللَّه , فِي حَدِيثه وَكَلَامه غَيْر مُنْعَقِد لِلْيَمِينِ وَلَا مُرِيدهَا . قَالَ الشَّافِعِيّ : وَذَلِكَ عِنْد اللِّجَاج وَالْغَضَب وَالْعَجَلَة .|وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ|فِيهِ خَمْسَة عَشَر مَسْأَلَة : </subtitle>الْأُولَى : مُخَفَّف الْقَاف مِنْ الْعَقْد , وَالْعَقْد عَلَى ضَرْبَيْنِ حِسِّيّ كَعَقْدِ الْحَبْل , وَحُكْمِيّ كَعَقْدِ الْبَيْع ; قَالَ الشَّاعِر : <br>قَوْم إِذَا عَقَدُوا عَقْدًا لِجَارِهِمُ .......... شَدُّوا الْعِنَاج وَشَدُّوا فَوْقه الْكَرَبَا <br>فَالْيَمِين الْمُنْعَقِدَة مُنْفَعِلَة مِنْ الْعَقْد , وَهِيَ عَقْد الْقَلْب فِي الْمُسْتَقْبَل أَلَّا يَفْعَل فَفَعَلَ ; أَوْ لَيَفْعَلَنَّ فَلَا يَفْعَل كَمَا تَقَدَّمَ . فَهَذِهِ الَّتِي يَحُلّهَا الِاسْتِثْنَاء وَالْكَفَّارَة عَلَى مَا يَأْتِي , وَقُرِئَ | عَاقَدْتُمْ | بِأَلِفٍ بَعْد الْعَيْن عَلَى وَزْن فَاعَلَ وَذَلِكَ لَا يَكُون إِلَّا مِنْ اِثْنَيْنِ فِي الْأَكْثَر , وَقَدْ يَكُون الثَّانِي مَنْ حُلِفَ لِأَجْلِهِ فِي كَلَام وَقَعَ مَعَهُ , أَوْ يَكُون الْمَعْنَى بِمَا عَاقَدْتُمْ عَلَيْهِ الْأَيْمَان ; لِأَنَّ عَاقَدَ قَرِيب مِنْ مَعْنَى عَاهَدَ فَعُدِّيَ بِحَرْفِ الْجَرّ , لَمَّا كَانَ فِي مَعْنَى عَاهَدَ , وَعَاهَدَ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ الثَّانِي مِنْهُمَا بِحَرْفِ جَرّ ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : | وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّه | [ الْفَتْح : 10 ] وَهَذَا كَمَا عَدَّيْت | نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاة | بِإِلَى , وَبَابهَا أَنْ تَقُول نَادَيْت زَيْدًا | وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِب الطُّور الْأَيْمَن | [ مَرْيَم : 52 ] لَكِنْ لَمَّا كَانَتْ بِمَعْنَى دَعَوْت عُدِّيَ بِإِلَى ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : | وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّه | [ فُصِّلَتْ : 33 ] ثُمَّ اِتَّسَعَ فِي قَوْله تَعَالَى : | عَاقَدْتُمْ عَلَيْهِ الْأَيْمَان | . فَحُذِفَ حَرْف الْجَرّ ; فَوَصَلَ الْفِعْل إِلَى الْمَفْعُول فَصَارَ عَاقَدْتُمُوهُ , ثُمَّ حُذِفَتْ الْهَاء كَمَا حُذِفَتْ مِنْ قَوْله تَعَالَى : | فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَر | [ الْحِجْر : 94 ] . أَوْ يَكُون فَاعَلَ بِمَعْنَى فَعَلَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : | قَاتَلَهُمْ اللَّه | [ التَّوْبَة : 30 ] أَيْ قَتَلَهُمْ , وَقَدْ تَأْتِي الْمُفَاعَلَة فِي كَلَام الْعَرَب مِنْ وَاحِد بِغَيْرِ مَعْنَى ( فَاعَلْت ) كَقَوْلِهِمْ : سَافَرْت وَظَاهَرْت , وَقُرِئَ | عَقَّدْتُمْ | بِتَشْدِيدِ الْقَاف . قَالَ مُجَاهِد : مَعْنَاهُ تَعَمَّدْتُمْ أَيْ قَصَدْتُمْ , وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عُمَر أَنَّ التَّشْدِيد يَقْتَضِي التَّكْرَار فَلَا تَجِب عَلَيْهِ الْكَفَّارَة إِلَّا إِذَا كُرِّرَ , وَهَذَا يَرُدّهُ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِنِّي وَاَللَّه إِنْ شَاءَ اللَّه لَا أَحْلِف عَلَى يَمِين فَأَرَى غَيْرهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلَّا أَتَيْت الَّذِي هُوَ خَيْر وَكَفَّرْت عَنْ يَمِينِي ) . فَذَكَرَ وُجُوب الْكَفَّارَة فِي الْيَمِين الَّتِي لَمْ تَتَكَرَّر . قَالَ أَبُو عُبَيْد : التَّشْدِيد يَقْتَضِي التَّكْرِير مَرَّة بَعْد مَرَّة , وَلَسْت آمَن أَنْ يَلْزَم مَنْ قَرَأَ بِتِلْكَ الْقِرَاءَة أَلَّا تُوجَب عَلَيْهِ كَفَّارَة فِي الْيَمِين الْوَاحِدَة حَتَّى يُرَدِّدهَا مِرَارًا . وَهَذَا قَوْل خِلَاف الْإِجْمَاع . وَرَوَى نَافِع أَنَّ اِبْن عُمَر كَانَ إِذَا حَنِثَ مِنْ غَيْر أَنْ يُؤَكِّدَ الْيَمِين أَطْعَمَ عَشَرَة مَسَاكِين , فَإِذَا وَكَّدَ الْيَمِين أَعْتَقَ رَقَبَة . قِيلَ لِنَافِعٍ مَا مَعْنَى وَكَّدَ الْيَمِين ؟ قَالَ : أَنْ يَحْلِف عَلَى الشَّيْء مِرَارًا . الثَّانِيَة : اُخْتُلِفَ فِي الْيَمِين الْغَمُوس هَلْ هِيَ يَمِين مُنْعَقِدَة أَمْ لَا ؟ فَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور أَنَّهَا يَمِين مَكْر وَخَدِيعَة وَكَذِب فَلَا تَنْعَقِد وَلَا كَفَّارَة فِيهَا , وَقَالَ الشَّافِعِيّ : هِيَ يَمِين مُنْعَقِدَة ; لِأَنَّهَا مُكْتَسَبَة بِالْقَلْبِ , مَعْقُودَة بِخَبَرٍ , مَقْرُونَة بِاسْمِ اللَّه تَعَالَى , وَفِيهَا الْكَفَّارَة , وَالصَّحِيح الْأَوَّل . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَهَذَا قَوْل مَالِك بْن أَنَس وَمَنْ تَبِعَهُ مِنْ أَهْل الْمَدِينَة , وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيّ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَهْل الشَّام , وَهُوَ قَوْل الثَّوْرِيّ وَأَهْل الْعِرَاق , وَبِهِ قَالَ أَحْمَد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر وَأَبُو عُبَيْد , وَأَصْحَاب الْحَدِيث وَأَصْحَاب الرَّأْي مِنْ أَهْل الْكُوفَة ; قَالَ أَبُو بَكْر : وَقَوْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِين فَرَأَى غَيْرهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْر وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينه ) وَقَوْله : ( فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينه وَيَأْتِي الَّذِي هُوَ خَيْر ) يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْكَفَّارَة إِنَّمَا تَجِب فِيمَنْ حَلَفَ عَلَى فِعْل يَفْعَلهُ مِمَّا يُسْتَقْبَل فَلَا يَفْعَلهُ , أَوْ عَلَى فِعْل أَلَّا يَفْعَلهُ فِيمَا يُسْتَقْبَل فَيَفْعَلهُ .</p><p>وَفِي الْمَسْأَلَة قَوْل ثَانٍ وَهُوَ أَنْ يُكَفِّر وَإِنْ أَثِمَ وَعَمَدَ الْحَلِف بِاَللَّهِ كَاذِبًا ; هَذَا قَوْل الشَّافِعِيّ . قَالَ أَبُو بَكْر : وَلَا نَعْلَم خَبَرًا يَدُلّ عَلَى هَذَا الْقَوْل , وَالْكِتَاب وَالسُّنَّة دَالَّانِ عَلَى الْقَوْل الْأَوَّل ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : | وَلَا تَجْعَلُوا اللَّه عُرْضَة لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْن النَّاس | [ الْبَقَرَة : 224 ] قَالَ اِبْن عَبَّاس : هُوَ الرَّجُل يَحْلِف أَلَّا يَصِل قَرَابَته فَجَعَلَ اللَّه لَهُ مَخْرَجًا فِي التَّكْفِير , وَأَمَرَهُ أَلَّا يَعْتَلّ بِاَللَّهِ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينه , وَالْأَخْبَار دَالَّة عَلَى أَنَّ الْيَمِين الَّتِي يَحْلِف بِهَا الرَّجُل يَقْتَطِع بِهَا مَالًا حَرَامًا هِيَ أَعْظَم مِنْ أَنْ يُكَفِّرهَا مَا يُكَفِّر الْيَمِين . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : الْآيَة وَرَدَتْ بِقِسْمَيْنِ : لَغْو وَمُنْعَقِدَة , وَخَرَجَتْ عَلَى الْغَالِب فِي أَيْمَان النَّاس فَدَعْ مَا بَعْدهَا يَكُون مِائَة قِسْم فَإِنَّهُ لَمْ تُعَلَّق عَلَيْهِ كَفَّارَة . قُلْت : خَرَّجَ الْبُخَارِيّ عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو قَالَ : جَاءَ أَعْرَابِيّ إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُول اللَّه مَا الْكَبَائِر ؟ قَالَ : ( الْإِشْرَاك بِاَللَّهِ ) قَالَ : ثُمَّ مَاذَا ؟ قَالَ : ( عُقُوق الْوَالِدَيْنِ ) قَالَ : ثُمَّ مَاذَا ؟ قَالَ : ( الْيَمِين الْغَمُوس ) قُلْت : وَمَا الْيَمِين الْغَمُوس ؟ قَالَ : ( الَّتِي يَقْتَطِع بِهَا مَال اِمْرِئٍ مُسْلِم هُوَ فِيهَا كَاذِب ) , وَخَرَّجَ مُسْلِم عَنْ أَبِي أُمَامَة أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ اِقْتَطَعَ حَقّ اِمْرِئٍ مُسْلِم بِيَمِينِهِ فَقَدْ أَوْجَبَ اللَّه لَهُ النَّار وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّة ) فَقَالَ رَجُل : وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا يَا رَسُول اللَّه ؟ قَالَ : ( وَإِنْ كَانَ قَضِيبًا مِنْ أَرَاك ) , وَمِنْ حَدِيث عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود ; فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِين صَبْر يَقْتَطِع بِهَا مَال اِمْرِئٍ مُسْلِم هُوَ فِيهَا فَاجِر لَقِيَ اللَّه وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَان ) . فَنَزَلَتْ | إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّه وَأَيْمَانهمْ ثَمَنًا قَلِيلًا | [ آل عِمْرَان : 77 ] إِلَى آخِر الْآيَة وَلَمْ يَذْكُر كَفَّارَة , فَلَوْ أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ كَفَّارَة لَسَقَطَ جُرْمه , وَلَقِيَ اللَّه وَهُوَ عَنْهُ رَاضٍ , وَلَمْ يَسْتَحِقّ الْوَعِيد الْمُتَوَعَّد عَلَيْهِ ; وَكَيْفَ لَا يَكُون ذَلِكَ وَقَدْ جَمَعَ هَذَا الْحَالِف الْكَذِب , وَاسْتِحْلَال مَال الْغَيْر , وَالِاسْتِخْفَاف بِالْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى , وَالتَّهَاوُن بِهَا وَتَعْظِيم الدُّنْيَا ؟ فَأَهَانَ مَا عَظَّمَهُ اللَّه , وَعَظَّمَ مَا حَقَّرَهُ اللَّه وَحَسْبك , وَلِهَذَا قِيلَ : إِنَّمَا سُمِّيَتْ الْيَمِين الْغَمُوس غَمُوسًا لِأَنَّهَا تَغْمِس صَاحِبهَا فِي النَّار . الثَّالِثَة : الْحَالِف بِأَلَّا يَفْعَل عَلَى بِرّ مَا لَمْ يَفْعَل , فَإِنْ فَعَلَ حَنِثَ وَلَزِمَتْهُ الْكَفَّارَة لِوُجُودِ الْمُخَالَفَة مِنْهُ ; وَكَذَلِكَ إِذَا قَالَ إِنْ فَعَلْت , وَإِذَا حَلَفَ بِأَنْ لَيَفْعَلَنَّ فَإِنَّهُ فِي الْحَال عَلَى حِنْث لِوُجُودِ الْمُخَالَفَة , فَإِنْ فَعَلَ بَرَّ , وَكَذَلِكَ إِنْ قَالَ إِنْ لَمْ أَفْعَل . الرَّابِعَة : قَوْل الْحَالِف : لَأَفْعَلَنَّ ; وَإِنْ لَمْ أَفْعَل , بِمَنْزِلَةِ الْأَمْر وَقَوْله : لَا أَفْعَل , وَإِنْ فَعَلْت , بِمَنْزِلَةِ النَّهْي . فَفِي الْأَوَّل لَا يَبَرّ حَتَّى يَفْعَل جَمِيع الْمَحْلُوف عَلَيْهِ : مِثَاله لَآكُلَنَّ هَذَا الرَّغِيف فَأَكَلَ بَعْضه لَا يَبَرّ حَتَّى يَأْكُل جَمِيعه : لِأَنَّ كُلّ جُزْء مِنْهُ مَحْلُوف عَلَيْهِ . فَإِنْ قَالَ : وَاَللَّه لَآكُلَنَّ - مُطْلَقًا - فَإِنَّهُ يَبَرّ بِأَقَلّ جُزْء مِمَّا يَقَع عَلَيْهِ الِاسْم ; لِإِدْخَالِ مَاهِيَّة الْأَكْل فِي الْوُجُود . وَأَمَّا فِي النَّهْي فَإِنَّهُ يَحْنَث بِأَقَلّ مَا يَنْطَلِق عَلَيْهِ الِاسْم ; لِأَنَّ مُقْتَضَاهُ أَلَّا يَدْخُل فَرْد مِنْ أَفْرَاد الْمَنْهِيّ عَنْهُ فِي الْوُجُود ; فَإِنْ حَلَفَ أَلَّا يَدْخُل دَارًا فَأَدْخَلَ إِحْدَى رِجْلَيْهِ حَنِثَ ; وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَنَّا وَجَدْنَا الشَّارِع غَلَّظَ جِهَة التَّحْرِيم بِأَوَّلِ الِاسْم فِي قَوْله تَعَالَى : | وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ | [ النِّسَاء : 22 ] ; فَمَنْ عَقَدَ عَلَى اِمْرَأَة وَلَمْ يَدْخُل بِهَا حَرُمَتْ عَلَى أَبِيهِ وَابْنه , وَلَمْ يَكْتَفِ فِي جِهَة التَّحْلِيل بِأَوَّلِ الِاسْم فَقَالَ : ( لَا حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَته ) .</p><p>الْخَامِسَة : الْمَحْلُوف بِهِ هُوَ اللَّه سُبْحَانه وَأَسْمَاؤُهُ الْحُسْنَى , كَالرَّحْمَنِ وَالرَّحِيم وَالسَّمِيع وَالْعَلِيم وَالْحَلِيم , وَنَحْو ذَلِكَ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاته الْعُلْيَا , كَعِزَّتِهِ وَقُدْرَته وَعِلْمه وَإِرَادَته وَكِبْرِيَائِهِ وَعَظَمَته وَعَهْده وَمِيثَاقه وَسَائِر صِفَات ذَاته ; لِأَنَّهَا يَمِين بِقَدِيمٍ غَيْر مَخْلُوق , فَكَانَ الْحَالِف بِهَا كَالْحَالِفِ بِالذَّاتِ . رَوَى التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَغَيْرهمَا أَنَّ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام لَمَّا نَظَرَ إِلَى الْجَنَّة وَرَجَعَ إِلَى اللَّه تَعَالَى قَالَ : وَعِزَّتك لَا يَسْمَع بِهَا أَحَد إِلَّا دَخَلَهَا , وَكَذَلِكَ قَالَ فِي النَّار : وَعِزَّتك لَا يَسْمَع بِهَا أَحَد فَيَدْخُلهَا , وَخَرَّجَا أَيْضًا وَغَيْرهمَا عَنْ اِبْن عُمَر قَالَ : كَانَتْ يَمِين النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( لَا وَمُقَلِّب الْقُلُوب ) وَفَى رِوَايَة ( لَا وَمُصَرِّف الْقُلُوب ) وَأَجْمَعَ أَهْل الْعِلْم عَلَى أَنَّ مَنْ حَلَفَ فَقَالَ : وَاَللَّه أَوْ بِاَللَّهِ أَوْ تَاللَّهِ فَحَنِثَ أَنَّ عَلَيْهِ الْكَفَّارَة . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَكَانَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو عُبَيْد وَأَبُو ثَوْر وَإِسْحَاق وَأَصْحَاب الرَّأْي يَقُولُونَ : مَنْ حَلَفَ بِاسْمٍ مِنْ أَسْمَاء اللَّه وَحَنِثَ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَة , وَبِهِ نَقُول وَلَا أَعْلَم فِي ذَلِكَ خِلَافًا . قُلْت : قَدْ نُقِلَ ( فِي بَاب ذِكْر الْحَلِف بِالْقُرْآنِ ) ; وَقَالَ يَعْقُوب : مَنْ حَلَفَ بِالرَّحْمَنِ فَحَنِثَ فَلَا كَفَّارَة عَلَيْهِ . قُلْت : وَالرَّحْمَن مِنْ أَسْمَائِهِ سُبْحَانه مُجْمَع عَلَيْهِ وَلَا خِلَاف فِيهِ . السَّادِسَة : وَاخْتَلَفُوا فِي وَحَقّ اللَّه وَعَظَمَة اللَّه وَقُدْرَة اللَّه وَعِلْم اللَّه وَلَعَمْر اللَّه وَايْم اللَّه ; فَقَالَ مَالِك : كُلّهَا أَيْمَان تَجِب فِيهَا الْكَفَّارَة , وَقَالَ الشَّافِعِيّ : فِي وَحَقّ اللَّه وَجَلَال اللَّه وَعَظَمَة اللَّه وَقُدْرَة اللَّه , يَمِين إِنْ نَوَى بِهَا الْيَمِين , وَإِنْ لَمْ يُرِدْ الْيَمِين فَلَيْسَتْ بِيَمِينٍ ; لِأَنَّهُ يَحْتَمِل وَحَقّ اللَّه وَاجِب وَقُدْرَته مَاضِيَة , وَقَالَ فِي أَمَانَة اللَّه : لَيْسَتْ بِيَمِينٍ , وَلَعَمْر اللَّه وَايْم اللَّه إِنْ لَمْ يُرِدْ بِهَا الْيَمِين فَلَيْسَتْ بِيَمِينٍ , وَقَالَ أَصْحَاب الرَّأْي إِذَا قَالَ : وَعَظَمَة اللَّه وَعِزَّة اللَّه وَجَلَال اللَّه وَكِبْرِيَاء اللَّه وَأَمَانَة اللَّه فَحَنِثَ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَة , وَقَالَ الْحَسَن فِي وَحَقّ اللَّه : لَيْسَتْ بِيَمِينٍ وَلَا كَفَّارَة فِيهَا ; وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَة حَكَاهُ عَنْهُ الرَّازِيّ , وَكَذَلِكَ عَهْد اللَّه وَمِيثَاقه وَأَمَانَته لَيْسَتْ بِيَمِينٍ , وَقَالَ بَعْض أَصْحَابه هِيَ يَمِين , وَقَالَ الطَّحَاوِيّ : لَيْسَتْ بِيَمِينٍ , وَكَذَا إِذَا قَالَ : وَعِلْم اللَّه لَمْ يَكُنْ يَمِينًا فِي قَوْل أَبِي حَنِيفَة , وَخَالَفَهُ صَاحِبه أَبُو يُوسُف فَقَالَ : يَكُون يَمِينًا . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَاَلَّذِي أَوْقَعَهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْعِلْم قَدْ يَنْطَلِق عَلَى الْمَعْلُوم وَهُوَ الْمُحْدَث فَلَا يَكُون يَمِينًا , وَذَهِلَ عَنْ أَنَّ الْقُدْرَة تَنْطَلِق عَلَى الْمَقْدُور , فَكُلّ كَلَام لَهُ فِي الْمَقْدُور فَهُوَ حُجَّتنَا فِي الْمَعْلُوم . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَثَبَتَ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( وَايْم اللَّه إِنْ كَانَ لَخَلِيقًا لِلْإِمَارَةِ ) فِي قِصَّة زَيْد وَابْنه أُسَامَة , وَكَانَ اِبْن عَبَّاس يَقُول : وَاَيْم اللَّه ; وَكَذَلِكَ قَالَ اِبْن عُمَر , وَقَالَ إِسْحَاق : إِذَا أَرَادَ بِاَيْم اللَّه يَمِينًا كَانَتْ يَمِينًا بِالْإِرَادَةِ وَعَقْد الْقَلْب . السَّابِعَة : وَاخْتَلَفُوا فِي الْحَلِف بِالْقُرْآنِ ; فَقَالَ اِبْن مَسْعُود : عَلَيْهِ بِكُلِّ آيَة يَمِين ; وَبِهِ قَالَ الْحَسَن الْبَصْرِيّ وَابْن الْمُبَارَك , وَقَالَ أَحْمَد : مَا أَعْلَم شَيْئًا يَدْفَعهُ , وَقَالَ أَبُو عُبَيْد : يَكُون يَمِينًا وَاحِدَة , وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : لَا كَفَّارَة عَلَيْهِ , وَكَانَ قَتَادَة يَحْلِف بِالْمُصْحَفِ , وَقَالَ أَحْمَد وَإِسْحَاق لَا نَكْرَه ذَلِكَ . الثَّامِنَة : لَا تَنْعَقِد الْيَمِين بِغَيْرِ اللَّه تَعَالَى وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاته , وَقَالَ أَحْمَد بْن حَنْبَل : إِذَا حَلَفَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِنْعَقَدَتْ يَمِينه ; لِأَنَّهُ حَلَفَ بِمَا لَا يَتِمّ الْإِيمَان إِلَّا بِهِ فَتَلْزَمهُ الْكَفَّارَة كَمَا لَوْ حَلَفَ بِاَللَّهِ , وَهَذَا يَرُدّهُ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرهمَا عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَدْرَكَ عُمَر بْن الْخَطَّاب فِي رَكْب وَعُمَر يَحْلِف بِأَبِيهِ , فَنَادَاهُمْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَلَا إِنَّ اللَّه يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ فَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُت ) وَهَذَا حَصْر فِي عَدَم الْحَلِف بِكُلِّ شَيْء سِوَى اللَّه تَعَالَى وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاته كَمَا ذَكَرْنَا , وَمِمَّا يُحَقِّق ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَغَيْرهمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ وَلَا بِأُمَّهَاتِكُمْ وَلَا بِالْأَنْدَادِ وَلَا تَحْلِفُوا بِاَللَّهِ إِلَّا وَأَنْتُمْ صَادِقُونَ ) ثُمَّ يُنْتَقَض عَلَيْهِ بِمَنْ قَالَ : وَآدَم وَإِبْرَاهِيم فَإِنَّهُ لَا كَفَّارَة عَلَيْهِ , وَقَدْ حَلَفَ بِمَا لَا يَتِمّ الْإِيمَان إِلَّا بِهِ .</p><p>التَّاسِعَة : رَوَى الْأَئِمَّة وَاللَّفْظ لِمُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ حَلَفَ مِنْكُمْ فَقَالَ فِي حَلِفه بِاللَّاتِ فَلْيَقُلْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ تَعَالَ أُقَامِرك فَلْيَتَصَدَّقْ ) . وَخَرَّجَ النَّسَائِيّ عَنْ مُصْعَب بْن سَعْد عَنْ أَبِيهِ قَالَ : كُنَّا نَذْكُر بَعْض الْأَمْر وَأَنَا حَدِيث عَهْد بِالْجَاهِلِيَّةِ فَحَلَفْت بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى , فَقَالَ لِي بَعْض أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : بِئْسَ مَا قُلْت : وَفِي رِوَايَة قُلْت هُجْرًا ; فَأَتَيْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْت ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ : ( قُلْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَحْده لَا شَرِيك لَهُ لَهُ الْمُلْك وَلَهُ الْحَمْد وَهُوَ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِير وَانْفُثْ عَنْ يَسَارك ثَلَاثًا وَتَعَوَّذْ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَان ثُمَّ لَا تَعُدْ ) . قَالَ الْعُلَمَاء : فَأَمَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ نَطَقَ بِذَلِكَ أَنْ يَقُول بَعْده لَا إِلَه إِلَّا اللَّه تَكْفِيرًا لِتِلْكَ اللَّفْظَة , وَتَذْكِيرًا مِنْ الْغَفْلَة , وَإِتْمَامًا لِلنِّعْمَةِ , وَخَصَّ اللَّات بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا أَكْثَر مَا كَانَتْ تَجْرِي عَلَى أَلْسِنَتهمْ , وَحُكْم غَيْرهَا مِنْ أَسْمَاء آلِهَتهمْ حُكْمهَا إِذْ لَا فَرْق بَيْنهَا , وَكَذَا مَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ : تَعَالَ أُقَامِرك فَلْيَتَصَدَّقْ فَالْقَوْل فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي اللَّات ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا اِعْتَادُوا الْمُقَامَرَة وَهِيَ مِنْ أَكْل الْمَال بِالْبَاطِلِ . الْعَاشِرَة : قَالَ أَبُو حَنِيفَة فِي الرَّجُل يَقُول : هُوَ يَهُودِيّ أَوْ نَصْرَانِيّ أَوْ بَرِيء مِنْ الْإِسْلَام أَوْ مِنْ النَّبِيّ أَوْ مِنْ الْقُرْآن أَوْ أُشْرِكُ بِاَللَّهِ أَوْ أَكْفُرُ بِاَللَّهِ : إِنَّهَا يَمِين تَلْزَم فِيهَا الْكَفَّارَة , وَلَا تَلْزَم فِيمَا إِذَا قَالَ : وَالْيَهُودِيَّة وَالنَّصْرَانِيَّة وَالنَّبِيّ وَالْكَعْبَة وَإِنْ كَانَتْ عَلَى صِيغَة الْأَيْمَان , وَمُتَمَسَّكه مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ أَبِي رَافِع أَنَّ مَوْلَاته أَرَادَتْ أَنْ تُفَرِّق بَيْنه وَبَيْن اِمْرَأَته فَقَالَتْ : هِيَ يَوْمًا يَهُودِيَّة , وَيَوْمًا نَصْرَانِيَّة , وَكُلّ مَمْلُوك لَهَا حُرّ ; وَكُلّ مَال لَهَا فِي سَبِيل اللَّه , وَعَلَيْهَا مَشْي إِلَى بَيْت اللَّه إِنْ لَمْ تُفَرِّق بَيْنهمَا , فَسَأَلَتْ عَائِشَة وَحَفْصَة وَابْن عُمَر وَابْن عَبَّاس وَأُمّ سَلَمَة فَكُلّهمْ قَالَ لَهَا : أَتُرِيدِينَ أَنْ تَكُونِي مِثْل هَارُوت وَمَارُوت ؟ وَأَمَرُوهَا أَنْ تُكَفِّرَ عَنْ يَمِينهَا وَتُخَلِّي بَيْنهمَا , وَخَرَّجَ أَيْضًا عَنْهُ قَالَ : قَالَتْ مَوْلَاتِي لَأُفَرِّقَنَّ بَيْنك وَبَيْن اِمْرَأَتك , وَكُلّ مَال لَهَا فِي رِتَاج الْكَعْبَة وَهِيَ يَوْمًا يَهُودِيَّة وَيَوْمًا نَصْرَانِيَّة وَيَوْمًا مَجُوسِيَّة إِنْ لَمْ أُفَرِّق بَيْنك وَبَيْن اِمْرَأَتك ; قَالَ : فَانْطَلَقْت إِلَى أُمّ الْمُؤْمِنِينَ أُمّ سَلَمَة فَقُلْت : إِنَّ مَوْلَاتِي تُرِيد أَنْ تُفَرِّق بَيْنِي وَبَيْن اِمْرَأَتِي ; فَقَالَتْ اِنْطَلِقْ إِلَى مَوْلَاتك فَقُلْ لَهَا : إِنَّ هَذَا لَا يَحِلّ لَك ; قَالَ : فَرَجَعْت إِلَيْهَا ; قَالَ ثُمَّ أَتَيْت اِبْن عُمَر فَأَخْبَرْته فَجَاءَ حَتَّى اِنْتَهَى إِلَى الْبَاب فَقَالَ : هَاهُنَا هَارُوت وَمَارُوت ; فَقَالَتْ : إِنِّي جَعَلْت كُلّ مَال لِي فِي رِتَاج الْكَعْبَة . قَالَ : فَمِمَّ تَأْكُلِينَ ؟ قَالَتْ : وَقُلْت أَنَا يَوْمًا يَهُودِيَّة وَيَوْمًا نَصْرَانِيَّة وَيَوْمًا مَجُوسِيَّة ; فَقَالَ : إِنْ تَهَوَّدْتِ قُتِلْتِ وَإِنْ تَنَصَّرْتِ قُتِلْتِ وَإِنْ تَمَجَّسْتِ قُتِلْتِ ; قَالَتْ : فَمَا تَأْمُرنِي ؟ قَالَ : تُكَفِّرِينَ عَنْ يَمِينك , وَتَجْمَعِينَ بَيْن فَتَاك وَفَتَاتك , وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ الْحَالِف إِذَا قَالَ : أُقْسِم بِاَللَّهِ أَنَّهَا يَمِين , وَاخْتَلَفُوا إِذَا قَالَ أُقْسِم أَوْ أَشْهَد لَيَكُونَنَّ كَذَا وَكَذَا وَلَمْ يَقُلْ بِاَللَّهِ فَإِنَّهَا تَكُون أَيْمَانًا عِنْد مَالِك إِذَا أَرَادَ بِاَللَّهِ , وَإِنْ لَمْ يُرِدْ بِاَللَّهِ لَمْ تَكُنْ أَيْمَانًا تُكَفَّر , وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَالْأَوْزَاعِيّ وَالْحَسَن وَالنَّخَعِيّ : هِيَ أَيْمَان فِي الْمَوْضِعَيْنِ , وَقَالَ الشَّافِعِيّ : لَا تَكُون أَيْمَانًا حَتَّى يَذْكُر اِسْم اللَّه تَعَالَى ; هَذِهِ رِوَايَة الْمُزَنِيّ عَنْهُ , وَرَوَى عَنْهُ الرَّبِيع مِثْل قَوْل مَالِك . الْحَادِيَة عَشْرَة : إِذَا قَالَ : أَقْسَمْت عَلَيْك لَتَفْعَلَنَّ ; فَإِنْ أَرَادَ سُؤَاله فَلَا كَفَّارَة فِيهِ وَلَيْسَتْ بِيَمِينٍ ; وَإِنْ أَرَادَ الْيَمِين كَانَ مَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا . الثَّانِيَة عَشْرَة : مَنْ حَلَفَ بِمَا يُضَاف إِلَى اللَّه تَعَالَى مِمَّا لَيْسَ بِصِفَةٍ كَقَوْلِهِ : وَخَلْق اللَّه وَرِزْقه وَبَيْته لَا شَيْء عَلَيْهِ ; لِأَنَّهَا أَيْمَان غَيْر جَائِزَة , وَحَلِفٌ بِغَيْرِ اللَّه تَعَالَى .</p><p>الثَّالِثَة عَشْرَة : إِذَا اِنْعَقَدَتْ الْيَمِين حَلَّتْهَا الْكَفَّارَة أَوْ الِاسْتِثْنَاء , وَقَالَ اِبْن الْمَاجِشُون : الِاسْتِثْنَاء بَدَل عَنْ الْكَفَّارَة وَلَيْسَتْ حَلًّا لِلْيَمِينِ . قَالَ اِبْن الْقَاسِم : هِيَ حَلّ لِلْيَمِينِ ; وَقَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهُوَ مَذْهَب فُقَهَاء الْأَمْصَار وَهُوَ الصَّحِيح ; وَشَرْطه أَنْ يَكُون مُتَّصِلًا مَنْطُوقًا بِهِ لَفْظًا ; لِمَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَأَبُو دَاوُد عَنْ اِبْن عُمَر عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ حَلَفَ فَاسْتَثْنَى فَإِنْ شَاءَ مَضَى وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ عَنْ غَيْر حِنْث ) فَإِنْ نَوَاهُ مِنْ غَيْر نُطْق أَوْ قَطَعَهُ مِنْ غَيْر عُذْر لَمْ يَنْفَعهُ , وَقَالَ مُحَمَّد بْن الْمَوَّاز : يَكُون الِاسْتِثْنَاء مُقْتَرِنًا بِالْيَمِينِ اِعْتِقَادًا وَلَوْ بِآخِرِ حَرْف ; قَالَ : فَإِنْ فَرَغَ مِنْهَا وَاسْتَثْنَى لَمْ يَنْفَعهُ ذَلِكَ ; لِأَنَّ الْيَمِين فَرَغَتْ عَارِيَة مِنْ الِاسْتِثْنَاء , فَوُرُودهَا بَعْده لَا يُؤَثِّر كَالتَّرَاخِي ; وَهَذَا يَرُدّهُ الْحَدِيث ( مَنْ حَلَفَ فَاسْتَثْنَى ) وَالْفَاء , لِلتَّعْقِيبِ وَعَلَيْهِ جُمْهُور أَهْل الْعِلْم , وَأَيْضًا فَإِنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى أَلَّا تَنْحَلّ يَمِين اُبْتُدِئَ عَقْدهَا وَذَلِكَ بَاطِل , وَقَالَ اِبْن خُوَيْز مَنْدَاد : وَاخْتَلَفَ أَصْحَابنَا مَتَى اِسْتَثْنَى فِي نَفْسه تَخْصِيص مَا حَلَفَ عَلَيْهِ , فَقَالَ بَعْض أَصْحَابنَا : يَصِحّ اِسْتِثْنَاؤُهُ وَقَدْ ظَلَمَ الْمَحْلُوف لَهُ . وَقَالَ بَعْضهمْ : لَا يَصِحّ حَتَّى يُسْمِع الْمَحْلُوف لَهُ , وَقَالَ بَعْضهمْ : يَصِحّ إِذَا حَرَّكَ بِهِ لِسَانه وَشَفَتَيْهِ وَإِنْ لَمْ يُسْمِع الْمَحْلُوف لَهُ . قَالَ اِبْن خُوَيْز مَنْدَاد : وَإِنَّمَا قُلْنَا يَصِحّ اِسْتِثْنَاؤُهُ فِي نَفْسه , فَلِأَنَّ الْأَيْمَان تُعْتَبَر بِالنِّيَّاتِ , وَإِنَّمَا قُلْنَا لَا يَصِحّ ذَلِكَ حَتَّى يُحَرِّك بِهِ لِسَانه وَشَفَتَيْهِ , فَإِنَّ مَنْ لَمْ يُحَرِّك بِهِ لِسَانه وَشَفَتَيْهِ لَمْ يَكُنْ مُتَكَلِّمًا , وَالِاسْتِثْنَاء مِنْ الْكَلَام يَقَع بِالْكَلَامِ دُون غَيْره ; وَإِنَّمَا قُلْنَا لَا يَصِحّ بِحَالٍ فَلِأَنَّ ذَلِكَ حَقّ لِلْمَحْلُوفِ لَهُ , وَإِنَّمَا يَقَع عَلَى حَسَب مَا يَسْتَوْفِيه لَهُ الْحَاكِم , فَلَمَّا لَمْ تَكُنْ الْيَمِين عَلَى اِخْتِيَار الْحَالِف بَلْ كَانَتْ مُسْتَوْفَاة مِنْهُ , وَجَبَ أَلَّا يَكُون لَهُ فِيهَا حُكْم , وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : يُدْرِك الِاسْتِثْنَاء الْيَمِين بَعْد سَنَة ; وَتَابَعَهُ عَلَى ذَلِكَ أَبُو الْعَالِيَة وَالْحَسَن وَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : | وَاَلَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّه إِلَهًا آخَر | [ الْفُرْقَان : 68 ] الْآيَة ; فَلَمَّا كَانَ بَعْد عَام نَزَلَ | إِلَّا مَنْ تَابَ | [ مَرْيَم : 60 ] , وَقَالَ مُجَاهِد : مَنْ قَالَ بَعْد سَنَتَيْنِ إِنْ شَاءَ اللَّه أَجْزَأَهُ , وَقَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر : إِنْ اِسْتَثْنَى بَعْد أَرْبَعَة أَشْهُر أَجْزَأَهُ , وَقَالَ طَاوُس : لَهُ أَنْ يَسْتَثْنِيَ مَا دَامَ فِي مَجْلِسه , وَقَالَ قَتَادَة : إِنْ اِسْتَثْنَى قَبْل أَنْ يَقُوم أَوْ يَتَكَلَّم فَلَهُ ثُنْيَاهُ . وَقَالَ أَحْمَد بْن حَنْبَل وَإِسْحَاق : يَسْتَثْنِي مَا دَامَ فِي ذَلِكَ الْأَمْر , وَقَالَ عَطَاء : لَهُ ذَلِكَ قَدْر حَلْب النَّاقَة الْغَزِيرَة . الرَّابِعَة عَشْرَة : قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : أَمَّا مَا تَعَلَّقَ بِهِ اِبْن عَبَّاس مِنْ الْآيَة فَلَا مُتَعَلَّق لَهُ فِيهَا ; لِأَنَّ الْآيَتَيْنِ كَانَتَا مُتَّصِلَتَيْنِ فِي عِلْم اللَّه وَفِي لَوْحه , وَإِنَّمَا تَأَخَّرَ نُزُولهَا لِحِكْمَةٍ عَلِمَ اللَّه ذَلِكَ فِيهَا , أَمَا إِنَّهُ يَتَرَكَّب عَلَيْهَا فَرْع حَسَن ; وَهُوَ أَنَّ الْحَالِف إِذَا قَالَ وَاَللَّه لَا دَخَلْت الدَّار , وَأَنْتِ طَالِق إِنْ دَخَلْت الدَّار , وَاسْتَثْنَى فِي يَمِينه الْأَوَّل إِنْ شَاءَ اللَّه فِي قَلْبه , وَاسْتَثْنَى فِي الْيَمِين الثَّانِيَة فِي قَلْبه أَيْضًا مَا يَصْلُح لِلِاسْتِثْنَاءِ الَّذِي يَرْفَع الْيَمِين لِمُدَّةٍ أَوْ سَبَب أَوْ مَشِيئَة أَحَد , وَلَمْ يُظْهِر شَيْئًا مِنْ الِاسْتِثْنَاء إِرْهَابًا عَلَى الْمَحْلُوف لَهُ , فَإِنَّ ذَلِكَ يَنْفَعهُ وَلَا تَنْعَقِد الْيَمِينَانِ عَلَيْهِ ; وَهَذَا فِي الطَّلَاق مَا لَمْ تَحْضُرهُ الْبَيِّنَة ; فَإِنْ حَضَرَتْهُ بَيِّنَة لَمْ تُقْبَل مِنْهُ دَعْوَاهُ الِاسْتِثْنَاء , وَإِنَّمَا يَكُون ذَلِكَ نَافِعًا لَهُ إِذَا جَاءَ مُسْتَفْتِيًا . قُلْت : وَجْه الِاسْتِثْنَاء أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَظْهَرَ الْآيَة الْأُولَى وَأَخْفَى الثَّانِيَة , فَكَذَلِكَ الْحَالِف إِذَا حَلَفَ إِرْهَابًا وَأَخْفَى الِاسْتِثْنَاء , وَاللَّه أَعْلَمُ . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَكَانَ أَبُو الْفَضْل الْمَرَاغِيّ يَقْرَأ بِمَدِينَةِ السَّلَام , وَكَانَتْ الْكُتُب تَأْتِي إِلَيْهِ مِنْ بَلَده , فَيَضَعهَا فِي صُنْدُوق وَلَا يَقْرَأ مِنْهَا وَاحِدًا مَخَافَة أَنْ يَطَّلِع فِيهَا عَلَى مَا يُزْعِجهُ وَيُقْطَع بِهِ عَنْ طَلَبه ; فَلَمَّا كَانَ بَعْد خَمْسَة أَعْوَام وَقَضَى غَرَضًا مِنْ الطَّلَب وَعَزَمَ عَلَى الرَّحِيل , شَدَّ رَحْله وَأَبْرَزَ كُتُبه وَأَخْرَجَ تِلْكَ الرَّسَائِل , فَقَرَأَ فِيهَا مَا لَوْ أَنَّ وَاحِدًا مِنْهَا يَقْرَؤُهُ بَعْد وُصُوله مَا تَمَكَّنَ بَعْده مِنْ تَحْصِيل حَرْف مِنْ الْعِلْم , فَحَمِدَ اللَّه وَرَحَّلَ عَلَى دَابَّة قُمَاشه وَخَرَجَ إِلَى بَاب الْحَلْبَة طَرِيق خُرَاسَان , وَتَقَدَّمَهُ الْكَرِيّ بِالدَّابَّةِ وَأَقَامَ هُوَ عَلَى فَامِيّ يَبْتَاع مِنْهُ سُفْرَته , فَبَيْنَمَا هُوَ يُحَاوِل ذَلِكَ مَعَهُ إِذْ سَمِعَهُ يَقُول لِفَامِيٍّ آخَر : أَمَا سَمِعْت الْعَالِم يَقُول - يَعْنِي الْوَاعِظ - إِنَّ اِبْن عَبَّاس يُجَوِّز الِاسْتِثْنَاء وَلَوْ بَعْد سَنَة , لَقَدْ اِشْتَغَلَ بِذَلِكَ بَالِي مُنْذُ سَمِعْته فَظَلِلْت فِيهِ مُتَفَكِّرًا , وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ صَحِيحًا لَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى لِأَيُّوب : | وَخُذْ بِيَدِك ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَث | [ ص : 44 ] وَمَا الَّذِي يَمْنَعهُ مِنْ أَنْ يَقُول : قُلْ إِنْ شَاءَ اللَّه ! فَلَمَّا سَمِعَهُ يَقُول ذَلِكَ قَالَ : بَلَد يَكُون فِيهِ الْفَامِيُّونَ بِهَذَا الْحَظّ مِنْ الْعِلْم وَهَذِهِ الْمَرْتَبَة أَخْرُج عَنْهُ إِلَى الْمَرَاغَة ؟ لَا أَفْعَلهُ أَبَدًا ; وَاقْتَفَى أَثَر الْكَرِيّ وَحَلَّلَهُ مِنْ الْكِرَاء وَأَقَامَ بِهَا حَتَّى مَاتَ . الْخَامِسَة عَشْرَة : الِاسْتِثْنَاء إِنَّمَا يَرْفَع الْيَمِين بِاَللَّهِ تَعَالَى إِذْ هِيَ رُخْصَة مِنْ اللَّه تَعَالَى , وَلَا خِلَاف فِي هَذَا , وَاخْتَلَفُوا فِي الِاسْتِثْنَاء فِي الْيَمِين بِغَيْرِ اللَّه ; فَقَالَ الشَّافِعِيّ وَأَبُو حَنِيفَة : الِاسْتِثْنَاء يَقَع فِي كُلّ يَمِين كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاق وَغَيْر ذَلِكَ كَالْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى : قَالَ أَبُو عُمَر : مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ فَهُوَ الْحَقّ , وَإِنَّمَا وَرَدَ التَّوْقِيف بِالِاسْتِثْنَاءِ فِي الْيَمِين بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا فِي غَيْر ذَلِكَ .|فَكَفَّارَتُهُ|اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي تَقْدِيم الْكَفَّارَة عَلَى الْحِنْث هَلْ تُجْزِئ أَمْ لَا ؟ - بَعْد إِجْمَاعهمْ عَلَى أَنَّ الْحِنْث قَبْل الْكَفَّارَة مُبَاح حَسَن وَهُوَ عِنْدهمْ أَوْلَى - عَلَى ثَلَاثَة أَقْوَال : أَحَدهَا : يُجْزِئ مُطْلَقًا وَهُوَ مَذْهَب أَرْبَعَة عَشَر مِنْ الصَّحَابَة وَجُمْهُور الْفُقَهَاء وَهُوَ مَشْهُور مَذْهَب مَالِك , وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه : لَا يُجْزِئ بِوَجْهٍ , وَهِيَ رِوَايَة أَشْهَب عَنْ مَالِك ; وَجْه الْجَوَاز مَا رَوَاهُ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَإِنِّي وَاَللَّه إِنْ شَاءَ اللَّه لَا أَحْلِف عَلَى يَمِين فَأَرَى غَيْرهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلَّا كَفَّرْت عَنْ يَمِينِي وَأَتَيْت الَّذِي هُوَ خَيْر ) خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُد ; وَمِنْ جِهَة الْمَعْنَى أَنَّ الْيَمِين سَبَب الْكَفَّارَة ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى : | ذَلِكَ كَفَّارَة أَيْمَانكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ | فَأَضَافَ الْكَفَّارَة إِلَى الْيَمِين وَالْمَعَانِي تُضَاف إِلَى أَسْبَابهَا ; وَأَيْضًا فَإِنَّ الْكَفَّارَة بَدَل عَنْ الْبِرّ فَيَجُوز تَقْدِيمهَا قَبْل الْحِنْث . وَوَجْه الْمَنْع مَا رَوَاهُ مُسْلِم عَنْ عَدِيّ بْن حَاتِم قَالَ سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِين ثُمَّ رَأَى غَيْرهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْر ) زَادَ النَّسَائِيّ ( وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينه ) وَمِنْ جِهَة الْمَعْنَى أَنَّ الْكَفَّارَة إِنَّمَا هِيَ لِرَفْعِ الْإِثْم , وَمَا لَمْ يَحْنَث لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَا يُرْفَع فَلَا مَعْنَى لِفِعْلِهَا ; وَكَانَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى : | إِذَا حَلَفْتُمْ | أَيْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَحَنِثْتُمْ , وَأَيْضًا فَإِنَّ كُلّ عِبَادَة فُعِلَتْ قَبْل وُجُوبهَا لَمْ تَصِحّ اِعْتِبَارًا بِالصَّلَوَاتِ وَسَائِر الْعِبَادَات , وَقَالَ الشَّافِعِيّ : تُجْزِئ بِالْإِطْعَامِ وَالْعِتْق وَالْكِسْوَة , وَلَا تُجْزِئ بِالصَّوْمِ ; لِأَنَّ عَمَل الْبَدَن لَا يَقُوم قَبْل وَقْته , وَيُجْزِئ فِي غَيْر ذَلِكَ تَقْدِيم الْكَفَّارَة ; وَهُوَ الْقَوْل الثَّالِث . ذَكَرَ اللَّه سُبْحَانه فِي الْكَفَّارَة الْخِلَال الثَّلَاث فَخَيَّرَ فِيهَا , وَعَقَّبَ عِنْد عَدَمهَا بِالصِّيَامِ , وَبَدَأَ بِالطَّعَامِ لِأَنَّهُ كَانَ الْأَفْضَل فِي بِلَاد الْحِجَاز لِغَلَبَةِ الْحَاجَة إِلَيْهِ وَعَدَم شِبَعهمْ , وَلَا خِلَاف فِي أَنَّ كَفَّارَة الْيَمِين عَلَى التَّخْيِير ; قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّهَا تَكُون بِحَسَبِ الْحَال ; فَإِنْ عَلِمْت مُحْتَاجًا فَالطَّعَام أَفْضَل ; لِأَنَّك إِذَا أَعْتَقْت لَمْ تَدْفَع حَاجَتهمْ وَزِدْت مُحْتَاجًا حَادِيَ عَشَرَ إِلَيْهِمْ , وَكَذَلِكَ الْكِسْوَة تَلِيه , وَلَمَّا عَلِمَ اللَّه الْحَاجَة بَدَأَ بِالْمُقَدَّمِ الْمُهِمّ . قَوْله تَعَالَى : | فَكَفَّارَته | الضَّمِير عَلَى الصِّنَاعَة النَّحْوِيَّة عَائِدًا عَلَى ( مَا ) وَيَحْتَمِل فِي هَذَا الْمَوْضِع أَنْ تَكُون بِمَعْنَى الَّذِي , وَيَحْتَمِل أَنْ تَكُون مَصْدَرِيَّة . أَوْ يَعُود عَلَى إِثْم الْحِنْث وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْر صَرِيح وَلَكِنَّ الْمَعْنَى يَقْتَضِيه .|إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ|لَا بُدّ عِنْدنَا وَعِنْد الشَّافِعِيّ مِنْ تَمْلِيك الْمَسَاكِين مَا يُخْرَج لَهُمْ , وَدَفْعه إِلَيْهِمْ حَتَّى يَتَمَلَّكُوهُ وَيَتَصَرَّفُوا فِيهِ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى : | وَهُوَ يُطْعِم وَلَا يُطْعَم | [ الْأَنْعَام : 14 ] وَفِي الْحَدِيث ( أَطْعَمَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجَدّ السُّدُس ) ; وَلِأَنَّهُ أَحَد نَوْعَيْ الْكَفَّارَة فَلَمْ يَجُزْ فِيهَا إِلَّا التَّمْلِيك ; أَصْله الْكِسْوَة , وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : لَوْ غَدَّاهُمْ وَعَشَّاهُمْ جَازَ ; وَهُوَ اِخْتِيَار اِبْن الْمَاجِشُون مِنْ عُلَمَائِنَا ; قَالَ اِبْن الْمَاجِشُون : إِنَّ التَّمْكِين مِنْ الطَّعَام إِطْعَام , قَالَ اللَّه تَعَالَى : | وَيُطْعِمُونَ الطَّعَام عَلَى حُبّه مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا | [ الْإِنْسَان : 8 ] فَبِأَيِّ وَجْه أَطْعَمَهُ دَخَلَ فِي الْآيَة .|مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ|فِيهِ سَبْع مَسَائِل : </subtitle>الْأُولَى : قَدْ تَقَدَّمَ فِي | الْبَقَرَة | أَنَّ الْوَسَط بِمَعْنَى الْأَعْلَى وَالْخِيَار , وَهُوَ هُنَا مَنْزِلَة بَيْن مَنْزِلَتَيْنِ وَنَصَفٌ بَيْن طَرَفَيْنِ , وَمِنْهُ الْحَدِيث ( خَيْر الْأُمُور أَوْسَطهَا ) , وَخَرَّجَ اِبْن مَاجَهْ ; حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يَحْيَى , حَدَّثَنَا عَبْد الرَّحْمَن بْن مَهْدِيّ , حَدَّثَنَا سُفْيَان بْن عُيَيْنَة , عَنْ سُلَيْمَان بْن أَبِي الْمُغِيرَة , عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : كَانَ الرَّجُل يَقُوت أَهْله قُوتًا فِيهِ سَعَة وَكَانَ الرَّجُل يَقُوت أَهْله قُوتًا فِيهِ شِدَّة ; فَنَزَلَتْ : | مِنْ أَوْسَط مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ | , وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْوَسَط مَا ذَكَرْنَاهُ وَهُوَ مَا كَانَ بَيْن شَيْئَيْنِ .</p><p>الْإِطْعَام عِنْد مَالِك مُدّ لِكُلِّ وَاحِد مِنْ الْمَسَاكِين الْعَشَرَة , إِنْ كَانَ بِمَدِينَةِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيّ وَأَهْل الْمَدِينَة . قَالَ سُلَيْمَان بْن يَسَار : أَدْرَكْت النَّاس وَهُمْ إِذَا أَعْطَوْا فِي كَفَّارَة الْيَمِين أَعْطَوْا مُدًّا مِنْ حِنْطَة بِالْمُدِّ الْأَصْغَر , وَرَأَوْا ذَلِكَ مُجْزِئًا عَنْهُمْ ; وَهُوَ قَوْل اِبْن عُمَر وَابْن عَبَّاس وَزَيْد بْن ثَابِت وَبِهِ قَالَ عَطَاء بْن أَبِي رَبَاح , وَاخْتُلِفَ إِذَا كَانَ بِغَيْرِهَا ; فَقَالَ اِبْن الْقَاسِم : يُجْزِئهُ الْمُدّ بِكُلِّ مَكَان , وَقَالَ اِبْن الْمَوَّاز : أَفْتَى اِبْن وَهْب بِمِصْر بِمُدٍّ وَنِصْف , وَأَشْهَب بِمُدٍّ وَثُلُث ; قَالَ : وَإِنَّ مُدًّا وَثُلُثًا لَوَسَطٌ مِنْ عَيْش الْأَمْصَار فِي الْغَدَاء وَالْعَشَاء , وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : يُخْرِج مِنْ الْبُرّ نِصْف صَاع , وَمِنْ التَّمْر وَالشَّعِير صَاعًا ; عَلَى حَدِيث عَبْد اللَّه بْن ثَعْلَبَة بْن صُعَيْر عَنْ أَبِيهِ قَالَ : قَامَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطِيبًا فَأَمَرَ بِصَدَقَةِ الْفِطْر صَاع مِنْ تَمْر , أَوْ صَاع مِنْ شَعِير عَنْ كُلّ رَأْس , أَوْ صَاع بُرّ بَيْن اِثْنَيْنِ , وَبِهِ أَخَذَ سُفْيَان وَابْن الْمُبَارَك , وَرُوِيَ عَنْ عَلِيّ وَعُمَر وَابْن عُمَر وَعَائِشَة , رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ وَبِهِ قَالَ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب , وَهُوَ قَوْل عَامَّة فُقَهَاء الْعِرَاق ; لِمَا رَوَاهُ اِبْن عَبَّاس قَالَ : كَفَّرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَاعٍ مِنْ تَمْر وَأَمَرَ النَّاس بِذَلِكَ , فَمَنْ لَمْ يَجِد فَنِصْف صَاع مِنْ بُرّ مِنْ أَوْسَط مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ ; خَرَّجَهُ اِبْن مَاجَهْ فِي سُنَنه .</p><p>الثَّانِيَة : لَا يَجُوز أَنْ يُطْعِم غَنِيًّا وَلَا ذَا رَحِم تَلْزَمهُ نَفَقَته , وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا تَلْزَمهُ نَفَقَته فَقَدْ قَالَ مَالِك : لَا يُعْجِبنِي أَنْ يُطْعِمهُ , وَلَكِنْ إِنْ فَعَلَ وَكَانَ فَقِيرًا أَجْزَأَهُ , فَإِنْ أَطْعَمَ غَنِيًّا جَاهِلًا بِغِنَاهُ فَفِي | الْمُدَوَّنَة | وَغَيْر كِتَاب لَا يُجْزِئ , وَفِي | الْأَسَدِيَّة | أَنَّهُ يُجْزِئ . الثَّالِثَة : وَيُخْرِج الرَّجُل مِمَّا يَأْكُل ; قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَقَدْ زَلَّتْ هُنَا جَمَاعَة مِنْ الْعُلَمَاء فَقَالُوا : إِنَّهُ إِذَا كَانَ يَأْكُل الشَّعِير وَيَأْكُل النَّاس الْبُرّ فَلْيُخْرِجْ مِمَّا يَأْكُل النَّاس ; وَهَذَا سَهْو بَيِّن فَإِنَّ الْمُكَفِّر إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ فِي خَاصَّة نَفْسه إِلَّا الشَّعِير لَمْ يُكَلَّف أَنْ يُعْطِيَ لِغَيْرِهِ سِوَاهُ ; وَقَدْ قَالَ صَل

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ

فِيهِ ثَلَاثَة عَشَر مَسْأَلَة : </subtitle>الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : | يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا | خِطَاب لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ بِتَرْكِ هَذِهِ الْأَشْيَاء ; إِذَا كَانَتْ شَهَوَات وَعَادَات تَلَبَّسُوا بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّة وَغَلَبَتْ عَلَى النُّفُوس , فَكَانَ نَفْي مِنْهَا فِي نُفُوس كَثِير مِنْ الْمُؤْمِنِينَ . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَمِنْ هَذَا الْقَبِيل هَوَى الزَّجْر بِالطَّيْرِ , وَأَخْذ الْفَأْل فِي الْكُتُب وَنَحْوه مِمَّا يَصْنَعهُ النَّاس الْيَوْم , وَأَمَّا الْخَمْر فَكَانَتْ لَمْ تُحَرَّم بَعْد , وَإِنَّمَا نَزَلَ تَحْرِيمهَا فِي سَنَة ثَلَاث بَعْد وَقْعَة أُحُد , وَكَانَتْ وَقْعَة أُحُد فِي شَوَّال سَنَة ثَلَاث مِنْ الْهِجْرَة , وَتَقَدَّمَ اِشْتِقَاقهَا . وَأَمَّا | الْمَيْسِر | فَقَدْ مَضَى فِي | الْبَقَرَة | الْقَوْل فِيهِ , وَأَمَّا الْأَنْصَاب فَقِيلَ : هِيَ الْأَصْنَام . وَقِيلَ : هِيَ النَّرْد وَالشِّطْرَنْج ; وَيَأْتِي بَيَانهمَا فِي سُورَة | يُونُس | عِنْد قَوْله تَعَالَى : | فَمَاذَا بَعْد الْحَقّ إِلَّا الضَّلَال | [ يُونُس : 32 ] , وَأَمَّا الْأَزْلَام فَهِيَ الْقِدَاح , وَقَدْ مَضَى فِي أَوَّل السُّورَة الْقَوْل فِيهَا . وَيُقَال كَانَتْ فِي الْبَيْت عِنْد سَدَنَة الْبَيْت وَخُدَّام الْأَصْنَام ; يَأْتِي الرَّجُل إِذَا أَرَادَ حَاجَة فَيَقْبِض مِنْهَا شَيْئًا ; فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ أَمَرَنِي رَبِّي خَرَجَ إِلَى حَاجَته عَلَى مَا أَحَبَّ أَوْ كَرِهَ . الثَّانِيَة : تَحْرِيم الْخَمْر كَانَ بِتَدْرِيجٍ وَنَوَازِل كَثِيرَة ; فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُولَعِينَ بِشُرْبِهَا , وَأَوَّل مَا نَزَلَ فِي شَأْنهَا | يَسْأَلُونَك عَنْ الْخَمْر وَالْمَيْسِر قُلْ فِيهِمَا إِثْم كَبِير وَمَنَافِع لِلنَّاسِ | [ الْبَقَرَة : 219 ] أَيْ فِي تِجَارَتهمْ ; فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة تَرَكَهَا بَعْض النَّاس وَقَالُوا : لَا حَاجَة لَنَا فِيمَا فِيهِ إِثْم كَبِير , وَلَمْ يَتْرُكهَا بَعْض النَّاس وَقَالُوا : نَأْخُذ مَنْفَعَتهَا وَنَتْرُك إِثْمهَا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة | لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاة وَأَنْتُمْ سُكَارَى | [ النِّسَاء : 43 ] فَتَرَكَهَا بَعْض النَّاس وَقَالُوا : لَا حَاجَة لَنَا فِيمَا يَشْغَلنَا عَنْ الصَّلَاة , وَشَرِبَهَا بَعْض النَّاس فِي غَيْر أَوْقَات الصَّلَاة حَتَّى نَزَلَتْ : | يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْر وَالْمَيْسِر وَالْأَنْصَاب وَالْأَزْلَام رِجْس | الْآيَة - فَصَارَتْ حَرَامًا عَلَيْهِمْ حَتَّى صَارَ يَقُول بَعْضهمْ : مَا حَرَّمَ اللَّه شَيْئًا أَشَدّ مِنْ الْخَمْر , وَقَالَ أَبُو مَيْسَرَة : نَزَلَتْ بِسَبَبِ عُمَر بْن الْخَطَّاب ; فَإِنَّهُ ذَكَرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُيُوب الْخَمْر , وَمَا يَنْزِل بِالنَّاسِ مِنْ أَجْلهَا , وَدَعَا اللَّه فِي تَحْرِيمهَا وَقَالَ : اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْر بَيَانًا شَافِيًا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَات , فَقَالَ عُمَر : اِنْتَهَيْنَا اِنْتَهَيْنَا , وَقَدْ مَضَى فِي | الْبَقَرَة | و | النِّسَاء | , وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : | يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاة وَأَنْتُمْ سُكَارَى | [ النِّسَاء : 43 ] , و | يَسْأَلُونَك عَنْ الْخَمْر وَالْمَيْسِر قُلْ فِيهِمَا إِثْم كَبِير وَمَنَافِع لِلنَّاسِ | [ الْبَقَرَة : 219 ] نَسَخَتْهَا الَّتِي فِي الْمَائِدَة . | إِنَّمَا الْخَمْر وَالْمَيْسِر وَالْأَنْصَاب | , وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ سَعْد بْن أَبِي وَقَّاص أَنَّهُ قَالَ : نَزَلَتْ فِي آيَات مِنْ الْقُرْآن ; وَفِيهِ قَالَ : وَأَتَيْت عَلَى نَفَر مِنْ الْأَنْصَار ; فَقَالُوا : تَعَالَ نُطْعِمك وَنَسْقِيك خَمْرًا , وَذَلِكَ قَبْل أَنْ تُحَرَّم الْخَمْر ; قَالَ : فَأَتَيْتهمْ فِي حُشّ - وَالْحُشّ الْبُسْتَان - فَإِذَا رَأْس جَزُور مَشْوِيّ عِنْدهمْ وَزِقّ مِنْ خَمْر ; قَالَ : فَأَكَلْت وَشَرِبْت مَعَهُمْ ; قَالَ : فَذَكَرْت الْأَنْصَار وَالْمُهَاجِرِينَ عِنْدهمْ فَقُلْت : الْمُهَاجِرُونَ خَيْر مِنْ الْأَنْصَار ; قَالَ : فَأَخَذَ رَجُل لَحْيَيْ جَمَل فَضَرَبَنِي بِهِ فَجَرَحَ أَنْفِي - وَفَى رِوَايَة فَفَزَرَهُ وَكَانَ أَنْف سَعْد مَفْزُورًا فَأَتَيْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْته ; فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى فِيَّ - يَعْنِي نَفْسه شَأْن الْخَمْر - | إِنَّمَا الْخَمْر وَالْمَيْسِر وَالْأَنْصَاب وَالْأَزْلَام رِجْس مِنْ عَمَل الشَّيْطَان فَاجْتَنِبُوهُ | . الثَّالِثَة : هَذِهِ الْأَحَادِيث تَدُلّ عَلَى أَنَّ شُرْب الْخَمْر كَانَ إِذْ ذَاكَ مُبَاحًا مَعْمُولًا بِهِ مَعْرُوفًا عِنْدهمْ بِحَيْثُ لَا يُنْكَر وَلَا يُغَيَّر , وَأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَرَّ عَلَيْهِ , وَهَذَا مَا لَا خِلَاف فِيهِ ; يَدُلّ عَلَيْهِ آيَة النِّسَاء | لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاة وَأَنْتُمْ سُكَارَى | [ النِّسَاء : 43 ] عَلَى مَا تَقَدَّمَ , وَهَلْ كَانَ يُبَاح لَهُمْ شُرْب الْقَدْر الَّذِي يُسْكِر ؟ حَدِيث حَمْزَة ظَاهِر فِيهِ حِين بَقَرَ خَوَاصِر نَاقَتَيْ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا وَجَبَّ أَسْنِمَتهمَا , فَأَخْبَرَ عَلِيّ بِذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَجَاءَ إِلَى حَمْزَة فَصَدَرَ عَنْ حَمْزَة لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْقَوْل الْجَافِي الْمُخَالِف لِمَا يَجِب عَلَيْهِ مِنْ اِحْتِرَام النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَوْقِيره وَتَعْزِيره , مَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ حَمْزَة كَانَ قَدْ ذَهَبَ عَقْله بِمَا يُسْكِر ; وَلِذَلِكَ قَالَ الرَّاوِي : فَعَرَفَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ ثَمِل ; ثُمَّ إِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُنْكِر عَلَى حَمْزَة وَلَا عَنَّفَهُ , لَا فِي حَال سُكْره وَلَا بَعْد ذَلِكَ , بَلْ رَجَعَ لَمَّا قَالَ حَمْزَة : وَهَلْ أَنْتُمْ إِلَّا عَبِيد لِأَبِي عَلَى عَقِبَيْهِ الْقَهْقَرَى وَخَرَجَ عَنْهُ , وَهَذَا خِلَاف مَا قَالَهُ الْأُصُولِيُّونَ وَحَكَوْهُ فَإِنَّهُمْ قَالُوا : إِنَّ السُّكْر حَرَام فِي كُلّ شَرِيعَة ; لِأَنَّ الشَّرَائِع مَصَالِح الْعِبَاد لَا مَفَاسِدهمْ , وَأَصْل الْمَصَالِح الْعَقْل , كَمَا أَنَّ أَصْل الْمَفَاسِد ذَهَابه , فَيَجِب الْمَنْع مِنْ كُلّ مَا يُذْهِبهُ أَوْ يُشَوِّشهُ , إِلَّا أَنَّهُ يَحْتَمِل حَدِيث حَمْزَة أَنَّهُ لَمْ يَقْصِد بِشُرْبِهِ السُّكْر لَكِنَّهُ أَسْرَعَ فِيهِ فَغَلَبَهُ , وَاللَّه أَعْلَمُ . الرَّابِعَة : قَوْله تَعَالَى : | رِجْس | قَالَ اِبْن عَبَّاس فِي هَذِهِ الْآيَة : ( رِجْس ) سُخْط وَقَدْ يُقَال لِلنَّتْنِ وَالْعَذِرَة وَالْأَقْذَار رِجْس , وَالرِّجْز بِالزَّايِ الْعَذَاب لَا غَيْر , وَالرِّكْس الْعَذِرَة لَا غَيْر . وَالرِّجْس يُقَال لِلْأَمْرَيْنِ , وَمَعْنَى | مِنْ عَمَل الشَّيْطَان | أَيْ بِحَمْلِهِ عَلَيْهِ وَتَزْيِينه . وَقِيلَ : هُوَ الَّذِي كَانَ عَمِلَ مَبَادِئ هَذِهِ الْأُمُور بِنَفْسِهِ حَتَّى اقْتُدِيَ بِهِ فِيهَا .</p><p>الْخَامِسَة : قَوْله تَعَالَى : | فَاجْتَنِبُوهُ | يُرِيد أَبْعِدُوهُ وَاجْعَلُوهُ نَاحِيَة ; فَأَمَرَ اللَّه تَعَالَى بِاجْتِنَابِ هَذِهِ الْأُمُور , وَاقْتَرَنَتْ بِصِيغَةِ الْأَمْر مَعَ نُصُوص الْأَحَادِيث وَإِجْمَاع الْأُمَّة , فَحَصَلَ الِاجْتِنَاب فِي جِهَة التَّحْرِيم ; فَبِهَذَا حُرِّمَتْ الْخَمْر , وَلَا خِلَاف بَيْن عُلَمَاء الْمُسْلِمِينَ أَنَّ سُورَة | الْمَائِدَة | نَزَلَتْ بِتَحْرِيمِ الْخَمْر , وَهِيَ مَدَنِيَّة مِنْ آخِر مَا نَزَلَ , وَوَرَدَ التَّحْرِيم فِي الْمَيْتَة وَالدَّم وَلَحْم الْخِنْزِير فِي قَوْله تَعَالَى : | قُلْ لَا أَجِد | وَغَيْرهَا مِنْ الْآي خَبَرًا , وَفِي الْخَمْر نَهْيًا وَزَجْرًا , وَهُوَ أَقْوَى التَّحْرِيم وَأَوْكَده . رَوَى اِبْن عَبَّاس قَالَ : لَمَّا نَزَلَ تَحْرِيم الْخَمْر , مَشَى أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْضهمْ إِلَى بَعْض , وَقَالُوا حُرِّمَتْ الْخَمْر , وَجُعِلَتْ عِدْلًا لِلشِّرْكِ ; يَعْنِي أَنَّهُ قَرَنَهَا بِالذَّبْحِ لِلْأَنْصَابِ وَذَلِكَ شِرْك . ثُمَّ عَلَّقَ | لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ | فَعَلَّقَ الْفَلَاح بِالْأَمْرِ , وَذَلِكَ يَدُلّ عَلَى تَأْكِيد الْوُجُوب . وَاللَّه أَعْلَمُ . السَّادِسَة : فَهِمَ الْجُمْهُورُ مِنْ تَحْرِيم الْخَمْر , وَاسْتِخْبَاث الشَّرْع لَهَا , وَإِطْلَاق الرِّجْس عَلَيْهَا , وَالْأَمْر بِاجْتِنَابِهَا , الْحُكْمَ بِنَجَاسَتِهَا , وَخَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ رَبِيعَة وَاللَّيْث بْن سَعْد وَالْمُزَنِيّ صَاحِب الشَّافِعِيّ , وَبَعْض الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْبَغْدَادِيِّينَ وَالْقَرَوِيِّينَ فَرَأَوْا أَنَّهَا طَاهِرَة , وَأَنَّ الْمُحَرَّم إِنَّمَا هُوَ شُرْبهَا . وَقَدْ اِسْتَدَلَّ سَعِيد بْن الْحَدَّاد الْقَرَوِيّ عَلَى طَهَارَتهَا بِسَفْكِهَا فِي طُرُق الْمَدِينَة ; قَالَ : وَلَوْ كَانَتْ نَجِسَة لَمَا فَعَلَ ذَلِكَ الصَّحَابَة رِضْوَان اللَّه عَلَيْهِمْ , وَلَنَهَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ كَمَا نَهَى عَنْ التَّخَلِّي فِي الطُّرُق , وَالْجَوَاب ; أَنَّ الصَّحَابَة فَعَلَتْ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ سُرُوب وَلَا آبَار يُرِيقُونَهَا فِيهَا , إِذْ الْغَالِب مِنْ أَحْوَالهمْ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ كُنُف فِي بُيُوتهمْ , وَقَالَتْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا إِنَّهُمْ كَانُوا يَتَقَذَّرُونَ مِنْ اِتِّخَاذ الْكُنُف فِي الْبُيُوت , وَنَقْلهَا إِلَى خَارِج الْمَدِينَة فِيهِ كُلْفَة وَمَشَقَّة , وَيَلْزَم مِنْهُ تَأْخِير مَا وَجَبَ عَلَى الْفَوْر , وَأَيْضًا فَإِنَّهُ يُمْكِن التَّحَرُّز مِنْهَا ; فَإِنَّ طُرُق الْمَدِينَة كَانَتْ وَاسِعَة , وَلَمْ تَكُنْ الْخَمْر مِنْ الْكَثْرَة بِحَيْثُ تَصِير نَهْرًا يَعُمّ الطَّرِيق كُلّهَا , بَلْ إِنَّمَا جَرَتْ فِي مَوَاضِع يَسِيرَة يُمْكِن التَّحَرُّز عَنْهَا - هَذَا - مَعَ مَا يَحْصُل فِي ذَلِكَ مِنْ فَائِدَة شُهْرَة إِرَاقَتهَا فِي طُرُق الْمَدِينَة , لِيَشِيعَ الْعَمَل عَلَى مُقْتَضَى تَحْرِيمهَا مِنْ إِتْلَافهَا , وَأَنَّهُ لَا يُنْتَفَع بِهَا , وَتَتَابَعَ النَّاس وَتَوَافَقُوا عَلَى ذَلِكَ , وَاللَّه أَعْلَمُ . فَإِنْ قِيلَ : التَّنْجِيس حُكْم شَرْعِيّ وَلَا نَصّ فِيهِ , وَلَا يَلْزَم مِنْ كَوْن الشَّيْء مُحَرَّمًا أَنْ يَكُون نَجِسًا ; فَكَمْ مِنْ مُحَرَّم فِي الشَّرْع لَيْسَ بِنَجِسٍ ; قُلْنَا : قَوْله تَعَالَى : | رِجْس | يَدُلّ عَلَى نَجَاسَتهَا ; فَإِنَّ الرِّجْس فِي اللِّسَان النَّجَاسَة , ثُمَّ لَوْ اِلْتَزَمْنَا أَلَّا نَحْكُم بِحُكْمٍ إِلَّا حَتَّى نَجِد فِيهِ نَصًّا لَتَعَطَّلَتْ الشَّرِيعَة ; فَإِنَّ النُّصُوص فِيهَا قَلِيلَة ; فَأَيّ نَصّ يُوجَد عَلَى تَنْجِيس الْبَوْل وَالْعَذِرَة وَالدَّم وَالْمَيْتَة وَغَيْر ذَلِكَ ؟ وَإِنَّمَا هِيَ الظَّوَاهِر وَالْعُمُومَات وَالْأَقْيِسَة , وَسَيَأْتِي فِي سُورَة | الْحَجّ | مَا يُوَضِّح هَذَا الْمَعْنَى إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .</p><p>السَّابِعَة : قَوْله : | فَاجْتَنِبُوهُ | يَقْتَضِي الِاجْتِنَاب الْمُطْلَق الَّذِي لَا يُنْتَفَع مَعَهُ بِشَيْءٍ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوه ; لَا بِشُرْبٍ وَلَا بَيْع وَلَا تَخْلِيل وَلَا مُدَاوَاة وَلَا غَيْر ذَلِكَ , وَعَلَى هَذَا تَدُلّ الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي الْبَاب , وَرَوَى مُسْلِم عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّ رَجُلًا أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاوِيَة خَمْر , فَقَالَ لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( هَلْ عَلِمْت أَنَّ اللَّه حَرَّمَهَا ) قَالَ : لَا , قَالَ : فَسَارَّ رَجُلًا فَقَالَ لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( بِمَ سَارَرْته ) ؟ قَالَ : أَمَرْته بِبَيْعِهَا ; فَقَالَ : ( إِنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبهَا حَرَّمَ بَيْعهَا ) , قَالَ : فَفَتَحَ الْمَزَادَة حَتَّى ذَهَبَ مَا فِيهَا ; فَهَذَا حَدِيث يَدُلّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ ; إِذْ لَوْ كَانَ فِيهَا مَنْفَعَة مِنْ الْمَنَافِع الْجَائِزَة لَبَيَّنَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , كَمَا قَالَ فِي الشَّاة الْمَيِّتَة . ( هَلَّا أَخَذْتُمْ إِهَابهَا فَدَبَغْتُمُوهُ فَانْتَفَعْتُمْ بِهِ ) الْحَدِيث . الثَّامِنَة : أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَحْرِيم بَيْع الْخَمْر وَالدَّم , وَفِي ذَلِكَ دَلِيل عَلَى تَحْرِيم بَيْع الْعَذِرَات وَسَائِر النَّجَاسَات وَمَا لَا يَحِلّ أَكْله ; وَلِذَلِكَ - وَاللَّه أَعْلَمُ - كَرِهَ مَالِك بَيْع زِبْل الدَّوَابّ , وَرَخَّصَ فِيهِ اِبْن الْقَاسِم لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَنْفَعَة ; وَالْقِيَاس مَا قَالَهُ مَالِك , وَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِيّ , وَهَذَا الْحَدِيث شَاهِد بِصِحَّةِ ذَلِكَ . التَّاسِعَة : ذَهَبَ جُمْهُور الْفُقَهَاء إِلَى أَنَّ الْخَمْر لَا يَجُوز تَخْلِيلهَا لِأَحَدٍ , وَلَوْ جَازَ تَخْلِيلهَا مَا كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَدَع الرَّجُل أَنْ يَفْتَح الْمَزَادَة حَتَّى يَذْهَب مَا فِيهَا ; لِأَنَّ الْخَلّ مَال وَقَدْ نُهِيَ عَنْ إِضَاعَة الْمَال , وَلَا يَقُول أَحَد فِيمَنْ أَرَاقَ خَمْرًا عَلَى مُسْلِم إِنَّهُ أَتْلَفَ لَهُ مَالًا , وَقَدْ أَرَاقَ عُثْمَان بْن أَبِي الْعَاص خَمْرًا لِيَتِيمٍ , وَاسْتُؤْذِنَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَخْلِيلهَا فَقَالَ : ( لَا ) وَنَهَى عَنْ ذَلِكَ . ذَهَبَ إِلَى هَذَا طَائِفَة مِنْ الْعُلَمَاء مِنْ أَهْل الْحَدِيث وَالرَّأْي , وَإِلَيْهِ مَالَ سَحْنُون بْن سَعِيد , وَقَالَ آخَرُونَ : لَا بَأْس بِتَخْلِيلِ الْخَمْر وَلَا بَأْس بِأَكْلِ مَا تَخَلَّلَ مِنْهَا بِمُعَالَجَةِ آدَمِيّ أَوْ غَيْرهَا ; وَهُوَ قَوْل الثَّوْرِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْث بْن سَعْد وَالْكُوفِيِّينَ , وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : إِنْ طَرَحَ فِيهَا الْمِسْك وَالْمِلْح فَصَارَتْ مُرَبَّى وَتَحَوَّلَتْ عَنْ حَال الْخَمْر جَازَ , وَخَالَفَهُ مُحَمَّد بْن الْحَسَن فِي الْمُرَبَّى وَقَالَ : لَا تُعَالَج الْخَمْر بِغَيْرِ تَحْوِيلهَا إِلَى الْخَلّ وَحْده . قَالَ أَبُو عُمَر : اِحْتَجَّ الْعِرَاقِيُّونَ فِي تَخْلِيل الْخَمْر بِأَبِي الدَّرْدَاء ; وَهُوَ يَرْوِي عَنْ أَبِي إِدْرِيس الْخَوْلَانِيّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاء مِنْ وَجْه لَيْسَ بِالْقَوِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَأْكُل الْمُرَبَّى مِنْهُ , وَيَقُول : دَبَغَتْهُ الشَّمْس وَالْمِلْح , وَخَالَفَهُ عُمَر بْن الْخَطَّاب وَعُثْمَان بْن أَبِي الْعَاص فِي تَخْلِيل الْخَمْر ; وَلَيْسَ فِي رَأْي أَحَد حُجَّة مَعَ السُّنَّة , وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيق , وَقَدْ يَحْتَمِل أَنْ يَكُون الْمَنْع مِنْ تَخْلِيلهَا كَانَ فِي بَدْء الْإِسْلَام عِنْد نُزُول تَحْرِيمهَا ; لِئَلَّا يُسْتَدَام حَبْسهَا لِقُرْبِ الْعَهْد بِشُرْبِهَا , إِرَادَة لِقَطْعِ الْعَادَة فِي ذَلِكَ , وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِي النَّهْي عَنْ تَخْلِيلهَا حِينَئِذٍ , وَالْأَمْر بِإِرَاقَتِهَا مَا يَمْنَع مِنْ أَكْلهَا إِذَا خُلِّلَتْ . وَرَوَى أَشْهَب عَنْ مَالِك قَالَ : إِذَا خَلَّلَ النَّصْرَانِيّ خَمْرًا فَلَا بَأْس بِأَكْلِهِ , وَكَذَلِكَ إِنْ خَلَّلَهَا مُسْلِم وَاسْتَغْفَرَ اللَّه ; وَهَذِهِ الرِّوَايَة ذَكَرَهَا اِبْن عَبْد الْحَكَم فِي كِتَابه . وَالصَّحِيح مَا قَالَهُ مَالِك فِي رِوَايَة اِبْن الْقَاسِم وَابْن وَهْب أَنَّهُ لَا يَحِلّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُعَالِج الْخَمْر حَتَّى يَجْعَلهَا خَلًّا وَلَا يَبِيعهَا , وَلَكِنْ لِيُهَرِيقهَا . الْعَاشِرَة : لَمْ يَخْتَلِف قَوْل مَالِك وَأَصْحَابه أَنَّ الْخَمْر إِذَا تَخَلَّلَتْ بِذَاتِهَا أَنَّ أَكْل ذَلِكَ الْخَلّ حَلَال , وَهُوَ قَوْل عُمَر بْن الْخَطَّاب وَقَبِيصَة وَابْن شِهَاب , وَرَبِيعَة وَأَحَد قَوْلَيْ الشَّافِعِيّ , وَهُوَ تَحْصِيل مَذْهَبه عِنْد أَكْثَر أَصْحَابه . الْحَادِيَة عَشْرَة : ذَكَرَ اِبْن خُوَيْز مَنْدَاد أَنَّهَا تُمْلَك , وَنَزَعَ إِلَى ذَلِكَ بِأَنَّهُ يُمْكِن أَنْ يُزَال بِهَا الْغَصَص , وَيُطْفَأ بِهَا حَرِيق ; وَهَذَا نَقْل لَا يُعْرَف لِمَالِك , بَلْ يُخَرَّج هَذَا عَلَى قَوْل مَنْ يَرَى أَنَّهَا طَاهِرَة , وَلَوْ جَازَ مِلْكهَا لَمَا أَمَرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِرَاقَتِهَا , وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمِلْك نَوْع نَفْع وَقَدْ بَطَلَ بِإِرَاقَتِهَا . وَالْحَمْد لِلَّهِ . الثَّانِيَة عَشْرَة : هَذِهِ الْآيَة تَدُلّ عَلَى تَحْرِيم اللَّعِب بِالنَّرْدِ وَالشِّطْرَنْج قِمَارًا أَوْ غَيْر قِمَار ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى لَمَّا حَرَّمَ الْخَمْر أَخْبَرَ بِالْمَعْنَى الَّذِي فِيهَا فَقَالَ : | يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْر وَالْمَيْسِر | الْآيَة . ثُمَّ قَالَ : | إِنَّمَا يُرِيد الشَّيْطَان أَنْ يُوقِع بَيْنكُمْ الْعَدَاوَة وَالْبَغْضَاء | الْآيَة . فَكُلّ لَهْو دَعَا قَلِيله إِلَى كَثِير , وَأَوْقَعَ الْعَدَاوَة وَالْبَغْضَاء بَيْن الْعَاكِفِينَ عَلَيْهِ , وَصَدَّ عَنْ ذِكْر اللَّه وَعَنْ الصَّلَاة فَهُوَ كَشُرْبِ الْخَمْر , وَأَوْجَبَ أَنْ يَكُون حَرَامًا مِثْله . فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ شُرْب الْخَمْر يُورِث السُّكْر فَلَا يُقْدَر مَعَهُ عَلَى الصَّلَاة وَلَيْسَ فِي اللَّعِب بِالنَّرْدِ وَالشِّطْرَنْج هَذَا الْمَعْنَى ; قِيلَ لَهُ : قَدْ جَمَعَ اللَّه تَعَالَى بَيْن الْخَمْر وَالْمَيْسِر فِي التَّحْرِيم , وَوَصَفَهُمَا جَمِيعًا بِأَنَّهُمَا يُوقِعَانِ الْعَدَاوَة وَالْبَغْضَاء بَيْن النَّاس , وَيَصُدَّانِ عَنْ ذِكْر اللَّه وَعَنْ الصَّلَاة ; وَمَعْلُوم أَنَّ الْخَمْر إِنْ أَسْكَرَتْ فَالْمَيْسِر لَا يُسْكِر , ثُمَّ لَمْ يَكُنْ عِنْد اللَّه اِفْتِرَاقهمَا فِي ذَلِكَ يَمْنَع مِنْ التَّسْوِيَة بَيْنهمَا فِي التَّحْرِيم لِأَجْلِ مَا اِشْتَرَكَا فِيهِ مِنْ الْمَعَانِي , وَأَيْضًا فَإِنَّ قَلِيل الْخَمْر لَا يُسْكِر كَمَا أَنَّ اللَّعِب بِالنَّرْدِ وَالشِّطْرَنْج لَا يُسْكِر , ثُمَّ كَانَ حَرَامًا مِثْل الْكَثِير , فَلَا يُنْكَر أَنْ يَكُون اللَّعِب بِالنَّرْدِ وَالشِّطْرَنْج حَرَامًا مِثْل الْخَمْر وَإِنْ كَانَ لَا يُسْكِر . وَأَيْضًا فَإِنَّ اِبْتِدَاء اللَّعِب يُورِث الْغَفْلَة , فَتَقُوم تِلْكَ الْغَفْلَة الْمُسْتَوْلِيَة عَلَى الْقَلْب مَكَان السُّكْر ; فَإِنْ كَانَتْ الْخَمْر إِنَّمَا حُرِّمَتْ لِأَنَّهَا تُسْكِر فَتَصُدّ بِالْإِسْكَارِ عَنْ الصَّلَاة , فَلْيُحَرَّمْ اللَّعِب بِالنَّرْدِ وَالشِّطْرَنْج لِأَنَّهُ يُغْفِل وَيُلْهِي فَيَصُدّ بِذَلِكَ عَنْ الصَّلَاة , وَاللَّه أَعْلَمُ . الثَّالِثَة عَشْرَة : مُهْدِي الرَّاوِيَة يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ لَمْ يَبْلُغهُ النَّاسِخ , وَكَانَ مُتَمَسِّكًا بِالْإِبَاحَةِ الْمُتَقَدِّمَة , فَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْحُكْم لَا يَرْتَفِع بِوُجُودِ النَّاسِخ - كَمَا يَقُول بَعْض الْأُصُولِيِّينَ - بَلْ بِبُلُوغِهِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ هَذَا الْحَدِيث , وَهُوَ الصَّحِيح ; لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُوَبِّخهُ , بَلْ بَيَّنَ لَهُ الْحُكْم ; وَلِأَنَّهُ مُخَاطَب بِالْعَمَلِ بِالْأَوَّلِ بِحَيْثُ لَوْ تَرَكَهُ عَصَى بِلَا خِلَاف , وَإِنْ كَانَ النَّاسِخ قَدْ حَصَلَ فِي الْوُجُود , وَذَلِكَ كَمَا وَقَعَ لِأَهْلِ قُبَاء ; إِذْ كَانُوا يُصَلُّونَ إِلَى بَيْت الْمَقْدِس إِلَى أَنْ أَتَاهُمْ الْآتِي فَأَخْبَرَهُمْ بِالنَّاسِخِ , فَمَالُوا نَحْو الْكَعْبَة , وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَة | الْبَقَرَة | وَالْحَمْد لِلَّهِ ; وَتَقَدَّمَ فِيهَا ذِكْر الْخَمْر وَاشْتِقَاقهَا وَالْمَيْسِر , وَقَدْ مَضَى فِي صَدْر هَذِهِ السُّورَة الْقَوْل فِي الْأَنْصَاب وَالْأَزْلَام . وَالْحَمْد لِلَّهِ .

إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ

أَعْلَمَ اللَّه تَعَالَى عِبَاده أَنَّ الشَّيْطَان إِنَّمَا يُرِيد أَنْ يُوقِع الْعَدَاوَة وَالْبَغْضَاء بَيْننَا بِسَبَبِ الْخَمْر وَغَيْره , فَحَذَّرَنَا مِنْهَا , وَنَهَانَا عَنْهَا . رُوِيَ أَنَّ قَبِيلَتَيْنِ مِنْ الْأَنْصَار شَرِبُوا الْخَمْر وَانْتَشَوْا , فَعَبَثَ بَعْضهمْ بِبَعْضٍ , فَلَمَّا صَحَوْا رَأَى بَعْضهمْ فِي وَجْه بَعْض آثَار مَا فَعَلُوا , وَكَانُوا إِخْوَة لَيْسَ فِي قُلُوبهمْ ضَغَائِن , فَجَعَلَ بَعْضهمْ يَقُول : لَوْ كَانَ أَخِي بِي رَحِيمًا مَا فَعَلَ بِي هَذَا , فَحَدَثَتْ بَيْنهمْ الضَّغَائِن ; فَأَنْزَلَ اللَّه : | إِنَّمَا يُرِيد الشَّيْطَان أَنْ يُوقِع بَيْنكُمْ الْعَدَاوَة وَالْبَغْضَاء | الْآيَة .|وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ|يَقُول : إِذَا سَكِرْتُمْ لَمْ تَذْكُرُوا اللَّه وَلَمْ تُصَلُّوا , وَإِنْ صَلَّيْتُمْ خُلِطَ عَلَيْكُمْ كَمَا فَعَلَ بِعَلِيٍّ , وَرُوِيَ : بِعَبْدِ الرَّحْمَن كَمَا تَقَدَّمَ فِي | النِّسَاء | , وَقَالَ عُبَيْد اللَّه بْن عُمَر : سُئِلَ الْقَاسِم بْن مُحَمَّد عَنْ الشِّطْرَنْج أَهِيَ مَيْسِر ؟ وَعَنْ النَّرْد أَهُوَ مَيْسِر ؟ فَقَالَ : كُلّ مَا صَدَّ عَنْ ذِكْر اللَّه وَعَنْ الصَّلَاة فَهُوَ مَيْسِر . قَالَ أَبُو عُبَيْد : تَأَوَّلَ قَوْله تَعَالَى : | وَيَصُدّكُمْ عَنْ ذِكْر اللَّه وَعَنْ الصَّلَاة | .|فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ|لَمَّا عَلِمَ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّ هَذَا وَعِيد شَدِيد زَائِد عَلَى مَعْنَى اِنْتَهُوا قَالَ : اِنْتَهَيْنَا , وَأَمَرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنَادِيَهُ أَنْ يُنَادِيَ فِي سِكَك الْمَدِينَة , أَلَا إِنَّ الْخَمْر قَدْ حُرِّمَتْ ; فَكُسِرَتْ الدِّنَان , وَأُرِيقَتْ الْخَمْر حَتَّى جَرَتْ فِي سِكَك الْمَدِينَة .

وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ

تَأْكِيد لِلتَّحْرِيمِ , وَتَشْدِيد فِي الْوَعِيد , وَامْتِثَال لِلْأَمْرِ , وَكَفّ عَنْ الْمَنْهِيّ عَنْهُ , وَحُسْن عَطْف | وَأَطِيعُوا اللَّه | لَمَّا كَانَ فِي الْكَلَام الْمُتَقَدِّم مَعْنَى اِنْتَهُوا , وَكَرَّرَ | وَأَطِيعُوا | فِي ذِكْر الرَّسُول تَأْكِيدًا .|فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ|أَيْ خَالَفْتُمْ . ثُمَّ حَذَّرَ فِي مُخَالَفَة الْأَمْر , وَتَوَعَّدَ مَنْ تَوَلَّى بِعَذَابِ الْآخِرَة ; فَقَالَ : | فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ | أَيْ خَالَفْتُمْ|فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ|الْبَلَاغ فِي تَحْرِيم مَا أَمَرَ بِتَحْرِيمِهِ وَعَلَى الْمُرْسِل أَنْ يُعَاقِب أَوْ يُثِيب بِحَسَبِ مَا يُعْصَى أَوْ يُطَاع .

لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآَمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ

فِيهِ سِتّ مَسَائِل : </subtitle>الْأُولَى : قَالَ اِبْن عَبَّاس وَالْبَرَاء بْن عَازِب وَأَنَس بْن مَالِك إِنَّهُ لَمَّا نَزَلَ تَحْرِيم الْخَمْر قَالَ قَوْم مِنْ الصَّحَابَة : كَيْفَ بِمَنْ مَاتَ مِنَّا وَهُوَ يَشْرَبهَا وَيَأْكُل الْمَيْسِر ؟ - وَنَحْو هَذَا - فَنَزَلَتْ الْآيَة . رَوَى الْبُخَارِيّ عَنْ أَنَس قَالَ : كُنْت سَاقِي الْقَوْم فِي مَنْزِل أَبِي طَلْحَة فَنَزَلَ تَحْرِيم الْخَمْر , فَأَمَرَ مُنَادِيًا يُنَادِي , فَقَالَ أَبُو طَلْحَة : اُخْرُجْ فَانْظُرْ مَا هَذَا الصَّوْت ! قَالَ : فَخَرَجْت فَقُلْت : هَذَا مُنَادٍ يُنَادِي أَلَا إِنَّ الْخَمْر قَدْ حُرِّمَتْ ; فَقَالَ : اِذْهَبْ فَأَهْرِقْهَا - وَكَانَ الْخَمْر مِنْ الْفَضِيخ - قَالَ : فَجَرَتْ فِي سِكَك الْمَدِينَة ; فَقَالَ بَعْض الْقَوْم : قُتِلَ قَوْم وَهِيَ فِي بُطُونهمْ فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : | لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات جُنَاح فِيمَا طَعِمُوا | الْآيَة . الثَّانِيَة : هَذِهِ الْآيَة وَهَذَا الْحَدِيث نَظِير سُؤَالهمْ عَمَّنْ مَاتَ إِلَى الْقِبْلَة الْأُولَى فَنَزَلَتْ | وَمَا كَانَ اللَّه لِيُضِيعَ إِيمَانكُمْ | [ الْبَقَرَة : 143 ] وَمَنْ فَعَلَ مَا أُبِيحَ لَهُ حَتَّى مَاتَ عَلَى فِعْلِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَا عَلَيْهِ شَيْء ; لَا إِثْم وَلَا مُؤَاخَذَة وَلَا ذَمّ وَلَا أَجْر وَلَا مَدْح ; لِأَنَّ الْمُبَاح مُسْتَوِي الطَّرَفَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الشَّرْع ; وَعَلَى هَذَا فَمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُتَخَوَّف وَلَا يُسْأَل عَنْ حَال مَنْ مَاتَ وَالْخَمْر فِي بَطْنه وَقْت إِبَاحَتهَا , فَإِمَّا أَنْ يَكُون ذَلِكَ الْقَائِل غَفَلَ عَنْ دَلِيل الْإِبَاحَة فَلَمْ يَخْطُر لَهُ , أَوْ يَكُون لِغَلَبَةِ خَوْفه مِنْ اللَّه تَعَالَى , وَشَفَقَته عَلَى إِخْوَانه الْمُؤْمِنِينَ تَوَهَّمَ مُؤَاخَذَة وَمُعَاقَبَة لِأَجْلِ شُرْب الْخَمْر الْمُتَقَدِّم ; فَرَفَعَ اللَّه ذَلِكَ التَّوَهُّم بِقَوْلِهِ : | لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات جُنَاح فِيمَا طَعِمُوا | الْآيَة . الثَّالِثَة : هَذَا الْحَدِيث فِي نُزُول الْآيَة فِيهِ دَلِيل وَاضِح عَلَى أَنَّ نَبِيذ التَّمْر إِذَا أَسْكَرَ خَمْر ; وَهُوَ نَصّ وَلَا يَجُوز الِاعْتِرَاض عَلَيْهِ ; لِأَنَّ الصَّحَابَة رَحِمَهُمْ اللَّه هُمْ أَهْل اللِّسَان , وَقَدْ عَقَلُوا أَنَّ شَرَابهمْ ذَلِكَ خَمْر إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ شَرَاب ذَلِكَ الْوَقْت بِالْمَدِينَةِ غَيْره ; وَقَدْ قَالَ الْحَكَمِيّ : <br>لَنَا خَمْر وَلَيْسَتْ خَمْر كَرْم .......... وَلَكِنْ مِنْ نِتَاج الْبَاسِقَات <br><br>كِرَام فِي السَّمَاء ذَهَبْنَ طُولًا .......... وَفَاتَ ثِمَارهَا أَيْدِي الْجُنَاة <br>وَمِنْ الدَّلِيل الْوَاضِح عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ : أَخْبَرَنَا الْقَاسِم بْن زَكَرِيَّا , أَخْبَرَنَا عُبَيْد اللَّه عَنْ شَيْبَان عَنْ الْأَعْمَش عَنْ مُحَارِب بْن دِثَار عَنْ جَابِر عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( الزَّبِيب وَالتَّمْر هُوَ الْخَمْر ) , وَثَبَتَ بِالنَّقْلِ الصَّحِيح أَنَّ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ - وَحَسْبك بِهِ عَالِمًا بِاللِّسَانِ وَالشَّرْع - خَطَبَ عَلَى مِنْبَر النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا أَيّهَا النَّاس ; أَلَا إِنَّهُ قَدْ نَزَلَ تَحْرِيم الْخَمْر يَوْم نَزَلَ , وَهِيَ مِنْ خَمْسَة : مِنْ الْعِنَب وَالتَّمْر وَالْعَسَل وَالْحِنْطَة وَالشَّعِير ; وَالْخَمْر مَا خَامَرَ الْعَقْل , وَهَذَا أَبْيَن مَا يَكُون فِي مَعْنَى الْخَمْر ; يَخْطُب بِهِ عُمَر بِالْمَدِينَةِ عَلَى الْمِنْبَر بِمَحْضَرِ جَمَاعَة الصَّحَابَة , وَهُمْ أَهْل اللِّسَان وَلَمْ يَفْهَمُوا مِنْ الْخَمْر إِلَّا مَا ذَكَرْنَاهُ . وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا بَطَلَ مَذْهَب أَبِي حَنِيفَة وَالْكُوفِيِّينَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْخَمْر لَا تَكُون إِلَّا مِنْ الْعِنَب , وَمَا كَانَ مِنْ غَيْره لَا يُسَمَّى خَمْرًا وَلَا يَتَنَاوَلهُ اِسْم الْخَمْر , وَإِنَّمَا يُسَمَّى نَبِيذًا ; وَقَالَ الشَّاعِر : <br>تَرَكْت النَّبِيذ لِأَهْلِ النَّبِيذ .......... وَصِرْت حَلِيفًا لِمَنْ عَابَهُ <br><br>شَرَاب يُدَنِّس عِرْض الْفَتَى .......... وَيَفْتَح لِلشَّرِّ أَبْوَابه <br>الرَّابِعَة : قَالَ الْإِمَام أَبُو عَبْد اللَّه الْمَازِرِيّ : ذَهَبَ جُمْهُور الْعُلَمَاء مِنْ السَّلَف وَغَيْرهمْ إِلَى أَنَّ كُلّ مَا يُسْكِر نَوْعه حَرُمَ شُرْبه , قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا , نِيئًا كَانَ أَوْ مَطْبُوخًا , وَلَا فَرْق بَيْن الْمُسْتَخْرَج مِنْ الْعِنَب أَوْ غَيْره , وَأَنَّ مَنْ شَرِبَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ حُدَّ ; فَأَمَّا الْمُسْتَخْرَج مِنْ الْعِنَب الْمُسْكِر النِّيء فَهُوَ الَّذِي اِنْعَقَدَ الْإِجْمَاع عَلَى تَحْرِيم قَلِيله وَكَثِيره وَلَوْ نُقْطَة مِنْهُ , وَأَمَّا مَا عَدَا ذَلِكَ فَالْجُمْهُور عَلَى تَحْرِيمه , وَخَالَفَ الْكُوفِيُّونَ فِي الْقَلِيل مِمَّا عَدَا مَا ذُكِرَ , وَهُوَ الَّذِي لَا يَبْلُغ الْإِسْكَار ; وَفِي الْمَطْبُوخ الْمُسْتَخْرَج مِنْ الْعِنَب ; فَذَهَبَ قَوْم مِنْ أَهْل الْبَصْرَة إِلَى قَصْر التَّحْرِيم عَلَى عَصِير الْعِنَب , وَنَقِيع الزَّبِيب النِّيء ; فَأَمَّا الْمَطْبُوخ مِنْهُمَا , وَالنِّيء وَالْمَطْبُوخ مِمَّا سِوَاهُمَا فَحَلَال مَا لَمْ يَقَع الْإِسْكَار , وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَة إِلَى قَصْر التَّحْرِيم عَلَى الْمُعْتَصَر مِنْ ثَمَرَات النَّخِيل وَالْأَعْنَاب عَلَى تَفْصِيل ; فَيَرَى أَنَّ سُلَافَة الْعِنَب يَحْرُم قَلِيلهَا وَكَثِيرهَا إِلَّا أَنْ تُطْبَخ حَتَّى يَنْقُص ثُلُثَاهَا , وَأَمَّا نَقِيع الزَّبِيب وَالتَّمْر فَيَحِلّ مَطْبُوخهمَا وَإِنْ مَسَّتْهُ النَّار مَسًّا قَلِيلًا مِنْ غَيْر اِعْتِبَار بِحَدٍّ ; وَأَمَّا النِّيء مِنْهُ فَحَرَام , وَلَكِنَّهُ مَعَ تَحْرِيمه إِيَّاهُ لَا يُوجِب الْحَدّ فِيهِ ; وَهَذَا كُلّه مَا لَمْ يَقَع الْإِسْكَار , فَإِنْ وَقَعَ الْإِسْكَار اِسْتَوَى الْجَمِيع . قَالَ شَيْخنَا الْفَقِيه الْإِمَام أَبُو الْعَبَّاس أَحْمَد رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : الْعَجَب مِنْ الْمُخَالِفِينَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة ; فَإِنَّهُمْ قَالُوا : إِنَّ الْقَلِيل مِنْ الْخَمْر الْمُعْتَصَر مِنْ الْعِنَب حَرَام كَكَثِيرِهِ , وَهُوَ مُجْمَع عَلَيْهِ ; فَإِذَا قِيلَ لَهُمْ : فَلِمَ حُرِّمَ الْقَلِيل مِنْ الْخَمْر وَلَيْسَ مُذْهِبًا لِلْعَقْلِ ؟ فَلَا بُدّ أَنْ يُقَال : لِأَنَّهُ دَاعِيَة إِلَى الْكَثِير , أَوْ لِلتَّعَبُّدِ ; فَحِينَئِذٍ يُقَال لَهُمْ : كُلّ مَا قَدَّرْتُمُوهُ فِي قَلِيل الْخَمْر هُوَ بِعَيْنِهِ مَوْجُود فِي قَلِيل النَّبِيذ فَيَحْرُم أَيْضًا , إِذْ لَا فَارِق بَيْنهمَا إِلَّا مُجَرَّد الِاسْم إِذَا سُلِّمَ ذَلِكَ . وَهَذَا الْقِيَاس هُوَ أَرْفَع أَنْوَاع الْقِيَاس ; لِأَنَّ الْفَرْع فِيهِ مُسَاوٍ لِلْأَصْلِ فِي جَمِيع أَوْصَافه ; وَهَذَا كَمَا يَقُول فِي قِيَاس الْأُمَّة عَلَى الْعَبْد فِي سِرَايَة الْعِتْق . ثُمَّ الْعَجَب مِنْ أَبِي حَنِيفَة وَأَصْحَابه رَحِمَهُمْ اللَّه ! فَإِنَّهُمْ يَتَوَغَّلُونَ فِي الْقِيَاس وَيُرَجِّحُونَهُ عَلَى أَخْبَار الْآحَاد , وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ تَرَكُوا هَذَا الْقِيَاس الْجَلِيّ الْمَعْضُود بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّة وَإِجْمَاع صُدُور الْأُمَّة , لِأَحَادِيث لَا يَصِحّ شَيْء مِنْهَا عَلَى مَا قَدْ بَيَّنَ عِلَلهَا الْمُحَدِّثُونَ فِي كُتُبهمْ , وَلَيْسَ فِي الصِّحَاح شَيْء مِنْهَا . وَسَيَأْتِي فِي سُورَة | النَّحْل | تَمَام هَذِهِ الْمَسْأَلَة إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . الْخَامِسَة : قَوْله تَعَالَى : | طَعِمُوا | أَصْل هَذِهِ اللَّفْظَة فِي الْأَكْل ; يُقَال : طَعِمَ الطَّعَام وَشَرِبَ الشَّرَاب , لَكِنْ قَدْ تُجُوِّزَ فِي ذَلِكَ فَيُقَال : لَمْ أَطْعَم خُبْزًا وَلَا مَاء وَلَا نَوْمًا ; قَالَ الشَّاعِر : <br>نَعَامًا بِوَجْرَة صُعْر الْخُدُو .......... دِ لَا تَطْعَم النَّوْم إِلَّا صِيَامَا <br>وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْل فِي | الْبَقَرَة | فِي قَوْله تَعَالَى : | وَمَنْ لَمْ يَطْعَمهُ | [ الْبَقَرَة : 249 ] بِمَا فِيهِ الْكِفَايَة . السَّادِسَة : قَالَ اِبْن خُوَيْز مَنْدَاد : تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَة تَنَاوُل الْمُبَاح وَالشَّهَوَات , وَالِانْتِفَاع بِكُلِّ لَذِيذ مِنْ مَطْعَم وَمَشْرَب وَمَنْكَح وَإِنْ بُولِغَ فِيهِ وَتُنُوهِيَ فِي ثَمَنه . وَهَذِهِ الْآيَة نَظِير قَوْله تَعَالَى : | لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَات مَا أَحَلَّ اللَّه لَكُمْ | [ الْمَائِدَة : 87 ] وَنَظِير قَوْله : | قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَة اللَّه الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَات مِنْ الرِّزْق | [ الْأَعْرَاف : 32 ] .|إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ|فِيهِ أَقْوَال : </subtitle>الْأَوَّل : أَنَّهُ لَيْسَ فِي ذِكْر التَّقْوَى تَكْرَار ; وَالْمَعْنَى اِتَّقَوْا شُرْبهَا , وَآمَنُوا بِتَحْرِيمِهَا ; وَالْمَعْنَى الثَّانِي دَامَ اِتِّقَاؤُهُمْ وَإِيمَانهمْ ; وَالثَّالِث عَلَى مَعْنَى الْإِحْسَان إِلَى الِاتِّقَاء , وَالثَّانِي : اِتَّقَوْا قَبْل التَّحْرِيم فِي غَيْرهَا مِنْ الْمُحَرَّمَات , ثُمَّ اِتَّقَوْا بَعْد تَحْرِيمهَا شُرْبهَا , ثُمَّ اِتَّقَوْا فِيمَا بَقِيَ مِنْ أَعْمَالهمْ , وَأَحْسَنُوا الْعَمَل . الثَّالِث : اِتَّقَوْا الشِّرْك وَآمَنُوا بِاَللَّهِ وَرَسُوله , وَالْمَعْنَى الثَّانِي ثُمَّ اِتَّقَوْا الْكَبَائِر , وَازْدَادُوا إِيمَانًا , وَالْمَعْنَى الثَّالِث ثُمَّ اِتَّقَوْا الصَّغَائِر وَأَحْسَنُوا أَيْ تَنَفَّلُوا , وَقَالَ مُحَمَّد بْن جَرِير : الِاتِّقَاء الْأَوَّل هُوَ الِاتِّقَاء بِتَلَقِّي أَمْر اللَّه بِالْقَبُولِ , وَالتَّصْدِيق وَالدَّيْنُونَة بِهِ وَالْعَمَل , وَالِاتِّقَاء الثَّانِي الِاتِّقَاء بِالثَّبَاتِ عَلَى التَّصْدِيق , وَالثَّالِث الِاتِّقَاء بِالْإِحْسَانِ , وَالتَّقَرُّب بِالنَّوَافِلِ . قَوْله تَعَالَى : ثُمَّ اِتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاَللَّه يُحِبّ الْمُحْسِنِينَ | دَلِيل عَلَى أَنَّ الْمُتَّقِيَ الْمُحْسِن أَفْضَل مِنْ الْمُتَّقِي الْمُؤْمِن الَّذِي عَمِلَ الصَّالِحَات ; فَضَّلَهُ بِأَجْرِ الْإِحْسَان . قَدْ تَأَوَّلَ هَذِهِ الْآيَة قُدَامَة بْن مَظْعُون الْجُمَحِيّ مِنْ الصَّحَابَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ , وَهُوَ مِمَّنْ هَاجَرَ إِلَى أَرْض الْحَبَشَة مَعَ أَخَوَيْهِ عُثْمَان وَعَبْد اللَّه , ثُمَّ هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَة وَشَهِدَ بَدْرًا وَعُمِّرَ , وَكَانَ خَتْن عُمَر بْن الْخَطَّاب , خَال عَبْد اللَّه وَحَفْصَة , وَوَلَّاهُ عُمَر بْن الْخَطَّاب عَلَى الْبَحْرَيْنِ , ثُمَّ عَزَلَهُ بِشَهَادَةِ الْجَارُود - سَيِّد عَبْد الْقَيْس - عَلَيْهِ بِشُرْبِ الْخَمْر . رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَن عَلِيّ بْن مُحَمَّد الْمِصْرِيّ , حَدَّثَنَا يَحْيَى بْن أَيُّوب الْعَلَّاف , حَدَّثَنِي سَعِيد بْن عُفَيْر , حَدَّثَنِي يَحْيَى بْن فُلَيْح بْن سُلَيْمَان , قَالَ : حَدَّثَنِي ثَوْر بْن زَيْد عَنْ عِكْرِمَة عَنْ اِبْن عَبَّاس : أَنَّ الشُّرَّاب كَانُوا يُضْرَبُونَ فِي عَهْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْأَيْدِي وَالنِّعَال وَالْعِصِيّ حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَكَانُوا فِي خِلَافَة أَبِي بَكْر أَكْثَر مِنْهُمْ فِي عَهْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَكَانَ أَبُو بَكْر يَجْلِدهُمْ أَرْبَعِينَ حَتَّى تُوُفِّيَ , ثُمَّ كَانَ عُمَر مِنْ بَعْده يَجْلِدهُمْ كَذَلِكَ أَرْبَعِينَ حَتَّى أُتِيَ بِرَجُلٍ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ وَقَدْ شَرِبَ فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُجْلَد ; قَالَ : لِمَ تَجْلِدنِي ؟ بَيْنِي وَبَيْنك كِتَاب اللَّه ! فَقَالَ عُمَر : وَفِي أَيّ كِتَاب اللَّه تَجِد أَلَّا أَجْلِدك ؟ فَقَالَ لَهُ : إِنَّ اللَّه تَعَالَى يَقُول فِي كِتَابه : | لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات جُنَاح فِيمَا طَعِمُوا | الْآيَة . فَأَنَا مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات , ثُمَّ اِتَّقَوْا وَآمَنُوا , ثُمَّ اِتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا ; شَهِدْت مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَدْرًا وَأُحُدًا وَالْخَنْدَق وَالْمَشَاهِد كُلّهَا ; فَقَالَ عُمَر : أَلَا تَرُدُّونَ عَلَيْهِ مَا يَقُول ; فَقَالَ اِبْن عَبَّاس : إِنَّ هَؤُلَاءِ الْآيَات أُنْزِلَتْ عُذْرًا لِمَنْ غَبَرَ وَحُجَّة عَلَى النَّاس ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى يَقُول : | يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْر وَالْمَيْسِر | الْآيَة ; ثُمَّ قَرَأَ حَتَّى أَنْفَذَ الْآيَة الْأُخْرَى ; فَإِنْ كَانَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات , الْآيَة ; فَإِنَّ اللَّه قَدْ نَهَاهُ أَنْ يَشْرَب الْخَمْر ; فَقَالَ عُمَر : صَدَقْت مَاذَا تَرَوْنَ ؟ فَقَالَ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : إِنَّهُ إِذَا شَرِبَ سَكِرَ وَإِذَا سَكِرَ هَذَى , وَإِذَا هَذَى اِفْتَرَى , وَعَلَى الْمُفْتَرِي ثَمَانُونَ جَلْدَة ; فَأَمَرَ بِهِ عُمَر فَجُلِدَ ثَمَانِينَ جَلْدَة , وَذَكَرَ الْحُمَيْدِيّ عَنْ أَبِي بَكْر الْبُرْقَانِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : لَمَّا قَدِمَ الْجَارُود مِنْ الْبَحْرَيْنِ قَالَ : يَا أَمِير الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ قُدَامَة بْن مَظْعُون قَدْ شَرِبَ مُسْكِرًا , وَإِنِّي إِذَا رَأَيْت حَقًّا مِنْ حُقُوق اللَّه حَقّ عَلَيَّ أَنْ أَرْفَعَهُ إِلَيْك ; فَقَالَ عُمَر : مَنْ يَشْهَد عَلَى مَا تَقُول ؟ فَقَالَ : أَبُو هُرَيْرَة ; فَدَعَا عُمَر أَبَا هُرَيْرَة فَقَالَ : عَلَامَ تَشْهَد يَا أَبَا هُرَيْرَة ؟ فَقَالَ : لَمْ أَرَهُ حِين شَرِبَ , وَرَأَيْته سَكْرَان يَقِيء , فَقَالَ عُمَر : لَقَدْ تَنَطَّعْت فِي الشَّهَادَة ; ثُمَّ كَتَبَ عُمَر إِلَى قُدَامَة وَهُوَ بِالْبَحْرَيْنِ يَأْمُرهُ بِالْقُدُومِ عَلَيْهِ , فَلَمَّا قَدِمَ قُدَامَة وَالْجَارُود بِالْمَدِينَةِ كَلَّمَ الْجَارُود عُمَر ; فَقَالَ : أَقِمْ عَلَى هَذَا كِتَاب اللَّه ; فَقَالَ عُمَر لِلْجَارُودِ : أَشَهِيد أَنْتَ أَمْ خَصْم ؟ فَقَالَ الْجَارُود : أَنَا شَهِيد ; قَالَ : قَدْ كُنْت أَدَّيْت الشَّهَادَة ; ثُمَّ قَالَ لِعُمَر : إِنِّي أَنْشُدك اللَّه ! فَقَالَ عُمَر : أَمَا وَاَللَّه لَتَمْلِكَنَّ لِسَانك أَوْ لَأَسُوءَنَّك ; فَقَالَ الْجَارُود : أَمَا وَاَللَّه مَا ذَلِكَ بِالْحَقِّ , أَنْ يَشْرَب اِبْن عَمّك وَتَسُوءنِي ! فَأَوْعَدَهُ عُمَر ; فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة وَهُوَ جَالِس : يَا أَمِير الْمُؤْمِنِينَ إِنْ كُنْت فِي شَكّ مِنْ شَهَادَتنَا فَسَلْ بِنْت الْوَلِيد اِمْرَأَة اِبْن مَظْعُون , فَأَرْسَلَ عُمَر إِلَى هِنْد يَنْشُدهَا بِاَللَّهِ , فَأَقَامَتْ هِنْد عَلَى زَوْجهَا الشَّهَادَة ; فَقَالَ عُمَر : يَا قُدَامَة إِنِّي جَالِدك ; فَقَالَ قُدَامَة : وَاَللَّه لَوْ شَرِبْت - كَمَا يَقُولُونَ - مَا كَانَ لَك أَنْ تَجْلِدَنِي يَا عُمَر . قَالَ : وَلِمَ يَا قُدَامَة ؟ قَالَ : لِأَنَّ اللَّه سُبْحَانه يَقُول : | لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات جُنَاح | فِيمَا طَعِمُوا | الْآيَة إِلَى | الْمُحْسِنِينَ | . فَقَالَ عُمَر : أَخْطَأْت التَّأْوِيل يَا قُدَامَة ; إِذَا اِتَّقَيْت اللَّه اِجْتَنَبْت مَا حَرَّمَ اللَّه , ثُمَّ أَقْبَلَ عُمَر عَلَى الْقَوْم فَقَالَ : مَا تَرَوْنَ فِي جَلْد قُدَامَة ؟ فَقَالَ الْقَوْم : لَا نَرَى أَنْ تَجْلِدهُ مَا دَامَ وَجِعًا ; فَسَكَتَ عُمَر عَنْ جَلْده ثُمَّ أَصْبَحَ يَوْمًا فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ : مَا تَرَوْنَ فِي جَلْد قُدَامَة ؟ فَقَالَ الْقَوْم : لَا نَرَى أَنْ تَجْلِدهُ مَا دَامَ وَجِعًا , فَقَالَ عُمَر : إِنَّهُ وَاَللَّه لَأَنْ يَلْقَى اللَّه تَحْت السَّوْط , أَحَبّ إِلَيَّ أَنْ أَلْقَى اللَّه وَهُوَ فِي عُنُقِي ! وَاَللَّه لَأَجْلِدَنَّهُ ; ائْتُونِي بِسَوْطٍ , فَجَاءَهُ مَوْلَاهُ أَسْلَم بِسَوْطٍ رَقِيق صَغِير , فَأَخَذَهُ عُمَر فَمَسَحَهُ بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ لِأَسْلَم : أَخَذَتْك دِقْرَارَة أَهْلك ; اِئْتُونِي بِسَوْطٍ غَيْر هَذَا . قَالَ : فَجَاءَهُ أَسْلَم بِسَوْطٍ تَامّ ; فَأَمَرَ عُمَر بِقُدَامَةَ فَجُلِدَ ; فَغَاضَبَ قُدَامَة عُمَر وَهَجَرَهُ ; فَحَجَّا وَقُدَامَة مُهَاجِر لِعُمَر حَتَّى قَفَلُوا عَنْ حَجّهمْ وَنَزَلَ عُمَر بِالسُّقْيَا وَنَامَ بِهَا فَلَمَّا اِسْتَيْقَظَ عُمَر قَالَ : عَجِّلُوا عَلَيَّ بِقُدَامَةَ , اِنْطَلِقُوا فَأْتُونِي بِهِ , فَوَاَللَّهِ لَأَرَى فِي النَّوْم أَنَّهُ جَاءَنِي آتٍ فَقَالَ : سَالِمْ قُدَامَة فَإِنَّهُ أَخُوك , فَلَمَّا جَاءُوا قُدَامَة أَبَى أَنْ يَأْتِيَهُ , فَأَمَرَ عُمَر بِقُدَامَةَ أَنْ يُجَرّ إِلَيْهِ جَرًّا حَتَّى كَلَّمَهُ عُمَر وَاسْتَغْفَرَ لَهُ , فَكَانَ أَوَّل صُلْحهمَا . قَالَ أَيُّوب بْن أَبِي تَمِيمَة : لَمْ يُحَدّ أَحَد مِنْ أَهْل بَدْر فِي الْخَمْر غَيْره . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : فَهَذَا يَدُلّك عَلَى تَأْوِيل الْآيَة , وَمَا ذُكِرَ فِيهِ عَنْ اِبْن عَبَّاس مِنْ حَدِيث الدَّارَقُطْنِيّ , وَعُمَر فِي حَدِيث الْبُرْقَانِيّ وَهُوَ صَحِيح ; وَبَسْطُهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَنْ شَرِبَ الْخَمْر وَاتَّقَى اللَّه فِي غَيْره مَا حُدَّ عَلَى الْخَمْر أَحَد , فَكَانَ هَذَا مِنْ أَفْسَد تَأْوِيل ; وَقَدْ خَفِيَ عَلَى قُدَامَة ; وَعَرَفَهُ مَنْ وَفَّقَهُ اللَّه كَعُمَر وَابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا ; قَالَ الشَّاعِر : <br>وَإِنَّ حَرَامًا لَا أَرَى الدَّهْر بَاكِيًا .......... عَلَى شَجْوِهِ 227 إِلَّا بَكَيْت عَلَى عُمَر 227 <br>وَرُوِيَ عَنْ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّ قَوْمًا شَرِبُوا بِالشَّامِ وَقَالُوا : هِيَ لَنَا حَلَال وَتَأَوَّلُوا هَذِهِ الْآيَة , فَأَجْمَعَ عَلِيّ وَعُمَر عَلَى أَنْ يُسْتَتَابُوا , فَإِنْ تَابُوا وَإِلَّا قُتِلُوا ; ذَكَرَهُ الْكِيَا الطَّبَرِيّ .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ

فِيهِ ثَمَانِي مَسَائِل : </subtitle>الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : | لَيَبْلُوَنَّكُمْ اللَّه | أَيْ لَيَخْتَبِرَنَّكُمْ , وَالِابْتِلَاء الِاخْتِبَار , وَكَانَ الصَّيْد أَحَد مَعَايِش الْعَرَب الْعَارِبَة , وَشَائِعًا عِنْد الْجَمِيع مِنْهُمْ , مُسْتَعْمَلًا جِدًّا , فَابْتَلَاهُمْ اللَّه فِيهِ مَعَ الْإِحْرَام وَالْحَرَم , كَمَا اِبْتَلَى بَنِي إِسْرَائِيل فِي أَلَّا يَعْتَدُوا فِي السَّبْت , وَقِيلَ : إِنَّهَا نَزَلَتْ عَام الْحُدَيْبِيَة ; أَحْرَمَ بَعْض النَّاس مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُحْرِم بَعْضهمْ , فَكَانَ إِذَا عَرَضَ صَيْد اخْتَلَفَ فِيهِ أَحْوَالهمْ وَأَفْعَالهمْ , وَاشْتَبَهَتْ أَحْكَامه عَلَيْهِمْ , فَأَنْزَلَ اللَّه هَذِهِ الْآيَة بَيَانًا لِأَحْكَامِ أَحْوَالهمْ وَأَفْعَالهمْ , وَمَحْظُورَات حَجّهمْ وَعُمْرَتهمْ . الثَّانِيَة : اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء مَنْ الْمُخَاطَب بِهَذِهِ الْآيَة عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدهمَا : أَنَّهُمْ الْمُحِلُّونَ ; قَالَهُ مَالِك . الثَّانِي : أَنَّهُمْ الْمُحْرِمُونَ قَالَهُ اِبْن عَبَّاس ; وَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : | لَيَبْلُوَنَّكُمْ | فَإِنَّ تَكْلِيف الِامْتِنَاع الَّذِي يَتَحَقَّق بِهِ الِابْتِلَاء هُوَ مَعَ الْإِحْرَام . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهَذَا لَا يَلْزَم ; فَإِنَّ التَّكْلِيف يَتَحَقَّق فِي الْمَحَلّ بِمَا شُرِطَ لَهُ مِنْ أُمُور الصَّيْد , وَمَا شُرِعَ لَهُ مِنْ وَصْفه فِي كَيْفِيَّة الِاصْطِيَاد , وَالصَّحِيح أَنَّ الْخِطَاب فِي الْآيَة لِجَمِيعِ النَّاس مُحِلّهمْ وَمُحْرِمهمْ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى : | لَيَبْلُوَنَّكُمْ اللَّه | أَيْ : لَيُكَلِّفَنَّكُمْ , وَالتَّكْلِيف كُلّه اِبْتِلَاء وَإِنْ تَفَاضَلَ فِي الْكَثْرَة وَالْقِلَّة , وَتَبَايَنَ فِي الضَّعْف وَالشِّدَّة . الثَّالِثَة : قَوْله تَعَالَى : | بِشَيْءٍ مِنْ الصَّيْد | يُرِيد بِبَعْضِ الصَّيْد , فَمِنْ لِلتَّبْعِيضِ , وَهُوَ صَيْد الْبَرّ خَاصَّة ; وَلَمْ يَعُمّ الصَّيْد كُلّه لِأَنَّ لِلْبَحْرِ صَيْدًا , قَالَهُ الطَّبَرِيّ وَغَيْره , وَأَرَادَ بِالصَّيْدِ الْمَصِيد ; لِقَوْلِهِ : | تَنَالهُ أَيْدِيكُمْ | . الرَّابِعَة : قَوْله تَعَالَى : | تَنَالهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحكُمْ | بَيَان لِحُكْمِ صِغَار الصَّيْد وَكِبَاره , وَقَرَأَ اِبْن وَثَّاب وَالنَّخَعِيّ : | يَنَالهُ | بِالْيَاءِ مَنْقُوطَة مِنْ تَحْت . قَالَ مُجَاهِد : الْأَيْدِي تَنَال الْفِرَاخ وَالْبَيْض وَمَا لَا يَسْتَطِيع أَنْ يَفِرّ , وَالرِّمَاح تَنَال كِبَار الصَّيْد , وَقَالَ اِبْن وَهْب قَالَ مَالِك قَالَ اللَّه تَعَالَى : | يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمْ اللَّه بِشَيْءٍ مِنْ الصَّيْد تَنَالهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحكُمْ | وَكُلّ شَيْء يَنَالهُ الْإِنْسَان بِيَدِهِ أَوْ بِرُمْحِهِ أَوْ بِشَيْءٍ مِنْ سِلَاحه فَقَتَلَهُ فَهُوَ صَيْد كَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى . الْخَامِسَة : خَصَّ اللَّه تَعَالَى الْأَيْدِي بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا عُظْم التَّصَرُّف فِي الِاصْطِيَاد ; وَفِيهَا تَدْخُل الْجَوَارِح وَالْحِبَالَات , وَمَا عُمِلَ بِالْيَدِ مِنْ فِخَاخ وَشِبَاك ; وَخَصَّ الرِّمَاح بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا عُظْم مَا يُجْرَح بِهِ الصَّيْد , وَفِيهَا يَدْخُل السَّهْم وَنَحْوه ; وَقَدْ مَضَى الْقَوْل فِيمَا يُصَاد بِهِ مِنْ الْجَوَارِح وَالسِّهَام فِي أَوَّل السُّورَة بِمَا فِيهِ الْكِفَايَة وَالْحَمْد لِلَّهِ . السَّادِسَة : مَا وَقَعَ فِي الْفَخّ وَالْحِبَالَة فَلِرَبِّهَا , فَإِنْ أَلْجَأَ الصَّيْد إِلَيْهَا أَحَد وَلَوْلَاهَا لَمْ يَتَهَيَّأ لَهُ أَخْذه فَرَبّهَا فِيهِ شَرِيكه , وَمَا وَقَعَ فِي الْجُبْح الْمَنْصُوب فِي الْجَبَل مِنْ ذُبَاب النَّحْل فَهُوَ كَالْحِبَالَةِ وَالْفَخّ , وَحَمَام الْأَبْرِجَة تُرَدّ عَلَى أَرْبَابهَا إِنْ اُسْتُطِيعَ ذَلِكَ , وَكَذَلِكَ نَحْل الْجِبَاح ; وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِك , وَقَالَ بَعْض أَصْحَابه : إِنَّهُ لَيْسَ عَلَى مَنْ حَصَلَ الْحَمَام أَوْ النَّحْل عِنْده أَنْ يَرُدّهُ , وَلَوْ أَلْجَأَتْ الْكِلَاب صَيْدًا فَدَخَلَ فِي بَيْت أَحَد أَوْ دَاره فَهُوَ لِلصَّائِدِ مُرْسِل الْكِلَاب دُون صَاحِب الْبَيْت , وَلَوْ دَخَلَ فِي الْبَيْت مِنْ غَيْر اِضْطِرَار الْكِلَاب لَهُ فَهُوَ لِرَبِّ الْبَيْت . السَّابِعَة : اِحْتَجَّ بَعْض النَّاس عَلَى أَنَّ الصَّيْد لِلْآخِذِ لَا لِلْمُثِيرِ بِهَذِهِ الْآيَة ; لِأَنَّ الْمُثِير لَمْ تَنَلْ يَده وَلَا رُمْحه بَعْدُ شَيْئًا , وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَة . الثَّامِنَة : كَرِهَ مَالِك صَيْد أَهْل الْكِتَاب وَلَمْ يُحَرِّمهُ , لِقَوْلِهِ تَعَالَى : | تَنَالهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحكُمْ | يَعْنِي أَهْل الْإِيمَان , لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي صَدْر الْآيَة : | يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا | فَخَرَجَ عَنْهُمْ أَهْل الْكِتَاب , وَخَالَفَهُ جُمْهُور أَهْل الْعِلْم , لِقَوْلِهِ تَعَالَى : | يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا | [ الْمَائِدَة : 94 ] وَهُوَ عِنْدهمْ مِثْل ذَبَائِحهمْ , وَأَجَابَ عُلَمَاؤُنَا بِأَنَّ الْآيَة إِنَّمَا تَضَمَّنَتْ أَكْل طَعَامهمْ , وَالصَّيْد بَاب آخَر فَلَا يَدْخُل فِي عُمُوم الطَّعَام , وَلَا يَتَنَاوَلهُ مُطْلَق لَفْظه . قُلْت : هَذَا بِنَاء عَلَى أَنَّ الصَّيْد لَيْسَ مَشْرُوعًا عِنْدهمْ فَلَا يَكُون مِنْ طَعَامهمْ , فَيَسْقُط عَنَّا هَذَا الْإِلْزَام ; فَأَمَّا إِنْ كَانَ مَشْرُوعًا عِنْدهمْ فِي دِينهمْ فَيَلْزَمنَا أَكْله لِتَنَاوُلِ اللَّفْظ لَهُ , فَإِنَّهُ مِنْ طَعَامهمْ , وَاللَّه أَعْلَمُ .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ

هَذَا خِطَاب عَامّ لِكُلِّ مُسْلِم ذَكَر وَأُنْثَى , وَهَذَا النَّهْي هُوَ الِابْتِلَاء الْمَذْكُور فِي قَوْله تَعَالَى : | يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمْ اللَّه بِشَيْءٍ مِنْ الصَّيْد | الْآيَة , وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا الْيَسَر وَاسْمه عَمْرو بْن مَالِك الْأَنْصَارِيّ كَانَ مُحْرِمًا عَام الْحُدَيْبِيَة بِعُمْرَةٍ فَقَتَلَ حِمَار وَحْش فَنَزَلَتْ فِيهِ | لَا تَقْتُلُوا الصَّيْد وَأَنْتُمْ حُرُم | .|آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا|الْقَتْل هُوَ كُلّ فِعْل يُفِيت الرُّوح , وَهُوَ أَنْوَاع : مِنْهَا النَّحْر وَالذَّبْح وَالْخَنْق وَالرَّضْخ وَشِبْهه ; فَحَرَّمَ اللَّه تَعَالَى عَلَى الْمُحْرِم فِي الصَّيْد كُلّ فِعْل يَكُون مُفِيتًا لِلرُّوحِ . الثَّالِثَة مَنْ قَتَلَ صَيْدًا أَوْ ذَبَحَهُ فَأَكَلَ مِنْهُ فَعَلَيْهِ جَزَاء وَاحِد لِقَتْلِهِ دُون أَكْله ; وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيّ , وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : عَلَيْهِ جَزَاء مَا أَكَلَ ; يَعْنِي قِيمَته , وَخَالَفَهُ صَاحِبَاهُ فَقَالَا : لَا شَيْء عَلَيْهِ سِوَى الِاسْتِغْفَار ; لِأَنَّهُ تَنَاوَلَ الْمَيْتَة كَمَا لَوْ تَنَاوَلَ مَيْتَة أُخْرَى ; وَلِهَذَا لَوْ أَكَلَهَا مُحْرِم آخَر لَا يَلْزَمهُ إِلَّا الِاسْتِغْفَار , وَحُجَّة أَبِي حَنِيفَة أَنَّهُ تَنَاوَلَ مَحْظُور إِحْرَامه ; لِأَنَّ قَتْله كَانَ مِنْ مَحْظُورَات الْإِحْرَام , وَمَعْلُوم أَنَّ الْمَقْصُود مِنْ الْقَتْل هُوَ التَّنَاوُل , فَإِذَا كَانَ مَا يُتَوَصَّل بِهِ إِلَى الْمَقْصُود - مَحْظُور إِحْرَامه - مُوجِبًا عَلَيْهِ الْجَزَاء فَمَا هُوَ الْمَقْصُود كَانَ أَوْلَى . لَا يَجُوز عِنْدنَا ذَبْح الْمُحْرِم لِلصَّيْدِ , لِنَهْيِ اللَّه سُبْحَانه الْمُحْرِم عَنْ قَتْله ; وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَة . وَقَالَ الشَّافِعِيّ : ذَبْح الْمُحْرِم لِلصَّيْدِ ذَكَاة ; وَتَعَلَّقَ بِأَنَّهُ ذَبْح صَدَرَ مِنْ أَهْله وَهُوَ الْمُسْلِم , مُضَاف إِلَى مَحَلّه وَهُوَ الْأَنْعَام ; فَأَفَادَ مَقْصُوده مِنْ حِلّ الْأَكْل ; أَصْله ذَبْح الْحَلَال . قُلْنَا : قَوْلكُمْ ذَبْح صَدَرَ مِنْ أَهْله فَالْمُحْرِم لَيْسَ بِأَهْلٍ لِذَبْحِ الصَّيْد ; إِذْ الْأَهْلِيَّة لَا تُسْتَفَاد عَقْلًا , وَإِنَّمَا يُفِيدهَا الشَّرْع ; وَذَلِكَ بِإِذْنِهِ فِي الذَّبْح , أَوْ بِنَفْيِهَا وَذَلِكَ بِنَهْيِهِ عَنْ الذَّبْح , وَالْمُحْرِم مَنْهِيّ عَنْ ذَبْح الصَّيْد ; لِقَوْلِهِ : | لَا تَقْتُلُوا الصَّيْد | فَقَدْ اِنْتَفَتْ الْأَهْلِيَّة بِالنَّهْيِ , وَقَوْلكُمْ أَفَادَ مَقْصُوده فَقَدْ اِتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّ الْمُحْرِم إِذَا ذَبَحَ الصَّيْد لَا يَحِلّ لَهُ أَكْله , وَإِنَّمَا يَأْكُل مِنْهُ غَيْره عِنْدكُمْ ; فَإِذَا كَانَ الذَّبْح لَا يُفِيد الْحِلّ لِلذَّابِحِ فَأَوْلَى وَأَحْرَى أَلَّا يُفِيدهُ لِغَيْرِهِ , لِأَنَّ الْفَرْع تَبَع لِلْأَصْلِ فِي أَحْكَامه ; فَلَا يَصِحّ أَنْ يَثْبُت لَهُ مَا لَا يَثْبُت لِأَصْلِهِ . | الصَّيْد | مَصْدَر عُومِلَ مُعَامَلَة الْأَسْمَاء , فَأُوقِعَ عَلَى الْحَيَوَان الْمَصِيد ; وَلَفْظ الصَّيْد هُنَا عَامّ فِي كُلّ صَيْد بَرِّيّ وَبَحْرِيّ حَتَّى جَاءَ قَوْله تَعَالَى : | وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْد الْبَرّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا | [ الْمَائِدَة : 96 ] فَأَبَاحَ صَيْد الْبَحْر إِبَاحَة مُطْلَقَة ; عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه فِي الْآيَة بَعْد هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .</p><p>اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي خُرُوج السِّبَاع مِنْ صَيْد الْبَرّ وَتَخْصِيصهَا مِنْهُ ; فَقَالَ مَالِك : كُلّ شَيْء لَا يَعْدُو مِنْ السِّبَاع مِثْل الْهِرّ وَالثَّعْلَب وَالضَّبْع وَمَا أَشْبَهَهَا فَلَا يَقْتُلهُ الْمُحْرِم , وَإِنْ قَتَلَهُ فَدَاهُ . قَالَ : وَصِغَار الذِّئَاب لَا أَرَى أَنْ يَقْتُلهَا الْمُحْرِم , فَإِنْ قَتَلَهَا فَدَاهَا ; وَهِيَ مِثْل فِرَاخ الْغِرْبَان , وَلَا بَأْس بِقَتْلِ كُلّ مَا عَدَا عَلَى النَّاس فِي الْأَغْلَب ; مِثْل الْأَسَد وَالذِّئْب وَالنَّمِر وَالْفَهْد ; وَكَذَلِكَ لَا بَأْس عَلَيْهِ بِقَتْلِ الْحَيَّات وَالْعَقَارِب وَالْفَأْرَة وَالْغُرَاب وَالْحِدَأَة . قَالَ إِسْمَاعِيل : إِنَّمَا ذَلِكَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( خَمْس فَوَاسِق يُقْتَلْنَ فِي الْحِلّ وَالْحَرَم ) الْحَدِيث ; فَسَمَّاهُنَّ فُسَّاقًا ; وَوَصَفَهُنَّ بِأَفْعَالِهِنَّ ; لِأَنَّ الْفَاسِق فَاعِل لِلْفِسْقِ , وَالصِّغَار لَا فِعْل لَهُنَّ , وَوَصَفَ الْكَلْب بِالْعَقُورِ وَأَوْلَاده لَا تَعْقِر ; فَلَا تَدْخُل فِي هَذَا النَّعْت . قَالَ الْقَاضِي إِسْمَاعِيل : الْكَلْب الْعَقُور مِمَّا يَعْظُم ضَرَره عَلَى النَّاس . قَالَ : وَمِنْ ذَلِكَ الْحَيَّة وَالْعَقْرَب ; لِأَنَّهُ يُخَاف مِنْهُمَا , وَكَذَلِكَ الْحِدَأَة وَالْغُرَاب ; لِأَنَّهُمَا يَخْطَفَانِ اللَّحْم مِنْ أَيْدِي النَّاس . قَالَ اِبْن بُكَيْر : إِنَّمَا أُذِنَ فِي قَتْل الْعَقْرَب لِأَنَّهَا ذَات حُمَة ; وَفِي الْفَأْرَة لِقَرْضِهَا السِّقَاء وَالْحِذَاء اللَّذَيْنِ بِهِمَا قِوَام الْمُسَافِر , وَفِي الْغُرَاب لِوُقُوعِهِ عَلَى الظَّهْر وَنَقْبه عَنْ لُحُومهَا ; وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِك أَنَّهُ قَالَ : لَا يُقْتَل الْغُرَاب وَلَا الْحِدَأَة إِلَّا أَنْ يَضُرَّا . قَالَ الْقَاضِي إِسْمَاعِيل : وَاخْتُلِفَ فِي الزُّنْبُور ; فَشَبَّهَهُ بَعْضهمْ بِالْحَيَّةِ وَالْعَقْرَب , قَالَ : وَلَوْلَا أَنَّ الزُّنْبُور لَا يَبْتَدِئ لَكَانَ أَغْلَظ عَلَى النَّاس مِنْ الْحَيَّة وَالْعَقْرَب , وَلَكِنَّهُ لَيْسَ فِي طَبْعه مِنْ الْعَدَاء مَا فِي الْحَيَّة وَالْعَقْرَب , وَإِنَّمَا يَحْمَى الزُّنْبُور إِذَا أُوذِيَ . قَالَ : فَإِذَا عَرَضَ الزُّنْبُور لِأَحَدٍ فَدَفَعَهُ عَنْ نَفْسه لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْء فِي قَتْله ; وَثَبَتَ عَنْ عُمَر بْن الْخَطَّاب إِبَاحَة قَتْل الزُّنْبُور , وَقَالَ مَالِك : يُطْعِم قَاتِله شَيْئًا ; وَكَذَلِكَ قَالَ مَالِك فِيمَنْ قَتَلَ الْبُرْغُوث وَالذُّبَاب وَالنَّمْل وَنَحْوه , وَقَالَ أَصْحَاب الرَّأْي : لَا شَيْء عَلَى قَاتِل هَذِهِ كُلّهَا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : لَا يَقْتُل الْمُحْرِم مِنْ السِّبَاع إِلَّا الْكَلْب الْعَقُور وَالذِّئْب خَاصَّة , سَوَاء اِبْتَدَآهُ 230 أَوْ اِبْتَدَأَهُمَا ; وَإِنْ قَتَلَ غَيْره مِنْ السِّبَاع فَدَاهُ . قَالَ : فَإِنْ اِبْتَدَأَهُ غَيْرهمَا مِنْ السِّبَاع فَقَتَلَهُ فَلَا شَيْء عَلَيْهِ ; قَالَ : وَلَا شَيْء عَلَيْهِ فِي قَتْل الْحَيَّة وَالْعَقْرَب وَالْغُرَاب وَالْحِدَأَة , هَذِهِ جُمْلَة قَوْل أَبِي حَنِيفَة وَأَصْحَابه إِلَّا زُفَر ; وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيّ وَالثَّوْرِيّ وَالْحَسَن ; وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَصَّ دَوَابّ بِأَعْيَانِهَا وَأَرْخَصَ لِلْمُحْرِمِ فِي قَتْلهَا مِنْ أَجْل ضَرَرهَا ; فَلَا وَجْه أَنْ يُزَاد عَلَيْهَا إِلَّا أَنْ يُجْمِعُوا عَلَى شَيْء فَيَدْخُل فِي مَعْنَاهَا . قُلْت : الْعَجَب مِنْ أَبِي حَنِيفَة رَحِمَهُ اللَّه يَحْمِل التُّرَاب عَلَى الْبُرّ بِعِلَّةِ الْكَيْل , وَلَا يَحْمِل السِّبَاع الْعَادِيَة عَلَى الْكَلْب بِعِلَّةِ الْفِسْق وَالْعَقْر , كَمَا فَعَلَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ رَحِمَهُمَا اللَّه ! وَقَالَ زُفَر بْن الْهُذَيْل : لَا يُقْتَل إِلَّا الذِّئْب وَحْده , وَمَنْ قَتَلَ غَيْره وَهُوَ مُحْرِم فَعَلَيْهِ الْفِدْيَة , سَوَاء اِبْتَدَأَهُ أَوْ لَمْ يَبْتَدِئهُ ; لِأَنَّهُ عَجْمَاء فَكَانَ فِعْله هَدَرًا ; وَهَذَا رَدّ لِلْحَدِيثِ وَمُخَالَفَة لَهُ , وَقَالَ الشَّافِعِيّ : كُلّ مَا لَا يُؤْكَل لَحْمه فَلِلْمُحْرِمِ أَنْ يَقْتُلهُ ; وَصِغَار ذَلِكَ وَكِبَاره سَوَاء , إِلَّا السِّمْع وَهُوَ الْمُتَوَلِّد بَيْن الذِّئْب وَالضَّبْع , قَالَ : وَلَيْسَ فِي الرَّخَمَة وَالْخَنَافِس وَالْقِرْدَانِ وَالْحَلَم وَمَا لَا يُؤْكَل لَحْمه شَيْء ; لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ الصَّيْد , لِقَوْلِهِ تَعَالَى : | وَحَرَّمَ عَلَيْكُمْ صَيْد الْبَرّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا | [ الْمَائِدَة : 96 ] فَدَلَّ أَنَّ الصَّيْد الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْهِمْ مَا كَانَ لَهُمْ قَبْل الْإِحْرَام حَلَالًا ; حَكَى عَنْهُ هَذِهِ الْجُمْلَة الْمُزَنِيّ وَالرَّبِيع ; فَإِنْ قِيلَ : فَلِمَ تُفْدَى الْقَمْلَة وَهِيَ تُؤْذِي وَلَا تُؤْكَل ؟ قِيلَ لَهُ : لَيْسَ تُفْدَى إِلَّا عَلَى مَا يُفْدَى بِهِ الشَّعْر وَالظُّفْر وَلُبْس مَا لَيْسَ لَهُ لُبْسه ; لِأَنَّ فِي طَرْح الْقَمْلَة إِمَاطَة الْأَذَى عَنْ نَفْسه إِذَا كَانَتْ فِي رَأْسه وَلِحْيَته , فَكَأَنَّهُ أَمَاطَ بَعْض شَعْره ; فَأَمَّا إِذَا ظَهَرَتْ فَقُتِلَتْ فَإِنَّهَا لَا تُؤْذِي , وَقَوْل أَبِي ثَوْر فِي هَذَا الْبَاب كَقَوْلِ الشَّافِعِيّ ; قَالَهُ أَبُو عُمَر .</p><p>رَوَى الْأَئِمَّة عَنْ اِبْن عُمَر أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( خَمْس مِنْ الدَّوَابّ لَيْسَ عَلَى الْمُحْرِم فِي قَتْلهنَّ جُنَاح : الْغُرَاب وَالْحِدَأَة وَالْعَقْرَب وَالْفَأْرَة وَالْكَلْب الْعَقُور ) . اللَّفْظ لِلْبُخَارِيِّ ; وَبِهِ قَالَ أَحْمَد وَإِسْحَاق , وَفِي كِتَاب مُسْلِم عَنْ عَائِشَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( خَمْس فَوَاسِق يُقْتَلْنَ فِي الْحِلّ وَالْحَرَم الْحَيَّة وَالْغُرَاب الْأَبْقَع وَالْفَأْرَة وَالْكَلْب الْعَقُور وَالْحُدَيَّا ) , وَبِهِ قَالَتْ طَائِفَة مِنْ أَهْل الْعِلْم قَالُوا : لَا يُقْتَل مِنْ الْغِرْبَان إِلَّا الْأَبْقَع خَاصَّة ; لِأَنَّهُ تَقْيِيد مُطْلَق . وَفِي كِتَاب أَبِي دَاوُد عَنْ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَيَرْمِي الْغُرَاب وَلَا يَقْتُلهُ ) , وَبِهِ قَالَ مُجَاهِد , وَجُمْهُور الْعُلَمَاء عَلَى الْقَوْل بِحَدِيثِ اِبْن عُمَر , وَاللَّه أَعْلَمُ , وَعِنْد أَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ : وَالسَّبُع الْعَادِي ; وَهَذَا تَنْبِيه عَلَى الْعِلَّة .|الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ|عَامّ فِي النَّوْعَيْنِ مِنْ الرِّجَال وَالنِّسَاء , الْأَحْرَار وَالْعَبِيد ; يُقَال : رَجُل حَرَام وَامْرَأَة حَرَام , وَجَمْع ذَلِكَ حُرُم ; كَقَوْلِهِمْ : قَذَال وَقُذُل . وَأَحْرَمَ الرَّجُل دَخَلَ فِي الْحَرَم ; كَمَا يُقَال : أَسْهَلَ دَخَلَ فِي السَّهْل , وَهَذَا اللَّفْظ يَتَنَاوَل الزَّمَان وَالْمَكَان وَحَالَة الْإِحْرَام بِالِاشْتِرَاكِ لَا بِالْعُمُومِ . يُقَال : رَجُل حَرَام إِذَا دَخَلَ فِي الْأَشْهُر الْحُرُم أَوْ فِي الْحَرَم , أَوْ تَلَبَّسَ بِالْإِحْرَامِ ; إِلَّا أَنَّ تَحْرِيم الزَّمَان خَرَجَ بِالْإِجْمَاعِ عَنْ أَنْ يَكُون مُعْتَبَرًا , وَبَقِيَ تَحْرِيم الْمَكَان وَحَالَة الْإِحْرَام عَلَى أَصْل التَّكْلِيف ; قَالَهُ اِبْن الْعَرَبِيّ . حَرَم الْمَكَان حَرَمَانِ , حَرَم الْمَدِينَة وَحَرَم مَكَّة وَزَادَ الشَّافِعِيّ الطَّائِف , فَلَا يَجُوز عِنْده قَطْع شَجَره , وَلَا صَيْد صَيْده , وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَلَا جَزَاء عَلَيْهِ فَأَمَّا حَرَم الْمَدِينَة فَلَا يَجُوز فِيهِ الِاصْطِيَاد لِأَحَدٍ وَلَا قَطْع الشَّجَر كَحَرَمِ مَكَّة , فَإِنْ فَعَلَ أَثِمَ وَلَا جَزَاء عَلَيْهِ عِنْد مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَصْحَابهمَا , وَقَالَ اِبْن أَبِي ذِئْب : عَلَيْهِ الْجَزَاء , وَقَالَ سَعْد : جَزَاؤُهُ أَخْذ سَلَبه , وَرُوِيَ عَنْ الشَّافِعِيّ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : صَيْد الْمَدِينَة غَيْر مُحَرَّم , وَكَذَلِكَ قَطْع شَجَرهَا , وَاحْتَجَّ لَهُ بَعْض مَنْ ذَهَبَ مَذْهَبه بِحَدِيثِ سَعْد بْن أَبِي وَقَّاص عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَصِيد فِي حُدُود الْمَدِينَة أَوْ يَقْطَع شَجَرهَا فَخُذُوا سَلَبه ) , وَأَخَذَ سَعْد سَلَب مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ . قَالَ : وَقَدْ اِتَّفَقَ الْفُقَهَاء عَلَى أَنَّهُ لَا يُؤْخَذ سَلَب مَنْ صَادَ فِي الْمَدِينَة , فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ مَنْسُوخ , وَاحْتَجَّ لَهُمْ الطَّحَاوِيّ أَيْضًا بِحَدِيثِ أَنَس - مَا فَعَلَ النُّغَيْر ; فَلَمْ يُنْكِر صَيْده وَإِمْسَاكه - وَهَذَا كُلّه لَا حُجَّة فِيهِ . أَمَّا الْحَدِيث الْأَوَّل فَلَيْسَ بِالْقَوِيِّ , وَلَوْ صَحَّ لَمْ يَكُنْ فِي نَسْخ أَخْذ السَّلَب مَا يُسْقِط مَا صَحَّ مِنْ تَحْرِيم الْمَدِينَة , فَكَمْ مِنْ مُحْرِم لَيْسَ عَلَيْهِ عُقُوبَة فِي الدُّنْيَا , وَأَمَّا الْحَدِيث الثَّانِي فَيَجُوز أَنْ يَكُون صَيْد فِي غَيْر الْحَرَم , وَكَذَلِكَ حَدِيث عَائِشَة ; أَنَّهُ كَانَ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحْش فَإِذَا خَرَجَ لَعِبَ وَاشْتَدَّ وَأَقْبَلَ وَأَدْبَرَ , فَإِذَا أَحَسَّ بِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبَضَ , فَلَمْ يَتَرَمْرَم كَرَاهِيَة أَنْ يُؤْذِيَهُ , وَدَلِيلنَا عَلَيْهِمْ مَا رَوَاهُ مَالِك عَنْ اِبْن شِهَاب عَنْ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب أَنَّ أَبَا هُرَيْرَة قَالَ : لَوْ رَأَيْت الظِّبَاء تَرْتَع بِالْمَدِينَةِ مَا ذَعَرْتهَا , قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَا بَيْن لَابَتَيْهَا حَرَام ) فَقَوْل أَبِي هُرَيْرَة مَا ذَعَرْتهَا دَلِيل عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوز تَرْوِيع الصَّيْد فِي حَرَم الْمَدِينَة , كَمَا لَا يَجُوز تَرْوِيعه فِي حَرَم مَكَّة , وَكَذَلِكَ نَزْع زَيْد بْن ثَابِت النُّهَس - وَهُوَ طَائِر - مِنْ يَد شُرَحْبِيل بْن سَعْد كَانَ صَادَهُ بِالْمَدِينَةِ ; دَلِيل عَلَى أَنَّ الصَّحَابَة فَهِمُوا مُرَاد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَحْرِيم صَيْد الْمَدِينَة , فَلَمْ يُجِيزُوا فِيهَا الِاصْطِيَاد وَلَا تَمَلُّك مَا يُصْطَاد . وَمُتَعَلَّق اِبْن أَبِي ذِئْب قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيح : ( اللَّهُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيم حَرَّمَ مَكَّة وَإِنِّي أُحَرِّم الْمَدِينَة مِثْل مَا حَرَّمَ بِهِ مَكَّة وَمِثْله مَعَهُ لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا وَلَا يُعْضَد شَجَرهَا وَلَا يُنَفَّر صَيْدهَا ) وَلِأَنَّهُ حَرَّمَ مَنْع الِاصْطِيَاد فِيهِ فَتَعَلَّقَ الْجَزَاء بِهِ كَحَرَمِ مَكَّة . قَالَ الْقَاضِي عَبْد الْوَهَّاب : وَهَذَا قَوْل أَقْيَس عِنْدِي عَلَى أُصُولنَا , لَا سِيَّمَا أَنَّ الْمَدِينَة عِنْد أَصْحَابنَا أَفْضَل مِنْ مَكَّة , وَأَنَّ الصَّلَاة فِيهَا أَفْضَل مِنْ الصَّلَاة فِي الْمَسْجِد الْحَرَام , وَمِنْ حُجَّة مَالِك وَالشَّافِعِيّ فِي أَلَّا يُحْكَم عَلَيْهِ بِجَزَاءٍ وَلَا أَخْذ سَلَب - فِي الْمَشْهُور مِنْ قَوْل الشَّافِعِيّ - عُمُوم قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيح : ( الْمَدِينَة حَرَم مَا بَيْن عَيْر إِلَى ثَوْر فَمَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَة اللَّه وَالْمَلَائِكَة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ لَا يَقْبَل اللَّه مِنْهُ يَوْم الْقِيَامَة صَرْفًا وَلَا عَدْلًا ) فَأَرْسَلَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَعِيد الشَّدِيد وَلَمْ يَذْكُر كَفَّارَة . وَأَمَّا مَا ذُكِرَ عَنْ سَعْد فَذَلِكَ مَذْهَب لَهُ مَخْصُوص بِهِ ; لِمَا رُوِيَ عَنْهُ فِي الصَّحِيح أَنَّهُ رَكِبَ إِلَى قَصْره بِالْعَقِيقِ , فَوَجَدَ عَبْدًا يَقْطَع شَجَرًا - أَوْ يَخْبِطهُ - فَسَلَبَهُ , فَلَمَّا رَجَعَ سَعْد جَاءَهُ أَهْل الْعَبْد فَكَلَّمُوهُ أَنْ يَرُدّ عَلَى غُلَامهمْ أَوْ عَلَيْهِمْ مَا أَخَذَ مِنْ غُلَامهمْ ; فَقَالَ : مَعَاذ اللَّه أَنْ أَرُدّ شَيْئًا نَفَّلَنِيهِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَأَبَى أَنْ يَرُدّ عَلَيْهِمْ ; فَقَوْله : ( نَفَّلَنِيهِ ) ظَاهِره الْخُصُوص , وَاللَّه أَعْلَمُ .|حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ|ذَكَرَ اللَّه سُبْحَانه الْمُتَعَمِّد وَلَمْ يَذْكُر الْمُخْطِئ وَالنَّاسِي ; وَالْمُتَعَمِّد هُنَا هُوَ الْقَاصِد لِلشَّيْءِ مَعَ الْعِلْم بِالْإِحْرَامِ , وَالْمُخْطِئ هُوَ الَّذِي يَقْصِد شَيْئًا فَيُصِيب صَيْدًا , وَالنَّاسِي هُوَ الَّذِي يَتَعَمَّد الصَّيْد وَلَا يَذْكُر إِحْرَامه , وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي ذَلِكَ عَلَى خَمْسَة أَقْوَال : الْأَوَّل : مَا أَسْنَدَهُ الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : إِنَّمَا التَّكْفِير فِي الْعَمْد , وَإِنَّمَا غَلَّظُوا فِي الْخَطَأ لِئَلَّا يَعُودُوا . الثَّانِي : أَنَّ قَوْله : | مُتَعَمِّدًا | خَرَجَ عَلَى الْغَالِب , فَأُلْحِقَ بِهِ النَّادِر كَأُصُولِ الشَّرِيعَة . الثَّالِث : أَنَّهُ لَا شَيْء عَلَى الْمُخْطِئ وَالنَّاسِي ; وَبِهِ قَالَ الطَّبَرِيّ وَأَحْمَد بْن حَنْبَل فِي إِحْدَى رِوَايَتَيْهِ , وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس وَسَعِيد بْن جُبَيْر , وَبِهِ قَالَ طَاوُس وَأَبُو ثَوْر , وَهُوَ قَوْل دَاوُد , وَتَعَلَّقَ أَحْمَد بِأَنْ قَالَ : لَمَّا خَصَّ اللَّه سُبْحَانه الْمُتَعَمِّد بِالذِّكْرِ , دَلَّ عَلَى أَنَّ غَيْره بِخِلَافِهِ , وَزَادَ بِأَنْ قَالَ : الْأَصْل بَرَاءَة الذِّمَّة فَمَنْ اِدَّعَى شَغْلهَا فَعَلَيْهِ الدَّلِيل . الرَّابِع : أَنَّهُ يُحْكَم عَلَيْهِ فِي الْعَمْد وَالْخَطَأ وَالنِّسْيَان ; قَالَهُ اِبْن عَبَّاس , وَرُوِيَ عَنْ عُمَر وَطَاوُس وَالْحَسَن وَإِبْرَاهِيم وَالزُّهْرِيّ , وَبِهِ قَالَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابهمْ . قَالَ الزُّهْرِيّ : وَجَبَ الْجَزَاء فِي الْعَمْد بِالْقُرْآنِ , وَفِي الْخَطَأ وَالنِّسْيَان بِالسُّنَّةِ ; قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : إِنْ كَانَ يُرِيد بِالسُّنَّةِ الْآثَار الَّتِي وَرَدَتْ عَنْ اِبْن عَبَّاس وَعُمَر فَنِعِمَّا هِيَ , وَمَا أَحْسَنهَا أُسْوَة . الْخَامِس : أَنْ يَقْتُلهُ مُتَعَمِّدًا لِقَتْلِهِ نَاسِيًا لِإِحْرَامِهِ - وَهُوَ قَوْل مُجَاهِد - لِقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْد ذَلِكَ : | وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِم اللَّه مِنْهُ | . قَالَ : وَلَوْ كَانَ ذَاكِرًا لِإِحْرَامِهِ لَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الْعُقُوبَة لِأَوَّلِ مَرَّة , قَالَ : فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ مُتَعَمِّدًا لِقَتْلِهِ نَاسِيًا لِإِحْرَامِهِ ; قَالَ مُجَاهِد : فَإِنْ كَانَ ذَاكِرًا لِإِحْرَامِهِ فَقَدْ حَلَّ وَلَا حَجّ لَهُ لِارْتِكَابِهِ مَحْظُور إِحْرَامه , فَبَطَلَ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ تَكَلَّمَ فِي الصَّلَاة , أَوْ أَحْدَثَ فِيهَا ; قَالَ : وَمَنْ أَخْطَأَ فَذَلِكَ الَّذِي يُجْزِئهُ , وَدَلِيلنَا عَلَى مُجَاهِد أَنَّ اللَّه سُبْحَانه أَوْجَبَ الْجَزَاء وَلَمْ يَذْكُر الْفَسَاد , وَلَا فَرْق بَيْن أَنْ يَكُون ذَاكِرًا لِلْإِحْرَامِ أَوْ نَاسِيًا لَهُ , وَلَا يَصِحّ اِعْتِبَار الْحَجّ بِالصَّلَاةِ فَإِنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ ; وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا حُكْم عَلَيْهِ فِي قَتْله مُتَعَمِّدًا , وَيَسْتَغْفِر اللَّه , وَحَجّه تَامّ ; وَبِهِ قَالَ اِبْن زَيْد , وَدَلِيلنَا عَلَى دَاوُد أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ الضَّبْع فَقَالَ : ( هِيَ صَيْد ) وَجَعَلَ فِيهَا إِذَا أَصَابَهَا الْمُحْرِم كَبْشًا , وَلَمْ يَقُلْ عَمْدًا وَلَا خَطَأ . وَقَالَ اِبْن بُكَيْر مِنْ عُلَمَائِنَا : قَوْله سُبْحَانه : | مُتَعَمِّدًا | لَمْ يُرِدْ بِهِ التَّجَاوُز عَنْ الْخَطَأ , وَإِنَّمَا أَرَادَ | مُتَعَمِّدًا | لِيُبَيِّن أَنَّهُ لَيْسَ كَابْنِ آدَم الَّذِي لَمْ يَجْعَل فِي قَتْله مُتَعَمِّدًا كَفَّارَة , وَأَنَّ الصَّيْد فِيهِ كَفَّارَة , وَلَمْ يُرِدْ بِهِ إِسْقَاط الْجَزَاء فِي قَتْل الْخَطَأ , وَاللَّه أَعْلَمُ . فَإِنْ قَتَلَهُ فِي إِحْرَامه مَرَّة بَعْد مَرَّة حُكِمَ عَلَيْهِ كُلَّمَا قَتَلَهُ فِي قَوْل مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَبِي حَنِيفَة وَغَيْرهمْ ; لِقَوْلِ اللَّه تَعَالَى : | يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْد وَأَنْتُمْ حُرُم وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاء مِثْل مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَم | فَالنَّهْي دَائِم مُسْتَمِرّ عَلَيْهِ مَا دَامَ مُحْرِمًا فَمَتَى قَتَلَهُ فَالْجَزَاء لِأَجْلِ ذَلِكَ لَازِم لَهُ , وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : لَا يَحْكُم عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ فِي الْإِسْلَام , وَلَا يَحْكُم عَلَيْهِ إِلَّا مَرَّة وَاحِدَة , فَإِنْ عَادَ ثَانِيَة فَلَا يَحْكُم عَلَيْهِ , وَيُقَال لَهُ : يَنْتَقِم اللَّه مِنْك ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى : | وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِم اللَّه مِنْهُ | , وَبِهِ قَالَ الْحَسَن وَإِبْرَاهِيم وَمُجَاهِد وَشُرَيْح , وَدَلِيلنَا عَلَيْهِمْ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَمَادِي التَّحْرِيم فِي الْإِحْرَام , وَتَوَجُّه الْخِطَاب عَلَيْهِ فِي دِين الْإِسْلَام .|مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ|فِيهِ سِتّ مَسَائِل : </subtitle>الْأُولَى : فِيهِ أَرْبَعَة قِرَاءَات ; | فَجَزَاءٌ مِثْلُ | بِرَفْعِ جَزَاء وَتَنْوِينه , و | مِثْل | عَلَى الصِّفَة , وَالْخَبَر مُضْمَر , التَّقْدِير فَعَلَيْهِ جَزَاء مُمَاثِل وَاجِب أَوْ لَازِم مِنْ النَّعَم , وَهَذِهِ الْقِرَاءَة تَقْتَضِي أَنْ يَكُون الْمِثْل هُوَ الْجَزَاء بِعَيْنِهِ . و | جَزَاءُ | بِالرَّفْعِ غَيْر مُنَوَّن و | مِثْلِ | بِالْإِضَافَةِ أَيْ فَعَلَيْهِ جَزَاء مِثْل مَا قَتَلَ , و | مِثْل | مُقْحَمَة كَقَوْلِك أَنَا أُكْرِم مِثْلك , وَأَنْتَ تَقْصِد أَنَا أُكْرِمك , وَنَظِير هَذَا قَوْله تَعَالَى : | أَوَ مَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاس كَمَنْ مَثَله فِي الظُّلُمَات | [ الْأَنْعَام : 122 ] التَّقْدِير كَمَنْ هُوَ فِي الظُّلُمَات ; وَقَوْله : | لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء | [ الشُّورَى : 11 ] أَيْ لَيْسَ كَهُوَ شَيْء , وَهَذِهِ الْقِرَاءَة تَقْتَضِي أَنْ يَكُون الْجَزَاء غَيْر الْمِثْل ; إِذْ الشَّيْء لَا يُضَاف إِلَى نَفْسه , وَقَالَ أَبُو عَلِيّ : إِنَّمَا يَجِب عَلَيْهِ جَزَاء الْمَقْتُول , لَا جَزَاء مِثْل الْمَقْتُول , وَالْإِضَافَة تُوجِب جَزَاء الْمِثْل لَا جَزَاء الْمَقْتُول . وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيّ عَلَى مَا يَأْتِي , وَقَوْله : | مِنْ النَّعَم | صِفَة لِجَزَاءٍ عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ جَمِيعًا , وَقَرَأَ الْحَسَن | مِنْ النَّعْم | بِإِسْكَانِ الْعَيْن وَهِيَ لُغَة , وَقَرَأَ عَبْد الرَّحْمَن | فَجَزَاءٌ | بِالرَّفْعِ وَالتَّنْوِين | مِثْلَ | بِالنَّصْب ; قَالَ أَبُو الْفَتْح : | مِثْل | مَنْصُوبَة بِنَفْسِ الْجَزَاء ; وَالْمَعْنَى أَنْ يُجْزَى مِثْل مَا قَتَلَ , وَقَرَأَ اِبْن مَسْعُود وَالْأَعْمَش | فَجَزَاؤُهُ مِثْل | بِإِظْهَارِ ( هَاء ) ; وَيَحْتَمِل أَنْ يَعُود عَلَى الصَّيْد أَوْ عَلَى الصَّائِد الْقَاتِل .</p><p>الثَّانِيَة : الْجَزَاء إِنَّمَا يَجِب بِقَتْلِ الصَّيْد لَا بِنَفْسِ أَخْذه كَمَا قَالَ تَعَالَى , وَفِي ( الْمُدَوَّنَة ) : مَنْ اِصْطَادَ طَائِرًا فَنَتَفَ رِيشه ثُمَّ حَبَسَهُ حَتَّى نَسَلَ رِيشه فَطَارَ , قَالَ : لَا جَزَاء عَلَيْهِ . قَالَ وَكَذَلِكَ لَوْ قَطَعَ يَد صَيْد أَوْ رِجْله أَوْ شَيْئًا مِنْ أَعْضَائِهِ وَسَلِمَتْ نَفْسه وَصَحَّ وَلَحِقَ بِالصَّيْدِ فَلَا شَيْء عَلَيْهِ , وَقِيلَ : عَلَيْهِ مِنْ الْجَزَاء بِقَدْرِ مَا نَقَصَهُ . وَلَوْ ذَهَبَ وَلَمْ يَدْرِ مَا فَعَلَ فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ , وَلَوْ زَمِنَ الصَّيْد وَلَمْ يَلْحَق الصَّيْد , أَوْ تَرَكَهُ مَخُوفًا عَلَيْهِ فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ كَامِلًا . الثَّالِثَة : مَا يُجْزَى مِنْ الصَّيْد شَيْئَانِ : دَوَابّ وَطَيْر ; فَيُجْزَى مَا كَانَ مِنْ الدَّوَابّ بِنَظِيرِهِ فِي الْخِلْقَة وَالصُّورَة , فَفِي النَّعَامَة بَدَنَة , وَفِي حِمَار الْوَحْش وَبَقَرَة الْوَحْش بَقَرَة , وَفِي الظَّبْي شَاة ; وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيّ , وَأَقَلّ مَا يَجْزِي عِنْد مَالِك مَا اِسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْي وَكَانَ أُضْحِيَّة ; وَذَلِكَ كَالْجَذَعِ مِنْ الضَّأْن وَالثَّنِيّ مِمَّا سِوَاهُ , وَمَا لَمْ يَبْلُغ جَزَاؤُهُ ذَلِكَ فَفِيهِ إِطْعَام أَوْ صِيَام , وَفِي الْحَمَام كُلّه قِيمَته إِلَّا حَمَام مَكَّة ; فَإِنَّ فِي الْحَمَامَة مِنْهُ شَاة اِتِّبَاعًا لِلسَّلَفِ فِي ذَلِكَ , وَالدُّبْسِيّ وَالْفَوَاخِت وَالْقُمْرِيّ وَذَوَات الْأَطْوَاق كُلّه حَمَام , وَحَكَى اِبْن عَبْد الْحَكَم عَنْ مَالِك أَنَّ فِي حَمَام مَكَّة وَفِرَاخهَا شَاة ; قَالَ : وَكَذَلِكَ حَمَام الْحَرَم ; قَالَ : وَفِي حَمَام الْحِلّ حُكُومَة , وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : إِنَّمَا يُعْتَبَر الْمِثْل فِي الْقِيمَة دُون الْخِلْقَة , فَيُقَوَّم الصَّيْد دَرَاهِم فِي الْمَكَان الَّذِي قَتَلَهُ فِيهِ , أَوْ فِي أَقْرَب مَوْضِع إِلَيْهِ إِنْ كَانَ لَا يُبَاع الصَّيْد فِي مَوْضِع قَتْله ; فَيَشْتَرِي بِتِلْكَ الْقِيمَة هَدْيًا إِنْ شَاءَ , أَوْ يَشْتَرِي بِهَا طَعَامًا وَيُطْعِم الْمَسَاكِين كُلّ مِسْكِين نِصْف صَاع مِنْ بُرّ , أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِير , أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْر , وَأَمَّا الشَّافِعِيّ فَإِنَّهُ يَرَى الْمِثْل مِنْ النَّعَم ثُمَّ يُقَوَّم الْمِثْل كَمَا فِي الْمُتْلَفَات يُقَوَّم الْمِثْل , وَتُؤْخَذ قِيمَة الْمِثْل كَقِيمَةِ الشَّيْء ; فَإِنَّ الْمِثْل هُوَ الْأَصْل فِي الْوُجُوب ; وَهَذَا بَيِّن وَعَلَيْهِ تُخَرَّج قِرَاءَة الْإِضَافَة | فَجَزَاء مِثْل | . اِحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَة فَقَالَ : لَوْ كَانَ الشَّبَه مِنْ طَرِيق الْخِلْقَة مُعْتَبَرًا , فِي النَّعَامَة بَدَنَة , وَفِي الْحِمَار بَقَرَة , وَفِي الظَّبْي شَاة , لَمَا أَوْقَفَهُ عَلَى عَدْلَيْنِ يَحْكُمَانِ بِهِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ عُلِمَ فَلَا يَحْتَاج إِلَى الِارْتِيَاء وَالنَّظَر ; وَإِنَّمَا يَفْتَقِر إِلَى الْعُدُول وَالنَّظَر مَا تُشْكِل الْحَال فِيهِ , وَيَضْطَرِب وَجْه النَّظَر عَلَيْهِ . وَدَلِيلنَا عَلَيْهِ قَوْل اللَّه تَعَالَى : | فَجَزَاء مِثْل مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَم | الْآيَة . فَالْمِثْل يَقْتَضِي بِظَاهِرَةِ الْمِثْل الْخِلْقِيّ الصُّورِيّ دُون الْمَعْنَى , ثُمَّ قَالَ : | مِنْ النَّعَم | فَبَيَّنَ جِنْس الْمِثْل ; ثُمَّ قَالَ : | يَحْكُم بِهِ ذَوَا عَدْل مِنْكُمْ | وَهَذَا ضَمِير رَاجِع إِلَى مِثْل مِنْ النَّعَم ; لِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّم ذِكْر لِسِوَاهُ يَرْجِع الضَّمِير عَلَيْهِ ; ثُمَّ قَالَ : | هَدْيًا بَالِغ الْكَعْبَة | وَاَلَّذِي يُتَصَوَّر فِيهِ الْهَدْي مِثْل الْمَقْتُول مِنْ النَّعَم , فَأَمَّا الْقِيمَة فَلَا يُتَصَوَّر أَنْ تَكُون هَدْيًا , وَلَا جَرَى لَهَا ذِكْر فِي نَفْس الْآيَة ; فَصَحَّ مَا ذَكَرْنَاهُ , وَالْحَمْد لِلَّهِ , وَقَوْلهمْ : لَوْ كَانَ الشَّبَه مُعْتَبَرًا لَمَا أَوْقَفَهُ عَلَى عَدْلَيْنِ ; فَالْجَوَاب أَنَّ اِعْتِبَار الْعَدْلَيْنِ إِنَّمَا وَجَبَ لِلنَّظَرِ فِي حَال الصَّيْد مِنْ صِغَر وَكِبَر , وَمَا لَا جِنْس لَهُ مِمَّا لَهُ جِنْس , وَإِلْحَاق مَا لَمْ يَقَع عَلَيْهِ نَصّ بِمَا وَقَعَ عَلَيْهِ النَّصّ . الرَّابِعَة : مَنْ أَحْرَمَ مِنْ مَكَّة فَأَغْلَقَ بَاب بَيْته عَلَى فِرَاخ حَمَام فَمَاتَتْ فَعَلَيْهِ فِي كُلّ فَرْخ شَاة . قَالَ مَالِك : وَفِي صِغَار الصَّيْد مِثْل مَا فِي كِبَاره ; وَهُوَ قَوْل عَطَاء , وَلَا يُفْدَى عِنْد مَالِك شَيْء بِعَنَاقٍ وَلَا جَفْرَة ; قَالَ مَالِك : وَذَلِكَ مِثْل الدِّيَة ; الصَّغِير وَالْكَبِير فِيهَا سَوَاء , وَفِي الضَّبّ عِنْده وَالْيَرْبُوع قِيمَتهمَا طَعَامًا , وَمِنْ أَهْل الْمَدِينَة مَنْ يُخَالِفهُ فِي صِغَار الصَّيْد , وَفِي اِعْتِبَار الْجَذَع وَالثَّنِيّ , وَيَقُول بِقَوْلِ عُمَر : فِي الْأَرْنَب عَنَاق وَفِي الْيَرْبُوع جَفْرَة ; رَوَاهُ مَالِك مَوْقُوفًا , وَرَوَى أَبُو الزُّبَيْر عَنْ جَابِر عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( فِي الضَّبْع إِذَا أَصَابَهُ الْمُحْرِم كَبْش وَفِي الظَّبْي شَاة وَفِي الْأَرْنَب عَنَاق وَفِي الْيَرْبُوع جَفْرَة ) قَالَ : وَالْجَفْرَة الَّتِي قَدْ ارْتَعَتْ , وَفِي طَرِيق آخَر قُلْت لِأَبِي الزُّبَيْر : وَمَا الْجَفْرَة ؟ قَالَ : الَّتِي قَدْ فُطِمَتْ وَرَعَتْ . خَرَّجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ , وَقَالَ الشَّافِعِيّ : فِي النَّعَامَة بَدَنَة , وَفِي فَرْخهَا فَصِيل , وَفِي حِمَار الْوَحْش بَقَرَة , وَفِي سَخْلَة عِجْل ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى حَكَمَ بِالْمِثْلِيَّةِ فِي الْخِلْقَة , وَالصِّغَر وَالْكِبَر مُتَفَاوِتَانِ فَيَجِب اِعْتِبَار الصَّغِير فِيهِ وَالْكَبِير كَسَائِرِ الْمُتْلَفَات . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهَذَا صَحِيح وَهُوَ اِخْتِيَار عُلَمَائِنَا ; قَالُوا : وَلَوْ كَانَ الصَّيْد أَعْوَر أَوْ أَعْرَج أَوْ كَسِيرًا لَكَانَ الْمِثْل عَلَى صِفَته لِتَتَحَقَّق الْمِثْلِيَّة , فَلَا يَلْزَم الْمُتْلِف فَوْق مَا أَتْلَفَ , وَدَلِيلنَا قَوْله تَعَالَى : | فَجَزَاء مِثْل مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَم | وَلَمْ يُفْصَل بَيْن صَغِير وَكَبِير , وَقَوْله : | هَدْيًا | يَقْتَضِي مَا يَتَنَاوَلهُ اِسْم الْهَدْي لِحَقِّ الْإِطْلَاق , وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْهَدْي التَّامّ , وَاللَّه أَعْلَمُ .</p><p>الْخَامِسَة : فِي بَيْض النَّعَامَة عُشْر ثَمَن الْبَدَنَة عِنْد مَالِك , وَفِي بَيْض الْحَمَامَة الْمَكِّيَّة عِنْده عُشْر ثَمَن الشَّاة . قَالَ اِبْن الْقَاسِم : وَسَوَاء كَانَ فِيهَا فَرْخ أَوْ لَمْ يَكُنْ مَا لَمْ يَسْتَهِلّ الْفَرْخ بَعْد الْكَسْر ; فَإِنْ اِسْتَهَلَّ فَعَلَيْهِ الْجَزَاء كَامِلًا كَجَزَاءِ الْكَبِير مِنْ ذَلِكَ الطَّيْر . قَالَ اِبْن الْمَوَّاز : بِحُكُومَةِ عَدْلَيْنِ , وَأَكْثَر الْعُلَمَاء يَرَوْنَ فِي بَيْض كُلّ طَائِر الْقِيمَة . رَوَى عِكْرِمَة عَنْ اِبْن عَبَّاس عَنْ كَعْب بْن عُجْرَة أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي بَيْض نَعَام أَصَابَهُ مُحْرِم بِقَدْرِ ثَمَنه ; خَرَّجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ , وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( فِي كُلّ بَيْضَة نَعَام صِيَام يَوْم أَوْ إِطْعَام مِسْكِين ) . السَّادِسَة : وَأَمَّا مَا لَا مِثْل لَهُ كَالْعَصَافِيرِ وَالْفِيَلَة فَقِيمَة لَحْمه أَوْ عَدْله مِنْ الطَّعَام , دُون مَا يُرَاد لَهُ مِنْ الْأَغْرَاض ; لِأَنَّ الْمُرَاعَى فِيمَا لَهُ مِثْل وُجُوب مِثْله , فَإِنْ عُدِمَ الْمِثْل فَالْقِيمَة قَائِمَة مَقَامه كَالْغَصْبِ وَغَيْره , وَلِأَنَّ النَّاس قَائِلَانِ - أَيْ عَلَى مَذْهَبَيْنِ - مُعْتَبِر لِلْقِيمَةِ فِي جَمِيع الصَّيْد ; وَمُقْتَصِر بِهَا عَلَى مَا لَا مِثْل لَهُ مِنْ النَّعَم ; فَقَدْ تَضَمَّنَ ذَلِكَ الْإِجْمَاع عَلَى اِعْتِبَار الْقِيمَة فِيمَا لَا مِثْل لَهُ , وَأَمَّا الْفِيل فَقِيلَ : فِيهِ بَدَنَة مِنْ الْهِجَان الْعِظَام الَّتِي لَهَا سَنَامَانِ ; وَهِيَ بِيض خُرَاسَانِيَّة , فَإِذَا لَمْ يُوجَد شَيْء مِنْ هَذِهِ الْإِبِل فَيُنْظَر إِلَى قِيمَته طَعَامًا , فَيَكُون عَلَيْهِ ذَلِكَ , وَالْعَمَل فِيهِ أَنْ يُجْعَل الْفِيل فِي مَرْكَب , وَيُنْظَر إِلَى مُنْتَهَى مَا يَنْزِل الْمَرْكَب فِي الْمَاء , ثُمَّ يُخْرَج الْفِيل وَيُجْعَل فِي الْمَرْكَب طَعَام حَتَّى يَنْزِل إِلَى الْحَدّ الَّذِي نَزَلَ وَالْفِيل فِيهِ , وَهَذَا عَدْله مِنْ الطَّعَام , وَأَمَّا أَنْ يُنْظَر إِلَى قِيمَته فَهُوَ يَكُون لَهُ ثَمَن عَظِيم لِأَجْلِ عِظَامه وَأَنْيَابه فَيَكْثُر الطَّعَام وَذَلِكَ ضَرَر .|النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ|فِيهِ سَبْع مَسَائِل : </subtitle>الْأُولَى : رَوَى مَالِك عَنْ عَبْد الْمَلِك بْن قُرَيْب عَنْ مُحَمَّد بْن سِيرِينَ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى عُمَر بْن الْخَطَّاب فَقَالَ : إِنِّي أَجْرَيْت أَنَا وَصَاحِب لِي فَرَسَيْنِ نَسْتَبِق إِلَى ثَغْرَة ثَنِيَّة , فَأَصَبْنَا ظَبْيًا وَنَحْنُ مُحْرِمَانِ فَمَاذَا تَرَى ؟ فَقَالَ عُمَر لِرَجُلٍ إِلَى جَنْبه : تَعَالَ حَتَّى أَحْكُم أَنَا وَأَنْتَ ; فَحَكَمَا عَلَيْهِ بِعَنْزٍ ; فَوَلَّى الرَّجُل وَهُوَ يَقُول : هَذَا أَمِير الْمُؤْمِنِينَ لَا يَسْتَطِيع أَنْ يَحْكُم فِي ظَبْي حَتَّى دَعَا رَجُلًا يَحْكُم مَعَهُ , فَسَمِعَ عُمَر بْن الْخَطَّاب قَوْل الرَّجُل فَدَعَاهُ فَسَأَلَهُ , هَلْ تَقْرَأ سُورَة | الْمَائِدَة | ؟ فَقَالَ : لَا ; قَالَ : هَلْ تَعْرِف الرَّجُل الَّذِي حَكَمَ مَعِي ؟ فَقَالَ : لَا , فَقَالَ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : لَوْ أَخْبَرْتنِي أَنَّك تَقْرَأ سُورَة | الْمَائِدَة | لَأَوْجَعْتُك ضَرْبًا , ثُمَّ قَالَ : إِنَّ اللَّه سُبْحَانه يَقُول فِي كِتَابه : | يَحْكُم بِهِ ذَوَا عَدْل مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغ الْكَعْبَة | وَهَذَا عَبْد الرَّحْمَن بْن عَوْف . الثَّانِيَة : إِذَا اِتَّفَقَ الْحَكَمَانِ لَزِمَ الْحُكْم ; وَبِهِ قَالَ الْحَسَن وَالشَّافِعِيّ , وَإِنْ اِخْتَلَفَا نُظِرَ فِي غَيْرهمَا , وَقَالَ مُحَمَّد بْن الْمَوَّاز : لَا يَأْخُذ بِأَرْفَع مِنْ قَوْلَيْهِمَا ; لِأَنَّهُ عَمَل بِغَيْرِ تَحْكِيم , وَكَذَلِكَ لَا يَنْتَقِل عَنْ الْمِثْل الْخِلْقِيّ إِذَا حَكَمَا بِهِ إِلَى الطَّعَام ; لِأَنَّهُ أَمْر قَدْ لَزِمَ ; قَالَهُ اِبْن شَعْبَان , وَقَالَ اِبْن الْقَاسِم : إِنْ أَمَرَهُمَا أَنْ يَحْكُمَا بِالْجَزَاءِ مِنْ الْمِثْل فَفَعَلَا , فَأَرَادَ أَنْ يَنْتَقِل إِلَى الطَّعَام جَازَ , وَقَالَ اِبْن وَهْب رَحِمَهُ اللَّه فِي ( الْعُتْبِيَّة ) : مِنْ السُّنَّة أَنْ يُخَيِّر الْحَكَمَانِ مَنْ أَصَابَ الصَّيْد , كَمَا خَيَّرَهُ اللَّه فِي أَنْ يُخْرِج | هَدْيًا بَالِغ الْكَعْبَة أَوْ كَفَّارَة طَعَام مَسَاكِين أَوْ عَدْل ذَلِكَ صِيَامًا | فَإِنْ اِخْتَارَ الْهَدْي حَكَمَا عَلَيْهِ بِمَا يَرَيَانِهِ نَظِيرًا لِمَا أَصَابَ مَا بَيْنهمَا وَبَيْن أَنْ يَكُون عَدْل ذَلِكَ شَاة لِأَنَّهَا أَدْنَى الْهَدْي ; وَمَا لَمْ يَبْلُغ شَاة حَكَمَا فِيهِ بِالطَّعَامِ ثُمَّ خُيِّرَ فِي أَنْ يُطْعِمَهُ , أَوْ يَصُوم مَكَان كُلّ مُدّ يَوْمًا ; وَكَذَلِكَ قَالَ مَالِك فِي ( الْمُدَوَّنَة ) .</p><p>الثَّالِثَة : وَيُسْتَأْنَف الْحُكْم فِي كُلّ مَا مَضَتْ فِيهِ حُكُومَة أَوْ لَمْ تَمْضِ , وَلَوْ اِجْتَزَأَ بِحُكُومَةِ الصَّحَابَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ فِيمَا حَكَمُوا بِهِ مِنْ جَزَاء الصَّيْد كَانَ حَسَنًا , وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِك أَنَّهُ مَا عَدَا حَمَام مَكَّة وَحِمَار الْوَحْش وَالظَّبْي وَالنَّعَامَة لَا بُدّ فِيهِ مِنْ الْحُكُومَة , وَيُجْتَزَأ فِي هَذِهِ الْأَرْبَعَة بِحُكُومَةِ مَنْ مَضَى مِنْ السَّلَف رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ . الرَّابِعَة : لَا يَجُوز أَنْ يَكُون الْجَانِي أَحَد الْحَكَمَيْنِ , وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَة , وَقَالَ الشَّافِعِيّ فِي أَحَد قَوْلَيْهِ : يَكُون الْجَانِي أَحَد الْحَكَمَيْنِ ; وَهَذَا تَسَامُح مِنْهُ ; فَإِنَّ ظَاهِر الْآيَة يَقْتَضِي جَانِيًا وَحَكَمَيْنِ فَحَذْف بَعْض الْعَدَد إِسْقَاط لِلظَّاهِرِ , وَإِفْسَاد لِلْمَعْنَى ; لِأَنَّ حُكْم الْمَرْء لِنَفْسِهِ لَا يَجُوز , وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا لَاسْتَغْنَى بِنَفْسِهِ عَنْ غَيْره ; لِأَنَّهُ حُكْم بَيْنه وَبَيْن اللَّه تَعَالَى فَزِيَادَة ثَانٍ إِلَيْهِ دَلِيل عَلَى اِسْتِئْنَاف الْحُكْم بِرَجُلَيْنِ . الْخَامِسَة : إِذَا اِشْتَرَكَ جَمَاعَة مُحْرِمُونَ فِي قَتْل صَيْد فَقَالَ مَالِك وَأَبُو حَنِيفَة : عَلَى كُلّ وَاحِد جَزَاء كَامِل . وَقَالَ الشَّافِعِيّ : عَلَيْهِمْ كُلّهمْ كَفَّارَة وَاحِدَة لِقَضَاءِ عُمَر وَعَبْد الرَّحْمَن , وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ أَنَّ مَوَالِيَ لِابْنِ الزُّبَيْر أَحْرَمُوا إِذْ مَرَّتْ بِهِمْ ضَبْع فَحَذَفُوهَا بِعِصِيِّهِمْ فَأَصَابُوهَا , فَوَقَعَ فِي أَنْفُسهمْ , فَأَتَوْا اِبْن عُمَر فَذَكَرُوا لَهُ فَقَالَ : عَلَيْكُمْ كُلّكُمْ كَبْش ; قَالُوا : أَوْ عَلَى كُلّ وَاحِد مِنَّا كَبْش ; قَالَ : إِنَّكُمْ لَمُعَزَّز بِكُمْ , عَلَيْكُمْ كُلّكُمْ كَبْش . قَالَ اللُّغَوِيُّونَ : لَمُعَزَّز بِكُمْ أَيْ لَمُشَدَّد عَلَيْكُمْ , وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس فِي قَوْم أَصَابُوا ضَبْعًا قَالَ : عَلَيْهِمْ كَبْش يَتَخَارَجُونَهُ بَيْنهمْ , وَدَلِيلنَا قَوْل اللَّه سُبْحَانه : | وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاء مِثْل مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَم | وَهَذَا خِطَاب لِكُلِّ قَاتِل , وَكُلّ وَاحِد مِنْ الْقَاتِلِينَ لِلصَّيْدِ قَاتِل نَفْسًا عَلَى التَّمَام وَالْكَمَال , بِدَلِيلِ قَتْل الْجَمَاعَة بِالْوَاحِدِ , وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ الْقِصَاص , وَقَدْ قُلْنَا بِوُجُوبِهِ إِجْمَاعًا مِنَّا وَمِنْهُمْ ; فَثَبَتَ مَا قُلْنَاهُ . السَّادِسَة : قَالَ أَبُو حَنِيفَة : إِذَا قَتَلَ جَمَاعَة صَيْدًا فِي الْحَرَم وَكُلّهمْ مُحِلُّونَ , عَلَيْهِمْ جَزَاء وَاحِد , بِخِلَافِ مَا لَوْ قَتَلَهُ الْمُحْرِمُونَ فِي الْحِلّ وَالْحَرَم ; فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَخْتَلِف , وَقَالَ مَالِك : عَلَى كُلّ وَاحِد مِنْهُمْ جَزَاء كَامِل , بِنَاء عَلَى أَنَّ الرَّجُل يَكُون مُحْرِمًا بِدُخُولِهِ الْحَرَم , كَمَا يَكُون مُحْرِمًا بِتَلْبِيَتِهِ بِالْإِحْرَامِ , وَكُلّ وَاحِد مِنْ الْفِعْلَيْنِ قَدْ أَكْسَبَهُ صِفَة تَعَلَّقَ بِهَا نَهْي , فَهُوَ هَاتِك لَهَا فِي الْحَالَتَيْنِ . السَّابِعَة : وَحُجَّة أَبِي حَنِيفَة مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو زَيْد الدَّبُوسِيّ قَالَ : السِّرّ فِيهِ أَنَّ الْجِنَايَة فِي الْإِحْرَام عَلَى الْعِبَادَة , وَقَدْ اِرْتَكَبَ كُلّ وَاحِد مِنْهُمْ مَحْظُور إِحْرَامه , وَإِذَا قَتَلَ الْمُحِلُّونَ صَيْدًا فِي الْحَرَم فَإِنَّمَا أَتْلَفُوا دَابَّة مُحَرَّمَة بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَتْلَفَ جَمَاعَة دَابَّة ; فَإِنَّ كُلّ وَاحِد مِنْهُمْ قَاتِل دَابَّة , وَيَشْتَرِكُونَ فِي الْقِيمَة . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَأَبُو حَنِيفَة أَقْوَى مِنَّا , وَهَذَا الدَّلِيل يَسْتَهِين بِهِ عُلَمَاؤُنَا وَهُوَ عَسِير الِانْفِصَال عَلَيْنَا .|مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ|الْمَعْنَى أَنَّهُمَا إِذَا حَكَمَا بِالْهَدْيِ فَإِنَّهُ يُفْعَل بِهِ مَا يُفْعَل بِالْهَدْيِ مِنْ الْإِشْعَار وَالتَّقْلِيد , وَيُرْسَل مِنْ الْحِلّ إِلَى مَكَّة , وَيُنْحَر وَيُتَصَدَّق بِهِ فِيهَا ; لِقَوْلِهِ : | هَدْيًا بَالِغ الْكَعْبَة | وَلَمْ يُرِدْ الْكَعْبَة بِعَيْنِهَا فَإِنَّ الْهَدْي لَا يَبْلُغهَا , إِذْ هِيَ فِي الْمَسْجِد , وَإِنَّمَا أَرَادَ الْحَرَم وَلَا خِلَاف فِي هَذَا , وَقَالَ الشَّافِعِيّ : لَا يَحْتَاج الْهَدْي إِلَى الْحِلّ بِنَاء عَلَى أَنَّ الصَّغِير مِنْ الْهَدْي يَجِب فِي الصَّغِير مِنْ الصَّيْد , فَإِنَّهُ يُبْتَاع فِي الْحَرَم وَيُهْدَى فِيهِ .|الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ|الْكَفَّارَة إِنَّمَا هِيَ عَنْ الصَّيْد لَا عَنْ الْهَدْي . قَالَ اِبْن وَهْب قَالَ مَالِك : أَحْسَن مَا سَمِعْت فِي الَّذِي يَقْتُل الصَّيْد فَيُحْكَم عَلَيْهِ فِيهِ , أَنَّهُ يُقَوِّم الصَّيْد الَّذِي أَصَابَ , فَيَنْظُر كَمْ ثَمَنه مِنْ الطَّعَام , فَيُطْعِم لِكُلِّ مِسْكِين مُدًّا , أَوْ يَصُوم مَكَان كُلّ مُدّ يَوْمًا , وَقَالَ اِبْن الْقَاسِم عَنْهُ : إِنْ قَوَّمَ الصَّيْد دَرَاهِم ثُمَّ قَوَّمَهَا طَعَامًا أَجْزَأَهُ ; وَالصَّوَاب الْأَوَّل , وَقَالَ عَبْد اللَّه بْن عَبْد الْحَكَم مِثْله قَالَ عَنْهُ : وَهُوَ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَة بِالْخِيَارِ ; أَيَّ ذَلِكَ فَعَلَ أَجْزَأَهُ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا , وَبِهِ قَالَ عَطَاء وَجُمْهُور الْفُقَهَاء ; لِأَنَّ | أَوْ | لِلتَّخْيِيرِ قَالَ مَالِك : كُلّ شَيْء فِي كِتَاب اللَّه فِي الْكَفَّارَات كَذَا أَوْ كَذَا فَصَاحِبه مُخَيَّر فِي ذَلِكَ أَيّ ذَلِكَ أَحَبَّ أَنْ يَفْعَل فَعَلَ , وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ قَالَ : إِذَا قَتَلَ الْمُحْرِم ظَبْيًا أَوْ نَحْوه فَعَلَيْهِ شَاة تُذْبَح بِمَكَّة ; فَإِنْ لَمْ يَجِد فَإِطْعَام سِتَّة مَسَاكِين , فَإِنْ لَمْ يَجِد فَعَلَيْهِ صِيَام ثَلَاثَة أَيَّام ; وَإِنْ قَتَلَ إِيَّلًا أَوْ نَحْوه فَعَلَيْهِ بَقَرَة , فَإِنْ لَمْ يَجِد أَطْعَمَ عِشْرِينَ مِسْكِينًا , فَإِنْ لَمْ يَجِد صَامَ عِشْرِينَ يَوْمًا ; وَإِنْ قَتَلَ نَعَامَة أَوْ حِمَارًا فَعَلَيْهِ بَدَنَة , فَإِنْ لَمْ يَجِد فَإِطْعَام ثَلَاثِينَ مِسْكِينًا , فَإِنْ لَمْ يَجِد فَصِيَام ثَلَاثِينَ يَوْمًا , وَالطَّعَام مُدّ مُدّ لِشِبَعِهِمْ . وَقَالَ إِبْرَاهِيم النَّخَعِيّ وَحَمَّاد بْن سَلَمَة , قَالُوا : وَالْمَعْنَى | أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامٌ | إِنْ لَمْ يَجِد الْهَدْي , وَحَكَى الطَّبَرِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ قَالَ : إِذَا أَصَابَ الْمُحْرِم الصَّيْد حُكِمَ عَلَيْهِ بِجَزَائِهِ , فَإِنْ وَجَدَ جَزَاءَهُ ذَبَحَهُ وَتَصَدَّقَ بِهِ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْده جَزَاؤُهُ قُوِّمَ جَزَاؤُهُ بِدَرَاهِم , ثُمَّ قُوِّمَتْ الدَّرَاهِم حِنْطَة , ثُمَّ صَامَ مَكَان كُلّ نِصْف صَاع يَوْمًا ; وَقَالَ : إِنَّمَا أُرِيدَ بِالطَّعَامِ تَبْيِين أَمْر الصِّيَام , فَمَنْ لَمْ يَجِد طَعَامًا , فَإِنَّهُ يَجِد جَزَاءَهُ , وَأَسْنَدَهُ أَيْضًا عَنْ السُّدِّيّ , وَيُعْتَرَض هَذَا الْقَوْل بِظَاهِرِ الْآيَة فَإِنَّهُ يُنَافِرهُ . اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْوَقْت الَّذِي يُعْتَبَر فِيهِ الْمُتْلَف ; فَقَالَ قَوْم : يَوْم الْإِتْلَاف , وَقَالَ آخَرُونَ : يَوْم الْقَضَاء , وَقَالَ آخَرُونَ : يَلْزَم الْمُتْلِف أَكْثَر الْقِيمَتَيْنِ , مِنْ يَوْم الْإِتْلَاف إِلَى يَوْم الْحُكْم . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَاخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا كَاخْتِلَافِهِمْ , وَالصَّحِيح أَنَّهُ تَلْزَمهُ الْقِيمَة يَوْم الْإِتْلَاف ; وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْوُجُود كَانَ حَقًّا لِلْمُتْلَفِ عَلَيْهِ , فَإِذَا أَعْدَمَهُ الْمُتْلِف لَزِمَهُ إِيجَاده بِمِثْلِهِ , وَذَلِكَ فِي وَقْت الْعَدَم . أَمَّا الْهَدْي فَلَا خِلَاف أَنَّهُ لَا بُدّ لَهُ مِنْ مَكَّة ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى : | هَدْيًا بَالِغ الْكَعْبَة | , وَأَمَّا الْإِطْعَام فَاخْتَلَفَ فِيهِ قَوْل مَالِك هَلْ يَكُون بِمَكَّة أَوْ بِمَوْضِعِ الْإِصَابَة ;

أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ

هَذَا حُكْم بِتَحْلِيلِ صَيْد الْبَحْر , وَهُوَ كُلّ مَا صِيدَ مِنْ حِيتَانه وَالصَّيْد هُنَا يُرَاد بِهِ الْمَصِيد , وَأُضِيفَ إِلَى الْبَحْر لَمَّا كَانَ مِنْهُ بِسَبَبٍ , وَقَدْ مَضَى الْقَوْل فِي الْبَحْر فِي | الْبَقَرَة | وَالْحَمْد لِلَّهِ . و | مَتَاعًا | نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَر أَيْ مُتِّعْتُمْ بِهِ مَتَاعًا .|وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ|الطَّعَام لَفْظ مُشْتَرَك يُطْلَق عَلَى كُلّ مَا يُطْعَم , وَيُطْلَق عَلَى مَطْعُوم خَاصّ كَالْمَاءِ وَحْده , وَالْبُرّ وَحْده , وَالتَّمْر وَحْده , وَاللَّبَن وَحْده , وَقَدْ يُطْلَق عَلَى النَّوْم كَمَا تَقَدَّمَ ; وَهُوَ هُنَا عِبَارَة عَمَّا قَذَفَ بِهِ الْبَحْر وَطَفَا عَلَيْهِ ; أَسْنَدَ الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس فِي قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : | أُحِلَّ لَكُمْ صَيْد الْبَحْر وَطَعَامه مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ | الْآيَة صَيْده مَا صِيدَ وَطَعَامه مَا لَفَظَ الْبَحْر , وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة مِثْله ; وَهُوَ قَوْل جَمَاعَة كَثِيرَة مِنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ , وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس مَيْتَته وَهُوَ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى , وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : طَعَامه مَا مُلِّحَ مِنْهُ وَبَقِيَ ; وَقَالَهُ مَعَهُ جَمَاعَة , وَقَالَ قَوْم : طَعَامه مِلْحه الَّذِي يَنْعَقِد مِنْ مَائِهِ وَسَائِر مَا فِيهِ مِنْ نَبَات وَغَيْره . قَالَ أَبُو حَنِيفَة : لَا يُؤْكَل السَّمَك الطَّافِي وَيُؤْكَل مَا سِوَاهُ مِنْ السَّمَك , وَلَا يُؤْكَل شَيْء مِنْ حَيَوَان الْبَحْر إِلَّا السَّمَك وَهُوَ قَوْل الثَّوْرِيّ فِي رِوَايَة أَبِي إِسْحَاق الْفَزَارِيّ عَنْهُ , وَكَرِهَ الْحَسَن أَكْل الطَّافِي مِنْ السَّمَك . وَرُوِيَ عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ كَرِهَهُ , وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ كَرِهَ أَكْل الْجِرِّيّ وَرُوِيَ عَنْهُ أَكْل ذَلِكَ كُلّه وَهُوَ أَصَحّ ; ذَكَرَهُ عَبْد الرَّزَّاق عَنْ الثَّوْرِيّ عَنْ جَعْفَر بْن مُحَمَّد عَنْ عَلِيّ قَالَ : الْجَرَاد وَالْحِيتَان ذَكِيّ ; فَعَلِيّ مُخْتَلَف عَنْهُ فِي أَكْل الطَّافِي مِنْ السَّمَك وَلَمْ يُخْتَلَف عَنْ جَابِر أَنَّهُ كَرِهَهُ , وَهُوَ قَوْل طَاوُس وَمُحَمَّد بْن سِيرِينَ وَجَابِر بْن زَيْد , وَاحْتَجُّوا بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى : | حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَة | [ الْمَائِدَة : 3 ] , وَبِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالدَّارَقُطْنِيّ عَنْ جَابِر بْن عَبْد اللَّه عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( كُلُوا مَا حَسَرَ عَنْهُ الْبَحْر وَمَا أَلْقَاهُ وَمَا وَجَدْتُمُوهُ مَيِّتًا أَوْ طَافِيًا فَوْق الْمَاء فَلَا تَأْكُلُوهُ ) . قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ : تَفَرَّدَ بِهِ عَبْد الْعَزِيز بْن عُبَيْد اللَّه عَنْ وَهْب بْن كَيْسَان عَنْ جَابِر , وَعَبْد الْعَزِيز ضَعِيف لَا يُحْتَجّ بِهِ . وَرَوَى سُفْيَان الثَّوْرِيّ عَنْ أَبِي الزُّبَيْر عَنْ جَابِر عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوه ; قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ : لَمْ يُسْنِدهُ عَنْ الثَّوْرِيّ غَيْر أَبِي أَحْمَد الزُّبَيْرِيّ وَخَالَفَهُ وَكِيع وَالْعَدَنِيَّانِ , وَعَبْد الرَّزَّاق وَمُؤَمَّل وَأَبُو عَاصِم وَغَيْرهمْ ; رَوَوْهُ عَنْ الثَّوْرِيّ مَوْقُوفًا وَهُوَ الصَّوَاب , وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَيُّوب السِّخْتِيَانِيّ , وَعُبَيْد اللَّه بْن عُمَر وَابْن جُرَيْج , وَزُهَيْر وَحَمَّاد بْن سَلَمَة وَغَيْرهمْ عَنْ أَبِي الزُّبَيْر مَوْقُوفًا قَالَ أَبُو دَاوُد : وَقَدْ أُسْنِدَ هَذَا الْحَدِيث مِنْ وَجْه ضَعِيف عَنْ اِبْن أَبِي ذِئْب عَنْ أَبِي الزُّبَيْر عَنْ جَابِر عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ : وَرُوِيَ عَنْ إِسْمَاعِيل بْن أُمَيَّة وَابْن أَبِي ذِئْب عَنْ أَبِي الزُّبَيْر مَرْفُوعًا , وَلَا يَصِحّ رَفْعه , رَفَعَهُ يَحْيَى بْن سُلَيْم عَنْ إِسْمَاعِيل بْن أُمَيَّة وَوَقَفَهُ غَيْره , وَقَالَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَابْن أَبِي لَيْلَى وَالْأَوْزَاعِيّ وَالثَّوْرِيّ فِي رِوَايَة الْأَشْجَعِيّ : يُؤْكَل كُلّ مَا فِي الْبَحْر مِنْ السَّمَك وَالدَّوَابّ , وَسَائِر مَا فِي الْبَحْر مِنْ الْحَيَوَان , وَسَوَاء اصْطِيدَ أَوْ وُجِدَ مَيِّتًا , وَاحْتَجَّ مَالِك وَمَنْ تَابَعَهُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فِي الْبَحْر : ( هُوَ الطَّهُور مَاؤُهُ الْحِلّ مَيْتَته ) وَأَصَحّ مَا فِي هَذَا الْبَاب مِنْ جِهَة الْإِسْنَاد حَدِيث جَابِر فِي الْحُوت الَّذِي يُقَال لَهُ : ( الْعَنْبَر ) وَهُوَ مِنْ أَثْبَت الْأَحَادِيث خَرَّجَهُ الصَّحِيحَانِ , وَفِيهِ : فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَة أَتَيْنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ : ( هُوَ رِزْق أَخْرَجَهُ اللَّه لَكُمْ فَهَلْ مَعَكُمْ مِنْ لَحْمه شَيْء فَتُطْعِمُونَا ) فَأَرْسَلْنَا إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ فَأَكَلَهُ ; لَفْظ مُسْلِم وَأَسْنَدَ الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ قَالَ أَشْهَد عَلَى أَبِي بَكْر أَنَّهُ قَالَ : السَّمَكَة الطَّافِيَة حَلَال لِمَنْ أَرَادَ أَكْلهَا , وَأَسْنَدَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ : أَشْهَد عَلَى أَبِي بَكْر أَنَّهُ أَكَلَ السَّمَك الطَّافِي عَلَى الْمَاء , وَأَسْنَدَ عَنْ أَبِي أَيُّوب أَنَّهُ رَكِبَ الْبَحْر فِي رَهْط مِنْ أَصْحَابه , فَوَجَدُوا سَمَكَة طَافِيَة عَلَى الْمَاء فَسَأَلُوهُ عَنْهَا فَقَالَ : أَطَيِّبَة هِيَ لَمْ تَتَغَيَّر ؟ قَالُوا : نَعَمْ قَالَ : فَكُلُوهَا وَارْفَعُوا نَصِيبِي مِنْهَا ; وَكَانَ صَائِمًا , وَأَسْنَدَ عَنْ جَبَلَة بْن عَطِيَّة أَنَّ أَصْحَاب أَبِي طَلْحَة أَصَابُوا سَمَكَة طَافِيَة فَسَأَلُوا عَنْهَا أَبَا طَلْحَة فَقَالَ : أَهْدُوهَا إِلَيَّ , وَقَالَ عُمَر بْن الْخَطَّاب : الْحُوت ذَكِيّ وَالْجَرَاد ذَكِيّ كُلّه ; رَوَاهُ عَنْهُ الدَّارَقُطْنِيّ فَهَذِهِ الْآثَار تَرُدّ قَوْل مَنْ كَرِهَ ذَلِكَ وَتُخَصِّص عُمُوم الْآيَة , وَهُوَ حُجَّة لِلْجُمْهُورِ ; إِلَّا أَنَّ مَالِكًا كَانَ يَكْرَه خِنْزِير الْمَاء مِنْ جِهَة اِسْمه وَلَمْ يُحَرِّمهُ وَقَالَ : أَنْتُمْ تَقُولُونَ خِنْزِيرًا ! وَقَالَ الشَّافِعِيّ : لَا بَأْس بِخِنْزِيرِ الْمَاء وَقَالَ اللَّيْث : لَيْسَ بِمَيْتَةِ الْبَحْر بَأْس . قَالَ : وَكَذَلِكَ كَلْب الْمَاء وَفَرَس الْمَاء . قَالَ : وَلَا يُؤْكَل إِنْسَان الْمَاء وَلَا خِنْزِير الْمَاء . اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْحَيَوَان الَّذِي يَكُون فِي الْبَرّ وَالْبَحْر هَلْ يَحِلّ صَيْده لِلْمُحْرِمِ أَمْ لَا ؟ فَقَالَ مَالِك وَأَبُو مِجْلَز وَعَطَاء وَسَعِيد بْن جُبَيْر وَغَيْرهمْ : كُلّ مَا يَعِيش فِي الْبَرّ وَلَهُ فِيهِ حَيَاة فَهُوَ صَيْد الْبَرّ , إِنْ قَتَلَهُ الْمُحْرِم وَدَاهُ , وَزَادَ أَبُو مِجْلَز فِي ذَلِكَ الضَّفَادِع وَالسَّلَاحِف وَالسَّرَطَان . الضَّفَادِع وَأَجْنَاسهَا حَرَام عِنْد أَبِي حَنِيفَة وَلَا خِلَاف عَنْ الشَّافِعِيّ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوز أَكْل الضِّفْدَع , وَاخْتَلَفَ قَوْله فِيمَا لَهُ شَبَه فِي الْبَرّ مِمَّا لَا يُؤْكَل كَالْخِنْزِيرِ وَالْكَلْب وَغَيْر ذَلِكَ , وَالصَّحِيح أَكْل ذَلِكَ كُلّه ; لِأَنَّهُ نَصّ عَلَى الْخِنْزِير فِي جَوَاز أَكْله , وَهُوَ لَهُ شَبَه فِي الْبَرّ مِمَّا لَا يُؤْكَل , وَلَا يُؤْكَل عِنْده التِّمْسَاح وَلَا الْقِرْش وَالدُّلْفِين , وَكُلّ مَا لَهُ نَاب لِنَهْيِهِ عَلَيْهِ السَّلَام عَنْ أَكْل كُلّ ذِي نَاب . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَمِنْ هَذِهِ أَنْوَاع لَا زَوَال لَهَا مِنْ الْمَاء فَهِيَ لَا مَحَالَة مِنْ صَيْد الْبَحْر , وَعَلَى هَذَا خُرِّجَ جَوَاب مَالِك فِي الضَّفَادِع فِي | الْمُدَوَّنَة | فَإِنَّهُ قَالَ : الضَّفَادِع مِنْ صَيْد الْبَحْر , وَرُوِيَ عَنْ عَطَاء بْن أَبِي رَبَاح خِلَاف مَا ذَكَرْنَاهُ , وَهُوَ أَنَّهُ يُرَاعَى أَكْثَر عَيْش الْحَيَوَان ; سُئِلَ عَنْ اِبْن الْمَاء أَصَيْد بَرّ هُوَ أَمْ صَيْد بَحْر ؟ فَقَالَ : حَيْثُ يَكُون أَكْثَر فَهُوَ مِنْهُ , وَحَيْثُ يُفَرِّخ فَهُوَ مِنْهُ ; وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَة , وَالصَّوَاب فِي اِبْن الْمَاء أَنَّهُ صَيْد بَرّ يَرْعَى وَيَأْكُل الْحَبّ . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : الصَّحِيح فِي الْحَيَوَان الَّذِي يَكُون فِي الْبَرّ وَالْبَحْر مَنْعه ; لِأَنَّهُ تَعَارَضَ فِيهِ دَلِيلَانِ , دَلِيل تَحْلِيل وَدَلِيل تَحْرِيم , فَيُغَلَّب دَلِيل التَّحْرِيم اِحْتِيَاطًا , وَاللَّه أَعْلَمُ .|وَلِلسَّيَّارَةِ|فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدهمَا لِلْمُقِيمِ وَالْمُسَافِر كَمَا جَاءَ فِي حَدِيث أَبِي عُبَيْدَة أَنَّهُمْ أَكَلُوهُ وَهُمْ مُسَافِرُونَ وَأَكَلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُقِيم , فَبَيَّنَ اللَّه تَعَالَى أَنَّهُ حَلَال لِمَنْ أَقَامَ , كَمَا أَحَلَّهُ لِمَنْ سَافَرَ . الثَّانِي : أَنَّ السَّيَّارَة هُمْ الَّذِينَ يَرْكَبُونَهُ , كَمَا جَاءَ فِي حَدِيث مَالِك وَالنَّسَائِيّ : أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إِنَّا نَرْكَب الْبَحْر وَنَحْمِل مَعَنَا الْقَلِيل مِنْ الْمَاء , فَإِنْ تَوَضَّأْنَا بِهِ عَطِشْنَا أَفَنَتَوَضَّأ بِمَاءِ الْبَحْر ؟ فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( هُوَ الطَّهُور مَاؤُهُ الْحِلّ مَيْتَته ) قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ قَالَهُ عُلَمَاؤُنَا : فَلَوْ قَالَ لَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( نَعَمْ ) لَمَا جَازَ الْوُضُوء بِهِ إِلَّا عِنْد خَوْف الْعَطَش ; لِأَنَّ الْجَوَاب مُرْتَبِط بِالسُّؤَالِ , فَكَانَ يَكُون مُحَالًا عَلَيْهِ , وَلَكِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِبْتَدَأَ تَأْسِيس الْقَاعِدَة , وَبَيَان الشَّرْع فَقَالَ : ( هُوَ الطَّهُور مَاؤُهُ الْحِلّ مَيْتَته ) . قُلْت : وَكَانَ يَكُون الْجَوَاب مَقْصُورًا عَلَيْهِمْ لَا يَتَعَدَّى لِغَيْرِهِمْ , لَوْلَا مَا تَقَرَّرَ مِنْ حُكْم الشَّرِيعَة أَنَّ حُكْمه عَلَى الْوَاحِد حُكْمه عَلَى الْجَمِيع , إِلَّا مَا نُصَّ بِالتَّخْصِيصِ عَلَيْهِ , كَقَوْلِهِ لِأَبِي بُرْدَة فِي الْعَنَاق : ( ضَحِّ بِهَا وَلَنْ تُجْزِئ عَنْ أَحَد غَيْرك ) .|وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا|فِيهِ سَبْع مَسَائِل : </subtitle>الْأُولَى : التَّحْرِيم لَيْسَ صِفَة لِلْأَعْيَانِ , إِنَّمَا يَتَعَلَّق بِالْأَفْعَالِ فَمَعْنَى قَوْله : | وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْد الْبَرّ | أَيْ فِعْله الصَّيْد , وَهُوَ الْمَنْع مِنْ الِاصْطِيَاد , أَوْ يَكُون الصَّيْد بِمَعْنَى الْمَصِيد , عَلَى مَعْنَى تَسْمِيَة الْمَفْعُول بِالْفِعْلِ كَمَا تَقَدَّمَ , وَهُوَ الْأَظْهَر لِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوز لِلْمُحْرِمِ قَبُول صَيْد وُهِبَ لَهُ , وَلَا يَجُوز لَهُ شِرَاؤُهُ وَلَا اِصْطِيَاده وَلَا اِسْتِحْدَاث مِلْكه بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوه , وَلَا خِلَاف بَيْن عُلَمَاء الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ ; لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى : | وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْد الْبَرّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا | وَلِحَدِيثِ الصَّعْب بْن جَثَّامَة عَلَى مَا يَأْتِي . الثَّانِيَة : اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِيمَا يَأْكُلهُ الْمُحْرِم مِنْ الصَّيْد فَقَالَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَصْحَابهمَا وَأَحْمَد وَرُوِيَ عَنْ إِسْحَاق , وَهُوَ الصَّحِيح عَنْ عُثْمَان بْن عَفَّان : إِنَّهُ لَا بَأْس بِأَكْلِ الْمُحْرِم الصَّيْد إِذَا لَمْ يُصَدْ لَهُ , وَلَا مِنْ أَجْله , لِمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ عَنْ جَابِر أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( صَيْد الْبَرّ لَكُمْ حَلَال مَا لَمْ تَصِيدُوهُ أَوْ يُصَدْ لَكُمْ ) قَالَ أَبُو عِيسَى : هَذَا أَحْسَن حَدِيث فِي الْبَاب ; وَقَالَ النَّسَائِيّ : عَمْرو بْن أَبِي عَمْرو لَيْسَ بِالْقَوِيِّ فِي الْحَدِيث , وَإِنْ كَانَ قَدْ رَوَى عَنْهُ مَالِك . فَإِنْ أَكَلَ مِنْ صَيْد صِيدَ مِنْ أَجْله فَدَاهُ , وَبِهِ قَالَ الْحَسَن بْن صَالِح وَالْأَوْزَاعِيّ , وَاخْتَلَفَ قَوْل مَالِك فِيمَا صِيدَ لِمُحْرِمٍ بِعَيْنِهِ , وَالْمَشْهُور مِنْ مَذْهَبه عِنْد أَصْحَابه أَنَّ الْمُحْرِم لَا يَأْكُل مِمَّا صِيدَ لِمُحْرِمٍ مُعَيَّن أَوْ غَيْر مُعَيَّن وَلَمْ يَأْخُذ بِقَوْلِ عُثْمَان لِأَصْحَابِهِ حِين أُتِيَ بِلَحْمِ صَيْد وَهُوَ مُحْرِم : كُلُوا فَلَسْتُمْ مِثْلِي لِأَنَّهُ صِيدَ مِنْ أَجْلِي ; وَبِهِ قَالَتْ طَائِفَة مِنْ أَهْل الْمَدِينَة , وَرُوِيَ عَنْ مَالِك , وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه : أَكْل الصَّيْد لِلْمُحْرِمِ جَائِز عَلَى كُلّ حَال إِذَا اِصْطَادَهُ الْحَلَال , سَوَاء صِيدَ مِنْ أَجْله أَوْ لَمْ يُصَدْ لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى : | لَا تَقْتُلُوا الصَّيْد وَأَنْتُمْ حُرُم | فَحُرِّمَ صَيْده وَقَتْله عَلَى الْمُحْرِمِينَ , دُون مَا صَادَهُ غَيْرهمْ . وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ الْبَهْزِيّ - وَاسْمه زَيْد بْن كَعْب عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حِمَار الْوَحْش الْعَقِير أَنَّهُ أَمَرَ أَبَا بَكْر فَقَسَّمَهُ فِي الرِّفَاق , مِنْ حَدِيث مَالِك وَغَيْره . وَبِحَدِيثِ أَبِي قَتَادَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِيهِ ( إِنَّمَا هِيَ طُعْمَة أَطْعَمَكُمُوهَا اللَّه ) , وَهُوَ قَوْل عُمَر بْن الْخَطَّاب وَعُثْمَان بْن عَفَّان فِي رِوَايَة عَنْهُ , وَأَبِي هُرَيْرَة وَالزُّبَيْر بْن الْعَوَّام وَمُجَاهِد وَعَطَاء وَسَعِيد بْن جُبَيْر , وَرُوِيَ عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب وَابْن عَبَّاس وَابْن عُمَر أَنَّهُ لَا يَجُوز لِلْمُحْرِمِ أَكْل صَيْد عَلَى حَال مِنْ الْأَحْوَال , سَوَاء صِيدَ مِنْ أَجْله أَوْ لَمْ يُصَدْ ; لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى : | وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْد الْبَرّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا | . قَالَ اِبْن عَبَّاس : هِيَ مُبْهَمَة وَبِهِ قَالَ طَاوُس وَجَابِر بْن زَيْد أَبُو الشَّعْثَاء وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الثَّوْرِيّ وَبِهِ قَالَ إِسْحَاق . وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ الصَّعْب بْن جَثَّامَة اللَّيْثِيّ , أَنَّهُ أَهْدَى إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِمَارًا وَحْشِيًّا , وَهُوَ بِالْأَبْوَاءِ أَوْ بِوَدَّان فَرَدَّهُ عَلَيْهِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; قَالَ : فَلَمَّا أَنْ رَأَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا فِي وَجْهِي قَالَ : ( إِنَّا لَمْ نَرُدّهُ عَلَيْك إِلَّا أَنَّا حُرُم ) خَرَّجَهُ الْأَئِمَّة وَاللَّفْظ لِمَالِكٍ . قَالَ أَبُو عُمَر : وَرَوَى اِبْن عَبَّاس مِنْ حَدِيث سَعِيد بْن جُبَيْر وَمِقْسَم وَعَطَاء وَطَاوُس عَنْهُ , أَنَّ الصَّعْب بْن جَثَّامَة أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَحْم حِمَار وَحْش ; وَقَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر فِي حَدِيثه : عَجُز حِمَار وَحْش فَرَدَّهُ يَقْطُر دَمًا كَأَنَّهُ صِيدَ فِي ذَلِكَ الْوَقْت ; وَقَالَ مِقْسَم فِي حَدِيثه رِجْل حِمَار وَحْش . وَقَالَ عَطَاء فِي حَدِيثه : أَهْدَى لَهُ عَضُد صَيْد فَلَمْ يَقْبَلهُ وَقَالَ : ( إِنَّا حُرُم ) وَقَالَ طَاوُس فِي حَدِيثه : عَضُدًا مِنْ لَحْم صَيْد ; حَدَّثَ بِهِ إِسْمَاعِيل عَنْ عَلِيّ بْن الْمَدِينِيّ , عَنْ يَحْيَى بْن سَعِيد عَنْ ابْن جُرَيْج , عَنْ الْحَسَن بْن مُسْلِم , عَنْ طَاوُس , عَنْ اِبْن عَبَّاس , إِلَّا أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلهُ عَنْ اِبْن عَبَّاس عَنْ زَيْد بْن أَرْقَم . قَالَ إِسْمَاعِيل : سَمِعْت سُلَيْمَان بْن حَرْب يَتَأَوَّل هَذَا الْحَدِيث عَلَى أَنَّهُ صِيدَ مِنْ أَجْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ أَكْله جَائِزًا ; قَالَ سُلَيْمَان : وَمِمَّا يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ صِيدَ مِنْ أَجْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلهمْ فِي الْحَدِيث : فَرَدَّهُ يَقْطُر دَمًا كَأَنَّهُ صِيدَ فِي ذَلِكَ الْوَقْت . قَالَ إِسْمَاعِيل : إِنَّمَا تَأَوَّلَ سُلَيْمَان هَذَا الْحَدِيث لِأَنَّهُ يَحْتَاج إِلَى تَأْوِيل ; فَأَمَّا رِوَايَة مَالِك فَلَا تَحْتَاج إِلَى التَّأْوِيل ; لِأَنَّ الْمُحْرِم لَا يَجُوز لَهُ أَنْ يُمْسِك صَيْدًا حَيًّا وَلَا يُذَكِّيه ; قَالَ إِسْمَاعِيل : وَعَلَى تَأْوِيل سُلَيْمَان بْن حَرْب تَكُون الْأَحَادِيث الْمَرْفُوعَة كُلّهَا غَيْر مُخْتَلِفَة فِيهَا إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . الثَّالِثَة : إِذَا أَحْرَمَ وَبِيَدِهِ صَيْد أَوْ فِي بَيْته عِنْد أَهْله فَقَالَ مَالِك : إِنْ كَانَ فِي يَده فَعَلَيْهِ إِرْسَاله , وَإِنْ كَانَ فِي أَهْله فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِرْسَاله , وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَة وَأَحْمَد بْن حَنْبَل , وَقَالَ الشَّافِعِيّ فِي أَحَد قَوْلَيْهِ : سَوَاء كَانَ فِي يَده أَوْ فِي بَيْته لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُرْسِلهُ , وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْر , وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِد وَعَبْد اللَّه بْن الْحَارِث مِثْله وَرُوِيَ عَنْ مَالِك , وَقَالَ اِبْن أَبِي لَيْلَى وَالثَّوْرِيّ وَالشَّافِعِيّ فِي الْقَوْل الْآخَر : عَلَيْهِ أَنْ يُرْسِلهُ , سَوَاء كَانَ فِي بَيْته أَوْ فِي يَده فَإِنْ لَمْ يُرْسِلهُ ضَمِنَ , وَجْه الْقَوْل بِإِرْسَالِهِ قَوْله تَعَالَى : | وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْد الْبَرّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا | وَهَذَا عَامّ فِي الْمِلْك وَالتَّصَرُّف كُلّه , وَوَجْه الْقَوْل بِإِمْسَاكِهِ : أَنَّهُ مَعْنًى لَا يَمْنَع مِنْ اِبْتِدَاء الْإِحْرَام فَلَا يَمْنَع مِنْ اِسْتِدَامَة مِلْكه , أَصْله النِّكَاح . الرَّابِعَة : فَإِنْ صَادَهُ الْحَلَال فِي الْحِلّ فَأَدْخَلَهُ الْحَرَم جَازَ لَهُ التَّصَرُّف فِيهِ بِكُلِّ نَوْع مِنْ ذَبْحه , وَأَكْل لَحْمه , وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : لَا يَجُوز . وَدَلِيلنَا أَنَّهُ مَعْنًى يُفْعَل فِي الصَّيْد فَجَازَ فِي الْحَرَم لِلْحَلَالِ , كَالْإِمْسَاكِ وَالشِّرَاء وَلَا خِلَاف فِيهَا . الْخَامِسَة : إِذَا دَلَّ الْمُحْرِم حِلًّا عَلَى صَيْد فَقَتَلَهُ الْحَلَال اُخْتُلِفَ فِيهِ , فَقَالَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْر : لَا شَيْء عَلَيْهِ , وَهُوَ قَوْل اِبْن الْمَاجِشُون , وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَجَمَاعَة مِنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ : عَلَيْهِ الْجَزَاء ; لِأَنَّ الْمُحْرِم اِلْتَزَمَ بِإِحْرَامِهِ تَرْك التَّعَرُّض ; فَيَضْمَن بِالدَّلَالَةِ كَالْمُودَعِ إِذَا دَلَّ سَارِقًا عَلَى سَرِقَة . السَّادِسَة : وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُحْرِم إِذَا دَلَّ مُحْرِمًا آخَر ; فَذَهَبَ الْكُوفِيُّونَ وَأَشْهَب مِنْ أَصْحَابنَا إِلَى أَنَّ عَلَى كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا جَزَاء , وَقَالَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْر : الْجَزَاء عَلَى الْمُحْرِم الْقَاتِل ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى : | وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا | فَعَلَّقَ وُجُوب الْجَزَاء بِالْقَتْلِ , فَدَلَّ عَلَى اِنْتِفَائِهِ بِغَيْرِهِ ; وَلِأَنَّهُ دَالّ فَلَمْ يَلْزَمهُ بِدَلَالَتِهِ غُرْم كَمَا لَوْ دَلَّ الْحَلَال فِي الْحَرَم عَلَى صَيْد فِي الْحَرَم , وَتَعَلَّقَ الْكُوفِيُّونَ وَأَشْهَب بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام فِي حَدِيث أَبِي قَتَادَة : ( هَلْ أَشَرْتُمْ أَوْ أَعَنْتُمْ ) ؟ وَهَذَا يَدُلّ عَلَى وُجُوب الْجَزَاء , وَالْأَوَّل أَصَحّ , وَاللَّه أَعْلَمُ . السَّابِعَة : إِذَا كَانَتْ شَجَرَة نَابِتَة فِي الْحِلّ وَفَرْعهَا فِي الْحَرَم فَأُصِيبَ مَا عَلَيْهِ مِنْ الصَّيْد فَفِيهِ الْجَزَاء ; لِأَنَّهُ أُخِذَ فِي الْحَرَم وَإِنْ كَانَ أَصْلهَا فِي الْحَرَم وَفَرْعهَا فِي الْحِلّ فَاخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِيمَا أُخِذَ عَلَيْهِ عَلَى قَوْلَيْنِ : الْجَزَاء نَظَرًا إِلَى الْأَصْل , وَنَفْيه نَظَرًا إِلَى الْفَرْع .|وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ|تَشْدِيد وَتَنْبِيه عَقِب هَذَا التَّحْلِيل وَالتَّحْرِيم , ثُمَّ ذَكَّرَ بِأَمْرِ الْحَشْر وَالْقِيَامَة مُبَالَغَة فِي التَّحْذِير , وَاللَّه أَعْلَمُ .

جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ

جَعَلَ هُنَا بِمَعْنَى خَلَقَ وَقَدْ تَقَدَّمَ , وَقَدْ سُمِّيَتْ الْكَعْبَة كَعْبَة لِأَنَّهَا مُرَبَّعَة وَأَكْثَر بُيُوت الْعَرَب مُدَوَّرَة وَقِيلَ : إِنَّمَا سُمِّيَتْ كَعْبَة لِنُتُوئِهَا وَبُرُوزهَا , فَكُلّ نَاتِئ بَارِز كَعْب , مُسْتَدِيرًا كَانَ أَوْ غَيْر مُسْتَدِير , وَمِنْهُ كَعْب الْقَدَم وَكُعُوب الْقَنَاة , وَكَعَبَ ثَدْي الْمَرْأَة إِذَا ظَهَرَ فِي صَدْرهَا , وَالْبَيْت سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا ذَات سَقْف وَجِدَار , وَهِيَ حَقِيقَة الْبَيْتِيَّة وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهَا سَاكِن , وَسَمَّاهُ سُبْحَانه حَرَامًا بِتَحْرِيمِهِ إِيَّاهُ ; قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ مَكَّة حَرَّمَهَا اللَّه وَلَمْ يُحَرِّمهَا النَّاس ) وَقَدْ تَقَدَّمَ أَكْثَر هَذَا مُسْتَوْفًى وَالْحَمْد لِلَّهِ .|قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ|أَيْ صَلَاحًا وَمَعَاشًا , لِأَمْنِ النَّاس بِهَا ; وَعَلَى هَذَا يَكُون | قِيَامًا | بِمَعْنَى يَقُومُونَ بِهَا . وَقِيلَ : | قِيَامًا | أَيْ يَقُومُونَ بِشَرَائِعِهَا . وَقَرَأَ اِبْن عَامِر وَعَاصِم | قِيَمًا | وَهُمَا مِنْ ذَوَات الْوَاو فَقُلِبَتْ الْوَاو يَاء لِكَسْرَةِ مَا قَبْلهَا , وَقَدْ قِيلَ : | قِوَام | . قَالَ الْعُلَمَاء : وَالْحِكْمَة فِي جَعْل اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْأَشْيَاء قِيَامًا لِلنَّاسِ , أَنَّ اللَّه سُبْحَانه خَلَقَ الْخَلْق عَلَى سَلِيقَة الْآدَمِيَّة مِنْ التَّحَاسُد وَالتَّنَافُس وَالتَّقَاطُع وَالتَّدَابُر , وَالسَّلْب وَالْغَارَة وَالْقَتْل وَالثَّأْر , فَلَمْ يَكُنْ بُدّ فِي الْحِكْمَة الْإِلَهِيَّة , وَالْمَشِيئَة الْأَوَّلِيَّة مِنْ كَافّ يَدُوم مَعَهُ الْحَال وَوَازِع يُحْمَد مَعَهُ الْمَآل . قَالَ اللَّه تَعَالَى : | إِنِّي جَاعِل فِي الْأَرْض خَلِيفَة | [ الْبَقَرَة : 30 ] فَأَمَرَهُمْ اللَّه سُبْحَانه بِالْخِلَافَةِ , وَجَعَلَ أُمُورهمْ إِلَى وَاحِد يَزَعهُمْ عَنْ التَّنَازُع , وَيَحْمِلهُمْ عَلَى التَّآلُف مِنْ التَّقَاطُع , وَيَرُدّ الظَّالِم عَنْ الْمَظْلُوم , وَيُقَرِّر كُلّ يَد عَلَى مَا تَسْتَوْلِي عَلَيْهِ . رَوَى اِبْن الْقَاسِم قَالَ حَدَّثَنَا مَالِك أَنَّ عُثْمَان بْن عَفَّان رَضِيَ اللَّه عَنْهُ كَانَ يَقُول : مَا يَزَع الْإِمَامُ أَكْثَرُ مِمَّا يَزَع الْقُرْآنُ ; ذَكَرَهُ أَبُو عُمَر رَحِمَهُ اللَّه . وَجَوْر السُّلْطَان عَامًا وَاحِدًا أَقَلّ إِذَايَة مِنْ كَوْن النَّاس فَوْضَى لَحْظَة وَاحِدَة ; فَأَنْشَأَ اللَّه سُبْحَانه الْخَلِيفَة لِهَذِهِ الْفَائِدَة , لِتَجْرِيَ عَلَى رَأْيه الْأُمُور , وَيَكُفّ اللَّه بِهِ عَادِيَة الْجُمْهُور ; فَعَظَّمَ اللَّه سُبْحَانه فِي قُلُوبهمْ الْبَيْت الْحَرَام , وَأَوْقَعَ فِي نُفُوسهمْ هَيْبَته , وَعَظَّمَ بَيْنهمْ حُرْمَته , فَكَانَ مَنْ لَجَأَ إِلَيْهِ مَعْصُومًا بِهِ , وَكَانَ مَنْ اُضْطُهِدَ مَحْمِيًّا بِالْكَوْنِ فِيهِ . قَالَ اللَّه تَعَالَى : | أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّف النَّاس مِنْ حَوْلهمْ | [ الْعَنْكَبُوت : 67 ] . قَالَ الْعُلَمَاء : فَلَمَّا كَانَ مَوْضِعًا مَخْصُوصًا لَا يُدْرِكهُ كُلّ مَظْلُوم , وَلَا يَنَالهُ كُلّ خَائِف جَعَلَ اللَّه الشَّهْر الْحَرَام مَلْجَأ آخَر | الشَّهْر الْحَرَام | وَهُوَ اِسْم جِنْس , وَالْمُرَاد الْأَشْهُر الثَّلَاثَة بِإِجْمَاعٍ مِنْ الْعَرَب , فَقَرَّرَ اللَّه فِي قُلُوبهمْ حُرْمَتهَا , فَكَانُوا لَا يُرَوِّعُونَ فِيهَا سِرْبًا - أَيْ نَفْسًا - وَلَا يَطْلُبُونَ فِيهَا دَمًا وَلَا يَتَوَقَّعُونَ فِيهَا ثَأْرًا , حَتَّى كَانَ الرَّجُل يَلْقَى قَاتِل أَبِيهِ وَابْنِهِ وَأَخِيهِ فَلَا يُؤْذِيه . وَاقْتَطَعُوا فِيهَا ثُلُث الزَّمَان , وَوَصَلُوا مِنْهَا ثَلَاثَة مُتَوَالِيَة , فُسْحَة وَرَاحَة وَمَجَالًا لِلسِّيَاحَةِ فِي الْأَمْن وَالِاسْتِرَاحَة , وَجَعَلُوا مِنْهَا وَاحِدًا مُنْفَرِدًا فِي نِصْف الْعَام دَرْكًا لِلِاحْتِرَامِ , وَهُوَ شَهْر رَجَب الْأَصَمّ وَيُسَمَّى مُضَر , وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُ : رَجَب الْأَصَمّ ; لِأَنَّهُ كَانَ لَا يُسْمَع فِيهِ صَوْت الْحَدِيد , وَيُسَمَّى مُنْصِل الْأَسِنَّة ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَنْزِعُونَ فِيهِ الْأَسِنَّة مِنْ الرِّمَاح , وَهُوَ شَهْر قُرَيْش , وَلَهُ يَقُول عَوْف بْن الْأَحْوَص : <br>وَشَهْر بَنِي أُمَيَّة وَالْهَدَايَا .......... إِذَا سِيقَتْ مُضَرِّجهَا الدِّمَاءُ <br>وَسَمَّاهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهْر اللَّه ; أَيْ شَهْر آل اللَّه , وَكَانَ يُقَال لِأَهْل الْحَرَم : آل اللَّه , وَيَحْتَمِل أَنْ يُرِيد شَهْر اللَّه ; لِأَنَّ اللَّه مَتَّنَهُ وَشَدَّدَهُ إِذْ كَانَ كَثِير مِنْ الْعَرَب لَا يَرَاهُ , وَسَيَأْتِي فِي | بَرَاءَة | أَسْمَاء الشُّهُور إِنْ شَاءَ اللَّه . ثُمَّ يَسَّرَ لَهُمْ الْإِلْهَام , وَشَرَعَ عَلَى أَلْسِنَة الرُّسُل الْكِرَام الْهَدْي وَالْقَلَائِد , فَكَانُوا إِذَا أَخَذُوا بَعِيرًا أَشْعَرُوهُ دَمًا , أَوْ عَلَّقُوا عَلَيْهِ نَعْلًا , أَوْ فَعَلَ ذَلِكَ الرَّجُل بِنَفْسِهِ مِنْ التَّقْلِيد عَلَى - مَا تَقَدَّمَ بَيَانه أَوَّل السُّورَة - لَمْ يُرَوِّعهُ أَحَد حَيْثُ لَقِيَهُ , وَكَانَ الْفَيْصَل بَيْنه وَبَيْن مَنْ طَلَبَهُ أَوْ ظَلَمَهُ حَتَّى جَاءَ اللَّه بِالْإِسْلَامِ وَبَيَّنَ الْحَقّ بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَام , فَانْتَظَمَ الدِّين فِي سِلْكه , وَعَادَ الْحَقّ إِلَى نِصَابه , فَأُسْنِدَتْ الْإِمَامَة إِلَيْهِ , وَانْبَنَى وُجُوبهَا عَلَى الْخَلْق عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْله سُبْحَانه : | وَعَدَ اللَّه الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَات لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْض | [ النُّور : 55 ] الْآيَة , وَقَدْ مَضَى فِي | الْبَقَرَة | أَحْكَام الْإِمَامَة فَلَا مَعْنَى لِإِعَادَتِهَا .|ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ|| ذَلِكَ | إِشَارَة إِلَى جَعْل اللَّه هَذِهِ الْأُمُور قِيَامًا ; وَالْمَعْنَى فَعَلَ اللَّه ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّه يَعْلَم تَفَاصِيل أُمُور السَّمَاوَات وَالْأَرْض , وَيَعْلَم مَصَالِحكُمْ أَيّهَا النَّاس قَبْل وَبَعْد , فَانْظُرُوا لُطْفه بِالْعِبَادِ عَلَى حَال كُفْرهمْ .

اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ

تَخْوِيف|وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ|تَرْجِيَة , وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى .

مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ

أَيْ لَيْسَ لَهُ الْهِدَايَة وَالتَّوْفِيق وَلَا الثَّوَاب , وَإِنَّمَا عَلَيْهِ الْبَلَاغ وَفِي هَذَا رَدّ عَلَى الْقَدَرِيَّة كَمَا تَقَدَّمَ , وَأَصْل الْبَلَاغ الْبُلُوغ , وَهُوَ الْوُصُول . بَلَغَ يَبْلُغ بُلُوغًا , وَأَبْلَغَهُ إِبْلَاغًا , وَتَبَلَّغَ تَبَلُّغًا , وَبَالَغَهُ مُبَالَغَة , وَبَلَّغَهُ تَبْلِيغًا , وَمِنْهُ الْبَلَاغَة , لِأَنَّهَا إِيصَال الْمَعْنَى إِلَى النَّفْس فِي حُسْن صُورَة مِنْ اللَّفْظ وَتَبَالَغَ الرَّجُل إِذَا تَعَاطَى الْبَلَاغَة وَلَيْسَ بِبَلِيغٍ , وَفِي هَذَا بَلَاغ أَيْ كِفَايَة ; لِأَنَّهُ يَبْلُغ مِقْدَار الْحَاجَة .|وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ|أَيْ تُظْهِرُونَهُ , يُقَال : بَدَا السِّرّ وَأَبْدَاهُ صَاحِبه يُبْدِيه .|وَمَا تَكْتُمُونَ|أَيْ مَا تُسِرُّونَهُ وَتُخْفُونَهُ فِي قُلُوبكُمْ مِنْ الْكُفْر وَالنِّفَاق .

قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ

فِيهِ ثَلَاث مَسَائِل : </subtitle>الْأُولَى : قَالَ الْحَسَن : | الْخَبِيث وَالطَّيِّب | الْحَلَال وَالْحَرَام , وَقَالَ السُّدِّيّ : الْمُؤْمِن وَالْكَافِر , وَقِيلَ : الْمُطِيع وَالْعَاصِي . وَقِيلَ : الرَّدِيء وَالْجَيِّد ; وَهَذَا عَلَى ضَرْب الْمِثَال , وَالصَّحِيح أَنَّ اللَّفْظ عَامّ فِي جَمِيع الْأُمُور , يُتَصَوَّر فِي الْمَكَاسِب وَالْأَعْمَال وَالنَّاس , وَالْمَعَارِف مِنْ الْعُلُوم وَغَيْرهَا ; فَالْخَبِيث مِنْ هَذَا كُلّه لَا يُفْلِح وَلَا يُنْجِب , وَلَا تَحْسُن لَهُ عَاقِبَة وَإِنْ كَثُرَ , وَالطَّيِّب وَإِنْ قَلَّ نَافِع جَمِيل الْعَاقِبَة . قَالَ اللَّه تَعَالَى : | وَالْبَلَد الطَّيِّب يَخْرُج نَبَاته بِإِذْنِ رَبّه وَاَلَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُج إِلَّا نَكِدًا | [ الْأَعْرَاف : 58 ] , وَنَظِير هَذِهِ الْآيَة قَوْله تَعَالَى : | أَمْ نَجْعَل الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْض أَمْ نَجْعَل الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ | [ ص : 28 ] وَقَوْله | أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اِجْتَرَحُوا السَّيِّئَات أَنْ نَجْعَلهُمْ كَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات | [ الْجَاثِيَة : 21 ] ; فَالْخَبِيث لَا يُسَاوِي الطَّيِّب مِقْدَارًا وَلَا إِنْفَاقًا , وَلَا مَكَانًا وَلَا ذَهَابًا , فَالطَّيِّب يَأْخُذ جِهَة الْيَمِين , وَالْخَبِيث يَأْخُذ جِهَة الشِّمَال , وَالطَّيِّب فِي الْجَنَّة , وَالْخَبِيث فِي النَّار وَهَذَا بَيِّن . الثَّانِيَة : وَحَقِيقَة الِاسْتِوَاء الِاسْتِمْرَار فِي جِهَة وَاحِدَة , وَمِثْله الِاسْتِقَامَة وَضِدّهَا الِاعْوِجَاج , وَلَمَّا كَانَ هَذَا وَهِيَ : الثَّانِيَة : قَالَ بَعْض عُلَمَائِنَا : إِنَّ الْبَيْع الْفَاسِد يُفْسَخ وَلَا يُمْضَى بِحَوَالَةِ سُوق , وَلَا بِتَغَيُّرِ بَدَن , فَيَسْتَوِي فِي إِمْضَائِهِ مَعَ الْبَيْع الصَّحِيح , بَلْ يُفْسَخ أَبَدًا , وَيَرُدّ الثَّمَن عَلَى الْمُبْتَاع إِنْ كَانَ قَبَضَهُ , وَإِنْ تَلِفَ فِي يَده ضَمِنَهُ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَقْبِضهُ عَلَى الْأَمَانَة , وَإِنَّمَا قَبَضَهُ بِشُبْهَةِ عَقْد . وَقِيلَ : لَا يُفْسَخ نَظَرًا إِلَى أَنَّ الْبَيْع إِذَا فُسِخَ وَرُدَّ بَعْد الْفَوْت يَكُون فِيهِ ضَرَر وَغَبْن عَلَى الْبَائِع , فَتَكُون السِّلْعَة تُسَاوِي مِائَة وَتُرَدّ عَلَيْهِ وَهِيَ تُسَاوِي عِشْرِينَ , وَلَا عُقُوبَة فِي الْأَمْوَال , وَالْأَوَّل أَصَحّ لِعُمُومِ الْآيَة , وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرنَا فَهُوَ رَدّ ) . قُلْت : وَإِذَا تُتُبِّعَ هَذَا الْمَعْنَى فِي عَدَم الِاسْتِوَاء فِي مَسَائِل الْفِقْه تَعَدَّدَتْ وَكَثُرَتْ , فَمِنْ ذَلِكَ الْغَاصِب وَهِيَ : الثَّالِثَة : إِذَا بَنَى فِي الْبُقْعَة الْمَغْصُوبَة أَوْ غَرَسَ فَإِنَّهُ يَلْزَمهُ قَلْع ذَلِكَ الْبِنَاء وَالْغَرْس ; لِأَنَّهُ خَبِيث , وَرَدّهَا ; خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَة فِي قَوْله : لَا يُقْلَع وَيَأْخُذ صَاحِبهَا الْقِيمَة , وَهَذَا يَرُدّهُ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( لَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِم حَقّ ) . قَالَ هِشَام : الْعِرْق الظَّالِم أَنْ يَغْرِس الرَّجُل فِي أَرْض غَيْره لِيَسْتَحِقّهَا بِذَلِكَ . قَالَ مَالِك : الْعِرْق الظَّالِم كُلّ مَا أُخِذَ وَاحْتُفِرَ وَغُرِسَ فِي غَيْر حَقّ . قَالَ مَالِك : مَنْ غَصَبَ أَرْضًا فَزَرَعَهَا , أَوْ أَكْرَاهَا , أَوْ دَارًا فَسَكَنَهَا أَوْ أَكْرَاهَا , ثُمَّ اِسْتَحَقَّهَا رَبّهَا أَنَّ عَلَى الْغَاصِب كِرَاء مَا سَكَنَ وَرَدّ مَا أَخَذَ فِي الْكِرَاء وَاخْتَلَفَ قَوْله إِذَا لَمْ يَسْكُنهَا أَوْ لَمْ يَزْرَع الْأَرْض وَعَطَّلَهَا ; فَالْمَشْهُور مِنْ مَذْهَبه أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ فِيهِ شَيْء ; وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ عَلَيْهِ كِرَاء ذَلِكَ كُلّه , وَاخْتَارَهُ الْوَقَّار , وَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِيّ ; لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( لَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِم حَقّ ) وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي الزُّبَيْر أَنَّ رَجُلَيْنِ اِخْتَصَمَا إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : غَرَسَ أَحَدهمَا نَخْلًا فِي أَرْض الْآخَر , فَقَضَى لِصَاحِبِ الْأَرْض بِأَرْضِهِ , وَأَمَرَ صَاحِب النَّخْل أَنْ يُخْرِج نَخْله مِنْهَا , قَالَ : فَلَقَدْ رَأَيْتهَا , وَإِنَّهَا لَتُضْرَب أُصُولهَا بِالْفُؤُوسِ حَتَّى أُخْرِجَتْ مِنْهَا وَإِنَّهَا لَنَخْل عُمّ , وَهَذَا نَصّ . قَالَ اِبْن حَبِيب : وَالْحُكْم فِيهِ أَنْ يَكُون صَاحِب الْأَرْض مُخَيَّرًا عَلَى الظَّالِم , إِنْ شَاءَ حَبَسَ ذَلِكَ فِي أَرْضه بِقِيمَتِهِ مَقْلُوعًا , وَإِنْ شَاءَ نَزَعَهُ مِنْ أَرْضه ; وَأَجْر النَّزْع عَلَى الْغَاصِب , وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ عَائِشَة قَالَتْ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ بَنَى فِي رِبَاع قَوْم بِإِذْنِهِمْ فَلَهُ الْقِيمَة وَمَنْ بَنَى بِغَيْرِ إِذْنهمْ فَلَهُ النَّقْض ) قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إِنَّمَا تَكُون لَهُ الْقِيمَة ; لِأَنَّهُ بَنَى فِي مَوْضِع يَمْلِك مَنْفَعَته , وَذَلِكَ كَمَنْ بَنَى أَوْ غَرَسَ بِشُبْهَةٍ فَلَهُ حَقّ ; إِنْ شَاءَ رَبّ الْمَال أَنْ يَدْفَع إِلَيْهِ قِيمَته قَائِمًا , وَإِنْ أَبَى قِيلَ لِلَّذِي بَنَى أَوْ غَرَسَ : اِدْفَعْ إِلَيْهِ قِيمَة أَرْضه بَرَاحًا ; فَإِنْ أَبَى كَانَا شَرِيكَيْنِ . قَالَ اِبْن الْمَاجِشُون : وَتَفْسِير اِشْتِرَاكهمَا أَنْ تُقَوَّم الْأَرْض بَرَاحًا , ثُمَّ تُقَوَّم بِعِمَارَتِهَا فَمَا زَادَتْ قِيمَتهَا بِالْعِمَارَةِ عَلَى قِيمَتهَا بَرَاحًا كَانَ الْعَامِل شَرِيكًا لِرَبِّ الْأَرْض فِيهَا , إِنْ أَحَبَّا قَسَمَا أَوْ حَبَسَا . قَالَ اِبْن الْجَهْم : فَإِذَا دَفَعَ رَبّ الْأَرْض قِيمَة الْعِمَارَة وَأَخَذَ أَرْضه كَانَ لَهُ كِرَاؤُهَا فِيمَا مَضَى مِنْ السِّنِينَ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ اِبْن الْقَاسِم وَغَيْره أَنَّهُ إِذَا بَنَى رَجُل فِي أَرْض رَجُل بِإِذْنِهِ ثُمَّ وَجَبَ لَهُ إِخْرَاجه , فَإِنَّهُ يُعْطِيه قِيمَة بِنَائِهِ مَقْلُوعًا , وَالْأَوَّل أَصَحّ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( فَلَهُ الْقِيمَة ) وَعَلَيْهِ أَكْثَر الْفُقَهَاء .|وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ|قِيلَ : الْخِطَاب لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَاد أُمَّته ; فَإِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُعْجِبهُ الْخَبِيث , وَقِيلَ : الْمُرَاد بِهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفْسه , وَإِعْجَابه لَهُ أَنَّهُ صَارَ عِنْده عَجَبًا مِمَّا يُشَاهِدهُ مِنْ كَثْرَة الْكُفَّار وَالْمَال الْحَرَام , وَقِلَّة الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَال الْحَلَال .|فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ|مَا كَانَ مِثْله فِيمَا وَرَدَ فِي كَلَام اللَّه تَعَالَى مِنْ قَوْله : | لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ , لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ , لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ , لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ , لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ | فِيهِ ثَلَاث تَأْوِيلَات . الْأَوَّل : أَنَّ | لَعَلَّ | عَلَى بَابهَا مِنْ التَّرَجِّي وَالتَّوَقُّع , وَالتَّرَجِّي وَالتَّوَقُّع إِنَّمَا هُوَ فِي حَيِّز الْبَشَر ; فَكَأَنَّهُ قِيلَ لَهُمْ : اِفْعَلُوا ذَلِكَ عَلَى الرَّجَاء مِنْكُمْ وَالطَّمَع أَنْ تَعْقِلُوا وَأَنْ تَذَكَّرُوا وَأَنْ تَتَّقُوا . هَذَا قَوْل سِيبَوَيْهِ وَرُؤَسَاء اللِّسَان قَالَ سِيبَوَيْهِ فِي قَوْله عَزَّ وَجَلَّ : | اِذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْن إِنَّهُ طَغَى . فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّر أَوْ يَخْشَى | [ طَه : 43 - 44 ] قَالَ مَعْنَاهُ : اِذْهَبَا عَلَى طَمَعكُمَا وَرَجَائِكُمَا أَنْ يَتَذَكَّر أَوْ يَخْشَى , وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْل أَبُو الْمَعَالِي .</p><p>الثَّانِي : أَنَّ الْعَرَب اِسْتَعْمَلَتْ | لَعَلَّ | مُجَرَّدَة مِنْ الشَّكّ بِمَعْنَى لَام كَيْ . فَالْمَعْنَى لِتَعْقِلُوا وَلِتَذَكَّرُوا وَلِتَتَّقُوا ; وَعَلَى ذَلِكَ يَدُلّ قَوْل الشَّاعِر : <br>وَقُلْتُمْ لَنَا كُفُّوا الْحُرُوب لَعَلَّنَا .......... نَكُفّ وَوَثَّقْتُمْ لَنَا كُلّ مَوْثِق <br><br>فَلَمَّا كَفَفْنَا الْحَرْب كَانَتْ عُهُودكُمْ .......... كَلَمْعِ سَرَاب فِي الْمَلَا مُتَأَلِّق <br>الْمَعْنَى : كُفُّوا الْحُرُوب لِنَكُفّ , وَلَوْ كَانَتْ | لَعَلَّ | هُنَا شَكًّا لَمْ يُوَثِّقُوا لَهُمْ كُلّ مَوْثِق ; وَهَذَا الْقَوْل عَنْ قُطْرُب وَالطَّبَرِيّ . الثَّالِث : أَنْ تَكُون | لَعَلَّ | بِمَعْنَى التَّعَرُّض لِلشَّيْءِ , كَأَنَّهُ قِيلَ : اِفْعَلُوا مُتَعَرِّضِينَ لِأَنْ تَعْقِلُوا , أَوْ لِأَنْ تَذَكَّرُوا أَوْ لِأَنْ تَتَّقُوا , وَالْمَعْنَى فِي قَوْله | لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ | أَيْ لَعَلَّكُمْ أَنْ تَجْعَلُوا بِقَبُولِ مَا أَمَرَكُمْ اللَّه بِهِ وِقَايَة بَيْنكُمْ وَبَيْن النَّار , وَهَذَا مِنْ قَوْل الْعَرَب : اِتَّقَاهُ بِحَقِّهِ إِذَا اِسْتَقْبَلَهُ بِهِ ; فَكَأَنَّهُ جَعَلَ دَفْعه حَقّه إِلَيْهِ وِقَايَة لَهُ مِنْ الْمُطَالَبَة ; وَمِنْهُ قَوْل عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : كُنَّا إِذَا اِحْمَرَّ الْبَأْس اِتَّقَيْنَا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , أَيْ جَعَلْنَاهُ وِقَايَة لَنَا مِنْ الْعَدُوّ , وَقَالَ عَنْتَرَة : <br>وَلَقَدْ كَرَرْت الْمَهْر يَدْمَى نَحْره .......... حَتَّى اِتَّقَتْنِي الْخَيْل بِابْنَيْ حِذْيَم<br>

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآَنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ

فِيهِ أَرْبَع مَسَائِل : </subtitle>الْأُولَى : رَوَى الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم وَغَيْرهمَا - وَاللَّفْظ لِلْبُخَارِيِّ - عَنْ أَنَس قَالَ , قَالَ رَجُل : يَا نَبِيّ اللَّه , مَنْ أَبِي ؟ قَالَ : ( أَبُوك فُلَان ) قَالَ فَنَزَلَتْ | يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاء إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ | الْآيَة , وَخَرَّجَ أَيْضًا عَنْ أَنَس عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِيهِ : ( فَوَاَللَّهِ لَا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْء إِلَّا أَخْبَرْتُكُمْ بِهِ مَا دُمْت فِي مَقَامِي هَذَا ) فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُل فَقَالَ : أَيْنَ مَدْخَلِي يَا رَسُول اللَّه ؟ قَالَ : ( النَّار ) . فَقَامَ عَبْد اللَّه بْن حُذَافَة فَقَالَ : مَنْ أَبِي يَا رَسُول اللَّه فَقَالَ : ( أَبُوك حُذَافَة ) وَذَكَرَ الْحَدِيث قَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ : عَبْد اللَّه بْن حُذَافَة أَسْلَمَ قَدِيمًا , وَهَاجَرَ إِلَى أَرْض الْحَبَشَة الْهِجْرَة الثَّانِيَة , وَشَهِدَ بَدْرًا وَكَانَتْ فِيهِ دُعَابَة , وَكَانَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; أَرْسَلَهُ إِلَى كِسْرَى بِكِتَابِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ سَلَّمَ ; وَلَمَّا قَالَ مَنْ أَبِي يَا رَسُول اللَّه ; قَالَ : ( أَبُوك حُذَافَة ) قَالَتْ لَهُ أُمّه : مَا سَمِعْت بِابْنٍ أَعَقّ مِنْك آمَنْت أَنْ تَكُون أُمّك قَارَفَتْ مَا يُقَارِف نِسَاء الْجَاهِلِيَّة فَتَفْضَحهَا عَلَى أَعْيُن النَّاس ! فَقَالَ : وَاَللَّه لَوْ أَلْحَقَنِي بِعَبْدٍ أَسْوَد لَلَحِقْت بِهِ , وَرَوَى التِّرْمِذِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ عَنْ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة | وَلِلَّهِ عَلَى النَّاس حِجّ الْبَيْت مَنْ اِسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا | [ آل عِمْرَان : 97 ] . قَالُوا : يَا رَسُول اللَّه أَفِي كُلّ عَام ؟ فَسَكَتَ , فَقَالُوا : أَفِي كُلّ عَام ؟ قَالَ : ( لَا وَلَوْ قُلْت نَعَمْ لَوَجَبَتْ ) , فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى : | يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاء إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ | إِلَى آخِر الْآيَة . وَاللَّفْظ لِلدَّارَقُطْنِيِّ سُئِلَ الْبُخَارِيّ عَنْ هَذَا الْحَدِيث فَقَالَ : هُوَ حَدِيث حَسَن إِلَّا أَنَّهُ مُرْسَل ; أَبُو الْبَخْتَرِيّ لَمْ يُدْرِك عَلِيًّا , وَاسْمه سَعِيد , وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضًا عَنْ أَبِي عِيَاض عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يَا أَيّهَا النَّاس كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْحَجّ ) فَقَامَ رَجُل فَقَالَ : فِي كُلّ عَام يَا رَسُول اللَّه ؟ فَأَعْرَضَ عَنْهُ , ثُمَّ عَادَ فَقَالَ : فِي كُلّ عَام يَا رَسُول اللَّه ؟ فَقَالَ : ( وَمَنْ الْقَائِل ) ؟ قَالُوا : فُلَان ; قَالَ : ( وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ قُلْت نَعَمْ لَوَجَبَتْ وَلَوْ وَجَبَتْ مَا أَطَقْتُمُوهَا وَلَوْ لَمْ تُطِيقُوهَا لَكَفَرْتُمْ ) فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى : | يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاء إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ | الْآيَة , وَقَالَ الْحَسَن الْبَصْرِيّ فِي هَذِهِ الْآيَة : سَأَلُوا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أُمُور الْجَاهِلِيَّة الَّتِي عَفَا اللَّه عَنْهَا وَلَا وَجْه لِلسُّؤَالِ عَمَّا عَفَا اللَّه عَنْهُ , وَرَوَى مُجَاهِد عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْم سَأَلُوا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْبَحِيرَة وَالسَّائِبَة وَالْوَصِيلَة وَالْحَام ; وَهُوَ قَوْل سَعِيد بْن جُبَيْر ; وَقَالَ : أَلَا تَرَى أَنَّ بَعْده : | مَا جَعَلَ اللَّه مِنْ بَحِيرَة وَلَا سَائِبَة وَلَا وَصِيلَة وَلَا حَامٍ | [ الْمَائِدَة : 103 ] . قُلْت : وَفِي الصَّحِيح وَالْمُسْنَد كِفَايَة . وَيَحْتَمِل أَنْ تَكُون الْآيَة نَزَلَتْ جَوَابًا لِلْجَمِيعِ , فَيَكُون السُّؤَال قَرِيبًا بَعْضه مِنْ بَعْض , وَاللَّه أَعْلَمُ . و | أَشْيَاء | وَزْنه أَفْعَال ; وَلَمْ يُصْرَف لِأَنَّهُ مُشَبَّه بِحَمْرَاء ; قَالَهُ الْكِسَائِيّ وَقِيلَ : وَزْنه أَفْعِلَاء ; كَقَوْلِك : هَيْن وَأَهْوِنَاء ; عَنْ الْفَرَّاء وَالْأَخْفَش وَيُصَغَّر فَيُقَال : أُشَيَّاء ; قَالَ الْمَازِنِيّ : يَجِب أَنْ يُصَغَّر شُيَيْآت كَمَا يُصَغَّر أَصْدِقَاء ; فِي الْمُؤَنَّث صُدَيْقَات وَفِي الْمُذَكَّر صُدَيْقُونَ . الثَّانِيَة : قَالَ اِبْن عَوْن : سَأَلْت نَافِعًا عَنْ قَوْله تَعَالَى | لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاء إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ | فَقَالَ : لَمْ تَزَلْ الْمَسَائِل مُنْذُ قَطُّ تُكْرَه . رَوَى مُسْلِم عَنْ الْمُغِيرَة بْن شُعْبَة عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِنَّ اللَّه حَرَّمَ عَلَيْكُمْ عُقُوق الْأُمَّهَات وَوَأْد الْبَنَات وَمَنْعًا وَهَاتِ وَكَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا : قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَة السُّؤَال وَإِضَاعَة الْمَال ) . قَالَ كَثِير مِنْ الْعُلَمَاء : الْمُرَاد بِقَوْلِهِ ( وَكَثْرَة السُّؤَال ) التَّكْثِير مِنْ السُّؤَال فِي الْمَسَائِل الْفِقْهِيَّة تَنَطُّعًا , وَتَكَلُّفًا فِيمَا لَمْ يُنَزَّل , وَالْأُغْلُوطَات وَتَشْقِيق الْمُوَلَّدَات , وَقَدْ كَانَ السَّلَف يَكْرَهُونَ ذَلِكَ وَيَرَوْنَهُ مِنْ التَّكْلِيف , وَيَقُولُونَ : إِذَا نَزَلَتْ النَّازِلَة وُفِّقَ الْمَسْئُول لَهَا . قَالَ مَالِك : أَدْرَكْت أَهْل هَذَا الْبَلَد وَمَا عِنْدهمْ عِلْم غَيْر الْكِتَاب وَالسُّنَّة , فَإِذَا نَزَلَتْ نَازِلَة جَمَعَ الْأَمِير لَهَا مَنْ حَضَرَ مِنْ الْعُلَمَاء فَمَا اِتَّفَقُوا عَلَيْهِ أَنْفَذَهُ , وَأَنْتُمْ تُكْثِرُونَ الْمَسَائِل وَقَدْ كَرِهَهَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَقِيلَ : الْمُرَاد بِكَثْرَةِ الْمَسَائِل كَثْرَة سُؤَال النَّاس الْأَمْوَال وَالْحَوَائِج إِلْحَاحًا وَاسْتِكْثَارًا ; وَقَالَهُ أَيْضًا مَالِك وَقِيلَ : الْمُرَاد بِكَثْرَةِ الْمَسَائِل السُّؤَال عَمَّا لَا يَعْنِي مِنْ أَحْوَال النَّاس بِحَيْثُ يُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى كَشْف عَوْرَاتهمْ وَالِاطِّلَاع عَلَى مَسَاوِئِهِمْ . وَهَذَا مِثْل قَوْله تَعَالَى : | وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضكُمْ بَعْضًا | [ الْحُجُرَات : 12 ] قَالَ اِبْن خُوَيْز مَنْدَاد : وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْض أَصْحَابنَا مَتَى قُدِّمَ إِلَيْهِ طَعَام لَمْ يَسْأَل عَنْهُ مِنْ أَيْنَ هَذَا أَوْ عُرِضَ عَلَيْهِ شَيْء يَشْتَرِيه لَمْ يَسْأَل مِنْ أَيْنَ هُوَ وَحَمَلَ أُمُور الْمُسْلِمِينَ عَلَى السَّلَامَة وَالصِّحَّة . قُلْت : وَالْوَجْه حَمْل الْحَدِيث عَلَى عُمُومه فَيَتَنَاوَل جَمِيع تِلْكَ الْوُجُوه كُلّهَا , وَاللَّه أَعْلَمُ . الثَّالِثَة : قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : اِعْتَقَدَ قَوْم مِنْ الْغَافِلِينَ تَحْرِيم أَسْئِلَة النَّوَازِل حَتَّى تَقَع تَعَلُّقًا بِهَذِهِ الْآيَة وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَة مُصَرِّحَة بِأَنَّ السُّؤَال الْمَنْهِيّ عَنْهُ إِنَّمَا كَانَ فِيمَا تَقَع الْمَسَاءَة فِي جَوَابه وَلَا مَسَاءَة فِي جَوَاب نَوَازِل الْوَقْت فَافْتَرَقَا . قُلْت قَوْله : اِعْتَقَدَ قَوْم مِنْ الْغَافِلِينَ فِيهِ قُبْح , وَإِنَّمَا كَانَ الْأَوْلَى بِهِ أَنْ يَقُول : ذَهَبَ قَوْم إِلَى تَحْرِيم أَسْئِلَة النَّوَازِل , لَكِنَّهُ جَرَى عَلَى عَادَته , وَإِنَّمَا قُلْنَا كَانَ أَوْلَى بِهِ ; لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ قَوْم مِنْ السَّلَف يَكْرَههَا , وَكَانَ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ يَلْعَن مَنْ سَأَلَ عَمَّا لَمْ يَكُنْ ; ذَكَرَهُ الدَّارِمِيّ فِي مُسْنَده ; وَذُكِرَ عَنْ الزُّهْرِيّ قَالَ : بَلَغَنَا أَنَّ زَيْد بْن ثَابِت الْأَنْصَارِيّ كَانَ يَقُول إِذَا سُئِلَ عَنْ الْأَمْر : أَكَانَ هَذَا ؟ فَإِنْ قَالُوا : نَعَمْ قَدْ كَانَ حَدَّثَ فِيهِ بِاَلَّذِي يَعْلَم , وَإِنْ قَالُوا : لَمْ يَكُنْ قَالَ فَذَرُوهُ حَتَّى يَكُون , وَأَسْنَدَ عَنْ عَمَّار بْن يَاسِر وَقَدْ سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَة فَقَالَ : هَلْ كَانَ هَذَا بَعْد ؟ قَالُوا : لَا ; قَالَ : دَعُونَا حَتَّى يَكُون , فَإِذَا كَانَ تَجَشَّمْنَاهَا لَكُمْ . قَالَ الدَّارِمِيّ : حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن مُحَمَّد بْن أَبِي شَيْبَة , قَالَ حَدَّثَنَا اِبْن فُضَيْل عَنْ عَطَاء عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : مَا رَأَيْت قَوْمًا كَانُوا خَيْرًا مِنْ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , مَا سَأَلُوهُ إِلَّا عَنْ ثَلَاث عَشْرَة مَسْأَلَة حَتَّى قُبِضَ , كُلّهنَّ فِي الْقُرْآن ; مِنْهُنَّ | يَسْأَلُونَك عَنْ الشَّهْر الْحَرَام | [ الْبَقَرَة : 217 ] , | وَيَسْأَلُونَك عَنْ الْمَحِيض | [ الْبَقَرَة : 222 ] وَشِبْهُهُ مَا كَانُوا يَسْأَلُونَ إِلَّا عَمَّا يَنْفَعهُمْ . الرَّابِعَة : قَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ : السُّؤَال الْيَوْم لَا يُخَاف مِنْهُ أَنْ يَنْزِل تَحْرِيم وَلَا تَحْلِيل مِنْ أَجْله , فَمَنْ سَأَلَ مُسْتَفْهِمًا رَاغِبًا فِي الْعِلْم وَنَفْي الْجَهْل عَنْ نَفْسه , بَاحِثًا عَنْ مَعْنًى يَجِب الْوُقُوف فِي الدِّيَانَة عَلَيْهِ , فَلَا بَأْس بِهِ , فَشِفَاء الْعِيّ السُّؤَال ; وَمَنْ سَأَلَ مُتَعَنِّتًا غَيْر مُتَفَقِّه وَلَا مُتَعَلِّم فَهُوَ الَّذِي لَا يَحِلّ قَلِيل سُؤَاله وَلَا كَثِيره ; قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : الَّذِي يَنْبَغِي لِلْعَالِمِ أَنْ يَشْتَغِل بِهِ هُوَ بَسْط الْأَدِلَّة , وَإِيضَاح سُبُل النَّظَر , وَتَحْصِيل مُقَدِّمَات الِاجْتِهَاد , وَإِعْدَاد الْآلَة الْمُعِينَة عَلَى الِاسْتِمْدَاد ; فَإِذَا عَرَضَتْ نَازِلَة أُتِيَتْ مِنْ بَابهَا , وَنُشِدَتْ فِي مَظَانّهَا , وَاَللَّه يَفْتَح فِي صَوَابهَا .|تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ|فِيهِ غُمُوض , وَذَلِكَ أَنَّ فِي أَوَّل الْآيَة النَّهْي عَنْ السُّؤَال , ثُمَّ قَالَ : | وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِين يُنَزَّل الْقُرْآن تُبْدَ لَكُمْ | فَأَبَاحَهُ لَهُمْ ; فَقِيلَ : الْمَعْنَى وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْ غَيْرهَا فِيمَا مَسَّتْ الْحَاجَة إِلَيْهِ , فَحَذَفَ الْمُضَاف , وَلَا يَصِحّ حَمْله عَلَى غَيْر الْحَذْف . قَالَ الْجُرْجَانِيّ : الْكِنَايَة فِي | عَنْهَا | تَرْجِع إِلَى أَشْيَاء أُخَر ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى : | وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَان مِنْ سُلَالَة مِنْ طِين | [ الْمُؤْمِنُونَ : 12 ] يَعْنِي آدَم , ثُمَّ قَالَ : | ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَة | [ الْمُؤْمِنُونَ : 13 ] أَيْ اِبْن آدَم ; لِأَنَّ آدَم لَمْ يُجْعَل نُطْفَة فِي قَرَار مَكِين , لَكِنْ لَمَّا ذُكِرَ الْإِنْسَان وَهُوَ آدَم دَلَّ عَلَى إِنْسَان مِثْله , وَعُرِفَ ذَلِكَ بِقَرِينَةِ الْحَال ; فَالْمَعْنَى وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاء حِين يُنَزَّل الْقُرْآن مِنْ تَحْلِيل أَوْ تَحْرِيم أَوْ حُكْم , أَوْ مَسَّتْ حَاجَتكُمْ إِلَى التَّفْسِير , فَإِذَا سَأَلْتُمْ فَحِينَئِذٍ تُبْدَ لَكُمْ ; فَقَدْ أَبَاحَ هَذَا النَّوْع مِنْ السُّؤَال : وَمِثَاله أَنَّهُ بَيَّنَ عِدَّة الْمُطَلَّقَة وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجهَا وَالْحَامِل , وَلَمْ يَجْرِ ذِكْر عِدَّة الَّتِي لَيْسَتْ بِذَاتِ قُرْء وَلَا حَامِل , فَسَأَلُوا عَنْهَا فَنَزَلَ | وَاَللَّائِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيض | [ الطَّلَاق : 4 ] . فَالنَّهْي إِذًا فِي شَيْء لَمْ يَكُنْ بِهِمْ حَاجَة إِلَى السُّؤَال فِيهِ ; فَأَمَّا مَا مَسَّتْ الْحَاجَة إِلَيْهِ فَلَا .|لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ|أَيْ عَنْ الْمَسْأَلَة الَّتِي سَلَفَتْ مِنْهُمْ , وَقِيلَ : عَنْ الْأَشْيَاء الَّتِي سَأَلُوا عَنْهَا مِنْ أُمُور الْجَاهِلِيَّة وَمَا جَرَى مَجْرَاهَا , وَقِيلَ : الْعَفْو بِمَعْنَى التَّرْك ; أَيْ تَرَكَهَا وَلَمْ يُعَرِّف بِهَا فِي حَلَال وَلَا حَرَام فَهُوَ مَعْفُوّ عَنْهَا فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهُ فَلَعَلَّهُ إِنْ ظَهَرَ لَكُمْ حُكْمه سَاءَكُمْ , وَكَانَ عُبَيْد بْن عُمَيْر يَقُول : إِنَّ اللَّه أَحَلَّ وَحَرَّمَ , فَمَا أَحَلَّ فَاسْتَحِلُّوهُ , وَمَا حَرَّمَ فَاجْتَنِبُوهُ , وَتَرَكَ بَيْن ذَلِكَ أَشْيَاء لَمْ يُحَلِّلهَا وَلَمْ يُحَرِّمهَا , فَذَلِكَ عَفْو مِنْ اللَّه , ثُمَّ يَتْلُو هَذِهِ الْآيَة . وَخَرَّجَ الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ أَبِي ثَعْلَبَة الْخُشَنِيّ قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ اللَّه تَعَالَى فَرَضَ فَرَائِض فَلَا تُضَيِّعُوهَا وَحَرَّمَ حُرُمَات فَلَا تَنْتَهِكُوهَا وَحَدَّدَ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاء مِنْ غَيْر نِسْيَان فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا ) وَالْكَلَام عَلَى هَذَا التَّقْدِير فِيهِ تَقْدِيم وَتَأْخِير ; أَيْ لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاء عَفَا اللَّه عَنْهَا إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ , أَيْ أَمْسَكَ عَنْ ذِكْرهَا فَلَمْ يُوجِب فِيهَا حُكْمًا , وَقِيلَ : لَيْسَ فِيهِ تَقْدِيم وَلَا تَأْخِير ; بَلْ الْمَعْنَى قَدْ عَفَا اللَّه عَنْ مَسْأَلَتكُمْ الَّتِي سَلَفَتْ وَإِنْ كَرِهَهَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَلَا تَعُودُوا لِأَمْثَالِهَا . فَقَوْله : | عَنْهَا | أَيْ عَنْ الْمَسْأَلَة , أَوْ عَنْ السُّؤَالَات كَمَا ذَكَرْنَاهُ .

قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ

فِيهِ أَرْبَع مَسَائِل </subtitle>الْأُولَى : أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ قَوْمًا مِنْ قَبْلنَا قَدْ سَأَلُوا آيَات مِثْلهَا , فَلَمَّا أُعْطُوهَا وَفُرِضَتْ عَلَيْهِمْ كَفَرُوا بِهَا , وَقَالُوا : لَيْسَتْ مِنْ عِنْد اللَّه ; وَذَلِكَ كَسُؤَالِ قَوْم صَالِح النَّاقَة , وَأَصْحَاب عِيسَى الْمَائِدَة ; وَهَذَا تَحْذِير مِمَّا وَقَعَ فِيهِ مَنْ سَبَقَ مِنْ الْأُمَم , وَاللَّه أَعْلَمُ .</p><p>الثَّانِيَة : إِنْ قَالَ قَائِل : مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ كَرَاهِيَة السُّؤَال وَالنَّهْي عَنْهُ , يُعَارِضهُ قَوْله تَعَالَى : | فَاسْأَلُوا أَهْل الذِّكْر إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ | [ النَّحْل : 43 ] فَالْجَوَاب ; أَنَّ هَذَا الَّذِي أَمَرَ اللَّه بِهِ عِبَاده هُوَ مَا تَقَرَّرَ وَثَبَتَ وُجُوبه مِمَّا يَجِب عَلَيْهِمْ الْعَمَل بِهِ , وَاَلَّذِي جَاءَ فِيهِ النَّهْي هُوَ مَا لَمْ يَتَعَبَّد اللَّه عِبَاده بِهِ ; وَلَمْ يَذْكُرهُ فِي كِتَابه . وَاللَّه أَعْلَمُ . الثَّالِثَة : رَوَى مُسْلِم عَنْ عَامِر بْن سَعْد عَنْ أَبِيهِ قَالَ , قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْء لَمْ يُحَرَّم عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَحُرِّمَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَجْل مَسْأَلَته ) . قَالَ الْقُشَيْرِيّ أَبُو نَصْر : وَلَوْ لَمْ يَسْأَل الْعَجْلَانِيّ عَنْ الزِّنَى لَمَا ثَبَتَ اللِّعَان . قَالَ أَبُو الْفَرَج الْجَوْزِيّ : هَذَا مَحْمُول عَلَى مَنْ سَأَلَ عَنْ الشَّيْء عَنَتًا وَعَبَثًا فَعُوقِبَ بِسُوءِ قَصْده بِتَحْرِيمِ مَا سَأَلَ عَنْهُ ; وَالتَّحْرِيم يَعُمّ .</p><p>الرَّابِعَة : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : لَا تَعَلُّق لِلْقَدَرِيَّةِ بِهَذَا الْحَدِيث فِي أَنَّ اللَّه تَعَالَى يَفْعَل شَيْئًا مِنْ أَجْل شَيْء وَبِسَبَبِهِ , تَعَالَى اللَّه عَنْ ذَلِكَ ; فَإِنَّ اللَّه عَلَى كُلّ شَيْء قَدِير , وَهُوَ بِكُلِّ شَيْء عَلِيم ; بَلْ السَّبَب وَالدَّاعِي فِعْل مِنْ أَفْعَاله , لَكِنْ سَبَقَ الْقَضَاء وَالْقَدَر أَنْ يُحَرَّم الشَّيْء الْمَسْئُول عَنْهُ إِذَا وَقَعَ السُّؤَال فِيهِ ; لَا أَنَّ السُّؤَال مُوجِب لِلتَّحْرِيمِ , وَعِلَّة لَهُ , وَمِثْله كَثِير | لَا يُسْأَل عَمَّا يَفْعَل وَهُمْ يُسْأَلُونَ | [ الْأَنْبِيَاء : 23 ] .

مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ

جَعَلَ هُنَا بِمَعْنَى سَمَّى , كَمَا قَالَ تَعَالَى : | إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا | [ الزُّخْرُف : 3 ] أَيْ سَمَّيْنَاهُ , وَالْمَعْنَى فِي هَذِهِ الْآيَة مَا سَمَّى اللَّه , وَلَا سَنَّ ذَلِكَ حُكْمًا , وَلَا تَعَبَّدَ بِهِ شَرْعًا , بَيْد أَنَّهُ قَضَى بِهِ عِلْمًا , وَأَوْجَدَهُ بِقُدْرَتِهِ وَإِرَادَته خَلْقًا ; فَإِنَّ اللَّه خَالِق كُلّ شَيْء مِنْ خَيْر وَشَرّ , وَنَفْع وَضُرّ , وَطَاعَة وَمَعْصِيَة | مِنْ بَحِيرَة وَلَا سَائِبَة وَلَا وَصِيلَة وَلَا حَامٍ | | مِنْ | زَائِدَة , وَالْبَحِيرَة فَعِيلَة بِمَعْنَى مَفْعُولَة , وَهِيَ عَلَى وَزْن النَّطِيحَة وَالذَّبِيحَة , وَفِي الصَّحِيح عَنْ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب : الْبَحِيرَة هِيَ الَّتِي يُمْنَع دَرّهَا لِلطَّوَاغِيتِ , فَلَا يَحْتَلِبهَا أَحَد مِنْ النَّاس , وَأَمَّا السَّائِبَة فَهِيَ الَّتِي كَانُوا يُسَيِّبُونَهَا لِآلِهَتِهِمْ , وَقِيلَ : الْبَحِيرَة لُغَة هِيَ النَّاقَة الْمَشْقُوقَة الْأُذُن ; يُقَال : بَحَرْت أُذُن النَّاقَة أَيْ شَقَقْتهَا شَقًّا وَاسِعًا , وَالنَّاقَة بَحِيرَة وَمَبْحُورَة , وَكَانَ الْبَحْر عَلَامَة التَّخْلِيَة . قَالَ اِبْن سِيدَهْ : يُقَال الْبَحِيرَة هِيَ الَّتِي خُلِّيَتْ بِلَا رَاعٍ , وَيُقَال لِلنَّاقَةِ الْغَزِيرَة بَحِيرَة . قَالَ اِبْن إِسْحَاق : الْبَحِيرَة هِيَ اِبْنَة السَّائِبَة , وَالسَّائِبَة هِيَ النَّاقَة إِذَا تَابَعَتْ بَيْن عَشْر إِنَاث لَيْسَ بَيْنهنَّ ذَكَر , لَمْ يُرْكَب ظَهْرهَا وَلَمْ يُجَزّ وَبَرهَا , وَلَمْ يَشْرَب لَبَنهَا إِلَّا ضَيْف , فَمَا نُتِجَتْ بَعْد ذَلِكَ مِنْ أُنْثَى شُقَّتْ أُذُنهَا , وَخُلِّيَ سَبِيلهَا مَعَ أُمّهَا , فَلَمْ يُرْكَب ظَهْرهَا وَلَمْ يُجَزّ وَبَرهَا , وَلَمْ يَشْرَب لَبَنهَا إِلَّا ضَيْف كَمَا فُعِلَ بِأُمِّهَا ; فَهِيَ الْبَحِيرَة اِبْنَة السَّائِبَة , وَقَالَ الشَّافِعِيّ : إِذَا نُتِجَتْ النَّاقَة خَمْسَة أَبْطُن إِنَاثًا بُحِرَتْ أُذُنهَا فَحُرِّمَتْ ; قَالَ : <br>مُحَرَّمَة لَا يَطْعَم النَّاس لَحْمهَا .......... وَلَا نَحْنُ فِي شَيْء كَذَاك الْبَحَائِر <br>وَقَالَ اِبْن عُزَيْز : الْبَحِيرَة النَّاقَة إِذَا نُتِجَتْ خَمْسَة أَبْطُن فَإِذَا كَانَ الْخَامِس ذَكَرًا نَحَرُوهُ فَأَكَلَهُ الرِّجَال وَالنِّسَاء , وَإِنْ كَانَ الْخَامِس أُنْثَى بَحَرُوا أُذُنهَا - أَيْ شَقُّوهُ - وَكَانَتْ حَرَامًا عَلَى النِّسَاء لَحْمهَا وَلَبَنهَا - وَقَالَهُ عِكْرِمَة - فَإِذَا مَاتَتْ حَلَّتْ لِلنِّسَاءِ . وَالسَّائِبَة الْبَعِير يُسَيَّب بِنَذْرٍ يَكُون عَلَى الرَّجُل إِنْ سَلَّمَهُ اللَّه مِنْ مَرَض , أَوْ بَلَّغَهُ مَنْزِله أَنْ يَفْعَل ذَلِكَ , فَلَا تُحْبَس عَنْ رَعْي وَلَا مَاء , وَلَا يَرْكَبهَا أَحَد ; وَقَالَ بِهِ أَبُو عُبَيْد ; قَالَ الشَّاعِر : <br>وَسَائِبَة لِلَّهِ تَنْمِن تَشَكُّرًا .......... إِنْ اللَّه عَافَى عَامِرًا أَوْ مُجَاشِعَا <br>وَقَدْ يُسَيِّبُونَ غَيْر النَّاقَة , وَكَانُوا إِذَا سَيَّبُوا الْعَبْد لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ وَلَاء , وَقِيلَ : السَّائِبَة هِيَ الْمُخَلَّاة لَا قَيْد عَلَيْهَا , وَلَا رَاعِيَ لَهَا ; فَاعِل بِمَعْنَى مَفْعُول , نَحْو | عِيشَة رَاضِيَة | أَيْ مَرْضِيَّة . مِنْ سَابَتْ الْحَيَّة وَانْسَابَتْ ; قَالَ الشَّاعِر : <br>عَقَرْتُمْ نَاقَة كَانَتْ لِرَبِّي .......... وَسَائِبَة فَقُومُوا لِلْعِقَابِ <br>وَأَمَّا الْوَصِيلَة وَالْحَام ; فَقَالَ اِبْن وَهْب , قَالَ مَالِك : كَانَ أَهْل الْجَاهِلِيَّة يُعْتِقُونَ الْإِبِل وَالْغَنَم يُسَيِّبُونَهَا ; فَأَمَّا الْحَام فَمِنْ الْإِبِل ; كَانَ الْفَحْل إِذَا اِنْقَضَى ضِرَابه جَعَلُوا عَلَيْهِ مِنْ رِيش الطَّوَاوِيس وَسَيَّبُوهُ ; وَأَمَّا الْوَصِيلَة فَمِنْ الْغَنَم إِذَا وَلَدَتْ أُنْثَى بَعْد أُنْثَى سَيَّبُوهَا , وَقَالَ اِبْن عُزَيْز : الْوَصِيلَة فِي الْغَنَم ; قَالَ : كَانُوا إِذَا وَلَدَتْ الشَّاة سَبْعَة أَبْطُن نَظَرُوا ; فَإِنْ كَانَ السَّابِع ذَكَرًا ذُبِحَ وَأَكَلَ مِنْهُ الرِّجَال وَالنِّسَاء , وَإِنْ كَانَ أُنْثَى تُرِكَتْ فِي الْغَنَم , وَإِنْ كَانَ ذَكَرًا وَأُنْثَى قَالُوا وَصَلَتْ أَخَاهَا فَلَمْ تُذْبَح لِمَكَانِهَا , وَكَانَ لَحْمهَا حَرَامًا عَلَى النِّسَاء , وَلَبَن الْأُنْثَى حَرَامًا عَلَى النِّسَاء إِلَّا أَنْ يَمُوت مِنْهُمَا شَيْء فَيَأْكُلهُ الرِّجَال وَالنِّسَاء . وَالْحَامِي الْفَحْل إِذَا رُكِبَ وَلَد وَلَده . قَالَ : <br>حَمَاهَا أَبُو قَابُوس فِي عِزّ مُلْكه .......... كَمَا قَدْ حَمَى أَوْلَاد أَوْلَاده الْفَحْل <br>وَيُقَال : إِذَا نُتِجَ مِنْ صُلْبه عَشَرَة أَبْطُن قَالُوا : قَدْ حُمِيَ ظَهْره فَلَا يُرْكَب وَلَا يُمْنَع مِنْ كَلَاء وَلَا مَاء , وَقَالَ اِبْن إِسْحَاق : الْوَصِيلَة الشَّاة إِذَا أَتَمَّتْ عَشْر إِنَاث مُتَتَابِعَات فِي خَمْسَة أَبْطُن لَيْسَ بَيْنهنَّ ذَكَر , قَالُوا : وَصَلَتْ ; فَكَانَ مَا وَلَدَتْ بَعْد ذَلِكَ لِلذُّكُورِ مِنْهُمْ دُون الْإِنَاث , إِلَّا أَنْ يَمُوت شَيْء مِنْهَا فَيَشْتَرِك فِي أَكْله ذُكُورهمْ وَإِنَاثهمْ . رَوَى مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( رَأَيْت عَمْرو بْن عَامِر الْخُزَاعِيّ يَجُرّ قُصْبه فِي النَّار وَكَانَ أَوَّل مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِب ) وَفِي رِوَايَة ( عَمْرو بْن لُحَيّ بْن قَمَعَة بْن خِنْدِف أَخَا بَنِي كَعْب هَؤُلَاءِ يَجُرّ قُصْبَهُ فِي النَّار ) , وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَة قَالَ سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول لِأَكْثَم بْن الْجَوْن : ( رَأَيْت عَمْرو بْن لُحَيّ بْن قَمَعَة بْن خِنْدِف يَجُرّ قُصْبه فِي النَّار فَمَا رَأَيْت رَجُلًا أَشْبَه بِرَجُلٍ مِنْك بِهِ وَلَا بِهِ مِنْك ) فَقَالَ أَكْثَم : أَخْشَى أَنْ يَضُرّنِي شَبَهه يَا رَسُول اللَّه ; قَالَ : ( لَا إِنَّك مُؤْمِن وَهُوَ كَافِر إِنَّهُ أَوَّل مَنْ غَيَّرَ دِين إِسْمَاعِيل وَبَحَرَ الْبَحِيرَة وَسَيَّبَ السَّائِبَة وَحَمَى الْحَامِيَ ) وَفِي رِوَايَة : ( رَأَيْته رَجُلًا قَصِيرًا أَشْعَر لَهُ وَفْرَة يَجُرّ قُصْبه فِي النَّار ) . وَفِي رِوَايَة اِبْن الْقَاسِم وَغَيْره عَنْ مَالِك عَنْ زَيْد بْن أَسْلَم عَنْ عَطَاء بْن يَسَار عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِنَّهُ يُؤْذِي أَهْل النَّار بِرِيحِهِ ) . مُرْسَل ذَكَرَهُ اِبْن الْعَرَبِيّ , وَقِيلَ : إِنَّ أَوَّل مَنْ اِبْتَدَعَ ذَلِكَ جُنَادَة بْن عَوْف , وَاللَّه أَعْلَمُ , وَفِي الصَّحِيح كِفَايَة , وَرَوَى اِبْن إِسْحَاق : أَنَّ سَبَب نَصْب الْأَوْثَان , وَتَغْيِير دِين إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام عَمْرو بْن لُحَيّ خَرَجَ مِنْ مَكَّة إِلَى الشَّام , فَلَمَّا قَدِمَ مَآب مِنْ أَرْض الْبَلْقَاء , وَبِهَا يَوْمئِذٍ الْعَمَالِيق أَوْلَاد عِمْلِيق - وَيُقَال عِمْلَاق - بْن لاوذ بْن سَام بْن نُوح , رَآهُمْ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَام فَقَالَ لَهُمْ : مَا هَذِهِ الْأَصْنَام الَّتِي أَرَاكُمْ تَعْبُدُونَ ؟ قَالُوا : هَذِهِ أَصْنَام نَسْتَمْطِر بِهَا فَنُمْطَر , وَنَسْتَنْصِر بِهَا فَنُنْصَر ; فَقَالَ لَهُمْ : أَفَلَا تُعْطُونِي مِنْهَا صَنَمًا أَسِير بِهِ إِلَى أَرْض الْعَرَب فَيَعْبُدُونَهُ ؟ فَأَعْطَوْهُ صَنَمًا يُقَال لَهُ : ( هُبَل ) فَقَدِمَ بِهِ مَكَّة فَنَصَبَهُ , وَأَخَذَ النَّاس بِعِبَادَتِهِ وَتَعْظِيمه ; فَلَمَّا بَعَثَ اللَّه مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْزَلَ اللَّه عَلَيْهِ | مَا جَعَلَ اللَّه مِنْ بَحِيرَة وَلَا سَائِبَة وَلَا وَصِيلَة وَلَا حَامٍ | . | وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا | يَعْنِي مِنْ قُرَيْش وَخُزَاعَة وَمُشْرِكِي الْعَرَب | يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّه الْكَذِب | بِقَوْلِهِمْ : إِنَّ اللَّه أَمَرَ بِتَحْرِيمِهَا , وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ لِرِضَا رَبّهمْ فِي طَاعَة اللَّه , وَطَاعَة اللَّه إِنَّمَا تُعْلَم مِنْ قَوْله , وَلَمْ يَكُنْ عِنْدهمْ مِنْ اللَّه بِذَلِكَ قَوْل , فَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَفْتَرُونَهُ عَلَى اللَّه , وَقَالُوا : | مَا فِي بُطُون هَذِهِ الْأَنْعَام خَالِصَة لِذُكُورِنَا | [ الْأَنْعَام : 139 ] يَعْنِي مِنْ الْوَلَد وَالْأَلْبَان | وَمُحَرَّم عَلَى أَزْوَاجنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَة | [ الْأَنْعَام : 139 ] يَعْنِي إِنْ وَضَعَتْهُ مَيِّتًا اِشْتَرَكَ فِيهِ الرِّجَال وَالنِّسَاء ; فَذَلِكَ قَوْله عَزَّ وَجَلَّ : | فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاء سَيَجْزِيهِمْ وَصْفهمْ | [ الْأَنْعَام : 139 ] أَيْ بِكَذِبِهِمْ الْعَذَاب فِي الْآخِرَة | إِنَّهُ حَكِيم عَلِيم | [ الْأَنْعَام : 139 ] أَيْ بِالتَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيل . وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ : | قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّه لَكُمْ مِنْ رِزْق فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّه أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّه تَفْتَرُونَ | [ يُونُس : 59 ] وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ : | ثَمَانِيَة أَزْوَاج | [ الْأَنْعَام : 143 ] وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ : | وَأَنْعَام لَا يَذْكُرُونَ اِسْم اللَّه عَلَيْهَا اِفْتِرَاء عَلَيْهِ | [ الْأَنْعَام : 138 ] .</p><p>تَعَلَّقَ أَبُو حَنِيفَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فِي مَنْعه الْأَحْبَاس وَرَدّه الْأَوْقَاف ; بِأَنَّ اللَّه تَعَالَى عَابَ عَلَى الْعَرَب مَا كَانَتْ تَفْعَلهُ مِنْ تَسْيِيب الْبَهَائِم وَحِمَايَتهَا وَحَبْس أَنْفَاسهَا عَنْهَا , وَقَاسَ عَلَى الْبَحِيرَة وَالسَّائِبَة وَالْفَرْق بَيِّنٌ , وَلَوْ عَمَدَ رَجُل إِلَى ضَيْعَة لَهُ فَقَالَ : هَذِهِ تَكُون حَبْسًا , لَا يُجْتَنَى ثَمَرهَا , وَلَا تُزْرَع أَرْضهَا , وَلَا يُنْتَفَع مِنْهَا بِنَفْعٍ , لَجَازَ أَنْ يُشَبَّه هَذَا بِالْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَة , وَقَدْ قَالَ عَلْقَمَة لِمَنْ سَأَلَهُ عَنْ هَذِهِ الْأَشْيَاء : مَا تُرِيد إِلَى شَيْء كَانَ مِنْ عَمَل أَهْل الْجَاهِلِيَّة وَقَدْ ذَهَبَ , وَقَالَ نَحْوه اِبْن زَيْد , وَجُمْهُور الْعُلَمَاء عَلَى الْقَوْل بِجَوَازِ الْأَحْبَاس وَالْأَوْقَاف مَا عَدَا أَبَا حَنِيفَة وَأَبَا يُوسُف وَزُفَر ; وَهُوَ قَوْل شُرَيْح إِلَّا أَنَّ أَبَا يُوسُف رَجَعَ عَنْ قَوْل أَبِي حَنِيفَة فِي ذَلِكَ لَمَّا حَدَّثَهُ اِبْن عُلَيَّة عَنْ اِبْن عَوْن عَنْ نَافِع عَنْ اِبْن عُمَر أَنَّهُ اِسْتَأْذَنَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَنْ يَتَصَدَّق بِسَهْمِهِ بِخَيْبَر فَقَالَ لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( اِحْبِسْ الْأَصْل وَسَبِّلْ الثَّمَرَة ) , وَبِهِ يَحْتَجّ كُلّ مَنْ أَجَازَ الْأَحْبَاس ; وَهُوَ حَدِيث صَحِيح قَالَهُ أَبُو عُمَر . وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمَسْأَلَة إِجْمَاع مِنْ الصَّحَابَة وَذَلِكَ أَنَّ أَبَا بَكْر وَعُمَر وَعُثْمَان وَعَلِيًّا وَعَائِشَة وَفَاطِمَة وَعَمْرو بْن الْعَاص وَابْن الزُّبَيْر وَجَابِرًا كُلّهمْ وَقَفُوا الْأَوْقَاف , وَأَوْقَافهمْ بِمَكَّة وَالْمَدِينَة مَعْرُوفَة مَشْهُورَة , وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا يُوسُف قَالَ لِمَالِك بِحَضْرَةِ الرَّشِيد : إِنَّ الْحَبْس لَا يَجُوز ; فَقَالَ لَهُ مَالِك : هَذِهِ الْأَحْبَاس أَحْبَاس رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَيْبَر وَفَدَك وَأَحْبَاس أَصْحَابه , وَأَمَّا مَا اِحْتَجَّ بِهِ أَبُو حَنِيفَة مِنْ الْآيَة فَلَا حُجَّة فِيهِ ; لِأَنَّ اللَّه سُبْحَانه إِنَّمَا عَابَ عَلَيْهِمْ أَنْ تَصَرَّفُوا بِعُقُولِهِمْ بِغَيْرِ شَرْع تَوَجَّهَ إِلَيْهِمْ , أَوْ تَكْلِيف فُرِضَ عَلَيْهِمْ فِي قَطْع طَرِيق الِانْتِفَاع وَإِذْهَاب نِعْمَة اللَّه تَعَالَى , وَإِزَالَة الْمَصْلَحَة الَّتِي لِلْعِبَادِ فِي تِلْكَ الْإِبِل , وَبِهَذَا فَارَقَتْ هَذِهِ الْأُمُور الْأَحْبَاس وَالْأَوْقَاف , وَمِمَّا اِحْتَجَّ بِهِ أَبُو حَنِيفَة وَزُفَر مَا رَوَاهُ عَطَاء عَنْ اِبْن الْمُسَيِّب قَالَ : سَأَلْت شُرَيْحًا عَنْ رَجُل جَعَلَ دَاره حَبْسًا عَلَى الْآخِر مِنْ وَلَده فَقَالَ : لَا حَبْس عَنْ فَرَائِض اللَّه ; قَالُوا : فَهَذَا شُرَيْح قَاضِي عُمَر وَعُثْمَان وَعَلِيّ الْخُلَفَاء الرَّاشِدِينَ حَكَمَ بِذَلِكَ . وَاحْتَجَّ أَيْضًا بِمَا رَوَاهُ اِبْن لَهِيعَة عَنْ أَخِيهِ عِيسَى , عَنْ عِكْرِمَة عَنْ اِبْن عَبَّاس , قَالَ سَمِعْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول بَعْدَمَا أُنْزِلَتْ سُورَة | النِّسَاء | وَأَنْزَلَ اللَّه فِيهَا الْفَرَائِض : يَنْهَى عَنْ الْحَبْس . قَالَ الطَّبَرِيّ : الصَّدَقَة الَّتِي يُمْضِيهَا الْمُتَصَدِّق فِي حَيَاته عَلَى مَا أَذِنَ اللَّه بِهِ عَلَى لِسَان نَبِيّه وَعَمِلَ بِهِ الْأَئِمَّة الرَّاشِدُونَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ لَيْسَ مِنْ الْحَبْس عَنْ فَرَائِض اللَّه ; وَلَا حُجَّة فِي قَوْل شُرَيْح وَلَا فِي قَوْل أَحَد يُخَالِف السُّنَّة , وَعَمَل الصَّحَابَة الَّذِينَ هُمْ الْحُجَّة عَلَى جَمِيع الْخَلْق ; وَأَمَّا حَدِيث اِبْن عَبَّاس فَرَوَاهُ اِبْن لَهِيعَة , وَهُوَ رَجُل اِخْتَلَطَ عَقْله فِي آخِر عُمْره , وَأَخُوهُ غَيْر مَعْرُوف فَلَا حُجَّة فِيهِ ; قَالَهُ اِبْن الْقَصَّار .</p><p>فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ يَجُوز أَنْ تُخْرَج الْأَرْض بِالْوَقْفِ عَنْ مِلْك أَرْبَابهَا لَا إِلَى مِلْك مَالِك ؟ قَالَ الطَّحَاوِيّ يُقَال لَهُمْ : وَمَا يُنْكَر مِنْ هَذَا وَقَدْ اِتَّفَقْت أَنْتَ وَخَصْمك عَلَى الْأَرْض يَجْعَلهَا صَاحِبهَا مَسْجِدًا لِلْمُسْلِمِينَ , وَيُخَلِّي بَيْنهمْ وَبَيْنهَا , وَقَدْ خَرَجَتْ بِذَلِكَ مِنْ مِلْك إِلَى غَيْر مَالِك , وَلَكِنْ إِلَى اللَّه تَعَالَى ; وَكَذَلِكَ السِّقَايَات وَالْجُسُور وَالْقَنَاطِر , فَمَا أَلْزَمْت مُخَالِفك فِي حُجَّتك عَلَيْهِ يَلْزَمك فِي هَذَا كُلّه . وَاللَّه أَعْلَمُ . اِخْتَلَفَ الْمُجِيزُونَ لِلْحَبْسِ فِيمَا لِلْمُحَبِّسِ مِنْ التَّصَرُّف ; فَقَالَ الشَّافِعِيّ : وَيَحْرُم عَلَى الْمُوقِف مِلْكه كَمَا يَحْرُم عَلَيْهِ مِلْك رَقَبَة الْعَبْد , إِلَّا أَنَّهُ جَائِز لَهُ أَنْ يَتَوَلَّى صَدَقَته , وَتَكُون بِيَدِهِ لِيُفَرِّقهَا وَيُسَبِّلهَا فِيمَا أَخْرَجَهَا فِيهِ ; لِأَنَّ عُمَر بْن الْخَطَّاب - رَضِيَ اللَّه عَنْهُ - لَمْ يَزَلْ يَلِي صَدَقَته - فِيمَا بَلَغَنَا - حَتَّى قَبَضَهُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ . قَالَ : وَكَذَلِكَ عَلِيّ وَفَاطِمَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا كَانَا يَلِيَانِ صَدَقَاتهمَا ; وَبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُف , وَقَالَ مَالِك : مَنْ حَبَّسَ أَرْضًا أَوْ نَخْلًا أَوْ دَارًا عَلَى الْمَسَاكِين وَكَانَتْ بِيَدِهِ يَقُوم بِهَا وَيُكْرِيهَا وَيُقَسِّمهَا فِي الْمَسَاكِين حَتَّى مَاتَ وَالْحَبْس فِي يَدَيْهِ , أَنَّهُ لَيْسَ بِحَبْسٍ مَا لَمْ يُجِزْهُ غَيْره وَهُوَ مِيرَاث ; وَالرَّبْع عِنْده وَالْحَوَائِط وَالْأَرْض لَا يَنْفُذ حَبْسهَا , وَلَا يَتِمّ حَوْزهَا , حَتَّى يَتَوَلَّاهُ غَيْر مَنْ حَبَّسَهُ , بِخِلَافِ الْخَيْل وَالسِّلَاح , هَذَا مُحَصَّل مَذْهَبه عِنْد جَمَاعَة أَصْحَابه ; وَبِهِ قَالَ اِبْن أَبِي لَيْلَى . لَا يَجُوز لِلْوَاقِفِ أَنْ يَنْتَفِع بِوَقْفِهِ ; لِأَنَّهُ أَخْرَجَهُ لِلَّهِ وَقَطَعَهُ عَنْ مِلْكه , فَانْتِفَاعه بِشَيْءٍ مِنْهُ رُجُوع فِي صَدَقَته ; وَإِنَّمَا يَجُوز لَهُ الِانْتِفَاع إِنْ شَرَطَ ذَلِكَ فِي الْوَقْف , أَوْ أَنْ يَفْتَقِر الْمُحَبِّس , أَوْ وَرَثَته فَيَجُوز لَهُمْ الْأَكْل مِنْهُ . ذَكَرَ اِبْن حَبِيب عَنْ مَالِك قَالَ : مَنْ حَبَّسَ أَصْلًا تَجْرِي غَلَّته عَلَى الْمَسَاكِين فَإِنَّ وَلَده يُعْطَوْنَ مِنْهُ إِذَا اِفْتَقَرُوا - كَانُوا يَوْم حَبَّسَ أَغْنِيَاء أَوْ فُقَرَاء - غَيْر أَنَّهُمْ لَا يُعْطَوْنَ جَمِيع الْغَلَّة مَخَافَة أَنْ يَنْدَرِس الْحَبْس , وَلَكِنْ يَبْقَى مِنْهُ سَهْم لِلْمَسَاكِينِ لِيَبْقَى عَلَيْهِ اِسْم الْحَبْس ; وَيُكْتَب عَلَى الْوَلَد كِتَاب أَنَّهُمْ إِنَّمَا يُعْطَوْنَ مِنْهُ مَا أُعْطُوا عَلَى سَبِيل الْمَسْكَنَة , وَلَيْسَ عَلَى حَقّ لَهُمْ دُون الْمَسَاكِين . عِتْق السَّائِبَة جَائِز ; وَهُوَ أَنْ يَقُول السَّيِّد لِعَبْدِهِ أَنْتَ حُرّ وَيَنْوِي الْعِتْق , أَوْ يَقُول : أَعْتَقْتُك سَائِبَة ; فَالْمَشْهُور مِنْ مَذْهَب مَالِك عِنْد جَمَاعَة أَصْحَابه أَنَّ وَلَاءَهُ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ , وَعِتْقه نَافِذ ; هَكَذَا رَوَى عَنْهُ اِبْن الْقَاسِم وَابْن عَبْد الْحَكَم وَأَشْهَب وَغَيْرهمْ , وَبِهِ قَالَ اِبْن وَهْب ; وَرَوَى اِبْن وَهْب عَنْ مَالِك قَالَ : لَا يُعْتِق أَحَد سَائِبَة ; لِأَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْع الْوَلَاء وَعَنْ هِبَته ; قَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ : وَهَذَا عِنْد كُلّ مَنْ ذَهَبَ مَذْهَبه إِنَّمَا هُوَ مَحْمُول عَلَى كَرَاهَة عِتْق السَّائِبَة لَا غَيْر ; فَإِنْ وَقَعَ نَفَذَ وَكَانَ الْحُكْم فِيهِ مَا ذَكَرْنَاهُ , وَرَوَى اِبْن وَهْب أَيْضًا وَابْن الْقَاسِم عَنْ مَالِك أَنَّهُ قَالَ : أَنَا أَكْرَه عِتْق السَّائِبَة وَأَنْهَى عَنْهُ ; فَإِنْ وَقَعَ نَفَذَ وَكَانَ مِيرَاثًا لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ , وَعَقْله عَلَيْهِمْ , وَقَالَ أَصْبَغ : لَا بَأْس بِعِتْقِ السَّائِبَة اِبْتِدَاء ; ذَهَبَ إِلَى الْمَشْهُور مِنْ مَذْهَب مَالِك ; وَلَهُ اِحْتَجَّ إِسْمَاعِيل الْقَاضِي اِبْن إِسْحَاق وَإِيَّاهُ تَقَلَّدَ , وَمِنْ حُجَّته فِي ذَلِكَ أَنَّ عِتْق السَّائِبَة مُسْتَفِيض بِالْمَدِينَةِ لَا يُنْكِرهُ عَالِم , وَأَنَّ عَبْد اللَّه بْن عُمَر وَغَيْره مِنْ السَّلَف أَعْتَقُوا سَائِبَة . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن شِهَاب وَرَبِيعَة وَأَبِي الزِّنَاد وَهُوَ قَوْل عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز وَأَبِي الْعَالِيَة وَعَطَاء وَعَمْرو بْن دِينَار وَغَيْرهمْ . قُلْت : أَبُو الْعَالِيَة الرِّيَاحِيّ الْبَصْرِيّ التَّمِيمِيّ - رَضِيَ اللَّه عَنْهُ - مِمَّنْ أُعْتِقَ سَائِبَة ; أَعْتَقَتْهُ مَوْلَاة لَهُ مِنْ بَنِي رِيَاح سَائِبَة لِوَجْهِ اللَّه تَعَالَى , وَطَافَتْ بِهِ عَلَى حَلَق الْمَسْجِد , وَاسْمه رُفَيْع بْن مِهْرَان , وَقَالَ اِبْن نَافِع : لَا سَائِبَة الْيَوْم فِي الْإِسْلَام , وَمَنْ أَعْتَقَ سَائِبَة كَانَ وَلَاؤُهُ لَهُ ; وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيّ وَأَبُو حَنِيفَة وَابْن الْمَاجِشُون , وَمَالَ إِلَيْهِ اِبْن الْعَرَبِيّ ; وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ أَعْتَقَ سَائِبَة فَوَلَاؤُهُ لَهُ ) وَبِقَوْلِهِ : ( إِنَّمَا الْوَلَاء لِمَنْ أَعْتَقَ ) . فَنَفَى أَنْ يَكُون الْوَلَاء لِغَيْرِ مُعْتِق , وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : | مَا جَعَلَ اللَّه مِنْ بَحِيرَة وَلَا سَائِبَة | وَبِالْحَدِيثِ ( لَا سَائِبَة فِي الْإِسْلَام ) وَبِمَا رَوَاهُ أَبُو قَيْس عَنْ هُزَيْل بْن شُرَحْبِيل قَالَ : قَالَ رَجُل لِعَبْدِ اللَّه : إِنِّي أَعْتَقْت غُلَامًا لِي سَائِبَة فَمَاذَا تَرَى فِيهِ ؟ فَقَالَ عَبْد اللَّه : إِنَّ أَهْل الْإِسْلَام لَا يُسَيِّبُونَ , إِنَّمَا كَانَتْ تُسَيِّب الْجَاهِلِيَّة ; أَنْتَ وَارِثه وَوَلِيّ نِعْمَته .

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ

الْآيَة تَقَدَّمَ مَعْنَاهَا وَالْكَلَام عَلَيْهَا فِي | الْبَقَرَة | فَلَا مَعْنَى لِإِعَادَتِهَا .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ

فِيهِ أَرْبَع مَسَائِل : </subtitle>الْأُولَى : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَجْه اِتِّصَال هَذِهِ الْآيَة بِمَا قَبْلهَا التَّحْذِير مِمَّا يَجِب أَنْ يُحْذَر مِنْهُ , وَهُوَ حَال مَنْ تَقَدَّمَتْ صِفَته مِمَّنْ رَكَنَ فِي دِينه إِلَى تَقْلِيد آبَائِهِ وَأَسْلَافه , وَظَاهِر هَذِهِ الْآيَة يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر لَيْسَ الْقِيَام بِهِ بِوَاجِبٍ إِذَا اِسْتَقَامَ الْإِنْسَان , وَأَنَّهُ لَا يُؤَاخَذ أَحَد بِذَنْبِ غَيْره , لَوْلَا مَا وَرَدَ مِنْ تَفْسِيرهَا فِي السُّنَّة وَأَقَاوِيل الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ عَلَى مَا نَذْكُرهُ بِحَوْلِ اللَّه تَعَالَى . الثَّانِيَة : قَوْله تَعَالَى : | عَلَيْكُمْ أَنْفُسكُمْ | مَعْنَاهُ اِحْفَظُوا أَنْفُسكُمْ مِنْ الْمَعَاصِي ; تَقُول عَلَيْك زَيْدًا بِمَعْنَى اِلْزَمْ زَيْدًا ; وَلَا يَجُوز عَلَيْهِ زَيْدًا , بَلْ إِنَّمَا يَجْرِي هَذَا فِي الْمُخَاطَبَة فِي ثَلَاثَة أَلْفَاظ ; عَلَيْك زَيْدًا أَيْ خُذْ زَيْدًا , وَعِنْدك عَمْرًا أَيْ حَضَرَك , وَدُونك زَيْدًا أَيْ قَرِّبْ مِنْك ; وَأَنْشَدَ : <br>يَا أَيّهَا الْمَائِح دَلْوِي دُونَكَا .......... إِنِّي رَأَيْت النَّاس يَحْمَدُونَكَا <br>وَأَمَّا قَوْله : عَلَيْهِ رَجُلًا لَيْسَنِي , فَشَاذّ . الثَّالِثَة : رَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَغَيْرهمَا عَنْ قَيْس قَالَ : خَطَبَنَا أَبُو بَكْر الصِّدِّيق رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فَقَالَ : إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَة وَتَتَأَوَّلُونَهَا عَلَى غَيْر تَأْوِيلهَا | يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسكُمْ لَا يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اِهْتَدَيْتُمْ | وَإِنِّي سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( إِنَّ النَّاس إِذَا رَأَوْا الظَّالِم فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللَّه بِعَذَابٍ مِنْ عِنْده ) . قَالَ أَبُو عِيسَى : هَذَا حَدِيث حَسَن صَحِيح ; قَالَ إِسْحَاق بْن إِبْرَاهِيم سَمِعْت عَمْرو بْن عَلِيّ يَقُول : سَمِعْت وَكِيعًا يَقُول : لَا يَصِحّ عَنْ أَبِي بَكْر عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا حَدِيث وَاحِد , قُلْت : وَلَا إِسْمَاعِيل عَنْ قَيْس , قَالَ : إِنَّ إِسْمَاعِيل رَوَى عَنْ قَيْس مَوْقُوفًا . قَالَ النَّقَّاش : وَهَذَا إِفْرَاط مِنْ وَكِيع ; رَوَاهُ شُعْبَة عَنْ سُفْيَان وَإِسْحَاق عَنْ إِسْمَاعِيل مَرْفُوعًا ; وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَغَيْرهمَا عَنْ أَبِي أُمَيَّة الشَّعْبَانِيّ قَالَ : أَتَيْت أَبَا ثَعْلَبَة الْخُشَنِيّ فَقُلْت لَهُ : كَيْفَ تَصْنَع بِهَذِهِ الْآيَة ؟ فَقَالَ : أَيَّة آيَة ؟ قُلْت : قَوْله تَعَالَى : | يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسكُمْ لَا يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اِهْتَدَيْتُمْ | قَالَ : أَمَا وَاَللَّه لَقَدْ سَأَلْت عَنْهَا خَبِيرًا , سَأَلْت عَنْهَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : ( بَلْ اِئْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنَاهَوْا عَنْ الْمُنْكَر حَتَّى إِذَا رَأَيْت شُحًّا مُطَاعًا وَهَوًى مُتَّبَعًا وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً وَإِعْجَابَ كُلّ ذِي رَأْي بِرَأْيِهِ فَعَلَيْك بِخَاصَّةِ نَفْسك وَدَعْ عَنْك أَمْر الْعَامَّة فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامًا الصَّبْر فِيهِنَّ مِثْل الْقَبْض عَلَى الْجَمْر لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ مِثْل أَجْر خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْل عَمَلكُمْ ) , وَفِي رِوَايَة قِيلَ : يَا رَسُول اللَّه أَجْر خَمْسِينَ مِنَّا أَوْ مِنْهُمْ ؟ قَالَ : ( بَلْ أَجْر خَمْسِينَ مِنْكُمْ ) . قَالَ أَبُو عِيسَى : هَذَا حَدِيث حَسَن غَرِيب . قَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ قَوْله : ( بَلْ مِنْكُمْ ) هَذِهِ اللَّفْظَة قَدْ سَكَتَ عَنْهَا بَعْض الرُّوَاة فَلَمْ يَذْكُرهَا , وَقَدْ تَقَدَّمَ , وَرَوَى التِّرْمِذِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِنَّكُمْ فِي زَمَان مَنْ تَرَكَ مِنْكُمْ عُشْر مَا أُمِرَ بِهِ هَلَكَ ثُمَّ يَأْتِي زَمَان مَنْ عَمِلَ مِنْهُمْ بِعُشْرِ مَا أُمِرَ بِهِ نَجَا ) قَالَ : هَذَا حَدِيث غَرِيب , وَرُوِيَ عَنْ اِبْن مَسْعُود أَنَّهُ قَالَ : لَيْسَ هَذَا بِزَمَانِ هَذِهِ الْآيَة ; قُولُوا الْحَقّ مَا قُبِلَ مِنْكُمْ , فَإِذَا رُدَّ عَلَيْكُمْ فَعَلَيْكُمْ أَنْفُسكُمْ , وَقِيلَ لِابْنِ عُمَر فِي بَعْض أَوْقَات الْفِتَن : لَوْ تَرَكْت الْقَوْل فِي هَذِهِ الْأَيَّام فَلَمْ تَأْمُر وَلَمْ تَنْهَ ؟ فَقَالَ إِنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَنَا : ( لِيُبَلِّغ الشَّاهِد الْغَائِب ) وَنَحْنُ شَهِدْنَا فَيَلْزَمنَا أَنْ نُبَلِّغَكُمْ , وَسَيَأْتِي زَمَان إِذَا قِيلَ فِيهِ الْحَقّ لَمْ يُقْبَل . فِي رِوَايَة عَنْ اِبْن عُمَر بَعْد قَوْله : ( لِيُبَلِّغ الشَّاهِد الْغَائِب ) فَكُنَّا نَحْنُ الشُّهُود وَأَنْتُمْ الْغُيَّب , وَلَكِنَّ هَذِهِ الْآيَة لِأَقْوَامٍ يَجِيئُونَ مِنْ بَعْدنَا إِنْ قَالُوا لَمْ يُقْبَل مِنْهُمْ , وَقَالَ اِبْن الْمُبَارَك قَوْله تَعَالَى : | عَلَيْكُمْ أَنْفُسكُمْ | خِطَاب لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ , أَيْ عَلَيْكُمْ أَهْل دِينكُمْ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى : | وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسكُمْ | فَكَأَنَّهُ قَالَ : لِيَأْمُر بَعْضكُمْ بَعْضًا ; وَلْيَنْهَ بَعْضكُمْ بَعْضًا , فَهُوَ دَلِيل عَلَى وُجُوب الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر , وَلَا يَضُرّكُمْ ضَلَال الْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَأَهْل الْكِتَاب ; وَهَذَا لِأَنَّ الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ يَجْرِي مَعَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْل الْعِصْيَان كَمَا تَقَدَّمَ ; وَرُوِيَ مَعْنَى هَذَا عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر وَقَالَ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب : مَعْنَى الْآيَة لَا يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اِهْتَدَيْتُمْ بَعْد الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر , وَقَالَ اِبْن خُوَيْز مَنْدَاد : تَضَمَّنَتْ الْآيَة اِشْتِغَال الْإِنْسَان بِخَاصَّةِ نَفْسه , وَتَرْكه التَّعَرُّض لِمَعَائِبِ النَّاس , وَالْبَحْث عَنْ أَحْوَالهمْ فَإِنَّهُمْ لَا يَسْأَلُونَ عَنْ حَاله فَلَا يَسْأَل عَنْ حَالهمْ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى : | كُلّ نَفْس بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَة | ( الْمُدَّثِّر : 38 ] , | وَلَا تَزِر وَازِرَة وِزْر أُخْرَى | [ الْأَنْعَام : 164 ] , وَقَوْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( كُنْ جَلِيس بَيْتك وَعَلَيْك بِخَاصَّةِ نَفْسك ) , وَيَجُوز أَنْ يَكُون أُرِيدَ بِهِ الزَّمَان الَّذِي يَتَعَذَّر فِيهِ الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر ; فَيُنْكِر بِقَلْبِهِ , وَيَشْتَغِل بِإِصْلَاحِ نَفْسه . قُلْت : قَدْ جَاءَ حَدِيث غَرِيب رَوَاهُ اِبْن لَهِيعَة : قَالَ حَدَّثَنَا بَكْر بْن سَوَادَة الْجُذَامِيّ عَنْ عُقْبَة بْن عَامِر قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِذَا كَانَ رَأْس مِائَتَيْنِ فَلَا تَأْمُر بِمَعْرُوفٍ وَلَا تَنْهَ عَنْ مُنْكَر وَعَلَيْك بِخَاصَّةِ نَفْسك ) . قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إِنَّمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام ذَلِكَ لِتَغَيُّرِ الزَّمَان , وَفَسَاد الْأَحْوَال , وَقِلَّة الْمُعِينِينَ , وَقَالَ جَابِر بْن زَيْد : مَعْنَى الْآيَة : يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ أَبْنَاء أُولَئِكَ الَّذِينَ بَحَرُوا الْبَحِيرَة وَسَيَّبُوا السَّوَائِب ; عَلَيْكُمْ أَنْفُسكُمْ فِي الِاسْتِقَامَة عَلَى الدِّين , لَا يَضُرّكُمْ ضَلَال الْأَسْلَاف إِذَا اِهْتَدَيْتُمْ ; قَالَ : وَكَانَ الرَّجُل إِذَا أَسْلَمَ قَالَ لَهُ الْكُفَّار سَفَّهْت آبَاءَك وَضَلَّلْتهمْ وَفَعَلْت وَفَعَلْت ; فَأَنْزَلَ اللَّه الْآيَة بِسَبَبِ ذَلِكَ وَقِيلَ : الْآيَة فِي أَهْل الْأَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَنْفَعهُمْ الْوَعْظ ; فَإِذَا عَلِمْت مِنْ قَوْم أَنَّهُمْ لَا يَقْبَلُونَ , بَلْ يَسْتَخِفُّونَ وَيَظْهَرُونَ فَاسْكُتْ عَنْهُمْ , وَقِيلَ : نَزَلَتْ فِي الْأُسَارَى الَّذِينَ عَذَّبَهُمْ الْمُشْرِكُونَ حَتَّى اِرْتَدَّ بَعْضهمْ , فَقِيلَ لِمَنْ بَقِيَ عَلَى الْإِسْلَام : عَلَيْكُمْ أَنْفُسكُمْ لَا يَضُرّكُمْ اِرْتِدَاد أَصْحَابكُمْ , وَقَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر : هِيَ فِي أَهْل الْكِتَاب - وَقَالَ مُجَاهِد : فِي الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَمَنْ كَانَ مِثْلهمْ ; يَذْهَبَانِ إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى لَا يَضُرّكُمْ كُفْر أَهْل الْكِتَاب إِذَا أَدَّوْا الْجِزْيَة , وَقِيلَ : هِيَ مَنْسُوخَة بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر ; قَالَهُ الْمَهْدَوِيّ . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا ضَعِيف وَلَا يُعْلَم قَائِله . قُلْت : قَدْ جَاءَ عَنْ أَبِي عُبَيْد الْقَاسِم بْن سَلَّام أَنَّهُ قَالَ : لَيْسَ فِي كِتَاب اللَّه تَعَالَى آيَة جَمَعَتْ النَّاسِخ وَالْمَنْسُوخ غَيْر هَذِهِ الْآيَة . قَالَ غَيْره : النَّاسِخ مِنْهَا قَوْله : | إِذَا اِهْتَدَيْتُمْ | وَالْهُدَى هُنَا هُوَ الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر , وَاللَّه أَعْلَمُ . الرَّابِعَة : الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر مُتَعَيَّن مَتَى رُجِيَ الْقَبُول , أَوْ رُجِيَ رَدّ الظَّالِم وَلَوْ بِعُنْفٍ , مَا لَمْ يَخَفْ الْآمِر ضَرَرًا يَلْحَقهُ فِي خَاصَّته , أَوْ فِتْنَة يُدْخِلهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ ; إِمَّا بِشَقِّ عَصًا , وَإِمَّا بِضَرَرٍ يَلْحَق طَائِفَة مِنْ النَّاس ; فَإِذَا خِيفَ هَذَا ف | عَلَيْكُمْ أَنْفُسكُمْ | مُحْكَم وَاجِب أَنْ يُوقَف عِنْده , وَلَا يُشْتَرَط فِي النَّاهِي أَنْ يَكُون عَدْلًا كَمَا تَقَدَّمَ ; وَعَلَى هَذَا جَمَاعَة أَهْل الْعِلْم فَاعْلَمْهُ .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آَخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَه

قَالَ مَكِّيّ رَحِمَهُ اللَّه : هَذِهِ الْآيَات الثَّلَاث عِنْد أَهْل الْمَعَانِي مِنْ أَشْكَلِ مَا فِي الْقُرْآن إِعْرَابًا وَمَعْنًى وَحُكْمًا ; قَالَ اِبْن عَطِيَّة : هَذَا كَلَام مَنْ لَمْ يَقَع لَهُ الثَّلَجُ فِي تَفْسِيرهَا ; وَذَلِكَ بَيِّن مِنْ كِتَابه رَحِمَهُ اللَّه . قُلْت : مَا ذَكَرَهُ مَكِّيّ - رَحِمَهُ اللَّه - ذَكَرَهُ أَبُو جَعْفَر النَّحَّاس قَبْله أَيْضًا , وَلَا أَعْلَم خِلَافًا أَنَّ هَذِهِ الْآيَات نَزَلَتْ بِسَبَبِ تَمِيم الدَّارِيّ وَعَدِيّ بْن بَدَّاء . رَوَى الْبُخَارِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَغَيْرهمَا عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : كَانَ تَمِيم الدَّارِيّ وَعَدِيّ بْن بَدَّاء يَخْتَلِفَانِ إِلَى مَكَّة , فَخَرَجَ مَعَهُمَا فَتًى مِنْ بَنِي سَهْم فَتُوُفِّيَ بِأَرْضٍ لَيْسَ بِهَا مُسْلِم , فَأَوْصَى إِلَيْهِمَا ; فَدَفَعَا تَرِكَته إِلَى أَهْله وَحَبَسَا جَامًا مِنْ فِضَّة مُخَوَّصًا بِالذَّهَبِ , فَاسْتَحْلَفَهُمَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( مَا كَتَمْتُمَا وَلَا اِطَّلَعْتُمَا ) ثُمَّ وُجِدَ الْجَام بِمَكَّة فَقَالُوا : اِشْتَرَيْنَاهُ مِنْ عَدِيّ وَتَمِيم , فَجَاءَ رَجُلَانِ مِنْ وَرَثَة السَّهْمِيّ فَحَلَفَا أَنَّ هَذَا الْجَام لِلسَّهْمِيِّ , وَلَشَهَادَتنَا أَحَقّ مِنْ شَهَادَتهمَا وَمَا اِعْتَدَيْنَا ; قَالَ : فَأَخَذُوا الْجَام ; وَفِيهِمْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة . لَفْظ الدَّارَقُطْنِيّ , وَرَوَى التِّرْمِذِيّ عَنْ تَمِيم الدَّارِيّ فِي هَذِهِ الْآيَة | يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَة بَيْنكُمْ | بَرِئَ مِنْهَا النَّاس غَيْرِي وَغَيْر عَدِيّ بْن بَدَّاء - وَكَانَا نَصْرَانِيَّيْنِ يَخْتَلِفَانِ إِلَى الشَّام قَبْل الْإِسْلَام , فَأَتَيَا الشَّام بِتِجَارَتِهِمَا , وَقَدِمَ عَلَيْهِمَا مَوْلًى لِبَنِي سَهْم يُقَال لَهُ : بُدَيْل بْن أَبِي مَرْيَم بِتِجَارَةٍ , وَمَعَهُ جَام مِنْ فِضَّة يُرِيد بِهِ الْمَلِك , وَهُوَ عُظْم تِجَارَته , فَمَرِضَ فَأَوْصَى إِلَيْهِمَا , وَأَمَرَهُمَا أَنْ يُبَلِّغَا مَا تَرَكَ أَهْله ; قَالَ تَمِيم : فَلَمَّا مَاتَ أَخَذْنَا ذَلِكَ الْجَام فَبِعْنَاهُ بِأَلْفِ دِرْهَم ثُمَّ اِقْتَسَمْنَاهَا أَنَا وَعَدِيّ بْن بَدَّاء , فَلَمَّا قَدِمْنَا إِلَى أَهْله دَفَعْنَا إِلَيْهِمْ مَا كَانَ مَعَنَا , وَفَقَدُوا الْجَام فَسَأَلُونَا عَنْهُ فَقُلْنَا : مَا تَرَكَ غَيْر هَذَا , وَمَا دَفَعَ إِلَيْنَا غَيْره ; قَالَ تَمِيم : فَلَمَّا أَسْلَمْت بَعْد قُدُوم رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَة تَأَثَّمْت مِنْ ذَلِكَ , فَأَتَيْت أَهْله وَأَخْبَرْتهمْ الْخَبَر , وَأَدَّيْت إِلَيْهِمْ خَمْسمِائَةِ دِرْهَم , وَأَخْبَرْتهمْ أَنَّ عِنْد صَاحِبِي مِثْلهَا , فَأَتَوْا بِهِ إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُمْ الْبَيِّنَة فَلَمْ يَجِدُوا , فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسْتَحْلِفُوهُ بِمَا يُقْطَع بِهِ عَلَى أَهْل دِينه , فَحَلَفَ فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : | يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَة بَيْنكُمْ | إِلَى قَوْله | بَعْد أَيْمَانهمْ | فَقَامَ عَمْرو بْن الْعَاص وَرَجُل آخَر مِنْهُمْ فَحَلَفَا فَنُزِعَتْ الْخَمْسمِائَةِ مِنْ يَدَيْ عَدِيّ بْن بَدَّاء . قَالَ أَبُو عِيسَى : هَذَا حَدِيث غَرِيب وَلَيْسَ إِسْنَاده بِصَحِيحٍ , وَذَكَرَ الْوَاقِدِيّ أَنَّ الْآيَات الثَّلَاث نَزَلَتْ فِي تَمِيم وَأَخِيهِ عَدِيّ , وَكَانَا نَصْرَانِيَّيْنِ , وَكَانَ مَتْجَرهمَا إِلَى مَكَّة , فَلَمَّا هَاجَرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَة قَدِمَ اِبْن أَبِي مَرْيَم مَوْلَى عَمْرو بْن الْعَاص الْمَدِينَة وَهُوَ يُرِيد الشَّام تَاجِرًا , فَخَرَجَ مَعَ تَمِيم وَأَخِيهِ عَدِيّ ; وَذَكَرَ الْحَدِيث , وَذَكَرَ النَّقَّاش قَالَ : نَزَلَتْ فِي بُدَيْل بْن أَبِي مَرْيَم مَوْلَى الْعَاص بْن وَائِل السَّهْمِيّ ; كَانَ خَرَجَ مُسَافِرًا فِي الْبَحْر إِلَى أَرْض النَّجَاشِيّ , وَمَعَهُ رَجُلَانِ نَصْرَانِيَّانِ أَحَدهمَا يُسَمَّى تَمِيمًا وَكَانَ مِنْ لَخْم وَعَدِيّ بْن بَدَّاء , فَمَاتَ بُدَيْل وَهُمْ فِي السَّفِينَة فَرُمِيَ بِهِ فِي الْبَحْر , وَكَانَ كَتَبَ وَصِيَّته ثُمَّ جَعَلَهَا فِي الْمَتَاع فَقَالَ : أَبْلِغَا هَذَا الْمَتَاع أَهْلِي , فَلَمَّا مَاتَ بُدَيْل قَبَضَا الْمَال , فَأَخَذَا مِنْهُ مَا أَعْجَبَهُمَا فَكَانَ فِيمَا أَخَذَا إِنَاء مِنْ فِضَّة فِيهِ ثَلَثمِائَةِ مِثْقَال , مَنْقُوش مُمَوَّه 266 بِالذَّهَبِ ; وَذَكَرَ الْحَدِيث , وَذَكَرَهُ سُنَيْد وَقَالَ : فَلَمَّا قَدِمُوا الشَّام مَرِضَ بُدَيْل وَكَانَ مُسْلِمًا ; الْحَدِيث . وَقَوْله تَعَالَى : | شَهَادَة بَيْنكُمْ | وَرَدَ | شَهِدَ | فِي كِتَاب اللَّه تَعَالَى بِأَنْوَاعٍ مُخْتَلِفَة : مِنْهَا قَوْله تَعَالَى : | وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالكُمْ | ( الْبَقَرَة : 282 ] قِيلَ : مَعْنَاهُ أَحْضِرُوا , وَمِنْهَا | شَهِدَ | بِمَعْنَى قَضَى أَيْ أَعْلَمَ ; قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَة كَقَوْلِهِ تَعَالَى : | شَهِدَ اللَّه أَنَّهُ لَا إِلَه إِلَّا هُوَ | [ آل عِمْرَان : 18 ] , وَمِنْهَا | شَهِدَ | بِمَعْنَى أَقَرَّ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى : | وَالْمَلَائِكَة يَشْهَدُونَ | [ النِّسَاء : 166 ] . وَمِنْهَا | شَهِدَ | بِمَعْنَى حَكَمَ ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : | وَشَهِدَ شَاهِد مِنْ أَهْلهَا | [ يُوسُف : 26 ] , وَمِنْهَا | شَهِدَ | بِمَعْنَى حَلَفَ ; كَمَا فِي اللِّعَان . | وَشَهِدَ | بِمَعْنَى وَصَّى ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى : | يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَة بَيْنكُمْ | وَقِيلَ : مَعْنَاهَا هُنَا الْحُضُور لِلْوَصِيَّةِ ; يُقَال : شَهِدْت وَصِيَّة فُلَان أَيْ حَضَرْتهَا , وَذَهَبَ الطَّبَرِيّ إِلَى أَنَّ الشَّهَادَة بِمَعْنَى الْيَمِين ; فَيَكُون الْمَعْنَى يَمِين مَا بَيْنكُمْ أَنْ يَحْلِف اِثْنَانِ ; وَاسْتُدِلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ غَيْر الشَّهَادَة الَّتِي تُؤَدَّى لِلْمَشْهُودِ لَهُ بِأَنَّهُ لَا يُعْلَم لِلَّهِ حُكْم يَجِب فِيهِ عَلَى الشَّاهِد يَمِين , وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْل الْقَفَّال . وَسُمِّيَتْ الْيَمِين شَهَادَة ; لِأَنَّهُ يَثْبُت بِهَا الْحُكْم كَمَا يَثْبُت بِالشَّهَادَةِ , وَاخْتَارَ اِبْن عَطِيَّة أَنَّ الشَّهَادَة هُنَا هِيَ الشَّهَادَة الَّتِي تُحْفَظ فَتُؤَدَّى , وَضَعَّفَ كَوْنهَا بِمَعْنَى الْحُضُور وَالْيَمِين . وَقَوْله تَعَالَى : | بَيْنكُمْ | قِيلَ : مَعْنَاهُ مَا بَيْنكُمْ فَحُذِفَتْ | مَا | وَأُضِيفَتْ الشَّهَادَة إِلَى الظَّرْف , وَاسْتُعْمِلَ اِسْمًا عَلَى الْحَقِيقَة , وَهُوَ الْمُسَمَّى عِنْد النَّحْوِيِّينَ بِالْمَفْعُولِ عَلَى السَّعَة ; كَمَا قَالَ <br>وَيَوْمًا شَهِدْنَاهُ سُلَيْمًا وَعَامِرًا .......... قَلِيل سِوَى الطَّعْن النِّهَال 267 نَوَافِله <br>أَرَادَ شَهِدْنَا فِيهِ , وَقَالَ تَعَالَى : | بَلْ مَكْر اللَّيْل وَالنَّهَار | [ سَبَأ : 33 ] أَيْ مَكْركُمْ فِيهِمَا , وَأَنْشَدَ : <br>تُصَافِح مَنْ لَاقَيْتَ لِي ذَا عَدَاوَة .......... صِفَاحًا وَعَنِّي بَيْن عَيْنَيْك مُنْزَوِي <br>أَرَادَ مَا بَيْن عَيْنَيْك فَحَذَفَ ; وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : | هَذَا فِرَاق بَيْنِي وَبَيْنك | [ الْكَهْف : 78 ] أَيْ مَا بَيْنِي وَبَيْنك .|بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ|مَعْنَاهُ إِذَا قَارَبَ الْحُضُور , وَإِلَّا فَإِذَا حَضَرَ الْمَوْت لَمْ يُشْهِد مَيِّت , وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى : | فَإِذَا قَرَأْت الْقُرْآن فَاسْتَعِذْ بِاَللَّهِ | [ النَّحْل : 98 ] , وَكَقَوْلِهِ : | إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ | [ الطَّلَاق : 1 ] وَمِثْله كَثِير , وَالْعَامِل فِي | إِذَا | الْمَصْدَر الَّذِي هُوَ | شَهَادَة | .|الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ|| حِين | ظَرْف زَمَان وَالْعَامِل فِيهِ | حَضَرَ | وَقَوْله : | اِثْنَانِ | يَقْتَضِي بِمُطْلَقِهِ شَخْصَيْنِ , وَيَحْتَمِل رَجُلَيْنِ , إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا قَالَ بَعْد ذَلِكَ : | ذَوَا عَدْل | بَيَّنَ أَنَّهُ أَرَادَ رَجُلَيْنِ ; لِأَنَّهُ لَفْظ لَا يَصْلُح إِلَّا لِلْمُذَكَّرِ , كَمَا أَنَّ | ذَوَاتَا | [ الرَّحْمَن : 48 ] لَا يَصْلُح إِلَّا لِلْمُؤَنَّثِ , وَارْتَفَعَ | اِثْنَانِ | عَلَى أَنَّهُ خَبَر الْمُبْتَدَإ الَّذِي هُوَ | شَهَادَة | قَالَ أَبُو عَلِيّ | شَهَادَة | رَفْع بِالِابْتِدَاءِ وَالْخَبَر فِي قَوْله : | اِثْنَانِ | التَّقْدِير شَهَادَة بَيْنكُمْ فِي وَصَايَاكُمْ شَهَادَة اِثْنَيْنِ ; فَحَذَفَ الْمُضَاف وَأَقَامَ الْمُضَاف إِلَيْهِ مَقَامه ; كَمَا قَالَ تَعَالَى : | وَأَزْوَاجه أُمَّهَاتهمْ | [ الْأَحْزَاب : 6 ] أَيْ مِثْل أُمَّهَاتهمْ , وَيَجُوز أَنْ يَرْتَفِع | اِثْنَانِ | ب | شَهَادَة | ; التَّقْدِير وَفِيمَا أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ أَوْ لِيَكُنْ مِنْكُمْ أَنْ يَشْهَد اِثْنَانِ , أَوْ لِيُقِمْ الشَّهَادَة اِثْنَانِ .|اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ|| ذَوَا عَدْل | صِفَة لِقَوْلِهِ : | اِثْنَانِ | و | مِنْكُمْ | صِفَة بَعْد صِفَة , وَقَوْله : | أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْركُمْ | أَيْ أَوْ شَهَادَة آخَرَيْنِ مِنْ غَيْركُمْ ; فَمِنْ غَيْركُمْ صِفَة لِآخَرَيْنِ , وَهَذَا الْفَصْل هُوَ الْمُشْكِل فِي هَذِهِ الْآيَة , وَالتَّحْقِيق فِيهِ أَنْ يُقَال : اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِيهِ عَلَى ثَلَاثَة أَقْوَال : الْأَوَّل : أَنَّ الْكَاف وَالْمِيم فِي قَوْله : | مِنْكُمْ | ضَمِير لِلْمُسْلِمِينَ | وَآخَرَانِ مِنْ غَيْركُمْ | لِلْكَافِرِينَ فَعَلَى هَذَا تَكُون شَهَادَة أَهْل الْكِتَاب عَلَى الْمُسْلِمِينَ جَائِزَة فِي السَّفَر إِذَا كَانَتْ وَصِيَّة , وَهُوَ الْأَشْبَه بِسِيَاقِ الْآيَة , مَعَ مَا تَقَرَّرَ مِنْ الْأَحَادِيث , وَهُوَ قَوْل ثَلَاثَة مِنْ الصَّحَابَة الَّذِينَ شَاهَدُوا التَّنْزِيل ; أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ وَعَبْد اللَّه بْن قَيْس وَعَبْد اللَّه بْن عَبَّاس فَمَعْنَى الْآيَة مِنْ أَوَّلهَا إِلَى آخِرهَا عَلَى هَذَا الْقَوْل أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّ حُكْمه فِي الشَّهَادَة عَلَى الْمُوصِي إِذَا حَضَرَ الْمَوْت أَنْ تَكُون شَهَادَة عَدْلَيْنِ , فَإِنْ كَانَ فِي سَفَر وَهُوَ الضَّرْب فِي الْأَرْض , وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ أَحَد مِنْ الْمُؤْمِنِينَ , فَلْيُشْهِدْ شَاهِدَيْنِ مِمَّنْ حَضَرَهُ مِنْ أَهْل الْكُفْر , فَإِذَا قَدِمَا وَأَدَّيَا الشَّهَادَة عَلَى وَصِيَّته حَلَفَا بَعْد الصَّلَاة أَنَّهُمَا مَا كَذَبَا وَمَا بَدَّلَا , وَأَنَّ مَا شَهِدَا بِهِ حَقّ , مَا كَتَمَا فِيهِ شَهَادَة وَحُكِمَ بِشَهَادَتِهِمَا ; فَإِنْ عُثِرَ بَعْد ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمَا كَذَبَا أَوْ خَانَا , وَنَحْو هَذَا مِمَّا هُوَ إِثْم حَلَفَ رَجُلَانِ مِنْ أَوْلِيَاء الْمُوصِي فِي السَّفَر , وَغَرِمَ الشَّاهِدَانِ مَا ظَهَرَ عَلَيْهِمَا . هَذَا مَعْنَى الْآيَة عَلَى مَذْهَب أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ , وَسَعِيد بْن الْمُسَيِّب , وَيَحْيَى بْن يَعْمَر ; وَسَعِيد بْن جُبَيْر وَأَبِي مِجْلَز وَإِبْرَاهِيم وَشُرَيْح وَعَبِيدَة السَّلْمَانِيّ ; وَابْن سِيرِينَ وَمُجَاهِد وَقَتَادَة وَالسُّدِّيّ وَابْن عَبَّاس وَغَيْرهمْ , وَقَالَ بِهِ مِنْ الْفُقَهَاء سُفْيَان الثَّوْرِيّ ; وَمَالَ إِلَيْهِ أَبُو عُبَيْد الْقَاسِم بْن سَلَّام لِكَثْرَةِ مَنْ قَالَ بِهِ , وَاخْتَارَهُ أَحْمَد بْن حَنْبَل وَقَالَ : شَهَادَة أَهْل الذِّمَّة جَائِزَة عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي السَّفَر عِنْد عَدَم الْمُسْلِمِينَ كُلّهمْ يَقُولُونَ | مِنْكُمْ | مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَمَعْنَى | مِنْ غَيْركُمْ | يَعْنِي الْكُفَّار . قَالَ بَعْضهمْ : وَذَلِكَ أَنَّ الْآيَة نَزَلَتْ وَلَا مُؤْمِن إِلَّا بِالْمَدِينَةِ ; وَكَانُوا يُسَافِرُونَ بِالتِّجَارَةِ صُحْبَة أَهْل الْكِتَاب وَعَبَدَة الْأَوْثَان وَأَنْوَاع الْكَفَرَة , وَالْآيَة مُحْكَمَة عَلَى مَذْهَب أَبِي مُوسَى وَشُرَيْح وَغَيْرهمَا . الْقَوْل الثَّانِي : أَنَّ قَوْله سُبْحَانه : | أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْركُمْ | مَنْسُوخ ; هَذَا قَوْل زَيْد بْن أَسْلَم وَالنَّخَعِيّ وَمَالِك ; وَالشَّافِعِيّ وَأَبِي حَنِيفَة وَغَيْرهمْ مِنْ الْفُقَهَاء ; إِلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَة خَالَفَهُمْ فَقَالَ : تَجُوز شَهَادَة الْكُفَّار بَعْضهمْ عَلَى بَعْض ; وَلَا تَجُوز عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : | مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاء | [ الْبَقَرَة : 282 ] وَقَوْله : | وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْل مِنْكُمْ | [ الطَّلَاق : 2 ] ; فَهَؤُلَاءِ زَعَمُوا أَنَّ آيَة الدَّيْن مِنْ آخِر مَا نَزَلَ ; وَأَنَّ فِيهَا | مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاء | فَهُوَ نَاسِخ لِذَلِكَ ; وَلَمْ يَكُنْ الْإِسْلَام يَوْمئِذٍ إِلَّا بِالْمَدِينَةِ ; فَجَازَتْ شَهَادَة أَهْل الْكِتَاب ; وَهُوَ الْيَوْم طَبَّقَ الْأَرْض فَسَقَطَتْ شَهَادَة الْكُفَّار ; وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ شَهَادَة الْفُسَّاق لَا تَجُوز ; وَالْكُفَّار فُسَّاق فَلَا تَجُوز شَهَادَتهمْ . قُلْت : مَا ذَكَرْتُمُوهُ صَحِيح إِلَّا أَنَّا نَقُول بِمُوجَبِهِ ; وَأَنَّ ذَلِكَ جَائِز فِي شَهَادَة أَهْل الذِّمَّة عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي الْوَصِيَّة فِي السَّفَر خَاصَّة لِلضَّرُورَةِ بِحَيْثُ لَا يُوجَد مُسْلِم ; وَأَمَّا مَعَ وُجُود مُسْلِم فَلَا ; وَلَمْ يَأْتِ مَا اِدَّعَيْتُمُوهُ مِنْ النَّسْخ عَنْ أَحَد مِمَّنْ شَهِدَ التَّنْزِيل ; وَقَدْ قَالَ بِالْأَوَّلِ ثَلَاثَة مِنْ الصَّحَابَة وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي غَيْره ; وَمُخَالَفَة الصَّحَابَة إِلَى غَيْرهمْ يَنْفِر عَنْهُ أَهْل الْعِلْم , وَيُقَوِّي هَذَا أَنَّ سُورَة | الْمَائِدَة | مِنْ آخِر الْقُرْآن نُزُولًا حَتَّى قَالَ اِبْن عَبَّاس وَالْحَسَن وَغَيْرهمَا : إِنَّهُ لَا مَنْسُوخ فِيهَا , وَمَا اِدَّعَوْهُ مِنْ النَّسْخ لَا يَصِحّ فَإِنَّ النَّسْخ لَا بُدّ فِيهِ مِنْ إِثْبَات النَّاسِخ عَلَى وَجْه يَتَنَافَى الْجَمْع بَيْنهمَا مَعَ تَرَاخِي النَّاسِخ ; فَمَا ذَكَرُوهُ لَا يَصِحّ أَنْ يَكُون نَاسِخًا ; فَإِنَّهُ فِي قِصَّة غَيْر قِصَّة الْوَصِيَّة لِمَكَانِ الْحَاجَة وَالضَّرُورَة ; وَلَا يَمْتَنِع اِخْتِلَاف الْحُكْم عِنْد الضَّرُورَات ; وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ الْكَافِر ثِقَة عِنْد الْمُسْلِم يَرْتَضِيه عِنْد الضَّرُورَة ; فَلَيْسَ فِيمَا قَالُوهُ نَاسِخ . الْقَوْل الثَّالِث أَنَّ الْآيَة لَا نَسْخ فِيهَا ; قَالَهُ الزُّهْرِيّ وَالْحَسَن وَعِكْرِمَة , وَيَكُون مَعْنَى قَوْله : | مِنْكُمْ | أَيْ مِنْ عَشِيرَتكُمْ وَقَرَابَتكُمْ ; لِأَنَّهُمْ أَحْفَظ وَأَضْبَط وَأَبْعَد عَنْ النِّسْيَان .|مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ|أَيْ مِنْ غَيْر الْقَرَابَة وَالْعَشِيرَة ; قَالَ النَّحَّاس : وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى مَعْنًى غَامِض فِي الْعَرَبِيَّة ; وَذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى | آخَر | فِي الْعَرَبِيَّة مِنْ جِنْس الْأَوَّل ; تَقُول : مَرَرْت بِكَرِيمٍ وَكَرِيم آخَر ; فَقَوْله | آخَر | يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ جِنْس الْأَوَّل ; وَلَا يَجُوز عِنْد أَهْل الْعَرَبِيَّة مَرَرْت بِكَرِيمٍ وَخَسِيس آخَر ; وَلَا مَرَرْت بِرَجُلٍ وَحِمَار آخَر ; فَوَجَبَ مِنْ هَذَا أَنْ يَكُون مَعْنَى قَوْله : | أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْركُمْ | أَيْ عَدْلَانِ ; وَالْكُفَّار لَا يَكُونُونَ عُدُولًا فَيَصِحّ عَلَى هَذَا قَوْل مَنْ قَالَ | مِنْ غَيْركُمْ | مِنْ غَيْر عَشِيرَتكُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ , وَهَذَا مَعْنًى حَسَن مِنْ جِهَة اللِّسَان ; وَقَدْ يُحْتَجّ بِهِ لِمَالِك وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ ; لِأَنَّ الْمَعْنَى عِنْدهمْ | مِنْ غَيْركُمْ | مِنْ غَيْر قَبِيلَتكُمْ عَلَى أَنَّهُ قَدْ عُورِضَ هَذَا الْقَوْل بِأَنَّ فِي أَوَّل الْآيَة | يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا | فَخُوطِبَ الْجَمَاعَة مِنْ الْمُؤْمِنِينَ . وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَة بِهَذِهِ الْآيَة عَلَى جَوَاز شَهَادَة الْكُفَّار مِنْ أَهْل الذِّمَّة فِيمَا بَيْنهمْ ; قَالَ : وَمَعْنَى | أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْركُمْ | أَيْ مِنْ غَيْر أَهْل دِينكُمْ ; فَدَلَّ عَلَى جَوَاز شَهَادَة بَعْضهمْ عَلَى بَعْض ; فَيُقَال لَهُ : أَنْتَ لَا تَقُول بِمُقْتَضَى هَذِهِ الْآيَة ; لِأَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَبُول شَهَادَة أَهْل الذِّمَّة عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَأَنْتَ لَا تَقُول بِهَا , فَلَا يَصِحّ اِحْتِجَاجك بِهَا . فَإِنْ قِيلَ : هَذِهِ الْآيَة دَلَّتْ عَلَى جَوَاز قَبُول شَهَادَة أَهْل الذِّمَّة عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ طَرِيق النُّطْق ; وَدَلَّتْ عَلَى قَبُول شَهَادَتهمْ عَلَى أَهْل الذِّمَّة مِنْ طَرِيق التَّنْبِيه ; وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا قُبِلَتْ شَهَادَتهمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَلِأَنْ تُقْبَل عَلَى أَهْل الذِّمَّة أَوْلَى ; ثُمَّ دَلَّ الدَّلِيل عَلَى بُطْلَان شَهَادَتهمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ; فَبَقِيَ شَهَادَتهمْ عَلَى أَهْل الذِّمَّة عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ ; وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ ; لِأَنَّ قَبُول شَهَادَة أَهْل الذِّمَّة عَلَى أَهْل الذِّمَّة فَرْع لِقَبُولِ شَهَادَتهمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ; فَإِذَا بَطَلَتْ شَهَادَتهمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَهِيَ الْأَصْل فَلِأَنْ تَبْطُل شَهَادَتهمْ عَلَى أَهْل الذِّمَّة وَهِيَ فَرْعهَا أَحْرَى وَأَوْلَى . وَاللَّه أَعْلَمُ .|غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ|أَيْ سَافَرْتُمْ ; وَفِي الْكَلَام حَذْف تَقْدِيره إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْض | فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَة الْمَوْت | فَأَوْصَيْتُمْ إِلَى اِثْنَيْنِ عَدْلَيْنِ فِي ظَنّكُمْ ; وَدَفَعْتُمْ إِلَيْهِمَا مَا مَعَكُمْ مِنْ الْمَال ; ثُمَّ مُتُّمْ وَذَهَبَا إِلَى وَرَثَتكُمْ بِالتَّرِكَةِ فَارْتَابُوا فِي أَمْرهمَا ; وَادَّعَوْا عَلَيْهِمَا خِيَانَة ; فَالْحُكْم أَنْ تَحْبِسُوهُمَا مِنْ بَعْد الصَّلَاة ; أَيْ تَسْتَوْثِقُوا مِنْهُمَا ; وَسَمَّى اللَّه تَعَالَى الْمَوْت فِي هَذِهِ الْآيَة مُصِيبَة ; قَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَالْمَوْت وَإِنْ كَانَ مُصِيبَة عُظْمَى , وَرَزِيَّة كُبْرَى ; فَأَعْظَم مِنْهُ الْغَفْلَة عَنْهُ , وَالْإِعْرَاض عَنْ ذِكْره , وَتَرْك التَّفَكُّر فِيهِ ; وَتَرْك الْعَمَل لَهُ ; وَإِنَّ فِيهِ وَحْده لَعِبْرَة لِمَنْ اِعْتَبَرَ , وَفِكْرَة لِمَنْ تَفَكَّرَ , وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( لَوْ أَنَّ الْبَهَائِم تَعْلَم مِنْ الْمَوْت مَا تَعْلَمُونَ مَا أَكَلْتُمْ مِنْهَا سَمِينًا ) , وَيُرْوَى أَنَّ أَعْرَابِيًّا كَانَ يَسِير عَلَى جَمَل لَهُ ; فَخَرَّ الْجَمَل مَيِّتًا فَنَزَلَ الْأَعْرَابِيّ عَنْهُ , وَجَعَلَ يَطُوف بِهِ وَيَتَفَكَّر فِيهِ وَيَقُول : مَا لَك لَا تَقُوم ؟ ! مَا لَك لَا تَنْبَعِث ؟ ! هَذِهِ أَعْضَاؤُك كَامِلَة , وَجَوَارِحك سَالِمَة ; مَا شَأْنك ؟ ! مَا الَّذِي كَانَ يَحْمِلك ؟ ! مَا الَّذِي كَانَ يَبْعَثك ؟ ! مَا الَّذِي صَرَعَك ؟ ! مَا الَّذِي عَنْ الْحَرَكَة مَنَعَك ؟ ! ثُمَّ تَرَكَهُ وَانْصَرَفَ مُتَفَكِّرًا فِي شَأْنه , مُتَعَجِّبًا مِنْ أَمْره .|الْمَوْتِ|قَالَ أَبُو عَلِيّ : | تَحْبِسُونَهُمَا | صِفَة ل | آخَرَانِ | وَاعْتُرِضَ بَيْن الصِّفَة وَالْمَوْصُوف بِقَوْلِهِ : | إِنْ أَنْتُمْ | , وَهَذِهِ الْآيَة أَصْل فِي حَبْس مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ حَقّ ; وَالْحُقُوق عَلَى قِسْمَيْنِ : مِنْهَا مَا يَصْلُح اِسْتِيفَاؤُهُ مُعَجَّلًا ; وَمِنْهَا مَا لَا يُمْكِن اِسْتِيفَاؤُهُ إِلَّا مُؤَجَّلًا ; فَإِنْ خُلِّيَ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقّ غَابَ وَاخْتَفَى وَبَطَلَ الْحَقّ وَتَوِيَ فَلَمْ يَكُنْ بُدّ مِنْ التَّوَثُّق مِنْهُ ; فَإِمَّا بِعِوَضٍ عَنْ الْحَقّ وَهُوَ الْمُسَمَّى رَهْنًا ; وَإِمَّا بِشَخْصٍ يَنُوب مَنَابه فِي الْمُطَالَبَة وَالذِّمَّة وَهُوَ الْحَمِيل ; وَهُوَ دُون الْأَوَّل ; لِأَنَّهُ يَجُوز أَنْ يَغِيب كَمَغِيبِهِ وَيَتَعَذَّر وُجُوده كَتَعَذُّرِهِ ; وَلَكِنْ لَا يُمْكِن أَكْثَر مِنْ هَذَا فَإِنْ تَعَذَّرَا جَمِيعًا لَمْ يَبْقَ إِلَّا التَّوَثُّق بِحَبْسِهِ حَتَّى تَقَع مِنْهُ التَّوْفِيَة لِمَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ حَقّ ; أَوْ تَبِين عُسْرَته . فَإِنْ كَانَ الْحَقّ بَدَنِيًّا لَا يَقْبَل الْبَدَل كَالْحُدُودِ وَالْقِصَاص وَلَمْ يَتَّفِق اِسْتِيفَاؤُهُ مُعَجَّلًا ; لَمْ يَكُنْ فِيهِ إِلَّا التَّوَثُّق بِسَجْنِهِ ; وَلِأَجْلِ هَذِهِ الْحِكْمَة شُرِعَ السَّجْن ; رَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَغَيْرهمَا عَنْ بَهْز بْن حَكِيم عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّه أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَبَسَ رَجُلًا فِي تُهْمَة , وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ عَمْرو بْن الشَّرِيد عَنْ أَبِيهِ عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( لَيُّ الْوَاجِد يُحِلّ عِرْضه وَعُقُوبَته ) . قَالَ اِبْن الْمُبَارَك يُحِلّ عِرْضه يُغَلَّظ لَهُ , وَعُقُوبَته يُحْبَس لَهُ . قَالَ الْخَطَّابِيّ : الْحَبْس عَلَى ضَرْبَيْنِ ; حَبْس عُقُوبَة , وَحَبْس اِسْتِظْهَار , فَالْعُقُوبَة لَا تَكُون إِلَّا فِي وَاجِب , وَأَمَّا مَا كَانَ فِي تُهْمَة فَإِنَّمَا يُسْتَظْهَر بِذَلِكَ لِيُسْتَكْشَف بِهِ مَا وَرَاءَهُ ; وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ حَبَسَ رَجُلًا فِي تُهْمَة سَاعَة مِنْ نَهَار ثُمَّ خَلَّى عَنْهُ , وَرَوَى مَعْمَر عَنْ أَيُّوب عَنْ اِبْن سِيرِينَ قَالَ : كَانَ شُرَيْح إِذَا قَضَى عَلَى رَجُل بِحَقٍّ أَمَرَ بِحَبْسِهِ فِي الْمَسْجِد إِلَى أَنْ يَقُوم فَإِنْ أَعْطَاهُ حَقّه وَإِلَّا أَمَرَ بِهِ إِلَى السِّجْن .|تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ|يُرِيد صَلَاة الْعَصْر ; قَالَهُ الْأَكْثَر مِنْ الْعُلَمَاء ; لِأَنَّ أَهْل الْأَدْيَان يُعَظِّمُونَ ذَلِكَ الْوَقْت وَيَتَجَنَّبُونَ فِيهِ الْكَذِب وَالْيَمِين الْكَاذِبَة , وَقَالَ الْحَسَن : صَلَاة الظُّهْر , وَقِيلَ : أَيّ صَلَاة كَانَتْ , وَقِيلَ : مِنْ بَعْد صَلَاتهمَا عَلَى أَنَّهُمَا كَافِرَانِ ; قَالَهُ السُّدِّيّ , وَقِيلَ : إِنَّ فَائِدَة اِشْتِرَاطه بَعْد الصَّلَاة تَعْظِيمًا لِلْوَقْتِ , وَإِرْهَابًا بِهِ ; لِشُهُودِ الْمَلَائِكَة ذَلِكَ الْوَقْت ; وَفِي الصَّحِيح ( مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِين كَاذِبَة بَعْد الْعَصْر لَقِيَ اللَّه وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَان ) .</p><p>وَهَذِهِ الْآيَة أَصْل فِي التَّغْلِيظ فِي الْأَيْمَان , وَالتَّغْلِيظ يَكُون بِأَرْبَعَةِ أَشْيَاء : أَحَدهَا : الزَّمَان كَمَا ذَكَرْنَا . الثَّانِي : الْمَكَان كَالْمَسْجِدِ وَالْمِنْبَر , خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَة وَأَصْحَابه حَيْثُ يَقُولُونَ : لَا يَجِب اِسْتِحْلَاف أَحَد عِنْد مِنْبَر النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَلَا بَيْن الرُّكْن وَالْمَقَام لَا فِي قَلِيل الْأَشْيَاء وَلَا فِي كَثِيرهَا ; وَإِلَى هَذَا الْقَوْل ذَهَبَ الْبُخَارِيّ - رَحِمَهُ اللَّه - حَيْثُ تَرْجَمَ ( بَاب يَحْلِف الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَيْثُمَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْيَمِين وَلَا يُصْرَف مِنْ مَوْضِع إِلَى غَيْره ) , وَقَالَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ : وَيُجْلَب فِي أَيْمَان الْقَسَامَة إِلَى مَكَّة مَنْ كَانَ مِنْ أَعْمَالهَا , فَيَحْلِف بَيْن الرُّكْن وَالْمَقَام , وَيُجْلَب إِلَى الْمَدِينَة مَنْ كَانَ مِنْ أَعْمَالهَا , فَيَحْلِف عِنْد الْمِنْبَر . الثَّالِث : الْحَال رَوَى مُطَرِّف وَابْن الْمَاجِشُون وَبَعْض أَصْحَاب الشَّافِعِيّ أَنَّهُ يَحْلِف قَائِمًا مُسْتَقْبِل الْقِبْلَة ; لِأَنَّ ذَلِكَ أَبْلَغ فِي الرَّدْع وَالزَّجْر , وَقَالَ اِبْن كِنَانَة : يَحْلِف جَالِسًا ; قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّهُ يَحْلِف كَمَا يُحْكَم عَلَيْهِ بِهَا إِنْ كَانَ قَائِمًا فَقَائِمًا وَإِنْ جَالِسًا فَجَالِسًا إِذْ لَمْ يَثْبُت فِي أَثَر وَلَا نَظَر اِعْتِبَار ذَلِكَ مِنْ قِيَام أَوْ جُلُوس . قُلْت : قَدْ اِسْتَنْبَطَ بَعْض الْعُلَمَاء مِنْ قَوْله فِي حَدِيث عَلْقَمَة بْن وَائِل عَنْ أَبِيهِ : ( فَانْطَلَقَ لِيَحْلِف ) الْقِيَام - وَاللَّه أَعْلَمُ - أَخْرَجَهُ مُسْلِم . الرَّابِع : التَّغْلِيظ بِاللَّفْظِ ; فَذَهَبَتْ طَائِفَة إِلَى الْحَلِف بِاَللَّهِ لَا يَزِيد عَلَيْهِ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى : | فَيُقْسِمَانِ بِاَللَّهِ | وَقَوْله : | قُلْ إِي وَرَبِّي | [ يُونُس : 53 ] وَقَالَ : | وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامكُمْ | [ الْأَنْبِيَاء : 57 ] وَقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُت ) , وَقَوْل الرَّجُل : وَاَللَّه لَا أَزِيد عَلَيْهِنَّ , وَقَالَ مَالِك : يَحْلِف بِاَللَّهِ الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ مَا لَهُ عِنْدِي حَقّ , وَمَا اِدَّعَاهُ عَلَيَّ بَاطِل ; وَالْحُجَّة لَهُ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد حَدَّثَنَا مُسَدَّد قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَص قَالَ حَدَّثَنَا عَطَاء بْن السَّائِب عَنْ أَبِي يَحْيَى عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : - يَعْنِي لِرَجُلٍ حَلَّفَهُ - ( احْلِفْ بِاَللَّهِ الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ مَا لَهُ عِنْدك شَيْء ) يَعْنِي لِلْمُدَّعِي ; قَالَ أَبُو دَاوُد : أَبُو يَحْيَى اِسْمه زِيَاد كُوفِيّ ثِقَة ثَبْت , وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ : يَحْلِف بِاَللَّهِ لَا غَيْر , فَإِنْ اِتَّهَمَهُ الْقَاضِي غَلَّظَ عَلَيْهِ الْيَمِين ; فَيُحَلِّفهُ بِاَللَّهِ الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ عَالِم الْغَيْب وَالشَّهَادَة الرَّحْمَن الرَّحِيم الَّذِي يَعْلَم مِنْ السِّرّ مَا يَعْلَم مِنْ الْعَلَانِيَة الَّذِي يَعْلَم خَائِنَة الْأَعْيُن وَمَا تُخْفِي الصُّدُور , وَزَادَ أَصْحَاب الشَّافِعِيّ التَّغْلِيظ بِالْمُصْحَفِ . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهُوَ بِدْعَة مَا ذَكَرَهَا أَحَد قَطُّ مِنْ الصَّحَابَة , وَزَعَمَ الشَّافِعِيّ أَنَّهُ رَأَى اِبْن مَازِن قَاضِي صَنْعَاء يَحْلِف بِالْمُصْحَفِ وَيَأْمُر أَصْحَابه بِذَلِكَ وَيَرْوِيه عَنْ اِبْن عَبَّاس , وَلَمْ يَصِحّ . قُلْت : وَفِي كِتَاب ( الْمُهَذَّب ) وَإِنْ حَلَفَ بِالْمُصْحَفِ وَمَا فِيهِ مِنْ الْقُرْآن فَقَدْ حَكَى الشَّافِعِيّ عَنْ مُطَرِّف أَنَّ اِبْن الزُّبَيْر كَانَ يُحَلِّف عَلَى الْمُصْحَف , قَالَ : وَرَأَيْت مُطَرِّفًا بِصَنْعَاء يُحَلِّف عَلَى الْمُصْحَف ; قَالَ الشَّافِعِيّ : وَهُوَ حَسَن . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ أَنْ يَسْتَحْلِف بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاق وَالْمُصْحَف . قُلْت : قَدْ تَقَدَّمَ فِي الْأَيْمَان : وَكَانَ قَتَادَة يُحَلِّف بِالْمُصْحَفِ , وَقَالَ أَحْمَد وَإِسْحَاق : لَا يُكْرَه ذَلِكَ ; حَكَاهُ عَنْهُمَا اِبْن الْمُنْذِر</p><p>اِخْتَلَفَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ مِنْ هَذَا الْبَاب فِي قَدْر الْمَال الَّذِي يُحَلَّف بِهِ فِي مَقْطَع الْحَقّ ; فَقَالَ مَالِك : لَا تَكُون الْيَمِين فِي مَقْطَع الْحَقّ فِي أَقَلّ مِنْ ثَلَاثَة دَرَاهِم قِيَاسًا عَلَى الْقَطْع , وَكُلّ مَال تُقْطَع فِيهِ الْيَد وَتَسْقُط بِهِ حُرْمَة الْعُضْو فَهُوَ عَظِيم , وَقَالَ الشَّافِعِيّ : لَا تَكُون الْيَمِين فِي ذَلِكَ فِي أَقَلّ مِنْ عِشْرِينَ دِينَارًا قِيَاسًا عَلَى الزَّكَاة , وَكَذَلِكَ عِنْد مِنْبَر كُلّ مَسْجِد .|الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ|الْفَاء فِي | فَيُقْسِمَانِ | عَاطِفَة جُمْلَة عَلَى جُمْلَة , أَوْ جَوَاب جَزَاء ; لِأَنَّ | تَحْبِسُونَهَا | مَعْنَاهُ اِحْبِسُوهُمَا , أَيْ لِلْيَمِينِ ; فَهُوَ جَوَاب الْأَمْر الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَام كَأَنَّهُ قَالَ : إِذَا حَبَسْتُمُوهُمَا أَقْسَمَا ; قَالَ ذُو الرِّمَّة : <br>وَإِنْسَان عَيْنِي يَحْسِر الْمَاء مَرَّة .......... فَيَبْدُو وَتَارَات يَجِمّ فَيَغْرَق <br>تَقْدِيره عِنْدهمْ : إِذَا حَسَرَ بَدَا . وَاخْتُلِفَ مَنْ الْمُرَاد بِقَوْلِهِ : | فَيُقْسِمَانِ | ؟ فَقِيلَ : الْوَصِيَّانِ إِذَا ارْتِيبَ فِي قَوْلهمَا وَقِيلَ : الشَّاهِدَانِ إِذَا لَمْ يَكُونَا عَدْلَيْنِ وَارْتَابَ بِقَوْلِهِمَا الْحَاكِم حَلَّفَهُمَا . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ مُبْطِلًا لِهَذَا الْقَوْل : وَاَلَّذِي سَمِعْت - وَهُوَ بِدْعَة - عَنْ اِبْن أَبِي لَيْلَى أَنَّهُ يُحَلَّف الطَّالِب مَعَ شَاهِدَيْهِ أَنَّ الَّذِي شَهِدَا بِهِ حَقّ ; وَحِينَئِذٍ يُقْضَى لَهُ بِالْحَقِّ ; وَتَأْوِيل هَذَا عِنْدِي إِذَا اِرْتَابَ الْحَاكِم بِالْقَبْضِ فَيُحَلِّف إِنَّهُ لَبَاقٍ , وَأَمَّا غَيْر ذَلِكَ فَلَا يُلْتَفَت إِلَيْهِ ; هَذَا فِي الْمُدَّعِي فَكَيْفَ يُحْبَس الشَّاهِد أَوْ يُحَلَّف ؟ ! هَذَا مَا لَا يُلْتَفَت إِلَيْهِ . قُلْت : وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ قَوْل الطَّبَرِيّ فِي أَنَّهُ لَا يُعْلَم لِلَّهِ حُكْم يَجِب فِيهِ عَلَى الشَّاهِد يَمِين , وَقَدْ قِيلَ : إِنَّمَا اُسْتُحْلِفَ الشَّاهِدَانِ لِأَنَّهُمَا صَارَا مُدَّعًى عَلَيْهِمَا , حَيْثُ اِدَّعَى الْوَرَثَة أَنَّهُمَا خَانَا فِي الْمَال .|بِاللَّهِ إِنِ|شَرْط لَا يَتَوَجَّه تَحْلِيف الشَّاهِدَيْنِ إِلَّا بِهِ , وَمَتَى لَمْ يَقَع رَيْب وَلَا اِخْتِلَاف فَلَا يَمِين . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : أَمَّا إِنَّهُ يَظْهَر مِنْ حُكْم أَبِي مُوسَى فِي تَحْلِيف الذِّمِّيِّينَ أَنَّهُ بِالْيَمِينِ تَكْمُل شَهَادَتهمَا وَتُنَفَّذ الْوَصِيَّة لِأَهْلِهَا رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ الشَّعْبِيّ أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ حَضَرَتْهُ الْوَفَاة بِدَقُوقَاء هَذِهِ , وَلَمْ يَجِد أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ حَضَرَهُ يُشْهِدهُ عَلَى وَصِيَّته , فَأَشْهَدَ رَجُلَيْنِ مِنْ أَهْل الْكِتَاب , فَقَدِمَا الْكُوفَة فَأَتَيَا الْأَشْعَرِيّ فَأَخْبَرَاهُ , وَقَدِمَا بِتَرِكَتِهِ وَوَصِيَّته ; فَقَالَ الْأَشْعَرِيّ : هَذَا أَمْر لَمْ يَكُنْ بَعْد الَّذِي كَانَ فِي عَهْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَأَحْلَفَهُمَا بَعْد الْعَصْر : | بِاَللَّهِ مَا خَانَا وَلَا كَذَبَا وَلَا بَدَّلَا وَلَا كَتَمَا وَلَا غَيَّرَا وَإِنَّهَا لَوَصِيَّة الرَّجُل وَتَرِكَته | فَأَمْضَى شَهَادَتهمَا . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذِهِ الرِّيبَة عِنْد مَنْ لَا يَرَى الْآيَة مَنْسُوخَة تَتَرَتَّب فِي الْخِيَانَة , وَفِي الِاتِّهَام بِالْمَيْلِ إِلَى بَعْض الْمُوصَى لَهُمْ دُون بَعْض , وَتَقَع مَعَ ذَلِكَ الْيَمِين عِنْده ; وَأَمَّا مَنْ يَرَى الْآيَة مَنْسُوخَة فَلَا يَقَع تَحْلِيف إِلَّا أَنْ يَكُون الِارْتِيَاب فِي خِيَانَة أَوْ تَعَدٍّ بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوه التَّعَدِّي ; فَيَكُون التَّحْلِيف عِنْده بِحَسَبِ الدَّعْوَى عَلَى مُنْكَر لَا عَلَى أَنَّهُ تَكْمِيل لِلشَّهَادَةِ . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : يَمِين الرِّيبَة وَالتُّهْمَة عَلَى قِسْمَيْنِ : أَحَدهمَا : مَا تَقَع الرِّيبَة فِيهِ بَعْد ثُبُوت الْحَقّ وَتَوَجُّه الدَّعْوَى فَلَا خِلَاف فِي وُجُوب الْيَمِين . الثَّانِي : التُّهْمَة الْمُطْلَقَة فِي الْحُقُوق وَالْحُدُود , وَلَهُ تَفْصِيل بَيَانه فِي كُتُب الْفُرُوع ; وَقَدْ تَحَقَّقَتْ هَاهُنَا الدَّعْوَى وَقَوِيَتْ حَسْبَمَا ذُكِرَ فِي الرِّوَايَات . وَالشَّرْط فِي قَوْله : | إِنْ اِرْتَبْتُمْ | يَتَعَلَّق بِقَوْلِهِ : | تَحْبِسُونَهُمَا | لَا بِقَوْلِهِ | فَيُقْسِمَانِ | لِأَنَّ هَذَا الْحَبْس سَبَب الْقَسَم .|ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا|أَيْ يَقُولَانِ فِي يَمِينهمَا لَا نَشْتَرِي بِقَسَمِنَا عِوَضًا نَأْخُذهُ بَدَلًا مِمَّا أَوْصَى بِهِ وَلَا نَدْفَعهُ إِلَى أَحَد وَلَوْ كَانَ الَّذِي نَقْسِم لَهُ ذَا قُرْبَى مِنَّا , وَإِضْمَار الْقَوْل كَثِير , كَقَوْلِهِ : | وَالْمَلَائِكَة يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلّ بَاب . سَلَام عَلَيْكُمْ | [ الرَّعْد : 23 - 24 ] أَيْ يَقُولُونَ سَلَام عَلَيْكُمْ . وَالِاشْتِرَاء هَاهُنَا لَيْسَ بِمَعْنَى الْبَيْع , بَلْ هُوَ التَّحْصِيل . اللَّام فِي قَوْله : | لَا نَشْتَرِي | جَوَاب لِقَوْلِهِ : | فَيُقْسِمَانِ | لِأَنَّ أَقْسَمَ يَلْتَقِي بِمَا يَلْتَقِي بِهِ الْقَسَم ; وَهُوَ | لَا | و | مَا | فِي النَّفْي , | وَإِنَّ | وَاللَّام فِي الْإِيجَاب , وَالْهَاء فِي | بِهِ | عَائِد عَلَى اِسْم اللَّه تَعَالَى , وَهُوَ أَقْرَب مَذْكُور ; الْمَعْنَى : لَا نَبِيع حَظّنَا مِنْ اللَّه تَعَالَى بِهَذَا الْعَرَض . وَيَحْتَمِل أَنْ يَعُود عَلَى الشَّهَادَة وَذُكِرَتْ عَلَى مَعْنَى الْقَوْل ; كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَاتَّقِ دَعْوَة الْمَظْلُوم فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنهَا وَبَيْن اللَّه حِجَاب ) فَأَعَادَ الضَّمِير عَلَى مَعْنَى الدَّعْوَة الَّذِي هُوَ الدُّعَاء , وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَة | النِّسَاء | . قَوْله تَعَالَى : | ثَمَنًا | قَالَ الْكُوفِيُّونَ : الْمَعْنَى ذَا ثَمَن أَيْ سِلْعَة ذَا ثَمَن , فَحُذِفَ الْمُضَاف وَأُقِيمَ الْمُضَاف إِلَيْهِ مَقَامه , وَعِنْدنَا وَعِنْد كَثِير مِنْ الْعُلَمَاء أَنَّ الثَّمَن قَدْ يَكُون هُوَ وَيَكُون السِّلْعَة ; فَإِنَّ الثَّمَن عِنْدنَا مُشْتَرًى كَمَا أَنَّ الْمَثْمُون مُشْتَرًى ; فَكُلّ وَاحِد مِنْ الْمَبِيعَيْنِ ثَمَنًا وَمَثْمُونًا كَانَ الْبَيْع دَائِرًا عَلَى عَرَض وَنَقْد , أَوْ عَلَى عَرَضَيْنِ , أَوْ عَلَى نَقْدَيْنِ ; وَعَلَى هَذَا الْأَصْل تَنْبَنِي مَسْأَلَة : إِذَا أَفْلَسَ الْمُبْتَاع وَوَجَدَ الْبَائِع مَتَاعه هَلْ يَكُون أَوْلَى بِهِ ؟ قَالَ أَبُو حَنِيفَة : لَا يَكُون أَوْلَى بِهِ ; وَبَنَاهُ عَلَى هَذَا الْأَصْل , وَقَالَ : يَكُون صَاحِبهَا أُسْوَة الْغُرَمَاء , وَقَالَ مَالِك : هُوَ أَحَقّ بِهَا فِي الْفَلَس دُون الْمَوْت , وَقَالَ الشَّافِعِيّ : صَاحِبهَا أَحَقّ بِهَا فِي الْفَلَس وَالْمَوْت . تَمَسَّكَ أَبُو حَنِيفَة بِمَا ذَكَرْنَا , وَبِأَنَّ الْأَصْل الْكُلِّيّ أَنَّ الدَّيْن فِي ذِمَّة الْمُفْلِس وَالْمَيِّت , وَمَا بِأَيْدِيهِمَا مَحَلّ لِلْوَفَاءِ ; فَيَشْتَرِك جَمِيع الْغُرَمَاء فِيهِ بِقَدْرِ رُءُوس أَمْوَالهمْ , وَلَا فَرْق فِي ذَلِكَ بَيْن أَنْ تَكُون أَعْيَان السِّلَع مَوْجُودَة أَوْ لَا , إِذْ قَدْ خَرَجَتْ عَنْ مِلْك بَائِعهَا وَوَجَبَتْ أَثْمَانهَا لَهُمْ فِي الذِّمَّة بِالْإِجْمَاعِ , فَلَا يَكُون لَهُمْ إِلَّا أَثْمَانهَا أَوْ مَا وُجِدَ مِنْهَا . وَخَصَّصَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ هَذِهِ الْقَاعِدَة بِأَخْبَارٍ رُوِيَتْ فِي هَذَا الْبَاب رَوَاهَا الْأَئِمَّة أَبُو دَاوُد وَغَيْره .|قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ|أَيْ مَا أَعْلَمَنَا اللَّه مِنْ الشَّهَادَة , وَفِيهَا سَبْع قِرَاءَات مَنْ أَرَادَهَا وَجَدَهَا فِي ( التَّحْصِيل ) وَغَيْره .

فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآَخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِ

قَالَ عُمَر : هَذِهِ الْآيَة أَعْضَل مَا فِي هَذِهِ السُّورَة مِنْ الْأَحْكَام , وَقَالَ الزَّجَّاج : أَصْعَب مَا فِي الْقُرْآن مِنْ الْإِعْرَاب قَوْله : | مِنْ الَّذِينَ اِسْتَحَقَّ عَلَيْهِمْ الْأَوْلَيَانِ | . عَثَرَ عَلَى كَذَا أَيْ اِطَّلَعَ عَلَيْهِ ; يُقَال : عَثَرْت مِنْهُ عَلَى خِيَانَة أَيْ اِطَّلَعْت , وَأَعْثَرْت غَيْرِي عَلَيْهِ , وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : | وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ | [ الْكَهْف : 21 ] . لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَطْلُبُونَهُمْ وَقَدْ خَفِيَ عَلَيْهِمْ مَوْضِعهمْ , وَأَصْل الْعُثُور الْوُقُوع وَالسُّقُوط عَلَى الشَّيْء ; وَمِنْهُ قَوْلهمْ : عَثَرَ الرَّجُل يَعْثِر عُثُورًا إِذَا وَقَعَتْ إِصْبَعه بِشَيْءٍ صَدَمَتْهُ , وَعَثَرَتْ إِصْبَع فُلَان بِكَذَا إِذَا صَدَمَتْهُ فَأَصَابَتْهُ وَوَقَعَتْ عَلَيْهِ , وَعَثَرَ الْفَرَس عِثَارًا ; قَالَ الْأَعْشَى : <br>بِذَاتِ لَوْث عَفَرْنَاة إِذَا عَثَرَتْ .......... فَالتَّعْس أَدْنَى لَهَا مِنْ أَنْ أَقُول لَعَا <br>وَالْعِثْيَر الْغُبَار السَّاطِع ; لِأَنَّهُ يَقَع عَلَى الْوَجْه , وَالْعَثْيَر الْأَثَر الْخَفِيّ لِأَنَّهُ يُوقَع عَلَيْهِ مِنْ خَفَاء , وَالضَّمِير فِي | أَنَّهُمَا | يَعُود عَلَى الْوَصِيَّيْنِ اللَّذَيْنِ ذُكِرَا فِي قَوْله عَزَّ وَجَلَّ : | اِثْنَانِ | عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر , وَقِيلَ : عَلَى الشَّاهِدَيْنِ ; عَنْ اِبْن عَبَّاس . و | اِسْتَحَقَّا | أَيْ اِسْتَوْجَبَا | إِثْمًا | يَعْنِي بِالْخِيَانَةِ , وَأَخْذهمَا مَا لَيْسَ لَهُمَا , أَوْ بِالْيَمِينِ الْكَاذِبَة أَوْ بِالشَّهَادَةِ الْبَاطِلَة , وَقَالَ أَبُو عَلِيّ : الْإِثْم هُنَا اِسْم الشَّيْء الْمَأْخُوذ ; لِأَنَّ آخِذه بِأَخْذِهِ آثِم , فَسُمِّيَ إِثْمًا كَمَا سُمِّيَ مَا يُؤْخَذ بِغَيْرِ حَقّ مَظْلِمَة , وَقَالَ سِيبَوَيْهِ : الْمَظْلِمَة اِسْم مَا أُخِذَ مِنْك ; فَكَذَلِكَ سُمِّيَ هَذَا الْمَأْخُوذ بِاسْمِ الْمَصْدَر وَهُوَ الْجَام|فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا|يَعْنِي فِي الْأَيْمَان أَوْ فِي الشَّهَادَة ; وَقَالَ | آخَرَانِ | بِحَسَبِ أَنَّ الْوَرَثَة كَانَا اِثْنَيْنِ . وَارْتَفَعَ | آخَرَانِ | بِفِعْلٍ مُضْمَر . | يَقُومَانِ | فِي مَوْضِع نَعْت . | مَقَامهمَا | مَصْدَر , وَتَقْدِيره : مَقَامًا مِثْل مَقَامهمَا , ثُمَّ أُقِيمَ النَّعْت مَقَام الْمَنْعُوت , وَالْمُضَاف مَقَام الْمُضَاف إِلَيْهِ|مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ|قَالَ اِبْن السَّرِيّ : الْمَعْنَى اِسْتَحَقَّ عَلَيْهِمْ الْإِيصَاء ; قَالَ النَّحَّاس : وَهَذَا مِنْ أَحْسَن مَا قِيلَ فِيهِ ; لِأَنَّهُ لَا يُجْعَل حَرْف بَدَلًا مِنْ حَرْف ; وَاخْتَارَهُ اِبْن الْعَرَبِيّ ; وَأَيْضًا فَإِنَّ التَّفْسِير عَلَيْهِ ; لِأَنَّ الْمَعْنَى عِنْد أَهْل التَّفْسِير : مِنْ الَّذِينَ اسْتُحِقَّتْ عَلَيْهِمْ الْوَصِيَّة . و | الْأَوْلَيَانِ | بَدَل مِنْ قَوْله : | فَآخَرَانِ | قَالَهُ اِبْن السَّرِيّ , وَاخْتَارَهُ النَّحَّاس وَهُوَ بَدَل الْمَعْرِفَة مِنْ النَّكِرَة وَإِبْدَال الْمَعْرِفَة مِنْ النَّكِرَة جَائِز , وَقِيلَ : النَّكِرَة إِذَا تَقَدَّمَ ذِكْرهَا ثُمَّ أُعِيدَ ذِكْرهَا صَارَتْ مَعْرِفَة ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى : | كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاح | [ النُّور : 35 ] ثُمَّ قَالَ : | الْمِصْبَاح فِي زُجَاجَة | [ النُّور : 35 ] ثُمَّ قَالَ : | الزُّجَاجَة | [ النُّور : 35 ] , وَقِيلَ : وَهُوَ بَدَل مِنْ الضَّمِير فِي | يَقُومَانِ | كَأَنَّهُ قَالَ : فَيَقُوم الْأَوْلَيَانِ أَوْ خَبَر اِبْتِدَاء مَحْذُوف ; التَّقْدِير : فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامهمَا هُمَا الْأَوْلَيَانِ , وَقَالَ اِبْن عِيسَى : | الْأَوْلَيَانِ | مَفْعُول | اسْتُحِقَّ | عَلَى حَذْف الْمُضَاف ; أَيْ اسْتُحِقَّ فِيهِمْ وَبِسَبَبِهِمْ إِثْم الْأَوْلَيَيْنِ فَعَلَيْهِمْ بِمَعْنَى فِيهِمْ مِثْل | عَلَى مُلْك سُلَيْمَان | [ الْبَقَرَة : 102 ] أَيْ فِي مُلْك سُلَيْمَان , وَقَالَ الشَّاعِر : <br>مَتَى مَا تُنْكِرُوهَا تَعْرِفُوهَا .......... عَلَى أَقْطَارهَا عَلَق نَفِيث <br>أَيْ فِي أَقْطَارهَا , وَقَرَأَ يَحْيَى بْن وَثَّاب وَالْأَعْمَش وَحَمْزَة | الْأَوَّلِينَ | جَمْع أَوَّل عَلَى أَنَّهُ بَدَل مِنْ | الَّذِي | أَوْ مِنْ الْهَاء وَالْمِيم فِي | عَلَيْهِمْ | وَقَرَأَ حَفْص : | اِسْتَحَقَّ | بِفَتْحِ التَّاء وَالْحَاء , وَرُوِيَ عَنْ أُبَيّ بْن كَعْب , وَفَاعِله | الْأَوْلَيَانِ | وَالْمَفْعُول مَحْذُوف , وَالتَّقْدِير : مِنْ الَّذِينَ اِسْتَحَقَّ عَلَيْهِمْ الْأَوْلَيَانِ بِالْمَيِّتِ وَصِيَّته الَّتِي أَوْصَى بِهَا , وَقِيلَ : اِسْتَحَقَّ عَلَيْهِمْ الْأَوْلَيَانِ رَدّ الْأَيْمَان , وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَن : | الْأَوَّلَانِ | وَعَنْ اِبْن سِيرِينَ : | الْأَوَّلَيْنِ 276 | قَالَ النَّحَّاس : وَالْقِرَاءَتَانِ لَحْن ; لَا يُقَال فِي مُثَنَّى ; مُثَنَّان , غَيْر أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْ الْحَسَن | الْأَوَّلَانِ ||فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ|أَيْ يَحْلِفَانِ الْآخَرَانِ اللَّذَانِ يَقُومَانِ مَقَام الشَّاهِدَيْنِ ( أَنَّ الَّذِي قَالَ صَاحِبنَا فِي وَصِيَّته حَقّ , وَأَنَّ الْمَال الَّذِي وَصَّى بِهِ إِلَيْكُمَا كَانَ أَكْثَر مِمَّا أَتَيْتُمَانَا بِهِ وَأَنَّ هَذَا الْإِنَاء لَمِنْ مَتَاع صَاحِبنَا الَّذِي خَرَجَ بِهِ مَعَهُ وَكَتَبَهُ فِي وَصِيَّته , وَأَنَّكُمَا خُنْتُمَا )|لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا|أَيْ يَمِيننَا أَحَقّ مِنْ يَمِينهمَا ; فَصَحَّ أَنَّ الشَّهَادَة قَدْ تَكُون بِمَعْنَى الْيَمِين , وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : | فَشَهَادَة أَحَدهمْ أَرْبَع شَهَادَات | [ النُّور : 6 ] . وَقَدْ رَوَى مَعْمَر عَنْ أَيُّوب عَنْ اِبْن سِيرِينَ عَنْ عُبَيْدَة قَالَ : قَامَ رَجُلَانِ مِنْ أَوْلِيَاء الْمَيِّت فَحَلَفَا . | لَشَهَادَتنَا أَحَقّ | اِبْتِدَاء وَخَبَر .|وَمَا اعْتَدَيْنَا|أَيْ تَجَاوَزْنَا الْحَقّ فِي قَسَمنَا .|إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ|أَيْ إِنْ كُنَّا حَلَفْنَا عَلَى بَاطِل , وَأَخَذْنَا مَا لَيْسَ لَنَا .

ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ

| ذَلِكَ أَدْنَى | اِبْتِدَاء وَخَبَر . | أَنْ | فِي مَوْضِع نَصْب . | يَأْتُوا | نُصِبَ بـ | ـأَنْ | . | أَوْ يَخَافُوا | عَطْف عَلَيْهِ . | أَنْ تُرَدّ | فِي مَوْضِع نَصْب ب | يَخَافُوا | . | أَيْمَان بَعْد أَيْمَانهمْ | قِيلَ : الضَّمِير فِي | يَأْتُوا | و | يَخَافُوا | رَاجِع إِلَى الْمُوصَى إِلَيْهِمَا ; وَهُوَ الْأَلْيَق بِمَسَاقِ الْآيَة , وَقِيلَ : الْمُرَاد بِهِ النَّاس , أَيْ أَحْرَى أَنْ يَحْذَر النَّاس الْخِيَانَة فَيَشْهَدُوا بِالْحَقِّ خَوْف الْفَضِيحَة فِي رَدّ الْيَمِين عَلَى الْمُدَّعِي , وَاللَّه أَعْلَمُ .|وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا|أَمْر ; وَلِذَلِكَ حُذِفَتْ مِنْهُ النُّون , أَيْ اِسْمَعُوا مَا يُقَال لَكُمْ , قَابِلِينَ لَهُ مُتَّبِعِينَ أَمْر اللَّه فِيهِ .|وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ|فَسَقَ يَفْسِق وَيَفْسُق إِذَا خَرَجَ مِنْ الطَّاعَة إِلَى الْمَعْصِيَة , وَقَدْ تَقَدَّمَ , وَاَللَّه أَعْلَم .

يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ

يُقَال : مَا وَجْه اِتِّصَال هَذِهِ الْآيَة بِمَا قَبْلهَا ؟ فَالْجَوَاب : أَنَّهُ اِتِّصَال الزَّجْر عَنْ الْإِظْهَار خِلَاف الْإِبْطَانِ فِي وَصِيَّة أَوْ غَيْرهَا مِمَّا يُنْبِئ أَنَّ الْمُجَازِي عَلَيْهِ عَالِم بِهِ . و | يَوْم | ظَرْف زَمَان وَالْعَامِل فِيهِ | وَاسْمَعُوا | أَيْ وَاسْمَعُوا خَبَر يَوْم , وَقِيلَ : التَّقْدِير وَاتَّقُوا يَوْم يَجْمَع اللَّه الرُّسُل عَنْ الزَّجَّاج , وَقِيلَ : التَّقْدِير اُذْكُرُوا أَوْ اِحْذَرُوا يَوْم الْقِيَامَة حِين يَجْمَع اللَّه الرُّسُل , وَالْمَعْنَى مُتَقَارِب ; وَالْمُرَاد التَّهْدِيد وَالتَّخْوِيف .|فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ|أَيْ مَا الَّذِي أَجَابَتْكُمْ بِهِ أُمَمكُمْ ؟ وَمَا الَّذِي رَدَّ عَلَيْكُمْ قَوْمكُمْ حِين دَعَوْتُمُوهُمْ إِلَى تَوْحِيدِي ؟|قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ|| قَالُوا | أَيْ فَيَقُولُونَ : | لَا عِلْم لَنَا | وَاخْتَلَفَ أَهْل التَّأْوِيل فِي الْمَعْنَى الْمُرَاد بِقَوْلِهِمْ : | لَا عِلْم لَنَا | فَقِيلَ : مَعْنَاهُ لَا عِلْم لَنَا بِبَاطِنِ مَا أَجَابَ بِهِ أُمَمنَا ; لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي يَقَع عَلَيْهِ الْجَزَاء ; وَهَذَا مَرْوِيّ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَقِيلَ : الْمَعْنَى لَا عِلْم لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتنَا , فَحُذِفَ ; عَنْ اِبْن عَبَّاس وَمُجَاهِد بِخِلَافٍ , وَقَالَ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا : مَعْنَاهُ لَا عِلْم لَنَا إِلَّا عِلْم أَنْتَ أَعْلَم بِهِ مِنَّا , وَقِيلَ : إِنَّهُمْ يَذْهَلُونَ مِنْ هَوْل ذَلِكَ وَيَفْزَعُونَ مِنْ الْجَوَاب , ثُمَّ يُجِيبُونَ بَعْدَمَا تَثُوب إِلَيْهِمْ عُقُولهمْ فَيَقُولُونَ : | لَا عِلْم لَنَا | قَالَ الْحَسَن وَمُجَاهِد وَالسُّدِّيّ . قَالَ النَّحَّاس : وَهَذَا لَا يَصِحّ ; لِأَنَّ الرُّسُل صَلَوَات اللَّه عَلَيْهِمْ لَا خَوْف عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ . قُلْت : هَذَا فِي أَكْثَر مَوَاطِن الْقِيَامَة ; فَفِي الْخَبَر ( إِنَّ جَهَنَّم إِذَا جِيءَ بِهَا زَفَرَتْ زَفْرَة فَلَا يَبْقَى نَبِيّ وَلَا صِدِّيق إِلَّا جَثَا لِرُكْبَتَيْهِ ) وَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( خَوَّفَنِي جِبْرِيل يَوْم الْقِيَامَة حَتَّى أَبْكَانِي فَقُلْت يَا جِبْرِيل أَلَمْ يُغْفَر لِي مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِي وَمَا تَأَخَّرَ ؟ فَقَالَ لِي يَا مُحَمَّد لَتَشْهَدَنَّ مِنْ هَوْل ذَلِكَ الْيَوْم مَا يُنْسِيك الْمَغْفِرَة ) . قُلْت : فَإِنْ كَانَ السُّؤَال عِنْد زَفْرَة جَهَنَّم - كَمَا قَالَ بَعْضهمْ - فَقَوْل مُجَاهِد وَالْحَسَن صَحِيح ; وَاَللَّه أَعْلَم . قَالَ النَّحَّاس : وَالصَّحِيح فِي هَذَا أَنَّ الْمَعْنَى : مَاذَا أُجِبْتُمْ فِي السِّرّ وَالْعَلَانِيَة لِيَكُونَ هَذَا تَوْبِيخًا لِلْكُفَّارِ ; فَيَقُولُونَ : لَا عِلْم لَنَا ; فَيَكُون هَذَا تَكْذِيبًا لِمَنْ اِتَّخَذَ الْمَسِيح إِلَهًا , وَقَالَ اِبْن جُرَيْج : مَعْنَى قَوْله : | مَاذَا أُجِبْتُمْ | مَاذَا عَمِلُوا بَعْدكُمْ ؟ قَالُوا : | لَا عِلْم لَنَا إِنَّك أَنْتَ عَلَّام الْغُيُوب | . قَالَ أَبُو عُبَيْد : وَيُشْبِه هَذَا حَدِيث النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( يَرِد عَلَيَّ أَقْوَام الْحَوْض فَيَخْتَلِجُونَ فَأَقُول أُمَّتِي فَيُقَال إِنَّك لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدك ) , وَكَسَرَ الْغَيْن مِنْ الْغُيُوب حَمْزَة وَالْكِسَائِيّ وَأَبُو بَكْر , وَضَمَّ الْبَاقُونَ . قَالَ الْمَاوَرْدِيّ فَإِنْ قِيلَ : فَلِمَ سَأَلَهُمْ عَمَّا هُوَ أَعْلَم بِهِ مِنْهُمْ ؟ فَعَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدهمَا : أَنَّهُ سَأَلَهُمْ لِيُعْلِمهُمْ مَا لَمْ يَعْلَمُوا مِنْ كُفْر أُمَمهمْ وَنِفَاقهمْ وَكَذِبهمْ عَلَيْهِمْ مِنْ بَعْدهمْ . الثَّانِي : أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَفْضَحَهُمْ بِذَلِكَ عَلَى رُءُوس الْأَشْهَاد لِيَكُونَ ذَلِكَ نَوْعًا مِنْ الْعُقُوبَة لَهُمْ .

إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْل

هَذَا مِنْ صِفَة يَوْم الْقِيَامَة كَأَنَّهُ قَالَ : اُذْكُرْ يَوْم يَجْمَع اللَّه الرُّسُل وَإِذْ يَقُول اللَّه لِعِيسَى كَذَا ; قَالَهُ الْمَهْدَوِيّ . و | عِيسَى | يَجُوز أَنْ يَكُون فِي مَوْضِع رَفْع عَلَى أَنْ يَكُون | اِبْن مَرْيَم | نِدَاء ثَانِيًا , وَيَجُوز أَنْ يَكُون فِي مَوْضِع نَصْب ; لِأَنَّهُ نِدَاء مَنْصُوب كَمَا قَالَ : <br>يَا حَكَمَ بْنَ الْمُنْذِر بْن الْجَارُود <br>وَلَا يَجُوز الرَّفْع فِي الثَّانِي إِذَا كَانَ مُضَافًا إِلَّا عِنْد الطُّوَال . قَوْله تَعَالَى : | اُذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْك | إِنَّمَا ذَكَّرَ اللَّه تَعَالَى عِيسَى نِعْمَته عَلَيْهِ وَعَلَى وَالِدَته وَإِنْ كَانَ لَهُمَا ذَاكِرًا لِأَمْرَيْنِ : أَحَدهمَا : لِيَتْلُوَ عَلَى الْأُمَم مَا خَصَّهُمَا بِهِ مِنْ الْكَرَامَة , وَمَيَّزَهُمَا بِهِ مِنْ عُلُوّ الْمَنْزِلَة . الثَّانِي : لِيُؤَكِّد بِهِ حُجَّته , وَيَرُدّ بِهِ جَاحِده .|وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ|ثُمَّ أَخَذَ فِي تَعْدِيد نِعَمه فَقَالَ : | إِذْ أَيَّدْتُك | يَعْنِي قَوَّيْتُك ; مَأْخُوذ مِنْ الْأَيْد وَهُوَ الْقُوَّة , وَقَدْ تَقَدَّمَ . وَفِي | رُوح الْقُدُس | وَجْهَانِ : أَحَدهمَا : أَنَّهَا الرُّوح الطَّاهِرَة الَّتِي خَصَّهُ اللَّه بِهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْله | وَرُوح مِنْهُ | [ النِّسَاء : 171 ] الثَّانِي : أَنَّهُ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام وَهُوَ الْأَصَحّ , كَمَا تَقَدَّمَ فِي | الْبَقَرَة | .|الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ|يَعْنِي وَتُكَلِّم النَّاس فِي الْمَهْد صَبِيًّا , وَفِي الْكُهُولَة نَبِيًّا , وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي هَذَا فِي [ آل عِمْرَان ] فَلَا مَعْنَى لِإِعَادَتِهِ .|وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ|قَالَ اِبْن جُرَيْج : الْكِتَاب الْكِتَابَة وَالْخَطّ , وَقِيلَ : هُوَ كِتَاب غَيْر التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل عَلَّمَهُ اللَّه عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام .|وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا|قَرَأَ الْأَعْرَج وَأَبُو جَعْفَر | كَهَيِّئَةِ | بِالتَّشْدِيدِ . الْبَاقُونَ بِالْهَمْزِ . وَالطَّيْر يُذَكَّر وَيُؤَنَّث . | فَتَنْفُخ فِيهَا | أَيْ فِي الْوَاحِد مِنْهُ أَوْ مِنْهَا أَوْ فِي الطِّين فَيَكُون طَائِرًا , وَطَائِر وَطَيْر مِثْل تَاجِر وَتَجْر . قَالَ وَهْب : كَانَ يَطِير مَا دَامَ النَّاس يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ فَإِذَا غَابَ عَنْ أَعْيُنهمْ سَقَطَ مَيِّتًا لِيَتَمَيَّز فِعْل الْخَلْق مِنْ فِعْل اللَّه تَعَالَى , وَقِيلَ : لَمْ يَخْلُق غَيْر الْخُفَّاش لِأَنَّهُ أَكْمَل الطَّيْر خَلْقًا لِيَكُونَ أَبْلَغ فِي الْقُدْرَة لِأَنَّ لَهَا ثَدْيًا وَأَسْنَانًا وَأُذُنًا , وَهِيَ تَحِيض وَتَطْهُر وَتَلِد . وَيُقَال : إِنَّمَا طَلَبُوا خَلْق خُفَّاش لِأَنَّهُ أَعْجَب مِنْ سَائِر الْخَلْق ; وَمِنْ عَجَائِبه أَنَّهُ لَحْم وَدَم يَطِير بِغَيْرِ رِيش وَيَلِد كَمَا يَلِد الْحَيَوَان وَلَا يَبِيض كَمَا يَبِيض سَائِر الطُّيُور , فَيَكُون لَهُ الضَّرْع يَخْرُج مِنْهُ اللَّبَن , وَلَا يُبْصِر فِي ضَوْء النَّهَار وَلَا فِي ظُلْمَة اللَّيْل , وَإِنَّمَا يَرَى فِي سَاعَتَيْنِ : بَعْد غُرُوب الشَّمْس سَاعَة وَبَعْد طُلُوع الْفَجْر سَاعَة قَبْل أَنْ يُسْفِر جِدًّا , وَيَضْحَك كَمَا يَضْحَك الْإِنْسَان , وَيَحِيض كَمَا تَحِيض الْمَرْأَة , وَيُقَال : إِنَّ سُؤَالهمْ كَانَ لَهُ عَلَى وَجْه التَّعَنُّت فَقَالُوا : اُخْلُقْ لَنَا خُفَّاشًا وَاجْعَلْ فِيهِ رُوحًا إِنْ كُنْت صَادِقًا فِي مَقَالَتك ; فَأَخَذَ طِينًا وَجَعَلَ مِنْهُ خُفَّاشًا ثُمَّ نَفَخَ فِيهِ فَإِذَا هُوَ يَطِير بَيْن السَّمَاء وَالْأَرْض ; وَكَانَ تَسْوِيَة الطِّين وَالنَّفْخ مِنْ عِيسَى وَالْخَلْق مِنْ اللَّه , كَمَا أَنَّ النَّفْخ مِنْ جِبْرِيل وَالْخَلْق مِنْ اللَّه .|بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى|الْأَكْمَه : الَّذِي يُولَد أَعْمَى ; عَنْ اِبْن عَبَّاس , وَكَذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدَة قَالَ : هُوَ الَّذِي يُولَد أَعْمَى ; وَأَنْشَدَ لِرُؤْبَةَ : <br>فَارْتَدَّ اِرْتِدَاد الْأَكْمَه <br>وَقَالَ اِبْن فَارِس : الْكَمَه الْعَمَى يُولَد بِهِ الْإِنْسَان وَقَدْ يَعْرِض . قَالَ سُوَيْد : <br>كَمِهَتْ عَيْنَاهُ حَتَّى اِبْيَضَّتَا <br>مُجَاهِد : هُوَ الَّذِي يُبْصِر بِالنَّهَارِ وَلَا يُبْصِر بِاللَّيْلِ . عِكْرِمَة : هُوَ الْأَعْمَش , وَلَكِنَّهُ فِي اللُّغَة الْعَمَى ; يُقَال كَمِهَ كَمَهًا وَكَمَّهْتهَا أَنَا إِذَا أَعْمَيْتهَا , وَالْبَرَص مَعْرُوف وَهُوَ بَيَاض يَعْتَرِي الْجِلْد , وَالْأَبْرَص الْقَمَر , وَسَامّ أَبْرَص مَعْرُوف , وَيُجْمَع عَلَى الْأَبَارِص , وَخُصَّ هَذَانِ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُمَا عَيَاءَانِ , وَكَانَ الْغَالِب عَلَى زَمَن عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام الطِّبّ فَأَرَاهُمْ اللَّه الْمُعْجِزَة مِنْ جِنْس ذَلِكَ . | وَتُخْرِج الْمَوْتَى بِإِذْنِي | قِيلَ : أَحْيَا أَرْبَعَة أَنْفُس : الْعَاذِر : وَكَانَ صِدِّيقًا لَهُ , وَابْن الْعَجُوز وَابْنَة الْعَاشِر وَسَام بْن نُوح ; فَاَللَّه أَعْلَم . فَأَمَّا الْعَاذِر فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ تُوُفِّيَ قَبْل ذَلِكَ بِأَيَّامٍ فَدَعَا اللَّه فَقَامَ بِإِذْنِ اللَّه وَوَدَكه يَقْطُر فَعَاشَ وَوُلِدَ لَهُ , وَأَمَّا اِبْن الْعَجُوز فَإِنَّهُ مَرَّ بِهِ يُحْمَل عَلَى سَرِيره فَدَعَا اللَّه فَقَامَ وَلَبِسَ ثِيَابه وَحَمَلَ السَّرِير عَلَى عُنُقه وَرَجَعَ إِلَى أَهْله , وَأَمَّا بِنْت الْعَاشِر فَكَانَ أَتَى عَلَيْهَا لَيْلَة فَدَعَا اللَّه فَعَاشَتْ بَعْد ذَلِكَ وَوُلِدَ لَهَا ; فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَالُوا : إِنَّك تُحْيِي مَنْ كَانَ مَوْته قَرِيبًا فَلَعَلَّهُمْ لَمْ يَمُوتُوا فَأَصَابَتْهُمْ سَكْتَة فَأَحْيِ لَنَا سَام بْن نُوح . فَقَالَ لَهُمْ : دُلُّونِي عَلَى قَبْره , فَخَرَجَ وَخَرَجَ الْقَوْم مَعَهُ , حَتَّى اِنْتَهَى إِلَى قَبْره فَدَعَا اللَّه فَخَرَجَ مِنْ قَبْره وَقَدْ شَابَ رَأْسه . فَقَالَ لَهُ عِيسَى : كَيْفَ شَابَ رَأْسك وَلَمْ يَكُنْ فِي زَمَانكُمْ شَيْب ؟ فَقَالَ : يَا رُوح اللَّه , إِنَّك دَعَوْتنِي فَسَمِعْت صَوْتًا يَقُول : أَجِبْ رُوح اللَّه , فَظَنَنْت أَنَّ الْقِيَامَة قَدْ قَامَتْ , فَمِنْ هَوْل ذَلِكَ شَابَ رَأْسِي . فَسَأَلَ عَنْ النَّزْع فَقَالَ : يَا رُوح اللَّه إِنَّ مَرَارَة النَّزْع لَمْ تَذْهَب عَنْ حَنْجَرَتِي ; وَقَدْ كَانَ مِنْ وَقْت مَوْته أَكْثَر مِنْ أَرْبَعَة آلَاف سَنَة , فَقَالَ لِلْقَوْمِ : صَدِّقُوهُ فَإِنَّهُ نَبِيّ ; فَآمَنَ بِهِ بَعْضهمْ وَكَذَّبَهُ بَعْضهمْ وَقَالُوا : هَذَا سِحْر , وَرُوِيَ مِنْ حَدِيث إِسْمَاعِيل بْن عَيَّاش قَالَ : حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن طَلْحَة عَنْ رَجُل أَنَّ عِيسَى ابْن مَرْيَم كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى صَلَّى رَكْعَتَيْنِ يَقْرَأ فِي الْأُولَى : | تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْك | [ الْمُلْك : 1 ] , وَفِي الثَّانِيَة | تَنْزِيل | [ السَّجْدَة : 2 ] فَإِذَا فَرَغَ حَمِدَ اللَّه وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ دَعَا بِسَبْعَةِ أَسْمَاء : يَا قَدِيم يَا خَفِيّ يَا دَائِم يَا فَرْد يَا وِتْر يَا أَحَد يَا صَمَد ; ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيّ وَقَالَ : لَيْسَ إِسْنَاده بِالْقَوِيِّ .|بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ|| كَفَفْت | مَعْنَاهُ دَفَعْت وَصَرَفْت | بَنِي إِسْرَائِيل عَنْك | حِين هَمُّوا بِقَتْلِك | إِذْ جِئْتُمْ بِالْبَيِّنَاتِ | أَيْ الدَّلَالَات وَالْمُعْجِزَات , وَهِيَ الْمَذْكُورَة فِي الْآيَة .|بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا|يَعْنِي الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِك وَجَحَدُوا نُبُوَّتك .|مِنْهُمْ إِنْ|أَيْ الْمُعْجِزَات|هَذَا إِلَّا سِحْرٌ|وَقَرَأَ حَمْزَة وَالْكِسَائِيّ | سَاحِر | أَيْ إِنْ هَذَا الرَّجُل إِلَّا سَاحِر قَوِيّ عَلَى السِّحْر .

وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آَمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آَمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ

قَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْل فِي مَعَانِي هَذِهِ الْآيَة , وَالْوَحْي فِي كَلَام الْعَرَب مَعْنَاهُ الْإِلْهَام وَيَكُون عَلَى أَقْسَام : وَحْي بِمَعْنَى إِرْسَال جِبْرِيل إِلَى الرُّسُل عَلَيْهِمْ السَّلَام , وَوَحْي بِمَعْنَى الْإِلْهَام كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَة ; أَيْ أَلْهَمْتهمْ وَقَذَفْت فِي قُلُوبهمْ ; وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : | وَأَوْحَى رَبّك إِلَى النَّحْل | [ النَّحْل : 68 ] | وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمّ مُوسَى | [ الْقَصَص : 7 ] وَوَحْي بِمَعْنَى الْإِعْلَام فِي الْيَقَظَة وَالْمَنَام قَالَ أَبُو عُبَيْدَة : أَوْحَيْت بِمَعْنَى أَمَرْت , | وَإِلَى | صِلَة يُقَال : وَحَى وَأَوْحَى بِمَعْنًى ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : | بِأَنَّ رَبّك أَوْحَى لَهَا | [ الزَّلْزَلَة : 5 ] وَقَالَ الْعَجَّاج : <br>وَحَى لَهَا الْقَرَار فَاسْتَقَرَّتْ <br>أَيْ أَمَرَهَا بِالْقَرَارِ فَاسْتَقَرَّتْ , وَقِيلَ : | أَوْحَيْت | هُنَا بِمَعْنَى أَمَرْتهمْ وَقِيلَ : بَيَّنْت لَهُمْ .|قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ|عَلَى الْأَصْل ; وَمِنْ الْعَرَب مَنْ يَحْذِف إِحْدَى النُّونَيْنِ ; أَيْ وَاشْهَدْ يَا رَبّ , وَقِيلَ : يَا عِيسَى بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ لِلَّهِ .

إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ

قَوْله تَعَالَى : | إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى اِبْن مَرْيَم | عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْإِعْرَاب . | هَلْ يَسْتَطِيع رَبّك | . قِرَاءَة الْكِسَائِيّ وَعَلِيّ وَابْن عَبَّاس وَسَعِيد بْن جُبَيْر وَمُجَاهِد | هَلْ تَسْتَطِيع | بِالتَّاءِ | رَبَّك | بِالنَّصْبِ , وَأَدْغَمَ الْكِسَائِيّ اللَّام مِنْ | هَلْ | فِي التَّاء , وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْيَاءِ , | رَبُّك | بِالرَّفْعِ , وَهَذِهِ الْقِرَاءَة أَشْكَل مِنْ الْأُولَى ; فَقَالَ السُّدِّيّ : الْمَعْنَى هَلْ يُطِيعك رَبّك إِنْ سَأَلْته | أَنْ يُنَزِّل | فَيَسْتَطِيع بِمَعْنَى يُطِيع ; كَمَا قَالُوا : اِسْتَجَابَ بِمَعْنَى أَجَابَ , وَكَذَلِكَ اِسْتَطَاعَ بِمَعْنَى أَطَاعَ , وَقِيلَ الْمَعْنَى : هَلْ يَقْدِر رَبّك وَكَانَ هَذَا السُّؤَال فِي اِبْتِدَاء أَمْرهمْ قَبْل اِسْتِحْكَام مَعْرِفَتهمْ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ; وَلِهَذَا قَالَ عِيسَى فِي الْجَوَاب عِنْد غَلَطهمْ وَتَجْوِيزهمْ عَلَى اللَّه مَا لَا يَجُوز : | اِتَّقُوا اللَّه إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ | أَيْ لَا تَشُكُّوا فِي قُدْرَة اللَّه تَعَالَى . قُلْت : وَهَذَا فِيهِ نَظَر ; لِأَنَّ الْحَوَارِيِّينَ خُلْصَان الْأَنْبِيَاء وَدُخَلَاؤُهُمْ وَأَنْصَارهمْ كَمَا قَالَ : | مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّه قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَار اللَّه | [ الصَّفّ : 14 ] , وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام : ( لِكُلِّ نَبِيّ حَوَارِيّ وَحَوَارِيَّ الزُّبَيْر ) وَمَعْلُوم أَنَّ الْأَنْبِيَاء صَلَوَات اللَّه وَسَلَامه عَلَيْهِمْ جَاءُوا بِمَعْرِفَةِ اللَّه تَعَالَى وَمَا يَجِب لَهُ وَمَا يَجُوز وَمَا يَسْتَحِيل عَلَيْهِ وَأَنْ يُبَلِّغُوا ذَلِكَ أُمَمهمْ ; فَكَيْفَ يَخْفَى ذَلِكَ عَلَى مَنْ بَاطَنَهُمْ وَاخْتُصَّ بِهِمْ حَتَّى يَجْهَلُوا قُدْرَة اللَّه تَعَالَى ؟ إِلَّا أَنَّهُ يَجُوز أَنْ يُقَال : إِنَّ ذَلِكَ صَدْر مِمَّنْ كَانَ مَعَهُمْ , كَمَا قَالَ بَعْض جُهَّال الْأَعْرَاب لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اِجْعَلْ لَنَا ذَات أَنْوَاط كَمَا لَهُمْ ذَات أَنْوَاط , وَكَمَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ قَوْم مُوسَى : | اِجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَة | [ الْأَعْرَاف : 138 ] عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه فِي | الْأَعْرَاف | إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى , وَقِيلَ : إِنَّ الْقَوْم لَمْ يَشُكُّوا فِي اِسْتِطَاعَة الْبَارِي سُبْحَانه لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ عَارِفِينَ عَالِمِينَ , وَإِنَّمَا هُوَ كَقَوْلِك لِلرَّجُلِ : هَلْ يَسْتَطِيع فُلَان أَنْ يَأْتِيَ وَقَدْ عَلِمْت أَنَّهُ يَسْتَطِيع ; فَالْمَعْنَى : هَلْ يَفْعَل ذَلِكَ ؟ وَهَلْ يُجِيبنِي إِلَى ذَلِكَ أَمْ لَا ؟ وَقَدْ كَانُوا عَالِمِينَ بِاسْتِطَاعَةِ اللَّه تَعَالَى لِذَلِكَ وَلِغَيْرِهِ عِلْم دَلَالَة وَخَبَر وَنَظَر فَأَرَادُوا عِلْم مُعَايَنَة كَذَلِكَ ; كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيم صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : | رَبّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى | [ الْبَقَرَة : 260 ] عَلَى مَا تَقَدَّمَ , وَقَدْ كَانَ إِبْرَاهِيم عَلِمَ لِذَلِكَ عِلْم خَبَر وَنَظَر , وَلَكِنْ أَرَادَ الْمُعَايَنَة الَّتِي لَا يَدْخُلهَا رَيْب وَلَا شُبْهَة ; لِأَنَّ عِلْم النَّظَر وَالْخَبَر قَدْ تَدْخُلهُ الشُّبْهَة وَالِاعْتِرَاضَات , وَعِلْم الْمُعَايَنَة لَا يَدْخُلهُ شَيْء مِنْ ذَلِكَ , وَلِذَلِكَ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ : | وَتَطْمَئِنّ قُلُوبنَا | كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيم : | وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنّ قَلْبِي | [ الْبَقَرَة : 260 ]</p><p>قُلْت : وَهَذَا تَأْوِيل حَسَن ; وَأَحْسَن مِنْهُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ قَوْل مَنْ كَانَ مَعَ الْحَوَارِيِّينَ ; عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه وَقَدْ أَدْخَلَ اِبْن الْعَرَبِيّ الْمُسْتَطِيع فِي أَسْمَاء اللَّه تَعَالَى , وَقَالَ : لَمْ يَرِد بِهِ كِتَاب وَلَا سُنَّة اِسْمًا وَقَدْ وَرَدَ فِعْلًا , وَذَكَرَ قَوْل الْحَوَارِيِّينَ : | هَلْ يَسْتَطِيع رَبّك | وَرَدَّهُ عَلَيْهِ اِبْن الْحَصَّار فِي كِتَاب شَرْح السُّنَّة لَهُ وَغَيْرُهُ ; قَالَ اِبْن الْحَصَّار : وَقَوْله سُبْحَانه مُخْبِرًا عَنْ الْحَوَارِيِّينَ لِعِيسَى : | هَلْ يَسْتَطِيع رَبّك | لَيْسَ بِشَكٍّ فِي الِاسْتِطَاعَة , وَإِنَّمَا هُوَ تَلَطُّف فِي السُّؤَال , وَأَدَب مَعَ اللَّه تَعَالَى ; إِذْ لَيْسَ كُلّ مُمْكِن سَبَقَ فِي عِلْمه وُقُوعه وَلَا لِكُلِّ أَحَد , وَالْحَوَارِيُّونَ هُمْ كَانُوا خِيرَة مَنْ آمَنَ بِعِيسَى , فَكَيْفَ يُظَنّ بِهِمْ الْجَهْل بِاقْتِدَارِ اللَّه تَعَالَى عَلَى كُلّ شَيْء مُمْكِن ؟ ! وَأَمَّا قِرَاءَة | التَّاء | فَقِيلَ الْمَعْنَى هَلْ تَسْتَطِيع أَنْ تَسْأَل رَبّك , هَذَا قَوْل عَائِشَة وَمُجَاهِد - رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا ; قَالَتْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا : كَانَ الْقَوْم أَعْلَم بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ أَنْ يَقُولُوا | هَلْ يَسْتَطِيع رَبّك | قَالَتْ : وَلَكِنْ | هَلْ تَسْتَطِيع رَبَّك | , وَرُوِيَ عَنْهَا أَيْضًا أَنَّهَا قَالَتْ : كَانَ الْحَوَارِيُّونَ لَا يَشُكُّونَ أَنَّ اللَّه يَقْدِر عَلَى إِنْزَال مَائِدَة وَلَكِنْ قَالُوا : | هَلْ تَسْتَطِيع رَبّك | وَعَنْ مُعَاذ بْن جَبَل قَالَ : أَقْرَأَنَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ | هَلْ تَسْتَطِيع رَبّك | قَالَ مُعَاذ : وَسَمِعْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِرَارًا يَقْرَأ بِالتَّاءِ | هَلْ تَسْطِيع رَبّك | وَقَالَ الزَّجَّاج : الْمَعْنَى هَلْ تَسْتَدْعِي طَاعَة رَبّك فِيمَا تَسْأَلهُ , وَقِيلَ : هَلْ تَسْتَطِيع أَنْ تَدْعُوَ رَبّك أَوْ تَسْأَلهُ ; وَالْمَعْنَى مُتَقَارِب , وَلَا بُدّ مِنْ مَحْذُوف , كَمَا قَالَ : | وَاسْأَلْ الْقَرْيَة | [ يُوسُف : 82 ] وَعَلَى قِرَاءَة الْيَاء لَا يَحْتَاج إِلَى حَذْف .|السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا|أَيْ اِتَّقُوا مَعَاصِيه وَكَثْرَة السُّؤَال ; فَإِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ مَا يَحِلّ بِكُمْ عِنْد اِقْتِرَاح الْآيَات ; إِذْ كَانَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ إِنَّمَا يَفْعَل الْأَصْلَح لِعِبَادِهِ .|اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ|أَيْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بِهِ وَبِمَا جِئْت بِهِ فَقَدْ جَاءَكُمْ مِنْ الْآيَات مَا فِيهِ غِنًى .

قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ

قَوْله تَعَالَى : | قَالُوا نُرِيد أَنْ نَأْكُل مِنْهَا | نُصِبَ بِأَنْ . | وَتَطْمَئِنّ قُلُوبنَا وَنَعْلَم أَنْ قَدْ صَدَقْتنَا وَنَكُون عَلَيْهَا مِنْ الشَّاهِدِينَ | عَطْف كُلّه بَيَّنُوا بِهِ سَبَب سُؤَالهمْ حِين نُهُوا عَنْهُ , وَفِي قَوْلهمْ : | نَأْكُل مِنْهَا | وَجْهَانِ : أَحَدهمَا : أَنَّهُمْ أَرَادُوا الْأَكْل مِنْهَا لِلْحَاجَةِ الدَّاعِيَة إِلَيْهَا ; وَذَلِكَ أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ إِذَا خَرَجَ اِتَّبَعَهُ خَمْسَة آلَاف أَوْ أَكْثَر , بَعْضهمْ كَانُوا أَصْحَابه , وَبَعْضهمْ كَانُوا يَطْلُبُونَ مِنْهُ أَنْ يَدْعُوَ لَهُمْ لِمَرَضٍ كَانَ بِهِمْ أَوْ عِلَّة , إِذْ كَانُوا زَمْنَى أَوْ عُمْيَانًا , وَبَعْضهمْ كَانُوا يَنْظُرُونَ وَيَسْتَهْزِئُونَ , فَخَرَجَ يَوْمًا إِلَى مَوْضِع فَوَقَعُوا فِي مَفَازَة , وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ نَفَقَة فَجَاعُوا وَقَالُوا لِلْحَوَارِيِّينَ : قُولُوا لِعِيسَى حَتَّى يَدْعُوَ بِأَنْ تُنَزَّل عَلَيْنَا مَائِدَة مِنْ السَّمَاء ; فَجَاءَهُ شَمْعُون رَأْس الْحَوَارِيِّينَ وَأَخْبَرَهُ أَنَّ النَّاس يَطْلُبُونَ بِأَنْ تَدْعُوَ بِأَنْ تُنَزَّل عَلَيْهِمْ مَائِدَة مِنْ السَّمَاء , فَقَالَ عِيسَى لِشَمْعُونَ : | قُلْ لَهُمْ اِتَّقُوا اللَّه إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ | فَأَخْبَرَ بِذَلِكَ شَمْعُون الْقَوْم فَقَالُوا لَهُ : قُلْ لَهُ : | نُرِيد أَنْ نَأْكُل مِنْهَا | الْآيَة . الثَّانِي : | نَأْكُل مِنْهَا | لِنَنَالَ بَرَكَتهَا لَا لِحَاجَةٍ دَعَتْهُمْ إِلَيْهَا , قَالَ الْمَاوَرْدِيّ : وَهَذَا أَشْبَه ; لِأَنَّهُمْ لَوْ اِحْتَاجُوا لَمْ يُنْهَوْا عَنْ السُّؤَال وَقَوْلهمْ : | وَتَطْمَئِنّ قُلُوبنَا | يَحْتَمِل ثَلَاثَة أَوْجُه : أَحَدهَا : تَطْمَئِنّ إِلَى أَنَّ اللَّه تَعَالَى بَعَثَك إِلَيْنَا نَبِيًّا . الثَّانِي : تَطْمَئِنّ إِلَى أَنَّ اللَّه تَعَالَى قَدْ اِخْتَارَنَا لِدَعْوَتِنَا الثَّالِث : تَطْمَئِنّ إِلَى أَنَّ اللَّه تَعَالَى قَدْ أَجَابَنَا إِلَى مَا سَأَلْنَا ; ذَكَرَهَا الْمَاوَرْدِيّ وَقَالَ الْمَهْدَوِيّ : أَيْ تَطْمَئِنّ بِأَنَّ اللَّه قَدْ قَبِلَ صَوْمنَا وَعَمَلنَا . قَالَ الثَّعْلَبِيّ : نَسْتَيْقِن قُدْرَته فَتَسْكُن قُلُوبنَا . | وَنَعْلَم أَنْ قَدْ صَدَقْتنَا | بِأَنَّك رَسُول اللَّه | وَنَكُون عَلَيْهَا مِنْ الشَّاهِدِينَ | لِلَّهِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ , وَلَك بِالرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّة , وَقِيلَ : | وَنَكُون عَلَيْهَا مِنْ الشَّاهِدِينَ | لَك عِنْد مَنْ لَمْ يَرَهَا إِذَا رَجَعْنَا إِلَيْهِمْ .

قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآَخِرِنَا وَآَيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ

الْأَصْل عِنْد سِيبَوَيْهِ يَا اللَّه , وَالْمِيمَانِ بَدَل مِنْ | يَا | | رَبّنَا | نِدَاء ثَانٍ لَا يُجِيز سِيبَوَيْهِ غَيْره وَلَا يَجُوز أَنْ يَكُون نَعْتًا ; لِأَنَّهُ قَدْ أَشْبَهَ الْأَصْوَات مِنْ أَجْل مَا لَحِقَهُ .|أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ|الْمَائِدَة الْخِوَان الَّذِي عَلَيْهِ الطَّعَام ; قَالَ قُطْرُب : لَا تَكُون الْمَائِدَة مَائِدَة حَتَّى يَكُون عَلَيْهَا طَعَام , فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قِيلَ : خِوَان وَهِيَ فَاعِلَة مِنْ مَادَ عَبْده إِذَا أَطْعَمَهُ وَأَعْطَاهُ ; فَالْمَائِدَة تَمِيد مَا عَلَيْهَا أَيْ تُعْطِي , وَمِنْهُ قَوْل رُؤْبَة - أَنْشَدَهُ الْأَخْفَش : <br>تُهْدِي رُءُوس الْمُتْرَفِينَ الْأَنْدَاد .......... إِلَى أَمِير الْمُؤْمِنِينَ الْمُمْتَاد <br>أَيْ الْمُسْتَعْطَى الْمَسْئُول ; فَالْمَائِدَة هِيَ الْمُطْعِمَة وَالْمُعْطِيَة الْآكِلِينَ الطَّعَام , وَيُسَمَّى الطَّعَام أَيْضًا مَائِدَة تَجَوُّزًا ; لِأَنَّهُ يُؤْكَل عَلَى الْمَائِدَة ; كَقَوْلِهِمْ لِلْمَطَرِ سَمَاء , وَقَالَ أَهْل الْكُوفَة : سُمِّيَتْ مَائِدَة لِحَرَكَتِهَا بِمَا عَلَيْهَا ; مِنْ قَوْلهمْ : مَادَ الشَّيْء إِذَا مَالَ وَتَحَرَّكَ قَالَ الشَّاعِر : <br>لَعَلَّك بَاكٍ إِنْ تَغَنَّتْ حَمَامَة .......... يَمِيد بِهَا غُصْن مِنْ الْأَيْك مَائِل <br>وَقَالَ آخَر : <br>وَأَقْلَقَنِي قَتْل الْكِنَانِيّ بَعْده .......... فَكَادَتْ بِي الْأَرْض الْفَضَاء تَمِيد <br>وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : | وَأَلْقَى فِي الْأَرْض رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ | [ النَّحْل : 15 ] , وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة : مَائِدَة فَاعِلَة بِمَعْنَى مَفْعُولَة , مِثْله | عِيشَة رَاضِيَة | [ الْحَاقَّة : 21 ] بِمَعْنَى مَرْضِيَّة و | مَاء دَافِق | [ الطَّارِق : 6 ] أَيْ مَدْفُوق .|تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا|| تَكُون | نَعْت لِمَائِدَةٍ وَلَيْسَ بِجَوَابٍ , وَقَرَأَ الْأَعْمَش | تَكُنْ | عَلَى الْجَوَاب ; وَالْمَعْنَى : يَكُون يَوْم نُزُولهَا | عِيدًا لِأَوَّلِنَا | أَيْ لِأَوَّلِ أُمَّتنَا وَآخِرهَا ; فَقِيلَ : إِنَّ الْمَائِدَة نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ يَوْم الْأَحَد غَدْوَة وَعَشِيَّة ; فَلِذَلِكَ جَعَلُوا الْأَحَد عِيدًا , وَالْعِيد وَاحِد الْأَعْيَاد ; وَإِنَّمَا جُمِعَ بِالْيَاءِ وَأَصْله الْوَاو لِلُزُومِهَا فِي الْوَاحِد ; وَيُقَال : لِلْفَرْقِ بَيْنه وَبَيْن أَعْوَاد الْخَشَب وَقَدْ عَيَّدُوا أَيْ شَهِدُوا الْعِيد ; قَالَهُ الْجَوْهَرِيّ , وَقِيلَ : أَصْله مِنْ عَادَ يَعُود أَيْ رَجَعَ فَهُوَ عِوْد بِالْوَاوِ , فَقُلِبَتْ يَاء لِانْكِسَارِ مَا قَبْلهَا مِثْل الْمِيزَان وَالْمِيقَات وَالْمِيعَاد فَقِيلَ لِيَوْمِ الْفِطْر وَالْأَضْحَى : عِيدًا لِأَنَّهُمَا يَعُودَانِ كُلّ سَنَة . وَقَالَ الْخَلِيل : الْعِيد كُلّ يَوْم يُجْمَع كَأَنَّهُمْ عَادُوا إِلَيْهِ , وَقَالَ اِبْن الْأَنْبَارِيّ : سُمِّيَ عِيدًا لِلْعَوْدِ فِي الْمَرَح وَالْفَرَح ; فَهُوَ يَوْم سُرُور الْخَلْق كُلّهمْ ; أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَسْجُونِينَ فِي ذَلِكَ الْيَوْم لَا يُطَالَبُونَ وَلَا يُعَاقَبُونَ ; وَلَا يُصَاد الْوَحْش وَلَا الطُّيُور ; وَلَا تُنْفَذ الصِّبْيَان إِلَى الْمَكَاتِب , وَقِيلَ : سُمِّيَ عِيدًا لِأَنَّ كُلّ إِنْسَان يَعُود إِلَى قَدْر مَنْزِلَته ; أَلَا تَرَى إِلَى اِخْتِلَاف مَلَابِسهمْ وَهَيْئَاتهمْ وَمَآكِلهمْ فَمِنْهُمْ مَنْ يُضِيف وَمِنْهُمْ مَنْ يُضَاف , وَمِنْهُمْ مَنْ يَرْحَم وَمِنْهُمْ مَنْ يُرْحَم , وَقِيلَ : سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يَوْم شرِيف تَشْبِيهًا بِالْعِيدِ : وَهُوَ فَحْل كَرِيم مَشْهُور عِنْد الْعَرَب وَيُنْسَبُونَ إِلَيْهِ , فَيُقَال : إِبِل عِيدِيَّة ; قَالَ : <br>[ ظَلَّتْ تَجُوب الْبُلْدَان نَاجِيَة ] .......... عِيدِيَّة أُرْهِنَتْ فِيهَا الدَّنَانِير <br>وَقَدْ تَقَدَّمَ , وَقَرَأَ زَيْد بْن ثَابِت | لِأُولَانَا وَأُخْرَانَا | عَلَى الْجَمْع . قَالَ اِبْن عَبَّاس : يَأْكُل مِنْهَا آخِر النَّاس كَمَا يَأْكُل مِنْهَا أَوَّلهمْ .|وَآيَةً مِنْكَ|يَعْنِي دَلَالَة وَحُجَّة|وَارْزُقْنَا|أَيْ أَعْطِنَا .|وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ|أَيْ خَيْر مَنْ أَعْطَى وَرَزَقَ ; لِأَنَّك الْغَنِيّ الْحَمِيد .

قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ

قَوْله تَعَالَى | قَالَ اللَّه إِنِّي مُنَزِّلهَا عَلَيْكُمْ | هَذَا وَعْد مِنْ اللَّه تَعَالَى أَجَابَ بِهِ سُؤَال عِيسَى كَمَا كَانَ سُؤَال عِيسَى إِجَابَة لِلْحَوَارِيِّينَ , وَهَذَا يُوجِب أَنَّهُ قَدْ أَنْزَلَهَا وَوَعْدهُ الْحَقّ , فَجَحَدَ الْقَوْم وَكَفَرُوا بَعْد نُزُولهَا فَمُسِخُوا قِرَدَة وَخَنَازِير . قَالَ اِبْن عُمَر : إِنَّ أَشَدّ النَّاس عَذَابًا يَوْم الْقِيَامَة الْمُنَافِقُونَ وَمَنْ كَفَرَ مِنْ أَصْحَاب الْمَائِدَة وَآل فِرْعَوْن ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : | فَمَنْ يَكْفُر بَعْد مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبهُ أَحَدًا مِنْ الْعَالَمِينَ | وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْمَائِدَة هَلْ نَزَلَتْ أَمْ لَا ؟ فَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور - وَهُوَ الْحَقّ - نُزُولهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى : | إِنِّي مُنَزِّلهَا عَلَيْكُمْ | , وَقَالَ مُجَاهِد : مَا نَزَلَتْ وَإِنَّمَا هُوَ ضَرْب مَثَل ضَرَبَهُ اللَّه تَعَالَى لِخَلْقِهِ فَنَهَاهُمْ عَنْ مَسْأَلَة الْآيَات لِأَنْبِيَائِهِ . وَقِيلَ : وَعَدَهُمْ بِالْإِجَابَةِ فَلَمَّا قَالَ لَهُمْ : | فَمَنْ يَكْفُر بَعْد مِنْكُمْ | - الْآيَة - اِسْتَعْفَوْا مِنْهَا , وَاسْتَغْفَرُوا اللَّه وَقَالُوا : لَا نُرِيد هَذَا ; قَالَهُ الْحَسَن , وَهَذَا الْقَوْل وَالَّذِي قَبْله خَطَأ , وَالصَّوَاب أَنَّهَا نَزَلَتْ . قَالَ اِبْن عَبَّاس : إِنَّ عِيسَى اِبْن مَرْيَم قَالَ لِبَنِي إِسْرَائِيل : ( صُومُوا ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمَّ سَلُوا اللَّه مَا شِئْتُمْ يُعْطِكُمْ ) فَصَامُوا ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَقَالُوا : يَا عِيسَى لَوْ عَمِلْنَا لِأَحَدٍ فَقَضَيْنَا عَمَلنَا لَأَطْعَمَنَا , وَإِنَّا صُمْنَا وَجُعْنَا فَادْعُ اللَّه أَنْ يُنَزِّل عَلَيْنَا مَائِدَة مِنْ السَّمَاء , فَأَقْبَلَتْ الْمَلَائِكَة بِمَائِدَةٍ يَحْمِلُونَهَا , عَلَيْهَا سَبْعَة أَرْغِفَة وَسَبْعَة أَحْوَات , فَوَضَعُوهَا بَيْن أَيْدِيهمْ فَأَكَلَ مِنْهَا آخِر النَّاس كَمَا أَكَلَ أَوَّلهمْ , وَذَكَرَ أَبُو عَبْد اللَّه مُحَمَّد بْن عَلِيّ التِّرْمِذِيّ الْحَكِيم فِي | نَوَادِر الْأُصُول | لَهُ : حَدَّثَنَا عُمَر بْن أَبِي عُمَر قَالَ حَدَّثَنَا عَمَّار بْن هَارُون الثَّقَفِيّ عَنْ زَكَرِيَّاء بْن حَكِيم الْحَنْظَلِيّ عَنْ عَلِيّ بْن زَيْد بْن جُدْعَان عَنْ أَبِي عُثْمَان النَّهْدِيّ عَنْ سَلْمَان الْفَارِسِيّ قَالَ : لَمَّا سَأَلَتْ الْحَوَارِيُّونَ عِيسَى اِبْن مَرْيَم - صَلَوَات اللَّه وَسَلَامه عَلَيْهِ - الْمَائِدَة قَامَ فَوَضَعَ ثِيَاب الصُّوف , وَلَبِسَ ثِيَاب الْمُسُوح - وَهُوَ سِرْبَال مِنْ مُسُوح أَسْوَد وَلِحَافٍ أَسْوَد - فَقَامَ فَأَلْزَقَ الْقَدَم بِالْقَدَمِ وَأَلْصَقَ الْعَقِب بِالْعَقِبِ , وَالْإِبْهَام بِالْإِبْهَامِ , وَوَضَعَ يَده الْيُمْنَى عَلَى يَده الْيُسْرَى , ثُمَّ طَأْطَأَ رَأْسه , خَاشِعًا لِلَّهِ ; ثُمَّ أَرْسَلَ عَيْنَيْهِ يَبْكِي حَتَّى جَرَى الدَّمْع عَلَى لِحْيَته , وَجَعَلَ يَقْطُر عَلَى صَدْره ثُمَّ قَالَ : | اللَّهُمَّ رَبّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَة مِنْ السَّمَاء تَكُون لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرنَا وَآيَة مِنْك وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْر الرَّازِقِينَ قَالَ اللَّه إِنِّي مُنَزِّلهَا عَلَيْكُمْ | الْآيَة فَنَزَلَتْ سُفْرَة حَمْرَاء مُدَوَّرَة بَيْن غَمَامَتَيْنِ مِنْ فَوْقهَا وَغَمَامَة مِنْ تَحْتهَا , وَالنَّاس يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا ; فَقَالَ عِيسَى : ( اللَّهُمَّ اِجْعَلْهَا رَحْمَة وَلَا تَجْعَلهَا فِتْنَة إِلَهِي أَسْأَلك مِنْ الْعَجَائِب فَتُعْطِي ) فَهَبَطَتْ بَيْن يَدَيْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَعَلَيْهَا مِنْدِيل مُغَطًّى , فَخَرَّ عِيسَى سَاجِدًا وَالْحَوَارِيُّونَ مَعَهُ , وَهُمْ يَجِدُونَ لَهَا رَائِحَة طَيِّبَة وَلَمْ يَكُونُوا يَجِدُونَ مِثْلهَا قَبْل ذَلِكَ , فَقَالَ عِيسَى : ( أَيّكُمْ أَعْبَد لِلَّهِ وَأَجْرَأ عَلَى اللَّه وَأَوْثَق بِاَللَّهِ فَلْيَكْشِفْ عَنْ هَذِهِ السُّفْرَة حَتَّى نَأْكُل مِنْهَا وَنَذْكُر اِسْم اللَّه عَلَيْهَا وَنَحْمَد اللَّه عَلَيْهَا ) فَقَالَ الْحَوَارِيُّونَ : يَا رُوح اللَّه أَنْتَ أَحَقّ بِذَلِكَ فَقَامَ عِيسَى - صَلَوَات اللَّه عَلَيْهِ - فَتَوَضَّأَ وُضُوءًا حَسَنًا وَصَلَّى صَلَاة جَدِيدَة , وَدَعَا دُعَاء كَثِيرًا , ثُمَّ جَلَسَ إِلَى السُّفْرَة , فَكَشَفَ عَنْهَا ; فَإِذَا عَلَيْهَا سَمَكَة مَشْوِيَّة لَيْسَ فِيهَا شَوْك تَسِيل سَيَلَان الدَّسَم , وَقَدْ نُضِّدَ حَوْلهَا مِنْ كُلّ الْبُقُول مَا عَدَا الْكُرَّاث ; وَعِنْد رَأْسهَا مِلْح وَخَلّ , وَعِنْد ذَنَبهَا خَمْسَة أَرْغِفَة عَلَى وَاحِد مِنْهَا خَمْسَة رُمَّانَات , وَعَلَى الْآخَر تَمَرَات , وَعَلَى الْآخَر زَيْتُون . قَالَ الثَّعْلَبِيّ : عَلَى وَاحِد مِنْهَا زَيْتُون , وَعَلَى الثَّانِي عَسَل , وَعَلَى الثَّالِث بَيْض , وَعَلَى الرَّابِع جُبْن , وَعَلَى الْخَامِس قَدِيد . فَبَلَغَ ذَلِكَ الْيَهُود فَجَاءُوا غَمًّا وَكَمَدًا يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ فَرَأَوْا عَجَبًا ; فَقَالَ شَمْعُون - وَهُوَ رَأْس الْحَوَارِيِّينَ - : يَا رُوح اللَّه أَمِنْ طَعَام الدُّنْيَا أَمْ مِنْ طَعَام الْجَنَّة ؟ فَقَالَ عِيسَى صَلَوَات اللَّه عَلَيْهِ : ( أَمَا اِفْتَرَقْتُمْ بَعْدُ عَنْ هَذِهِ الْمَسَائِل مَا أَخْوَفنِي أَنْ تُعَذَّبُوا ) . فَقَالَ شَمْعُون : وَإِلَه بَنِي إِسْرَائِيل مَا أَرَدْت بِذَلِكَ سُوءًا . فَقَالُوا : يَا رُوح اللَّه لَوْ كَانَ مَعَ هَذِهِ الْآيَة آيَة أُخْرَى ; قَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام : ( يَا سَمَكَة اِحْيَيْ بِإِذْنِ اللَّه ) فَاضْطَرَبَتْ السَّمَكَة طَرِيَّة تَبِصّ عَيْنَاهَا , فَفَزِعَ الْحَوَارِيُّونَ فَقَالَ عِيسَى : ( مَا لِي أَرَاكُمْ تَسْأَلُونَ عَنْ الشَّيْء فَإِذَا أُعْطِيتُمُوهُ كَرِهْتُمُوهُ مَا أَخْوَفنِي أَنْ تُعَذَّبُوا ) وَقَالَ : ( لَقَدْ نَزَلَتْ مِنْ السَّمَاء وَمَا عَلَيْهَا طَعَام مِنْ الدُّنْيَا وَلَا مِنْ طَعَام الْجَنَّة وَلَكِنَّهُ شَيْء اِبْتَدَعَهُ اللَّه بِالْقُدْرَةِ الْبَالِغَة فَقَالَ لَهَا كُونِي فَكَانَتْ ) ; فَقَالَ عِيسَى : ( يَا سَمَكَة عُودِي كَمَا كُنْت ) فَعَادَتْ مَشْوِيَّة كَمَا كَانَتْ ; فَقَالَ الْحَوَارِيُّونَ : يَا رُوح اللَّه كُنْ أَوَّل مَنْ يَأْكُل مِنْهَا , فَقَالَ عِيسَى : ( مَعَاذ اللَّه إِنَّمَا يَأْكُل مِنْهَا مَنْ طَلَبَهَا وَسَأَلَهَا ) فَأَبَتْ الْحَوَارِيُّونَ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْهَا خَشْيَة أَنْ تَكُون مُثْلَة وَفِتْنَة ; فَلَمَّا رَأَى عِيسَى ذَلِكَ دَعَا عَلَيْهَا الْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين وَالْمَرْضَى وَالزَّمْنَى وَالْمُجَذَّمِينَ وَالْمُقْعَدِينَ وَالْعُمْيَان وَأَهْل الْمَاء الْأَصْفَر , وَقَالَ : ( كُلُوا مِنْ رِزْق رَبّكُمْ وَدَعْوَة نَبِيّكُمْ وَاحْمَدُوا اللَّه عَلَيْهِ ) وَقَالَ : ( يَكُون الْمَهْنَأ لَكُمْ وَالْعَذَاب عَلَى غَيْركُمْ ) فَأَكَلُوا حَتَّى صَدَرُوا عَنْ سَبْعَة آلَاف وَثَلَثمِائَةٍ يَتَجَشَّئُونَ فَبَرِئَ كُلّ سَقِيم أَكَلَ مِنْهُ , وَاسْتَغْنَى كُلّ فَقِير أَكَلَ مِنْهُ حَتَّى الْمَمَات ; فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ النَّاس اِزْدَحَمُوا عَلَيْهِ فَمَا بَقِيَ صَغِير وَلَا كَبِير وَلَا شَيْخ وَلَا شَابّ وَلَا غَنِيّ وَلَا فَقِير إِلَّا جَاءُوا يَأْكُلُونَ مِنْهُ , فَضَغَطَ بَعْضهمْ بَعْضًا فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ عِيسَى جَعَلَهَا نُوَبًا بَيْنهمْ فَكَانَتْ تَنْزِل يَوْمًا وَلَا تَنْزِل يَوْمًا , كَنَاقَةِ ثَمُود تَرْعَى يَوْمًا وَتَشْرَب يَوْمًا , فَنَزَلَتْ أَرْبَعِينَ يَوْمًا تَنْزِل ضُحًى فَلَا تَزَال حَتَّى يَفِيء الْفَيْء مَوْضِعه , وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ : فَلَا تَزَال مَنْصُوبَة يُؤْكَل مِنْهَا حَتَّى إِذَا فَاءَ الْفَيْء طَارَتْ صُعُدًا فَيَأْكُل مِنْهَا النَّاس , ثُمَّ تَرْجِع إِلَى السَّمَاء وَالنَّاس يَنْظُرُونَ إِلَى ظِلّهَا حَتَّى تَتَوَارَى عَنْهُمْ , فَلَمَّا تَمَّ أَرْبَعُونَ يَوْمًا أَوْحَى اللَّه تَعَالَى إِلَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام ( يَا عِيسَى اِجْعَلْ مَائِدَتِي هَذِهِ لِلْفُقَرَاءِ دُون الْأَغْنِيَاء ) , فَتَمَارَى الْأَغْنِيَاء فِي ذَلِكَ وَعَادَوْا الْفُقَرَاء , وَشَكُّوا وَشَكَّكُوا النَّاس ; فَقَالَ اللَّه يَا عِيسَى : ( إِنِّي آخِذ بِشَرْطِي ) فَأَصْبَحَ مِنْهُمْ ثَلَاثَة وَثَلَاثُونَ خِنْزِيرًا يَأْكُلُونَ الْعَذِرَة يَطْلُبُونَهَا بِالْأَكْبَاءِ , وَالْأَكْبَاء - هِيَ الْكُنَاسَة وَاحِدهَا كِبًا - بَعْدَمَا كَانُوا يَأْكُلُونَ الطَّعَام الطَّيِّب وَيَنَامُونَ عَلَى الْفُرُش اللَّيِّنَة , فَلَمَّا رَأَى النَّاس ذَلِكَ اِجْتَمَعُوا عَلَى عِيسَى يَبْكُونَ , وَجَاءَتْ الْخَنَازِير فَجَثَوْا عَلَى رُكَبهمْ قُدَّام عِيسَى , فَجَعَلُوا يَبْكُونَ وَتَقْطُر دُمُوعهمْ فَعَرَفَهُمْ عِيسَى فَجَعَلَ يَقُول : ( أَلَسْت بِفُلَانٍ ) ؟ فَيُومِئ بِرَأْسِهِ وَلَا يَسْتَطِيع الْكَلَام , فَلَبِثُوا كَذَلِكَ سَبْعَة أَيَّام - وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُول : أَرْبَعَة أَيَّام - ثُمَّ دَعَا اللَّه عِيسَى أَنْ يَقْبِض أَرْوَاحهمْ , فَأَصْبَحُوا لَا يُدْرَى أَيْنَ ذَهَبُوا ؟ الْأَرْض اِبْتَلَعَتْهُمْ أَوْ مَا صَنَعُوا ؟ ! . قُلْت : فِي هَذَا الْحَدِيث مَقَال وَلَا يَصِحّ مِنْ قِبَل إِسْنَاده , وَعَنْ اِبْن عَبَّاس وَأَبِي عَبْد الرَّحْمَن السُّلَمِيّ كَانَ طَعَام الْمَائِدَة خُبْزًا وَسَمَكًا , وَقَالَ اِبْن عَطِيَّة : كَانُوا يَجِدُونَ فِي السَّمَك طِيب كُلّ طَعَام ; وَذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيّ , وَقَالَ عَمَّار بْن يَاسِر وَقَتَادَة : كَانَتْ مَائِدَة تَنْزِل مِنْ السَّمَاء وَعَلَيْهَا ثِمَار مِنْ ثِمَار الْجَنَّة , وَقَالَ وَهْب بْن مُنَبِّه : أَنْزَلَهُ اللَّه تَعَالَى أَقْرِصَة مِنْ شَعِير وَحِيتَانًا , وَخَرَّجَ التِّرْمِذِيّ فِي أَبْوَاب التَّفْسِير عَنْ عَمَّار بْن يَاسِر قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أُنْزِلَتْ الْمَائِدَة مِنْ السَّمَاء خُبْزًا وَلَحْمًا وَأُمِرُوا أَلَّا يَخُونُوا وَلَا يَدَّخِرُوا لِغَدٍ فَخَانُوا وَادَّخَرُوا وَرَفَعُوا لِغَدٍ فَمُسِخُوا قِرَدَة وَخَنَازِير ) قَالَ أَبُو عِيسَى : هَذَا حَدِيث قَدْ رَوَاهُ أَبُو عَاصِم وَغَيْر وَاحِد عَنْ سَعِيد بْن أَبِي عَرُوبَة عَنْ قَتَادَة عَنْ خِلَاس عَنْ عَمَّار بْن يَاسِر مَوْقُوفًا وَلَا نَعْرِفهُ مَرْفُوعًا إِلَّا مِنْ حَدِيث الْحَسَن بْن قَزَعَة , حَدَّثَنَا حُمَيْد بْن مَسْعَدَة قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَان بْن حَبِيب عَنْ سَعِيد بْن أَبِي عَرُوبَة نَحْوه وَلَمْ يَرْفَعهُ , وَهَذَا أَصَحّ مِنْ حَدِيث الْحَسَن بْن قَزَعَة وَلَا نَعْلَم لِلْحَدِيثِ الْمَرْفُوع أَصْلًا , وَقَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر : أُنْزِلَ عَلَى الْمَائِدَة كُلّ شَيْء إِلَّا الْخُبْز وَاللَّحْم , وَقَالَ عَطَاء : نَزَلَ عَلَيْهَا كُلّ شَيْء إِلَّا السَّمَك وَاللَّحْم , وَقَالَ كَعْب : نَزَلَتْ الْمَائِدَة مَنْكُوسَة مِنْ السَّمَاء تَطِير بِهَا الْمَلَائِكَة بَيْن السَّمَاء وَالْأَرْض عَلَيْهَا كُلّ طَعَام إِلَّا اللَّحْم . قُلْت : هَذِهِ الثَّلَاثَة أَقْوَال مُخَالِفَة لِحَدِيثِ التِّرْمِذِيّ وَهُوَ أَوْلَى مِنْهَا ; لِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَصِحّ مَرْفُوعًا فَصَحَّ مَوْقُوفًا عَنْ صَحَابِيّ كَبِير . وَاللَّه أَعْلَمُ , وَالْمَقْطُوع بِهِ أَنَّهَا نَزَلَتْ وَكَانَ عَلَيْهَا طَعَام يُؤْكَل وَاللَّه أَعْلَمُ بِتَعْيِينِهِ , وَذَكَرَ أَبُو نُعَيْم عَنْ كَعْب أَنَّهَا نَزَلَتْ ثَانِيَة لِبَعْضِ عُبَّاد بَنِي إِسْرَائِيل , قَالَ كَعْب : اِجْتَمَعَ ثَلَاثَة نَفَر مِنْ عُبَّاد بَنِي إِسْرَائِيل فَاجْتَمَعُوا فِي أَرْض فَلَاة مَعَ كُلّ رَجُل مِنْهُمْ اِسْم مِنْ أَسْمَاء اللَّه تَعَالَى ; فَقَالَ أَحَدهمْ : سَلُونِي فَأَدْعُو اللَّه لَكُمْ بِمَا شِئْتُمْ ; قَالُوا : نَسْأَلك أَنْ تَدْعُوَ اللَّه أَنْ يُظْهِر لَنَا عَيْنًا سَاحَّة بِهَذَا الْمَكَان ; وَرِيَاضًا خُضْرًا وَعَبْقَرِيًّا , قَالَ : فَدَعَا اللَّه فَإِذَا عَيْن سَاحَّة وَرِيَاض خُضْر وَعَبْقَرِيّ . ثُمَّ قَالَ أَحَدهمْ : سَلُونِي فَأَدْعُو اللَّه لَكُمْ بِمَا شِئْتُمْ ; فَقَالُوا : نَسْأَلك أَنْ تَدْعُوَ اللَّه أَنْ يُطْعِمَنَا شَيْئًا مِنْ ثِمَار الْجَنَّة فَدَعَا اللَّه فَنَزَلَتْ عَلَيْهِمْ بُسْرَة فَأَكَلُوا مِنْهَا لَا تُقَلَّب إِلَّا أَكَلُوا مِنْهَا لَوْنًا ثُمَّ رُفِعَتْ ; ثُمَّ قَالَ أَحَدهمْ : سَلُونِي فَأَدْعُو اللَّه لَكُمْ بِمَا شِئْتُمْ ; فَقَالُوا : نَسْأَلك أَنْ تَدْعُوَ اللَّه أَنْ يُنَزِّل عَلَيْنَا الْمَائِدَة الَّتِي أَنْزَلَهَا عَلَى عِيسَى قَالَ : فَدَعَا فَنَزَلَتْ فَقَضَوْا مِنْهَا حَاجَتهمْ ثُمَّ رُفِعَتْ ; وَذَكَرَ تَمَام الْخَبَر . مَسْأَلَة : جَاءَ فِي حَدِيث سَلْمَان الْمَذْكُور بَيَان الْمَائِدَة وَأَنَّهَا كَانَتْ سُفْرَة لَا مَائِدَة ذَات قَوَائِم , وَالسُّفْرَة مَائِدَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَوَائِد الْعَرَب , خَرَّجَ أَبُو عَبْد اللَّه التِّرْمِذِيّ الْحَكِيم : حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يَسَار , قَالَ حَدَّثَنَا مُعَاذ بْن هِشَام , قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي , عَنْ يُونُس , عَنْ قَتَادَة , عَنْ أَنَس قَالَ مَا أَكَلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى خـُِوَان قَطُّ وَلَا فِي سُكُرُّجَة وَلَا خُبِزَ لَهُ مُرَقَّق . قَالَ : قُلْت لِأَنَسٍ : فَعَلَامَ كَانُوا يَأْكُلُونَ ؟ قَالَ : عَلَى السُّفَر ; قَالَ مُحَمَّد بْن بَشَّار : يُونُس هَذَا هُوَ أَبُو الْفُرَات الْإِسْكَاف . قُلْت : هَذَا حَدِيث صَحِيح ثَابِت اتَّفَقَ عَلَى رِجَاله الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم , وَخَرَّجَهُ التِّرْمِذِيّ قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن بَشَّار قَالَ حَدَّثَنَا مُعَاذ بْن هِشَام فَذَكَرَهُ وَقَالَ فِيهِ : حَسَن غَرِيب . قَالَ التِّرْمِذِيّ أَبُو عَبْد اللَّه : الْخـُِوَان هُوَ شَيْء مُحْدَث فَعَلَتْهُ الْأَعَاجِم , وَمَا كَانَتْ الْعَرَب لِتَمْتَهِنهَا , وَكَانُوا يَأْكُلُونَ عَلَى السُّفَر وَاحِدهَا سُفْرَة وَهِيَ الَّتِي تُتَّخَذ مِنْ الْجُلُود وَلَهَا مَعَالِيق تَنْضَمّ وَتَنْفَرِج , فَبِالِانْفِرَاجِ سُمِّيَتْ سُفْرَة لِأَنَّهَا إِذَا حُلَّتْ مَعَالِيقهَا اِنْفَرَجَتْ فَأَسْفَرَتْ عَمَّا فِيهَا فَقِيلَ لَهَا السُّفْرَة وَإِنَّمَا سُمِّيَ السَّفَر سَفَرًا لِإِسْفَارِ الرَّجُل بِنَفْسِهِ عَنْ الْبُيُوت , وَقَوْله : وَلَا فِي سُكُرُّجَة ; لِأَنَّهَا أَوْعِيَة الْأَصْبَاغ , وَإِنَّمَا الْأَصْبَاغ لِلْأَلْوَانِ وَلَمْ تَكُنْ مِنْ سِمَاتهمْ الْأَلْوَان , وَإِنَّمَا كَانَ طَعَامهمْ الثَّرِيد عَلَيْهِ مُقَطَّعَات اللَّحْم , وَكَانَ يَقُول : | اِنْهَسُوا اللَّحْم نَهْسًا فَإِنَّهُ أَشْهَى وَأَمْرَأ | فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ جَاءَ ذِكْر الْمَائِدَة فِي الْأَحَادِيث ; مِنْ ذَلِكَ حَدِيث اِبْن عَبَّاس قَالَ : لَوْ كَانَ الضَّبّ حَرَامًا مَا أُكِلَ عَلَى مَائِدَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; خَرَّجَهُ مُسْلِم وَغَيْره . وَعَنْ عَائِشَة - رَضِيَ اللَّه عَنْهَا - قَالَتْ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( تُصَلِّي الْمَلَائِكَة عَلَى الرَّجُل مَا دَامَتْ مَائِدَته مَوْضُوعَة ) خَرَّجَهُ الثِّقَات ; وَقِيلَ : إِنَّ الْمَائِدَة كُلّ شَيْء يُمَدّ وَيُبْسَط مِثْل الْمِنْدِيل وَالثَّوْب , وَكَانَ مِنْ حَقّه أَنْ تَكُون مَادَّة الدَّال مُضَعَّفَة , فَجَعَلُوا إِحْدَى الدَّالَيْنِ يَاء فَقِيلَ : مَائِدَة , وَالْفِعْل وَاقِع بِهِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُون مَمْدُودَة ; وَلَكِنْ خُرِّجَتْ فِي اللُّغَة مَخْرَج فَاعِل كَمَا قَالُوا : سِرّ كَاتِم وَهُوَ مَكْتُوم , وَعِيشَة رَاضِيَة وَهِيَ مَرْضِيَّة , وَكَذَلِكَ خُرِّجَ فِي اللُّغَة مَا هُوَ فَاعِل عَلَى مَخْرَج مَفْعُول فَقَالُوا : رَجُل مَشْئُوم وَإِنَّمَا هُوَ شَائِم , وَحِجَاب مَسْتُور وَإِنَّمَا هُوَ سَاتِر ; قَالَ فَالْخـُِوَان هُوَ الْمُرْتَفِع عَنْ الْأَرْض بِقَوَائِمِهِ , وَالْمَائِدَة مَا مُدَّ وَبُسِطَ وَالسُّفْرَة مَا أَسْفَرَ عَمَّا فِي جَوْفه , وَذَلِكَ لِأَنَّهَا مَضْمُومَة بِمَعَالِيقِهَا , وَعَنْ الْحَسَن قَالَ : الْأَكْل عَلَى الْخُوَان فِعْل الْمُلُوك , وَعَلَى الْمِنْدِيل فِعْل الْعَجَم , وَعَلَى السُّفْرَة فِعْل الْعَرَب وَهُوَ السُّنَّة , وَاللَّه أَعْلَمُ .

وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَف

اُخْتُلِفَ فِي وَقْت هَذِهِ الْمَقَالَة ; فَقَالَ قَتَادَة وَابْن جُرَيْج وَأَكْثَر الْمُفَسِّرِينَ : إِنَّمَا يُقَال لَهُ هَذَا يَوْم الْقِيَامَة , وَقَالَ السُّدِّيّ وَقُطْرُب . قَالَ لَهُ ذَلِكَ حِين رَفَعَهُ إِلَى السَّمَاء وَقَالَتْ النَّصَارَى فِيهِ مَا قَالَتْ ; وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ : | إِنْ تُعَذِّبهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادك | [ الْمَائِدَة : 118 ] فَإِنَّ | إِذْ | فِي كَلَام الْعَرَب لِمَا مَضَى , وَالْأَوَّل أَصَحّ ; يَدُلّ عَلَيْهِ مَا قَبْله مِنْ قَوْله : | يَوْم يَجْمَع اللَّه الرُّسُل | [ الْمَائِدَة : 109 ] الْآيَة وَمَا بَعْده | هَذَا يَوْم يَنْفَع الصَّادِقِينَ صِدْقهمْ | [ الْمَائِدَة : 119 ] . وَعَلَى هَذَا تَكُون | إِذْ | بِمَعْنَى | إِذَا | كَقَوْلِهِ تَعَالَى : | وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا | [ سَبَأ : 51 ] أَيْ إِذَا فَزِعُوا , وَقَالَ أَبُو النَّجْم : <br>ثُمَّ جَزَاهُ اللَّه عَنِّي إِذْ جَزَى .......... جَنَّات عَدْن فِي السَّمَاوَات الْعُلَا <br>يَعْنِي إِذَا جَزَى , وَقَالَ الْأَسْوَد بْن جَعْفَر الْأَزْدِيّ : <br>فَالْآن إِذْ هَازَلْتهُنَّ فَإِنَّمَا .......... يَقُلْنَ أَلَا لَمْ يَذْهَب الشَّيْخ مَذْهَبَا <br>يَعْنِي إِذَا هَازَلْتهُنَّ , فَعَبَّرَ عَنْ الْمُسْتَقْبَل بِلَفْظِ الْمَاضِي ; لِأَنَّهُ لِتَحْقِيقِ أَمْره وَظُهُور بُرْهَانه , كَأَنَّهُ قَدْ وَقَعَ , وَفِي التَّنْزِيل | وَنَادَى أَصْحَاب النَّار أَصْحَاب الْجَنَّة | [ الْأَعْرَاف : 50 ] وَمِثْله كَثِير وَقَدْ تَقَدَّمَ , وَاخْتَلَفَ أَهْل التَّأْوِيل فِي مَعْنَى هَذَا السُّؤَال وَلَيْسَ هُوَ بِاسْتِفْهَامٍ وَإِنْ خَرَجَ مَخْرَج الِاسْتِفْهَام عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدهمَا : أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ تَوْبِيخًا لِمَنْ اِدَّعَى ذَلِكَ عَلَيْهِ لِيَكُونَ إِنْكَاره بَعْد السُّؤَال أَبْلَغ فِي التَّكْذِيب , وَأَشَدّ فِي التَّوْبِيخ وَالتَّقْرِيع . الثَّانِي : قَصَدَ بِهَذَا السُّؤَال تَعْرِيفه أَنَّ قَوْمه غَيَّرُوا بَعْده , وَادَّعَوْا عَلَيْهِ مَا لَمْ يَقُلْ . فَإِنْ قِيلَ : فَالنَّصَارَى لَمْ يَتَّخِذُوا مَرْيَم إِلَهًا فَكَيْفَ قَالَ ذَلِكَ فِيهِمْ ؟ فَقِيلَ : لَمَّا كَانَ مِنْ قَوْلهمْ إِنَّهَا لَمْ تَلِد بَشَرًا وَإِنَّمَا وَلَدَتْ إِلَهًا لَزِمَهُمْ أَنْ يَقُولُوا إِنَّهَا لِأَجْلِ الْبَعْضِيَّة بِمَثَابَةِ مَنْ وَلَدَتْهُ , فَصَارُوا حِين لَزِمَهُمْ ذَلِكَ بِمَثَابَةِ الْقَائِلِينَ لَهُ .|اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ|خَرَّجَ التِّرْمِذِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : تَلَقَّى عِيسَى حُجَّته وَلَقَّاهُ اللَّه فِي قَوْله : | وَإِذْ قَالَ اللَّه يَا عِيسَى ابْن مَرْيَم أَأَنْت قُلْت لِلنَّاسِ اِتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُون اللَّه | قَالَ أَبُو هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( فَلَقَّاهُ اللَّه ) | سُبْحَانك مَا يَكُون لِي أَنْ أَقُول مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ | الْآيَة كُلّهَا . قَالَ أَبُو عِيسَى : هَذَا حَدِيث حَسَن صَحِيح . وَبَدَأَ بِالتَّسْبِيحِ قَبْل الْجَوَاب لِأَمْرَيْنِ : أَحَدهمَا : تَنْزِيهًا لَهُ عَمَّا أُضِيفَ إِلَيْهِ . الثَّانِي : خُضُوعًا لِعِزَّتِهِ , وَخَوْفًا مِنْ سَطْوَته , وَيُقَال : إِنَّ اللَّه تَعَالَى لَمَّا قَالَ لِعِيسَى : | أَأَنْت قُلْت لِلنَّاسِ اِتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُون اللَّه | أَخَذَتْهُ الرِّعْدَة مِنْ ذَلِكَ الْقَوْل حَتَّى سَمِعَ صَوْت عِظَامه فِي نَفْسه فَقَالَ : | سُبْحَانك | ثُمَّ قَالَ : | مَا يَكُون لِي أَنْ أَقُول مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ | أَيْ أَنْ أَدَّعِيَ لِنَفْسِي مَا لَيْسَ مِنْ حَقّهَا , يَعْنِي أَنَّنِي مَرْبُوب وَلَسْت بِرَبٍّ , وَعَابِد وَلَسْت بِمَعْبُودٍ . ثُمَّ قَالَ : | إِنْ كُنْت قُلْته فَقَدْ عَلِمْته | فَرَدَّ ذَلِكَ إِلَى عِلْمه , وَقَدْ كَانَ اللَّه عَالِمًا بِهِ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْهُ , وَلَكِنَّهُ سَأَلَهُ عَنْهُ تَقْرِيعًا لِمَنْ اِتَّخَذَ عِيسَى إِلَهًا .|عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي|أَيْ تَعْلَم مَا فِي غَيْبِي وَلَا أَعْلَم مَا فِي غَيْبك , وَقِيلَ : الْمَعْنَى تَعْلَم مَا أَعْلَم وَلَا أَعْلَم مَا تَعْلَم , وَقِيلَ : تَعْلَم مَا أُخْفِيه وَلَا أَعْلَم مَا تُخْفِيه . وَقِيلَ : تَعْلَم مَا أُرِيد وَلَا أَعْلَم مَا تُرِيد وَقِيلَ : تَعْلَم سِرِّي وَلَا أَعْلَم سِرّك ; لِأَنَّ السِّرّ مَوْضِعه النَّفْس وَقِيلَ : تَعْلَم مَا كَانَ مِنِّي فِي دَار الدُّنْيَا , وَلَا أَعْلَم مَا يَكُون مِنْك فِي دَار الْآخِرَة . قُلْت : وَالْمَعْنَى فِي هَذِهِ الْأَقْوَال مُتَقَارِب ; أَيْ تَعْلَم سِرِّي وَمَا اِنْطَوَى عَلَيْهِ ضَمِيرِي الَّذِي خَلَقْته , وَلَا أَعْلَم شَيْئًا مِمَّا اسْتَأْثَرْت بِهِ مِنْ غَيْبك وَعِلْمك .|نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ|مَا كَانَ وَمَا يَكُون , وَمَا لَمْ يَكُنْ وَمَا هُوَ كَائِن

مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ

يَعْنِي فِي الدُّنْيَا بِالتَّوْحِيدِ|أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ|| أَنْ | لَا مَوْضِع لَهَا مِنْ الْإِعْرَاب وَهِيَ مُفَسِّرَة مِثْل | وَانْطَلَقَ الْمَلَأ مِنْهُمْ أَنْ اِمْشُوا | [ ص : 6 ] . وَيَجُوز أَنْ تَكُون فِي مَوْضِع نَصْب ; أَيْ مَا ذَكَرْت لَهُمْ إِلَّا عِبَادَة اللَّه , وَيَجُوز أَنْ تَكُون فِي مَوْضِع خَفْض ; أَيْ بِأَنْ اُعْبُدُوا اللَّه ; وَضَمّ النُّون أَوْلَى ; لِأَنَّهُمْ يَسْتَثْقِلُوا كَسْرَة بَعْدهَا ضَمَّة , وَالْكَسْر جَائِز عَلَى أَصْل اِلْتِقَاء السَّاكِنَيْنِ .|وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا|أَيْ حَفِيظًا بِمَا أَمَرْتهمْ|مَا دُمْتُ فِيهِمْ|| مَا | فِي مَوْضِع نَصْب أَيْ وَقْت دَوَامِي فِيهِمْ .|فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ|قِيلَ : هَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ تَوَفَّاهُ قَبْلَ أَنْ يَرْفَعهُ ; وَلَيْسَ بِشَيْءٍ ; لِأَنَّ الْأَخْبَار تَظَاهَرَتْ بِرَفْعِهِ , وَأَنَّهُ فِي السَّمَاء حَيّ , وَأَنَّهُ يَنْزِل وَيَقْتُل الدَّجَّال - عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه - وَإِنَّمَا الْمَعْنَى فَلَمَّا رَفَعْتنِي إِلَى السَّمَاء . قَالَ الْحَسَن : الْوَفَاة فِي كِتَاب اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَلَى ثَلَاثَة أَوْجُه : وَفَاة الْمَوْت وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : | اللَّه يَتَوَفَّى الْأَنْفُس حِين مَوْتهَا | [ الزُّمَر : 42 ] يَعْنِي وَقْت اِنْقِضَاء أَجَلهَا , وَوَفَاة النَّوْم ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : | وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ | [ الْأَنْعَام : 60 ] يَعْنِي الَّذِي يُنِيمكُمْ , وَوَفَاة الرَّفْع , قَالَ اللَّه تَعَالَى : | يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيك | [ آل عِمْرَان : 55 ] . وَقَوْله | كُنْت أَنْتَ | | أَنْتَ هُنَا | تَوْكِيد | الرَّقِيب | خَبَر | كُنْت | وَمَعْنَاهُ الْحَافِظ عَلَيْهِمْ , وَالْعَالِم بِهِمْ وَالشَّاهِد عَلَى أَفْعَالهمْ ; وَأَصْله الْمُرَاقَبَة أَيْ الْمُرَاعَاة ; وَمِنْهُ الْمَرْقَبَة لِأَنَّهَا فِي مَوْضِع الرَّقِيب مِنْ عُلُوّ الْمَكَان .|وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ|أَيْ مِنْ مَقَالَتِي وَمَقَالَتهمْ : وَقِيلَ عَلَى مَنْ عَصَى وَأَطَاعَ ; خَرَّجَ مُسْلِم عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : قَامَ فِينَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطِيبًا بِمَوْعِظَةٍ فَقَالَ : ( يَا أَيّهَا النَّاس إِنَّكُمْ تُحْشَرُونَ إِلَى اللَّه حُفَاة عُرَاة غُرْلًا | كَمَا بَدَأْنَا أَوَّل خَلْق نُعِيدهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ | [ الْأَنْبِيَاء : 104 ] أَلَا وَإِنَّ أَوَّل الْخَلَائِق يُكْسَى يَوْم الْقِيَامَة إِبْرَاهِيم - عَلَيْهِ السَّلَام - أَلَا وَإِنَّهُ سَيُجَاءُ بِرِجَالٍ مِنْ أُمَّتِي فَيُؤْخَذ بِهِمْ ذَات الشِّمَال فَأَقُول يَا رَبّ أَصْحَابِي , فَيُقَال إِنَّك لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدك فَأَقُول كَمَا قَالَ الْعَبْد الصَّالِح : | وَكُنْت عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْت فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتنِي كُنْت أَنْتَ الرَّقِيب عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلّ شَيْء شَهِيد . إِنْ تُعَذِّبهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادك وَإِنْ تَغْفِر لَهُمْ فَإِنَّك أَنْتَ الْعَزِيز الْحَكِيم | قَالَ : ( فَيُقَال لِي إِنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا مُدْبِرِينَ مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابهمْ مُنْذُ فَارَقْتهمْ ) .

إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ

قَوْله تَعَالَى : | إِنْ تُعَذِّبهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادك | شَرْط وَجَوَابه | وَإِنْ تَغْفِر لَهُمْ فَإِنَّك أَنْتَ الْعَزِيز الْحَكِيم | مِثْله رَوَى النَّسَائِيّ عَنْ أَبِي ذَرّ قَالَ : قَامَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِآيَةٍ لَيْلَة حَتَّى أَصْبَحَ , وَالْآيَة : | إِنْ تُعَذِّبهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادك وَإِنْ تَغْفِر لَهُمْ فَإِنَّك أَنْتَ الْعَزِيز الْحَكِيم | وَاخْتُلِفَ فِي تَأْوِيله فَقِيلَ : قَالَهُ عَلَى وَجْه الِاسْتِعْطَاف لَهُمْ , وَالرَّأْفَة بِهِمْ , كَمَا يَسْتَعْطِف السَّيِّد لِعَبْدِهِ ; وَلِهَذَا لَمْ يَقُلْ : فَإِنَّهُمْ عَصَوْك , وَقِيلَ : قَالَهُ عَلَى وَجْه التَّسْلِيم لِأَمْرِهِ وَالِاسْتِجَارَة مِنْ عَذَابه , وَهُوَ يَعْلَم أَنَّهُ لَا يُغْفَر لِكَافِرٍ , وَقِيلَ الْهَاء وَالْمِيم فِي | إِنْ تُعَذِّبهُمْ | لِمَنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَلَى الْكُفْر , وَالْهَاء وَالْمِيم فِي | إِنْ تَغْفِر لَهُمْ | لِمَنْ تَابَ مِنْهُمْ قَبْل الْمَوْت ; وَهَذَا حَسَن , وَأَمَّا قَوْل مَنْ قَالَ : إِنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام لَمْ يَعْلَم أَنَّ الْكَافِر لَا يَغْفِر لَهُ فَقَوْل مُجْتَرِئ عَلَى كِتَاب اللَّه عَزَّ وَجَلَّ ; لِأَنَّ الْأَخْبَار مِنْ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لَا تُنْسَخ . وَقِيلَ : كَانَ عِنْد عِيسَى أَنَّهُمْ أَحْدَثُوا مَعَاصِي , وَعَمِلُوا بَعْده بِمَا لَمْ يَأْمُرهُمْ بِهِ , إِلَّا أَنَّهُمْ عَلَى عَمُود دِينه , فَقَالَ : وَإِنْ تَغْفِر لَهُمْ مَا أَحْدَثُوا بَعْدِي مِنْ الْمَعَاصِي , وَقَالَ : | فَإِنَّك أَنْتَ الْعَزِيز الْحَكِيم | وَلَمْ يَقُلْ : فَإِنَّك أَنْتَ الْغَفُور الرَّحِيم عَلَى مَا تَقْتَضِيه الْقِصَّة مِنْ التَّسْلِيم لِأَمْرِهِ , وَالتَّفْوِيض لِحُكْمِهِ . وَلَوْ قَالَ : فَإِنَّك أَنْتَ الْغَفُور الرَّحِيم لَأَوْهَمَ الدُّعَاء بِالْمَغْفِرَةِ لِمَنْ مَاتَ عَلَى شِرْكه وَذَلِكَ مُسْتَحِيل ; فَالتَّقْدِير إِنْ تُبْقِهِمْ عَلَى كُفْرهمْ حَتَّى يَمُوتُوا وَتُعَذِّبهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادك , وَإِنْ تَهْدِهِمْ إِلَى تَوْحِيدك وَطَاعَتك فَتَغْفِر لَهُمْ فَإِنَّك أَنْتَ الْعَزِيز الَّذِي لَا يَمْتَنِع عَلَيْك مَا تُرِيدهُ ; الْحَكِيم فِيمَا تَفْعَلهُ ; تُضِلّ مَنْ تَشَاء وَتَهْدِي مَنْ تَشَاء , وَقَدْ قَرَأَ جَمَاعَة : | فَإِنَّك أَنْتَ الْغَفُور الرَّحِيم | وَلَيْسَتْ مِنْ الْمُصْحَف . ذَكَرَهُ الْقَاضِي عِيَاض فِي كِتَاب | الشِّفَا | وَقَالَ أَبُو بَكْر الْأَنْبَارِيّ : وَقَدْ طَعَنَ عَلَى الْقُرْآن مَنْ قَالَ إِنَّ قَوْله : | إِنَّك أَنْتَ الْعَزِيز الْحَكِيم | لَيْسَ بِمُشَاكِلٍ لِقَوْلِهِ : | وَإِنْ تَغْفِر لَهُمْ | لِأَنَّ الَّذِي يُشَاكِل الْمَغْفِرَة فَإِنَّك أَنْتَ الْغَفُور الرَّحِيم وَالْجَوَاب أَنَّهُ لَا يَحْتَمِل إِلَّا مَا أَنْزَلَهُ اللَّه وَمَتَى نُقِلَ إِلَى الَّذِي نَقَلَهُ إِلَيْهِ ضَعُفَ مَعْنَاهُ ; فَإِنَّهُ يَنْفَرِد الْغَفُور الرَّحِيم بِالشَّرْطِ الثَّانِي فَلَا يَكُون لَهُ بِالشَّرْطِ الْأَوَّل تَعَلُّق , وَهُوَ عَلَى مَا أَنْزَلَهُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ , وَاجْتَمَعَ عَلَى قِرَاءَته الْمُسْلِمُونَ مَقْرُون بِالشَّرْطَيْنِ كِلَيْهِمَا أَوَّلهمَا وَآخِرهمَا ; إِذْ تَلْخِيصه إِنْ تُعَذِّبهُمْ فَإِنَّك أَنْتَ عَزِيز حَكِيم , وَإِنْ تَغْفِر لَهُمْ فَإِنَّك أَنْتَ الْعَزِيز الْحَكِيم فِي الْأَمْرَيْنِ كِلَيْهِمَا مِنْ التَّعْذِيب وَالْغُفْرَان , فَكَانَ الْعَزِيز الْحَكِيم أَلْيَق بِهَذَا الْمَكَان لِعُمُومِهِ ; فَإِنَّهُ يَجْمَع الشَّرْطَيْنِ , وَلَمْ يَصْلُح الْغَفُور الرَّحِيم إِذْ لَمْ يَحْتَمِل مِنْ الْعُمُوم مَا اِحْتَمَلَهُ الْعَزِيز الْحَكِيم , وَمَا شَهِدَ بِتَعْظِيمِ اللَّه تَعَالَى وَعَدْله وَالثَّنَاء عَلَيْهِ فِي الْآيَة كُلّهَا وَالشَّرْطَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ أَوْلَى وَأَثْبَت مَعْنًى فِي الْآيَة مِمَّا يَصْلُح لِبَعْضِ الْكَلَام دُون بَعْض . خَرَّجَ مُسْلِم مِنْ غَيْر طَرِيق عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو بْن الْعَاص أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلَا قَوْله عَزَّ وَجَلَّ فِي إِبْرَاهِيم | رَبّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنْ النَّاس فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّك غَفُور رَحِيم | [ إِبْرَاهِيم : 36 ] وَقَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام : | إِنْ تُعَذِّبهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادك وَإِنْ تَغْفِر لَهُمْ فَإِنَّك أَنْتَ الْعَزِيز الْحَكِيم | فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ : ( اللَّهُمَّ أُمَّتِي ) وَبَكَى فَقَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : ( يَا جِبْرِيل اِذْهَبْ إِلَى مُحَمَّد وَرَبّك أَعْلَم فَسَلْهُ مَا يُبْكِيك ) فَأَتَاهُ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام فَسَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا قَالَ وَهُوَ أَعْلَم . فَقَالَ اللَّه : يَا جِبْرِيل اِذْهَبْ إِلَى مُحَمَّد فَقُلْ لَهُ إِنَّا سَنُرْضِيك فِي أُمَّتك وَلَا نَسُوءك ) وَقَالَ بَعْضهمْ : فِي الْآيَة تَقْدِيم وَتَأْخِير وَمَعْنَاهُ , إِنْ تُعَذِّبهُمْ فَإِنَّك أَنْتَ الْعَزِيز الْحَكِيم وَإِنْ تَغْفِر لَهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادك , وَوَجْه الْكَلَام عَلَى نَسَقِهِ أَوْلَى لِمَا بَيَّنَّاهُ , وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيق

قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ

أَيْ صِدْقهمْ فِي الدُّنْيَا فَأَمَّا فِي الْآخِرَة فَلَا يَنْفَع فِيهَا الصِّدْق , وَصِدْقهمْ فِي الدُّنْيَا يَحْتَمِل أَنْ يَكُون صِدْقهمْ فِي الْعَمَل لِلَّهِ , وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون تَرْكهمْ الْكَذِب عَلَيْهِ وَعَلَى رُسُله , وَإِنَّمَا يَنْفَعهُمْ الصِّدْق فِي ذَلِكَ الْيَوْم وَإِنْ كَانَ نَافِعًا فِي كُلّ الْأَيَّام لِوُقُوعِ الْجَزَاء فِيهِ , وَقِيلَ : الْمُرَاد صِدْقهمْ فِي الْآخِرَة وَذَلِكَ فِي الشَّهَادَة لِأَنْبِيَائِهِمْ بِالْبَلَاغِ , وَفِيمَا شَهِدُوا بِهِ عَلَى أَنْفُسهمْ مِنْ أَعْمَالهمْ , وَيَكُون وَجْه النَّفْع فِيهِ أَنْ يُكْفَوْا الْمُؤَاخَذَة بِتَرْكِهِمْ كَتْم الشَّهَادَة , فَيُغْفَر لَهُمْ بِإِقْرَارِهِمْ لِأَنْبِيَائِهِمْ وَعَلَى أَنْفُسهمْ , وَاللَّه أَعْلَمُ . وَقَرَأَ نَافِع وَابْن مُحَيْصِن | يَوْم | بِالنَّصْبِ . وَرَفَعَ الْبَاقُونَ وَهِيَ الْقِرَاءَة الْبَيِّنَة عَلَى الِابْتِدَاء وَالْخَبَر , فَيَوْم يَنْفَع خَبَر ل | هَذَا | وَالْجُمْلَة فِي مَوْضِع نَصْب بِالْقَوْلِ , وَأَمَّا قِرَاءَة نَافِع وَابْن مُحَيْصِن فَحَكَى إِبْرَاهِيم بْن حُمَيْد عَنْ مُحَمَّد بْن يَزِيد أَنَّ هَذِهِ الْقِرَاءَة لَا تَجُوز , لِأَنَّهُ نَصْب خَبَر الِابْتِدَاء , وَلَا يَجُوز فِيهِ الْبِنَاء , وَقَالَ إِبْرَاهِيم بْن السَّرِيّ : هِيَ جَائِزَة بِمَعْنَى قَالَ اللَّه هَذَا لِعِيسَى اِبْن مَرْيَم يَوْم يَنْفَع الصَّادِقِينَ صِدْقهمْ فـ | ـيَوْم | ظَرْف لِلْقَوْلِ , و | هَذَا | مَفْعُول الْقَوْل وَالتَّقْدِير ; قَالَ اللَّه هَذَا الْقَوْل فِي يَوْم يَنْفَع الصَّادِقِينَ , وَقِيلَ : التَّقْدِير قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ هَذِهِ الْأَشْيَاء تَنْفَع يَوْم الْقِيَامَة , وَقَالَ الْكِسَائِيّ وَالْفَرَّاء : بُنِيَ يَوْم هَاهُنَا عَلَى النَّصْب ; لِأَنَّهُ مُضَاف إِلَى غَيْر اِسْم ; كَمَا تَقُول : مَضَى يَوْمئِذٍ ; وَأَنْشَدَ الْكِسَائِيّ : <br>عَلَى حِينَ عَاتَبْت الْمَشِيب عَلَى الصِّبَا .......... وَقُلْت أَلَمَّا أَصْحُ وَالشَّيْب وَازِع <br>الزَّجَّاج وَلَا يُجِيز الْبَصْرِيُّونَ مَا قَالَاهُ إِذَا أَضَفْت الظَّرْف إِلَى فِعْل مُضَارِع , فَإِنْ كَانَ إِلَى مَاضٍ كَانَ جَيِّدًا كَمَا مَرَّ فِي الْبَيْت وَإِنَّمَا جَازَ أَنْ يُضَاف الْفِعْل إِلَى ظُرُوف الزَّمَان ; لِأَنَّ الْفِعْل بِمَعْنَى الْمَصْدَر , وَقِيلَ : يَجُوز أَنْ يَكُون مَنْصُوبًا ظَرْفًا وَيَكُون خَبَر الِابْتِدَاء الَّذِي هُوَ | هَذَا | لِأَنَّهُ مُشَار بِهِ إِلَى حَدَث , وَظُرُوف الزَّمَان تَكُون إِخْبَارًا عَنْ الْأَحْدَاث , تَقُول : الْقِتَال الْيَوْم , وَالْخُرُوج السَّاعَة , وَالْجُمْلَة فِي مَوْضِع نَصْب بِالْقَوْلِ , وَقِيلَ : يَجُوز أَنْ يَكُون | هَذَا | فِي مَوْضِع رَفْع بِالِابْتِدَاءِ و | يَوْم | خَبَر الِابْتِدَاء وَالْعَامِل فِيهِ مَحْذُوف , وَالتَّقْدِير : قَالَ اللَّه هَذَا الَّذِي قَصَصْنَاهُ يَقَع يَوْم يَنْفَع الصَّادِقِينَ صِدْقهمْ , وَفِيهِ قِرَاءَة ثَالِثَة | يَوْمٌ يَنْفَع | بِالتَّنْوِينِ | الصَّادِقِينَ صِدْقهمْ | فِي الْكَلَام حَذْف تَقْدِيره | فِيهِ | مِثْل قَوْله : | وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْس عَنْ نَفْس شَيْئًا | [ الْبَقَرَة : 48 ] وَهِيَ قِرَاءَة الْأَعْمَش .|لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ|| لَهُمْ جَنَّات | اِبْتِدَاء وَخَبَر . | تَجْرِي | فِي مَوْضِع الصِّفَة . | مِنْ تَحْتهَا | أَيْ مِنْ تَحْت غُرَفهَا وَأَشْجَارهَا وَقَدْ تَقَدَّمَ . ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى ثَوَابهمْ , وَأَنَّهُ رَاضٍ عَنْهُمْ رِضًا لَا يَغْضَب بَعْده أَبَدًا | وَرَضُوا عَنْهُ | أَيْ عَنْ الْجَزَاء الَّذِي أَثَابَهُمْ بِهِ .|ذَلِكَ الْفَوْزُ|أَيْ الظَّفَر|الْعَظِيمُ|أَيْ الَّذِي عَظُمَ خَيْره وَكَثُرَ , وَارْتَفَعَتْ مَنْزِلَة صَاحِبه وَشَرُفَ

لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ

قَوْله تَعَالَى : | لِلَّهِ مُلْك السَّمَاوَات وَالْأَرْض | الْآيَة جَاءَ هَذَا عَقِب مَا جَرَى مِنْ دَعْوَى النَّصَارَى فِي عِيسَى أَنَّهُ إِلَه , فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ مُلْك السَّمَاوَات وَالْأَرْض لَهُ دُون عِيسَى وَدُون سَائِر الْمَخْلُوقِينَ , وَيَجُوز أَنْ يَكُون الْمَعْنَى أَنَّ الَّذِي لَهُ مُلْك السَّمَاوَات وَالْأَرْض يُعْطِي الْجَنَّات الْمُتَقَدِّم ذِكْرهَا لِلْمُطِيعِينَ مِنْ عِبَاده , جَعَلَنَا اللَّه مِنْهُمْ بِمَنِّهِ وَكَرَمه . تَمَّتْ سُورَة | الْمَائِدَة | بِحَمْدِ اللَّه تَعَالَى .


1-الفاتحة 2-البقرة 3-آل-عمران 4-النساء 5-المائدة 6-الأنعام 7-الأعراف 8-الأنفال 9-التوبة 10-يونس 11-هود 12-يوسف 13-الرعد 14-إبراهيم 15-الحجر 16-النحل 17-الإسراء 18-الكهف 19-مريم 20-طه 21-الأنبياء 22-الحج 23-المؤمنون 24-النور 25-الفرقان 26-الشعراء 27-النمل 28-القصص 29-العنكبوت 30-الروم 31-لقمان 32-السجدة 33-الأحزاب 34-سبأ 35-فاطر 36-يس 37-الصافات 38-ص 39-الزمر 40-غافر 41-فصلت 42-الشورى 43-الزخرف 44-الدخان 45-الجاثية 46-الأحقاف 47-محمد 48-الفتح 49-الحجرات 50-ق 51-الذاريات 52-الطور 53-النجم 54-القمر 55-الرحمن 56-الواقعة 57-الحديد 58-المجادلة 59-الحشر 60-الممتحنة 61-الصف 62-الجمعة 63-المنافقون 64-التغابن 65-الطلاق 66-التحريم 67-الملك 68-القلم 69-الحاقة 70-المعارج 71-نوح 72-الجن 73-المزمل 74-المدثر 75-القيامة 76-الإنسان 77-المرسلات 78-النبأ 79-النازعات 80-عبس 81-التكوير 82-الانفطار 83-المطففين 84-الانشقاق 85-البروج 86-الطارق 87-الأعلى 88-الغاشية 89-الفجر 90-البلد 91-الشمس 92-الليل 93-الضحى 94-الشرح 95-التين 96-العلق 97-القدر 98-البينة 99-الزلزلة 100-العاديات 101-القارعة 102-التكاثر 103-العصر 104-الهمزة 105-الفيل 106-قريش 107-الماعون 108-الكوثر 109-الكافرون 110-النصر 111-المسد 112-الإخلاص 113-الفلق 114-الناس