هي ثلاث وثمانون آية وهي مكية. قال القرطبي: بالإجماع إلا أن فرقة قالت "ونكتب ما قدموا وآثارهم" نزلت في بني سلمة من الأنصار حين أرادوا أن يتركوا ديارهم وينتقلوا إلى جوار مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيأتي بيان ذلك. وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: سورة يس نزلت بمكة. وأخرج ابن مردويه عن عائشة مثله. وأخرج الدارمي والترمذي ومحمد بن نصر والبيهقي في الشعب عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لكل شيء قلباً، وقلب القرآن يس، من قرأ يس كتب الله له بقراءتها قراءة القرآن عشر مرات" قال الترمذي بعد إخراجه: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث حميد بن عبد الرحمن، وفي إسناده هارون أو محمد، وهو شيخ مجهول، وفي الباب عن أبي بكر، ولا يصح لضعف إسناده. وأخرج البزار من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لكل شيء قلباً، وقلب القرآن يس"، ثم قال بعد إخراجه: لا نعلم رواه إلا زيد عن حميد: يعني زيد بن الحباب عن حميد المكي مولى آل علقمة. وأخرج الدارمي وأبو يعلى والطبراني في الأوسط وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم "من قرأ يس في ليلة ابتغاء وجه الله غفر له في تلك الليلة" قال ابن كثير: إسناده جيد. وأخرج ابن حبان والضياء عن جندب بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ يس في ليلة ابتغاء وجه الله غفر له". وإسناده في صحيح ابن حبان هكذا: حدثنا محمد بن إسحاق بن إبراهيم مولى ثقيف، حدثنا الوليد بن شجاع بن الوليد الكوبي، حدثنا أبي، حدثنا زياد بن خيثمة، حدثنا محمد ابن جحادة عن الحسن عن جندب بن عبد الله قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره. وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه ومحمد بن نصر وابن حبان والطبراني والحاكم والبيهقي في الشعب عن معقل بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يس قلب القرآن، لا يقرأها عبد يريد الله والدار الآخرة إلا غفر له ما تقدم من ذنبه، فاقرأوها على موتاكم". وقد ذكر له أحمد إسنادين: أحدهما فيه مجهول، والآخر ذكر فيه عن أبي عثمان وقال: وليس بالنهدي عن أبيه عن معقل. وأخرج سعيد بن منصور والبيهقي عن حسان بن عطية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قرأ يس فكأنما قرأ القرآن عشر مرات". وأخرج ابن الضريس وابن مردويه والخطيب والبيهقي عن أبي بكر الصديق قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سورة يس تدعى في التوراة المعممة، تعم صاحبها بخير الدنيا والآخرة، تكابد عنه بلوى الدنيا والآخرة، وتدفع عنه أهاويل الآخرة، وتدعلى الدافعة والقاضية، تدفع عن صاحبها كل سوء وتقضي له كل حاجة، من قرأها عدلت عشرين حجة، ومن سمعها عدلت له ألف دينار في سبيل الله، ومن كتبها ثم شربها أدخلت جوفه ألف دواء وألف نور وألف يقين وألف بركة وألف رحمة ونزعت عنه كل غل وداء" قال البيهقي: تقرب به عبد الرحمن بن أبي بكر الجدعاني عن سليمان بن رافع الجندي، وهو منكر. قلت: وهذا الحديث هو الذي تقدمت الإشارة من الترمذي إلى ضعف إسناده، ولا يبعد أن يكون موضوعاً، فهذه الألفاظ كلها منكرة بعيدة عن كلام من أوتي جوامع الكلم، وقد ذكره الثعلبي من حديث عائشة، وذكره الخطيب من حديث أنس، وذكر نحوه الخطيب من حديث علي بأخصر منه. وأخرج البزار عن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم في سورة يس: "لوددت أنها في قلب كل إنسان من أمتي". وإسناده هكذا: قال حدثنا سلمة بن شبيب، حدثنا إبراهيم بن الحكم بن أبان عن أبيه عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره. وأخرج الطبراني وابن مردويه قال السيوطي بسند ضعيف عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من داوم على قراءة يس كل ليلة ثم مات مات شهيداً". وأخرج الدارمي عن ابن عباس قال: من قرأ يس حين يصبح أعطي يسر يمه حتى يمسي، ومن قرأها في صدر ليلته أعطي يسر ليلته حتى يصبح. قوله: 1- "يس" قرأ الجمهوربسكون النون، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وحفص وقالون وورش بإدغام النون في الواو الذي بعدها، وقرأ عيسى بن عمر بفتح النون، وقرأ ابن عباس وابن أبي إسحاق ونصر بن عاصم بكسرها، فالفتح على البناء أو على أنه مفعول فعل مقدر تقديره: اتل يس، والكسر على البناء أيضاً كجير، وقيل الفتح والكسر للفرار من التقاء الساكنين. وأما وجه قراءة الجمهور بالسكون للنون فلكونها مسرودة على نمط التعديد فلا حظ لها من الإعراب. وقرأ هارون الأعور ومحمد بن السميفع والكلبي بضم النون على البناء كمنذ وحيث وقط، وقيل على أنها خبر مبتدأ محذوف: أي هذه يس، ومنعت من الصرف للعملية والتأنيث. واختلف في معنى هذه اللفظة، فقيل معناها يا رجل، أو يا إنسان. قال ابن الأنباري: الوقف على يس حسن لمن قال هو افتتاح للسورة، ومن قال معناه يا رجل لم يقف عليه. وقال سعيد بن جبير وغيره: هو اسم من أسماء محمد صلى الله عليه وسلم دليله "إنك لمن المرسلين" ومنه قول السعد الحميري: يا نفس لا تمحضي بالنصح جاهدة على المودة إلا آل ياسين ومنه قوله: " سلام على إل ياسين " أي على آل محمد، وسيأتي في الصافات ما المراد بآل ياسين. قال الواحدي: قال ابن عباس والمفسرون: يريد يا إنسان: يعني محمداً صلى الله عليه وسلم. وقال أبو بكر الوراق: معناه يا سيد البشر. وقال مالك: هو اسم من أسماء الله تعالى، وروى ذلك عنه أشهب. وحكى أبو عبد الرحمن السلمي عن جعفر الصادق أن معناه يا سيد. وقال كعب: هو قسم أقسم الله به، ورجح الزجاج أن معناه يا محمد. واختلفوا هل هو عربي أو غير عربي؟ فقال سعيد بن جبير وعكرمة: حبشي. وقال الكلبي: سرياني تكلمتبه العرب فصار من لغتهم. وقال الشعبي: هو بلغة طي. وقال الحسن: هو بلغة كلب. وقد تقدم في طه وفي مفتتح سورة البقرة ما يغني عن التطويل ها هنا.
2- "والقرآن الحكيم" بالجر على أنه مقسم به ابتداء. وقيل هو معطوف على يس على تقدير كونه مجروراً بإضمار القسم. قال النقاش: لم يقسم الله لأحد من أنبيائه بالرسالة في كتابه إلا لمحمد صلى الله عليه وسلم تعظيماً له وتمجيداً، والحكيم المحكم الذي لا يتناقض ولا يتخالف، أو الحكيم قائله.
وجواب القسم 3- "إنك لمن المرسلين" وهذا رد على من أنكر رسالته من الكفار بقولهم: "لست مرسلاً".
وقوله: 4- "على صراط مستقيم" خبر آخر لإن: أي إنك على صراط مستقيم، والصراط المستقيم: الطريق القيم الموصل إلى المطلوب. قال الزجاج: على طريقة الأنبياء الذين تقدموك، ويجوز أن يكون في محل نصب على الحال.
5- " تنزيل العزيز الرحيم " قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر برفع "تنزيل" على أنه خبر مبتدأ محذوف: أي هو تنزيل، ويجوز أن يكون خبراً لقوله يس إن جعل اسماً للسورة، وقرأ الباقون بالنصب على المصدرية: أي نزل الله ذلك تنزيل العزيز الرحيم. والمعنى: إنك يا محمد تنزيل العزيز الرحيم، والأول أولى. وقيل هو منصوب على المدح على قراءة من قرأ بالنصب، وعبر سبحانه عن المنزل بالمصدر مبالغة حتى كأنه نفس التنزيل، وقرأ أبو حيوة والترمذي وأبو جعفر يزيد بن القعقاع وشيبة "تنزيل" بالجر على النعت للقرآن أو البدل منه.
واللام في 6- "لتنذر قوماً ما أنذر آباؤهم" يجوز أن تتعلق بتنزيل، أو بفعل مضمر يدل عليه من المرسلين: أي أرسلناك لتنذر، و ما في "ما أنذر آباؤهم" هي النافية: أي لم ينذر آباؤهم، ويجوز أن تكون موصولة أو موصوفة: أي لتنذر قوماً الذي أنذره آباؤهم، أو لتنذرهم عذاباً أنذره آباؤهم، ويجوز أن تكون مصدرية: أي إنذار آبائهم، وعلى القول بأنها نافية يكون المعنى: ما أنذر آباؤهم برسول من أنفسهم، ويجوز أن يراد ما أنذر آباؤهم الأقربون لتطاول مدة الفترة، وقوله: "فهم غافلون" متعلق بنفي الإنذار على الوجه الأول: أي لم ينذر آباؤهم فهم بسبب ذلك غافلون، وعلى الوجوه الآخرة متعلق بقوله لتنذر: أي فهم غافلون عما أنذرنا به آباءهم، وقد ذهب أكثر أهل التفسير إلى أن المعنى على النفي، وهو الظاهر من النظم لترتيب فهم غافلون على ما قبله.
واللام في قوله: 7- "لقد حق القول على أكثرهم" هي الموطئة للقسم أي والله لقد حق القول على أكثرهم، ومعنى حق: ثبت ووجب القول: أي العذاب على أكثرهم: أي أكثر أهل مكة، أو أكثر الكفار على الإطلاق، أو أكثر كفار العرب، وهم من مات على الكفر وأصر عليه طول حياته فيتفرع قوله: "فهم لا يؤمنون" على ما قبله بهذا الاعتبار: أي لأن الله سبحانه قد علم منهم الإصرار على ما هم فيه من الكفر والموت عليه، وقيل المراد بالقول المذكور هنا هو قوله سبحانه: " فالحق والحق أقول * لأملأن جهنم منك وممن تبعك ".
وجملة 8- "إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً" تقرير لما قبلها مثلت حالهم بحال الذين غلت أعناقهم "فهي" أي الأغلال منتهية "إلى الأذقان" فلا يقدرون عند ذلك على الالتفات ولا يتمكنون من عطفها، وهو معنى قوله: "فهم مقمحون" أي رافعون رؤوسهم غاضون أبصارهم. قال الفراء والزجاج: المقمح: الغاض بصره بعد رفع رأسه، ومعنى الإقماح رفع الرأس وغض البصر، يقال أقمح البعير رأسه وقمح: إذا رفع رأسه ولم يشرب الماء. قال الأزهري: أراد الله أن أيديهم لما غلت عند أعناقهم رفعت الأغلال إلى أذقانهم رؤوسهم صعداء، فهم مرفوعو الرؤوس برفع الأغلال إياها. وقال قتادة: معنى مقمحون: مغلولون، والأول أولى، ومنه قول الشاعر: ونحن على جوانبها قعود نعض الطرف كالإبل القماح قال الزجاج: قيل للكانونين شهرا قماح، لأن الإبل إذا وردت الماء رفعت رؤوسها لشدة البرد، وأنشد قول أبي زيد الهذلي: فتى ما ابن الأغر إذا استوينا وجب الزاد في شهري قماح قال أبو عبيدة: قمح البعير إذا رفع رأسه عن الحوض ولم يشرب. وقال أبو عبيدة أيضاً: هو مثل ضربه الله لهم في امتناعهم عن الهدى كامتناع المغلول، كما يقال فلان حمار: أي لا يبصر الهدى، وكما قال الشاعر: لهم عن الرشد أغلال وأقياد وقال الفراء: هذا ضرب مثل: أي حبسناهم عن الإنفاق في سبيل الله، وهو كقوله: "ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك" وبه قال الضحاك. وقيل الآية إشارة إلى ما يفعل بقوم في النار من وضع الأغلال في أعناقهم كما قال تعالى: "إذ الأغلال في أعناقهم" وقرأ ابن عباس إنا جعلنا في أيمانهم أغلالاً قال الزجاج: أي في أيديهم. قال النحاس: وهذه القراءة تفسير ولا يقرأ بما خالف المصحف. قال: وفي الكلام حذف على قراءة الجماعة، التقدير: إنا جعلنا في أعناقهم وفي أيديهم أغلالاً فهي إلى الأذقان، فلفظ هي كناية عن الأيدي لا عن الأعناق، والعرب تحذف مثل هذا، ونظيره "سرابيل تقيكم الحر" وتقديره: وسرابيل تقيكم البرد، لأن ما وقى من الحر وقى من البرد، لأن الغل إذا كان في العنق فلا بدل أن يكون في اليد، ولا سيما وقد قال الله "فهي إلى الأذقان" فقد علم أنه يراد به الأيدي فهم مقمحون: أي رافعو رؤوسهم لا يستطيعون الإطراق، لأن من غلت يداه إلى ذقنه ارتفع رأسه. وروي عن ابن عباس أنه قرأ إنا جعلنا في أيديهم أغلالاً وعن ابن مسعود أنه قرأ إنا جعلنا في أيمانهم أغلالاً كما روي من قراءة ابن عباس.
9- "وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً" أي منعناهم عن الإيمان بموانع فهم لا يستطيعون الخروج من الكفر إلى الإيمان، كالمضروب أمامه وخلفه بالأسداد، والسد بضم السين وفتحها لغتان، ومن هذا المعنى في الآية قول الشاعر: ومن الحوادث لا أبالك أنني ضربت علي الأرض بالأسداد لا أهتدي فيها لموضع تلعة بين العذيب وبين أرض مراد "فأغشيناهم" أي غطينا أبصارهم "فهم" بسبب ذلك "لا يبصرون" أي لا يقدرون على إبصار شيء. قال الفراء: فألبسنا أبصارهم غشوة: أي عمي فهم لا يبصرون سبيل الهدى، وكذا قال قتادة: إن المعنى لا يبصرون الهدى. وقال السدي: لا يبصرون محمداً حين ائتمروا على قتله. وقال الضحاك: "وجعلنا من بين أيديهم سدا": أي الدنيا "ومن خلفهم سداً": أي الآخرة "فأغشيناهم فهم لا يبصرون": أي عموا عن البعث، وعموا عن قبول الشرائع في الدنيا. وقيل ما بين أيديهم الآخرة وما خلفهم الدنيا، قرأ الجمهور بالغين المعجمة: أي غطينا أبصارهم، فهو على حذف مضاف. وقرأ ابن عباس وعمر بن عبد العزيز والحسن ويحيى بن يعمر وأبو رجاء وعكرمة بالغين المهملة من العشا وهو ضعف البصر. ومنه "ومن يعش عن ذكر الرحمن".
10- "وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون" أي إنذارك إياهم وعدمه سواء. قال الزجاج: أي من أضله الله هذا الإضلال لم ينفعه الإنذار.
إنما ينفع الإنذار من ذكر في قوله: 11- "إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب" أي اتبع القرآن، وخشي الله في الدنيا، وجملة لا يؤمنون مستأنفة مبينة لما قبلها من الاستواء، أو في محل نصب على الحال، أو بدل، وبالغيب في محل نصب على الحال من الفاعل أو المفعول "فبشره بمغفرة وأجر كريم" أي بشر هذا الذي اتبع الذكر، وخشي الرحمن بالغيب بمغفرة عظيمة وأجر كريم: أي حسن، وهو الجنة.
ثم أخبر سبحانه بإحيائه الموتى فقال: 12- "إنا نحن نحيي الموتى" أي نبعثهم بعد الموت. وقال الحسن والضحاك: أي نحييهم بالإيمان بعد الجهل، والأول أولى. ثم توعدهم بكتب آثارهم فقال: "ونكتب ما قدموا" أي أسلفوا من الأعمال الصالحة والطالحة "وآثارهم" أي ما أبقوه من الحسنات التي لا ينقطع نفعها بعد الموت: كمن سن سنة حسنة أو نحو ذلك، أو السيئات التي تبقى بعد موت فاعلها: كمن سن سنة سيئة. قال مجاهد وابن زيد: ونظيره قوله: "علمت نفس ما قدمت وأخرت" وقوله: "ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر" وقيل المراد بالآية آثار المشائين إلى المساجد، وبه قال جماعة من الصحابة والتابعين. قال النحاس: وهو أولى ما قيل في الآية لأنها نزلت في ذلك. ويجاب عنه بأن الاعتبار بعموم الآية لا بخصوص سببها، وعمومها يقتضي كتب جميع آثار الخير والشر، ومن الخير تعليم العليم وتصنيفه والوقف على القرب وعمارة المساجد والقناطر. ومن الشر ابتداع المظالم وإحداث ما يضر بالناس ويقتدي به أهل الجور ويعملون عليه من مكس أو غيره، ولهذا قال سبحانه: "وكل شيء أحصيناه في إمام مبين" أي وكل شيء من أعمال العباد وغيرها كائناً ما كان في إمام مبين: أي كتاب مقتدى به موضح لكل شيء. قال مجاهد وقتادة وابن زيد: أراد اللوح المحفوظ، وقالت فرقة: أراد صحائف الأعمال. قرأ الجمهور "ونكتب" على البناء للفاعل. وقرأ زر ومسروق على البناء للمفعول. وقرأ الجمهور "كل شيء أحصيناه" بنصب "كل" على الاشتغال. وقرأ أبو السمال بالرفع على الابتداء. وقد أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود وابن عباس في قوله "يس" قالا: يا محمد. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس في قوله: "يس" قال: يا إنسان. وأخرج عبد بن حميد عن الحسن والضحاك وعكرمة مثله. وأخرج ابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المسجد فيجهر بالقراءة، حتى تأذى به ناس من قريش، حتى قاموا ليأخذوه، وإذا أيديهم مجموعة إلى أعناقهم، وإذا هم عمي لا يبصرون، فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ننشدك الله والرحم يا محمد، قال: ولم يكن بطن من بطون قريش إلا وللنبي صلى الله عليه وسلم فيهم قرابة، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم حتى ذهب ذلك عنهم، فنزلت " يس * والقرآن الحكيم " إلى قوله: "أم لم تنذرهم لا يؤمنون" قال: فلم يؤمن من ذلك النفر أحد" وفي الباب روايات في سبب نزول ذلك هذه الرواية أحسنها وأقربها إلى الصحة. وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال: الأغلال ما بين الصدر إلى الذقن "فهم مقمحون" كما تقمح الدابة باللجام. وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً في قوله: "وجعلنا من بين أيديهم سداً" الآية قال: كانوا يمرون على النبي صلى الله عليه وسلم فلا يرونه. وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً قال: اجتمعت قريش بباب النبي صلى الله عليه وسلم ينتظرون خروجه ليؤذوه، فشق ذلك عليه، فأتاه جبريل بسورة يس وأمره بالخروج عليهم، فأخذ كفاً من تراب وخرج وهو يقرأها ويذر التراب على رؤوسهم، فما رأوه حتى جاز، فجعل أحدهم يلمس رأسه فيجد التراب، وجاء بعضهم فقال: ما يجلسكم؟ قالوا ننظر محمداً، فقال: لقد رأيته داخلاً المسجد، قال: قوموا فقد سحركم. وأخرج عبد الرزاق والترمذي وحسنه والبزار وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أبي سعيد الخدري قال: كان بنو سلمة في ناحية من المدينة، فأرادوا أن ينتقلوا إلى قرب المسجد، فأنزل الله: "إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم" فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إنه يكتب آثاركم، ثم قرأ عليهم الآية فتركوا. وأخرج الفريابي وأحمد في الزهد وعبد بن حميد وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس نحوه. وفي صحيح مسلم وغيره من حديث جابر قال "إن بني سلمة أرادوا أن يبيعوا ديارهم ويتحولوا قريباً من المسجد، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا بني سلمة دياركم تكتب آثاركم".
قوله: 13- "واضرب لهم مثلاً أصحاب القرية" قد تقدم الكلام على نظير هذا في سورة البقرة وسورة النمل، والمعنى: اضرب لأجلهم مثلاً، أو اضرب لأجل نفسك أصحاب القرية مثلاً: أي مثلهم عند نفسك بأصحاب القرية، فعلى الأول لما قال تعالى: "إنك لمن المرسلين" وقال "لتنذر قوماً" قال قل لهم: ما أنا بدعاً من الرسل، فإن قبلي بقليل جاء أصحاب القرية مرسلون، وأنذروهم بما أنذرتكم، وذكروا التوحيد، وخوفوا بالقيامة، وبشروا بنعيم دار الإقامة. وعلى الثاني لما قال: إن الإنذار لا ينفع من أضله الله، وكتب عليه أنه لا يؤمن، قال النبي صلى الله عليه وسلم: اضرب لنفسك ولقومك مثلاً: أي مثل لهم عند نفسك مثلاً بأصحاب القرية حيث جاءهم ثلاثة رسل ولم يؤمنوا، وصبر الرسل على الإيذاء وأنت جئت إليهم واحداً، وقومك أكثر من قوم الثلاثة، فإنهم جاءوا إلى أهل القرية، وأنت بعثتك إلى الناس كافة. والمعنى: واضرب لهم مثلاً مثل أصحاب القرية: أي اذكر لهم قصة عجيبة قصة أصحاب القرية، فترك المثل، وأقيم أصحاب القرية مقامه في الإعراب. وقيل لا حاجة إلى الإضمار، بل المعنى: اجعل أصحاب القرية لهم مثلاً على أن يكون مثلا وأصحاب القرية مفعولين لاضرب، أو يكون أصحاب القرية بدلاً من مثلاً، وقد قدمنا الكلام على المفعول الأول من هذين المفعولين هل هو مثلاً أو أصحاب القرية. وقد قيل إن ضرب المثل يستعمل تارة في تطبيق حالة غريبة بحالة أخرى مثلها كما في قوله: "ضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط" ويستعمل أخرى في ذكر حالة غريبة، وبيانها للناس من غير قصد إلى تطبيقها بنظيره لها كما في قوله: "وضربنا لكم الأمثال" أي بينا لكم أحوالاً بديعة غريبة: هي في الغرابة كالأمثال، فقوله سبحانه هنا "واضرب لهم مثلاً" يصح اعتبار الأمرين فيه. قال القرطبي: هذه القرية هي إنطاكية في قول جميع المفسرين، وقوله: "إذ جاءها المرسلون" بدل اشتمال من أصحاب القرية، والمرسلون: ÷م أصحاب عيسى بعثهم إلى أهل أنطاكية للدعاء إلى الله.
فأضاف الله سبحانه الإرسال إلى نفسه في قوله: 14- "إذ أرسلنا إليهم اثنين" لأن عيسى أرسلهم بأمر الله سبحانه، ويجوز أن يكون الله أرسلهم بعد رفع عيسى إلى السماء، فكذبوهما في الرسالة، وقيل ضربوهما وسجنوهما. قيل واسم الاثنين يوحنا وشمعون. وقيل أسماء الثلاثة صادق ومصدوق وسلموم قاله ابن جرير وغيره. وقيل سمعان ويحيى وبولس "فعززنا بثالث" قرأ الجمهور بالتشديد، وقرأ أبو بكر عن عاصم بتخفيف الزاي. قال الجوهري فعززنا يخفف ويشدد: أي قوينا وشددنا فالقراءتان على هذا بمعنى. وقيل التخفيف بمعنى غلبنا وقهرنا، ومنه "وعزني في الخطاب" والتشديد بمعنى قوينا وكثرنا. قيل وهذا الثالث هو شمعون. وقيل غيره "فقالوا إنا إليكم مرسلون" أي قال الثلاثة جميعاً، وجاءوا بكلامهم هذا مؤكداً لسبق التكذيب للإثنين. والتكذيب لهما تكذيب للثالث، لأنهم أرسلوا جميعاً بشيء واحد، وهو الدعاء إلى الله عز وجل، وهذه الجملة مستأنفة جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: ما قال هؤلاء الرسل بعد التعزيز لهم بثالث؟.
وكذلك جملة 15- "قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا" فإنها مستأنفة جواب سؤال مقدر: كأنه قيل فما قال لهم أهل إنطاكية، فقيل: قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا: أي مشاركون لنا في البشرية، فليس لكم مزية علينا تختصون بها. ثم صرحوا بجحود إنزال الكتب السماوية فقالوا: "وما أنزل الرحمن من شيء" مما تدعونه أنتم ويدعيه غيركم ممن قبلكم من الرسل وأتباعهم "إن أنتم إلا تكذبون" أي ما أنتم إلا تكذبون في دعوى ما تدعون من ذلك، فأجابهم بإثبات رسلاتهم بكلام مؤكد تأكيداً بليغاً لتكرر الإنكار من أهل أنطاكية.
وهو قولهم: 16- "ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون" فأكدوا الجواب بالقسم الذي يفهم من قولهم: ربنا يعلم، وبإن، وباللام.
17- "وما علينا إلا البلاغ المبين" أي ما يجب علينا من جهة ربنا إلا تبليغ رسالته على وجه الظهور والوضوح وليس علينا غير ذلك، وهذه الجملة مستأنفة كالتي قبلها.
وكذلك جملة 18- "قالوا إنا تطيرنا بكم" فإنها مستأنفة جواباً عن سؤال مقدر: أي إنا تشاءمنا بكم، لم تجدوا جواباً تجيبون به على الرسل بها. قال مقاتل: حبس عنهم المطر ثلاث سنين. قيل إنهم أقاموا ينذرونهم عشر سنين، ثم رجعوا إلى التجبر والتكبر لما ضاقت صدورهم وأعيتهم العلل فقالوا: "لئن لم تنتهوا لنرجمنكم" أي لئن لم تتركوا هذه الدعوى وتعرضوا عن هذه المقالة لنرجمنكم بالحجارة "وليمسنكم منا عذاب أليم" أي شديد فظيع. قال الفراء: عامة ما في القرآن من الرجم المراد به القتل. وقال قتادة: هو على بابه من الرجم بالحجارة. قيل ومعنى العذاب الأليم: القتل، وقيل الشتم، وقيل هو التعذيب المؤلم من غير تقييد بنوع خاص وهذا هو الظاهر.
ثم أجاب عليهم الرسل دفعاً لما زعموه من التطير بهم فـ 19- " قالوا طائركم معكم " أي شؤمكم معكم من جهة أنفسكم، لازم في أعناقكم، وليس هو من شؤمنا. قال الفراء: طائركم معكم: أي رزقكم وعملكم وبه قال قتادة. قرأ الجمهور "طائركم" اسم فاعل: أي ما طار لكم من الخير والشر، وقرأ الحسن اطيركم أي تطيركم " أإن ذكرتم ". قرأ الجمهور من السبعة وغيرهم بهمزة استفهام بعدها إن الشرطية على الخلاف بينهم في التسهيل والتحقيق، وإدخال ألف بين الهمزتين وعدمه. وقرأ أبو جعفر وزر بن حبيش وابن السميفع وطلحة بهمزتين مفتوحتين. وقرأ الأعمش وعيسى بن عمر والحسن أين بفتح الهمزة وسكون الباء على صيغة الظرف. واختلف سيبويه ويونس إذا اجتمع استفهام وشرط أيهما يجاب؟ فذهب سيبويه إلى أنه يجاب الاستفهام، وذهب يونس إلى أنه يجاب الشرط، وعلى القولين فالجواب هنا محذوف: أي أإن ذكرتم فطائركم معكم لدلالة ما تقدم عليه. وقرأ الماجشون أن ذكرتم بهمزة مفتوحة: أي لأن ذكرتم. ثم أضربوا عما يقتضيه الاستفهام والشرط من كون التذكير سبباً للشؤم فقالوا: "بل أنتم قوم مسرفون" أي ليس الأمر كذلك، بل أنتم قوم عادتكم الإسراف في المعصية. قال قتادة: مسرفون في تطيركم. وقال يحيى بن سلام: مسرفون في كفركم. وقال ابن بحر: السرف هنا الفساد، والإسراف في الأصل مجاوزة الحد في مخالفة الحق.
20- "وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى" هو حبيب بن إسرائيل النجار، وكان نجاراً، وقيل إسكافاً، وقيل قصاراً. وقال مجاهد ومقاتل: هو حبيب بن إسرائيل نجاراً، وكان ينحت الأصنام. وقال قتادة: كان يعبد الله في غار، فلما سمع بخبر الرسل جاء يسعى، وجملة "قال يا قوم اتبعوا المرسلين" مستأنفة جواب سؤال مقدر: كأنه قيل فماذا قال لهم عند مجيئه؟ فقيل: يا قوم اتبعوا المرسلين هؤلاء الذين أرسلوا إليكم فإنهم جاءوا بحق.
ثم أكد ذلك وكرره فقال: 21- "اتبعوا من لا يسألكم أجراً" أي لا يسألونكم أجراً على ما جاءوكم به من الهدى "وهم مهتدون" يعني الرسل.
ثم أبرز الكلام في معرض النصيحة لنفسه، وهو يريد مناصحة قومه فقال: 22- "وما لي لا أعبد الذي فطرني"؟ أي أي مانع من جانبي يمنعني من عبادة الذي خلقني. ثم رجع إلى خطابهم لبيان أنه ما أراد نفسه، بل أرادهم بكلامه فقال: "وإليه ترجعون" ولم يقل إليه أرجع، وفيه مبالغة في التهديد.
ثم عاد إلى المساق الأول لقصد التأكيد ومزيد الإيضاح فقال: 23- "أأتخذ من دونه آلهة" فجعل الإنكار متوجهاً إلى نفسه، وهم المرادون به: أي لا أتخذ من دون الله آلهة وأعبدها، وأترك عبادة من يستحق العبادة وهو الذي فطرني. ثم بين حال هذه الأصنام التي يعبدونها من دون الله سبحانه إنكاراً عليهم، وبياناً لضلال عقولهم وقصور إدراكهم فقال: "إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئاً" أي شيئاً من النفع كائناً ما كان "ولا ينقذون" من ذلك الضر الذي أرادني الرحمن به، وهذه الجملة صفة لآلهة، أو مستأنفة لبيان حالها في عدم النفع والدفع، وقوله: "لا تغن" جواب الشرط، وقرأ طلحة بن مصرف إن يردني بفتح الياء.
قال: 24- "إني إذاً لفي ضلال مبين" أي إني إذا اتخذت من دونه آلهة لفي ضلال مبين واضح، وهذا تعريض بهم كما سبق، والضلال الخسران.
ثم صرح بإيمانه تصريحاً لا يبقى بعده شك فقال: 25- "إني آمنت بربكم فاسمعون" خاطب بهذا الكلام المرسلين. قال المفسرون: أرادوا القوم قتله، فأقبل هو على المرسلين، فقال: إني آمنت بربكم أيها الرسل فاسمعون: أي اسمعوا إيماني واشهدوا لي به. وقيل إنه خاطب بهذا الكلام قومه لما أرادوا قتله تصلباً في الدين وتشدداً في الحق، فلما قال هذا القول وصرح بالإيمان وثبوا عليه فقتلوه، وقيل وطئوه بأرجلهم، وقيل حرقوه، وقيل حفروا له حفيرة وألقوه فيها، وقيل إنهم لم يقتلوه بل رفعه الله إلى السماء فهو في الجنة، وبه قال الحسن، وقيل نشروه بالمنشار.
26- "قيل ادخل الجنة" أي قيل له ذلك تكريماً له بدخولها بعد قتله كما هي سنة الله في شهداء عباده. وعلى قول من قال إنه رفع إلى السماء ولم يقتل يكون المعنى: أنهم لما أرادوا قتله نجاه الله من القتل، وقيل له ادخل الجنة فلما دخلها وشاهدها " قال يا ليت قومي يعلمون * بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين " والجملة مستأنفة جواب سؤال مقدر: أي فماذا قال بعد أن قيل له ادخل الجنة فدخلها، فقيل قال يا ليت قومي إلخ.
و ما في 27- "بما غفر لي" هي المصدرية: أي بغفران ربي، وقيل هي الموصولة: أي بالذي غفر لي ربي، والعائد محذوف: أي غفر ربي، واستضعف هذا لأنه لا معنى لتمنيه أن يعلم قومه بذنوبه المغفورة، وليس المراد إلا التمني منه بأن يعلم قومه بغفران ربه له. وقال الفراء: إنها استفهامية بمعنى التعجب، كأنه قال: بأي شيء غفر لي ربي. قال الكسائي: لو صح هذا لقال بمن من غير ألف. ويجاب عنه بأنه قد ورد في لغة العرب إثباتها وإن كان مكسوراً بالنسبة إلى حذفها، ومنه قول الشاعر: على ما قام يشتمني لئيم كخنزير تمرغ في دمان وفي معنى تمنيه قولان: أحدهما أنه تمنى أن يعلموا بحاله ليعلموا حسن مآله، وحميد عاقبته إرغاماً لهم. وقيل إنه تمنى أن يعلموا بذلك ليؤمنوا مثل إيمانه، فيصيروا إلى مثل حاله. وقد أخرج الفريابي عن ابن عباس في قوله: "واضرب لهم مثلاً أصحاب القرية" قال: هي أنطاكية. وأخرج ابن أبي حاتم عن بريدة مثله. وأخرج ابن سعد وابن عساكر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: كان بين موسى بن عمران وبين عيسى ابن مريم ألف سنة وتسعمائة سنة، ولم يكن بينهما فترة، وأنه أرسل بينهما ألف نبي من بني إسرائيل سوى من أرسل من غيرهم، وكان بين ميلاد عيسى والنبي صلى الله عليه وسلم خمسمائة سنة وتسع وستون سنة، بعث في أولها ثلاثة أنبياء وهو قوله: " إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث " والذي عزز به شمعون، وكان من الحواريين، وكانت الفترة التي لم يبعث الله فيها رسولاً أربعمائة سنة وأربع وثلاثون سنة. وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً في قوله: "طائركم معكم" قال: شؤمكم معكم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: "وجاء من أقصى المدينة رجل" قال: هو حبيب النجار. وأخرج ابن أبي حاتم عنه من وجه آخر، قال اسم صاحب يس: حبيب، وكان الجذام قد أسرع فيه. وأخرج الحاكم عن ابن مسعود قال: لما قال صاحب يس "يا قوم اتبعوا المرسلين" خنقوه ليموت فالتفت إلى الأنبياء فقال: "إني آمنت بربكم فاسمعون" أي فاشهدوا لي.
لما وقع منهم مع حبيب النجار غضب الله له وعجل لهم النقمة وأهلكهم بالصيحة، ومعنى 28- "وما أنزلنا على قومه من بعده" أي على قوم حبيب النجار من بعد قتلهم له، أو من بعد رفع الله له إلى السموات على الاختلاف السابق "من جند من السماء" لإهلاكهم وللانتقام منهم: أي لم نحتج إلى إرسال جنود من السماء لإهلاكهم كما وقع ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر من إرسال الملائكة لنصرته وحرب أعدائه "وما كنا منزلين" أي وما صح في قضائنا وحكمتنا أن ننزل لإهلاكهم جنداً لسبق قضائنا وقدرنا بإن إهلاكهم بالصيحة لا بإنزال الجند. وقال قتادة ومجاهد والحسن: أي ما أنزلنا عليهم من رسالة من السماء ولا نبي بعد قتله. وروي عن الحسن أنه قال: هم الملائكة النازلون بالوحي على الأنبياء، والظاهر أن معنى النظم القرآني تحقير شأنهم وتصغير أمرهم: أي ليسوا بأحقاء بأن ننزل لإهلاكهم جنداً من السماء.
بل أهلكناهم بصيحة واحدة كما يفيده قوله: 29- "إن كانت إلا صيحة واحدة" أي إن كانت العقوبة أو النقمة أو الأخذة إلا صيحة واحدة صاح بها جبريل فأهلكهم. قال المفسرون: أخذ جبريل بعضادتي باب المدنية، ثم صاح بهم صيحة فإذا هم ميتون لا يسمع لهم حس كالنار إذا طفئت، وهو معنى قوله: "فإذا هم خامدون" أي قوم خامدون ميتون، شبههم بالنار إذا طفئت، لأن الحياة كالنار الساطعة، والموت كخمودها. قرأ الجمهور "صيحةً" بالنصب على أن كان ناقصة، واسمها ضمير يعود إلى ما يفهم من السياق كما قدمنا. وقرأ أبو جعفر وشيبة والأعرج ومعاذ والقاري برفعها على أن كان تامة: أي وقع وحدث، وأنكر هذه القراءة أبو حاتم وكثير من النحويين بسبب التأنيث في قوله: "إن كانت" قال أبو حاتم: فلو كان كما قرأ أبو جعفر لقال إن كان إلا صيحة وقدر الزجاج هذه القراءة بقوله: إن كانت عليهم صيحة إلا صيحة واحدة، وقدرها غيره: ما وقعت عليهم إلا صيحة واحدة. وقرأ عبد الله بن مسعود إن كانت إلا زقية واحدة والزقية الصيحة قال النحاس: وهذا مخلف للمصحف، وأيضاً فإن اللغة المعروفة زقاً يزقو إذا صاح، ومنه المثل أثقل من الزواقي فكان يجب على هذا أن تكون زقوة، ويجاب عنه بما ذكره الجوهري قال: الزقو والزقي مصدر وقد زقا الصدا يزقو زقاً: أي صاح: وكل صائح زاق، والزقية الصيحة.
30- "يا حسرةً على العباد" قرأ الجمهور بنصب حسرة، على أنها منادى منكر كأنه نادى الحسرة وقال لها: هذا أوانك فاحضري. وقيل إنها منصوبة على المصدرية، والمنادى محذوف، والتقدير: يا هؤلاء تحسروا حسرة. وقرأ قتادة وأبي في رواية عنه بضم حسرة على النداء. قال الفراء: في توجيه هذه القراءة: إن الاختيار النصب وإنها لو رفعت النكرة لكان صواباً، واستشهد بأشياء نقلها عن العرب منها أنه سمع من العرب يا مهتم بأمرنا لا تهتم، وأنشد: يا دار غيرها البلى تغييرا قال النحاس: وفي هذا إبطال باب النداء أو أكثره. وتقدير ما ذكره: أي أيها المهتم لا تهتم بأمرنا، وتقدير البيت: يا أيتها الدار. وحقيقة الحسرة أن يلحق الإنسان من الندم ما يصير به حسيراً. قال ابن جرير: المعنى يا حسرة من العباد على أنفسهم وتندماً وتلهفاً في استهزائهم برسل الله، ويؤيد هذا قراءة ابن عباس وعلي بن الحسين: يا حسرة العباد على الإضافة، ورويت هذه القراءة عن أبي. وقال الضحاك: إنها حسرة الملائكة على الكفار حين كذبوا الرسل. وقيل هي من قول الرجل الذي جاء من أقصى المدينة. وقيل إن القائل: يا حسرة على العبادأب هم الكفار المكذبون، والعباد الرسل، وذلك أنهم لما رأوا العذاب تحسروا على قتلهم وتمنوا الإيمان قاله أبو العالية ومجاهد، وقيل إن التحسر عليهم هو من الله عز وجل بطريق الاستعارة لتعظيم ما جنوه وقرأ ابن هرمز ومسلم بن جندب وعكرمة وأبو الزناد يا حسرة بسكون الهاء إجراء للوصل مجرى الوقف، وقرئ يا حسرتا كما قرئ بذلك في سورة الزمر، وجملة "ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون" مستأنفة مسوقة لبيان ما كانوا عليه من تكذيب الرسل والاستهزاء بهم، وأن ذلك هو سبب التحسر عليهم.
ثم عجب سبحانه من حالهم حيث لم يعتبروا بأمثالهم من الأمم الخالية فقال: 31- "ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون" أي ألم يعلموا كثرة من أهلكنا قبلهم من القرون التي أهلكناها من الأمم الخالية، وجملة " أنهم إليهم لا يرجعون " بدل من كم أهلكنا على المعنى. قال سيبويه: أن بدل من كم، وهي الخبرية، فلذلك جاء أن يبدل منها ما ليس باستفهام، والمعنى: ألم يروا أن القرون الذين أهلكناهم أنهم إليهم لا يرجعون. وقال الفراء: كم في موضع نصب من وجهين: أحدهما بيروا، واستشهد على هذا بأنه في قراءة ابن مسعود ألم يروا من أهلكنا والوجه الآخر أن تكون كم في موضع نصب بأهلكنا. قال النحاس: القول الأول محال، لأن كم لا يعمل فيها ما قبلها لأنها استفهام، ومحال أن يدخل الاستفهام في حيز ما قبله، وكذا حكمها إذا كانت خبراً، وإن كان سيبويه قد أومأ إلى بعض هذا فجعل أنهم بدلاً من كم، وقد رد ذلك المبرد أشد رد.
32- "وإن كل لما جميع لدينا محضرون" أي محضرون لدينا يوم القيامة للجزاء. قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة "لما" بتشديدها، وقرأ الباقون بتخفيفها. قال الفراء: من شدد جعل لما بمعنى إلا، وإن بمعنى ما: أي ما كل إلا جميع لدينا محضرون، ومعنى جميع مجموعون، فهو فعيل بمعنى مفعول، و لدينا ظرف له، وأما على قراءة التخفيف فإن هي المخففة من الثقيلة، وما بعدها مرفوع بالابتداء، وتنوين كل عوض عن المضاف إليه وما بعده الخبر، واللام هي الفارقة بين المخففة والنافية. قال أبو عبيدة: و ما على هذه القراءة زائدة، والتقدير عنده: وإن كل لجميع. وقيل معنى محضرون معذبون، والأولى أنه على معناه الحقيقي من الإحضار للحساب.
ثم ذكر سبحانه البرهان على التوحيد والحشر مع تعداد النعم وتذكيرها فقال: 33- "وآية لهم الأرض الميتة" فآية خبر مقدم وتنكيرها للتفخيم ولهم صفتها، أو متعلقة بآية لأنها بمعنى علامة، والأرض مبتدأ، ويجوز أن تكون آية مبتدأ لكونها قد تخصصت بالصفة، وما بعدها الخبر. قرأ أهل المدينة "الميتة" بالتشديد وخففها الباقون، وجملة "أحييناها" مستأنفة مبينة لكيفية كونها آية، وقيل هي صفة للأرض فنبههم الله بهذا على إحياء الموتى وذكرهم نعمه وكمال قدرته، فإنه سبحانه أحيا الأرض بالنبات: وأخرج منها الحبوب التي يأكلونها ويتغذون بها، وهو معنى قوله: "وأخرجنا منها حباً فمنه يأكلون" وهو ما يقتاتونه من الحبوب، وتقديم منه للدلالة على أن الحب معظم ما يؤكل وأكثر ما يقوم به المعاش.
34- "وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب" أي جعلنا في الأرض جنات من أنواع النخل والعنب، وخصصهما بالذكر لأنهما على الثمار وأنفعها للعباد "وفجرنا فيها من العيون" أي فجرنا في الأرض بعضاً من العيون، فحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه، أو المفعول العيون، ومن مزيدة على رأي من جوز زيادتها في الإثبات وهو الأخفش ومن وافقه، والمراد بالعيون عيون الماء. قرأ الجمهور "فجرنا" بالتشديد، وقرأ جناح بن حبيش بالتخفيف، والفجر والتفجير كالفتح والتفتيح لفظاً ومعنى.
واللام في 35- "ليأكلوا من ثمره" متعلق بجعلنا، والضمير في من ثمره يعود إلى المذكور من الجنات والنخيل، وقيل هو راجع إلى ماء العيون لأن الثمر منه، قال الجرجاني. قرأ الجمهور ثمره بفتح الثاء والميم، وقرأ حمزة والكسائي بضمهما، وقرأ الأعمش بضم الثاء وإسكان الميم، وقد تقدم الكلام في هذا في الأنعام، وقوله: "وما عملته أيديهم" معطوف على ثمره: أي ليأكلوا من ثمره ويأكلوا مما عملته أيديهم كالعصير والدبس ونحوهما، وكذلك ما غرسوه وحفروه على أن ما موصولة، وقيل هي نافية، والمعنى: لم يعملوه، بل العامل له الله: أي وجدوها معمولة ولا صنع لهم فيها، وهو قول الضحاك ومقاتل. قرأ الجمهور عملته وقرأ الكوفيون عملت بحذف الضمير، والاستفهام في قوله: "أفلا يشكرون" للتقريع والتوبيخ لهم لعدم شكرهم للنعم.
وجملة 36- "سبحان الذي خلق الأزواج كلها" مستأنفة مسوقة لتنزيهه سبحانه عما وقع منهم من ترك الشكر لنعمه المذكورة والتعجب من إخلالهم بذلك، وقد تقدم الكلام مستوفى في معنى سبحان، وهو في تقدير الأمر للعباد بأن ينزهوه عما لا يليق به، والأزواج: الأنواع والأصناف، لأن كل صنف مختلف الألوان والطعوم والأشكال، و "مما تنبت الأرض" بيان للأزواج، والمراد كل ما ينبت فيها من الأشياء المذكورة وغيرها "ومن أنفسهم" أي خلق الأزواج من أنفسهم، وهم الذكور والإناث "ومما لا يعلمون" من أصناف خلقه في البر والبحر والسماء والأرض.
37- "وآية لهم الليل نسلخ منه النهار" الكلام في هذا كما قدمنا في قوله: "وآية لهم الأرض الميتة أحييناها" والمعنى: أن ذلك علامة دالة على توحيد الله وقدرته ووجوب إلهيته، والسلخ: الكشط والنزع، يقال سلخه الله من بدنه، ثم يستمعل بمعنى الإخراج، فجعل سبحانه ذهاب الضوء ومجيء الظلمة كالسلخ من الشيء، وهو استعارة بليغة "فإذا هم مظلمون" أي داخلون في الظلام مفاجأة وبغتة، يقال أظلمنا: أي دخلنا في ظلام الليل، وأظهرنا دخلنا في وقت الظهر، وكذلك أصبحنا وأمسينا، وقيل منه بمعنى عنه، والمعنى: نسلخ عنه ضياء النهار. قال الفراء: يرمي بالنهار على الليل فيأتي بالظلمة، وذلك أن الأصل هي الظلمة والنهار داخل عليه، فإذا غربت الشمس سلخ النهار من الليل: أي كشط وأزيل فتظهر الظلمة.
38- "والشمس تجري لمستقر لها" يحتمل أن تكون الواو للعطف على الليل، والتقدير: وآية لهم الشمس، ويجوز أن تكون الواو ابتدائية، والشمس مبتدأ، وما بعدها الخبر، ويكون الكلام مستأنفاً مشتملاً على ذكر آية مستقلة. قيل وفي الكلام حذف، والتقدير: تجري لمجرى مستقر لها، فتكون اللام للعلة: أي لأجل مستقر لها، وقيل اللام بمعنى إلى وقد قرئ بذلك. قيل والمراد بالمستقر: يوم القيامة، فعنده تستقر ولا يبقى لها حركة، وقيل مستقرها هو أبعد ما تنتهي إليه ولا تجاوزه، وقيل نهاية ارتفاعها في الصيف ونهاية هبوطها في الشتاء، وقيل مستقرها تحت العرش، لأنها تذهب إلى هنالك فتسجد فتستأذن في الرجوع فيؤذن لها، وهذا هو الراجح. وقال الحسن: إن للشمس في اسنة ثلثمائة وستين مطلعاً تنزل في كل يوم مطلعاً ثم لا تنزل إلى الحول، فهي تجري في تلك المنازل، وهو مستقرها، وقيل غير ذلك. وقرأ ابن مسعود وابن عباس وعكرمة وزين العابدين وابنه الباقر والصادق بن الباقر لا مستقر لها بلا التي لنفي الجنس، وبناء مستقر على الفتح. وقرأ ابن أبي عبلة: لا مستقر بلا التي بمعنى ليس، ومستقر اسمها، ولها خبرها، والإشارة بقوله: "ذلك" إلى جري الشمس: أي ذلك الجري "تقدير العزيز" أي الغالب القاهر "العليم": أي المحيط علمه بكل شيء، ويحتمل أن تكون الإشارة راجعة إلى المستقر: أي ذلك المستقر: تقدير الله.
39- "والقمر قدرناه منازل". قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو برفع "القمر" على الابتداء. وقرأ الباقون بالنصب على الاشتغال، وانتصاب منازل على أنه مفعول ثان، لأن قدرنا بمعنى صيرنا، ويجوز أن يكون منتصباً على الحال: أي قدرنا سيره حال كونه ذا منازل، ويجوز أن يكون منتصباً على الظرفية: أي في منازل. واختار أبو عبيد النصب في القمر، قال: لأن قبله فعلاً وهو نسلخ، وبعده فعلاً وهو قدرنا. قال النحاس: أهل العربية جميعأً فيما علمت على خلاف ما قال. منهم الفراء قال: الرفع أعجب إلي، قال: وإنما كان الرفع عندهم أولى لأنه معطوف على ما قبله، ومعناه: وآية لهم القمر. قال أبو حاتم: الرفع أولى، لأنك شغلت الفعل عنه بالضمير فرفعته بالابتداء، والمنازل: هي الثمانية والعشرون التي ينزل القمر في كل ليلة في واحد منها وهي معروفة وسيأتي ذكرها، فإذا صار القمر في آخرها عاد إلى أولها، فيقطع الفلك في ثمان وعشرين ليلة، ثم يستتر ليلتين، ثم يطلع هلالاً، فيعود في قطع تلك المنازل في الفلك "حتى عاد كالعرجون القديم" قال الزجاج: العرجون هو عود العذق الذي فيه الشماريخ، وهو فعلون من الانعراج، وهو الانعطاف: أي سار في منازله، فإذا كان في آخرها دق واستقوس وصغر حتى صار كالعرجون القديم، وعلى هذا فالنون زائدة. قال قتادة: وهو العذق اليابس المنحني من النخلة. قال ثعلب: العرجون الذي يبقى في النخلة إذا قطعت، والقديم: البالي. وقال الخليل: العرجون أصل العذق وهخو أصفر عريض، يشبه به الهلال إذا انحنى، وكذا قال الجوهري: إنه أصل العذق الذي يعوج ويقطع منه الشماريخ، فيبقى على النخل يابساً، وعرجته: ضربته بالعرجون، وعلى هذا فالنون أصلية. قرأ الجمهور "العرجون" بضم العين والجيم: وقرأ سليمان التيمي بكسر العين وفتح الجيم، وهما لغتان، والقديم: العتيق.
40- "لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر" الشمس مرفوعة بالابتداء، لأنه لا يجوز أن تعمل لا في المعرفة: أي لا يصح ولا يمكن للشمس أن تدرك القمر في سرعة وتنزل في المنزل الذي فيه القمر، لأن لكل واحد منهما سلطاناً على انفراده، فلا يتمكن أحدهما من الدخول على الآخر، فيذهب سلطانه إلى أن يأذن الله بالقيامة، فتطلع الشمس من مغربها. وقال الضحاك: معناه إذا طلعت الشمس لم يكن للقمر ضوء، وإذا طلع القمر لم يكن للشمس ضوء. وقال مجاهد: أي لا يشبه ضوء أحدهما ضوء الآخر. وقال الحسن: إنهما لا يجتمعان في السماء ليلة الهلال خاصة، وكذا قال يحيى بن سلام. وقيل معناه: إذا اجتمعا في السماء كان أحدهما بين يدي الآخر في منزل لا يشتركان فيه. وقيل القمر في سماء الدنيا، والشمس في السماء الرابعة. ذكره النحاس والمهدوي. قال النحاس: وأحسن ما قيل في معناه وأبينه: أن سير القمر سير سريع، والشمس لا تدركه في السير . وأما قوله " وجمع الشمس والقمر " فذلك حين حبس الشمس عن الطلوع على ما تقدم بيانه في الأنعام، ويأتي في سورة القيامة أيضاً، وجمعهما علامة لاقنضاء الدنيا وقيام الساعة "ولا الليل سابق النهار" أي لا يسبقه فيفوته، ولكن يعاقبه، ويجيء كل واحد منهما في وقته ولا يسبق صاحبه، وقيل المراد من الليل والنهار آيتاهما، وهما الشمس والقمر، فيكون عكس قوله: "لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر" أي ولا القمر سابق الشمس، وإيراد السبق مكان الإدراك لسرعة سير القمر "وكل في فلك يسبحون" التنوين في كل عوض عن المضاف إليه: أي وكل واحد منهما، والفلك: هو الجسم المستدير أو السطح المستدير أو الدائرة، والخلاف في كون السماء مبسوطة أو مستديرة معروف، والسبح: السير بانبساط وسهولة، والجمع في قوله: "يسبحون" باعتبار اختلاف مطالعهما، فكأنهما متعددان بتعددها، أو المراد: الشمس والقمر والكواكب. وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن مسعود في قوله: "وما أنزلنا على قومه من بعده" الآية يقول: ما كابدناهم بالجموع: أي الأمر أيسر علينا من ذلك. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "يا حسرة على العباد" يقول: يا ويلا للعباد. وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله: يا حسرة على العباد قال: الندامة على العباد الذين "ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون" يقول: الندامة عليهم يوم القيامة. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: "وما عملته أيديهم" قال: وجدوه معمولاً لم تعمله أيديهم: يعني الفرات ودجلة ونهر بلخ وأشباهها "أفلا يشكرون" لهذا. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي ذر قال: سألت رسول الله صلى الله عليه سلم عن قوله: "والشمس تجري لمستقر لها" قال: "مستقرها تحت العرش"، وفي لفظ للبخاري وغيره من حديثه قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد عند غروب الشمس فقال: "يا أبا ذر أتدري أين تغرب الشمس؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: إنها تذهب حتى تسجد تحت العرش، فذلك قوله: "والشمس تجري لمستقر لها"". وفي لفظ من حديثه أيضاً عند أحمد والترمذي والنسائي وغيرهم قال: "يا أبا ذر أتدري أين تذهب هذه؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنها تذهب حتى تسجد بين يدي ربها فتستأذن في الرجوع فيأذن لها، وكأنها قد قيل لها اطلعي من حيث جئت، فتطلع من مغربها. ثم قرأ " تجري لمستقر لها "" وذلك قراءة عبد الله. وأخرج الترمذي والنسائي وغيرهما من قول ابن عمر نحوه. وأخرج الخطيب في كتاب النجوم عن ابن عباس في قوله: "والقمر قدرناه منازل" الآية قال: هي ثمانية وعشرون منزلاً ينزلها القمر في كل شهر: أربعة عشر منها شامية، وأربعة عشر منها يمانية، أولها الشرطين والبطين والثريا والدبران والهقعة والهنعة والذراع والنثرة والطرف والجبهة والدبرة والصرفة والعواء والسماك، وهو آخر الشامية، والغفر والزبانا والإكليل والقلب والشولة والنعائم والبلدة وسعد الذابح وسعد بلغ وسعد السعود وسعد الأخبية ومقدم الدلو ومؤخر الدلو والحوت، وهو آخر اليمانية، فإذا سار هذه الثمانية وعشرين منزلاً "عاد كالعرجون القديم" كما كان في أول الشهر. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله: كاالعرجون القديم: يعني أصل العذق العتيق.
ثم ذكر سبحانه وتعالى نوعاً آخر مما امتن به على عباده من النعم فقال: 41- " وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون " أي دلالة وعلامة، وقيل معنى آية هنا العبرة وقيل النعمة، وقيل النذارة. وقد اختلف في معنى " أنا حملنا ذريتهم " وإلى من يرجع الضمير، لأن الضمير الأول وهو قوله: "وآية لهم" لأهل مكة، أو لكفار العرب، أو للكفار على الإطلاق الكائنين في عصر محمد صلى الله عليه وسلم، فقيل الضمير يرجع إلى القرون الماضية، والمعنى: أن الله حمل ذرية القرون الماضية في الفلك المشحون، فالضميران مختلفان. وهذا حكاه النحاس عن علي بن سليمان الأخفش. وقيل الضميران لكفار مكة ونحوهم. والمعنى: أن الله حمل ذرياتهم من أولادهم وضعفائهم على الفلك، فامتن الله عليهم بذلك: أي إنهم يحملونهم معهم في السفن إذا سافروا، أو يبعثون أولادهم للتجارة لهم فيها. وقل الذرية الآباء والأجداد، والفلك هو سفينة نوح: أي إن الله حمل آباء هؤلاء وأجدادهم في سفينة نوح. قال الواحدي: والذرية تقع على الآباء كما تقع على الأولاد. قال أبو عثمان: وسمي الآباء ذرية، لأن منهم ذرء الأبناء، وقيل الذرية النطف الكائنة في بطون النساء، وشبه البطون بالفلك المشحون، والراجح القول الثاني ثم الأول ثم الثالث، وأما الرابع ففي غاية البعد والنكارة. وقد تقدم الكالم في الذرية واشتقاقها في سورة البقرة مستوفى، والمشحون المملوء الموقر، والفلك يطلق على الواحد والجمع كما تقدم في يونس، وارتفاع آية على أنها خبر مقدم، والمبتدأ أنا حملنا أو العكس على ما قدمنا. وقيل إن الضمير في قوله: "وآية لهم" يرجع إلى العباد المذكروين في قوله: "يا حسرة على العباد" لأنه قال بعد ذلك "وآية لهم الأرض الميتة" وقال: "وآية لهم الليل". ثم قال: " وآية لهم أنا حملنا ذريتهم " فكأنه قال: وآية للعباد أنا حملنا ذريات العباد، ولا يلزم أن يكون المراد بأحد الضميرين البعض منهم، وبالضمير الآخر البعض الآخر وهذا قول حسن.
42- "وخلقنا لهم من مثله ما يركبون" أي وخلقنا لهم مما يماثل الفلك ما يركبونه على أن ما هي الموصولة. قال مجاهد وقتادة وجماعة من أهل التفسير: وهي الإبل خلقها لهم للركوب في البر مثل السفن يركبونها، قاله الحسن والضحاك وأبو مالك. قال النحاس: وهذا أصح لأنه متصل الإسناد عن ابن عباس، وقيل: هي السفن المتخذة بعد سفينة نوح.
43- "وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون" هذا من تمام الآية التي امتن الله بها عليهم، ووجه الامتنان أنه لم يغرقهم في لجج البحار مع قدرته على ذلك، والضمير يرجع إما إلى أصحاب الذرية، أو إلى الذرية، أو إلى الجميع على اختلاف الأقوال، والصريخ بمعنى المصرخ والمصرخ هو المغيث: أي فلا مغيث لهم يغيثهم إن شئنا إغراقهم، وقيل: هو المنعة. ومعنى ينقذون: يخلصون، يقال أنقذه واستنقذه، إذا خلصه من مكروه.
44- "إلا رحمة منا" استثناء مفرغ من أعم العلل: أي لا صريخ لهم، ولا ينقذون لشيء من الأشياء إلا لرحمة منا، كذا قال الكسائي والزجاج وغيرهما، وقيل هو استثناء منقطع: أي لكن لرحمة منا. وقيل هو منصوب على المصدرية بفعل مقدر "و" انتصاب "متاعاً" على العطف على رحمة: أي نمتعهم بالحياة الدنيا "إلى حين" وهو الموت، قاله قتادة. وقال يحيى بن سلام: إلى القيامة.
45- "وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم" أي ما بين أيديكم من الآفات والنوازل فإنها محيطة بكم، وما خلفكم منها. قال قتادة معنى "اتقوا ما بين أيديكم" أي من الوقائع فيمن كان قبلكم من الأمم "وما خلفكم" في الآخرة. وقال سعيد بن جبير ومجاهد "ما بين أيديكم" ما مضى من الذنوب "وما خلفكم" ما بقي منها. وقيل "ما بين أيديكم" الدنيا "وما خلفكم" الآخرة، قاله سفيان. وحكى عكس هذا القول الثعلبي عن ابن عباس. وقيل "ما بين أيديكم" ما ظهر لكم "وما خلفكم" ما خفي عنكم، وجواب إذا محذوف، والتقدير: إذا قيل لهم ذلك أعرضوا كما يدل عليه "إلا كانوا عنها معرضين" "لعلكم ترحمون" أي رجاء أن ترحموا، أو كي ترحموا، أو راجين أن ترحموا.
46- "وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين" ما هي النافية، وصيغة المضارع للدلالة على التجدد، ومن الأولى مزيدة للتوكيد، والثانية للتبعيض: والمعنى: ما تأتيهم من آية دالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وعلى صحة ما دعا إليه من التوحيد في حال من الأحوال إلا كانوا عنها معرضين. وظاهره يشمل الآيات التنزيلية، والآيات التكوينية، وجملة "إلا كانوا عنها معرضين" في محل نصب على الحال كما مر تقريره في غير موضع. والمراد بالإعراض عدم الالتفات إليها، وترك النظر الصحيح فيها، وهذه الآية متعلقة بقوله: "يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون" أي إذا جاءتهم الرسل كذبوا، وإذا أتوا بالآيات أعرضوا عنها.
47- "وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله" أي تصدقوا على الفقراء مما أعطاكم الله، وأنعم به عليكم من الأموال، قال الحسن: يعني اليهود أمروا بإطعام الفقراء. وقال مقاتل: إن المؤمنين قالوا لكفار قريش: أنفقوا على المساكين مما زعمتم أنه لله من أموالكم من الحرث والأنعام كما في قوله سبحانه: "وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً" فكان جوابهم ما حكاه الله عنهم بقوله: "قال الذين كفروا للذين آمنوا" استهزاءً بهم، وتكهماً بقولهم "أنطعم من لو يشاء الله أطعمه" أي من لو يشاء الله رزقه، وقد كانوا سمعوا المسلمين يقولون: إن الرزاق هو الله، وأنه يغني من يشاء، ويفقر من يشاء، فكأنهم حاولوا بهذا القول الإلزام للمسلمين وقالوا: نحن نوافق مشيئة الله فلا نطعم من لم يطعمه الله، وهذا غلط منهم ومكابرة ومجادلة بالباطل، فإن الله سبحانه أغنى بعض خلقه وأفقر بعضاً، وأمر الغني أن يطعم الفقير وابتلاه به فيما فرض له من ماله من الصدقة. وقولهم: "من لو يشاء الله أطعمه" هو وإن كان كلاماً صحيحاً في نفسه، ولكنهم لما قصدوا به الإنكار لقدرة الله، أو إنكار جواز الأمر بالإنفاق مع قدرة الله كان احتجاجهم من هذه الحيثية باطلاً. وقوله: "إن أنتم إلا في ضلال مبين" من تمام كلام الكفار. والمعنى: أنكم أيها المسلمون في سؤال المال، وأمرنا بإطعام الفقراء لفي ضلال في غاية الوضوح والظهور. وقيل هو من كلام الله سبحانه جواباً على هذه المقالة التي قالها الكفار. وقال القشيري والماوردي: إن الآية نزلت في قوم من الزنادقة. وقد كان في كفار قريش وغيرهم من سائر العرب قوم يتزندقون فلا يؤمنون بالصانع، فقالوا هذه المقالة استهزاءً بالمسلمين ومناقضة لهم. وحكى نحو هذا القرطبي عن ابن عباس.
48- "ويقولون متى هذا الوعد" الذي تعدونا به من العذاب والقيامة، والمصير إلى الجنة أو النار. "إن كنتم صادقين" فيما تقولونه وتدونا به. قالوا ذلك استهزاءً منهم وسخرية بالمؤمنين. ومقصودهم إنكار ذلك بالمرة، ونفي تحققه وجحد وقوعه.
فأجاب الله سبحانه عنهم بقوله: 49- "ما ينظرون إلا صيحة واحدة" أي ما ينتظرون إلا صيحة واحدة، وهي نفخة إسرافيل في الصور "تأخذهم وهم يخصمون" أي يختصمون في ذات بينهم في البيع والشراء ونحوهما من أمور الدنيا، وهذه هي النفخة الأولى، وهي نفخة الصعق. وقد اختلف القراءة في يخصمون، فقرأ حمزة بسكون الخاء وتخفيف الصاد من خصم يخصم، والمعنى: يخصم بعضهم بعضاً، فالمفعول محذوف. وقرأ أبو عمرو وقالون بإخفاء فتحة الخاء وتشديد الصاد، وقرأ نافع وابن كثير وهشام كذلك إلا أنهم أخلصوا فتحة الخاء، وقرأ الباقون بكسر الخاء وتشديد الصاد. والأصل في القراءات الثلاث يختصمون فأدغمت التاء في الصاد، فنافع وابن كثير وهشام نقلوا فتحة التاء إلى الساكن قبلها نقلاً كاملاً، وأبو عمرو وقالون اختلسا حركتها تنبيهاً على أن الخاء أصلحها السكون، والباقون حذفوا حركتها، فالتقى ساكنان فكسروا أولهما. وروي عن أبي عمرو وقالون أنهما قرآ بتسكين الخاء وتشديد الصاد وهي قراءة مشكلة لاجتماع ساكنين فيها. وقرأ أبي يختصمون على ما هو الأصل.
50- "فلا يستطيعون توصية" أي لا يستطيع بعضهم أن يوصي إلى بعض بماله وما عليه، أو لا يستطيع أن يوصيه بالتوبة والإقلاع عن المعاصي، بل يموتون في أسواقهم ومواضعهم "ولا إلى أهلهم يرجعون" أي إلى منازلهم التي ماتوا خارجين عنها، وقيل المعنى: لا يرجعون إلى أهلهم قولاً، وهذا أخبار عما ينزل بهم عند النفخة الأولى.
ثم أخبر سبحانه عما ينزل بهم عند النفخة الثانية فقال: 51- "ونفخ في الصور" وهي النفخة التي يبعثون بها من قبورهم، ولهذا قال: "فإذا هم من الأجداث" أي القبور "إلى ربهم ينسلون" أي يسرعون، وبين النفختين أربعون سنة. وعبر عن المستقبل بلفظ الماضي حيث قال ونفخ تنبيهاً على تحقق وقوعه كما ذكره أهل البيان، وجعلوا هذه الآية مثالاً له، والصور بإسكان الواو: هو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل كما وردت بذلك السنة، وإطلاق هذا الاسم على القرن معروف في لغة العرب، ومنه قول الشاعر: نحن نطحناهم غداة الغورين نطحا شديدا لا كنطح الصورين أي القرنين. وقد مضى هذا في سورة الأنعام. وقال قتادة: الصور جمع صورة: أي نفخ في الصور الأرواح، والأجداث جمع جدثة وهو القبر. وقرئ الأجداف بالفاء وهي لغة، واللغة الفصيحة بالثاء المثلثة والنسل والنصلان: الإسراع في السير، يقال نسل ينسل كضرب يضرب، ويقال ينسل بالضم، ومنه قول امرئ القيس: فسلي ثيابي من ثيابك تنسل وقول الآخر: عسلان الذيب أمسى قارناً برد الليل عليه فنسل
وقالوا: 52- "يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا" أي قالوا عند بعثهم من القبور بالنفخة يا ويلنا: نادوا ويلهم، كأنهم قالوا له احضر فهذا أوان حضورك، وهؤلاء القائون هم الكفار. قال ابن الأنباري: الوقف على يا ويلنا وقف حسن. ثم يبتدئ الكلام بقوله: "من بعثنا من مرقدنا" ظنوا لاختلاط عقولهم بما شاهدوا من الهول، وما داخلهم من الفزع أنهم كانوا نياماً. قرأ الجمهور يا ويلنا وقرأ ابن أبي ليلى يا ويلتنا بزيادة التاء. وقرأ الجمهور "من بعثنا" بفتح ميم من على الاستفهام. وقرأ ابن عباس والضحاك وأبو نهيك بكسر الميم على أنها حرف جر، ورويت هذه القراءة عن علي بن أبي طالب. وعلى هذه القراءة تكون من متعلقة بالويل، وقرأ الجمهور من بعثنا. وفي قراءة أبي من أهبنا من هب من نومه: إذا انتبه، وأنشد ثعلب على هذه القراءة: وعاذلة هبت بليل تلومني ولم يعتمدني قبل ذاك عذول وقيل إنهم يقولون ذلك إذا عاينوا جهنم. وقال ابو صالح: إذا نفخ النفخة الأولى رفع العذاب عن أهل القبور وهجعوا هجعة إلى النفخة الثانية، وجملة "هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون" جواب عليهم من جهة الملائكة، أو من جهة المؤمنين. وقيل هو من كلام الكفرة يجيب به بعضهم على بعض. قال بالأول الفراء، وبالثاني مجاهد. وقال قتادة: هي من قول الله سبحانه، و ما في قوله: "ما وعد الرحمن" موصولة وعائدها محذوف والمعنى: هذا الذي وعد الرحمن، وصدق فيه المرسلون قد حق عليهم، ونزل بكم، ومفعولا الوعد والصدق محذوفان: أي وعدكموه الرحمن وصدقكموه المرسلون، والأصل وعدكم به، وصدقكم فيه، أو وعدنا الرحمن، وصدقناه المرسلون على أن هذا من قول المؤمنين، أو من قول الكفار.
53- "إن كانت إلا صيحة واحدة" أي ما كانت تلك النفخة المذكورة إلا صيحة واحدة صاحها إسرافيل بنفخة في الصور "فإذا هم جميع لدينا محضرون" أي فإذا هم مجمعون محضرون لدينا بسرعة للحساب والعقاب.
54- "فاليوم لا تظلم نفس" من النفوس "شيئاً" مما تستحقه: أي لا ينقص من ثواب عملها شيئاً من النقص، ولا تظلم فيه بنوع من أنواع الظلم "ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون" أي إلا جزاء ما كنتم تعملونه في الدنيا، أو إلا بما كنتم تعملونه: أي بسببه، أو في مقابلته. وقد أخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن أبي مالك في قوله: " أنا حملنا ذريتهم " الآية قال: في سفينة نوح حمل فيها من كل زوجين اثنين "وخلقنا لهم من مثله ما يركبون" قال: السفن التي في البحر والأنهار التي يركق الناس فيها. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن أبي صالح نحوه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وخلقنا لهم من مثله ما يركبون" قال: هي السفن جعلت من بعد سفينة نوح. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في الآية قال: يعني الإبل خلقها الله كما رأيت، فهي سفن البر يحملون عليها ويركبونها. ومثله عن الحسن وعكرمة وعبد الله بن شداد ومجاهد. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه عن أبي هريرة في قوله: "فلا يستطيعون توصية" الآية قال: تقوم الساعة والناس في أسواقهم يتبايعون ويذرعون الثياب ويحلبون اللقاح، وفي حوائجهم فلا يستطيعون توصية "ولا إلى أهلهم يرجعون" وأخرج عبد بن حميد وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن المنذر عن الزبير بن العوام قال: إن الساعة تقوم والرجل يذرع الثوب والرجل يحلب الناقة، ثم قرأ: "فلا يستطيعون توصية" الآية. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما، فلا يتبايعانه ولا يطويانه، ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقي فيه، ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه، ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها". وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي بن كعب في قوله: "من بعثنا من مرقدنا" قال: ينامون قبل البعث نومة.
لما ذكر الله سبحانه حال الكافرين أتبعه بحكاية حال عباده الصالحين، وجعله من جملة ما يقال للكفار يومئذ زيادة لحسرتهم وتكميلاً لجزعهم، وتتميماً لما نزل بهم من البلاء وما شاهدوه من الشقاء، فإذا رأوا ما أعده الله لهم من أنواع العذاب، وما أعده لأوليائه من أنواع النعيم، بلغ ذلك من قلوبهم مبلغاً عظيماً، وزاد في ضيق صدورهم بزيادة لا يقادر قدرها. والمعنى 55- "إن أصحاب الجنة" في ذلك "اليوم في شغل" بما هم فيه من اللذات الي هي ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر عن الاهتمام بأمر الكفار، ومصيرهم إلى النار وإن كانوا من قرابتهم. والأولى عدم تخصيص الشغل بشيء معين. وقال قتادة ومجاهد: شغلهم ذلك اليوم بافتضاض العذاريى. وقال وكيع: شغلهم بالسماع. وقال ابن كيسان: بزيادة بعضهم بعضاً، وقيل شغلهم كونهم ذلك اليوم في ضيافة الله. قرأ الكوفيون وابن عامر: "شغل" بضمتين. وقرأ الباقون بضم الشين وسكون الغين: وهما لغتان كما قال الفراء. وقرأ مجاهد وأبو السماك بفتحتين. وقرأ يزيد النحوي وابن هبيرة بفتح الشين وسكون الغين. وقراءة الجمهور "فاكهون" بالرفع على أنه خبر إن، وفي شغل متعلق به، أو في محل نصب على الحال: ويجوز أن يكون في محل رفع على أنه خبر إن وفاكهون خبر ثان. وقرأ الأعمش وطلحة بن مصرف فاكهين بالنصب على أنه حال، وفي شغل هو الخبر. وقرأ الحسن وأبو جعفر وأبو حيوة وأبو رجاء وشيبة وقتادة ومجاهد فكهون قال الفراء: هما لغتان كالفاره والفره، والحاذر والحذر. وقال الكسائي وأبو عبيدة الفاكه: ذو الفاكهة مثل تامر ولابن، والفكه: المتفكه والمتنعم. وقال قتادة: الفكهون: المعجبون. وقال أبو زيد: يقالك رجل فكه: إذا كان طيب النفس ضحوكاً. وقال مجاهد والضحاك كما قال قتادة. وقال السدي كما قال الكسائي.
56- "هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون" هذه الجملة مستأنفة مسوقة لبيان كيفية شغلهم وتفكههم وتكميلها بما يزيدهم سروراً وبهجة من كون أزواجهم معهم على هذه الصفة من الاتكاء على الأرائك، فالضمير وهو هم مبتدأ و أزواجهم معطوف عليه والخبر متكئون، ويجوز أن يكون هم تأكيداً للضمير في فاكهون و أزواجهم معطوف على ذلك الضمير، وارتفاع متكئون على أنه خبر لمبتدأ محذوف، و في ظلال متعلق به أو حال، وكذا على الأرائك وجوز أبو البقاء أن يكون "في ظلال" هو الخبر و "على الأرائك" مستأنف. قرأ الجمهور "في ظلال" بكسر الظاء وبالألف وهو جمع ظل. وقرأ ابن مسعود وعبد بن عمير والأعمش ويحيى بن وثاب وحمزة والكسائي وخلف "في ظلل" بضم الظاء من غير ألف جمع ظلة، وعلى القراءتين فالمراد الفرش والستور التي تظللهم كالخيام والحجال، والأرائك جمع أريكة، كسفائن جميع سفينة، والمراد بها السرر التي في الحجال. قال أحمد بن يحيى ثعلب: الأريكة لا يكون إلا سريراً في قبة. وقال مقاتل: إن المراد بالظلال أكنان القصور.
وجملة 57- "لهم فيها فاكهة" مبينة لما يتمتعون به في الجنة من المآكل والمشارب ونحوها. والمراد فاكهة كثيرة من كل نوع من أنواع الفواكه "ولهم ما يدعون" ما هذه هي الموصولة والعائد محذوف أو موصوفة أو مصدرية، ويدعون مضارع ادعى. قال أبو عبيدة: يدعون بتمنون، والعرب تقول: ادع علي ما شئت: أي تمن، وفلان في خير ما يدعي: أي ما يتمنى. وقال الزجاج هو من الدعاء: أي ما يدعونه أهل الجنة يأتيهم، من دعوت غلامي، فيكون الافتعال بمعنى الفعل كالاحتمال بمعنى الحمل والارتحال بمعنى الرحل. وقيل افتعل بمعنى تفاعل: أي ما يتداعونه كقولهم ارتموا وتراموا. وقيل المعنى: إن من اجعى منهم شيئاً فهو له، لأن الله قد طبعهم على أن لا يدعي أحد منهم شيئاً إلا وهو يحسن ويجمل به أن يدعيه، وما مبتدأ وخبرها لهم والجملة معطوفة على ما قبلها. وقرئ يدعون بالتخفيف ومعناها واضح. قال ابن الأنباري: والوقف على يدعون وقف حسن.
ثم يبتدئ 58- "سلام" على معنى لهم سلام، وقيل إن سلام هو خبر ما: أي مسلم خالص أو ذو سلامة. وقال الزجاج: سلام مرفوع على البدل من ما: أي ولهم أن يسلم الله عليهم، وهذا منى أهل الجنة، والأولى أن يحمل قوله: "ولهم ما يدعون" على العموم، وهذا السلام يدخل تحته دخولاً أولياً، ولا وجه لقصره على نوع خاص، وإن كان أشرف أنواعه تحقيقاً لمعنى العموم، ورعاية لما يقتضيه النظم القرآني. وقيل إن سلام مرتفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف: أي سلام يقال لهم "قولاً" وقيل إن سلام مبتدأ، وخبره الناصب لقولا: أي سلام يقال لهم قولاً وقيل خبره من رب العالمين وقيل التقدير: سلام عليكم هذا على قراءة الجمهور وقرأ أبي وابن مسعود وعيسى سلاماً بالنصب إما على المصدرية أو على الحالية بمعنى خالصاً، والسلام: إما من التحية أو من السلامة. وقرأ محمد بن كعب القرظي سلم كأنه قال سلم لهم لا يتنازعون فيه، وانتصاب قولاً على المصدرية بفعل محذوف على معنى: قال الله لهم ذلك قولاً، أو يقوله لهم قولاً، أو يقال لهم قولاً "من رب رحيم" أي من جهته، قيل يرسل الله سحابة إليهم بالسلام. وقال مقاتل: إن الملائكة تدخل على أهل الجنة من كل باب يقولون: سلام عليكم يا أهل الجنة من رب رحيم.
59- "وامتازوا اليوم أيها المجرمون" هو على إضمال القول مقابل ما قيل للمؤمنين: أي ويقال للمجرمين امتازوا: أي انعزلوا، من مازه غيره، يقال مزت الشيء من الشيء: إذا عزلته عنه ونحيته. قال مقاتل: معناه اعتزلوا اليوم: يعني في الآخرة من الصالحين. وقال السدي: كونوا على حدة. وقال الزجاج: انفردوا عن المؤمنين. وقال قتادة: عزلوا عن كل خير. وقال الضحاك: يمتاز المجرمون بعضهم من بعض، فيمتاز اليهود فرقة، والنصارى فرقة، والمجوس فرقة، والصابئون فرقة وعبدة الأوثان فرقة. وقال داود بن الجراح: يمتاز المسلمون من المجرمين إلا أصحاب الأهواء فإنهم يكونون مع المجرمين.
ثم وبخهم الله سبحانه وقرعهم بقوله: 60- "ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان" وهذا من جملة ما يقال لهم. والعهد الوصية: أي ألم أوصكم وأبلغكم عن ألسن رسلي أن لا تعبدوا الشيطان: أي لا تطيعوه. قال الزجاج: المعنى ألم أتقدم إليكم على لسان الرسل يا بني آدم. وقال مقاتل: يعني الذين أمروا بالاعتزال. قال الكسائيك لا للنهي، وقيل المراد بالعهد هنا: الميثاق المأخوذ عليهم حين أخرجوا من ظهر آدم، وقيل هو ما نصبه الله لهم من الدلائل العقلية التي في سمواته وأرضه وجملة "إنه لكم عدو مبين" تعليل لما قبلها من النهي عن طاعة الشيطان وقبول وسوسته.
وجملة 61- "وأن اعبدوني" عطف على أن لا تعبدوا، وأن في الموضعين هي المفسرة للعهد الذي فيه معنى القول، ويجوز أن تكون مصدرية فيهما: أي لم أعهد إليكم بأن لا تعبدوا بأن اعبدوني، أو ألم أعهد إليكم في ترك عبادة الشيطان وفي عبادتي "هذا صراط مستقيم" أي عبادة الله وتوحيده، أو الإشارة إلى دين الإسلام.
ثم ذكر سبحانه عداوة الشيطان لبني آدم فقال: 62- "ولقد أضل منكم جبلاً كثيراً" اللام هي الموطئة للقسم، والجملة مستأنفة للتقريع والتوبيخ أي والله لقد أضل إلخ. قرأ نافع وعاصم "جبلاً" بكسر الجيم والباء وتشديد اللام وقرأ ابن أبي إسحاق والزهري وابن هرمز بضمتين مع تشديد اللام، وكذلك قرأ الحسن وعيسى بن عمر والنضر بن أنس. وقرأ أبو يحيى وحماد بن سلمة والأشهب العقيلي بكسر الجيم وإسكان الباء وتخفيف اللام. قال النحاس: وأبينها القراءة الأولى. والدليل على ذلك أنهم قد قرأوا جميعاً: والجبلة الأولين بكسر الجيم والباء وتشديد اللام. فيكون جبلاً جمع جبلة، واشتقاق الكل من جبل الله الخلق: أي خلقهم، ومعنى الآية: أن الشيطان قد أغوى خلقاً كثيراً كما قال مجاهد. وقال قتادة: جموعاً كثيرة، وقال الكلبي: أمماً كثيرة. قال الثعلبي: والقراءات كلها بمعنى الخلق، وقرئ جيلاً بالجيم والياء التحتية. قال الضحاك: الجيل الواحد عشرة آلاف، والكثير ما لا يحصيه إلا الله عز وجل، ورويت هذه القراءة عن علي بن أبي طالب. والهمزة في قوله: "أفلم تكونوا تعقلون" للتقريع والتوبيخ، والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام كما تقدم في نظائره: أي أتشاهدون آثار العقوبات، أفلم تكونوا تعقلون، أو أفلم تكونوا تعقلون عداوة الشيطان لكن، أو أفلم تكونوا تعقلون شيئاً أصلاً قرأ الجمهور "أفلم تكونوا تعقلون" بالخطاب. وقرأ طلحة وعيسى بالغيبة.
63- "هذه جهنم التي كنتم توعدون" أي ويقال لهم عند أن يدنوا من النار: هذه جهنم التي كنتم توعدون بها في الدنيا على ألسنة الرسل، والقائل لهم الملائكة.
ثم يقولون لهم: 64- "اصلوها اليوم بما كنتم تكفرون" أي قاسوا حرها اليوم وادخلوها وذوقوا أنواع العذاب فيها بما كنتم تكفرون: أي بسبب كفركم بالله في الدنيا وطاعتكم للشيطان وعبادتكم للأوثان، وهذا الأمر أمر تنكيل وإهانة كقوله: "ذق إنك أنت العزيز الكريم".
65- "اليوم نختم على أفواههم" اليوم ظرف لما بعده، وقرئ يختم على البناء للمفعول، والنائب الجار والمجرور بعده. قال المفسرون: إنهم ينكرون الشرك وتكذيب الرسل كما في قولهم: "والله ربنا ما كنا مشركين" فيختم الله على أفواههم ختماً لا يقدرون معه على الكلام، وفي هذا التفات من الخطاب إلى الغيبة للإيذان بأن أفعالهم القبيحة مستدعية للإعراض عن خطابهم، ثم قال: "وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون" أي تكلمت أيديهم بما كانوا يفعلونه، وشهدت أرجلهم عليهم بما كانوا يعملون. قرأ الجمهور "تكلمنا" و "تشهد" وقرأ طلحة بن مصرف ولتكلمنا ولتشهد بلام كي. وقيل سبب الختم على أفواههم ليعرفهم أهل الموقف. وقيل ختم على أفواههم لأجل أن يكون الإقرار من جوارحهم لأن شهادة غير الناطق أبلغ في الحجة من شهادة الناطق لخروجه مخرج الإعجاز. وقيل ليعلموا أن أعضاءهم التي كانت أعواناً لهم في معاصي الله صارت شهوداً عليهم، وجعل ما تنطق به الأيدي كلاماً وإقراراً لأنها كانت المباشرة لغالب المعاصي، وجعل نطق الأرجل شهادة لأنها حاضرة عند كل معية، وكلام الفاعل إقرار، وكلام الحاضر شهادة، وهذا اعتبار بالغالب، وإلا فالأرجل قد تكون مباشرة للمعصية كما تكون الأيدي مباشرة لها.
66- "ولو نشاء لطمسنا على أعينهم" أي أذهبنا أعينهم وجعلناها بحيث لا يبدو لها شق ولا جفن. قال الكسائي: طمس يطمس ويطمس والمطموس والطميس عند أهل اللغة الذي ليس في عينيه شق كما في قوله: "ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم" ومفعول المشيئة محذوف: أي لو نشاء أن نطمس على أعينهم لطمسنا. قال السدي والحسن: المعنى لتركناهم عمياً يترددون لا يبصرون طريق الهدى، واختار هذا ابن جرير "فاستبقوا الصراط" معطوف على لطمسنا: أي تبادروا إلى الطريق ليجوزوه ويمضوا فيه، والصراط منصوب بنزع الخافض: أي فاستبقوا إليه، وقال عطاء ومقاتل وقتادة: المعنى لو نشاء لفقأنا أعينهم وأعميناهم عن غيهم. وحولنا أبصارهم من الضلالة إلى الهدى، فأبصروا رشدهم، واهتدوا وتبادروا إلى طريق الآخرة، ومعنى "فأنى يبصرون" أي كيف يبصرون الطريق ويحسنون سلوكه ولا أبصار لهم. وقرأ عيسى بن عمر فاستبقوا على صيغة الأمر: أي فيقال لهم استبقوا. وفي هذا تهديد لهم.
ثم كرر التهديد لهم فقال: 67- "ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم" المسخ تبديل الخلقة إلى حجر أو غيره من الجماد أو بهيمة، والمكانة المكان: أي لو شئنا لبدلنا خلقهم على المكان الذي هم فيه. قيل والمكانة أخص من المكان كالمقامة والمقام. قال الحسن: أي لأقعدناهم "فما استطاعوا مضياً ولا يرجعون" أي لا يقدرون على ذهاب ولا مجيء. قال الحسن: فلا يستطيعون أن يمضوا أمامهم ولا يرجعوا وراءهم، وكذلك الجماد لا يتقدم ولا يتأخر. وقيل المعنى: لو نشاء لأهلكناهم في مساكنهم، وقيل لمسخناهم في المكان الذي فعلوا فيه المعصية. وقال يحيى بن سلام: هذا كله يوم القيامة. قرأ الجمهور "على مكانتهم" بالإفراد. وقرأ الحسن والسلمي وزر بن حبيش وأبو بكر عن عاصم " مكانتهم " بالجمع. وقرأ الجمهور مضياً بضم الميم، وقرأ أبو حيوة مضياً بفتحها، وروي عنه أنه قرأ بكسرها ورويت هذه القراءة عن الكسائي. قيل والمعنى: ولا يستطيعون رجوعاً، فوضع الفعل موضع المصدر لمراعاة الفاصلة، يقال مضى يمضي مضياً: إذا ذهب في الأرض، ورجع يرجع رجوعاً: إذا عاد من حيث جاء.
68- "ومن نعمره ننكسه في الخلق" قرأ الجمهور "ننكسه" بفتح النون الأولى وسكون الثانية وضم الكاف مخففة. وقرأ عاصم وحمزة بضم النون الأولى وفتح الثانية وكسر الكاف مشددة. والمعنى: من نطل عمره نغير خلقه، ونجعله على عكس ما كان عليه أولاً من القوة والطراوة. قال الزجاج: المعنى من أطلنا عمره نكسنا خلقه، فصار بدل القوة الضعف، وبدل الشباب الهرم، ومثل هذه الآية قوله سبحانه: "ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئاً" وقوله "ثم رددناه أسفل سافلين" ومعنى "أفلا تعقلون" أفلا تعلمون بعقولكم أن من قدر على ذلك قدر على البعث والنشور. قرأ الجمهور "يعقلون" بالتحتية. وقرأ نافع وابن ذكوان بالفوقية على الخطاب.
ولما قال كفار مكة: إن القرآن شعر، وإن محمداً شاعر رد الله عليهم بقوله: 69- "وما علمناه الشعر" والمعنى: نفى كون القرآن شعراً، ثم نفى أن يكون النبي شاعراً، فقال: "وما ينبغي له" أي لا يصح له الشعر ولا يتأتى منه ولا يسهل عليه لو طلبه وأراد أن يقوله: بل كان صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن ينشد بيتاً قد قاله شاعر متمثلاً به كسر وزنه، فإنه لما أنشد بيت طرفة بن العبد المشهور، وهو قوله: ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ويأتيك بالأخبار من لم تزود قال: ويأتيك من لم تزوده بالأخبار وأنشد مرة أخرى قول العباس بن مرداس السلمي: أتجعل نهبي ونهب العبيـ ـد بين عيينة والأقرع فقال: بين الأقرع وعيينة، وأنشد أيضاً كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهياً فقال أبو بكر: يا رسول الله إنما قال الشاعر: كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا فقال: أشهد أنك رسول الله، يقول الله عز وجل "وما علمناه الشعر وما ينبغي له". وقد وقع منه صلى الله عليه وسلم كثير من مثل هذا. قال الخليل كان الشعر أحب إلى رسول الله من كثير من الكلام، ولكن لا يتأتى منه اهـ. ووجه عدم تعليمه الشعر وعدم قدرته عليه التكميل للحجة والدحض للشبهة، كما جعله الله أمياً لا يقرأ ولا يكتب، وأما ما روي عنه من قوله صلى الله عليه وسلم: هل أنت إلا أصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت وقوله: أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب ونحو ذلك، فمن الاتفاق الوارد من غير قصد كما يأتي ذلك في بعض آيات القرآن، وليس بشعر ولا مراد به الشعر، بل اتفق ذلك اتفاقاً كما يقع في كثير من كلام الناس، فإنهم قد يتكلمون بما لو اعتبره معتبر لكان على وزن الشعر ولا يعدونه شعراً، وذلك كقوله تعالى: "لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون" وقوله: "وجفان كالجواب وقدور راسيات" على أنه قد قال الأخفش إن قوله: أنا النبي لا كذب ليس بشعر. وقال الخليل في كتاب العين: إن ما جاء من السجع على جزءين لا يكون شعراً. قال ابن العربي: والأظهر من حاله أنه قال لا كذب برفع الباء من كذب، وبخفضها من عبد المطلب. قال النحاس، قال بعضهم: إنما الرواية بالإعراب، وإذا كانت بالإعراب لم يكن شعراً، لأنه إذا فتح الباء من الأول أو ضمهما أو نونها وكسر الباء من الثاني خرج عن وزن الشعر. وقيل إن الضمير في له عائد إلى القرآن أي وما ينبغي للقرآن أن يكون شعراً "إن هو إلا ذكر" أي ما القرآن إلا ذكر من الأذكار وموعظة من المواعظ "وقرآن مبين" أي كتاب من كتب الله السماوية مشتمل على الأحكام الشرعية.
70- "لينذر من كان حياً" أي لينذر القرآن من كان حياً: أي قلبه صحيح يقبل الحق ويأبى الباطل، أو لينذر الرسول من كان حياً. قرأ الجمهور بالياء التحتية، وقرأ نافع وابن عامر بالفوقية، فعلى القراءة الأوىل المراد القرآن، وعلى الثانية المراد النبي صلى الله عليه وسلم "ويحق القول على الكافرين" أي وتجب كلمة العذاب على المصرين على الكفر الممتنعين من الإيمان بالله وبرسله. وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن أبي الدنيا وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه من طرق عن ابن عباس في قوله: "في شغل فاكهون" قال: في افتضاض الأبكار. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي الدنيا وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن جرير وابن المنذر عن ابن مسعود في الآية قال: شغلهم افتضاض العذارى. وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة وقتادة مثله. وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن ابن عمر قال: إن المؤمن كلما أراد زوجة وجدها عذراء. وقد روي نحوه مرفوعاً عن أبي سعيد مرفوعاً عند الطبراني في الصغير وأبي الشيخ في العظمة. وروي أيضاً نحوه عن أبي هريرة مرفوعاً عند الضياء المقدسي في صفة الجنة. وأخرج ابن أبي حاتمأب عن ابن عباس في قوله: "في شغل فاكهون" قال: ضرب الأوتار. قال أبو حاتم: هذا لعله خطأ من المستمع، وإنما هو افتضاض الأبكار. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال: "فاكهون" فرحون. وأخرج ابن ماجه وابن أبي الدنيا في صفة الجنة والبزار وابن أبي حاتم والآجري في الرؤية وابن مردويه عن جابر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور، فرفعوا رؤوسهم فإذا الرب قد أشرف عليهم من فوقهم، فقال: السلام عليكم يا أهل الجنة، وذلك قول الله "سلام قولاً من رب رحيم" قال: فينظر إليهم وينظرون إليه، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم ويبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم" قال ابن كثير: في إسناده عليهم. وأخرج وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال: إن الله هو يسلم عليهم. وأخرج أحمد ومسلم والنسائي والبزار وابن أبي الدنيا في التوبة واللفظ له وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عن أنس في قوله: "اليوم نختم على أفواههم" قال: "كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فضحك حتى بدت نواجذه، قال: أتدرون مما ضحكت؟ قلنا لا يا رسول الله، قال: من مخاطبة العبد ربه يقول: يا رب ألم تجرني من الظلم؟ فيقول بلى، فيقول: إني لا أجيز علي إلا شاهداً مني، فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيداً وبالكرام الكاتبين شهوداً فيختم على فيه. ويقال لأركانه انطقي، فتنطق بأعماله، ثم يخلى بينه وبين الكلام، فيقول: بعداً لكن وسحقاً فعنكن كنت أناضل". وأخرج مسلم والترمذي وابن مردويه والبيهقي عن أبي سعيد وأبي هريرة قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يلقى العبد ربه فيقول الله: قل ألم أكرمك وأسودك وأزوجك وأسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وترتع؟ فيقول بلى أي رب، فيقول أفظننت أنك ملاقي؟ فيقول لا، فيقول: إني أنساك كما نسيتني. ثم يلقى الثاني فيقول مثل ذلك، ثم يلقى الثالث فيقول له مثل ذلك، فيقول: آمنت بك وبكتابك وبرسولك وصليت وصمت وتصدقت ويثني بخير ما استطاع، فيقول: ألا نبعث شاهدنا عليك، فيفكر في نفسه من الذي يشهد علي فيختم على فيه، ويقال لفخذه انطقي فتنطق فخذه وفمه وعظامه بعمله ما كان وذلك ليعذر من نفسه، وذلك المنافق، وذلك الذي يسخط عليه". وأخرج وابن جرير وابن أبي حاتم من حديث أبي موسى نحوه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله: "ولو نشاء لطمسنا على أعينهم" قال: أعميناهم وأضللناهم عن الهدى "فأنى يبصرون" فكيف يهتدون. وأخرج وابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله: "ولو نشاء لمسخناهم" قال: أهلكناهم "على مكانتهم" قال: في مساكنهم. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم قال بلغني أنه "قيل لعائشة: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل بشيء من الشعر؟ قالت: كان أبغض الحديث إليه، غير إنه كان يتمثل ببيت أخي بني قيس فيجعل أوله آخره يقول:ويأتيك من لم تزود بالأخبار، فقال أبو بكر: ليس هكذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني والله ما أنا بشاعر ولا ينبغي لي" وهذا يرد ما نقلناه عن الخليل سابقاً أن الشعر كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من كثير من الكلام وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استراث الخبر تمثل ببيت طرفة: ويأتيك بالأخبار من لم تزود وأخرج البيهقي في سننه عن عائشة قالت: " ما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت شعر قط إلا بيتاً واحداً: تفاءل بما تهوى يكن فلقلما يقال لشيء كان إلا تحقق قالت عائشة: ولم يقل تحققا لئلا يعربه فيصير شعرا"ً، وإسناده هكذا: قال أخبرنا أبو عبيد الله الحافظ: يعني الحاكم حدثنا أبو حفص بن أحمد بن نعيم حدثنا أبو محمد عبد الله بن هلال النحوي الضرير حدثنا علي بن عمرو الأنصاري حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن عروة عن عائشة فذكره. وقد سئل المزي عن هذا الحديث فقال: هو منكر ولم يعرف شيخ الحاكم ولا الضرير.
ثم ذكر سبحانه قدرته العظيمة، وإنعامه على عبيده وجحد الكفار لنعمه فقال: 71- " أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما " والهمزة للإنكار والتعجيب من حالهم، والواو للعطف على مقدر كما في نظائره والرؤية هي القلبية: أي أو لم يعلموا بالتفكر والاعتبار "أنا خلقنا لهم":أي لأجلهم " مما عملت أيدينا " :أي مما أبدعناه وعملناه من غير واسطة ولا شركة، وإسناد العمل إلى الأيدي مبالغة في الاختصاص والتفرد بالخلق كما يقول الواحد منا: عملته بيدي للدلالة على تفرده بعمله، وما بمعنى الذي، وحذف العائد لطول الصلة، ويجوز أن تكون مصدرية، والأنعام جمع نعم، وهي البقر والغنم والإبل، وقد سبق تحقيق الكلام فيها. ثم ذكر سبحانه المنافع المترتبة على خلق الأنعام فقال: "فهم لها مالكون" أي ضابطون قاهرون يتصرفون بها كيف شاءوا، ولو خلقناها وحشية لنفرت عنهم ولم يقدروا على ضبطها، ويجوز أن يكون المراد أنها صارت في أملاكهم ومعدودة من جملة أموالهم المنسوبة إليهم نسبة الملك.
72- "وذللناها لهم" أي جعلناها لهم مسخرة لا تمتنع مما يريدون منها من منافعهم حتى الذبح، ويقودها الصبي فتنقاد له ويزجرها فتنزجر، والفاء في قوله: "فمنها ركوبهم" لتقريع أحكام التذليل عليه: أي فمنها مركوبهم الذي يركبونه كما يقال ناقة حلوب: أي محلوبة. قرأ الجمهور ركوبهم بفتح الراء. وقرأ الأعمش والحسن وابن السميفع بضم الراء على المصدر. وقرأ أبي وعائشة ركوبتهم والركوب والركوبة واحد، مثل الحلوب والحلوبة والحمول والحمولة. وقال أبو عبيدة: الركوبة تكون للواحدة والجماعة، والركوب لا يكون إلا للجماعة. وزعم أبو حاتم أنه لا يجوز فمنها ركوبهم بضم الراء لأنه مصدر، والركوب ما يركب، وأجاز ذلك الفراء كما يقال: فمنها أكلهم ومنها شربهم ومعنى "ومنها يأكلون" ما يأكلونه من لحمها، ومن للتبعيض.
73- "ولهم فيها منافع" أي لهم في الأنعام منافع غير الركوب لها والأكل منها وهي ما ينتفعون به من أصوافها وأوبارها وأشعارها وما يتخذونه من الأدهان من شحومها، وكذلك الحمل عليها والحراثة بها "ومشارب" أي ولهم فيها مشارب مما يحصل من ألبانها "أفلا يشكرون" الله على هذه النعم ويوحدونه ويخصونه بالعبادة.
ثم ذكر سبحانه جهلهم واغترارهم ووضعهم كفران النعم مكان شكرها فقال: 74- "واتخذوا من دون الله آلهة" من الأصنام ونحوها يعبدونها ولا قدرة لها على شيء ولم يحصل لهم منها فائدة، ولا عاد عليهم من عبادتها عائدة "لعلهم ينصرون" أي رجاء أن ينصروا من جهتهم إن نزل بهم عذاب أو دهمهم أمر من الأمور.
وجملة 75- "لا يستطيعون نصرهم" مستأنفة لبيان بطلان ما رجوه منها وأملوه من نفعها، وجمعهم بالواو والنون جمع العقلاء بناء على زعم المشركين أنهم ينفعون ويضرون ويعقلون "وهم لهم جند محضرون" أي والكفار جند للأصنام محضرون: أي يحضرونهم في الدنيا. قال الحسن: يمنعون منهم ويدفعون عنهم، وقال قتادة: أي يغضبون لهم في الدنيا. قال الزجاج: ينتصرون للأصنام وهي لا تستطيع نصرهم. وقيل المعنى: يعبدون الآلهة ويقومون بها فهم لهم بمنزلة الجند، هذه الأقوال على جعل ضميرهم للمشركين وضمير لهم للآلهة، وقيل وهم: أي الآلهة لهم: أي للمشركين جند محضرون معهم في النار فلا يدفع بعضهم عن بعض. وقيل معناه: وهذه الأصنام لهؤلاء الكفار جند الله عليهم في جهنم لأنهم يلعنونهم ويتبرأنون منهم. وقيل المعنى: إن الكفار يعتقدون أن الأصنام جند لهم يحضرون يوم القيامة لإعانتهم.
ثم سلى سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم فقال: 76- "فلا يحزنك قولهم" هذا القول هو ما يفيده قوله: "واتخذوا من دون الله آلهة" فإنهم لا بد أن يقولوا هؤلاء آلهتنا وإنها شركاء لله في المعبودية ونحو ذلك، وهو نهي من خاطبه عن الحضور لديه. لا نهي نفسه عن الرؤية، وهذا بعيد والأول أولى والكلام من باب التسلية كما ذكرنا. ويجوز أن يكون المراد بالقول المذكور هو قولهم: إنه ساحر وشاعر ومجنون، وجملة "إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون" لتعليل ما تقدم من النهي. فإن علمه سبحانه بما يظهرون ويضمرون مستلزم للمجازاة لهم بذلك. وأن جميع ما صدر منهم لا يعزب عنه سواء كان خافياً أو بادياً سراً أو جهراً مظهراً أو مضمراً. وتقديم السر على الجهر للمبالغة في شمول علمه لجميع المعلومات.
وجملة 77- " أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة " مستأنفة مسوقة لبيان إقامة الحجة على من أنكر البعث وللتعجيب من جهله، فإنه مشاهدة خلقهم في أنفسهم على هذه الصفة من البداية إلى النهاية مستلزمة للاعتراف بقدرة القادر الحكيم على ما هو دون ذلك من بعث الأجسام وردها كما كانت، والإنسان المذكور في الآية المراد به جنس الإنسان كما في قوله: " أو لا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا " ولا وجه لتخصيصه بإنسان معين كما قيل: إنه عبد الله بن أبي، وأنه قيل له ذلك لما أنكر البعث. وقال الحسن: هو أمية بن خلف. وقال سعيد بن جبير: فهو العاص بن وائل السهمي. وقال قتادة ومجاهد: هو أبي بن خلف الجمحي، فإن أحد هؤلاء وإن كان سبباً للنزول فمعنى الآية خطاب الإنسان من حيث هو، لا إنسان معين، ويدخل من كان سبباً للنزول تحت جنس الإنسان دخولاً أولياً، والنطفة هي اليسير من الماء، وقد تقدم تحقيق معناها "فإذا هو خصيم مبين" هذه الجملة معطوفة على الجملة المنفية قبلها داخلة معها في حيز الإنكار المفهوم من الاستفهام، وإذا هي الفجائية: أي ألم ير الإنسان أنا خلقناه من أضعف الأشياء، ففجأ خصومتنا في أمر قد قامت فيه عليه حجج الله وبراهينه، والخصيم الشديد الخصومة الكثير الجدال، ومعنى المبين: المظهر لما يقوله الموضح له بقوة عارضته وطلاقة لسانه.
وهكذا جملة 78- "وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه" معطوفة على الجملة المنفية داخلة في حيز الإنكار المفهوم من الاستفهام، فهي تكميل للتعجيب من حال الإنسان وبيان جهله بالحقائق وإهماله للتفكر في نفسه فضلاً عن التفكر في سائر المخلوقات الله، ويجوز أن تكون جملة "فإذا هو خصيم" معطوفة على خلقنا، وهذه معطوفة عليها: أي أورد في شأننا قصة غريبة كالمثل: وهي إنكاره أحياناً للعظام، ونسي خلقه: أي خلقنا إياه، وهذه الجملة معطوفة على ضرب، أو في محل نصب على الحال بتقدير قد، وجملة "قال من يحيي العظام وهي رميم" استئناف جواباً عن سؤال مقدر كأنه قيل ما هذا المثل الذي ضربه؟ فقيل قال: من يحيي العظام وهي رميم، وهذا الاستفهام للإنكار لأنه قاس قدرة الله على قدرة العبد، فأنكر أن الله يحيي العظام البالية حيث لم يكن ذلك في مقدور البشر، يقال رم العظم يرم رماً إذا بلي فهو رميم ورمام وإنما قال رميم ولم يقل رميمة مع كونه خبراً للمؤنث لأه اسم لما بلي من العظام غير صفة كالرمة والرفات. وقيل لكونه معدولاً عن فاعله وكل معدول عن وجهه يكون مصروفاً عن إعرابه كما في قوله: "وما كانت أمك بغياً" لأنه مصروف عن باغية، كذا قال البغوي والقرطبي وقال بالأول صاحب الكشاف. والأولى أن يقال إنه فعيل بمعنى فاعل أو مفعول وهو يستوي فيه المذكر والمؤنث كما قيل في جريح وصبور.
ثم أجاب سبحانه عن الضارب لهذا المثل فقال: 79- "قل يحييها الذي أنشأها أول مرة" أي ابتدأها وخلقها أول مرة من غير شيء، ومن قدر على النشأة الأولى قدر على النشأة الثانية "وهو بكل شيء عليم" لا يخفى عليه خافية ولا يخرج عن علمه خارج كائناً ما كان. وقد استدل أبو حنيفة وبعض أصحاب الشافعي بهذه الآية على أن العظام مما تحله الحياة وقال الشافعي: لا تحله الحياة وأن المراد بقوله "من يحيي العظام" من يحيي أصحاب العظام على تقدير مضاف محذوف، ورد بأن هذا التقدير خلاف الظاهر.
80- "الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً" هذا رجوع منه سبحانه إلى تقرير ما تقدم من دفع استبعادهم، فنبه سبحانه على وحدانيته ودل على قدرته على إحياء الموات بما يشاهدونه من إخراج النار المحرقة من العود الندي الرطب، وذلك أن الشجر المعروف بالمرخ والشجر المعروف بالعفار إذا قطع منهما عودان وضرب أحدهما على الآخر انقدحت منهما النار وهما أخضران. وقيل المرخ هو الذكر والعقار هو الأنثى، ويسمى الأول الزند والثاني الزندة، وقال الأخضر ولم يقل الخضراء اعتباراً باللفظ. وقرئ الخضر اعتباراً بالمعنى، وقد تقرر أنه يجوز تذكير اسم الجنس وتأنيثه كما في قوله: "نخل منقعر" وقوله: "نخل خاوية" فبنو تميم ونجد يذكرونه وأهل الحجاز يؤنثونه إلا نادراًن والموصول بدل من الموصول الأول "فإذا أنتم منه توقدون" أي تقدحون منه النار وتوقدونها من ذلك الشجر الأخضر.
ثم ذكر سبحانه ما هو أعظم خلقاً من الإنسان فقال: 81- " أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم " والهمزة للإنكار، والواو للعطف على مقدر كنظائره، ومعنى الآية: أن من قدر على خلق السموات والأرض وهما في غاية العظم وكبر الأجزاء يقدر على إعادة خلق البشر الذي هو صغير الشكر ضعيف القوة، ما قال سبحانه: "لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس". قرأ الجمهور "بقادر" بصيغة اسم الفاعل. وقرأ الجحدري وابن أبي إسحاق والأعرج وسلام بن المنذر وأبو يعقوب الحضمري يقدر بصيغة الفعل المضارع. ثم أجاب سبحانه عما أفاده الاستفهام من الإنكار التقريري بقوله: "بلى وهو الخلاق العليم" أي بلى هو قادر على ذلك وهو المبالغ في الخلق والعلم على أكمل وجه وأتمه. وقرأ الحسن والجحدري ومالك بن دينار وهو الخالق.
ثم ذكر سبحانه ما يدل على كمال قدرته وتيسر المبدأ والإعادة عليه فقال: 82- "إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون" أي إنما شأنه سبحانه إذا تعلقت إرادته بشيء من الأشياء أن يقول له احدث فيحدث من غير توقف على شيء آخر أصلاً، وقد تقدم تفسير هذا في سورة النحل وفي البقرة. قرأ الجمهور "فيكون" بالرفع على الاستئناف. وقرأ الكسائي بالنصب عطفاً على يقول.
83- "فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء" والملكوت في كلام العرب لفظ مبالغة في الملك كالجبروت والرحموت كأنه قال: فسبحان الذي بيده مالكية الأشياء الكلية. قال قتادة: ملكوت كل شيء: مفاتح كل شيء. قرأ الجمهور ملكوت وقرأ الأعمش وطلحة بن مصرف وإبراهيم التيمي ملكة بزنة شجرة، وقرئ مملكة بزنة مفعلة، وقرئ ملك والملكوت أبلغ من الجميع. وقرأ الجمهور "وإليه ترجعون" بالفوقية على الخطاب مبنياً للمفعول. وقرأ السلمي وزر بن جحش وأصحاب ابن مسعود بالتحتية على الغيبة مبنياً للمفعول أيضاً. وقرأ زيد بن علي على البناء للفاعل: أي ترجعون إليه لا إلى غيره وذلك في الدار الآخرة بعد البعث. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم في معجمه والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في البعث والضياء في المختارة عن ابن عباس قال:" جاء العاص بن وائل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعظم حائل ففته بيده فقال: يا محمد أيحيي الله هذا بعد ما أرى؟ قال:نعم يبعث الله هذا ثم يميتك ثم يحييك ثم يدخلك نار جهنم" فنزلت الآيات من أخر يس " أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة " إلى آخر السورة. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عنه قال: جاء عبد الله بن أبي في يده عظم حائل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وذكر مثل ما تقدم قال ابن كثير: وهذا منكر، لأن السورة مكية وعبد الله بن أبي إنما كان بالمدينة. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: جاء أبي بن خلف الجمحي وذكر نحو ما تقدم. وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً قال: نزلت في أبي جهل وذكر نحو ما تقدم.