1 -" يس " في المعنى والإعراب ، وقيل معناه يا إنسان بلغة طيئ ، عل أن أصله يا أنيسين فاقتصر على شطره لكثرة النداء به كما قيل ( من الله ) في أيمن . وقرئ بالكسر كجير وبالفتح على البناء كأين ، أو الإعراب على اتل يس أو بإضمار حرف القسم والفتحة لمنع الصرف وبالضم بناء كحيث ، أو إعراباً على هذه " يس " وأمال الياء حمزة و الكسائي و روح و أبو بكر وأدغم النون في واو .
2 -" والقرآن الحكيم " ابن عامر و الكسائي و أبو بكر و ورش و يعقوب ، وهي واو القسم أو العطف إن جعل " يس " مقسماً به .
3 -" إنك لمن المرسلين " لمن الذين أرسلوا .
4 -" على صراط مستقيم " وهو التوحيد والاستقامة في الأمور ، ويجوز أن يكون " على صراط " خبراً ثانياً وحالاً من المستكن في الجار والمجرور ، وفائدته ووصف الشرع صريحاً بالاستقامة وإن دل عليه " لمن المرسلين " التزاماً .
5 -" تنزيل العزيز الرحيم " خبر محذوف والمصدر بمعنى المفعول . وقرأ ابن عامر و حمزة و الكسائي و حفص بالنصب بإضمار أعني أو فعله على أنه على أصله ، وقرئ بالجر على البدل من القرآن .
6 -" لتنذر قوماً " متعلق بـ " تنزيل " أو بمعنى " لمن المرسلين " . " ما أنذر آباؤهم " قوماً غير منذر آباؤهم يعني آباءهم الأقربين لتطاول مدة الفترة ، فيكون صفة مبينة لشدة حاجتهم إلى إرساله ، أو الذي أنذر به أو شيئاً أنذر به آباؤهم الأبعدون ، فيكون مفعولاً ثانياً " لتنذر " ، أو إنذار آبائهم على المصدر . " فهم غافلون " متعلق بالنفي على الأول أي لم ينذروا فبقوا غافلين ، أو بقوله " إنك لمن المرسلين " على الوجوه الأخرى أي أرسلناك إليهم لتنذرهم فإنهم غافلون .
7 -" لقد حق القول على أكثرهم " يعني قوله تعالى : " لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين " . " فهم لا يؤمنون " لأنهم ممن علم الله أنهم لا يؤمنون .
8 -" إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً " تقرير لتصميمهم على الكفر والطبع على قلوبهم بحيث لا تغني عنهم الآيات والنذر ، بتمثيلهم بالذين غلت أعناقهم . " فهي إلى الأذقان " فالأغلال واصلة إلى أذقانهم فلا تخليهم يطأطئون رؤوسهم له . " فهم مقمحون " رافعون رؤوسهم غاضون أبصارهم في أنهم لا يلتفتون لفت الحق ولا يعطفون أعناقهم نحوه ولا يطأطئون رؤوسهم له .
9 -" وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون " وبمن أحاط بهم سدان فغطى أبصارهم بحيث لا يبصرون قدامهم ووراءهم في أنهم محبوسون في مطمورة الجهالة ممنوعون عن النظر في الآيات والدلائل . وقرأ حمزة و الكسائي و حفص (( سداً )) بالفتح وهو لغة فيه ، وقيل ما كان بفعل الناس فبالفتح وما كان بخلق الله فبالضم . وقرئ (( فأعشيناهم )) من العشاء . وقيل الآيتان في بني مخزوم حلف أبو جهل أن يرضخ رأس النبي صلى الله عليه وسلم فأتاه وهو يصلي ومعه حجر ليدمغه ، فلما رفع يده انثنت إلى عنقه ولزق الحجر بيده حتى فكوه عنها بجهد ، فرجع إلى قومه فأخبرهم ، فقال مخزومي آخر : أنا أقتله بهذا الحجر فذهب فأعمى الله بصره .
10 -" وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون " سبق في سورة (( البقرة )) تفسيره .
11 -" إنما تنذر " إنذاراً يترتب عليه الغية المرومة . " من اتبع الذكر " أي القرآن بالتأمل فيه والعمل به . " وخشي الرحمن بالغيب " وخاف عقابه قبل حلوله ومعاينة أهواله ، أو في سريرته ولا يغتر برحمته فإنه كما هو رحمن ، منتقم قهار . " فبشره بمغفرة وأجر كريم " .
12 -" إنا نحن نحيي الموتى " الأموات بالبعث أو الجهال بالهداية . " ونكتب ما قدموا " ما أسلفوا من الأعمال الصالحة والطالحة . " وآثارهم " الحسنة كعلم علموه وحبيس وقفوه ، والسيئة كإشاعة باطل وتأسيس ظلم . " وكل شيء أحصيناه في إمام مبين " يعني اللوح المحفوظ .
13 -" واضرب لهم " ومثل لهم من قولهم هذه الأشياء على ضرب واحد أي مثال واحد ، وهو يتعدى إل مفعولين لتضمنه معنى الجعل وهما : " مثلاً أصحاب القرية " على حذف مضاف أي اجعل لهم مثل أصحاب القرية مثلاً ، ويجوز أن يقتصر على واحد ويجعل المقدر بدلاً من الملفوظ أو بياناً له ، والقرية انطاكية . " إذ جاءها المرسلون " بدل من أصحاب القرية ، و " المرسلون " رسل عيسى عليه الصلاة والسلام إلى أهلها وإضافته إلى نفسه في قوله :
14 -" إذ أرسلنا إليهم اثنين " لأنه فعل رسوله وخليفته وهما يحيى ويونس عليهم الصلاة والسلام ، وقيل غيرهما . " فكذبوهما فعززنا " فقوينا ، وقرأ أبو بكر مخففاً من عزه إذا غلبه وحذف المفعول لدلالة ما قبله عليه ولأن المقصود ذكر المعزز به . " بثالث " وهو شمعون . " فقالوا إنا إليكم مرسلون " وذلك أنهم كانوا عبدة أصنام فأرسل إليهم عيسى عليه السلام اثنين ، فلما قربا من المدينة رأيا حبيباً النجار يرعى غنماً فسألهما فأخبراه فقال : أمعكما آية فقالا : نشفي المريض ونبرئ الأكمه والأبرص ، وكان له ولد مريض فمسحاه فبرأ فآمن حبيب وفشا الخبر ، فشفي على أيديهما خلق كثير وبلغ حديثهما إلى الملك وقال لهما : ألنا إله سوى آلهتنا ؟ قالا : نعم من أوجدك وآلهتك ، قال حتى أنظر في أمركما فحبسهما ، ثم بعث عيسى شمعون فدخل متنكراً وعاشر أصحاب الملك حتى استأنسوا به وأوصلوه إلى الملك فأنس به ، فقال له يوماً : سمعت أنك حبست رجلين فهل سمعت ما يقولانه ، قلا فدعاهما فقال شمعون من أرسلكما قالا : الله الذي خلق كل شيء وليس له شريك ، فقال صفاه وأوجزا ، قالا : يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، قال وما آيتكما ، قالا : ما يتمنى الملك ، فدعا بغلام مطموس العينين فدعوا الله حتى انشق له بصره ، وأخذا بندقتين فوضعاهما في حدقتيه فصارتا مقلتين ينظره بهما ، فقال شمعون أرأيت لو سألت آلهتك حتى تصنع مثل هذا حتى يكون لك ولها الشرف ، قال ليس لي عنك سر آلهتنا لا تسمع ولا تبصر ولا تضر ولا تنفع ، ثم قال إن قدر إلهكما على إحياء ميت آمنا به ، فأتوا بغلام مات منذ سبعة أيام فدعوا الله فقام وقال : إني أدخلت في سبعة أودية من النار وأنا أحذركم ما أنتم فيه فآمنوا ، وقلا فتحت أبواب السماء فرأيت شاباً حسناً يشغف لهؤلاء الثلاثة فقال الملك من هم قال شمعون وهذان فلما رأى شمعون أن قوله قد أثر فيه نصحه فآمن في جمع ، ومن لم يؤمن صاح عليهم جبريل عليه الصلاة والسلام فهلكوا .
15 -" قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا " لا مزية لكم علينا تقتضي اختصاصكم بما تدعون ، ورفع بشر لانتقاض النفي المقتضي إعمال ما بإلا . " وما أنزل الرحمن من شيء " وحي ورسالة . " إن أنتم إلا تكذبون " في دعوى الرسالة .
16 -" قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون " استشهدوا بعلم الله وهو يجري مجرى القسم ، وزادوا اللام المؤكدة لأنه جواب عن إنكارهم .
17 -" وما علينا إلا البلاغ المبين " الظاهر البين بالآيات الشاهدة لصحته ، وهو المحسن للاستشهاد فإنه لا يحسن إلا ببينة .
18 -" قالوا إنا تطيرنا بكم " تشاءمنا بكم ، وذلك لاستغرابهم ما ادعوه واستقباحهم له وتنفرهم عنه . " لئن لم تنتهوا " عن مقالتكم هذه . " لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم " .
19 -" قالوا طائركم معكم " سبب شؤمكم معكم وهو سوء عقيدتكم وأعمالكم ، وقرئ (( طيركم معكم )) . " أإن ذكرتم " وعظتم ، وجواب الشرط محذوف مثل تطيرتم أو توعدتم بالرجم والتعذيب ، وقد قرئ بألف بين الهمزتين وبفتح أن بمعنى أتطيرتم لأن ذكرتم وأن بغير الاستفهام و (( أين ذكرتم )) بمعنى طائركم معكم حيث جرى ذكركم وهو أبلغ . " بل أنتم قوم مسرفون " قوم عادتكم الإسراف في العصيان فمن ثم جاءكم الشؤم ، أو في الضلال ولذلك توعدتم وتشاءمتم بمن يجب أن يكرم ويتبرك به .
20 -" وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى " هو حبيب النجار وكان ينحت أصنامهم وهو ممن آمن بمحمد عليه الصلاة والسلام وبينهما ستمائة سنة ، وقيل كان في غار يعبد الله فلما بلغه خبر الرسل أتاهم وأظهر دينه . " قال يا قوم اتبعوا المرسلين " .
21 -" اتبعوا من لا يسألكم أجراً " على النصح وتبليغ الرسالة . " وهم مهتدون " إلى خير الدارين .
22 -" وما لي لا أعبد الذي فطرني " على قراءة غير حمزة فإنه يسكن الياء في الوصل ، تلطف في الإرشاد بإيراده في معرض المناصحة لنفسه وإمحاض النصح ، حيث أراد لهم ما أراد لها والمراد تقريعهم على تركهم عبادة خالقهم إلى عبادة غيره ولذلك قال : " وإليه ترجعون " مبالغة في التهديد ثم عاد إلى المساق الأول فقال :
23 -" أأتخذ من دونه آلهةً إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئاً " لا تنفعني شفاعتهم . " ولا ينقذون " بالنصرة والمظاهرة .
24 -" إني إذاً لفي ضلال مبين " فإن إيثار ما لا ينفع ولا يدفع ضراً بوجه ما على الخالق المقتدر على النفع والضر وإشراكه به ضلال بين لا يخفى على عاقل ، وقرأ نافع و يعقوب و أبو عمرو بفتح الياء .
25 -" إني آمنت بربكم " الذي خلقكم ، وقرأ نافع و ابن كثير و أبو عمرو بفتح الياء . " فاسمعون " فاسمعوا إيماني ، وقيل الخطاب للرسل فإنه لما نصح قومه أخذوا يرجمونه فأسرع نحوهم قبل أن يقتلوه .
26 -" قيل ادخل الجنة " قيل له ذلك لما قتلوه بشرى له بأنه من أهل الجنة ، أو إكراماً وإذناً في دخولها كسائر الشهداء ، أو لما هموا بقتله رفعه الله إلى الجنة على ما قاله الحسن وإنما لم يقل له لأن الغرض بيان المقول دون المقول له فإنه معلوم ، والكلام استئناف في حيز الجواب عن السؤال عن حاله عند لقاء ربه بعد تصلية في نصر دينه وكذلك : " قال يا ليت قومي يعلمون " .
27 -" بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين " فإنه جواب عن السؤال عن قوله عند ذلك القول ، وإنما تمنى علم قومه بحاله ليحملهم على اكتساب مثلها بالتوبة عن الكفر والدخول في الإيمان والطاعة على دأب الأولياء في كظم الغيظ والترحم على الأعداء ، أو ليعلموا أنهم كانوا على خطأ عظيم في أمره وأنه كان على حق ، وقرئ " المكرمين " و (( ما )) خبرية أو مصدرية والباء صلة " يعملون " أو استفهامية جاء على الأصل ، والباء صلة غفر أي بأي شيء " غفر " لي ، يريد به المهاجرة عن دينهم والمصابرة على أذيتهم .
28 -" وما أنزلنا على قومه من بعده " من بعد هلاكه أو رفعه . " من جند من السماء " لإهلاكهم كما أرسلنا يوم بدر والخندق بل كفينا أمرهم بصيحة ملك ، وفيه استحقار لإهلكهم وإيماء بتعظيم الرسول عليه السلام . " وما كنا منزلين " وما صح في حكمتنا أن ننزل جنداً لإهلاكم قومه إذ قدرنا لكل شيء سبباً لانتصارك من قومك ، وقيل " ما " موصولة معطوفة على " جند " أي ومما كنا منزلين على من قبلهم من حجارة وريح وأمطار شديدة .
29 -" إن كانت " ما كانت الأخذة أو العقوبة . " إلا صيحةً واحدةً " صاح بها جبريل عليه السلام ، وقرئت بالرفع على كان التامة . " فإذا هم خامدون " ميتون ، شبهوا بالنار رمزاً إلى أن الحي كالنار الساطعة و الميت كرمادها كما قال لبيد : وما المرء إلا كالشهاب وضوئه يحور رماداً بعد إذ هو ساطع
30 -" يا حسرةً على العباد " تعالي فهذه من الأحوال التي من حقها أن تحضري فيها ، وهي ما دل عليها . " ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون " فإن المستهزئين بالناصحين المخلصين المنوط بنصحهم خير الدارين أحقاء بأن يتحسروا عليهم ، وقد تلهف على حالهم الملائكة والمؤمنون من الثقلين ، ويجوز أن يكون تحسراً من الله عليهم على سبيل الاستعارة لتعظيم ما جنوه على أنفسهم ويؤيده قراءة (( يا حسرتا )) ونصبها لطولها بالجار المتعلق بها ، وقيل بإضمار فعلها والمنادى محذوف ، وقرئ (( يا حسرة العباد )) بالإضافة إلى الفاعل أو المفعول ، و(( يا حسرة )) بالهاء على العباد بإجراء الوصل مجرى الوقف .
31 -" ألم يروا " ألم يعلموا وهو معلق عن قوله : " كم أهلكنا قبلهم من القرون " لأن " كم " لا يعمل فيها ما قبلها وإن كانت خبرية لأن أصلها الاستفهام . " أنهم إليهم لا يرجعون " بدل من " كم " على المعنى أي ألم يروا كثرة إهلاكنا من قبلهم كونهم غير راجعين إليهم ، وقرئ بالكسر على الاستئناف .
32 -" وإن كل لما جميع لدينا محضرون " يوم القيامة للجزاء ، و" إن " مخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة و (( ما )) مزيدة للتأكيد ، وقرأ ابن عامر و عاصم و حمزة " لما " بالتشديد بمعنى إلا فتكون إن نافية وجميع فعيل بمعنى مفعول ، و " لدينا " ظرف له أو لـ " محضرون " .
33 -" وآية لهم الأرض الميتة " وقرأ نافع بالتشديد . " أحييناها " خبر لـ " الأرض " ، والجملة خبر " آية " أو صفة لها إذ لم يرد بها معينة وهي الخبر أو المبتدأ والآية خبرها ، أو استئناف لبيان كونها " آية " . " وأخرجنا منها حباً " جنس الحب . " فمنه يأكلون " قدم الصلة للدلالة على أن الحب معظم ما يؤكل ويعاش به .
34 -" وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب " من أنواع النخل والعنب ، ولذلك جمعهما دون الحب فإن الدال على الجنس مشعر بالاختلاف ولا كذلك الدال على الأنواع ، وذكر النخيل دون التمور ليطابق الحب والأعناب لاختصاص شجرها بمزيد النفع وآثار الصنع . " وفجرنا فيها " وقرئ بالتخفيف ، والفجر والتفجير كالفتح والتفتيح لفظاً ومعنى . " من العيون " أي شيئاً من العيون ، فحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه ، أو " العيون " و " من " مزيدة عند الأخفش .
35 -" ليأكلوا من ثمره " ثمر ما ذكر وهو الجنات ، وقيل الضمير لله تعالى على طريقة الالتفات والإضافة إليه لأن الثمر بخلقه ، وقرأ حمزة و الكسائي بضمتين وهو لغة فيه ، أو جمع ثمار وقرئ بضمة وسكون . " وما عملته أيديهم " عطف على الثمر والمراد ما يتخذ منه كالعصير والدبس ونحوهما ، وقيل " ما " نافية والمراد أن الثمر بخلق الله لا بفعلهم ، ويؤيد الأول قراءة الكوفيين غير حفص بلا هاء فإن حذفه من الصلة أحسن من غيرها . " أفلا يشكرون " أمر بالشكر من حيث أنه إنكار لتركه .
36 -" سبحان الذي خلق الأزواج كلها " الأنواع والأصناف . " مما تنبت الأرض " من النبات والشجر . " ومن أنفسهم " الذكر والأنثى . " مما يعملون " وأزواجاً مما لم يطلعهم الله تعالى عيه ولم يجعل لهم طريقاً إلى معرفته .
37 -" وآية لهم الليل نسلخ منه النهار " نزيله ونكشفه عن مكانه مستعار من سلخ الجلد والكلام في إعرابه ما سبق . " فإذا هم مظلمون " داخلون في الظلام .
38 -" والشمس تجري لمستقر لها " لحد معين ينتهي غليه دورها ، فشبه بمستقر المسافر إذا قطع مسيره ، أو لكبد السماء فإن حركتها فيه يوجد فيها بطء بحيث يظن أن لها هناك وقفة قال : والشمس حيرى لها بالجو تدويم أو لاستقرار لها على نهج مخصوص ، أو لمنتهى مقدر لكل يوم من المشارق والمغارب فإن لها في دورها ثلثمائة وستين مشرقاً ومغرباً ، تطلع كل يوم من مطلع وتغرب من مغرب ثم لا تعود إليهما إلى العام القابل ، أو لمنقطع جريها عند خراب العالم . وقرئ (( لا مستقر لها )) أي لا سكون فإنها متحركة دائماً و (( لا مستقر )) على أن (( لا )) بمعنى ليس . " ذلك " الجري على هذا التقدير المتضمن للحكم التي تكل الفطن عن أحصائها . " تقدير العزيز " الغالب بقدرته على كل مقدور . " العليم " المحيط علمه بكل معلوم .
39 -" والقمر قدرناه " قدرنا مسيره . " منازل " أو سيره في منازل وهي ثمانية وعشرون : السرطان ، البطين ، الثريا ، الدبران ، الهقعة ، الهنعة ، الذراع ، النثرة ، الطرف ، الجبهة ، الزبرة ، الصرفة ، العواء ، السماك ، الغفر ، الزبانا ، الإكليل ، القلب ، الشولة ، النعائم ، البلدة ، سعد الذابح ، سعد بلع ، سعد السعود ، سعد الأخبية ، فرغ الدلو المقدم ، فرغ الدلو المؤخر ، الرشا ، وهو بطن الحوت ينزل كل ليلة في واحد منها لا يتخطاه ولا يتقاصر عنه ، فإذا كان في آخر منازله وهو الذي يكون فيه قبيل الاجتماع دق واستقوس ، وقرأ الكوفيون و ابن عامر " والقمر " بنصب الراء . " حتى عاد كالعرجون " كالشمراخ المعوج ، فعلون من الانعراج وهو الاعوجاج ، وقرئ " كالعرجون " وهما لغتان كالبزيون والبزيون . " القديم " العتيق وقيل ما مر عليه حول فصاعداً .
40 -" لا الشمس ينبغي لها " يصح لها ويتسهل . " أن تدرك القمر " في سرعة سيره فإن ذلك يخل بتكون النبات وتعيش الحيوان ، أو في آثاره ومنافعه أو مكانه بالنزول إلى محله ، أو سلطانه فتطمس نوره ، وإيلاء حرف النفي " الشمس " للدلالة على أنها مسخرة لا يتيسر لها إلا ما أريد بها . " ولا الليل سابق النهار " يسبقه فيفوته ولكن يعاقبه ، وقيل المراد بهما آيتاهما وهما النيران ، وبالسبق سبق القمر إلى سلطان الشمس فيكون عكساً للأول وتبديل الإدراك بالسبق لأنه الملائم لسرعة سيره . " وكل " وكلهم والتنوين عوض عن المضاف إليه ، والضمير للشموس والأقمار فإن اختلاف الأحوال يوجب تعدداً ما في الذات ، أو للكواكب فإن ذكرهما مشعر بهما . " في فلك يسبحون " يسيرون فيه بانبساط .
41 -" وآية لهم أنا حملنا ذريتهم " أولادهم الذين يبعثونهم إلى تجارتهم ، أو صبيانهم ونساءهم الذين يستصحبونهم ، فإن الذرية تقع عليهن لأنهن مزارعها . وتخصيصهم لأن استقرارهم في السفن أشق وتماسكهم فيها أعجب ، وقرأ نافع و ابن عامر " ذرياتهم " . " في الفلك المشحون " المملوء ، وقيل المراد فلك نوح عليه الصلاة والسلام ، وحمل الله ذرياتهم فيها أنه حمل فيها آباءهم الأقدمين وفي أصلابهم هم وذرياتهم ، و تخصيص الذرية لأنه أبلغ في الامتنان وأدخل في التعجب مع الإيجاز .
42 -" وخلقنا لهم من مثله " من مثل الفلك . " ما يركبون " من الإبل فإنها سفائن البر أو من السفن والزوارق .
43 -" وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم " فلا مغيث لهم يحرسهم عن الغرق ، أو فلا إغاثة كقولهم أتاهم الصريخ . " ولا هم ينقذون " ينجون من الموت به .
44 -" إلا رحمةً منا ومتاعاً " إلا لرحمة ولتمتيع بالحياة . " إلى حين " زمان قدر لآجالهم .
45 -" وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم " الوقائع التي خلت أو العذاب المعد في الآخرة ، أو نوازل السماء ونوائب الأرض كقوله : " أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض " أو عذاب الدنيا وعذاب الآخرة أو عكسه ، أو ما تقدم من الذنوب وما تأخر . " لعلكم ترحمون " لتكونوا راجين رحمة الله ، وجواب إذا محذوف دل عليه قوله :
46 -" وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين " كأنه قال وإذ قيل لهم اتقوا العذاب أعرضوا لأنهم اعتادوه وتمرنوا عليه .
47 -" وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله " على محاويجكم . " قال الذين كفروا " بالصانع يعني معطلة كانوا بمكة . " للذين آمنوا " تهكماً بهم من إقرارهم به وتعليقهم الأمور بمشيئته . " أنطعم من لو يشاء الله أطعمه " على زعمكم ، وقيل قاله مشركو قريش حين استطعمهم فقراء المؤمنين إيهاماً بأن الله تعالى بما كان قادراً أن يطعمهم ولم يطعمهم فنحن أحق بذلك ، وهذا من فرط جهالتهم فإن الله يطعم بأسباب منها حث الأغنياء على إطعام الفقراء وتوفيقهم له . " إن أنتم إلا في ضلال مبين " حيث أمرتمونا ما يخالف مشيئة الله ، ويجوز أن يكون جواباً من الله لهم أو حكاية لجواب المؤمنين لهم .
48 -" ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين " يعنون وعد البعث .
49 -" ما ينظرون " ما ينتظرون . " إلا صيحةً واحدةً " هي النفخة الأولى . " تأخذهم وهم يخصمون " يتخاصمون في متاجرهم ومعاملاتهم لا يخطر ببالهم أمرها كقوله : " أو تأتيهم الساعة بغتة وهم لا يشعرون " وأصله يختصمون فسكنت التاء أدغمت ثم كسرت الخاء لالتقاء الساكنين ، وقرأ أبو بكر بكسر الياء للاتباع ، وقرأ ابن كثير و ورش و هشام بفتح الخاء على إلقاء حركة التاء إليه ، و أبو عمرو و قالون به مع الاختلاس وعن نافع الفتح فيه والإسكان والتشديد وكأنه جوز الجمع بين الساكنين إذا كان الثاني مدغماً ، وقرأ حمزة " يخصمون " من خصمه إذا جادله .
50 -" فلا يستطيعون توصيةً " في شيء من أمورهم . " ولا إلى أهلهم يرجعون " فيروا حالهم بل يموتون حيث تبغتهم .
51 -" ونفخ في الصور " أي مرة ثانية وقد سبق تفسيره في سورة (( المؤمنين )) . " فإذا هم من الأجداث " من القبور جمع جدث وقرئ بالفاء . " إلى ربهم ينسلون " يسرعون وقرئ بالضم .
52 -" قالوا يا ويلنا " وقرئ (( يا ويلتنا )) . " من بعثنا من مرقدنا " وقرئ (( من أهبنا )) من هب من نومه إذا انتبه ومن هبنا ، وفيه ترشيح ورمز وإشعار بأنهم لاختلاط عقولهم يظنون أنهم كانوا نياماً ، و " من بعثنا " و (( من هبنا )) على الجارة والمصدر ، وسكت حفص وحده عليها سكتة لطيفة والوقف عليها في سائر القراءات حسن . " هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون " مبتدأ وخبر و " ما " مصدرية ، أو موصولة محذوفة الراجع ، أو " هذا " صفة لـ " مرقدنا " و " ما وعد " خبر محذوف ، أو مبتدأ خبره محذوف أي " هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون " ، أو " ما وعد الرحمن وصدق المرسلون " حق وهو من كلامهم ، وقيل جواب للملائكة أو المؤمنين عن سؤالهم ، معدول عن سننه تذكيراً لكفرهم وتقريعاً لهم عليه وتنبيهاً بأن الذي يهمهم هو السؤال عن البعث دون الباعث كأنهم قالوا : بعثكم الرحمن الذي وعدكم البعث ورسل إليكم الرسل فصدقوكم وليس الأمر كما تظنون ، فإنه ليس يبعث النائم فيهمكم السؤال عن الباعث وإنما هو البعث الأكبر ذو الأهوال .
53 -" إن كانت " ما كانت الفعلة . " إلا صيحةً واحدةً " هي النفخة الأخيرة ، وقرئت بالرفع على كان التامة . " فإذا هم جميع لدينا محضرون " بمجرد تلك الصيحة وفي كل ذلك تهوين أمر البعث والحشر واستغناؤهما عن الأسباب التي ينوطان بها فيما يشاهدونه .
54 -" فاليوم لا تظلم نفس شيئاً ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون " حكاية لما يقال هلم حينئذ تصويراً للموعود وتمكيناً له في النفوس وكذا قوله :
55 -" إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون " متلذذون في النعمة من الفكاهة ، وفي تنكير " شغل " وإيهامه تعظيم لما هم فيه من البهجة والتلذذ ، وتنبيه على أنه أعلى ما يحيط به الأفهام ويعرب عن كنهه الكلام ، وقرأ ابن كثير و نافع و أبو عمرو (( في شغل )) بالسكون ، و يعقوب في رواية (( فكهون )) للمبالغة هما خبران لـ " إن " ، ويجوز أن يكون " في شغل " صلة " فاكهون " ، وقرئ (( فكهون )) بالضم وهو لغة كنطس ونطس (( وفاكهين )) (( وفكهين )) على الحال من المستكهن في الظرف ، و " شغل " بفتحتين وفتحة وسكون والكل لغات .
56 -" هم وأزواجهم في ظلال " جمع ظل كشعاب أو ظلة كقباب ويؤيده قراءة حمزة و الكسائي في (( ظلل )) . " على الأرائك " على السرر المزينة . " متكئون " و " هم " مبتدأ خبره " في ظلال " ، و " على الأرائك " جملة مستأنفة أو خبر ثان أو " متكئون " والجاران صلتان له ، أو تأكيد للضمير في شغل أو في فاكهون ، وعلى الأرائك متكئون خبر آخر لأن أزواجهم عطف على " هم " للمشاركة في الأحكام الثلاثة ، و " في ظلال " حال من المعطوف والمعطوف عليه .
57 -" لهم فيها فاكهة ولهم ما يدعون " ما يدعون به لأنفسهم يفتعلون من الدعاء كاشتوى واجتمل إذا شوى وجمل لنفسه ، أو ما يتداعونه كقولك ارتموه بمعنى تراموه ، أو يتمنون من قولهم ادع علي ما شئت بمعنى تمنه علي ، أو ما يدعونه في الدنيا من الجنة ودرجاتها و " ما " موصولة أو موصوفة مرتفعة بالابتداء ، و" لهم " خبرها وقوله :
58 -" سلام " بدل منها أو صفة أخرى ، ويجوز أن يكون خبرها أو خبر محذوف أو مبتدأ محذوف الخبر أي ولهم سلام ، وقرئ بالنصب على المصدر أو الحال أي لهم مرادهم خالصاً . " قولاً من رب رحيم " أي يقول الله أو يقال لهم قولاً كائناً من جهته ، والمعنى أن الله يسلم عليهم بواسطة الملائكة أو بغير واسطة تعظيماً لهم وذلك مطلوبهم ومتمناهم ، ويحتمل نصبه على الاختصاص .
59 -" وامتازوا اليوم أيها المجرمون " وانفردوا عن المؤمنين وذلك حين يسار بهم إلى الجنة كقوله : " ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون " . وقيل اعتزلوا من كل خير أو تفرقوا في النار فإن لكل كافر بيتاً به لا يرى ولا يرى .
60 -" ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان " من جملة ما يقال لهم تقريعاً وإلزاماً للحجة ، وعهده إليهم ما نصب لهم ن الحجج العقلية والسمعية الآمرة بعبادته الزاجرة عن عبادة غيره وجعلها عبادة الشيطان ، لأنه الآمر بها والمزين لها ، وقرئ " أعهد " بكسر حرف المضارعة و (( أحهد )) و (( أحد )) على لغة بني تميم . " إنه لكم عدو مبين " تعليل للمنع عن عبادته بالطاعة فيها يحملهم عليه .
61 -" وأن اعبدوني " عطف على " أن لا تعبدوا " . " هذا صراط مستقيم " إشارة إلى ما عهد إليهم أو إلى عبادته ، فالجملة استئناف لبين المقتضي للعهد بشقيه أو بالشق الآخر ، والتنكير للمبالغة والتعظيم ، أو للتبعيض فإن التوحيد سلوك بعض الطريق المستقيم .
62 -" ولقد أضل منكم جبلاً كثيراً أفلم تكونوا تعقلون " رجوع إلى بيان معاداة الشيطان مع ظهور عداوته ووضوح إضلاله لمن له أدنى عقل ورأي والجبل الخلق ، وقرأ يعقوب بضمتين و ابن كثير و حمزة و الكسائي بهما مع تخفيف اللام و ابن عمار و أبو عمرو بضمة وسكون مع التخفيف والكل لغات ، وقرئ " جبلاً " جمع جبلة كخلقة وخلق و (( جيلاً )) واحد الأجيال .
63 -" هذه جهنم التي كنتم توعدون " .
64 -" اصلوها اليوم بما كنتم تكفرون " ذوقوا حرها اليوم بكفركم في الدنيا .
65 -" اليوم نختم على أفواههم " نمنعها عن الكلام . " وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون " بظهور آثار المعاصي عليها ودلالتها على أفعالها ، أو إنطاق الله إياها وفي الحديث " إنهم يجحدون ويخاصمون فيختم على أفواههم وتتكلم أيديهم وأرجلهم " .
66 -" ولو نشاء لطمسنا على أعينهم " لمسحنا أعينهم حتى تصير ممسوحة . " فاستبقوا الصراط " فاستبقوا إلى الطريق الذي اعتادوا سلوكه ، وانتصابه بنزع الخافض أو بتضمين الاستباق معنى الابتدار ، أو جعل المسبوق إليه مسبوقاً على الاتساع أو بالظرف . " فأنى يبصرون " الطريق وجهة السلوك فضلاً عن غيره .
67 -" ولو نشاء لمسخناهم " بتغيير صورهم وإبطال قواهم . " على مكانتهم " مكانهم بحيث يجمدون فيه ، وقرأ أبو بكر (( مكاناتهم )) . " فما استطاعوا مضياً " ذهاباً . " ولا يرجعون " ولا رجوعاً فوضع الفعل موضعه للفواصل ، وقيل " لا يرجعون " عن تكذيبهم ، وقرئ (0 مضياً )) باتباع الميم الضاد المكسورة لقلب الواو ياء كالمعتى والمعتي ومضياً كصبي ، والمعنى أنهم بكفرهم ونقضهم ما عهد إليهم أحقاء بأن يفعل بهم ذلك لكنا لم نفعل لشمول الرحمة لهم واقتضاء الحكمة إمهالهم .
68 -" ومن نعمره " ومن نطل عمره . " ننكسه في الخلق " نقلبه فيه فلا يزار يتزايد ضعفه وانتقاض بنيته وقواه عكس ما كان عليه بدء أمره ، و ابن كثير على هذه يشبع ضمة الهاء على أصله وقرأ عاصم و حمزة (( ننكسه )) من التنكيس وهو أبلغ والنكس أشهر . " أفلا يعقلون " أن من قدر على ذلك قدر على الطمس والمسح فإنه مشتمل عليهما ويزاد غير أنه علىتدرج ، وقرأ نافع برواية ابن عامر و ابن ذكوان و يعقوب بالتاء لجري الخطاب قبله .
69 -" وما علمناه الشعر " رد لقولهم إن محمداً شاعر أي ما علمناه الشعر بتعليم القرآن ، فإنه لا يماثله لفظاً ولا معنى لأنه غير مقفى ولا موزون ، وليس معناه ما يتوخاه الشعراء من التخيلات المرغبة والمنفرة ونحوها . " وما ينبغي له " وما يصح له الشعر ولا يتأتى له إن أراد قرضه على ما خبرتم طبعه نحواً من أربعين سنة ، و " قوله عليه الصلاة والسلام (( أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب )) " . وقوله : هل أنت إلا إصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت . اتفاقي من غير تكلف وقصد منه إلى ذلك ، وقد يقع مثله كثيراً في تضاعيف المنثورات على أن الخليل ما عد المشكور من الرجز شعراً ، هذا وقد روي أنه حرك الباءين وكسر التاء الأولى بلا إشباع وسكن الثانية ، وقيل الضمير الـ " قرآن " أي وما صح للقرآن أن يكون شعراً . " إن هو إلا ذكر " عظة وإرشاد من الله تعالى . " وقرآن مبين " وكتاب سماوي يتلى في المعابد ، ظاهر أنه ليس من كلام البشر لما فيه من الإعجاز .
70 -" لينذر " القرآن أو الرسول صلى الله عليه وسلم ، ويؤيده قراءة نافع و ابن عامر و يعقوب بالتاء . " من كان حياً " عاقلاً فهما فإن الغافل كالميت ، أو مؤمناً في علم الله تعالى فإن الحياة الأبدية بالإيمان ، وتخصيص الإنذار به لأنه المنتفع به . " ويحق القول " وتجب كلمة العذاب . " على الكافرين " المصرين على الكفر ، وجعلهم في مقابلة من كان حياً إشعاراً بأنهم لكفرهم وسقوط حجتهم وعدم تأملهم أموات في الحقيقة .
71 -" أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا " مما تولينا إحداثه ولم يقدر على أحداثه غيرنا ، وذكر الأيدي وإسناد العمل إليها استعارة تفيد مبالغة في الاختصاص ، والتفرد بالإحداث . " أنعاماً " خصها بالذكر لما فيها من بدائع الفطرة وكثرة المنافع . " فهم لها مالكون " متملكون لها بتمليكنا إياها ، أو متمكنون من ضبطها والتصرف فيها بتسخيرنا إياها لهم قال : أصبحت لا أحمل السلاح ولا أملك رأي البعير إن نفرا .
72 -" وذللناها لهم " وصيرناها منقادة لهم . " فمنها ركوبهم " مركوبهم ، وقرئ (( ركوبتهم )) ، وهي بمعناه كالحلوب والحلوبة ، وقيل جمعه وركوبهم أي ذو ركوبهم أو فمن منافعها " ركوبهم " . " ومنها يأكلون " أي ما يأكلون لحمه .
73 -" ولهم فيها منافع " من الجلود والأصواف والأوبار . " ومشارب " من اللبن جمع مشرب بمعنى الموضع ، أو المصدر وأمال الشين ابن عامر وحده برواية هشام . " أفلا يشكرون " نعم الله في ذلك إذ لولا خلقه لها وتذليله إياها كيف أمكن التوسل إلى تحصيل هذه المنافع المهمة .
74 -" واتخذوا من دون الله آلهةً " أشركوها به في العبادة بعد ما رأوا منه تلك القدرة الباهرة والنعم المتظاهرة ، وعلموا أنه المتفرد بها . " لعلهم ينصرون " رجاء أن ينصروهم فيما حزبهم من الأمور والأمر بالعكس لأنهم .
75 - " لا يستطيعون نصرهم وهم لهم " لآلهتهم . " جند محضرون " معدون لحفظهم والذب عنهم ، أو " محضرون " أثرهم في النار .
76 -" فلا يحزنك " فلا يهمنك ، وقرئ بضم الياء من أحزن . " قولهم " في الله بالإلحاد والشرك ، أو فيك بالتكذيب والتهجين . " إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون " فنجازيهم عليه وكفى ذلك أن تتسلى به ، وهو تعليل للنهي على الاستئناف ولذلك لو قرئ " أنا " بالفتح على حذف لام التعليل جاز .
77 -" أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين " تسلية ثانية بتهوين ما يقولونه بالنسبة إلى إنكارهم الحشر ، وفيه تقبيح بليبغ لإنكاره حيث عجب منه وجعله فراطاً في الخصومة بينا ومنافاة لجحود القدر على ما هو أهون مما عمله في بدء خلقه ، ومقابلة النعمة التي لا مزيد عليه وهي خلقه من أخس شيء وأمهنه شريفاً مكرماً بالعقوق والتكذيب . روي " (( أن أبي بن خلف أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعظم بال يفتته بيده وقال : أترى الله يحيي هذا بعد ما رام ، فقال عليه الصلاة والسلام : نعم ويبعثك ويدخلك النار فنزلت " . وقيل معنى " فإذا هو خصيم مبين " فإذا هو بعد ما كن ماء مهيناً مميز منطبق قادر على الخصام معرب عما في نفسه .
78 -" وضرب لنا مثلاً " أمراً عجيباً وهو نفي القدرة على إحياء الموتى ، أو تشبيهه بخلقه بوصفه بالعجز عما عجزوا عنه . " ونسي خلقه " خلقنا إياه . " قال من يحيي العظام وهي رميم " منكراً إياه مستبعداً له ، والرميم ما بلي من العظام ، ولعله فعيل بمعنى فاعل من رم الشيء صار اسماً بالغلبة ولذلك لم يؤنث ، أو بمعنى مفعول من رممته . وفيه دليل على أن العظم ذو حياة فيؤثر فيه الموت كسائر الأعضاء .
79 -" قل يحييها الذي أنشأها أول مرة " فإن قدرته كما كانت لامتناع التغير فيه والمادة على حالها في القابلية اللازمة لذاتها . " وهو بكل خلق عليم " يعلم تفاصيل المخلوقات بعلمه وكيفية خلقها ، فيعلم أجزاء الأشخاص المتفتتة المتبددة أصولها وفصولها ومواقعها وطريق تمييزها ، وضم بعضها إلى بعض على النمط السابق وإعادة الأعراض والقوى التي كانت فيها أو إحداث مثلها .
80 -" الذي جعل لكم من الشجر الأخضر " كالمرخ والعفار . " ناراً " بأن يسحق المرخ على العفار وهما خضراوان يقطر منهما الماء فتنقدح النار . " فإذا أنتم منه توقدون " لا تشكون فإنها نار تخرج منه ، ومن قدر على إحداث النار من الشجر الأخضر مع ما فيه من المائية المضادة لها بكيفيتها كان أقدر على إعادة الغضاضة فيما كان غضاً فيبس وبلي ، وقرئ من (( الشجر الخضراء )) على المعنى كقوله " فمالئون منها البطون " .
81 -" أوليس الذي خلق السماوات والأرض " مع كبر جرمهما وعظم شأنهما . " بقادر على أن يخلق مثلهم " في الصغر والحقارة بالإضافة إليهما ، أو مثلهم في أصول الذات وصفاتها وهو المعاد ، وعن يعقوب (( يقدر )) . " بلى " جواب من الله تعالى لتقرير ما بعد النفي مشعر بأنه لا جواب سواه . " وهو الخلاق العليم " كثير المخلوقات والمعلومات .
82 -" إنما أمره " إنما شأنه . " إذا أراد شيئاً أن يقول له كن " أي تكون . " فيكون " فهو يكون أي يحدث ، وهو تمثيل لتأثير قدرته في مراده بأمر المطاع للمطيع في حصول المأمور من غير امتناع وتوقف وافتقار إلى مزاولة عمل واستعمال آلة قطعاً لمادة الشبهة ، وهو قياس قدرة الله تعلى على قدرة الخلق ، ونصبه ابن عامر و الكسائي عطفاً على " يقول " .
83 -" فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء " تنزيه عما ضربوا له ، وتعجيب عما قالوا فيه معللاً بكونه مالكاً للأمر كله قادراً على كل شيء " وإليه ترجعون " وعد ووعيد للمقرين والمنكرين ، وقرأ يعقوب بفتح التاء . وعن ابن عباس رضي الله عنه : كنت لا أعلم ما روي في فضل يس كيف خصت به فإذا أنه بهذه الآية . و" عنه عليه الصلاة والسلام (( إن لكل شيء قلباً وقلب القرآن يس ، وأيما مسلم قرأها يريد بها وجه الله غفر الله له وأعطي من الأجر كأنما قرأ القرآن اثنتين وعشرين مرة ، وأيما مسلم قرئ عنده إذا نزل به ملك الموت سورة يس نزل بكل حرف منها عشرة أملاك يقومون بين يديه صفوفاً يصلون عليه ويستغفرون له ، ويشهدون غسله ويشيعون جنازته ويصلون عليه ويشهدون دفنه ، وأيما مسلم قرأ يس وهو في سكرات الموت لم يقبض ملك الموت روحه حتى يجيئه رضوان بشربة من الجنة فيشربها وهو على فراشه فيقبض روحه وهو ريان ، ويمكث في قبره وهو ريان ، ولا يحتاج إلى حوض من حياض الأنبياء حتى يدخل الجنة وهو ريان )) " .