{ المص } أنا الله أعلم وأفضل .
{ كتاب } أي : هذا كتاب { أنزل إليك } من ربك { فلا يكن في صدرك حرج منه } فلا يضيقن صدرك بإبلاغ ما أرسلت به { لتنذر به } أي : أنزل لتنذر به الناس { وذكرى للمؤمنين } مواعظ للمصدقين .
{ اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم } يعني : القرآن { ولا تتبعوا من دونه أولياء } لا تتخذوا غير الله أولياء { قليلا ما تذكرون } قليلا يا معشر المشركين اتعاظكم .
{ وكم من قرية أهلكناها } يعني : أهلها { فجاءها بأسنا } عذابنا { بياتا } ليلا { أو هم قائلون } نائمون نهارا . بعنب : جاءهم بأسنا وهم غير متوقعين له .
{ فما كان دعواهم } دعاؤهم وتضرعهم { إذ جاءهم بأسنا إلا أن } أقروا على أنفسهم بالشرك و { قالوا إنا كنا ظالمين } .
{ فلنسألن الذين أرسل إليهم } نسأل الأمم ماذا عملوا فيما جاءت به الرسل ، ونسأل الرسل هل بلغوا ما أرسلوا به .
{ فلنقصن عليهم بعلم } لنخبرنهم بما عملوا بعلم منا { وما كنا غائبين } عن الرسل والأمم ما بلغت وما رد عليهم قومهم .
{ والوزن يومئذ } يعني : وزن الأعمال يوم السؤال الذي ذكر في قوله : { فلنسألن } { الحق } العدل ، وذلك أن أعمال المؤمنين تتصور في صورة حسنة ، وأعمال الكافرين في صورة قبيحة ، فتوزن تلك الصورة ، فذلك قوله : { فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون } الناجون الفائزون ، وهم المؤمنون .
{ ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم } صاروا إلى العذاب { بما كانوا بآياتنا يظلمون } يجحدون بما جاء به محمد عليه السلام .
{ ولقد مكناكم في الأرض } ملكناكم فيما بين مكة إلى اليمن ، وإلى الشام . يعني : مشركي مكة { وجعلنا لكم فيها معايش } ما تعيشون به من الرزق والمال والتجارة { قليلا ما تشكرون } أي : إنكم غير شاكرين لما أنعمت عليكم .
{ ولقد خلقناكم } يعني : آدم { ثم صورناكم } في ظهره .
{ قال ما منعك أن لا تسجد } لا زائدة . معناها : ما منعك أن تسجد ؟ وهو سؤال التوبيخ والتعنيف { قال أنا خير منه } معناه : منعني من السجود له أني خير منه إذ كنت ناريا ، وكان طينيا ، فترك الأمر وقاس ، فعصى .
{ قال فاهبط منها } فانزل من الجنة . وقيل : من السماء { فما يكون لك أن تتكبر فيها } عن أمري وتعصيني { فاخرج إنك من الصاغرين } الأذلاء بترك الطاعة .
{ قال أنظرني } أمهلني { إلى يوم يبعثون } يريد : النفخة الثانية .
{ قال إنك من المنظرين } .
{ قال : فبما أغويتني } يريد : فبما أضللتني ، أي : بإغوائك إياي { لأقعدن لهم صراطك المستقيم } على الطريق المستقيم الذي يسلكونه إلى الجنة ، بأن أزين لهم الباطل .
{ ثم لآتينهم من بين أيديهم } يعني : آخرتهم التي يردون عليها ، فأشككهم فيها { ومن خلفهم } دنياهم التي يخلفونها ، فأرغبهم فيها { وعن أيمانهم } أشبه عليهم أمر دينهم { وعن شمائلهم } أشهي لهم المعاصي .
{ قال اخرج منها } من الجنة { مذؤوما } مذموما بأبلغ الذم { مدحورا } مطرودا ملعونا { لمن تبعك منهم } من أولاد آدم { لأملأن جهنم منكم } يعني : من الكافرين وقرنائهم من الشياطين .
{ ويا آدم اسكن } سبق تفسيره في سورة البقرة .
{ فوسوس لهما الشيطان } أي : حدث لهما في أنفسهما { ليبدي لهما } هذه اللام لام العاقبة ، وذلك أن عاقبة تلك الوسوسة أدت إلى أن بدت لهما سوآتهما ، يعني : فروجهما بتهافت اللباس عنهما ، وهو قوله { ما وري } أي : ستر { عنهما من سوآتهما } { وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة } أي : عن أكلها { إلا أن تكونا } لا هاهنا مضمرة ، أي : إلا أن لا تكونا { ملكين } يبقيان ولا يموتان ، كما لا تموت الملائكة . يدل على هذا المعنى قوله : { أو تكونا من الخالدين } .
{ وقاسمهما } حلف لهما { إني لكما لمن الناصحين } .
{ فدلاهما بغرور } غرهما باليمين ، ومعنى دلاهما : جرأهما على أكل الشجرة بما غرهما به من يمينه { فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما } تهافت لباسهما عنهما ، فأبصر كل واحد منهما عورة صاحبه ، فاستحييا { وطفقا يخصفان } أقبلا وجعلا يرقعان الورق كهيئة الثواب ليستترا به { وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين } .
{ قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين } .
{ قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر } موضع قرار ، ثم فسر ذلك بقوله :
{ فيها تحيون } ولما ذكر عري آدم وحواء من علينا بما خلق لنا من اللباس فقال :
{ يا بني آدم قد أنزلنا عليكم } أي : خلقنا لكم { لباسا يواري سوآتكم } يستر عوراتكم { وريشا } أي : مالا ، وما تتجملون به من الثياب الحسنة { ولباس التقوى } أي : ستر العورة لمن يتقي الله فيواري عورته { ذلك خير } لصاحبه إ ذا أخذ به ، أو خير من التعري ، وذلك أن جماعة من المشركين كانوا يتعبدون بالتعري وخلع الثياب في الطواف بالبيت . { ذلك من آيات الله } أي : من فرائضه التي أوجبها بآياته . يعني : ستر العورة { لعلهم يذكرون } لكي يتعظوا .
{ يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان } لا يخدعنكم ولا يضلنكم { كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما } أضاف النزع إليه وإن لم يتول ذلك ، لأنه كان بسبب منه { إنه يراكم هو وقبيله } يعني : ومن كان من نسله { إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون } سلطناهم عليهم ليزيدوا في غيهم ، كما قال : { أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين } .
{ وإذا فعلوا فاحشة } يعني : طوافهم بالبيت عارين .
{ قل أمر ربي بالقسط } رد لقولهم : (والله أمرنا به ) والقسط : العدل { وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد } وجهوا وجوهكم حيث ما كنتم في الصلاة إلى الكعبة { وادعوه مخلصين له الدين } وحدوه ولا تشركوا به شيئا . { كما بدأكم } في الخلق شقيا وسعيدا ، فكذلك { تعودون } سعداء وأشقياء . يدل على صحة هذا المعنى قوله :
{ فريقا هدى } أرشد إلى دينه ، وهم أولياؤه { وفريقا حق عليهم الضلالة } أضلهم ، وهم أولياء الشيطان { إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون } ثم أمرهم أن يلبسوا ثيابهم ولا يتعروا ، فقال :
{ يا بني آدم خذوا زينتكم } يعني : ما وارى العورة { عند كل مسجد } لصلاة أو طواف { وكلوا واشربوا } كان أهل الجاهلية لا يأكلون أيام حجهم إلا قوتا ، ولا يأكلون دسما . يعظمون بذلك حجهم ، فقال المسلمون : نحن أحق أن نفعل ، فأنزل الله تعالى : { وكلوا } يعني : اللحم والدسم { واشربوا } اللبن والماء وما أحل لكم { ولا تسرفوا } بحظركم على أنفسكم ما قد أحللته لكم من اللحم والدسم { إنه لا يحب } من فعل ذلك ، أي : لايثيبه ولا يدخله الجنة .
{ قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده } من حرم أن تلبسوا في طوافكم ما يستركم { والطيبات من الرزق } يعني : ما حرموه على أنفسهم أيام حجهم { قل هي } أي : الطيبات من الرزق { للذين آمنوا في الحياة الدنيا } مباحة لهم مع اشتراك الكافرين معهم فيها في الدنيا ، ثم هي تخلص للمؤمنين يوم القيامة ، وليس للكافرين فيها شيء ، وهو معنى قوله : { خالصة يوم القيامة } { كذلك نفصل الآيات } نفسر ما أحللت وما حرمت { لقوم يعلمون } أني أنا الله لا شريك لي .
{ قل إنما حرم ربي الفواحش } الكبائر والقبائح { ما ظهر منها وما بطن } سرها وعلانيتها { والإثم } يعني : المعصية التي توجب الإثم { والبغي } ظلم الناس ، وهو أن يطلب ما ليس له { وأن تشركوا بالله } تعدلوا به في العبادة { ما لم ينزل به سلطانا } لم ينزل كتابا فيه حجة { وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } من أنه حرم الحرث والأنعام ، وأن الملائكة بنات الله .
{ ولكل أمة أجل } وقت مضروب لعذابهم وهلاكهم { فإذا جاء أجلهم } بالعذاب { لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون } لا يتأخرون ولا يتقدمون حتى يعذبوا .
{ يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي } فرائضي وأحكامي { فمن اتقى } اتقاني وخافني { وأصلح } ما بيني وبينه { فلا خوف عليهم } إذا خاف الخلق في القيامة { ولا هم يحزنون } إذا حزنوا .
{والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}.
{ فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا } فجعل له ولدا أو شريكا { أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب } ما كتب لهم من العذاب ، وهو سواد الوجه ، وزرقة العيون { حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم } يريد : الملائكة يقبضون أرواحهم { قالوا أين ما كنتم تدعون من دون الله } ؟ سؤال توبيخ وتبكيت وتقريع { قالوا ضلوا عنا } بطلوا وذهبوا { وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين } اعترفوا عند معاينة الموت ، وأقروا على أنفسهم بالكفر .
{ قال ادخلوا } أي : قال الله تعالى لهم : ادخلوا النار { في أمم } أي : مع { أمم قد خلت من قبلكم } . { كلما دخلت أمة } النار { لعنت أختها } يعني : الأمم التي سبقتها إلى النار ، لأنهم ضلوا باتباعهم { حتى إذا اداركوا فيها } أي : تداركوا ، وتلاحقوا جميعا في النار { قالت أخراهم } أي : أخراهم دخولا إلى النار { لأولاهم } دخولا . يعني : قالت الأتباع للقادة : { ربنا هؤلاء أضلونا } لأنهم شرعوا لنا أن نتخذ من دونك إلها { فآتهم عذابا ضعفا } أضعف عليهم العذاب بأشد مما تعذبنا به { قال } الله تعالى : { لكل ضعف } للتابع والمتبوع عذاب مضاعف { ولكن لا تعلمون } يا أهل الكتاب في الدنيا مقدار ذلك ، وقوله :
{ فما كان لكم علينا من فضل } لأنكم كفرتم كما كفرنا ، فنحن وأنتم في الكفر سواء .
{ إن الذين كذبوا بآياتنا } بحججنا التي تدل على توحيد الله ، ونبوة الأنبياء { واستكبروا عنها } ترفعوا عن الإيمان بها والانقياد لأحكامها { لا تفتح لهم أبواب السماء } لا تصعد أرواحهم ، ولا أعمالهم ، ولا شيء مما يريدون الله به إلى السماء { ولا يدخلون الجنة حتى يلج } يدخل { الجمل في سم الخياط } ثقب الإبرة .يعني : أبدا { وكذلك } وكما وصفنا { نجزي المجرمين } أي : المكذبين بآيات الله ، ثم أخبر عن إحاطة النار بهم من كل جانب ، فقال :
{ لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش } يعني : لهم منها غطاء ، ووطاء ، وفراش ولحاف { وكذلك نجزي الظالمين } يعني : الذين أشركوا بالله .
{ والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفسا إلا وسعها } أي : إلا ما تطيقه ولا تعجز عنه ، والمعنى : لا نكلف نفسا منهم إلا وسعها ، ثم أخبر بباقي الآية عن مآلهم .
{ ونزعنا ما في صدورهم من غل } أذهبنا الأحقاد التي كانت لبعضهم على بعض في دار الدنيا { تجري من تحتهم الأنهار } من تحت منازلهم وقصورهم ، فإذا استقروا في منازلهم { قالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا } أي : هدانا لما صيرنا إلى هذا الثواب من العمل الذي أدى إليه ، وأقروا أن المهتدي من هدى الله بقوله : { وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله } فحين رأوا ما وعدهم الرسل عيانا قالوا : { لقد جاءت رسل ربنا بالحق ونودوا أن تلكم الجنة } قيل لهم : هذه تلكم الجنة التي وعدتم { أورثتموها } أورثتم منازل أهل النار فيها لو عملوا بطاعة الله { بما كنتم تعملون } توحدون الله وتطيعونه .
{ ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا } في الدنيا من الثواب { حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم } من العذاب { حقا } وهذا سؤال تعيير وتقرير ، فأجاب أهل النار و { قالوا نعم فأذن مؤذن بينهم } نادى مناد وسطهم نداء يسمع الفريقين ، وهو صاحب الصور { أن لعنة الله على الظالمين } .
{ الذين يصدون } يمنعون { عن سبيل الله } دين الله وطاعته { ويبغونها عوجا } ويطلبونها بالصلاة لغير الله ، وتعظيم ما لم يعظمه الله .
{ وبينهما } بين أهل الجنة وبين أهل النار { حجاب } حاجز ، وهو سور الأعراف { وعلى الأعراف } يريد : سور الجنة { رجال } وهم الذين استوت حسناتهم وسيئاتهم { يعرفون كلا بسيماهم } يعرفون أهل الجنة ببياض الوجوه ، وأهل النار بسوادها ، وذلك لأن موضعهم عال مرتفع ، فهم يرون الفريقين { ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم } إذا نظروا إلى الجنة سلموا على أهلها { لم يدخلوها } يعني : أصحاب الأعراف لم يدخلوا الجنة { وهم يطمعون } في دخولها .
{ وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار } أي : جهة لقائهم .
{ ونادى أصحاب الأعراف رجالا } من أهل النار { يعرفونهم بسيماهم } من رؤساء المشركين فيقولون لهم : { ما أغنى عنكم جمعكم } المال واستكثارهم منه { وما كنتم تستكبرون } عن عبادة الله ، ثم يقسم أصحاب النار أن أصحاب الأعراف داخلون معهم النار ، فتقول الملائكة الذين حبسوا أصحاب الأعراف :
{ أهؤلاء الذين أقسمتم } يا أصحاب النار { لا ينالهم الله برحمة } يقولون لأصحاب الأعراف : { ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون } .
{ ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله } يعني : الطعام ، وهذا يدل على جوعهم وعطشهم { قالوا إن الله حرمهما على الكافرين } تحريم منع لا تحريم تعبد .
{ الذين اتخذوا دينهم } الذي شرع لهم { لهوا ولعبا } يعني : المستهزئين المقتسمين { فاليوم ننساهم } نتركهم في جهنم { كما نسوا لقاء يومهم هذا } كما تركوا العمل لهذا اليوم {وما كانوا بآياتنا يجحدون } أي : وكما جحدوا بآياتنا ولم يصدقوها .
{ ولقد جئناهم } يعني : المشركين { بكتاب } هو القرآن { فصلناه } بيناه { على علم } فيه . يعني : ما أودع من العلوم وبيان الأحكام { هدى } هاديا { ورحمة } وذا رحمة { لقوم يؤمنون } لقوم أريد به هدايتهم وإيمانهم .
{ هل ينظرون } ينتظرون ، أي : كأنهم ينتظرون ذلك ، لأنه يأتيهم لا محالة { إلا تأويله } عاقبة ما وعد الله في الكتاب من البعث والنشور { يوم يأتي تأويله } وهو يوم القيامة { يقول الذين نسوه من قبل } تركوا الإيمان به والعمل له من قبل إتيانه : { قد جاءت رسل ربنا بالحق } بالصدق والبيان { فهل لنا من شفعاء } هل يشفع لنا شافع ؟ { أو } هل { نرد } إلى الدنيا { فنعمل غير الذي كنا نعمل } نوحد الله ونترك الشرك ، يقول الله : { قد خسروا أنفسهم } حين صاروا إلى الهلاك { وضل عنهم ما كانوا يفترون } سقط عنهم ما كانوا يقولونه من أن مع الله إلها آخر .
{ إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام } أي : في مقدار ستة أيام ، من الأحد إلى السبت ، واجتمع الخلق في الجمعة { ثم استوى على العرش } أقبل على خلقه ، وقصد إلى ذلك بعد خلق السماوات والأرض { يغشي الليل النهار } يلبسه ويدخله عليه { يطلبه حثيثا } يطلب الليل دائبا لا غفلة له { والشمس } وخلق الشمس { والقمر والنجوم مسخرات } مذللات لما يراد منها من طلوع وأفول ، وسير ورجوع { بأمره } بإذنه { ألا له الخلق } يعني : إن جميع ما في العالم مخلوق له { و } له { الأمر } فيهم ، يأمر بما أراد { تبارك الله } تمجد وارتفع وتعالى .
{ ادعوا ربكم تضرعا } أي : تملقا { وخفية } سرا { إنه لا يحب المعتدين } المجاوزين ما أمروا به .
{ ولا تفسدوا في الأرض } بالشرك والمعاصي وسفك الدماء { بعد } إصلاح الله إياها ببعث الرسول { وادعوه خوفا } من عقابه { وطمعا } في ثوابه { إن رحمة الله } ثواب الله { قريب من المحسنين } وهم الذين يطيعون الله فيما أمر .
{ وهو الذي يرسل الرياح بشرا } طيبة لينة ، من النشر وهو الرائحة الطيبة .وقيل : متفرقة في كل جانب ، بمعنى المنتشرة { بين يدي رحمته } قدام مطره { حتى إذا أقلت } أي : حملت هذه الرياح { سحابا ثقالا } بما فيها من الماء سقنا السحاب { لبلد ميت } إلى مكان ليس فيه نبات { فأنزلنا به } بذلك البلد { الماء فأخرجنا } بذلك الماء { من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى } أي : نحيي الموتى مثل ذلك الإحياء الذي وصفناه في البلد الميت { لعلكم تذكرون } لعلكم بما بينا تتعظون ، فتستدلون على توحيد الله وقدرته على البعث ، ثم ضرب مثلا للمؤمن والكافر فقال :
{ والبلد الطيب } يعني : العذب التراب { يخرج نباته بإذن ربه } وهذا مثل المؤمن يسمع القرآن فينتفع به ، ويحسن أثره غليه { والذي خبث } ترابه وأصله { لا يخرج } نباته { إلا نكدا } عسرا مبطئا ، وهو مثل الكافر يسمع القرآن ، ولا يؤثر فيه أثرا محمودا ، كالبلد الخبيث لا يؤثر فيه المطر { كذلك نصرف الآيات } نبينها { لقوم يشكرون } نعم الله ويطيعونه .
{ ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه } ظاهر إلى قوله :
{قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين}.
{قال يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين}.
{ وأنصح لكم } أي : أدعوكم إلى ما دعاني الله إليه { وأعلم من الله ما لا تعلمون } من أنه غفور لمن رجع عن معاصيه ، وأن عذابه أليم لمن أصر عليها .
{ أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم } موعظة من الله { على رجل } على لسان رجل { منكم } تعرفون نسبه . وقوله :
{ إنهم كانوا قوما عمين } عميت قلوبهم عن معرفة الله تعالى وقدرته .
{ وإلى عاد أخاهم } وأرسلنا إلى عاد أخاهم ابن أبيهم { هودا قال يا قوم اعبدوا الله } وحدوا الله { ما لكم من إله غيره أفلا تتقون } أفلا تخافون نقمته .
{ قال الملأ } الرؤساء والجماعة { الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة } حمق وجهل { وإنا لنظنك من الكاذبين } فيما جئت به من ادعاء النبوة . وقوله :
{قال يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين}.
{ ناصح أمين } أي : على الرسالة لا أكذب فيها .
{ واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح } أي : استخلفكم في الأرض بعد هلاكهم { وزادكم في الخلق بسطة } فضيلة في الطول { فاذكروا آلاء الله } نعم الله عليكم { لعلكم تفلحون } كي تسعدوا وتبقوا في الجنة ، وقوله :
{ فأتنا بما تعدنا } أي : من العذاب { إن كنت من الصادقين } أن العذاب نازل بنا .
{ قال : قد وقع } وجب { عليكم من ربكم رجس وغضب } عذاب وسخط { أتجادلونني في أسماء سميتموها } كانت لهم أصنام سموها أسماء مختلفة ، فلما دعاهم الرسول إلى التوحيد استنكروا عبادة الله وحده . { ما نزل الله بها من سلطان } من حجة وبرهان لكم في عبادتها { فانتظروا } العذاب { إني معكم من المنتظرين } ذلك في تكذيبهم إياي ، وقوله :
{فأنجيناه والذين معه برحمة منا وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا وما كانوا مؤمنين}.
{ فذروها تأكل في أرض الله } أي : سهل الله عليكم أمرها ، فليس عليكم رزقها ولا مؤونتها ، وقوله :
{ وبوأكم في الأرض } أي : أسكنكم وجعل لكم فيها مساكن { تتخذون من سهولها قصورا } تبنون القصور بكل موضع { وتنحتون الجبال بيوتا } يريد : بيوتا في الجبال تشققونها ، وكانوا يسكنونها شتاء ، ويسكنون القصور بالصيف .
{ قال الملأ } وهم الأشراف { الذين استكبروا من قومه } عن عبادة الله { للذين استضعفوا } يريد المساكين { لمن آمن منهم } بدل من قوله : { للذين استضعفوا } لأنهم المؤمنون .
{قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون}.
{ فعقروا الناقة } نحروها { وعتوا عن أمر ربهم } عصوا الله وتركوا أمره في الناقة { وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا } من العذاب .
{ فأخذتهم الرجفة } وهي الزلزلة الشديدة { فأصبحوا في دارهم } بلدهم { جاثمين } خامدين ميتين .
{ فتولى عنهم } أعرض عنهم صالح بعد نزول العذاب بهم { وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم } خوفتكم عقاب الله ، وهذا كما خاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم قتلى بدر .
{ ولوطا } وأرسلنا لوطا ، أي : واذكر لوطا { إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة } يعني : إتيان الذكور { ما سبقكم بها من أحد من العالمين } قالوا : ما نزا ذكر على ذكر حتى كان قوم لوط .
{ إنكم لتأتون الرجال } الآية .
{ وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم } يعني : لوطا وأتباعه { إنهم أناس يتطهرون } عن إتيان الرجال في أدبارهم .
{ فأنجيناه وأهله } ابنتيه { إلا امرأته كانت من الغابرين } الباقين في عذاب الله .
{ وأمطرنا عليهم مطرا } يعني : حجارة .
{ وإلى مدين } وهم قبيلة من ولد إبراهيم عليه السلام { قد جاءتكم بينة من ربكم } موعظة { فأوفوا الكيل والميزان } أتموهما ، وكانوا أهل كفر وبخس للمكيال والميزان { ولا تفسدوا في الأرض } لا تعملوا فيها بالمعاصي بعد أن أصلحها الله ببعثة شعيب والأمر بالعدل .
{ ولا تقعدوا بكل صراط توعدون } لا تقعدوا على طريق الناس ، فتخوفون أهل الإيمان بشعيب بالقتل ونحو ذلك وتأخذون ثياب من مر بكم من الغرباء { وتصدون عن سبيل الله من آمن به } وتصرفون عن الإسلام من آمن بشعيب { وتبغونها عوجا } تلتمسون لها الزيغ { واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم } بعد القلة ، وأعزكم بعد الذلة ، وذلك أنه كان مدين بن إبراهيم ، وزوجه ريثا بنت لوط ، فولدت حتى كثر عدد أولادها .
{وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين}.
{ قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا } معناه أنهم قالوا لشعيب وأصحابه : ليكونن أحد الأمرين ، إما الإخراج من القرية ، أو عودكم في ملتنا ، ولا نفارقكم على مخالفتنا ،فقال شعيب : { أو لو كنا كارهين } أي : تجبروننا على العود في ملتكم ، وإن كرهنا ذلك ؟ وقوله :
{ وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا } أي : إلا أن يكون قد سبق في علم الله وفي مشيئته أن نعود فيها { وسع ربنا كل شيء علما } علم ما يكون قبل أن يكون { ربنا افتح } احكم واقض { بيننا وبين قومنا بالحق } وقوله :
{وقال الملأ الذين كفروا من قومه لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون}.
{فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين}.
{ كأن لم يغنوا فيها } أي : لم يقيموا فيها ، ولم ينزلوا ، وقوله :
{ فكيف آسى على قوم كافرين} أي : كيف يشتد حزني عليهم ، ومعناه : الإنكار . أي : لا آسى .
{ وما أرسلنا في قرية } في مدينة { من نبي } فكذبه أهلها { إلا أخذنا } هم { بالبأساء والضراء } بالفقر والجوع { لعلهم يضرعون } كي يستكينوا ويرجعوا .
{ ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة } بدل البؤس والمرض الغنى والصحة { حتى عفوا } كثروا وسمنوا ، وسمنت أموالهم { وقالوا } من غرتهم وجهلهم : { قد مس آباءنا الضراء والسراء } قد أصاب آباءنا في الدهر مثل ما أصابنا ، وتلك عادة الدهر ، ولم يكن ما مسنا عقوبة من الله ، فكونوا على ما أنتم عليه ، فلما فسدوا على الأمرين جميعا أخذهم الله بغتة { وهم لا يشعرون } بنزول العذاب ، وهذا تخويف لمشركي قريش .
{ ولو أن أهل القرى آمنوا } وحدوا الله { واتقوا } الشرك { لفتحنا عليهم بركات من السماء } بالمطر { و } من {الأرض } بالنبات والثمار { ولكن كذبوا } الرسل { فأخذناهم } بالجدوبة والقحط { بما كانوا يكسبون } من الكفر والمعصية .
{ أفأمن أهل القرى } يعني : أهل مكة وما حولها ، ومعنى هذه الآية وما بعدها : أنه لا يجوز لهم أن يأمنوا ليلا ولا نهارا بعد تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم ، وقوله :
{ وهم يلعبون } أي : وهم في غير ما يجدي عليهم .
{ أفأمنوا مكر الله } عذاب الله أن يأتيهم بغتة .
{ أولم يهد } يتبين { للذين يرثون الأرض من بعد أهلها } كفار مكة ومن حولهم { أن لو نشاء أصبناهم } عذبناهم { بذنوبهم } ثم { ونطبع على قلوبهم } حتى يموتوا على الكفر ، فيدخلوا النار ، والمعنى : ألم يعلموا أنا لو نشاء فعلنا ذلك .
{ تلك القرى } التي أهلكت أهلها { نقص عليك من أنبائها } نتلو عليك من أخبارها ، كيف أهلكت { ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات } يعني : الذين أرسلوا إليهم { فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل } فما كان أولئك الكفار ليؤمنوا عندإرسال الرسل بما كذبوا يوم أخذ ميثاقهم ، فأقروا بلسانهم وأضمروا التكذيب { كذلك } أي : مثل ذلك الذي طبع الله على قلوب كفار الأمم { يطبع الله على قلوب الكافرين } الذين كتب عليهم ألا يؤمنوا أبدا .
{ وما وجدنا لأكثرهم من عهد } يعني : الوفاء بالعهد الذي عاهدهم يوم الميثاق .
{ ثم بعثنا من بعدهم } الأنبياء الذين جرى ذكرهم { موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه فظلموا بها } فجحدوا بها وكذبوا { فانظر } بعين قلبك { كيف كان } عاقبتهم ، وكيف فعلنا بهم ، وقوله :
{وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين}.
{ حقيق على أن لا أقول } أي : أنا حقيق بأن لا أقول { على الله إلا } ما هو { الحق } وهو أنه واحد لا شريك له { قد جئتكم ببينة من ربكم } أي : بأمر من ربكم وهو العصا { فأرسل معي بني إسرائيل } أ ي: أطلق عليهم ، وخلهم ، وكان فرعون قد استخدمهم في الأعمال الشاقة ، وقوله :
{قال إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين}.
{ فإذا هي } أي : العصا { ثعبان } وهو أعظم ما يكون من الحيات { مبين } بين أنه حية لا لبس فيه .
{ ونزع يده } أخرجها من جيبه .
{قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم}.
{ يريد أن يخرجكم من أرضكم } هذا قول الأشراف من قوم فرعون ، قالوا : يريد موسى أن يخرجكم معشر القبط من أرضكم ، ويزيل ملككم بتقوية عدوكم بني إسرائيل ، فقال فرعون لهم : { فماذا تأمرون } أيش تشيرون به علي ؟
{ قالوا أرجه وأخاه } أخر أمره وأمر أخيه ولا تعجل { وأرسل في المدائن } في مدائن صعيد مصر { حاشرين } رجالا يحشرون إليك من في الصعيد من السحرة ، فأرسل { وجاء السحرة فرعون } وطالبوه بالمال والجوائز إن غلبوه ، فأجابهم فرعون إلى ذلك ، وهو قوله :
{يأتوك بكل ساحر عليم}.
{وجاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين}.
{ قال نعم وإنكم لمن المقربين } أي : ولكم من الأجر المنزلة الرفيعة عندي .
{ قالوا يا موسى إما أن تلقي } عصاك { وإما أن نكون نحن الملقين } ما معنا من الحبال والعصي .
{ قال ألقوا فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم } قلبوها عن صحة إدراكها حيث رأوها حيات { وجاؤوا بسحر عظيم } وذلك أنهم ألقوا حبالا غلاظا فإذا هي حيات قد ملأت الوادي .
{ وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف } تبتلع { ما يأفكون } يكذبون فيه ، وذلك أنهم زعموا أن عصيهم وحبالهم حيات ، وكذبوا في ذلك .
{ فوقع الحق } ظهر وغلب .
{ فغلبوا هنالك وانقلبوا } وانصرفوا { صاغرين } ذليلين .
{ وألقي السحرة ساجدين } خروا لله عابدين سامعين مطيعين .
{قالوا آمنا برب العالمين}.
{رب موسى وهارون}.
{ قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم } أصدقتم موسى من قبل أمري إياكم ؟! { إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة } لصنيع صنعتموه فيما بينكم وبين موسى في مصر قبل خروجكم إلى هذا الموضع { لتخرجوا منها أهلها } لتستولوا على مصر فتخرجوا منها أهلها ، وتتغلبوا عليها بسحركم { فسوف تعلمون } ما يظهر لكم .
{ لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف } على مخالفة ، وهو أن يقطع من كل شق طرف .
{ قالوا إنا إلى ربنا منقلبون } راجعون بالتوحيد والإخلاص .
{ وما تنقم منا } وما تطعن علينا ولا تكره منا { إلا أن آمنا بآيات ربنا } ما أتى به موسى من العصا واليد { ربنا أفرغ علينا صبرا } اصبب علينا الصبر عند الصلب والقطع حتى لا نرجع كفارا { وتوفنا مسلمين } على دين موسى ، ثم أغرى الملأ من قوم فرعون بموسى فقالوا :
{ أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض } ليدعوا الناس إلى مخالفتك وعبادة غيرك { ويذرك وآلهتك } وذلك أن فرعون كان قد صنع لقومه أصناما صغارا ، وأمرهم بعبادتها وقال : أنا ربكم ورب هذه الأصنام ، فلذلك قوله : { أنا ربكم الأعلى } ، فقال فرعون : { سنقتل أبناءهم } وكان قد ترك قتل أبناء بني إسرائيل ، فلما كان من أمر موسى ما كان أعاد عليهم القتل ، فذلك قوله : { سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم } للمهنة والخدمة { وإنا فوقهم قاهرون } وإنا على ذلك قادرون ، فشكا بنو إسرائيل إلى موسى إعادة القتل على إبنائهم ، فقال لهم موسى :
{ استعينوا بالله واصبروا } على ما يفعل بكم { إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده } أطمعهم موسى أن يعطيهم الله ملكهم ومالهم { والعاقبة للمتقين } أي : الجنة لمن اتقى . وقيل النصر والظفر .
{ قالوا أوذينا } بالقتل الأول { من قبل أن تأتينا } بالرسالة { ومن بعد ما جئتنا } بإعادة القتل علينا ، والإتعاب في العمل { قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم } فرعون وقومه { ويستخلفكم في الأرض } يملككم ما كان يملك فرعون { فينظر كيف تعملون } فيرى ذلك لوقوع ذلك منكم .
{ ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين } بالجدوب لأهل البوادي { ونقص من الثمرات } لأهل القرى ، وصرفنا الآيات : بيناها لهم من كل نوع { لعلهم يذكرون } كي يتعظوا .
{ فإذا جاءتهم الحسنة } الخصب وسعة الرزق { قالوا لنا هذه } أي : إنا مستحقوه على العادة التي جرت لنا من النعمة ، ولم يعلموا أنه من الله فيشكروا عليه { وإن تصبهم سيئة } قحط وجدب { يطيروا } يتشاءموا { بموسى } وقومه ، وقالوا : إنما أصابنا هذا الشر بشؤمهم { ألا إنما طائرهم عند الله } شؤمهم جاءهم بكفرهم بالله { ولكن أكثرهم لا يعلمون } أن الذي أصابهم من الله .
{ وقالوا } بموسى : { مهما تأتنا به } أي : متى ما تأتنا به { من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين } فدعا عليهم موسى ، فأرسل الله عليهم السماء بالماء حتى امتلأت بيوت القبط ماء ، ولم يدخل بيوت بني إسرائيل من الماء قطرة ، فذلك قوله :
{ فأرسلنا عليهم الطوفان } ودام ذلك سبعة أيام ، فقالوا : { يا موسى ادع لنا ربك } يكشف عنا فنؤمن لك ، فدعا ربه فكشف ، فلم يؤمنوا فبعث الله عليهم الجراد ، فأكلت عامة زروعهم وثمارهم ، فوعدوه أن يؤمنوا إن كشف عنهم ، فكشف فلم يؤمنوا ، فبعث الله عليهم القمل ، وهو الدباء الصغار البق التي لا أجنحة لها ، فتتبع ما بقي من حروثهم وأشجارهم ، فصرخوا فكشف عنهم ، فلم يؤمنوا ، فعادوا بكفرهم ، فأرسل الله عليهم الضفادع تدخل في طعامهم وشرابهم ، فعاهدوا موسى أن يؤمنوا ، فكشف عنهم فعادوا لكفرهم ، فأرسل الله عليهم الدم ، فسال النيل عليهم دما ، وصارت مياههم كلها دما ، فذلك قوله : { آيات مفصلات } مبينات { فاستكبروا } عن عبادة الله .
{ ولما وقع عليهم الرجز } أي : العذاب ، وهو ما كانوا فيه من الجراد وما ذكر بعده { قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك } بما أوصاك به وتقدم إليك أن تدعوه به { لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل } وقوله :
{ إلى أجل هم بالغوه } يعني : إلى الأجل الذي غرقهم فيه { إذا هم ينكثون } ينقضون العهد ولا يوفون .
{ فانتقمنا منهم } سلبنا نعمتهم بالعذاب { فأغرقناهم في اليم } في البحر { بأنهم كذبوا بآياتنا } جزاء تكذيبهم { وكانوا عنها غافلين } غير معتبرين بها .
{ وأورثنا القوم } ملكناهم { الذين كانوا يستضعفون } بقتل أبنائهم واستخدام نسائهم { مشارق الأرض ومغاربها } جهات شرق أرض الشام ، وجهات غربها ، { التي باركنا فيها } بإخراج الزروع والثمار ، والأنهار والعيون { وتمت كلمة ربك الحسنى } مواعيده التي لا خلف فيها بما كانوا يحبون ، وذلك جزاء صبرهم على صنيع فرعون { ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه } أهلكنا ما عمل فرعون وقومه في أرض مصر { وما كانوا يعرشون } وما بنوا المنازل والبيوت .
{ وجاوزنا ببني إسرائيل البحر } عبرنا بهم البحر { فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم } يعبدونها مقيمين عليها { قالوا يا موسى اجعل لنا إلها } من دون الله { كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون } نعمة الله عليكم وما صنع بكم ، حيث توهمتم أنه يجوز عبادة غيره .
{ إن هؤلاء } يعني : الذين عكفوا على أصنامهم { متبر ما هم فيه } مهلك ومدمر { وباطل ما كانوا يعملون } يعني : إن عملهم للشيطان ، ليس لله فيه نصيب .
{ قال أغير الله أبغيكم } أطلب لكم { إلها } معبودا { وهو فضلكم على العالمين } على عالمي زمانكم بما أعطاكم من الكرامات .
{وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم}.
{ وواعدنا موسى ثلاثين ليلة } يترقب انقضاءها للمناجاة ، وهي ذو القعدة . أمره الله تعالى أن يصوم فيها ، فلما انسلخ الشهر استاك لمناجاة ربه يريد إزالة الخلوف ، فأمر بصيام عشرة من ذي الحجة ، ليكلمه بخلوف فيه ، فذلك قوله : { وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه } أي : الوقت الذي قدره الله لصوم موسى { أربعين ليلة } فلما أراد الانطلاق إلى الجبل استخلف أخاه هارون على قومه ، وهو معنى قوله : { وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح } أي : وارفق بهم { ولا تتبع سبيل المفسدين } لا تطع من عصى الله ، ولا توافقه على أمره .
{ ولما جاء موسى لميقاتنا } أي : في الوقت الذي وقتنا له { وكلمه ربه } فلما سمع كلام الله { قال رب أرني } نفسك { أنظر إليك } والمعنى : إني قد سمعت كلامك فأنا أحب أن أراك { قال لن تراني } في الدنيا { ولكن } أجعل بيني وبينك ما هو أقوى منك ، وهو الجبل { فإن استقر مكانه } أي : سكن وثبت { فسوف تراني } وإن لم يستقر مكانه فإنك لا تطيق رؤيتي ، كما أن الجبل لا يطيق رؤيتي { فلما تجلى ربه } أي : ظهر وبان { جعله دكا } أي : مدقوقا مع الأرض كسرا ترابا { وخر } وسقط { موسى صعقا } مغشيا عليه { فلما أفاق قال سبحانك } تنزيها لك من السوء { تبت إليك } من مسألتي الرؤية في الدنيا { وأنا أول المؤمنين } أول قومي إيمانا .
{ قال يا موسى إني اصطفيتك } اتخذتك صفوة { على الناس برسالاتي } أي : بوحيي إليك { وبكلامي } كلمتك من غير واسطة { فخذ ما آتيتك } من الشرف والفضيلة { وكن من الشاكرين } لأنعمي في الدنيا والآخرة .
{ وكتبنا له في الألواح } يعني : ألواح التوراة { من كل شيء } يحتاج إليه في أمر دينه { موعظة } نهيا عن الجهل { وتفصيلا لكل شيء } من الحلال والحرام { فخذها } أي : وقلنا له : فخذها {بقوة } بجد وصحة وعزيمة { وأمر قومك } أن { يأخذوا بأحسنها } أي : بحسنها ، وكلها حسن { سأريكم دار الفاسقين } يعني : جهنم ، أي : ولتكن على ذكر منكم لتحذروا أن تكونوا منهم .
{ سأصرف عن آياتي } يعني : السماوات والأرض . أصرفهم عن الاعتبار بما فيها { الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق } يعني : المشركين . يقول : أعاقبهم بحرمان الهداية { وإن يروا سبيل الرشد } الهدى والبيان الذي حاء من الله { لا يتخذوه سبيلا } دينا { وإن يروا سبيل الغي } طاعة الشيطان { يتخذوه سبيلا } دينا { ذلك } فعل الله بهم { بأنهم كذبوا بآياتنا } جحدوا الإيمان بها { وكانوا عنها غافلين } غير ناظرين فيها ، ولا معتبرين بها .
{ والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة } يريد : الثواب والعقاب { حبطت أعمالهم } ضل سعيهم { هل يجزون إلا ما } أي : جزاء ما { كانوا يعملون } .
{ واتخذ قوم موسى من بعده } أي : من بعد انطلاقه إلى الجبل { من حليهم } التي بقيت في أيديهم مما استعاروه من القبط { عجلا جسدا } لحما ودما { له خوار } صوت { ألم يروا } يعني : قوم موسى { أنه } أن العجل { لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا } لا يرشدهم إلى دين . { اتخذوه } أي : إلها ومعبودا { وكانوا ظالمين } مشركين .
{ ولما سقط في أيديهم } أي : ندموا على عبادتهم العجل { ورأوا أنهم قد ضلوا } قد ابتلوا بمعصية الله ، وهذا كان بعد رجوع موسى إليهم .
{ ولما رجع موسى إلى قومه غضبان } عليهم { أسفا } حزينا ، لأن الله تعالى فتنهم { قال بئسما خلفتموني من بعدي } بئسما عملتم من بعدي حين اتخذتم العجل إلها ، وكفرتم بالله { أعجلتم أمر ربكم } أسبقتم باتخاذ العجل ميعاد ربكم ؟ يعني : الأربعين ليلة ، وذلك أنه كان قد وعدهم أن يأتيهم بعد ثلاثين ليلة ، فلما لم يأتيهم على رأس الثلاثين قالوا : إنه قد مات { وألقى الألواح } التي فيها التوراة { وأخذ برأس أخيه } بذؤابته وشعره { يجره إليه } إنكارا عليه إذ لم يلحقه فيعرفه ما فعل بنو إسرائيل ، كما قال في سورة طه : { قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا * أن لا تتبعن } الآية . فأعلمه هارون أنه إنما أقام بين أظهرهم خوفا على نفسه من القتل ، وهو قوله : { قال ابن أم } وكان أخاه لأبيه وأمه ، ولكنه قال : يا ابن أم ليرققه عليه { إن القوم استضعفوني } استذلوني وقهروني { وكادوا } وهموا أن { يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء } يعني : أصحاب العجل بضربي وإهانتي { ولا تجعلني } في موجدتك وعقوبتك لي { مع القوم الظالمين } الذين عبدوا العجل ، فلما عرف براءة هارون مما يوجب العتب عليه ، إذ بلغ من إنكاره على عبدة العجل ما خاف على نفسه القتل .
{ قال رب اغفر لي } ما صنعت إلى أخي { ولأخي } إن قصر في الإنكار { وأدخلنا في رحمتك } جنتك .
{ إن الذين اتخذوا العجل } يعني : اليهود الذين كانوا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ، وهم أبناء الذين اتخذوا العجل إلها ، فأضيف إليهم تعييرا لهم بفعل آبائهم { سينالهم غضب من ربهم } عذاب في الآخرة { وذلة في الحياة الدنيا } وهي الجزية { وكذلك نجزي المفترين } كذلك أعاقب من اتخذ إلها دوني .
{ والذين عملوا السيئات } الشرك { ثم تابوا } رجعوا عنها { وآمنوا } صدقوا أنه لا إله غيري { إن ربك من بعدها } من بعد التوبة { لغفور رحيم } .
{ ولما سكت } سكن { عن موسى الغضب أخذ الألواح } التي كان ألقاها { وفي نسختها } وفيما كتب فيها : { هدى } من الضلالة { ورحمة } من العذاب { للذين هم لربهم يرهبون } للخائفين من ربهم .
{ واختار موسى قومه } من قومه { سبعين رجلا لميقاتنا } أمره الله تعالى أن يأتيه في ناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادة العجل ، ووعده لذلك موعدا ، فاختار موسى سبعين رجلا ليعتذروا ، فلما سمعوا كلام الله قالوا لموسى : أرنا الله جهرة فأخذتهم { الرجفة } وهي الحركة الشديدة ، فماتوا جميعا ، فقال موسى : { رب لو شئت أهلكتهم } وإياي قبل خروجنا للميقات ، وكان بنو إسرائيل يعاينون ذلك ولا يتهمونني ، وظن أنهم أهلكوا باتخاذ أصحابهم العجل ، فقال : { أتهلكنا بما فعل السفهاء منا } وإنما أهلكوا لمسألتهم الرؤية { إن هي إلا فتنتك } أي : تلك الفتنة التي وقع فيها السفهاء لو تكن إلا فتنتك ، أي : اختبارك وابتلاؤك أضللت بها قوما فافتتنوا ، وعصمت آخرين وهذا معنى قوله : { تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء } .
{ واكتب لنا } أوجب لنا { في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة } أي : اقبل وفادتنا ، وردنا بالمغفرة والرحمة { إنا هدنا إليك } تبنا ورجعنا إليك بالتوبة { قال عذابي أصيب به من أشاء } يعني : إن رحمته في الدنيا وسعت البر والفاجر ، وهي في الآخرة للمؤمنين خاصة ، وهذا معنى قوله : { فسأكتبها } فسأوجبها في الآخرة { للذين يتقون } يريد : أمة محمد صلى الله عليه وسلم { ويؤتون الزكاة } صدقات الأموال عند محلها { والذين هم بآياتنا يؤمنون } يصدقون بما أنزل على محمد والنبيين .
{ الذين يتبعون الرسول النبي الأمي } وهو الذي لا يكتب ولا يقرأ ، وكانت هذه الخلة مؤكدة لمعجزته في القرآن { الذي يجدونه } بنعته وصفته { مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف } بالتوحيد وشرائع الإسلام { وينهاهم عن المنكر } عبادة الأوثان وما لا يعرف في شريعة { ويحل لهم الطيبات } يعني : ما حرم عليهم في التوراة من لحوم الإبل ، وشحوم الضأن { ويحرم عليهم الخبائث } الميتة والدم ، وما ذكر في سورة المائدة . { ويضع عنهم إصرهم } ويسقط عنهم ثقل العهد الذي أخذ عليهم { والأغلال التي كانت عليهم } الشدائد التي كانت عليهم ، كقطع أثر البول ، وقتل النفس في التوبة ، وقطع الأعضاء الخاطئة { فالذين آمنوا به } من اليهود { وعزروه } ووقروه { ونصروه } على عدوه { واتبعوا النور الذي أنزل معه } يعني : القرآن . الآيتين .
{قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون}.
{ ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق } يدعون إلى الحق { وبه يعدلون } وبالحق يحكمون ، وهم قوم وراء الصين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم لا يصل إلينا منهم أحد ، ولا منا إليهم . وقوله :
{ فانبجست } أي : انفجرت ، وهذه الآية مفسرة في سورة اليقرة إلى قوله :
{وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية وكلوا منها حيث شئتم وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا نغفر لكم خطيئاتكم سنزيد المحسنين}.
{فبدل الذين ظلموا منهم قولا غير الذي قيل لهم فأرسلنا عليهم رجزا من السماء بما كانوا يظلمون}.
{ واسألهم } يعني : سؤال توبيخ وتقرير { عن القرية } وهي أيلة { التي كانت حاضرة البحر } مجاورته { إذ يعدون في السبت } يظلمون فيه بصيد السمك { إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا } ظاهرة على الماء { ويوم لا يسبتون } لا يفعلون ما يفعل في السبت . يعني : سائر الأيام { لا تأتيهم } الحيتان { كذلك } مثل هذا الاختبار الشديد { نبلوهم } نختبرهم { بما كانوا يفسقون } بعصيانهم الله ، أي : شددت عليهم المحنة لفسقهم ، ولما فعلوا ذلك صار أهل القرية ثلاث فلاق : فرقة صادت وأكلت ، وفرقة نهت وزجرت ، وفرقة أمسكت عن الصيد ، وهم الذين قال الله تعالى :
{ وإذ قالت أمة منهم } قالوا للفرقة الناهية : { لم تعظون قوما الله مهلكهم } لاموهم على موعظة قوم يعلمون أنهم غير مقلعين ، فقالت الفرقة الناهية للذين لاموهم : { معذرة إلى ربكم } أي : الأمر بالمعروف واجب علينا ، فعلينا موعظة هؤلاء عذرا إلى الله { ولعلهم يتقون } فيتركون الصيد في السبت .
{ فلما نسوا ما ذكروا به } تركوا ما وعظوا به { أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا } اعتدوا في السبت { بعذاب بئيس } شديد ، وهو المسخ جزاء لفسقهم وخروجهم عن أمر الله .
{ فلما عتوا } أي : طغوا واستكبروا { عن ما نهوا عنه } أي : عن ترك ما نهوا عنه من صيد الحيتان يوم السبت { قلنا لهم } الآية مفسرة في سورة البقرة .
{ وإذ تأذن ربك } قال وأعلم ربك { ليبعثن } ليرسلن { عليهم } على اليهود { من يسومهم } أي : يذيقهم { سوء العذاب } إلى يوم القيامة . يعني : محمدا صلى الله عليه وسلم وأمته يقاتلونهم أو يعطون الجزية { إن ربك لسريع العقاب } لمن استحق تعجيله .
{ وقطعناهم في الأرض أمما } فرقناهم في البلاد ، فلم يجتمع لهم كلمة { منهم الصالحون } وهم الذين آمنوا { ومنهم دون ذلك } الذين كفروا { وبلوناهم } عاملناهم معاملة المختبر { بالحسنات } بالخصب والعافية { والسيئات } الجدب والشدائد { لعلهم يرجعون } كي يتوبوا .
{ فخلف من بعدهم خلف } من بعد هؤلاء الذين قطعناهم خلف من اليهود . يعني : أولادهم { ورثوا الكتاب } أخذوه عن آبائهم { يأخذون عرض هذا الأدنى } يأخذون ما أشرف لهم من الدنيا حلالا أو حراما { ويقولون سيغفر لنا } ويتمنون على الله المغفرة { وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه } وإن أصابوا عرضا ، أي : متاعا من الدنيا مثل رشوتهم تلك التي أصابوا بالأمس قبلوه . وهذا إخبار عن حرصهم على الدنيا { ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق } وأكد الله عليهم في التوراة ألا يقولوا على الله إلا الحق فقالوا الباطل ، وهو قولهم : { سيغفر لنا } وليس في التوراة ميعاد المغفرة مع الإصرار { ودرسوا ما فيه } أي : فهم ذاكرون لما أخذ عليهم من الميثاق ، لأنهم قد قرؤوه .
{ والذين يمسكون بالكتاب } يؤمنون به ويحكمون بما فيه . يعني : مؤمني أهل الكتاب { وأقاموا الصلاة } التي شرعها محمد صلى الله عليه وسلم { إنا لا نضيع أجر المصلحين } منهم .
{ وإذ نتقنا الجبل فوقهم } رفعناه باقتلاع له من أصله . يعني : ما ذكرنا عند قوله : { ورفعنا فوقكم الطور } الآية . { وظنوا } وأيقنوا { أنه واقع بهم } إن خالفوا ، وباقي الآية فيما سبق .
{ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم } أخرج الله تعالى ذرية آدم بعضهم من ظهور بعض على نحو ما يتوالد الأبناء من الآباء ، وجميع ذلك أخرجه من صلب آدم مثل الذر ، وأخذ عليهم الميثاق أنه خالقهم ، وأنهم مصنوعون ، فاعترفوا بذلك وقبلوا ذلك بعد أن ركب فيهم عقولا ، وذلك قوله : { وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم } أي : قال : ألست بربكم { قالوا بلى } فأقروا له بالربوبية ، فقالت الملائكة عند ذلك { شهدنا } أي : على إقراركم { أن } لا { تقولوا } لئلا تقولوا ، أي : لئلا يقول الكفار { يوم القيامة إنا كنا عن هذا } الميثاق { غافلين } لم نحفظه ولم نذكره ، ويذكرون الميثاق ذلك اليوم فلا يمكنهم الإنكار مع شهادة الملائكة ، وهذه الآية تذكير لجميع المكلفين ذلك الميثاق ، لأنها وردت على لسان صاحب المعجزة ، فقامت في النفوس مقام ما هو على ذكر منها .
{ أو تقولوا } أيها الذرية محتجين يوم القيامة : { إنما أشرك آباؤنا من قبل } أي : قبلنا ، ونقضوا العهد { وكنا ذرية من بعدهم } صغارا فاقتدينا بهم { أفتهلكنا بما فعل المبطلون } أفتعذبنا بما فعل المشركون المكذبون بالتوحيد ، وإنما اقتدينا بهم ، وكنا في غفلة عن الميثاق ، وهذه الآية قطع لمعذرتهم ، فلا يمكنهم الاحتجاج بكون الآباء على الشرك بعد تذكير الله بأخذ الميثاق بالتوحيد على كل واحد من الذرية .
{ وكذلك } وكما بينا في أمر الميثاق { نفصل الآيات } نبينها ليتدبها العباد { ولعلهم يرجعون } ولكي يرجعوا عما هم عليه من الكفر .
{ واتل عليهم } واقرأ واقصص يا محمد على قومك { نبأ } حبر { الذي آتيناه آياتنا } علمناه حجج التوحيد { فانسلخ } خرج { منها فأتبعه الشيطان } أدركه { فكان من الغاوين } الضالين . يعني : بلعم بن باعوراء . أعان أعداء الله على أوليائه بدعائه ، فنزع عنه الإيمان .
{ ولو شئنا لرفعناه بها } بالعمل بها . يعني : وفقناه للعمل بالآيات ، وكنا نرفع بذلك منزلته { ولكنه أخلد إلى الأرض } مال إلى الدنيا وسكن إليها ، وذلك أن قومه أهدوا له رشوة ليدعو على قوم موسى ، فأخذها { واتبع هواه } انقاد لما دعاه إليه الهوى { فمثله كمثل الكلب } أراد أن هذا الكافر إن زجرته لم ينزجر ، وإن تركته لم يهتد ، فالحالتان عنده سواء ، كحالتي الكلب اللاهث ، فإنه إن حمل عليه بالطرد كان لاهثا ، وإن ترك وربض كان أيضا لاهثا كهذا الكافر في الحالتين ضال ، وذلك أنه زجر في المنام عن الدعاء على موسى فلم ينزجر ، وترك عن الزجر فلم يهتد ، فضرب الله له أخس شيء في أخس أحواله ، وهو حال اللهث مثلا ، وهو إدلاع اللسان من الإعياء والعطش ، والطلب يفعل ذلك في حال الكلال وحال الراحة ، ثم عم بهذا التمثيل جميع المكذبين بآيات الله فقال : { ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا } يعني : أهل مكة . كانوا يتمنون هاديا يهديهم ، فلما جاءهم من لا يشكون في صدقه كذبوه ، فلم يهتدوا لما تركوا ، ولم يهتدوا أيضا لما دعوا بالرسول ، فكانوا ضالين عن الرشد في الحالتين { فاقصص القصص } يعني : قصص الذين كذبوا بآياتنا { لعلهم يتفكرون } فيتعظون ، ثم ذم مثلهم ، فقال :
{ ساء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا } أ ي : بئس مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا { وأنفسهم كانوا يظلمون } بذلك التكذيب . يعني : إنما يخسرون حظهم .
{من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون}.
{ ولقد ذرأنا } خلقنا { لجهنم كثيرا من الجن والإنس } وهم الذين حقت عليهم الشقاوة { لهم قلوب لا يفقهون بها } لا يعقلون بها الحير والهدى { ولهم أعين لا يبصرون بها } سبل الهدى { ولهم آذان لا يسمعون بها } مواعظ القرآن { أولئك كالأنعام } يأكلون ويشربون ولا يلتفتون إلى الآخرة { بل هم أضل } لأن الأنعام مطيعة لله ، والكافر غير مطيع { أولئك هم الغافلون } عما في الآخرة من العذاب .
{ ولله الأسماء الحسنى } يعني : التسعة والتسعين { فادعوه بها } كقولك : يا الله ، يا قدير ، يا عليم ، { وذروا الذين يلحدون في أسمائه } يميلون عن القصد ، وهم المشركون عدلوا بأسماء الله عما هي عليه ، فسموا بها أوثانهم ، وزادوا فيها ونفصوا ، واشتقوا اللات من الله ، والعزى من العزيز ، ومناة من المنان { سيجزون ما كانوا يعملون } جزاء ما كانوا يعملون في الآخرة .
{ وممن خلقنا أمة } الآية . يعني : أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، كما قال في قوم موسى عليه السلام : { ومن قوم موسى أمة } الآية .
{ والذين كذبوا بآياتنا } محمد والقرآن . يعني : أهل مكة { سنستدرجهم } سنمكر بهم { من حيث لا يعلمون } كلما جددوا لنا معصية جددنا لهم نعمة .
{ وأملي لهم } أطيل لهم مدة عمرهم ليتمادوا في المعاصي { إن كيدي متين } مكري شديد . نزلت في المستهزئين من قريش ، قتلهم الله في ليلة واحدة بعد أن أمهلهم طويلا .
{ أولم يتفكروا } فيعلموا { ما بصاحبهم } محمد { من جنة } من جنون .
{ أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض } ليستدلوا بها على توحيد الله ، وفسرنا ملكوت السماوات والأرض في سورة الأنعام { وما خلق الله من شيء } وفيما خلق الله من الأشياء كلها { وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم } وفي أن لعل آجالهم قريبة ، فيهلكوا على الكفر ، ويصيروا إلى النار { فبأي حديث بعده يؤمنون } فبأي قرآن غير ما جاء به محمد يصدقون ؟ يعني : إنه خاتم الرسل ، ولا وحي بعده ، ثم ذكر علة إعراضهم عن الإيمان ، فقال :
{ من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم في طغيانهم يعمهون } .
{ يسألونك عن الساعة } أي : الساعة التي يموت فيها الخلق . يعني : القيامة . نزلت في قريش قالت لمحمد صلى الله عليه وسلم : أسر إلينا متى الساعة { أيان مرساها } متى وقوعها وثبوتها ؟ { قل إنما علمها } العلم بوقتها ووقوعها { عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو } لا يظهرها في وقتها إلا هو { ثقلت في السماوات والأرض } ثقل وقوعها وكبر على أهل السماوات والأرض لما فيها من الأهوال { لا تأتيكم إلا بغتة } فجأة { يسألونك كأنك حفي عنها } عالم بها مسؤول عنها { قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون } أن علمها عند الله حين سألوا محمدا عن ذلك .
{ قل لا أملك لنفسي } الآية . إن أهل مكة قالوا : يا محمد ، ألا يخبرك ربك بالسعر الرخيص ، قبل أن يغلو ، فنستري من الرخيص لنربح عليه ؟ وبالأرض التي تريد أن تجدب فنرتحل عنها ؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية ، ومعنى قوله : { لا أملك لنفسي نفعا } أي : اجتلاب نفع بأن أربح ، { ولا ضرا } دفع ضر بأن أرتحل من الأرض التي تريد أن تجدب { إلا ما شاء الله } أن أملكه بتمليكه { ولو كنت أعلم الغيب } ما يكون قبل أن يكون { لاستكثرت من الخير } لادخرت في زمان الخصب لزمن الجدب { وما مسني السوء } وما أصابني الضر والفقر { إن أنا إلا نذير } لمن يصدق ما جئت به { وبشير } لمن اتبعني وآمن بي .
{ هو الذي خلقكم من نفس واحدة } يعني : آدم { وجعل منها زوجها } حواء . خلقها من ضلعه { ليسكن إليها } ليأنس بها ، فيأوي إليها { فلما تغشاها } جامعها { حملت حملا خفيفا } يعني : النطفة والمني { فمرت به } استمرت بذلك الحمل الخفيف ، وقامت وقعدت ، ولم يثقلها { فلما أثقلت } صار إلى حال الثقل ودنت ولادتها { دعوا الله ربهما } آدم وحواء { لئن آتيتنا صالحا } بشرا سويا مثلنا { لنكونن من الشاكرين } وذلك أن إبليس أتاها في غير صورته التي عرفته ، وقال لها : ما الذي في بطنك ؟ قالت : ما أدري . قال : إني أخاف أن يكون بهيمة ، أو كلبا ، أو خنزيرا ، وذكرت ذلك لآدم ، فلم يزالا في هم من ذلك ، ثم أتاها وقال : إن سألت الله أن يجعله خلقا سويا مثلك أتسمينه عبد الحارث ؟ وكان إبليس في الملائكة الحارث ، ولم يزل بها حتى غرها ، فلما ولدت ولدا سوي الخلق سمته عبد الحارث ، فرضي آدم ، فذلك قوله :
{ فلما آتاهما صالحا } ولدا سويا { جعلا له } لله { شركاء } يعني : إبليس ، فأوقع الواحد موقع الجميع . { فيما آتاهما } من الولد إذ سمياه عبد الحارث ، ولا ينبغي أن يكون عبدا إلا لله ، ولم تعرف حواء أنه إبليس ، ولم يكن هذا شركا بالله ، لأنهما لم يذهبا إلى أن الحارث ربهما ، لكنهما قصدا إلى أنه كان سبب نجاته ، وتم الكلام عند قوله : فيما { آتاهما }، ثم ذكر كفار مكة ، فقال : { فتعالى الله عما يشركون } .
{ أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون } يريد : أيعبدون ما لا يقدر أن يخلق شيئا وهم مخلوقون ! على الأصنام .
{ ولا يستطيعون لهم نصرا } لا تنصر من أطاعها { ولا أنفسهم ينصرون } ولا يدفعون عن أنفسهم مكروه من أرادهم بكسر أو نحوه ، ثم خاطب المؤمنين فقال :
{ وإن تدعوهم } يعني : المشركين { إلى الهدى لا يتبعوكم } الآية .
{ إن الذين تدعون من دون الله } يعني : الأصنام { عباد } مملوكون مخلوقون { أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم } فاعبدوهم هل يثيبونكم أو يجازونكم !؟ { إن كنتم صادقين } أن لكم عند الأصنام منفعة ، أو ثوابا ، أو شفاعة ، ثم بين فضل الآدمي عليهم فقال :
{ ألهم أرجل يمشون بها } مشي بني آدم { أم لهم أيد يبطشون بها } يتناولون بها مثل بطش بني آدم { أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها قل ادعوا شركاءكم } الذين تعبدون من دون الله { ثم كيدون } أنتم وشركاؤكم { فلا تنظرون } لا تمهلون واعجلوا في كيدي .
{ إن وليي الله } الذي يتولى حفظي ونصري { الذي نزل الكتاب } القرآن { وهو يتولى الصالحين } الذين لا يعدلون بالله شيئا . وقوله :
{ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون}.
{ وتراهم ينظرون إليك } تحسبهم يرونك { وهم لا يبصرون } وذلك لأن لها أعينا مصنوعة مركبة بالجواهر ، حتى يحسب الإنسان أنها تنظر إليه .
{ خذ العفو } اقبل الميسور من أخلاق الناس ، ولا تستقص عليهم . وقيل : هو أن يعفو عمن ظلمه ، ويصل من قطعه { وأمر بالعرف } المعروف الذي يعرف حسنة كل أحد . { وأعرض عن الجاهلين } لا تقابل السفيه بسفهه ، فلما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كيف يا رب والغضب ؟ فنزل :
{ وإما ينزغنك من الشيطان نزغ } يعرض لك من الشيطان عارض ، ونالك منه أدنى وسوسة { فاستعذ بالله } اطلب النجاة من تلك البلية بالله { إنه سميع } لدعائك { عليم } عالم بما عرض لك .
{ إن الذين اتقوا } يعني : المؤمنين { إذا مسهم } أصابهم { طائف من الشيطان } عارض من وسوسته { تذكروا } استعاذوا بالله { فإذا هم مبصرون } مواقع خطئهم ، فينزعون من مخالفة الله .
{ وإخوانهم } يعني : الكفار ، وهم إخوان الشياطين { يمدونهم } أي : الشياطين يطولون لهم الإغواء والضلالة { ثم لا يقصرون } عن الضلالة ولا يبصرونها ، كما أقصر المتقي عنها حين أبصرها .
{ وإذا لم تأتهم } يعني : أهل مكة { بآية } سألوكها { قالوا لولا اجتبيتها } اختلقتها وأنشأتها من قبل نفسك { قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي } أي : لست آتي بالآيات من قبل نفسي . { هذا } أي : هذا القرآن الذي أتيت به { بصائر من ربكم } حجج ودلائل تعود إلى الحق .
{ وإذا قرأ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون } الآية نزلت في تحريم الكلام في الصلاة ، وكانوا يتكلمون في الصلاة في بدء الأمر . وقيل : نزلت في ترك الجهر بالقراءة وراء الإمام . وقيل : نزلت في السكوت للخطبة ، وقوله : { وأنصتوا } أي : عما يحرم من الكلام في الصلاة ، أو عن رفع الصوت خلف الإمام ، أو اسكتوا لاستماع الخطبة .
{ واذكر ربك في نفسك } يعني : القراءة في الصلاة { تضرعا وخيفة } استكانة لي وخوفا من عذابي { ودون الجهر } دون الرفع { من القول بالغدو والآصال } بالبكر والعشيات . أمر أن يقرأ في نفسه في صلاة الإسرار ، ودون الجهر فيما يرفع به الصوت { ولا تكن من الغافلين } الذين لا يقرؤون في صلاتهم .
{ إن الذين عند ربك } يعني : الملائكة ، وهم بالقرب من رحمة الله { لا يستكبرون عن عبادته } أي : هم مع منزلتهم ودرجتهم يعبدون الله . كأنه قيل : من هو أكبر منك أيها الإنسان لا يستكبر عن عبادة الله { ويسبحونه } ينزهونه عن السوء { وله يسجدون } .