مكية غير ثمان آيات من قوله : " واسألهم " إلى قوله : " وإذ نتقنا الجبل " محكمة كلها. وقيل إلا قوله : " وأعرض عن الجاهلين " وآيه مائتان وخمس أو ست آيات . 1." المص"سبق الكلام في مثله .
2."كتاب" خبر مبتدأ محذوف أي هو كتاب ، أو خبر "المص" والمراد به السورة أو القرآن . " أنزل إليك " صفته . " فلا يكن في صدرك حرج منه " أي شك ، فإن الشك حرج الصدر أو ضيق قلب من تبليغه مخافة أن تكذب فيه ، أو تقصر في القيام بحقه ، وتوجيه النهي إليه للمبالغة كقولهم : لا أرينك ها هنا . والفاء تحتمل العطف والجواب فكأنه قيل : إذا نزل إليك لتنذر به فلا يحرج صدرك . " لتنذر به " متعلق بأنزل أو بلا يكن لأنه إذا أيقن أنه من عند الله جسر على الإنذار ، وكذا إذا لم يخفهم أو علم أنه موفق للقيام بتبليغه . "وذكرى للمؤمنين " يحتمل النصب بإضمار فعلها أي : لتنذر وتذكر ذكرى فإنها بمعنى التذكير ، والجر عطفاً على محل تنذر والرفع عطفاً على كتاب أو خبراً لمحذوف ..
3. "اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم " يعم القرآن والسنة لقوله سبحانه وتعالى : " وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى " " ولا تتبعوا من دونه أولياء " يضلونكم من الجن والإنس . وقيل الضمير في "من دونه" لـ"ما أنزل " أي : ولا تتبعوا من دون دين الله دين أولياء . وقرئ " ولتبتغوا " "قليلا ما تذكرون " أي تذكراً قليلاً أو زماناً قليلاً تذكرون حيث تتركون دين الله وتتبعون غيره ، و"ما " مزيدة لتأكيد القلة وإن جعلت مصدرية لم ينتصب " قليلاً" بـ"تذكرون " . وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم "تذكرون " بحذف التاء ، وابن عامر "يتذكرون "على أن الخطاب بعد مع النبي صلى الله عليه وسلم . .
4." وكم من قرية" وكثيراً من القرى . "أهلكناها " أردنا إهلاك أهلها ، أو أهلكناها بالخذلان . " فجاءها " فجاء أهلها . " بأسنا " عذابنا . " بياتاً" بائتين كقوم لوط ، مصدر وقع موقع الحال . " أو هم قائلون " عطف عليه أي قائلين نصف النهار كقوم شعيب ، وإنما حذفت واو الحال استثقالاً لاجتماع حرفي التعبيرين مبالغة في غفلتهم وأمنهم من العذاب ، ولذلك خص الوقتين ولأنهما وقت دعة واستراحة فيكون مجيء العذاب فيهما أفظع . .
5."فما كان دعواهم" أي دعاؤهم واستغاثتهم ، أو ما كانوا يدعونه من دينهم . " إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين " إلا اعترافهم بظلمهم فيما كانوا عليه وبطلانه تحسراً عليهم ..
6."فلنسألن الذين أرسل إليهم " عن قبول الرسالة وإجابتهم الرسل . " ولنسألن المرسلين " عما أجيبوا به ، والمراد عن هذا السؤال توبيخ الكفرة وتقريعهم ، والمنفي في قوله : " ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون " سؤال استعلام . أو الأول في موقف الحساب وهذا عند حصولهم على العقوبة .
7."فلنقصن عليهم " على الرسل حين يقولون " لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب " ، أو على الرسل والمرسل إليهم ما كانوا عليه . " بعلم " عالمين بظواهر هم وبواطنهم ، أو بمعلومنا منهم . " وما كنا غائبين " عنهم فيخفى علينا شيء من أحوالهم ..
8. "والوزن " أي القضاء ، أو وزن الأعمال وهو مقابلتها بالجزاء . والجمهور على أن صحائف الأعمال توزن بميزان له لسان وكفتان ، ينظر إليه الخلائق إظهاراً للمعدلة وقطعاً للمعذرة ، كما يسألهم عن أعمالهم فتعترف بها ألسنتهم وتشهد بها جوارحهم . ويؤيده ما روي : أن الرجل يؤتى به إلى الميزان فينشر عليه تسعة وتسعون سجلاً كل سجل مد البصر ن فيخرج له بطاقة فيها كلمتا الشهادة فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة . وقيل توزن الأشخاص لما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال: "إنه ليأتي العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة". "يومئذ " خبر المبتدأ الذي هو الوزن . " الحق " صفته ، أو خبر محذوف ومعناه العدل السوي ." فمن ثقلت موازينه " حسناته ، أو ما يوزن به حسناته فهو جمع موزون أو ميزان وجمعه باعتبار اختلاف الموزونات وتعدد الوزن . " فأولئك هم المفلحون " الفائزون بالنجاة والثواب ..
9. "ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم " بتضييع الفطرة السليمة التي فطرت عليها ، واقتراف ما عرضها للعذاب. "بما كانوا بآياتنا يظلمون " فيكذبون بدل التصديق . .
10. "ولقد مكناكم في الأرض " أي مكناكم من سكناها وزرعها والتصرف فيها . " وجعلنا لكم فيها معايش " أسبابا تعيشون بها ، جمع معيشة . وعن نافع أنه همزه تشبيهاً بما الياء فيه زائدة كصحائف . " قليلاً ما تشكرون " فيما صنعت إليكم ..
11."ولقد خلقناكم ثم صورناكم" أي خلقنا أباكم آدم طيناً غير مصور ثم صورناه . نزل خلقه وتصويره منزلة خلق الكل وتصويره ، أو ابتدأنا خلقكم ثم تصويركم بأن خلقنا آدم ثم صورناه . "ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم " وقيل ثم لتأخير الإخبار . " فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين " ممن سجد لآدم . .
12. " قال ما منعك أن لا تسجد " أي أن تسجد ولا صلة مثلها في لئلا يعلم ، مؤكدة معنى الفعل الذي دخلت عليه ، ومنبهة على أن الموبخ عليه ترك السجود. وقيل الممنوع عن الشيء مضطر إلى خلافه فكأنه قيل : ما اضطرك إلى ألا تسجد. " إذ أمرتك " دليل على أن مطلق الأمر للوجوب والفور. " قال أنا خير منه " جواب من حيث المعنى استأنف به استبعاداً لأن يكون مثله مأموراً بالسجود لمثله كأنه قال : المانع أني خير منه ، ولا يحسن للفاضل أن يسجد للمفضول ، فكيف يحسن أن يؤمر به . فهو الذي سن التكبر وقال بالحسن والقبح العقليين أولاً . " خلقتني من نار وخلقته من طين " تعليل لفضله عليه ، وقد غلط في ذلك بأن رأى الفضل كله باعتبار العنصر وغفل عما يكون باعتبار الفاعل كما أشار إليه بقوله تعالى : " ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي " أي بغير واسطة ، وباعتبار الصورة كما نبه عليه بقوله "ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين " وباعتبار الغاية وهو ملاكه ولذلك أمر الملائكة بسجوده لما بين لهم أنه أعلم منهم ، وأن له خواص ليست لغيره ، والآية دليل الكون والفساد وأن الشياطين أجسام كائنة، ولعل إضافة خلق الإنسان إلى الطين والشيطان إلى النار باعتبار الجزء الغالب. .
13."قال فاهبط منها " من السماء أو الجنة . " فما يكون لك " فما يصح . " أن تتكبر فيها " وتعصي فإنها مكان الخاشع والمطيع . وفيه تنبيه على أن التكبر لا يليق بأهل الجنة وأنه سبحانه وتعالى إنما طرده وأهبطه لتكبره لا لمجرد عصيانه. " فاخرج إنك من الصاغرين " ممن أهانه الله لتكبره ، قال عليه الصلاة والسلام " من تواضع رفعه الله ومن تكبر وضعه الله "..
14."قال أنظرني إلى يوم يبعثون " أمهلني إلى يوم القيامة فلا تمتني ،أو لا تعجل عقوبتي . .
15." قال إنك من المنظرين " يقتضي الإجابة إلى ما سأله ظاهر اً لكنه محمول على ما جاء مقيداً بقوله تعالى : " إلى يوم الوقت المعلوم " وهو النفخة الأولى ، أ, وقت يعلم الله انتهاء أجله فيه ، وفي إسعافه إليه ابتلاء العباد وتعريضهم للثواب بمخالفته ..
16. " قال فبما أغويتني " أي بعد أن أمهلتني لاجتهدن في إغوائهم بأي طريق يمكنني بسبب إغوائك إياي بواسطتهم تسمية ، أو حملاً على الغي ، أو تكليفاً بما غويت لأجله والباء متعلقة بفعل القسم المحذوف لا أقعدن فإن اللام تصد عنه وقيل الباء للقسم : "لأقعدن لهم " ترصداً بهم كما يقعد القطاع للسابلة . " صراطك المستقيم " طريق الإسلام ونصبه على الظرف كقوله: لدن بهز الكف يعسل متنه فيه كما عسل الطريق الثعلب وقيل تقديره على صراطك كقولهم : ضرب زيد الظهر والبطن . .
17."ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم " أن من جميع الجهات الأربع . مثل قصده إياهم بالتسويل والإضلال من أي وجه يمكنه بإتيان العدو من الجهات الأربع ، ولذلك لم يقل من فوقهم ومن تحت أرجلهم . وقيل لم يقل من فوقهم لأن الرحمة تنزل منه ولم يقل من تحتهم لأن الإتيان منه يوحش الناس . وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : من بين أيديهم من قبل الآخرة ، ومن خلفهم من قبل الدنيا ، وعن أيمانهم وعن شمائلهم من جهة حسناتهم وسيئاتهم . ويحتمل أن يقال من بين أيديهم من حيث يعلمون ويقدرون على التحرز عنه ، ومن خلفهم من حيث لا يعلمون ولا يقدرون ، وعن أيمانهم وعن شمائلهم من حيث يتيسر لهم أن يعلموا ويتحرزوا ولكن لم يفعلوا لعدم تيقظهم واحتياطهم . وإنما عدى الفعل إلى الأولين بحرف الابتداء لأنه منهما موجة إليهم وإلى الأخيرين بحرف المجاوزة فإن الآتي منهما كالمنحرف عنهم المار على عرضهم ، ونظيره قولهم جلست عن يمينه ." ولا تجد أكثرهم شاكرين " مطيعين ، وإنما قاله ظناً لقوله تعالى : " ولقد صدق عليهم إبليس ظنه " لما رأى فيهم مبدأ الشر متعدداً ومبدأ الخير واحداً ن وقيل سمعه من الملائكة. .
18." قال اخرج منها مذؤوما " مذموماً من ذأمه . وقرئ " مذؤوما " كمسول في مسؤول أو كمكول في مكيل ن من ذامه يذيمه ذيماً . " مدحوراً " مطروداً . " لمن تبعك منهم " اللام فيه لتوطئة القسم وجوابه . "لأملأن جهنم منكم أجمعين " وهو ساد مسد جواب الشرط. وقرئ " لمن " بكسر اللام على أنه خبر لأملأن على معنى : لمن تبعك هذا الوعيد ، أو علة لأخرج ولأملأن جواب قسم محذوف ومعنى منكم ومنهم فغلب المخاطب ..
19. " ويا آدم " أي وقلنا يا آدم ." اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة" وقرئ هذي وهو الأصل لتصغيره على ذيا والهاء بدل من الياء . " فتكونا من الظالمين " فتصيرا من الذين ظلموا أنفسهم ، وتكونا يحتمل الجزم على العطف والنصب على الجواب . .
20." فوسوس لهما الشيطان " أي فعل الوسوسة لأجلهما ،وهي في الأصل الصوت الخفي كالهينمة والخشخشة ومنه وسوس الحلي . وقد سبق في سورة البقرة كيفية وسوسته . " ليبدي لهما " ليظهر لهما ، وللام للعاقبة أو للغوض على أنه أراد أيضاً بوسوسته أن يسوأهما بانكشاف عورتيهما ، ولذلك عبر عنهما بالسوأة . وفيه دليل على أن كشف العورة في الخلوة وعند الزوج من غير حاجة قبيح مستهجن في الطباع . " ما وري عنهما من سوآتهما " ما غطي عنهما من عوراتهما وكانا لا يريانها من أنفسهما ولا أحدهما من الآخر ، وإنما لم تقلب الواو المضمومة همزة في المشهور كما قلبت في أو يصل تصغير واصل لأن الثانية مدة وقرئ "سوآتهما " بحذف الهمزة والقاء حركتها على الواو وسوآتهما بقلبها واواً وإدغام الساكنة فيها . " وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا " إلا كراهة أن تكونا . " ملكين أو تكونا من الخالدين " الذين لا يموتون أو يخلدون في الجنة ، واستدل به على فضل الملائكة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وجوابه : أنه كان من المعلوم أن الحقائق لا تنقلب وإنما كانت رغبتهما في أن يحصل لهما أيضاً ما للملائكة من الكمالات الفطرية، والاستغناء عن الأطعمة والأشربة ، وذلك لا يدل على فضلهم مطلقاً ..
21." وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين " أي أقسم لهما على ذلك ، وأخرجه على زنه المفاعلة للمبالغة . وقيل أقسما له بالقبول . وقيل أقسما عليه بالله أنه لمن الناصحين فأقسم لهما فجعل ذلك مقاسمة . .
22."فدلاهما " فنزلهما إلى الأكل من الشجرة ، نبه به على أنه أهبطهما بذلك من درجة عالية إلى رتبة سافلة، فإن التدلية والإدلاء إرسال الشيء من أعلى إلى أسفل. "بغرور " بما غرهما به من القسم فإنهما ظنا أن أحداً لا يحلف بالله كاذباً ، أو ملتبسين بغرور . " فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما " أي فلما وجدا طعمهما آخذين في الأكل منها أخذتهما العقوبة وشؤم المعصية ،فتهافت عنهما لباسهما وظهرت لهما عوراتهما. واختلف في أن الشجرة كانت السنبلة أو الكرم أو غيرهما ، وأن اللباس كان نوراً أو حلة أو ظفراً . " وطفقا يخصفان " أخذا يرقعان ويلزقان ورقة فوق ورقة. "عليهما من ورق الجنة" قيل كان ورق التين ، وقرئ "يخصفان " من أخصف أي يخصفان أنفسهما ويخصفان منخصف ويخصفان وأصله يختصفان ." وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين "عتاب على مخلفة النهي ، وتوبيخ على الاغترار بقول العدو . وفيه دليل على أن مطلق النهي للتحريم . .
23." قالا ربنا ظلمنا أنفسنا " أضررناها بالمعصية والتعريض للإخراج من الجنة . " وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين " دليل على أن الصغائر معاقب عليها إن لم تغفر ،وقالت المعتزلة لا يجوز المعاقبة عليها مع اجتناب الكبائر ولذلك قالوا :إنما قالا ذلك على عادة المقربين في استعظام الصغير من السيئات واستحقار العظيم من الحسنات .
24." قال اهبطوا " الخطاب لآدم وحواء وذريتنها، أولهما ولإبليس . كرر الأمر له تبعاً ليعلم أنهم قرناء أبداً وأخبر عما قال لهم متفرقاً . " بعضكم لبعض عدو " في موضع الحال أي متعادين . " ولكم في الأرض مستقر " استقرار أن موضع استقرار. " ومتاع " وتمتع. " إلى حين " إلى أن تقضى آجالكم .
25. " قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون " للجزاء وقرأ حمزةوالكسائي وابن ذكوان " ومنها تخرجون " ، وفي ((الزخرف )) كذلك "تخرجون " بفتح التاء وضم الراء ..
26. " يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا " أي خلقناه لكم بتدبيرات سماوية وأسباب نازلة ، ونظيره قوله تعالى : " وأنزل لكم من الأنعام " وقوله تعالى : " وأنزلنا الحديد" ." يواري سوآتكم " التي قصد الشيطان إبداءها ، ويغنيكم عن خصف الورق . روي : أن العرب كانوا يطوفون بالبيت عراة ويقولون لا نطوف في ثياب عصينا الله فيها ، فنزلت . ولعله ذكر قصة آدم مقدمة لذلك حتى يعلم أن انكشاف العورة أول سوء أصاب الإنسان من الشيطان ، وأنه أغواهم في ذلك كما أغوى أبويهم. " وريشاً " ولباساً تتجملون به ،والريش الجمال . وقيل ملاً ومنه تر يش الرجل إذا تمول . وقرئ رياشاً وهو جمع ريش كشعب وشعاب . " ولباس التقوى " خشية الله . وقيل الإيمان . وقيل السمت الحسن . وقيل لباس الحرب ورفعه بالابتداء وخبره : " ذلك خير " أو خبر وذلك صفته كأنه قيل :ولباس التقوى المشار إليه خير . وقرأ نافع وابن عامر والكسائي " ولباس التقوى " بالنصب عطفاً على " لباساً" "ذلك " أي إنزال اللباس . " من آيات الله " الدالة على فضله ورحمته . " لعلهم يذكرون " فيعرفون نعمته أو يتعظون فيتورعون عن القبائح .
27. " يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان " لا يمتحننكم بأن يمنعكم دخول الجنة بإغوائكم . " كما أخرج أبويكم من الجنة" كما محن أبويكم بأن أخرجهما منها . والنهي في اللفظ للشيطان ، والمعنى نهمهم عن اتباعه والافتنان به . " ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما " حال من " أبويكم " أو من فاعل " أخرج "وإسناد النزع إليه للتسبب. " إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم " تعليل للنهي وتأكيد للتحذير من فتنته ، وقبيله جنوده ورؤيتهم إيانا من حيث لا نراهم في الجملة لا تقتضي امتناع رؤيتهم وتمثلهم لنا . " إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون " بما وجدنا بينهم من التناسب ، أو بإرسالهم عليهم وتمكينهم من خذلانهم وحملهم على ما سولوا لههم . والآية مقصود القصة وفذلكة الحكاية .
28. " وإذا فعلوا فاحشةً" فعلة متناهية في القبح كعبادة الصنم وكشف العورة في الطواف . " قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها " اعتذروا واحتجوا بأمرين تقليد الآباء والافتراء على الله سبحانه وتعالى ، فأعرض عن الأول لظهور فساده ورد الثاني بقوله . " قل إن الله لا يأمر بالفحشاء " لأن عادته سبحانه وتعالى جرت على الأمر بمحاسن الأفعال ، والحث على مكارم الخصال . ولا دلالة عليه على أن أقبح الفعل بمعنى ترتب الذم عليه آجلاً عقلي ، فإن المراد بالفاحشة ما ينفر عنه الطبع السليم ويستنقصه العقل المستقيم . وقيل هما جوابا سؤالين مترتبين كأنه قيل لهم لما فعلوها. لم فعلتم ؟ فقالوا : وجدنا عليها آباءنا . فقيل ومن أين أخذ آباؤكم ؟ فقالوا : الله أمرنا بها . وعلى الوجهين يمتنع التقليد إذا قام الدليل على خلافه لا مطلقاً ." أتقولون على الله ما لا تعلمون "إنكار يتضمن النهي عن الافتراء على الله تعالى .
29. " قل أمر ربي بالقسط " بالعدل وهو الوسط من كل أمر المتجافي عن طرفي الإفراط والتفريط. " وأقيموا وجوهكم " وتوجهوا إلى عبادته مستقيمين غير عادلين إلى غيرها، أو أقيموها نحو القبلة . " عند كل مسجد" في كل وقت سجود أو مكانه وهو الصلاة ، أو في أي مسجد حضرتكم الصلاة ولا تؤخروها حتى تعودوا إلى مساجدكم . " وادعوه " واعبدوه . " مخلصين له الدين " أي الطاعة فإن إليه مصيركم ." كما بدأكم " كما أنشأكم ابتداء . " تعودون " بإعادته فيجازيكم على أعمالكم فأخلصوا له العبادة ، وإنما تشبه الإعادة بالإبداء تقريراً لإمكانها والقدرة عليها . وقيل كما بدأكم من التراب تعودوه إليه . وقيل كما بدأكم حفاة عراة تهودون . وقيل كما بدأكم مؤمناً وكافراً يعيدكم .
30. " فريقاً هدى " بأن وفقهم للإيمان ز " وفريقاً حق عليهم الضلالة " بمقتضى القضاء السابق. وانتصابه بفعل يفسره ما بعده أي وخذل فريقاً . " إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله " تعليل لخذلانههم أو تحقيق لضلالهم . " ويحسبون أنهم مهتدون " يدل على أن الكافر المخطئ والمعاند سواء في استحقاق الذم ، وللفارق أن يحمله على المقصر في المنظر .
31. " يا بني آدم خذوا زينتكم " ثيابكم لمواراة عورتكم . " عند كل مسجد " لطواف أو صلاة ، ومن السنة أن يأخذ الرجل أحسن هيئة للصلاة ، وفيه دليل على وجوب ستر العورة في الصلاة. " وكلوا واشربوا " ما طاب لكم . روي : أن بني عامر في أيام حجهم كانوا لا يأكلون الطعام إلا قوتاً ولا يأكلون دسماً يعظمون بذلك حجهم فهم المسلمون به ، فنزلت . " ولا تسرفوا " بتحريم الحلال ، أن بالتعدي إلى الحرام ، أو بإفراط الطعام والشره عليه . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : كل ما شئت ، ولبس ما شئت ، ما أخطأتك خصلتان سرف ومخيلة. وقال علي بن الحسين بن واقد : قد جمع الله الطب في نصف آية فقال :" كلوا واشربوا ولا تسرفوا " " إنه لا يحب المسرفين " أي لا يرتضي فعلهم .
32."قل من حرم زينة الله " من الثياب وسائر ما يتجمل به . " التي أخرج لعباده " من النبات كالقطن والكتان ، والحيوان كالحرير والصوف ن والمعادن كالدروع : " والطيبات من الرزق " المستلذات من المآكل والمشارب. وفيه دليل على أن الأصل في المطاعم والملابس وأنواع التجملات الإباحة ، لأن الاستفهام في من للإنكار . " قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا " بالأصالة والكفرة وإن شاركوهم فيها فتبع . " خالصة يوم القيامة" لا يشاركهم فيها غيرهم ، وانتصابها على الحال . وقرا نافع بالرفع على أنها خبر بعد خبر . "كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون " أي كتفصيلنا هذا الحكم نفصل سائر الأحكام لهم .
33. " قل إنما حرم ربي الفواحش" ما تزايد قبحه ، وقيل ما يتعلق بالفروج . " ما ظهر منها وما بطن " جهرها وسرها . " والإثم " وما يوجب الإثم تعميم بعد تخصيص وقيل شرب الخمر . " والبغي " الظلم ، أو الكبر أفرده بالذكر للمبالغة . " بغير الحق " متعلق بالبغي مؤكد له معنى . " وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ً " تهكم بالمشركين ن وتنبيهه على تحريم اتباع ما لم يدل عليه برهان. " وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون " بالإلحاد في صفاته سبحانه وتعالى ، والافتراء عليه كقولهم " الله أمرنا بها " .
34. " ولكل أمة أجل "مدة ، أو وقت نزول العذاب بهم وهو وعيد لأهل مكة. " فإذا جاء أجلهم " انقرضت مد تهم ،أو حان وقتهم . " لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون " أي لا يتأخرون ولا يتقدمون أقصر وقت ، أو لا يطلبون التأخر والتقدم لشدة الهول .
35. " يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي " شرط ذكره بحرف الشك للتنبيه على أن إتيان الرسل أمر جائز غير واجب كما ظنه أهل التعليم ، وضمت إليها ما لتأكيد معنى الشرط ولذلك أكد فعلها بالنون وجوابه : " فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون " .
36. " والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " والمعنى فمن اتقى التكذيب وأصلح عمله منكم والذين كذبوا بآياتنا منكم وإدخال الفاء في الخبر الأول دون الثاني للمبالغة في الوعد والمسامحة في الوعيد.
37. " فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بآياته " ممن تقول على الله ما لم يقله أو كذب ما قاله . " أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب " مما كتب لهم من الأرزاق والآجال. وقيل الكتاب اللوح المحفوظ أي مما أثبت لهم فيه ز " حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم " أي يتوفون أرواحهم ، وهو حال من الرسل وحتى غاية لنيلهم وهي التي يبتدأ بعدها الكلام . " قالوا " جواب إذا " أين ما كنتم تدعون من دون الله " أي أين الآلهة التي كنتم تعبدونها ، وما وصلت بأين في خط المصحف وحقها الفصل لأنها موصولة . " قالوا ضلوا عنا" غابوا عنا . " وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين " اعترفوا بأنهم كانوا ضالين فيما كانوا عليه .
38. " قال ادخلوا " أي قال الله تعالى لهم يوم القيامة، أو أحد من الملائكة . " في أمم قد خلت من قبلكم " أي كائنين في جملة أمم مصاحبين لهم يوم القيامة . " من الجن والإنس " يعني كفار الأمم الماضية عن النوعين . " في النار " متعلق بادخلوا . " كلما دخلت أمة " أي في النار " لعنت أختها " التي ضلت بالاقتداء بها . " حتى إذا اداركوا فيها جميعاً " أي تداركوا وتلاحقوا واجتمعوا في النار ز " قالت أخراهم" دخولا ً أو منزلة وهم الاتباع . " لأولاهم " أي لأجل أولاهم إذ الخطاب مع الله لا معهم . " ربنا هؤلاء أضلونا " سنوا لنا الضلال فاقتدينا بهم " فآتهم عذاباً ضعفاً من النار " مضاعفاً لأنهم ضلوا وأضلوا. " قال لكل ضعف " أما القادة فبكفرهم وتضليلهم ، وأما الأتباع فبكفرهم وتقليدهم. " ولكن لا تعلمون " مالكم أو ما لكل فريق . وقرأعاصم بالياء على الانفصال.
39. " وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل " عطفوا كلامهم على جواب الله سبحانه وتعالى " لأخراهم " ورتبوه عليه أي فقد ثبت أن لا فضل لكم علينا وإنا وإياكم متساوون في الضلال واستحقاق العذاب . " فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون " من قول القادة أو من قول الفريقين
40. " إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها " أي عن الإيمان بها . " لا تفتح لهم أبواب السماء " لأدعيتهم وأعمالهم ، أو لأزواجهم كما تفتح لأعمال المؤمنين وأرواحهم لتتصل بالملائكة . والتاء في تفتح لتأنيث غير الأبواب والتشديد لكثرتها. وقرأ أبو عمرو بالتخفيف و حمزة والكسائي به وبالياء ، لأن التأنيث غير حقيقي والفعل مقدم . وقرئ على البناء للفاعل ونصب الأبواب بالتاء على أن الفعل للآيات وبالياء لأن الفعل لله. " ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط " أي حتى يدخل ما هو مثل في عظم الجرم وهو البعير فيما هو مثل في ضيق المسلك وهو ثقبة الإبرة ، وذلك مما لا يكون فكذا ما يتوقف عليه . وقرئ " الجمل " كالقمل ، والجمل كالنغر والجمل كالقفل ، والجمل كالنصب ، والجمل كالحبل وهو الحبل الغليظ من القنب ، وقيل حبل السفينة. وسم بالضم والكسر وفي سم المخيط وهو والخياط ما يخاط به كالحزام والمحزم . " وكذلك " ومثل ذلك الجزاء الفظيع . " نجزي المجرمين " .
41." لهم من جهنم مهاد " فراش . " ومن فوقهم غواش" أغطية ، والتنوين فيه للبدل عن الإعلال عند سيبويه ، وللصرف عند عيره ، وقرئ " غواش " على إلغاء المحذوف . " وكذلك نجزي الظالمين " عبر عنهم بالمجرمين تارة وبالظالمين أخرى إشعاراً بتكذيبهم الآيات اتصفوا بهذه الأوصاف الذميمة ، وذكر الجرم مع الحرمان من الجنة والظلم مع التعذيب بالنار تنبيهاً على أنه أعظم الإجرام .
42. " والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفسا إلا وسعها أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون " على عادته سبحانه وتعالى في أن يشفع الوعيد بالوعد ، ولا نكلف نفساً إلا وسعها اعترض بين المبتدأ وخبره للترغيب في اكتساب النعيم المقيم بما تسعه طاقتهم ويسهل عليهم . وقرئ لا تكلف نفس .
43. " ونزعنا ما في صدورهم من غل " أي نخرج من قلوبهم أسباب الغل ، أو نطهرها منه حتى لا يكون بينهم إلا التواد . وعن علي كرم الله وجهه : إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير منهم . " تجري من تحتهم الأنهار"زيادة في لذتهم وسرورهم . " وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا " لما جزاؤه هذا . " وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله " لولا هداية الله وتوفيقه ، واللام لتوكيد النفي وجواب لولا محذوف دل عليه ما قبله . وقرأ ابن عامر "ما كنا " بغير واو على أنها مبينة للأولى . " لقد جاءت رسل ربنا بالحق " فاهتدينا بإرشادهم . يقولون ذلك اعتباطاً وتبجحاً بأن ما علموه يقيناً في الدنيا صار لهم قين اليقين في الآخرة . " ونودوا أن تلكم الجنة " إذا رأوها من بعيد ، أو بعد دخولها والمنادى له بالذات . " أورثتموها بما كنتم تعملون " أي أعطيتموها بسبب أعمالكم ، وهو حال من الجنة والعامل فيها معنى الإشارة , أو خبر والجنة صفة تلكم وأن في المواقع الخمسة هي المخففة أو المفسرة لأن المناداة والتأذين من القول .
44. " ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً " إنما قالوه تبجحاً بحالهم وشماتة بأصحاب النار وتحسيراً لهم وإنما لم يقل ما وعدكم كما قال " ما وعدنا " لأن ما ساءهم من الموعود لم يكن بأسره مخصوصاً وعده بهم ، كالبعث والحساب ونعيم أهل الجنة. " قالوا نعم " وقرأ الكسائي بكسر العين وهما لغتان . " فأذن مؤذن " قيل هو صاحب الصور . " بينهم " بين الفريقين ، " أن لعنة الله على الظالمين " وقرأ ابن كثير في رواية للبزي وابن عامر وحمزة والكسائي "أن لعنة الله " بالتسديد والنصب قرئ " إن " بالكسر على إرادة القول أو إجراء أذن مجرى قال .
45."الذين يصدون عن سبيل الله " صفة للظالمين مقررة ، أو ذم مرفوع أو منصوب . " ويبغونها عوجاً " زيغاً ميلاً عما هو عليه ، والعرج بالكسر في المعاني والأعيان ما لم تكن منتصبة، وبالفتح ما كان في المنتصبة، كالحائط والرمح . " وهم بالآخرة كافرون " .
46. " وبينهما حجاب " أي بين الفريقين لقوله تعالى : " فضرب بينهم بسور " أو بين الجنة والنار ليمنع وصول أثر إحداهما إلى الأخرى . " وعلى الأعراف " وعلى أعراف الحجاب أي أعاليه ، وهو السور المضروب بينهما جمع عرف مستعار من عرف الفرس وقيل العرف ما ارتفع من الشيء فإنه يكون لظهوره أعرف من غيره . " رجال " طائفة من الموحدين قصروا في العمل فيحبسون بين الجنة والنار حتى يقضي الله سبحانه وتعالى فيهم ما يشاء وقيل عيل قوم علت درجاتهم كالأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، أو الشهداء رضي الله تعالى عنهم ، أو خيار المؤمنين وعلمائهم ، أو ملائكة يرون في صورة الرجال . " يعرفون كلاً " من أهل الجنة والنار . " بسيماهم " بعلامتهم التي أعلمهم الله بها كبياض الوجه وسواده ، فعل من سام إبله إذا أرسلها في المرعى معلمة ، أو من وسم على القلب كالجاه من الوجه ، وإنما يعرفون ذلك بالإلهام أو تعليم الملائكة . " ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم " أي إذا نظروا إليهم سلموا عليهم . " لم يدخلوها وهم يطمعون " حل من الواو على الوجه الأول ومن أصحاب على الوجوه الباقية .
47. " وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا " نعوذ بالله . " ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين " أي في النار .
48. " ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم " من رؤساء الكفرة . " قالوا ما أغنى عنكم جمعكم " كثرتكم أو جمعكم المال . " وما كنتم تستكبرون " عن الحق ، أو على الخلق . وقرئ (تستكبرون ) من الكثرة .
49."أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة " من تتمة قولهم للرجال ، والإشارة إلى ضعفاء أهل الجنة الذين كانت الكفرة يحتقرونهم في الدنيا ويحلفون أن الله لا يدخلهم الجنة" ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون " أي فالتفتوا إلى أصحاب الجنة وقالوا لهم ادخلوا وهو أوفق للوجوه الأخيرة ، أو فقيل لأصحاب الأعراف ادخلوا الجنة بفضل الله سبحانه وتعالى بعد أن حبسوا حتى أبصروا الفريقين وعرفوهم وقالوا لهم ما قالوا . قيل لما عيروا أصحاب النار أقسموا أن أصحاب الأعراف لا يدخلون الجنة فقال الله سبحانه وتعالى أو بعض الملائكة هؤلاء الذين أقسمتم . وقرئ " ادخلوا " و((دخلوا )) على الاستئناف وتقديره دخلوا الجنة مقولاً لهم " لا خوف عليكم " .
50. " ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء " أي صبوه ،وهو دليل على أن الجنة فوق النار . " أو مما رزقكم الله " من سائر الأشربة ليلائم الإفاضة ، أو من الطعام كقوله : علفتها تبناً وماء بارداً . " قالوا إن الله حرمهما على الكافرين " منعهما عنهم منع المحرم من المكلف.
51. " الذين اتخذوا دينهم لهوا ً ولعباً " كتحريم البحيرة والتصدية والمكاء حول البيت واللهو صرف الهم بما لا يحسن أن يصرف به ، واللعب طلب الفرح بما لا يحسن أن يطلب به . " وغرتهم الحياة الدنيا فاليوم ننساهم " نفعل بهم فعل الناسين فنتركهم في النار . " كما نسوا لقاء يومهم هذا " فلم يخطروه ببالهم ولم يستعدوا له . " وما كانوا بآياتنا يجحدون " وكما كانوا منكرين أنها من عند الله .
52. " ولقد جئناهم بكتاب فصلناه " بينا معانيه من العقائد والأحكام والمواعظ مفصلة. " على علم " عالمين بوجه تفصيله حتى جاء حكيماً ، وفيه دليل على أنه سبحانه وتعالى عالم بعلم ، أو مشتملاً على علم فيكون حالاً من المفعول .وقرئ (فضلناه) أي على سائر الكتب عالمين بأنه حقيق بذلك . " هدىً ورحمةً لقوم يؤمنون " حال من الهاء .
53. " هل ينظرون " ينتظرون . " إلا تأويله " إلا يؤول إليه أمره من تبين صدقه بظهور ما نطق به من الوعد والوعيد. . " يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل " تركوه ترك الناسي ." قد جاءت رسل ربنا بالحق " أي قد تبين أنهم جاؤوا بالحق . " فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا " اليوم . " أو نرد " أو هل نرد إلى الدنيا .وقرئ بالنصب عطفاً على " فيشفعوا " ، أو لأن " أو" بمعنى إلى أن فعلى الأول المسؤول أحد الأمرين الشفاعة أن ردهم إلى الدنيا ، وعلى الثاني أن يكون لهم شفعاء إما لأحد الأمرين أو لأمر واحد وهو الرد ." فنعمل غير الذي كنا نعمل " جواب الاستفهام الثاني وقرئ بالرفع أي فنحن نعمل . " قد خسروا أنفسهم " بصرف أعمارهم في الكفر . " وضل عنهم ما كانوا يفترون " بطل عنهم فلم ينفعهم .
54."إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام " أي في ستة أوقات كقوله : " ومن يولهم يومئذ دبره " أو في مقدار ستة أيام ، فإن المتعارف باليوم زمان طلوع الشمس إلى غروبها ولم يكن حينئذ ،وفي خلق الأشياء مدرجاً مع القدرة على إيجادها دفعة دليل للاختيار واعتبار للنظار وحث على التأني في الأمور . " ثم استوى على العرش " استوى أمره أو استولى، وعن أصحابنا أن الاستواء على العرش صفة لله بلا كيف ، والمعنى : أن له تعالى استواء على الوجه الذي عناه منزهاً عن الاستقرار والتمكين والعرش الجسم المحيط بسائر الأجسام سمي به لارتفاعه ، أو للتشبيه بسرير الملك فإن الأمور والتدابير تنزل منه وقيل الملك . " يغشي الليل النهار " يغطيه به ولم يذكر عكسه للعلم به ، أو لأن اللفظ يحتملهما ولذلك قرئ " يغشي الليل النهار " بنصب " الليل " ورفع " النهار " . قرأ حمزة والكسائي ويعقوب وأبو بكر عن عاصم بالتشديد فيه وفي ( الرعد ) للدلالة على التكرير . " يطلبه حثيثاً " يعقبه سريعا كالطالب له لا يفصل بينهما شيء ، ولحثيث فعيل من الحث وهو صفة مصدر محذوف أوحال من الفاعل بمعنى حاثاً ، أو المفعول بمعنى محثوثاً . " والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره " بقضائه وتصريفه ونصبها بالعطف على السماوات ونصب مسخرات على الحال . وقرأ ابن عامر كلها بالرفع على الابتداء والخبر . " ألا له الخلق والأمر " فإنه الموجد والمتصرف . " تبارك الله رب العالمين " تعالى بالوحدانية في الألوهية وتعظم بالتفرد في الربوبية . وتحقيق الآية والله سبحانه وتعالى أعلم ، أن الكفرة كانوا متخذين أرباباً فبين لهم أن المستحق للربوبية واحد وهو الله سبحانه وتعالى ، لأنه الذي له الخلق والأمر فإنه سبحانه وتعالى خلق العالم على ترتيب قويم وتدبير حكيم فأبدع الأفلاك ثم زينها بالكواكب كما أشار إليه بقوله تعالى : " فقضاهن سبع سماوات في يومين " وعمد إلى إيجاد الأجرام السفلية فخلق جسماً قابلاً للصور المتبدلة والهيئات المختلفة، قسمها بصور نوعية متضادة الآثار والأفعال وأشار إليه بقوله وخلق الأرض أي ما في جهة السفل في يومين ، ثم أنشأ أنواع المواليد الثلاثة بتركيب موادها أولاً وتصويرها ثانياً كما قال تعالى بعد قوله : " خلق الأرض في يومين " " وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام " أي مع اليومين الأولين لقوله تعالى في سورة السجدة " الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام " ثم لما تم له عالم الملك عمد إلى تدبيره كالملك الجالس على عرشه لتدبير المملكة ، فدبر الأمر من السماء إلى الأرض بتحريك الأفلاك وتسيير الكواكب وتكوير الليالي والأيام ، ثم صرح بما هو فذلكة التقرير ونتيجته فقال : " ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين " ثم أمرهم بأن يدعوه متذللين مخلصين فقال:
55. " ادعوا ربكم تضرعاً وخفيةً " أي ذوي تضرع وخفية فإن الإخفاء دليل الإخلاص . " إنه لا يحب المعتدين " المجاوزين ما أمروا به في الدعاء وغيره ،نبه به على أن الداعي ينبغي أن لا يطلب ما لا يليق به كرتبة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، والصعود إلى السماء .وقيل هو الصياح في الدعاء والإسهاب فيه . "وعن النبي صلى الله عليه وسلم ، سيكون قوم يعتدون في الدعاء ، وحسب المرء أن يقول : اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل ، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل ثم قرأ " إنه لا يحب المعتدين " " .
56. " ولا تفسدوا في الأرض " بالكفر والمعاصي . " بعد إصلاحها " ببعث الأنبياء وشرع الأحكام . " وادعوه خوفا ً وطمعاً " ذوي خوف من الرد لقصور أعمالكم وعدم استحقاقكم ، وطمع في إجابته تفضلاً وإحساناً لفرط رحمته " إن رحمة الله قريب من المحسنين " ترجيح للطمع وتنبيه على ما يتوسل به للإجابة، وتذكير قريب لأن الرحمة بمعنى الرحم ، أو لأنه صفة محذوف أي أمر قريب ،أو على تشبيهه بفعيل الذي هو بمعنى مفعول ، أو الذي هو مصدر كالنقيض ، أو الفرق بين القريب من النسب والقريب من غيره .
57."وهو الذي يرسل الرياح " وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي (الريح ) على الوحدة . " نشراً " جمع نشور بمعنى ناشر ، وقرأ ابن عامر (نشراً ) بالتخفيف حيث وقع حمزة والكسائي (نشراً ) بفتح النون حيث وقع على أنه مصدر في موقع الحال بمعنى ناشرات ، أو مفعول مطلق فإن الإرسال والنشر متقاربان . وعاصم " بشراً " وهو تخفيف بشر جمع بشير وقد قرئ به و" بشراً " بفتح الباء مصدر بشره بمعنى باشرات ، أو للبشارة وبشرى . " بين يدي رحمته " قدام رحمته ، يعني المطر فإن الصبا تثير السحاب والشمال تجمعه والجنوب تدره والدبور تفرقه . " حتى إذا أقلت " أي حملت ، واشتقاقه من القلة فإن المقل للشيء يستقله . " سحاباً ثقالاً " بالماء جمعه لأن السحاب جمع بمعنى السحائب . " سقناه " أي السحاب وإفراد الضمير باعتبار اللفظ ." لبلد ميت " لأجله أو لإحيائه أو لسقيه. وقرئ " ميت " . "فأنزلنا به الماء " بالبلد أو بالسحاب أو بالسوق أو بالريح وكذلك . " فأخرجنا به " ويحتمل فيه عود الضمير إلى " الماء " ، وإذا كان لـ" لبلد " فالباء للإلصاق في الأول وللظرفية في الثاني ، وإذا كان لغيره فهي للسببية فيهما . " من كل الثمرات " من كل أنواعها. " كذلك نخرج الموتى " الإشارة فيه إلى إخراج الثمرات، أو إلى إحياء البلد الميت أي كما نحييه بإحداث القوة النامية فيه وتطريتها بأنواع النبات والثمرات، نحرج الموتى من الأجداث ونحييها برد النفوس إلى مواد أبدانها بعد جمعها وتطريتها بالقوى والحواس ."لعلكم تذكرون " فتعلمون أن من قدر على ذلك قدر على هذا .
58." والبلد الطيب" الأرض الكريمة التربة ، " يخرج نباته بإذن ربه " بمشيئته وتيسيره ، عبر به عن كثرة النبات وحسنه وغزارة نفعه لأنه أوقعه في مقابلة . " والذي خبث " أي كالحرة والسبخة . " لا يخرج إلا نكداً " قليلاً عديم النفع ، ونصبه على الحال وتقدير الكلام ، والبلد الذي خبث لا يخرج نباته إلا نكداً فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فصار مرفوعاً مستتراً وقرئ " يخرج " أي يخرجه البلد فيكون " إلا نكداً " مفعولاً و" نكداً " بالإسكان للتخفيف . "كذلك نصرف الآيات " نرددها ونكررها . " لقوم يشكرون " نعمة الله فيتفكرون فيها ويعتبرون بها، والآية مثل لمن تدبر الآيات وانتفع بها، ولمن لم يرفع إليها رأساً ولم يتأثر بها .
59. " لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه " جواب قسم محذوف ،ولا تكاد تطلق هذه اللام إلا مع قد لأنها مظنة التوقع ، فإن المخاطب إذا سمعها توقع وقوع ما صدر بها. ونوح بن لمك بن متوشلح بن إدريس أول نبي بعده ، بعث وهو ابن خمسين سنة أو أربعين . " فقال يا قوم اعبدوا الله " أي اعبدوه وحده لقوله تعالى: " ما لكم من إله غيره " وقرأ الكسائي غيره بالكسر نعتاً أولا بدلاً على اللفظ حيث وقع إذا كان قبل إله من التي تخفض . وقرئ بالنصب على الاستثناء . " إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم " إن لم تؤمنوا ، وهو وعيد وبيان للداعي إلى عبادته. واليوم يوم القيامة ، أو يوم نزول الطوفان .
60." قال الملأ من قومه " أي الأشراف فإنهم يملؤون العيون رواء . " إنا لنراك في ضلال "زوال عن الحق . " مبين " بين .
61. " قال يا قوم ليس بي ضلالة " أي شيء من الضلال ، بالغ في النفي كما بالغوا في الإثبات وعرض لهم به . " ولكني رسول من رب العالمين " استدراك باعتبار ما يلزمه ، وهو كونه على هدى كأنه قال : ولكني على هدى في الغاية لأني رسول من الله سبحانه وتعالى .
62." أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون " صفات لرسول أو استئناف ، ومساقها على الوجهين لبيان كونه رسولاً . وقرأ أبو عمرو " أبلغكم " بالتخفيف وجمع الرسالات لاختلاف أوقاتها أو لتنوع معانيها كالعقائد والمواعظ والأحكام ، أو لأن المراد بها ما أوحي إليه وإلى الأنبياء قبله ، كصحف شيث وإدريس وزيادة اللام في لكم للدلالة على إمحاض النصح لهم ، وفي أعلم من الله تقريراً لما أوعدهم به فإن معناه أعلم من قدرته وشدة بطشه أو من جهته بالوحي أشياء لا علم لكم بها.
63. " أوعجبتم " الهمزة للإنكار والواو للعطف على محذوف أي أكذبتم وعجبتم . " أن جاءكم " من أن جاءكم . " ذكر من ربكم " رسالة أو موعظة . " على رجل " على لسان رجل . " منكم " من جملتكم أو من جنسكم ، فإنهم كانوا يتعجبون من إرسال البشر وقولون " لو شاء الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين " " لينذركم " عاقبة الكفر والمعاصي . " ولتتقوا" منهما بسبب الإنذار . " ولعلكم ترحمون " بالتقوى ، وفائدة حرف الترجي التنبيه على أن التقوى غير موجب والترحم من الله سبحانه وتعالى تفضل ، وأن المتقي ينبغي أن لا يعتمد على تقواه ولا يأمن من عذاب الله تعالى .
64." فكذبوه فأنجيناه والذين معه " وهم من آمن به وكانوا أربعين رجلاً وأربعين امرأة. وقيل تسعة بنوه سام وحام ويافث وستة ممن آمن به . " في الفلك " متعلق بمعه أو بأنجيناه ، أو حال من الموصول أومن الضمير في معه. " وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا " بالطوفان . " إنهم كانوا قوماً عمين " عمي القلوب غير مستبصرين ، وأصله عمين فخفف وقرئ (عامين ) والأول أبلغ لدلالته على الثبات .
65." وإلى عاد أخاهم " عطف على نوحاً إلى قومه . " هوداً " عطف بيان لأخاهم والمراد به الواحد منهم ، كقولهم يا أخا العرب للواحد منهم ، فإنه هود بن عبد الله بن رباح بن الخلود بن عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح . وقيل هود بن شالح بن أرفخشد بن سام بن نوح ، ابن عم أبي عاد ، وإنما جعل منهم لأنهم أفهم لقوله وأعرف بحاله وأرغب في اقتفائه. "قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره " استأنف به ولم يعطف كأنه جواب سائل قال : فما قال لهم حين أرسل ؟ وكذلك جوابهم . " أفلا تتقون " عذاب الله ، وكأن قومه كانوا أقرب من قوم نوح عليه الصلاة والسلام ولذلك قال "أفلا تتقون" "قال الملأ الذين كفروا من قومه " إذ كان من أشرافهم من آمن به كمرثد بن سعد .
66." إنا لنراك في سفاهة " متمكناً في خفة عقل راسخاً فيها حيث فارقت دين قومك . "وإنا لنظنك من الكاذبين " .
67."قال يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين "
68." أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين" .
69." أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم " سبق تفسيره . وفي إجابة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الكفرة عن كلماتهم الحمقاء بما أجابوا والإعراض عن مقابلتهم كمال النصح والشفقة وهضم النفس وحسن المجادلة ، وهكذا ينبغي لكل ناصح ، وفي قوله : " وأنا لكم ناصح أمين " تنبيه على أنهم عرفوه بالأمرين . وقرأ أبو عمرو " أبلغكم " في المرضعين في هذه السورة وفي (الأحقاف ) مخففاً . " واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح" أي في مساكنهم ، أو في الأرض بأن جعلكم ملوكاً فإن شداد بن عاد ممن ملك معمورة الأرض من رمل عالج إلى شحر عمان . خوفهم من عقاب الله ثم ذكرهم بإنعامه . " وزادكم في الخلق بسطة " قامة وقوة . " فاذكروا آلاء الله " تعميم بعد تخصيص. " لعلكم تفلحون " لكي يفضي بكم ذكر النعم إلى شكرها المؤدي الفلاح .
70." قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا " استبعدوا اختصاص الله بالعبادة والإعراض عما أشرك به آباؤهم انهماكاً في التقليد وحباً لما ألفوه ،ومعنى المجيء في " أجئتنا " إما المجيء من مكان اعتزل به عن قومه أو السماء على التهكم ، أو القصد على المجاز كقولهم ذهب يسبني . " فأتنا بما تعدنا " من العذاب المدلول عليه بقوله " أفلا تتقون " . " إن كنت من الصادقين" فيه .
71. " قال قد وقع عليكم " قد وجب وحق عليكم ، أو نزل عليكم على أن المتوقع كالواقع . " من ربكم رجس " عذاب من الإرتجاس وهو الاضطراب . " وغضب " إرادة انتقام . " أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان " أي في أشياء سميتموها آلهة وليس فيها معنى الإلهية ، لأن المستحق للعبادة بالذات هو الموجد للكل ، وأنها لو استحقت كان استحقاقها بجعله تعالى إما بإنزال آية أو بنصب حجة ، بين أن منتهى حجتهم وسندهم أن الأصنام تسمى آلهة من غير دليل يدل على تحقق المسمى ، وإسناد الاطلاق إلى من لا يؤبه بقوله إظهاراً لغاية جهالتهم وفرط غباوتهم ، واستدل به على أن الاسم هو المسمى وأن اللغات توقيفية إذ لو لم يكن كذلك لم يتوجه الذم والإبطال بأنها أسماء مخترعة لم ينزل الله بها سلطاناً وضعفهما ظاهر . " فانتظروا " لما وضح الحق وأنتم مصرون على العناد نزول العذاب بكم . " إني معكم من المنتظرين "
72. " فأنجيناه والذين معه " في الدين . " برحمة منا" عليهم . " وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا " أي استأصلناهم . " وما كانوا مؤمنين " تعرض بمن آمن منهم ، وتنبيه على أن الفارق بين من نجا وبين منهلك هو الإيمان . روي انهم كانوا يعبدون الأصنام فبعث الله إليهم هوداً فكذبوه ، وازدادوا عتواً فأمسك الله القطر عنهم ثلاث سنين حتى جهدهم ، وكان الناس حينئذ مسلمهم ومشركهم إذا نزل بهم بلاء توجهوا إلى البيت الحرام وطلبوا من الله الفرح ، فجهزوا إليه قيل بن عثر ومرثد بن سعد في سبعين من أعيانهم ، وكان إذ ذاك بمكة العمالقة أولاد عمليق بن لاوذ بن سام وسيدهم معاوية بن بكر ، فلما قدموا عليه وهو بظاهر مكة أنزلهم وأكرمهم ، وكانوا أخواله وأصهاره ،فلبثوا عنده شهراً يشربون الخمر وتغنيهم الجرادتان قينتان له ، فلما رأى ذهولهم باللهو عما بعثوا له أهمه ذلك واستحيا أن يكلمهم في مخافة أن يظنوا به ثقل مقامهم فعلم القينتين : ألا ياقيل ويحك قم فهينم لعل الله يسقينا الغماما فيسقي أرض عاد إن عادا قد امسوا ما يبينون الكلاما حتى غنتا به ، فأزعجهم ذلك فقال مرثد : والله لا تسقون بدعائكم ولكن إن أطعتم نبيكم وتبتم إلى الله سبحانه وتعالى سقيتم ، فقالوا لمعاوية : احبسه عنا لا يقدمن معنا مكة فإنه قد اتبع دين هود وترك ديننا ، ثم دخلوا مكة فقال قيل : للهم اسق عاداً ما كنت تسقيهم ،فأنشأ الله تعالى سحابات ثلاثاً بيضاء وحمراء وسوداء ،ثم ناداه مناد من السماء يا قيل : اختر لنفسك ولقومك : فقال اخترت السوداء فإنها أكثرهن ماء ، فخرجت على عاد من وادي المغيث فاستبشروا بها وقالوا . " هذا عارض ممطرنا " فجاءتهم منها ريح عقيم فأهلكتهم ونجا هود والمؤمنون معه ، فأتوا مكة وعبدوا الله سبحانه وتعالى فيها حتى ماتوا .
73." وإلى ثمود " قبيلة أخرى من العرب سموا باسم أبيهم الأكبر ثمود بن عابر بن إرم بن سام بن نوح . وقيل سموا به لقلة مائهم من الثمد وهو الماء القليل . وقرئ مصروفاً بتأويل الحي أو باعتبار الأصل ، وكانت مساكنهم الحجر بين الحجاز والشام إلى وادي القرى . " أخاهم صالحاً " صالح بن عبيد بن ماسح بن عبيد بن حاذر بن ثمود. " قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم " معجزة ظاهرة الدلالة على نبوتي وقوله : " هذه ناقة الله لكم آيةً" استئناف لبيانها ، وآية نصب على الحال والعامل فيها معنى الإشارة ، ولكم بيان لمن هي له آية، ويجوز أن تكون " ناقة الله " بدلا أو عطف بيان ولكم خبرا عاملاً في" آية" ،وإضافة الناقة إلى الله لتعظيمها ولأنها جاءت من عنده بلا وسائط وأسباب معهودة ولذلك كانت آية " فذروها تأكل في أرض الله " العشب . " ولا تمسوها بسوء " نهى عن المس الذي هو مقدمة الإصابة بالسوء الجامع لأنواع الأذى مبالغة في الأمر وإزاحة للعذر . " فيأخذكم عذاب أليم " جواب النهي .
74." واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض " أرض الحجر . " تتخذون من سهولها قصوراً " أي تبنون في سهولها ،او من سهولة الأرض بما تعملون منها كاللبن والآخر . "وتنحتون الجبال بيوتاً " وقرئ " تنحتون " بالفتح وتنحاتون بالإشباع ، وانتصاب " بيوتاً " على الحال المقدرة أو المفعول على أن التقدير بيوتا من الجبال ، أو تنحتون بمعنى تتخذون ." فاذكروا آلاء الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين " .
75. " قال الملأ الذين استكبروا من قومه " أي عن الإيمان . " للذين استضعفوا " أي اللذين استضعفوهم واستذلوهم . " لمن آمن منهم " بدل من الذين استضعفوا بدل الكل إن كان الضمير لقومه وبدل البعض إن كان للذين . وقرأ ابن عامر وقال الملأ بالواو . " أتعلمون أن صالحاً مرسل من ربه " قالوه على الاستهزاء ." قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون " عدلوا به عن الجواب السوي الذي هو نعم تنبيهاً على إن إرساله أظهر من أن يشك فيه عاقل ويخفى على ذي رأي ، وإنما الكلام فيمن آمن به ومن كفر فلذلك قال:
76. " قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون " على وجه المقابلة ، ووضعوا " آمنتم به " موضع " أرسل به" رداً لما جعلوه معلوماً مسلماً .
77. " فعقروا الناقة " فنحروها . أسند إلى جميعهم فعل بعضهم للملابسة ، أو لأنه كان برضاهم ." وعتوا عن أمر ربهم " واستكبروا عن امتثاله، وهو ما بلغهم صالح عليه الصلاة والسلام بقوله : " فذروها " . " وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين " .
78." فأخذتهم الرجفة " الزلزلة . " فأصبحوا في دارهم جاثمين " خامدين ميتين . روي : أنهم بعد عاد عمروا بلادهم وخلفوهم وكثروا ، وعمروا أعماراً طوالاً لا تفي بها الأبنية ، فنحتوا البيوت من الجبال ،وكانوا في خصب وسعة فعتوا وأفسدوا في الأرض وعبدوا الأصنام ، فبعث الله إليهم صالحاً من أشرافهم فأنذرهم ، فسألوه آية فقال أية آية تريدون قالوا : اخرج معنا إلى عيدنا فتدعو إلهك وندعو آلهتنا فمن استجيب له اتبع ، فخرج معهم فدعوا أصنامهم فلم تجبهم ، ثم أشار سيدهم جندع بن عمروا إلى صخرة منفردة يقال لها الكاثبة وقال له اخرج من هذه الصخرة ناقة مخترجة جوفاء وبراء إن فعلت صدقناك ، فأخذ عليهم صالح مواثيقهم لئن فعلت ذلك لتؤمنن فقالوا : نعم ، فصلى ودعا ربه فتمخضت الصخرة تمخض النتوج بولدها ، فانصدعت عن ناقة عشراء جوفاء وبراء كما وصفوا وهم ينظرون ،ثم نتجت ولداً مثلها في العظم فآمن به جندع في جماعة ، ومنع الباقين من الإيمان ذؤاب بن عمرو والحباب صاحب أوثانهم ورباب بن صغر كاهنهم ، فمكثت الناقة مع ولدها ترعى الشجر وترد الماء غباً فما ترفع رأسها من البئر حتى تشرب كل ما فيها، ثم تتفحج فيحلبون ما شاؤوا حتى تمتلئ أوانيهم ، فيشربون ويدخرون وكانت تصيف بظهر الوادي فتهرب منها أنعامهم إلى بطنه ، وتشتو ببطنه فتهرب مواشيهم إلى ظهره ، فشق ذلك عليهم وزينت عقرها لهم عنيزة أم غنم وصدقة بنت المختار، فعقروها واقتسموا لحمها، فرقي سقيها جبلا اسمه قارة فرغا ثلاثا فقال صالح لهم أدركوا الفصيل عسى أن يرفع عنكم العذاب ،فلم يقدروا عليه إذ انفجرت الصخرة بعد رغائه فدخلها فقال لهم صالح :تصبح وجوهكم عداً مصفرة وبعد عد محمرة واليوم الثالث مسودة ثم يصبحكم العذاب ،فلما رأوا العلامات طلبوا أن يقتلوه فأنجاه الله إلى أرض فلسطين ، ولما كان ضحوة اليوم الرابع تحنطوا بالصبر وتكفنوا بالأنطاع فأتتهم صيحة من السماء فتقطعت قلوبهم فهلكوا.
79. " فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين " ظاهره أن توليه عنهم كان بعد أن أبصرهم جاثمين ، ولعله خاطبهم به بعد هلاكهم كما خاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل قليب بدر وقال : ( إنا وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً . أو ذكر ذلك على سبيل التحسر عليهم .
80. " ولوطاً " أي وأرسلنا لوطا . " إذ قال لقومه " وقت قوله لهم أو واذكر لوطا وإذ بدل منه . " أتأتون الفاحشة " توبيخ وتقريع على تلك الفعلة المتمادية في القبح . " ما سبقكم بها من أحد من العالمين " ما فعلها قبلكم أحد قط . والباء للتعدية ومن الأولى لتأكيد النفي والاستغراق ، والثانية للتبعيض . والجملة استئناف مقرر للإنكار كأنه وبخهم أولاً بإتيان الفاحشة ثم باختراعها فإنه أسوأ.
81. "إنكم لتأتون الرجال شهوةً من دون النساء " بيان لقوله : " أتأتون الفاحشة " وهو أبلغ في الإنكار والتوبيخ ، وقرأ نافع وحفص "إنكم " على الإخبار المستأنف ، وشهوة مفعول له أو مصدر في موقع الحال وفي التقييد بها وصفهم بالبهيمية الصرفة ، وتنبيه على أن العاقل ينبغي أن يكون الداعي له إلى المباشرة طلب الولد وبقاء النوع ، لا قضاء الوطر . " بل أنتم قوم مسرفون " إضراب عن الإنكار إلى الإخبار عن حالهم التي أدت بهم إلى ارتكاب أمثالها وهي اعتياد الإسراف في كل شيء ، أو عن الإنكار عليها إلى الذم على جميع معايبهم ، أو عن محذوف مثل لا عذر لكم فيه بل أنتم قوم عادتكم الإسراف .
82." وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم " أي ما جاؤوا بما يكون جوابا عن كلامه ، ولكنهم قابلوا نصحه بالأمر بإخراجه فيمن معه من المؤمنين من قريتهم والاستهزاء بهم فقالوا : " إنهم أناس يتطهرون " أي من الفواحش .
83." فأنجيناه وأهله " أي من آمن به . " إلا امرأته " استثناء من أهله فإنها كانت تسر الكفر . " كانت من الغابرين " من الذين بقوا في ديارهم فهلكوا والتذكير لتغليب الذكور .
84." وأمطرنا عليهم مطراً " أي نوعا من المطر عجيباً وهو مبين بقوله : " وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل " . " فانظر كيف كان عاقبة المجرمين " روي : أن لوط بن هاران بن تارح لما هجر مع عمه إبراهيم عليه السلام إلى الشام نزل بالأردن ، فأرسله الله إلى أهل سدوم ليدعوهم إلى الله وينهاهم عما اخترعوه من الفاحشة ، فلم ينتهوا عنها فأمطر الله عليهم الحجارة فهلكوا . وقيل خسف بالمقيمين منهم وأمطرت الحجارة على مسافريهم .
85." وإلى مدين أخاهم شعيباً " أي وأرسلنا إليهم، وهم أولاد مدين بن إبراهيم خليل الله شعيب بن ميكائيل بن بسجر بن مدين ، وكان يقال له خطيب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لحسن مراجعته قومه . " قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم " يريد المعجزة التي كانت له وليس في القرآن أنها ما هي ، وما روي من محاربة عصا موسى عليه الصلاة والسلام التنين وولادة الغنم التي دفعها إليه الدرع خاصة وكانت الموعودة له من أولادها ، ووقوع عصا آدم على يده في المرات السبع متأخرة عن هذه المقاولة ، ويحتمل أن تكون كرامة لموسى عليه السلام أو إرهاصا لنبوته . " فأوفوا الكيل " أي آلة الكيل على الإضمار ، أو إطلاق الكيل على المكيال كالعيش على المعاش لقوله : " والميزان " كما قال في سورة (هود ) " أوفوا المكيال والميزان " أو الكيل ووزن الميزان ، ويجوز أن يكون الميزان مصدرا كالميعاد . " ولا تبخسوا الناس أشياءهم " ولا تنقصوهم حقوقهم ، وإنما قال أشياءهم للتعميم تنبيها على أنهم كانوا يبخسون الجليل والحقير والقليل والكثير . وقيل كانوا مكاسين لا يدعون شيئا إلا مكسوه . " ولا تفسدوا في الأرض " بالكفر والحيف . " بعد إصلاحها " بعدما أصلح أمرها أو أهلها الأنبياء وأتباعهم بالشرائع ،او أصلحوا فيها والإضافة إليها كالإضافة في " بل مكر الليل والنهار " " ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين " إشارة إلى العمل بما أمرهم به ونهاهم عنه ، ومعنى الخيرية إما الزيادة مطلقا أو الإنسانية وحسن الأحدوثة وجمع المال .
86." ولا تقعدوا بكل صراط توعدون " بكل طريق من طرق الدين كالشيطان ، وصراط الحق و إن كان واحدا لكنه يتشعب إلى معارف وحدود وأحكام ، وكانوا إذا رأوا أحدا يسعى في شيء منها منعوه . وقيل كانوا يجلسون على المراصد فيقولون لمن يريد شعبيا إنه كذاب فلا يفتننك عن دينك ويوعدون لمن آمن به. وقيل كانوا يقطعون الطريق." وتصدون عن سبيل الله " يعني الذي قعدوا عليه فوضع الظاهر موضع المضمر بيانا لكل صراط ، ودلالة على عظم ما يصدون عنه وتقبيحا لما كانوا عليه أو الإيمان بالله . " من آمن به " أي بالله ، أو بكل صراط على الأول ،ومن مفعول تصدون على إعمال الأقرب ولو كان مفعول توعدون لقال وتصدونهم وتوعدون بما عطف عليه في موقع الحال من الضمير في تقعدوا . " وتبغونها عوجاً " وتطلبون لسبيل الله عوجا بإلقاء الشبه ، أو وصفها للناس أنها معوجة . "واذكروا إذ كنتم قليلاً " عددكم أو عددكم " فكثركم " بالبركة في النسل أو المال . " وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين " من الأمم قبلكم فاعتبروا بهم .
87." وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا " فتربصوا . " حتى يحكم الله بيننا " أي بين الفريقين بنصر المحقين على المبطلين ، فهو وعد للمؤمنين ووعيد للكافرين . " وهو خير الحاكمين " إذ لا معقب لحكمه ولا حيف فيه .
88. " قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا " أي ليكونن أحد الأمرين إما إخراجكم من القرية أو عودكم في الكفر ، وشعيب عليه الصلاة السلام لم يكن في ملتهم قط لأن الأنبياء لا يجوز عليهم الكفر مطلقاً ، لكن غلبوا الجماعة على الواحد فخوطب هو وقومه بخطابهم ، وعلى ذلك أجرى الجواب في قوله . " قال أو لو كنا كارهين " أي كيف نعود فيها ونحن كارهون لها ، أو أتعيدوننا في حال كراهتنا .
89." قد افترينا على الله كذباً " قد اختلقنا عليه. " إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها " شرط جوابه محذوف دليله : " قد افترينا " وهو بمعنى المستقبل لأنه لم يقع لكنه جعل كالواقع للمبالغة ، وأدخل عليه قد لتقريبه من الحال أي قد افترينا الآن إن هممنا بالعود بعد الخلاص منها حيث نزعم أن لله تعالى ندا، وأنه تبين لنا أن ما كنا عليه باطل وما أنتم عليه حق. وقيل لأنه جواب قسم وتقديره: والله لقد افترينا . " وما يكون لنا " وما يصح لنا . " أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا " خذلاننا وارتدادنا ، وفيه دليل على أن الكفر بمشيئة الله . وقيل أراد به حسم طمعهم في العود بالتعليق على ما لا يكون ." وسع ربنا كل شيء علماً " أي أحاط علمه بكل شيء مما كان وما يكون منا ومنكم . " على الله توكلنا " في أن يثبتنا على الإيمان وخلصنا من الأشرار . " ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق " احكم بيننا وبينهم ، والفتاح القاضي ، والفتاحة الحكومة . أو أظهر أمرنا حتى ينكشف ما بيننا وبينهم ويتميز المحق من المبطل من فتح المشكل إذ بينه . " وأنت خير الفاتحين " على المعنيين .
90. " وقال الملأ الذين كفروا من قومه لئن اتبعتم شعيباً " وتركتم دينكم ." إنكم إذاً لخاسرون " لاستبدالكم ضلالته بهداكم ،أو لفوات ما يحصل لكم بالبخس والتطفيف وهو ساد مسد جواب الشرط والقسم الموطأ باللام .
91. " فأخذتهم الرجفة " الزلزلة وفي سورة الحجر " فأخذتهم الصيحة " ولعلها كانت من مباديها . " فأصبحوا في دارهم جاثمين " أي في مدينتهم .
92. " الذين كذبوا شعيبا " مبتدأ خبره " كأن لم يغنوا فيها" أي استؤصلوا كأن لم يقيموا بها والمغنى المنزل . " الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين " دينا ودنيا لا الذين صدقوه واتبعوه كما زعموا ، فإنهم الرابحون في الدارين . وللتنبيه على هذا والمبالغة فيه كرر الموصول واستأنف بالجملتين وأتى بهما اسميتين .
93. " فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم "قاله تأسفا بهم لشدة حزنه عليهم ثم أنكر على نفس فقال " فكيف آسى على قوم كافرين " ليسوا أهل حزن لاستحقاقهم ما نزل عليهم بكفرهم ، أو قاله اعتذارا عن عدم شدة حزنه عليهم . والمعنى لقد بالغت في الإبلاغ والإنذار وبذلت وسعي في النصح والإشفاق فلم تصدقوا قولي ،فكيف آسى عليكم . وقرء " فكيف آسى " بإمالتين .
94. " وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء " بالبؤس والضر . "لعلهم يضرعون " حتى يتضرعوا ويتذللوا .
95. " ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة" أي أعطيناهم بدل ما كانوا فيه من البلاء والشدة السلامة والسعة ابتلاء لهم بالأمرين . " حتى عفوا " كثروا عدداً وعدداً يقال عفا النبات إذا كثر ومنه إعفاء اللحى ، " وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء " كفراناً لنعمة الله ونسياناً لذكره واعتقادا بأنه من عادة الدهر يعاقب في الناي بين الضراء والسراء وقد مس آباءنا منه مثل ما مسنا . " فأخذناهم بغتةً" فجأة . " وهم لا يشعرون " بنزول العذاب .
96. " ولو أن أهل القرى " يعني القرى المدلول عليها بقوله : " وما أرسلنا في قرية من نبي " وقيل مكة وما حولها . " آمنوا واتقوا " مكان كفرهم وعصيانهم. " لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض " لوسعنا عليهم الخير ليسرناه لهم من كل جانب وقيل المراد المطر والنبات . وقرأ ابن عامر (لفتحنا ) بالتشديد . " ولكن كذبوا " الرسل . "فأخذناهم بما كانوا يكسبون " من الكفر والمعاصي .
97. " أفأمن أهل القرى " عطف على قوله : " فأخذناهم بغتةً وهم لا يشعرون " وما بينهما اعتراض والمعنى : أبعد ذلك أمن أهل القرى . " أن يأتيهم بأسنا بياتاً " تبييتاً أو وقت بيات أو مبيتا أو مبيتين ، وهو في الأصل مصدر بمعنى البيتوتة ويجيء بمعنى التبييت كالسلام بمعنى التسليم . " وهم نائمون " حل من ضميرهم البارز أو المستتر في بياتا.
98. " أو أمن أهل القرى " وقرأ ابن كثيونافع وابن عامر أو بالسكون على الترديد . " أن يأتيهم بأسنا ضحى " ضحوة النهار ، وهو في الأصل ضوء الشمس إذا ارتفعت : " وهم يلعبون " يلهون من فرط الغفلة ، أو يشتغلون بما لا ينفعهم .
99. " أفأمنوا مكر الله " تكرير لقوله : " أفأمن أهل القرى " و" مكر الله " استعارة لاستدراج العبد وأخذه من حيث لا يحتسب . " فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون " الذين خسروا بالكفر وترك النظر والاعتبار
100. " أولم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها " أي مخلفون من خلا قبلهم ويرثون ديارهم ، وإنما عدي يهد باللام لأنه بمعنى يبين . " أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم " أن الشأن لو نشاء أصبناهم بجزاء ذنوبهم كما أصبنا من قبلهم ،وهو فاعل يهد ومن قرأه بالنون جعله مفعولاً . " ونطبع على قلوبهم " عطف على ما دل عليه ، أو لم يهد أي يغفلون عن الهداية أو منقطع عنه بمعنى ونحن نطبع ، ولا يجوز عطفه على أصبناهم على أنه بمعنى وطبعنا لأنه في سياقه جواب لولا فضائه إلى نفي الطبع عنهم " فهم لا يسمعون " سماع تفهم واعتبار .
101. " تلك القرى " يعني قرى الأمم المار ذكرهم . " نقص عليك من أنبائها" حل إن جعل " القرى " خبرا وتكون إفادته بالتقييد بها، وخبر إن جعلت صفة ويجوز أن يكونا خبرين ," من" للتبعيض أي نقص بعض أنبائها ، ولها أنباء غيرها لا نقصها . " ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات " بالمعجزات " فما كانوا ليؤمنوا " عند مجيئهم بها . " بما كذبوا من قبل " بما كذبوه من قبل الرسل بل كانوا مستمرين على التكذيب ، أو فما كانوا ليؤمنوا مدة عمرهم بما كذبوا ب أولا حين جاءتهم الرسل ، ولم تؤثر فيهم قط دعوتهم المتطاولة والآيات المتتابعة ، واللام لتأكيد النفي والدلالة على أنهم ما صلحوا للإيمان لمنافاته لحالهم في التصميم على الكفر والطبع على قلوبهم . " كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين " فلا بلين شكيمتهم بالآيات والنذر .
102. " وما وجدنا لأكثرهم " لأكثر الناس ، والآية اعتراض أو لأكثر الأمم المذكورين . " من عهد " من وفاء عهد ، فإن أكثرهم نقضوا ما عهد الله إليهم في الإيمان والتقوى بإنزال الآيات ونصب الحجج ، أو ما عهدوا إليه حين كانوا في ضرر مخافة مثل " لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين " " وإن وجدنا أكثرهم " أي علمناهم . " لفاسقين" من وجدت زيدا ذا الحفاظ لدخول أن المخففة واللام الفارقة ،وذلك لا يسوغ إلا في المبتدأ والخبر والأفعال الداخلة عليهما، وعند الكوفيين إن للنفي واللام بمعنى إلا.
103. " ثم بعثنا من بعدهم موسى " الضمير للرسل في قوله : " ولقد جاءتهم رسلهم " أو للأمم ز " بآياتنا " يعنى المعجزات . " إلى فرعون وملئه فظلموا بها " بأن كفروا بها مكان الإيمان الذي نهو من حقها لوضوحها ، ولهذا المعنى وضع ظلموا موضع كفروا . وفرعون لقب لمن ملك مصر ككسرى لمن ملك فارس وكان اسمه قابوس . وقيل الوليد بن مصعب بن الريان . " فانظر كيف كان عاقبة المفسدين " .
104. " وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين " إليك ،وقوله: " حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق " لعله جواب لتكذيبه إياه في دعوى الرسالة ، وإنما لم يذكر لدلالة قوله " فظلموا بها " عليه وكان أصله " حقيق على أن لا أقول " كما قرأ نافع فقلب لا منا لإلباس كقوله : وتشقى الرماح بالضياطرة الحمر . أو لأن ما لزمك فقد لزمته ، أو للإغرق في الوصف بالصدق ، والمعنى أنه حق واجب على القول الحق أن أكون أنا قائله لا يرضى إلا بمثلي ناطقا به ، أو ضمن حقيق بمعنى حريص ، أو وضع على مكان الباء . وقرئ " حقيق على أن لا أقول "بدون " على . "
105. " قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل " فخلهم حتى يرجعوا معي إلى الأرض المقدسة التي هي وطن آبائهم ،وكان قد استعبدهم واستخدمهم في الأعمال .
106. " قال إن كنت جئت بآية " من عند من أرسلك . " فأت بها " فأحضرها عندي ليثبت بها صدقك . " إن كنت من الصادقين " في الدعوى .
107. " فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين " ظاهر أمره لا يشك في أنه ثعبان وهو الحية العظيمة . روي : انه لما ألقاها صارت ثعباناً أشعر فاغراً فاه بين لحييه ثمانون ذراعاً وضع لحيه الأسفل على الأرض والأعلى على سور القصر . ثم توجه نحو فرعون فهرب منه وأحدث ، وانهزم الناس مزدحمين فمات منهم خمسة وعشرون ألفاً ، وصاح فرعون يا موسى أنشدك بالذي أرسلك خذه وأنا أومن بك وأرسل معك بني إسرائيل فأخذه فعاد عصا .
108. " ونزع يده " من جيبه أو من تحت إبطه . " فإذا هي بيضاء للناظرين " أي بيضاء بياضا خارجا عن العادة تجتمع عليها النظارة أو بيضاء للنظار لا أنها كانت بيضاء في جبلتها . روي : أنه عليه السلام كان آدم شديد الأدمة ، فأدخل يده في جيبه أو تحت إبطه ثم مزعها فإذا هي بيضاء نورانية غلب شعاعها شعاع الشمس .
109. " قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم " قيل قاله هو وإشراف قومه على سبيل التشاور في أمره ، فحكى عنه في سورة الشعراء وعنهم ها هنا .
110. " يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون " تشيرون في أن نفعل.
111." قالوا أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين "
112. " يأتوك بكل ساحر عليم " كأنه اتفقت عليه آراؤهم فأشاروا به على فرعون ، والإرجاء التأخير أي أخر أمره ، وأصله أرجئه كنا قرأ أبو عمروا وأبو بكر ويعقوب من أرجأت ،وكذلك (أرجئوه ) على قراءة ابن كثير على الأصل في الضمير ، أو " أرجه " من أرجيت كما قرأ نافع في رواية ورش وإسماعيل والكسائي وأما قراءته في رواية قالون " أرجه " بحذف الياء فللاكتفاء بالكسرة عنها ، وأما قراءة حمزة وعاصم وحفص " أرجه " يسكون الهاء المفصل بالمتصل وجعل جه كابل في إسكان وسطه وأما قراءة ابن عامر برواية ابن ذكوان (أرجئه ) بالهمزة وكسر الهاء فلا يرتضيه النحاة فإن الهاء لا تكسر إلا إذا كان قبلها كسرة أو ياء ساكنة ، ووجهه أن الهمزة لما كانت تقلب ياء أجريت مجراها . وقرأ حمزة والكسائي (بكل سحار) فيه وفي (يونس ) ويؤيده اتفاقهم عليه في (الشعراء) .
113. " وجاء السحرة فرعون " بعد ما أرسل الشرطة في طلبهم . " قالوا إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين " استأنف به كأنه جواب سائل قال : ما قالوا إذا جاؤوا ؟ وقرأ ابن كثير ونافع وحفص عن عاصم " إن لنا لأجرا " على الإخبار ويجاب الأجر كأنهم قالوا لا بد لنا من أجر، والتنكير للتعظيم .
114. " قال نعم " إن لكم لأجرا. " وإنكم لمن المقربين " عطف على ما سد مسده " نعم " وزيادة على الجواب لتحريضهم .
115. " قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين " خيروا موسى مراعاة للأدب أو إظهاراً للجلادة، ولكن كانت رغبتهم في أن يلقوا قبله فنبهوا عليها بتغيير النظم إلى ما هو أبلغ وتعريف الخبر وتوسيط الفصل أو تأكيد ضميرهم المتصل بالمنفصل فلذلك :
116 . " قال بل ألقوا " كرماً وتسامحاً ، أو ازدراءً بهم ووثوقاً على شأنه . " فلما ألقوا سحروا أعين الناس " بأن خيلوا إليها ما الحقيقة بخلافه ، "واسترهبوهم " وأرهبوهم إرهاباً شديداً كأنهم طلبوا رهبتهم . " وجاؤوا بسحر عظيم " في فنه ،. روي أنهم ألقوا حبالاً غلاظاً وخشبا طوالاً كأنها حيات ملأت الوادي ، وركب بعضها بعضا .
117. " وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك " فألقاها فصارت حية . " فإذا هي تلقف ما يأفكون " أي ما يزورونه من الإفك ،وهو الصرف وقلب الشيء عن وجهه ، ويجوز أن تكون ما مصدرة وهي مع الفعل بمعنى المفعول .روي : أنها لما تلقفت حبالهم وعصيهم وابتلعتها بأسرها أقبلت على الحاضرين فهربوا وازدحموا حتى هلك جمع عظيم ،ثم أخذها موسى فصارت عصا كما كانت فقال السحرة : لو كان هذا سحرا لبقيت حبالنا وعصينا . وقرأ حفص عن عاصم " تلقف " ها هنا وفي(طــه ) و( الشعراء ) .
118. " فوقع الحق " فثبت لظهور أمره . " وبطل ما كانوا يعملون " من السحر والمعارضة .
119. " فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين " أي صاروا أذلاء مبهوتين ، أو رجعوا إلى المدينة أذلاء مقهورين ، والضمير لفرعون وقومه .
120. " وألقي السحرة ساجدين " جعلهم ملقين على وجوههم تنبيها على أن الحق بهرهم واضطرهم إلى السجود بحيث لم يبق لهم تمالك ، أو أن الله ألهمهم ذلك وحملهم عليه حتى ينكسر فرعون بالذين أراد بهم كسر موسى وينقلب الأمر عليه ، أو مبالغة في سرعة خرورهم وشدته .
121. " قالوا آمنا برب العالمين " .
122. " رب موسى وهارون " أبدلوا الثاني من الأول لئلا يتوهم أنهم أرادوا به فرعون .
123. " قال فرعون آمنتم به " بالله أولا بموسى ، والاستفهام فيه للإنكار . وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وروح عن يعقوب وهشام بتحقيق الهمزتين على الأصل . وقرأ حفص " آمنتم به " على الإخبار ، وقرأ قنبل " قال فرعون " ، "آمنتم " يبدل في حال الوصل من همزة الاستفهام بهمزة ومدة مطولة في تقدير ألفين ، في طه على الخبر بهمزة وألف وقرأ في الشعراء على الاستفهام بهمزة ومدة مطولة في تقدير ألفين وقرأ الباقون بتحقيق الهمزة الأولى وتليين الثانية . " قبل أن آذن لكم إن هذا لمكر مكرتموه " أي إن هذا الصنيع لحيلة احتلتموها أنتم وموسى . " في المدينة" في مصر قبل أن تخرجوا للميعاد. " لتخرجوا منها أهلها " يعني القبط وتخلص لكم ولبني إسرائيل . " فسوف تعلمون " عاقبة ما فعلتم ، وهو تهديد مجمل تفصيله:
124. " لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف" من كل شق طرفا ز " ثم لأصلبنكم أجمعين " تفضيحا لكم وتنكيلا لأمثالكم . قيل إنه أول من سن ذلك فشرعه الله للقطاع تعظيما لجرمهم ولذلك سماه محاربة لله ورسوله ،ولكن على التعاقب لفرط رحمته .
125. " قالوا إنا إلى ربنا منقلبون " بالموت لا محالة فلا نبالي بوعيدك ،أو إنا منقلبون إلى ربنا وثوابه إن فعلت بنا ذلك ، كأنهم استطابوه شغفا على لقاء الله ، أو مصيرنا ومصيرك إلى ربنا فيحكم بيننا .
126. " وما تنقم منا" وما تنكر منا . " إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا " وهو خير الأعمال وأصل المناقب ليس مما يتأتى لنا العدول عنه طلبا لمرضاتك ، ثم فزعوا إلى الله سبحانه وتعالى فقالوا : " ربنا أفرغ علينا صبراً " أفض علينا صبرا يغمرنا كما يفرغ الماء ، او صب علينا ما يطهرنا من الآثام وهو الصبر على وعيد فرعون ." وتوفنا مسلمين " ثابتين على الإسلام . قيل إنه فعل بهم ما أوعدهم به . وقيل إ،ه لم يقدر عليهم لقوله تعالى : " أنتما ومن اتبعكما الغالبون " .
127. " وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض " بتغيير الناس عليك ودعوتهم إلى مخالفتك . " ويذرك " عطف على يفسدوا ، أو دواب الاستفهام بالواو كقول الحطيئة : ألم أك جاركم ويكون بيني وبينكم المودة والإخاء على معنى أيكون منك ترك موسى ويكون منه تركه إياك . وقرئ بالرفع على أنه عطف على أنذر أو استئناف أو حال . وقرئ بالسكون كأنه قيل : يفسدوا ويذرك كقوله تعالى: " فأصدق وأكن " "وآلهتك " معبوداتك قيل كان يعبد الكواكب .وقيل صنع لقومه أصناما وأمرهم أن يعبدوها تقربا إليه ولذلك قال : " أنا ربكم الأعلى " وقرئ (إلاهتك ) أي عبادتك ." قال " فرعون " سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم " كما كنا نفعل من قبل ليعلم أنا على ما كنا عليه من القهر والغلبة، ولا يتوهم أنه المولود الذي حكم المنجمون والكهنة بذهاب ملكنا على يده . وقرأ ابن كثير ونافع (سنقتل ) بالتخفيف . " وإنا فوقهم قاهرون " غالبون وهم مقهورون تحت أيدينا .
128. " قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا" لما سمعوا قول فرعون وتضجروا منه تسكينا لهم . " إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده " تسلية لهم وتقرير للأمر بالاستعانة بالله والتثبيت في الأمر . " والعاقبة للمتقين " وعد لهم بالنصرة وتذكير لما وعدهم من إهلاك القبط وتوريثهم ديارهم وتحقيق له .وقرئ " العاقبة " بالنصب عطف على اسم إن وللام في " الأرض " تحتمل العهد والجنس .
129. " قالوا " أي بنو إسرائيل . " أوذينا من قبل أن تأتينا " بالرسالة بقتل الأبناء " ومن بعد ما جئتنا " بإعادته . " قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض " تصريحا لما كنى عنه أولا لما رأى أنهم لم يتسلوا بذلك ، ولعله أتى بفعل الطمع لعدم جزمه بأنهم المستخلفون بأعيانهم أو أولادهم. وقد روي أن مصر إنما فتح لهم فيزمن داود عليه السلام . " فينظر كيف تعملون " في ما تعملون من شكر وكفران وطاعة وعصيان فيجازيكم على حسب ما يوجد منكم .
130. " ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين " بالجدوب لقلة الأمطار والمياه ، والسنة غلبت على عام القحط لكثرة ما يذكر عنه ويؤرخ به ، ثم اشتق منها فقيل أسنت القوم إذا قحطوا . " ونقص من الثمرات " بكثرة العاهات . " لعلهم يذكرون " لكي يتنبهوا على أن ذلك بشؤم كفرهم ومعاصيهم فيتعظوا ، او ترق قلوبهم بالشدائد فيفزعوا إلى الله ويرغبوا فيما عنده.
131. " فإذا جاءتهم الحسنة" من الخصب والسعة. " قالوا لنا هذه " لأجلنا ونحن مستحقوها . " وإن تصبهم سيئة " جدب وبلاء . " يطيروا بموسى ومن معه " يتشاءمون بهم ويقولوا : ما أصابتنا إلا بشؤمهم ، وهذا إغراق في وصفهم بالغباوة والقساوة ، فإن الشدائد ترقق القلوب وتذلل العرائك وتزيل التماسك سيما بعد مشاهدة الآيات ، وهم لم تؤثر فيهم بل زادوا عندها عتوا وإنهماكا في الغي ، وإنما عرف الحسنة وذكرها مع أداة التحقيق لكثرة وقوعها ، وتعلق الإرادة بإحداثها بالذات ونكر السيئة ، وأتى بها مع حرف الشك لندورها وعدم القصد إلا بالتبع . " ألا إنما طائرهم عند الله " أي سبب خيرهم وشرهم عنده وهو حكمته ومشيئته ، او سبب شؤمهم عند الله وهو أعمالهم المكتوبة عنده ، فإنها التي ساقت ما يسوؤهم . وقرئ (إنما طيرهم ) وهو اسم الجمع وقيل هو جمع . " ولكن أكثرهم لا يعلمون " أن ما يصيبهم من الله تعالى أو من شؤم أعمالهم .
132. " وقالوا مهما " أصلها ما الشرطية ضمت إليها ما المزيدة للتأكيد ، ثم قلبت ألفها هاء استثقالا للتكرير . وقيل مركبة من مه الذي يصوت به الكاف وما الجزائية ومحلها الرفع على الابتداء أو النصب بفعل يفسره ، " تأتنا به " أي أيما شيء تحضرنا تأتنا به ." من آية " بيان لمهما ، وإنما سموها آية على زعم موسى لا لاعتقادهم ولذلك قالوا : " لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين " أي لتسحر بها أعيننا وتشبه ، والضمير في به وبها لمهما ذكره قبل التبيين باعتبار اللفظ وأنه بعده باعتبار المعنى .
133." فأرسلنا عليهم الطوفان " ماء طاف بهم وغشي أماكنهم وحروثهم من مطر أو سيل . وقيل الجدري . وقيل الموتان . وقيل الطاعون . " والجراد والقمل " قيل هو كبار القردان ، وقيل أولا الجراد قبل نبات أجنحتها . " والضفادع والدم " روي : أنهم مطروا ثمانية أيام في ظلمة شديدة لا يقدر أحد أن يخرج من بيته ، ودخل الماء بيوتهم حتى قاموا فيه إلى تراقيهم ، وكانت بيوت بني إسرائيل مشتبكة ببيوتهم فلم يدخل فيها قطرة ، وركد على أراضيهم فمنعهم من الحرث والتصرف فيها، ودام ذلك عليهم أسبوعا فقالوا لموسى : ادع لنا ربك يكشف عنا ونحن نؤمن بك ،فدعا الله فكشف عنهم ونبت لهم من الكلأ والزرع ما لم يعهد مثله ولم يؤمنوا ، فبعث الله عليهم الجراد فأكلت زروعهم وثمارهم ، ثم أخذت تأكل الأبواب والسقوف والثياب ففزعوا إليه ثانيا فدعا وخرج إلى الصحراء ، وأشار بعصاه نحو المشرق والمغرب فرجعت إلى النواحي التي جاءت منها فلم يؤمنوا ، فسلط الله عليهم القمل فأكل ما أبقاه الجراد وكان يقع في أطعمتهم ويدخل بين أثوابهم وجلودهم فيمصها ، ففزعوا إليه فرفع عنهم فقالوا: قد تحققنا الآن أنك ساحر ، ثم أرسل الله عليهم الضفادع بحيث لا يكشف ثوب ولا طعام إلا وجدت فيه ، وكانت تمتلئ منها مضاجعهم وتثب إلى قدورهم وهي تغلي ، وأفواههم عند التكلم ففزعوا إليه وتضرعوا ، فأخذ عليهم العهود ودعا فكشف الله عنهم ثم نقضوا العهود ، ثم أرسل عليهم الدم فصارت مياههم دما حتى كان يجتمع القبطي مع الإسرائيلي فيصير دما في فيه . وقيل سلط الله عليهم الرعاف . " آيات " نصب على الحال ." مفصلات " مبينات لا تشكل على عاقل أنها آيات الله ونقمته عليهم ، أو مفصلات لامتحان أحوالهم إذ كان بين كل اثنتين منها شهر وكان امتداد كل واحدة أسبوعا، وقيل إن موسى لبث فيهم بعد ما غلب السحرة عشرين سنة يريهم هذه الآيات على مهل . " فاستكبروا " عن الإيمان ز " وكانوا قوماً مجرمين " .
134. " ولما وقع عليهم الرجز " يعني العذاب المفصل ، أو الطاعون الذي أرسله الله عليهم بعد ذلك . " قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك " بعهده عندك وهو النبوة ، أو بالذي عهده إليك أن تدعوه به فيجيبك كما أجابك في آياتك ، وهو صلة لا دع أو حال من الضمير فيه بمعنى ادع الله متوسلا إليه بما عهد عنك ، أو متعلق بفعل محذوف دل عليه التماسهم مثل أسعفنا إلى ما نطلب منك بحق ما عهد عندك أو قسم مجاب بقوله ، " لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل " أي أقسمنا بعهد الله عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن ولنرسلن .
135." فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه " إلى حد من الزمان هم بالغوه فمعذبون فيه أو مهلكون ، وهو وقت الغرق أو الموت . وقيل إلى أجل عينوه لإيمانهم . " إذا هم ينكثون " جواب لما أي فلما كشفنا عنهم فاجؤوا النكث من غير تأمل وتوقف فيه .
136. " فانتقمنا منهم " فأردنا الانتقام منهم . " فأغرقناهم في اليم " أي البحر الذي لا يدرك قعره . وقيل لجته . " بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين " أي كان إغراقهم بسبب تكذيبهم بالآيات وعدم فكرهم فيها حتى صاروا كالغافلين عنها . وقيل الضمير للنقمة المدلول عليها بقوله : " فانتقمنا منهم " .
137. " وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون " بالاستبعاد وذبح الأبناء من مستضعفيهم . " مشارق الأرض ومغاربها " يعني أرض الشام ملكها بنو إسرائيل بعد الفراعنة والعمالقة وتمكنوا في نواحيها . " التي باركنا فيها " بالخصب وسعة العيش . " وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل " ومضت عليهم واتصلت بالإنجاز عدته إياهم بالنصرة والتمكين وهو قوله تعالى: " ونريد أن نمن " إلى قوله " ما كانوا يحذرون " وقرئ (كلمات ربك ) لتعدد المواعيد " بما صبروا " بسبب صبرهم على الشدائد . " ودمرنا " وخربنا . " ما كان يصنع فرعون وقومه " من القصور والعمارات . " وما كانوا يعرشون " من الجنات أو ما كانوا يرفعون من البنيان كصرح هامان وقرأ ابن عامر وأبو بكر هنا وفي ( النحل )" يعرشون " بالضم . وهذا آخر قصة فرعون وقومه .
138. وقوله : " وجاوزنا ببني إسرائيل البحر " وما بعده ذكر ما أحدثه بنو إسرائيل من الأمور الشنيعة بعد أن من الله عليهم بالنعم الجسام ، وأراهم من الآيات العظام تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما رأى منهم ، وإيقاظا للمؤمنين حتى لا يغفلوا عن محاسبة أنفسهم ومراقبة أحوالهم. روي : أن موسى عليه الصلاة والسلام عبر بهم يوم عاشوراء بعد مهلك فرعون وقومه فصاموه شكرا " فأتوا على قوم "فمروا عليهم . " يعكفون على أصنام لهم " يقيمون على عبادتها ، قيل كانت تماثيل بقر وذلك أول شأن العجل ، والقوم كانوا من العمالقة الذين أمر موسى بقتالهم . وقيل من لخم ، وقرأ حمزة والكسائي ( يعكفون ) بالكسر . " قالوا يا موسى اجعل لنا إلهاً " مثالا نعبده . " كما لهم آلهة " يعبدونها ، وما كافة للكاف . " قال إنكم قوم تجهلون " وصفهم بالجهل المطلق وأكده لبعد ما صدر عنهم بعد ما رأوا من الآيات الكبرى عن العقل .
139. " إن هؤلاء " إشارة إلى القوم . " متبر " مكسر مدمر . " ما هم فيه " يعني أن الله يهدم دينهم الذي هم عليه ويحطم أصنامهم وجعلها رضاضا " وباطل " مضمحل ز " ما كانوا يعملون " من عبادتها وإن قصدوا بها التقرب إلى الله تعالى ، وإنما بالغ في هذا الكلام بإيقاع " هؤلاء " اسم " إن " والإخبار عما هم فيه بالتبار وعما فعلوا بالبطلان ن وتقديم الخبرين في الجملتين الواقعتين خبرا لأن للتنبيه على أن الدمار لاحق لما هم فيه لا محالة، وأن الإحباط الكلي لازب لما مضى عنهم تنفيرا وتحذيرا عما طلبوا .
140." قال أغير الله أبغيكم إلهاً " أطلب لكم معبودا . " وهو فضلكم على العالمين " والحال أنه خصكم بنعم لم يعطها غيركم ، وفيه تنبيه على سوء معاملتهم حيث قابلوا تخصيص الله إياهم من أمثالهم لما لم يستحقوه تفضلا بأن قصدوا أن يشركوا به أخس شيء من مخلوقاته .
141. " وإذ أنجيناكم من آل فرعون " واذكروا صنيعه معكم في هذا الوقت . وقرأ ابن عامر (أنجاكم ) . " يسومونكم سوء العذاب " استئناف لبيان ما أنجاهم منه ، أو حال من المخاطبين ، أو من آل فرعون أو منهما . " يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم " بدل منه مبين . " وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم " في الإنجاء أو العذاب نعمة أو محنة عظيمة .
142. " وواعدنا موسى ثلاثين ليلة " ذا القعدة , وقرأ أبو عمرو ويعقوب (ووعدنا ) . " وأتممناها بعشر" من ذي الحجة . " فتم ميقات ربه أربعين ليلة " بالغا أربعين . روي : أنه عليه الصلاة والسلام وعد بني إسرائيل بمصر أن يأتيهم بعد مهلك فرعون بكتاب من الله فيه بيان ما يأتون وما يذرون ، فلما هلك فرعون سأل ربه فأمره الله بصوم ثلاثين ، فلما أتم أنكر خلوف فيه فتسوك ، فقالت الملائكة كنا نشم منك رائحة المسك فأفسدته بالسواك ، فأمره الله تعالى أن يزيد عليها عشرا ، وقيل أمره بأن يتخلى ثلاثين بالصوم والعبادة ثم أنزل عليه التوراة في العشر وكلمه فيها. " وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي " كن خليفتي فيهم . " وأصلح " ما يجب أن يصلح من أمورهم أو كن مصلحا . " ولا تتبع سبيل المفسدين " ولا تتبع من سلك الإفساد ولا تطع من دعاك إليه .
143. " ولما جاء موسى لميقاتنا " لوقتنا الذي وقتناه ، واللام للاختصاص أي اختص مجيئه لميقاتنا . " وكلمه ربه " من غير وسيط كما يكلم الملائكة ، وفيما روي : أن موسى عليه الصلاة والسلام كان يسمع ذلك الكلام من كل جهة تنبيه على أن سماع كلامه القديم ليس من جنس كلام المحدثين . " قال رب أرني أنظر إليك " أرني نفسك بأن تمكنني من رؤيتك ، أو تتجلى لي فأنظر إليك وأراك . وهو دليل على أن رؤيته تعالى جائزة في الجملة لأن طلب المستحيل من الأنبياء محال ، وخصوصا ما يقتضي الجهل بالله ولذلك رده بقوله تعالى : " لن تراني " دون لن أرى أو لن أريك أو لن تنظر إلي ، تنبيها على أنه قاصر عن رؤيته لتوقفها على معد في الرائي لم يوجد فيه بعد ، وجعل السؤال لتبكيت قومه الذين قالوا : " أرنا الله جهرة " خطأ إذ لو كانت الرؤية ممتنعة لوجب أن يجهلهم ويزيح شبهتهم كما فعل بهم حين قالوا : " اجعل لنا إلهاً " ولا يتبع سبيلهم كما قال لأخيه " ولا تتبع سبيل المفسدين " والاستدلال بالجواب على استحالتها أشد خطأ إذ لا يدل الإخبار عن عدم رؤيته إياه على أن لا يراه أبدا وأن لا يراه غيره أصلا فضلا عن أن يدل على استحالتها ودعوى الضرورة فيه مكابرة أو جهالة بحقيقة الرؤية . " قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني " استدراك يريد أن يبين به أنه لا يطيقه ، وفي تعليق الرؤية بالاستقرار أيضا دليل على الجواز ضرورة أن المعلق على الممكن ممكن ، والجبل قيل هو جبل زبير ، " فلما تجلى ربه للجبل " ظهر له عظمته وتصدى له اقتداره وأمره . وقيل أعطى له حياة ورؤية حتى رآه ." جعله دكاً" مدكوكا مفتتا والدك والق أخوان كالشك والشق ،وقرأ حمزة والكسائي (دكاء ) أي أرضا مستوية ومنه ناقة دكاء التي لا سنام لها . وقرئ " دكاً " أي قطعا جمع دكاء . " وخر موسى صعقاً " مغشيا عليه من هول ما رأى . " فلما أفاق قال " تعظيما لما رأى . " سبحانك تبت إليك " من الجراءة والإقدام على السؤال من غير إذن . " وأنا أول المؤمنين " مر تفسيره . وقيل معناه أنا أول من آمن بأنك لا ترى في الدنيا .
144. " قال يا موسى إني اصطفيتك " اخترتك . " على الناس " أي الموجودين في زمانك ، وهارون وإن كان نبيا كان مأمورا باتباعه ولم يكن كليما ولا صاحب شرع . " برسالاتي " يعني أسفار التوراة وقرأ ابن كثير ونافع برسالتي ) " وبكلامي " وبتكليمي إياك . " فخذ ما آتيتك " أعطيتك من الرسالة . " وكن من الشاكرين " على النعمة فيه . روي أن سؤال الرؤية كان يوم عرفة ، وإعطاء التوراة كان يوم النحر .
145. " وكتبنا له في الألواح من كل شيء " مما يحتاجون إليه من أمر الدين . " موعظةً وتفصيلاً لكل شيء" بدل من الجار والمجرور ، أي وكتبنا له كل شيء من المواعظ وتفصيل الأحكام . واختلف في أن الألواح كانت عشرة أو سبعة ، وكانت من زمرد أو زبرجد ، أو ياقوت أحمر أو صخرة صماء لينها الله لموسى فقطعها بيده وسقفها بأصابعه وكان فيها التوراة أو غيرها . " فخذها " على إضمار القول عطفا على كتبنا أو بدل من قوله : " فخذ ما آتيتك " والهاء للألواح أو لكل شيء فإنه بمعنى الأشياء أو للرسالات . " بقوة" بجد وعزيمة . " وأمر قومك يأخذوا بأحسنها" أي بأحسن ما فيها كالصبر والعفو بالإضافة إلى الانتصار ، والاقتصاص على طريقة الندب والحث على الأفضل كقوله تعالى : " واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم " . أو بواجباتها فإن الواجب أحسن من غيره ، ويجوز أن براد بالأحسن البالغ في الحسن مطلقا بالإضافة ، وهو المأمور به كقولهم الصيف أحر من الشتاء . " سأريكم دار الفاسقين " دار فرعون وقومه بمصر خاوية على عروشها ، أو منازل عاد وثمود وأضرابهم لتعتبروا فلا تفسقوا ، أو دارهم في الآخرة وهي جهنم . وقرئ سأوريكم بمعنى سأبين لكم من أوريت الزند وسأورثكم ،ويؤيده قوله : " وأورثنا القوم " .
146. " سأصرف عن آياتي "المنصوبة في الآفاق والأنفس . " الذين يتكبرون في الأرض " بالطبع على قلوبهم فلا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها.وقيل سأصرفهم عن ابطالها وإن اجتهدوا كما فعل فرعون فعاد عليه بإعلائها أو بإهلاكهم . " بغير الحق" صلة يتكبرون أي يتكبرون بما ليس بحق وهو دينهم الباطل ، أو حال من فاعله . " وإن يروا كل آية" منزلة أو معجزة " لا يؤمنوا بها " لعنادهم واختلال عقولهم بسبب انهماكهم في الهوى والتقليد وهو يؤيد الوجه الأول . " وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا " لاستيلاء الشيطنة عليهم . وقرأ حمزة والكسائي (الرشد ) بفتحتين وقرئ ( الرشاد ) وثلاثتها لغات كالسقم والسقم والسقام ، " وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلاً ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين " أي ذلك الصرف بسبب تكذيبهم وعدم تدبرهم للآيات ، ويجوز أن ينصب ذلك على المصدر أي سأصرف ذلك الصرف بسببهما .
147. " والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة " أي ولقائهم الجار الآخرة أو ما وعد الله في الدار الآخرة . " حبطت أعمالهم " لا ينتفعون بها. " هل يجزون إلا ما كانوا يعملون " إلا جزاء أعمالهم .
148. " واتخذ قوم موسى من بعده " من بعد ذهابه للميقات . " من حليهم " التي استعاروا من القبط حين هموا بالخروج من مصر ، وإضافتها ليهم لأنها كانت في أيديهم أو ملكوها بعد هلاكهم . وهو جمع حلي كثدي وثدي وقرأ حمزة والكسائي بالكسر بالاتباع كدلي ويعقوب على الإفراد " عجلاً جسداً" بدنا ذا لحم ودم ، أو جسدا من الذهب خاليا من الروح ونصبه على البدل ." له خوار " صوت البقر . روي أن السامري لما صاغ العجل ألقى في فمه من تراب أثر فرس جبريل فصار حيا . وقيل صاغه بنوع مات الحيل فتدخل الريح جوفه وتصوت ، وإنما نسب الاتخاذ إليهم وهو فعله إما لأنهم رضوا به أو لأن المراد اتخاذهم إياه إلها. وقرئ (جؤار ) أي صياح ." ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلاً" تقريع على فرط ضلالتهم وإخلالهم بالنظر ، والمعنى ألم يروا حين اتخذوا إلها أنه لا يقدر على كلام ولا على إرشاد سبيل كآحاد البشر حتى حسبوا أنه خالق الأجسام والقوى والقدر . " اتخذوه " تكرير للذم أي اتخذوه إلها . " وكانوا ظالمين " واضعين الأشياء في غير مواضعها فلم يكن اتخاذ العجل بدعا منهم.
149." ولما سقط في أيديهم "كناية عن اشتداد ندمهم فإن النادم المتحسر يعض يده غما فتصير يده مسقوطا فيها . وقرئ ( سقط ) على بناء الفعل للفاعل بمعنى وقع العض فيها . وقيل معناه سقط الندم في أنفسهم . " ورأوا " وعلموا . " أنهم قد ضلوا " باتخاذ العجل . " قالوا لئن لم يرحمنا ربنا" بإنزال التوراة ." ويغفر لنا " بالتجاوز عن الحطيئة . " لنكونن من الخاسرين " وقرأهما حمزة والكسائي بالتاء و " ربنا " على النداء .
150. " ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفاً" شديد الغضب وقيل حزينا . " قال بئسما خلفتموني من بعدي " فعلتم بعدي حيث عندتم العجل ، والخطاب للعبدة أو أقمتم مقامي فلم تكفوا العبدة والخطاب لهارون والمؤمنين معه ! وما نكرة موصوفة تفسر المستكن في بئس والمخصوص بالذم محذوف تقديره بئس خلافة خلفتمونيها من بعدي خلافتكم ، ومعنى من بعدي من بعد انطلاقي ، أو من بعد ما رأيتم مني من التوحيد والتنزيه والحمل عليه والكف عما ينافيه . " أعجلتم أمر ربكم " أتركتموه غير تام ، كأنه ضمن عجل معنى سبق فعدى تعديته ، أو أعجلتم وعد ربكم الذي وعدنيه من الأربعين وقدرتم موتي وغيرتم بعدي كما غيرت الأمم بعد أنبيائهم . " وألقى الألواح " طرحها من شدة الغضب وفرط الضجر حمية للدين . روي : أن التوراة كانت سبعة أسباع في سبعة ألواح فلما ألقاها انكسرت فرفع ستة أسباعها وكان فيها تفصيل كل شيء وبقي سبع كان فيه المواعظ والأحكام . " وأخذ برأس أخيه " بشعر رأسه . " يجره إليه " توهما بأنه قصر في كفهم ، وهارون كان أكبر منه بثلاث سنين وكان حمولا لينا ولذلك كان أحب إلى بني إسرائيل . " قال ابن أم " ذكر الأم ليرققه عليه وكانا من أب وأم . وقرأ ابن عامر وحمزة و الكسائي وأبو بكر عن عاصم هنا وفي ( طه) " يا ابن أم " بالكسر وأصله يا ابن أمي فحذفت الياء اكتفاء بالكسرة تخفيفا كالمنادى المضاف إلى الياء ، والباقون بالفتح زيادة في التخفيف لطوله أو تشبيها بخمسة عشر . " إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني " إزاحة لتوهم التقصير في حقه ، والمعنى بذلت وسعي في كفهم حتى قهروني واستضعفوني وقاربوا قتلي . " فلا تشمت بي الأعداء " فلا تفعل بي ما يشمتون بي لأحله . " ولا تجعلني مع القوم الظالمين " معدودا في عدادهم بالمؤاخذة أو نسبة التقصير .
151. "قال رب اغفر لي " بما صنعت بأخي . " ولأخي " إن فرط في كفهم ضمه إلى نفسه في الاستغفار برضية له ودفعا للشماتة عنه ." وأدخلنا في رحمتك " بمزيد الإنعام علينا . " وأنت أرحم الراحمين " فأنت أرحم بنا منا على أنفسنا .
152. " إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم " وهو ما أمرهم به من قتل أنفسهم . " وذلة في الحياة الدنيا " وهي خروجهم من ديارهم . وقيل الجزية . " وكذلك نجزي المفترين " على الله ولا فرية أعظم من فريتهم وهي قولهم هذا إلهكم وإله موسى ، ولعله لم يفتر مثلها أحد قبلهم ولا بعدهم .
153. " والذين عملوا السيئات " من الكفر والمعاصي . "ثم تابوا من بعدها " من بعد السيئات. " وآمنوا " واشتغلوا بالإيمان وما هو مقتضاه من الأعمال الصالحة . " إن ربك من بعدها" من بعد التوبة ." لغفور رحيم " وإن عظم الذنب كجريمة عبدة العجل وكثر كجرائم بني إسرائيل .
154. " ولما سكت " سكن وقد قرئ به . " عن موسى الغضب " باعتذار هارون ، أو بتوبتهم وفي هذا الكلام مبالغة وبلاغة من حيث إنه جعل الغضب الحامل له على ما فعل كالأمر به والمغري عليه حتى عبر عن سكونه بالسكوت . وقرئ " سكت " و((أسكت )) على أن المسكت هو الله أو أخوه أو الذين تابوا . " أخذ الألواح " التي ألقاها . " وفي نسختها " وفيما نسخ فيها أي كتب ، فعلة بمعنى مفعول كالخطبة وقيل فيما نسخ منها من الألواح المنكسرة , " هدى " بيان للحق , " ورحمة " إرشاد إلى الصلاح والخير ، " للذين هم لربهم يرهبون " دخلت اللام على المفعول لضعف الفعل بالتأخير ، أو حذف المفعول واللام للتعليل والتقدير يرهبون معاصي الله لربهم .
155. " واختار موسى قومه " أي من قومه فحذف الجار وأوصل الفعل إليه " سبعين رجلاً لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة " روي أنه تعالى أمره أن يأتيه في سبعين من بني إسرائيل ، فاختار من كل سبط ستة فزاد اثنان فقال : ليتخلف منكم رجلان فتشاجروا فقال : إن لمن قعد أجر من خرج ، فقعد كالب ويوشع وذهب مع الباقين ، فلما دنوا من الجبل غشيه غمام فدخل موسى بهم الغمام وخروا سجدا ، فسمعوه تعالى يكلم موسى يأمره وينهاه ،ثم انكشف الغمام فأقبلوا إليه وقالوا : " لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة " فأخذتهم الرجفة أي الصاعقة ، أو رجفة الجبل فصعقوا منها . " قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي " تمنى هلاكهم وهلاكه ، قبل أن يرى ما رأى أو بسبب آخر ، او عنى به أنك قدرت على إهلاكهم قبل ذلك بحمل فرعون على إهلاكهم وبإغراقهم في البحر وغيرهما فترحمت عليهم بالإنقاذ منها فإن ترحمت عليهم مرة أخرى لم يبعد من عميم إحسانك . " أتهلكنا بما فعل السفهاء منا " من العناد والتجاسر على طلب الرؤية ، وكان ذلك قاله بعضهم .وقيل المراد بما فعل السفهاء عبادة العجل ، والسبعون اختارهم موسى لميقات التوبة عنها فغشيتهم هيبة قلقوا منها ورجفوا حتى كادت تبين مفاصلهم ، وأشرفوا على الهلاك فخاف عليهم موسى فبكى ودعا فكشفها الله عنهم . " إن هي إلا فتنتك " ابتلاؤك حين أسمعتهم كلامك حتى طمعوا في الرؤية . أو أوجدت في العجل خوارا فزاغوا به . " تضل بها من تشاء " ضلاله بالتجاوز عن حده أو باتباع المخايل . " وتهدي من تشاء " هداه فيقوى بها إيمانه . " أنت ولينا" القائم بأمرنا. " فاغفر لنا " بمغفرة ما قارفنا. " وارحمنا وأنت خير الغافرين " تغفر السيئة وتبدلها بالحسنة .
156. " واكتب لنا في هذه الدنيا حسنةً" حسن معيشة وتوفيق طاعة . " وفي الآخرة " الجنة. " إنا هدنا إليك " تبنا إليك من عدا يهود إذا رجع . وقرئ بالكسر من هاده يهيده إذ أماله ، ويحتمل أن يكون مبينا للفاعل وللمفعول بمعنى أملنا أنفسنا وأملنا إليك ، ويجوز أن يكون المضموم أيضا مبنيا للمفعول منه على لغة من يقول عود المريض . " قال عذابي أصيب به من أشاء " تعذيبه . " ورحمتي وسعت كل شيء " في الدنيا المؤمن والكافر بل المكلف وغيره . " فسأكتبها " فسأثبتها في الآخرة ، او فسأكتبها كتبة خاصة منكم يا بني إسرائيل . " للذين يتقون " الكفر والمعاصي . " ويؤتون الزكاة " خصها بالذكر لإنافتها ولأنها كانت أشق عليهم . " والذين هم بآياتنا يؤمنون " فلا يكفرون بشيء منها .
157. " الذين يتبعون الرسول النبي " مبتدأ خبره يأمرهم ، أو خبر مبتدأ تقديره هم الذين ، أو بدل من الذين يتقون بدل البعض أو الكل، والمراد من آمن منهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وإنما سماه رسولا بالإضافة إلى الله تعالى ونبيا بالإضافة إلى العباد . " الأمي " الذي لا يكتب ولا يقرأ ، وصفه به تنبيها على أن كمال علمه مع حاله إحدى معجزاته . " الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل " اسما وصفة . " يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات " مما حرم عليهم كالشحوم . " ويحرم عليهم الخبائث " كالدم ولحم الخنزير أو كالربا والرشوة . " ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم " ويخفف عنهم ما كلفوا به من التكاليف الشاقة كتعيين القصاص في العمد والخطأ ، وقطع الأعضاء الخاطئة وقرض موضع النجاسة ، وأصل الإصر الثقل الذي يأصر صاحبه أي يحبسه من الحراك لثقله . وقرأ ابن عامر (آصارهم )" فالذين آمنوا به وعزروه " وعظموه بالتقوية . وقرئ بالتخفيف وأصله المنع ومنه التعزير ." ونصروه " لي . " واتبعوا النور الذي أنزل معه " أي مع نبوته يعني القرآن ، وإنما سماه نورا لأنه بإعجازه ظاهر أمره مظهر غيره ، أو لأنه كاشف الحقائق مظهر لها ، ويجوز أن يكون معه متعلقا باتبعوا أي واتبعوا النور المنزل مع اتباع النبي يكون إشارة إلى اتباع الكتاب والسنة . " أولئك هم المفلحون " الفائزون بالرحمة الأبدية ، ومضمون الآية جواب دعاء موسى صلى الله عليه وسلم .
158. " قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم " الخطاب عام ،كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مبعوثا إلى كافة الثقلين ، وسائر الرسل إلى أقوامهم . " جميعاً" حال من إليكم . " الذي له ملك السموات والأرض" صفة لله وإن حيل بينهما بما هو متعلق المضاف إليه لأنه كالتقدم عليه ، أو مدح منصوب أو مرفوع ، أو مبتدأ خبره " لا إله إلا هو " وهو على الوجوه . الأول بيان لما قبله فإن من ملك العالم كان هو الإله لا غيره وفي : " يحيي ويميت " مزيد تقرير لاختصاصه بالألوهية . " فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته " ما أنزل عليه وعلى سائر الرسل من كتبه ووحيه . وقرئ ( وكلمته ) على إرادة الجنس أو القرآن ، أو عيسى تعريضا لليهود وتنبيها على أن من لم يؤمن به لم يعتبر إيمانه ،وإنما عدل عن التكلم إلى الغيبة لإجراء هذه الصفات الداعية إلى الإيمان به والاتباع له . " واتبعوه لعلكم تهتدون " جعل رجاء الاهتداء أثر الأمرين تنبيها على أن من صدقه ولم يتابعه بالتزام شرعه فهو يعد في خطط الضلالة.
159. " ومن قوم موسى " يعنى من بني إسرائيل . " أمة يهدون بالحق " يهدون الناس محقين أو بكلمة الحق . " وبه " بالحق ز " يعدلون " بينهم في الحكم والمراد بها الثابتون على الإيمان القائمون بالحق من أهل زمانه ، اتبع ذكرهم ذك أضدادهم على ما هو عادة القرآن تنبيها على أن تعارض الخير والشر وتزاحم أهل الحق والباطل أمر مستمر . وقيل مؤمنو أهل الكتاب . وقيل قوم وراء الصين رآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج فآمنوا به .
160. " وقطعناهم " وصيرناهم قطعا متميزا بعضهم عن بعض . " اثنتي عشرة " مفعول ثان لقطع فإنه متضمن معنى صير ، أو حال وتأنيثه للخل على الأمة أو القطعة . " أسباطاً" بدل منه ولذلك جمع ،أو تمييز له على أن كل واحد من اثنتي عشرة أسباط فكأنه قيل: اثنتي عشرة قبيلة . وقرئ بكسر الشين وإسكانها . " أمماً" على الأول بدل بعد بدل ، او نعت أسباط وعلى الثاني بدل من أسباط. " وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه " في التيه . " أن اضرب بعصاك الحجر فانبجست " أي فضرب فانبجست وحذفه للإيماء على أن موسى صلى الله عليه وسلم لم يتوقف في الامتثال ، وأن ضربه لم يكن مؤثرا يتوقف عليه الفعل في ذاته " منه اثنتا عشرة عيناً قد علم كل أناس" كل سبط . " مشربهم وظللنا عليهم الغمام " ليقيهم حر الشمس . " وأنزلنا عليهم المن والسلوى كلوا " أي وقلنا لهم كلوا " من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون " سبق تفسيره في سورة ( البقرة ) .
161. " وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية " بإضمار اذكروا لقرية بيت المقدس . " وكلوا منها حيث شئتم وقولوا حطة وادخلوا الباب سجداً" مثل ما في سورة ( البقرة ) معنى غير أن قوله " فكلوا " فيها بالفاء أفاد تسبب سكناهم للأكل منها ، ولم يتعرض له ها هنا اكتفاء بذكره ثمة ، أو بدلالة الحال عليه وأما تقديم قوله قولوا على وادخلوا فلا أثر له في المعنى لأنه لا يوجب الترتيب وكذا الواو العاطفة بينهما. " نغفر لكم خطيئاتكم سنزيد المحسنين " وعد بالغفران والزيادة عليه بالإثابة، وإنما أخرج الثاني مخرج الاستئناف للدلالة على أنه تفضل محض ليس في مقابلة ما أمروا به . وقرأ نافع وابن عامر ويعقوب 0تغفر ) بالتاء والبناء للمفعول ، و" خطيئاتكم " بالجمع والرفع غير ابن عامر فإنه وحد وقرأ أبو عمرو ( خطاياكم).
162. " فبدل الذين ظلموا منهم قولاً غير الذي قيل لهم فأرسلنا عليهم رجزاً من السماء بما كانوا يظلمون " مضى تفسيره فيها .
163. " واسألهم " للتقرير والتقريع بقديم كفرهم وعصيانهم ، والإعلام بما هو من علومهم التي لا تعلم إلا بتعليم أو وحي ليكون لك ذلك معجزة عليهم . " عن القرية " عن خبرها وما وقع بأهلها . " التي كانت حاضرة البحر " قريبة منه وهي آيلة قرية بين مدين والطور على شاطئ البحر ، وقيل مدين ، وقيل طبرية . " إذ يعدون في السبت " يتجاوزون حدود الله بالصيد يوم السبت ، و" إذ " ظرف ل " كانت " أو " حاضرة " أو للمضاف المحذوف أو بدل منه بدل اشتمال . " إذ تأتيهم حيتانهم " ظرف ل" يعدون " أو بدل بعد بدل . وقرئ " يعدون " وأصله يعتدون ويعدون من الإعداد أي يعدون آلات الصيد يوم السبت ، وقد نهوا أن يشتغلوا فيه بغير العبادة . " يوم سبتهم شرعاً" يوم تعظيمهم أمر السبت مصدر سبتت اليهود إذا عظمت سبتها بالتجرد للعبادة . وقيل اسم للوم والإضافة لاختصاصهم بإحكام فيه ن ويؤيد الأول إن قرئ يوم إسباتهم. وقوله : " ويوم لا يسبتون لا تأتيهم " وقرئ " لا يسبتون " من أسبت و" لا يسبتون " على البناء للمفعول بمعنى لا يدخلون في السبت ، و" شرعاً" حال من الحيتان ومعناه ظاهرة على وجه الماء من شرع علينا إذا دنا وأشرف . " كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون " مثل ذلك البلاء الشديد نبلوهم بسبب فسقهم . وقيل كذلك متصل بما قبله أي لا تأتيهم مثل إتيانهم يوم السبت ن والباء متلق ب " يعدون " .
164."وإذ قالت " عطف على " إذ يعدون " . " أمة منهم" جماعة من أهل القرية يعني صلحاءهم الذين اجتهدوا في موعظتهم حتى أيسوا من اتعاظهم . " لم تعظون قوماً الله مهلكهم " مخترمهم . " أو معذبهم عذاباً شديداً " في الآخرة لتماديهم في العصيان ، قالوه مبالغة في أن الوعظ لا ينفع فيهم , أو سؤالا عن علة الوعظ ونفعه وكأنه تقاول بينهم أو قول من ارعوى عن الوعظ لمن لم يرعو منهم ، وقيل المراد طائفة من الفرقة الهالكة أجابوا به وعاظهم ردا عليهم وتهكما بهم . " قالوا معذرةً إلى ربكم " جواب للسؤال أي موعظتنا إنهاء عذر الله حتى لا ننسب إلى تفريط في النهي عن المنكر . وقرأ حفص " معذرة " بالنصب على المصدر أو العلة أي اعتذرنا به معذرة ووعظناهم معذرة . " ولعلهم يتقون " إذ اليأس لا يحصل إلا بالهلاك .
165."فلما نسوا " تركوا ترك الناسي . " ما ذكروا به " ما ذكرهم به صلحاؤهم . " أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا " بالاعتداء ومخالفة أمر الله ز " بعذاب بئيس " شديد فعيل من بؤس يبؤس بؤسا إذا اشتد . وقرأ أبو بكر ( بيئس ) على فيعل كضيغم . وابن عامر (بئس ) بكسر الباء وسكون الهمزة على أنه بئس كحذر ،كما قرئ به فخفف عينه بنقل حركتها إلى الفاء ككبد في كبد ، وقرا نافع ( بيس ) كريس على قلب الهمزة ثم إدغامها و( بيس ) بالتخفيف كهين وبائس كفاعل . " بما كانوا يفسقون" بسبب فسقهم .
166. " فلما عتوا عن ما نهوا عنه " تكبرا عن ترك ما نهوا عنه كقوله تعالى : " وعتوا عن أمر ربهم " " قلنا لهم كونوا قردةً خاسئين " كقوله : " إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون "والظاهر يقتضي أن الله تعالى عذبهم أولا بعذاب شديد فعتوا بعد ذلك فمسخهم ، ويجوز أن تكون الآية الثانية تقريرا وتفصيلا للأولى . روي : أن الناهين لما أيسوا عن اتعاظ المعتدين كرهوا مساكنتهم ، فقسموا القرية بجدار فيه باب مطروق، فأصبحوا يوما ولم يخرج إليهم أحد من المعتدين فقالوا : إن لهم شأنا فدخلوا عليهم فإذا هم قردة فلم يعرفوا أنسبائهم ولكن القردة تعرفهم ، فجعلت تأتي أنسبائهم وتشم ثيابهم وتدور باكية حولهم ثم ماتوا بعد ثلاث . وعن مجاهد مسخت قلوبهم لا أبدانهم .
167. " وإذ تأذن ربك " أي أعلم تفعل من الإيذان بمعناه كالتوعد والإيعاد،أو عزم لأن العازم على الشيء يؤذن نفسه بفعله فأجرى مجرى فعل القسم " علم الله " و" شهد الله" ولذلك أجيب بجوابه وهو: " ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة " والمعنى وإذ أوجب ربك على نفسه ليسلطن على اليهود . " من يسومهم سوء العذاب " كالإذلال وضرب الجزية ن بعث الله عليهم بعدد سليمان عليه السلام بختنصر فخرب ديارهم وقتل مقاتليهم وسبى نساءهم وذراريهم وضرب الجزية على من بقي منهم ، وكانوا يؤدونها إلى المجوس حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم ففعل ما فعل ثم ضرب عليهم الجزية فلا تزال مضروبة إلى آخر الدهر . " إن ربك لسريع العقاب " عاقبهم في الدنيا." وإنه لغفور رحيم " لمن تاب وآمن .
168." وقطعناهم في الأرض أمماً" وفرقناهم فيها بحيث لا يكاد يخلو قطر منهم تتمة لأدبارهم حتى لا يكون لهم شوكة قط و" أمماً" مفعول ثان أوحال . " ومنهم دون ذلك " تقديره ومنهم أناس دون ذلك أي منحطون عن الصلاح ، وهم كفرتهم وفسقتهم . " وبلوناهم بالحسنات والسيئات " بالنعم والنقم . " لعلهم يرجعون " ينهون فيرجعون عما كانوا عليه .
169. " فخلف من بعدهم " من بعد المذكورين. " خلف " بدل سوء مصدر نعت به ولذلك يقع على الواحد والجمع . وقيل جمع وهو شائع في " ورثوا الكتاب " والتوراة من أسلافهم يقرؤونها ويقفون على ما فيها. " يأخذون عرض هذا الأدنى " حطام هذا الشيء الأدنى يعني الدنيا، وهو من الدنو أو الدناءة وهو ما كانوا يأخذون من الرشا في الحكومة وعلى تحرف الكلم ، والجملة حال من الواو . " ويقولون سيغفر لنا " لا يؤاخذنا الله بذلك ويتجاوز عنه ، وهو يحتمل العطف والحال والفعل مسند إلى الجار والمجرور ، أو مصدر يأخذون . " وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه " حال من الضمير في " لنا " أي : يرجون المغفرة مصرين على الذنب عائدين إلى مثله غير تائبين عنه . " ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب " أي في الكتاب . " أن لا يقولوا على الله إلا الحق " عطف بيان للميثاق ، أو متعلق به أي بأن يقولوا والمراد توبيخهم على البت بالمغفرة مع عدم التوبة والدلالة على أنه افتراء على الله وخروج عن ميثاق الكتاب . " ودرسوا ما فيه " عطف على "ألم يؤخذ" من حيث المعنى فإنه تقرير .، أو على " ورثوا " وهو اعتراض " والدار الآخرة خير للذين يتقون " مما يأخذ هؤلاء . " أفلا تعقلون " فيعلموا ذلك ولا يستبدلوا الأدنى الدنيء المؤدي إلى العقاب بالنعيم المخلد ، وقرأ نافع وابن عامر وحفص ويعقوب بالتاء على التلوين .
170. " والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة" عطف على الذين " يتقون " وقوله : " أفلا تعقلون " اعترض أو مبتدأ خبره : " إنا لا نضيع أجر المصلحين " على تقدير منهم ، أو وضع الظاهر موضع المضمر تنبيها على أن الإصلاح كالمانع من التضييع . وقرأ أبو بكر " يمسكون " بالتخفيف وإفراد الإقامة لإنافتها على سائر أنواع التمسكات .
171. " وإذ نتقنا الجبل فوقهم " أي قلعناه ورفعناه فرقهم وأصل النتق الجذب. " كأنه ظلة " سقيفة وهي ما أظلك . " وظنوا " وتيقنوا ." أنه واقع بهم " ساقط عليهم لأن الجبل لا يثبت في الجو ولأنهم كانوا يوعدون به ، وإنما أطلق الظن لأنه لم يقع متعلقة وذلك أنهم أبوا أن يقبلوا أحكام التوراة لثقلها فرفع الله الطور فوقهم . وقيل لهم إن قبلتم ما فيها ليقعن عليكم . " خذوا " على إضمار القول أي وقلنا خذوا أو قائلين خذوا . " ما آتيناكم " من الكتاب . " بقوة " بجد وعزم على تحمل مشاقه، وهو حال من الواو . " واذكروا ما فيه " بالعمل به ولا تتركوه كالمنسي . " لعلكم تتقون " قبائح الأعمال ورذائل الأخلاق .
172. " وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم " أي أخرج من أصلابهم نسلهم على ما يتوالدون قرنا بعد قرن ، و " من ظهورهم " بدل " من بني آدم " بدل البعض . وقرا نافع وأبو عمرو وابن عامر ويعقوب (ذرياتهم ) . "و أشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا" أي ونصب لهم دلائل ربوبيته وركب في عقولهم ما يدعوهم إلى الإقرار بها حتى صاروا بمنزلة من قبل لهم :" قالوا بلى " فنزل تمكينهم من العلم بها وتمكنوا منه بمنزلة الأشهاد والاعتراف على طريقة التمثيل ويدل عليه قوله : " أن تقولوا يوم القيامة " أي كراهة أن تقولوا . " إنا كنا عن هذا غافلين " لم ننبه عليه بدليل .
173. " أو تقولوا " عطف على " أن تقولوا " وقرأ أبو عمرو كليهما بالياء لأن أول الكلام على الغيبة . " إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذريةً من بعدهم " فاقتدينا بهم لأن التقليد عند قيام الدليل والتمكن من العلم به لا يصلح عذرا . " أفتهلكنا بما فعل المبطلون " يعني آباءهم المبطلين بتأسيس الشرك . وقيل لما خلق الله آدم أخرج من ظهره ذرية كالذر وأحياهم وجعل لهم العقل والنطق وألهمهم ذلك لحديث رواه عمر رضي الله تعالى عنه ، وقد حققت الكلام فيه في شرحي لكتاب المصابيح والمقصود من إيراد هذا الكلام ها هنا إلزام اليهود بمقتضى الميثاق العام بعد ما ألزمهم بالميثاق المخصوص بهم ، والاحتجاج عليهم بالحجج السمعية والعقلية ومنعهم عن التقليد وحملهم على النظر والاستدلال كما قال:
174. " وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون " أي عن التقليد واتباع الباطل .
175. " واتل عليهم " أي على اليهود . " نبأ الذي آتيناه آياتنا " هو أحد علماء بني إسرائيل ، أو أمية بن أبي الصلت فإنه كان قد قرأ الكتب وعلم أن الله تعالى مرسل رسولا في ذلك الزمان ، ورجا أن يكون هو فلما بعث محمد عليه السلام حسده وكفر به ، أو بلعم بن باعوراء من الكنعانيين أوتي علم بعض كتب الله " فانسلخ منها " من الآيات بأن كفر بها وأعرض عنها . " فأتبعه الشيطان " حتى لحقه وقيل استتبعه . " فكان من الغاوين " فصار من الضالين ، روي أن قومه سألوه أن يدعو علي موسى ومن معه فقال : كيف أدعو على من معه الملائكة، فألحوا حتى دعا عليهم فبقوا في التيه .
176. " ولو شئنا لرفعناه " إلى منازل الأبرار من العلماء. " بها " بسبب تلك الآيات وملازمتها , " ولكنه أخلد إلى الأرض " مال إلى الدنيا أو إلى السفالة . " واتبع هواه" في إيثار الدنيا واسترضاء قومه وأعرض عن مقتضى الآيات ، وإنما علق رفعه بمشيئة الله تعالى ثم استدرك عنه بفعل العبد ، تنبيها على أن المشيئة سبب لفعله الموجب لرفعه وان عدمه دليل عدمها دلالة انتفاء المسبب على انتفاء سببه ، وأن السبب الحقيقي هو المشيئة وأن ما نشاهده من الأسباب وسائط معتبرة في حصول المسبب من حيث أن المشيئة تعلقت به كذلك ، وكان من حقه أن يقول ولكنه أعرض عنها فأوقع موقعه " أخلد إلى الأرض واتبع هواه " ،مبالغة وتنبيها على ما حمله عليه وأن حب الدنيا رأس كل خطيئة , " فمثله " فصفته التي هي مثل في الخسة . " كمثل الكلب " كصفته في أخس أمواله وهو " إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث " أي يلهث دائما سواء حمل عليه بالزجر والطرد أو ترك ولم يتعرض له ، بخلاف سائر الحيوانات لضعف فؤاده . واللهث إدلاع اللسان من التنفس الشديد والشرطية في موضع الحال والمعنى . لاهثا في الحالتين ، والتمثيل واقع موقع لازم التركيب الذي هو نفي الرفع ووضع المنزلة للمبالغة والبيان . وقيل لما دعا على موسى صلى الله عليه وسلم خرج لسانه فوقع على صدره وجعل يلهث كالكلب . " ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص " القصة المذكورة على اليهود فإنها نحو قصصهم . " لعلهم يتفكرون " تفكرا يؤدي بهم إلى الاتعاظ.
177. " ساء مثلاً القوم" أي مثل القوم ، وقرئ " ساء مثلا القوم " على حذف المخصوص بالذم . " الذين كذبوا بآياتنا " بعد قيام الحجة عليهم وعلمهم بها . " وأنفسهم كانوا يظلمون " إما أن يكون دخلا في الصلة معطوفا عنها بمعنى : وما ظلموا بالتكذيب إلا أنفسهم فإن وباله لا يتخطاها ،ولذلك عدم المفعول .
178. " من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون " تصريح بأن الهدى والضلال من الله ، و أن هداية الله تختص ببعض دون بعض ، وأنها مستلزمة للاهتداء والإفراد في الأول والجمع في الثاني باعتبار اللفظ ، والمعنى تنبيه على أن المهتدين كواحد لاتحاد طريقهم بخلاف الضالين ، والاقتصار في الإخبار عمن هداه الله بالمهتدي تعظيم لشأن الاهتداء ،وتنبيه على أنه في نفسه كمال جسيم ونفع عظيم لو لم يحصل له فيره لكفاه وأنه المستلزم للفوز بالنعم الآجلة والعنوان لها .
179. " ولقد ذرأنا " خلقنا . " لجهنم كثيراً من الجن والإنس " يعني المصرين على الكفر في علمه تعالى. " لهم قلوب لا يفقهون بها" إذ لا يلقونها إلى معرفة الحق والنظر في دلائله . " ولهم أعين لا يبصرون بها " أي لا ينظرون إلى ما خلق الله نظر اعتبار . " ولهم آذان لا يسمعون بها " الآيات والمواعظ سماع تأمل وتذكر ز " أولئك كالأنعام " في عدم الفقه والإبصار للاعتبار والاستماع للتدبر ، او في أن مشاعرهم وقواهم متوجهة إلى أسباب التعيش مقصورة عليها . " بل هم أضل " فإنها تدرك ما يمكن لها أن تدرك من المنافع المضار ن وتجتهد في جلبها ودفعها غاية جهدها ، وهم ليسوا كذلك بل أكثرهم يعلم أنه معاند فيقدم على النار. " أولئك هم الغافلون " الكاملون في الغفلة.
180. " ولله الأسماء الحسنى " لأنها دالة على معان هي أحسن المعاني ، والمراد بها الألفاظ وقيل الصفات . " فادعوه بها " فسموه بتلك الأسماء." وذروا الذين يلحدون في أسمائه " واتركوا تسمية الزائغين فيها الذين يسمونه بما لا توقيف فيه ، إذ ربما يوهم معنى فاسدا كقولهم يا أبا المكارم يا أبيض الوجه ، أو لا تبالوا بإنكارهم ما سمى به نفسه كقولهم : ما نعرف إلا رحمان اليمامة ، أو وذروهم وإلحادهم فيها بإطلاقها على الأصنام واشتقاق أسمائها منها كاللات من (الله )، والعزى من (العزيز ) ولا توافقوهم عليه أو أعرضوا عنهم فإن الله مجازيهم كما قال : " سيجزون ما كانوا يعملون " وقرأ حمزة هنا وفي ( فصلت ) " يلحدون " بالفتح يقال : لحد وألحد إذا مال عن القصد .
181. " وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون " ذكر ذلك بعد ما بين أنه خلق للنار طائفة ضالين ملحدين عن الحق للدلالة على أنه خلق أيضا للجنة هادين بالحق عادلين في الأمر ، واستدل به على صحة الإجماع لأن المراد منه أن في كل قرن طائفة بهذه الصفة لقوله عليه الصلاة والسلام "لا تزال من أمتي طائفة على الحق إلى أن يأتي أمر الله " إذ لو اختص بعهد الرسول أو غيره لم يكن فائدة فإنه معلوم .
182."والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم " سنستدنيهم إلى الهلاك قليلا قليلا وأصل الاستدراج الاستصعاد أو الاستنزال درجة بعد درجة " من حيث لا يعلمون " ما نريد بهم وذلك أن تتواتر عليهم النعم فيظنوا أنها لطف من الله تعالى بهم ، فيزدادوا بطرا وإنهماكا في الغي حتى يحق عليهم كلمة العذاب
183. " وأملي لهم " وأمهلهم عطف على" سنستدرجهم ". " إن كيدي متين " إن أخذي شديد ، وإنما سماه كيدا لأن ظاهره إحسان وباطنه خذلان .
184. " أولم يتفكروا ما بصاحبهم " يعني محمدا صلى الله عليه وسلم . " من جنة " من جنون . روي : أنه صلى الله عليه وسلم صعد على الصفا فدعاهم فخذا فخذا يحذرهم بأس الله تعالى فقال قائلهم إن صاحبكم لمجنون بات يهوت إلى الصباح ن فنزلت . " إن هو إلا نذير مبين " موضح إنذاره بحيث لا يخفى على ناظر .
185. " أولم ينظروا "نظر استدلال . " في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء " مما يقع عليه اسم الشيء من الأجناس التي لا يمكن حصرها ليدلهم على كمال قدرة صانعها ، ووحدة مبدعها وعظم شان مالكها ، ومتولي أمرها ليظهر صحة ما يدعوهم إليه . " وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم " عطف على ملكوت وأن مصدرية أو مخففة من الثقيلة ن واسمها ضمير الشأن وكذا اسم يكون والمعنى : أو لم ينظروا في اقتراب آجالهم وتوقع حلولها فيسارعوا إلى طلب الحق والتوجه إلى ما ينجيهم قبل مغافصة الموت ونزول العذاب . " فبأي حديث بعده " أي بعد القرآن . " يؤمنون " إذا لم يؤمنوا به ،وهو النهاية في البيان كأنه إخبار عنهم بالطبع والتصميم على الكفر بعد إلزام الحجة والإرشاد إلى النظر . وقيل هو متعلق بقوله : عسى أن يكون ، كأنه قيل لعل أجلهم قد اقترب فما بالهم لا يبادرون الإيمان بالقرآن ،وماذا ينتظرون بعد وضوحه فإن لم يؤمنوا به فبأي حديث أحق منه يريدون أن يؤمنوا به وقوله:
186. " من يضلل الله فلا هادي له " كالتقرير والتعليل له . " ونذرهم في طغيانهم " بالرفع على الاستئناف وقرأ أبو عمرو وعاصم ويعقوب بالياء لقوله " من يضلل الله " وحمزة والكسائي به وبالجزم عطفا على محل " فلا هادي له " كأنه قيل : لا يهده أحد غيره " ونذرهم " . " يعمهون " حال من هم .
187. " يسألونك عن الساعة " أي عن القيامة ، و هي من الأسماء الغالبة وإطلاقها عليها أما لوقوعها بغتة او لسرعة حسابها ، أو لأنها على طولها عند الله كساعة . "أيان مرساها "متى إرساؤها أي إثباتها و استقرارها ورسو الشيء ثباته واستقراره ، ومنه رسا الجبل وأرسى السفينة ، واشتقاق " أيان " من أي معناه أي وقت ، وهو من أويت إليه لأن البعض أوى إلى الكل . " قل إنما علمها عند ربي " استأثر به لم يطلع عليه ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا . " لا يجليها لوقتها " لا يظهر أمرها في وقتها . " إلا هو " والمعنى أن الخفاء بها مستمر على غيره إلى وقت وقوعها ، وللام للتأقيت كاللام في قوله : " أقم الصلاة لدلوك الشمس " . " ثقلت في السموات والأرض " عظمت على أهلها من الملائكة والثقلين لهولها ، وكأنه إشارة إلى الحكمة في إخفائها. " لا تأتيكم إلا بغتةً" إلا فجأة على غفلة ، كما قال عليه الصلاة والسلام : " إن الساعة تهيج بالناس والرجل يصلح حوضه والرجل يسقي ماشيته والرجل يقوم سلعته في سوقه والرجل يخفض ميزانه ويرفعه " . " يسألونك كأنك حفي عنها " عالم بها فعيل من حفى عن الشيء إذا سأل عنه ن فإن من بالغ في السؤال عن الشيء والبحث عنه استحكم علمه فيه ، ولذلك عدي بعن . وقيل هي صلة " يسألونك " وقيل هو من الحفاوة بمعنى الشفقة فإن قريشا قالوا له: إن بيننا وبينك قرابة فقل لنا متى الساعة ، والمعنى يسألونك عنها كأنك حفي تتحفى بهم فتحضهم لأجل قرابتهم بتعليم وقتها . وقيل معناه كأنك بالسؤال عنها تحبه ، من حفى بالشيء إذا فرح أن تكثره لأنه من الغيب الذي استأثر الله بعلمه . " قل إنما علمها عند الله " كرره لتكرير يسألونك لما أنيط به من هذه الزيادة وللمبالغة . " ولكن أكثر الناس لا يعلمون" أن علمها عند الله لم يؤته أحدا من خلقه .
188."قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً " جلب نفع ولا دفع ضر ، وهو إظهار للعبودية والتبري من ادعاء العلم بالغيوب . " إلا ما شاء الله " من ذلك فيلهمني إياه ويوفقني له ، " ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء " ولو كنت أعلمه لخالفت حالي ما هو عليه من استكثار المنافع واجتناب المضار حتى لا يمسني سوء . " إن أنا إلا نذير وبشير " ما أنا إلا عبد مرسل للإنذار والبشارة . " لقوم يؤمنون " فإنهم المنتفعون بهما ، ويجوز أن يكون متعلقا بال" بشير " ومتعلق أل" نذير " محذوف .
189. " هو الذي خلقكم من نفس واحدة " هو آدم . " وجعل منها " من جسدها من ضلع من أضلاعها ، أو من جنسها كقوله : " جعل لكم من أنفسكم أزواجاً " . " زوجها " حواء ز " ليسكن إليها " ليستأنس بها ويطمئن إليها اطمئنان الشيء إلى جزئه أو جنسه ، وإنما ذكر الضمير ذهابا إلى المعنى ليناسب" فلما تغشاها " أي جامعها . " حملت حملاً خفيفاً " خف عليها ولم يلق منه ما تلقى منه الحوامل غالبا من الأذى ، أو محمولا خفيفا وهو النطفة . " فمرت به " فاستمرت به أي قامت وقعدت، وقرئ " فمرت " بالتخفيف و فاستمرت به و فمارت من المور وهو المجيء والذهاب ، أو من المرية أي فظنت الحمل وارتابت منه . "فلما أثقلت " صارت ذات ثقل بكبر الولد في بطنها . وقرئ على البناء للمفعول أي أثقلها حملها . " دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحاً " ولدا سويا قد صلح بدنه . "لنكونن من الشاكرين " لك على هذه النعمة المجددة .
190. " فلما آتاهما صالحاً جعلا له شركاء فيما آتاهما "أي جعل أولادهما له شركاء فيما آتى أولادهما فسموه عبد العزى وعبد مناف على حذف مضاف وإقامة المضاف إليه مقامه ، ويدل عليه قوله : " فتعالى الله عما يشركون " .
191. " أيشركون ما لا يخلق شيئاً وهم يخلقون " يعني الأصنام . وقيل : لما حملت حواء أتاهما إبليس في صورة رجل فقال لها : ما يدريك ما في بطنك لعله بهيمة أو كلب وما يدريك من أين يخرج ، فخافت من ذلك وذكرته لآدم فهما منه ثم عاد إليها وقال: إني من الله بمنزلة فإن دعوت الله أن يجعله خلقا مثلك ويسهل عليك خروجه تسميه عبد الحرث ، وكان اسمه حارثا بين الملائكة فتقبلت ، فلما ولدت سمياه عبد الحرث. وأمثال ذلك لا تليق بالأنبياء ويحتمل أن يكون الخطاب في" خلقكم " لآل قصي من قريش ، فإنهم خلقوا من نفس قصي وكان زوج من جنسه عربية قرشية وطلبا من الله الولد فأعطاهما أربعة بنين فسمياهم : عبد مناف ، وعبد شمس ، وعبد قصي ، عبد الدار . ويكون الضمير في " يشركون " لهما ولأعقابهما المقتدين بهما .وقرأ نافع وأبو بكر (شركاً) أي شركة بأن أشركا فيه غيره أو ذوي شرك وهم الشركاء ، وهم ضمير الأصنام جيء به على تسميتهم إياها آلهة .
192." ولا يستطيعون لهم نصراً " أي لعبدتهم . " ولا أنفسهم ينصرون " فيدفعون عنها ما يعتريها .
193. " وإن تدعوهم " أي المشركين . " إلى الهدى " إلى الإسلام . " لا يتبعوكم " وقرأ نافع بالتخفيف وفتح الباء ، وقيل الخطاب للمشركين وهم ضمير الأصنام أي ك إن تدعوهم إلى أن يهدوكم لا يتبعوكم إلى مرادكم ولا يجيبوكم كما يجيبكم الله . " سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون " وإنما لم يقل أم صمتم للمبالغة في عدم إفادة الدعاء من حيث إنه مسوى بالثبات على الصمات ، أو لأنهم ما كانوا يدعونها لحوائجهم فكأنه قيل : سواء عليكم إحداثكم دعاءهم واستمراركم على الصمات عن دعائهم.
194. " إن الذين تدعون من دون الله " أي تعبدونهم وتسمونهم آلهة . " عباد أمثالكم " من حيث إنه مملوكة مسخرة. " فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين " أنهم آلهة، ويحتمل أنهم لما نحتوها بصور الأناسي قال لهم : إن قصارى أمرهم أن يكونوا أحياء عقلاء أمثالكم فلا يستحقون عبادتكم كما لا يستحق بعضكم عبادة بعض ، ثم عاد عليه بالنقض فقال :
195."ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها"وقرئ " إن الذين " بتخفيف " أن " ونصب " عباد " على أنها نافية عملت عمل ما الحجازية ولم يثبت مثله ، و" يبطشون " بالصم ها هنا وفي ( القصص) والدخان ) . " قل ادعوا شركاءكم " واستعينوا بهم في عداوتي ." ثم كيدون " فبالغوا فيما تقدرون عليه من مكر ، وهي أنتم وشركاؤكم . " فلا تنظرون " فلا تمهلون فإني لا أبالي بكم لوثوقي على ولاية الله تعالى وحفظه.
196. " إن وليي الله الذي نزل الكتاب " القرآن ." وهو يتولى الصالحين " أي ومن عادته تعالى أن يتولى الصالحين من عباده فضلا عن أنبيائه .
197. " والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون " من تمام التعليل لعدم مبالاته بهم.
198. " وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون " يشبهون الناظرين إليك لأنهم صوروا بصورة من ينظر إليك إلى من يواجهه.
199. " خذ العفو " أي خذ ما عفا لك من أفعال الناس وتسهل ولا تطلب ما يشق عليهم ، من العفو الذي هو ضد الجهد أو " خذ العفو " عن المذنبين أو الفضل وما يسهل من صدقاتهم، وذلك قبل وجوب الزكاة ." وأمر بالعرف " المعروف المستحسن من الأفعال . " وأعرض عن الجاهلين " فلا تمارهم ولا تكافئهم بمثل أفعالهم .وهذه الآية جامعة لمكارم الأخلاق آمرة للرسول باستجماعها.
200. " وإما ينزغنك من الشيطان نزغ " ينخسنك منه نخس أي وسوسة تحملك على خلاف ما أمرت به كاعتراء غضب وفكر، والنزغ والنسغ والنخس الغرز شبه وسوسة إغراء لهم على المعاصي وإزعاجا بغرز السائق ما يسوقه . " فاستعذ بالله إنه سميع " يسمع استعاذتك . " عليم " يعلم ما فيه صلاح أمرك فيحملك عليه ، أو " سميع " بأقوال من آذاك عليهم بأفعاله فيجازيه عليها مغنيا إياك عن الانتقام ومشايعة الشيطان .
201. " إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان " لمة منه ،وهو اسم فاعل من طاف يطوف كأنها طافت بهم ودارت حولهم فلم تقدر أن تؤثر فيهم، أومن طاف به الخيال يطيف طيفا . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ويعقوب ( طيف ) على أنه مصدر أو تخفيف (طيف ) كلين وهين ، والمراد بالشيطان الجنس ولذلك جمع ضميره . " تذكروا " ما أمر الله به ونهى عنه . " فإذا هم مبصرون " بسبب التذكر مواقع الخطأ ومكايد الشيطان فيتحرزون عنها ولا يتبعونه فيها، والآية تأكيد وتقرير لما قبلها وكذا قوله:
202." وإخوانهم يمدونهم " أي وإخوان الشياطين الذين لم يتقوا بمدهم الشياطين." في الغي " بالتزيين والحمل عليه ن وقرئ " يمدونهم" من أمد ويمادونهم كأنهم يعينونهم بالتسهيل والإغراء وهؤلاء يعينونهم بالاتباع والامتثال ." ثم لا يقصرون " ثم لا يمسكون عن إغوائهم حتى يردوهم ، ويجوز أن يكون الضمير للإخوان أي لا يكفون عن الغي ولا يقصرون كالمتقين ، ويجوز أن يراد بال" إخوان"الشياطين ويرجع الضمير إلى " الجاهلين " فيكون الخبر جاريا على ما هو له .
203. " وإذا لم تأتهم بآية " من القرآن أو مما اقترحوه. " قالوا لولا اجتبيتها" هلا جمعتها تقولا من نفسك كسائر ما تقرؤه أو هلا طلبتها من الله . " قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي " لست بمختلق للآيات أو لست بمقترح لها . " هذا بصائر من ربكم " هذا القرآن بصائر للقلوب بها يبصر الحق ويدرك الصواب " وهدىً ورحمة لقوم يؤمنون" سبق تفسيره .
204."وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون " نزلت في الصلاة كانوا يتكلمون فيها فأمروا باستماع قراءة الإمام والإنصات له . وظاهر اللفظ تقتضي وجوبهما حيث يقرأ القرآن مطلقا ، وعامة العلماء على استحبابهما خارج الصلاة . واحتج به من لا يرى وجوب القراءة على المأموم وهو ضعيف.
205. " واذكر ربك في نفسك " عام في الأذكار من القراءة والدعاء وغيرهما ، أو أمر للمأموم بالقراءة سرا بعد فراغ الإمام عن قراءته كما هو مذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه . " تضرعاً وخيفةً " متضرعا وخائفا . " ودون الجهر من القول " ومتكلما كلاما فرق السر ودون الجهر فإنه أدخل في الخشوع والإخلاص . " بالغدو والآصال " بأوقات العدو والعشيات . وقرئ ( والإيصال) وهو مصدر آصل إذا دخل في الأصيل وهو مطابق للغدو . "ولا تكن من الغافلين " عن ذكر الله .
206. " إن الذين عند ربك " يعني ملائكة الملأ الأعلى . " لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه " وينزهونه . " وله يسجدون " ويخصون بالعبادة والتذلل لا يشركون به غيره ، وهو تعريض بمن عداهم من المكلفين ولذلك شرع السجود لقراءته . وعن النبي صلى اله عليه وسلم : " إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي فيقول : يا ويله أمر هذا بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فعصيت فلي النار " وعنه صلى الله عليه وسلم : " من قرأ سورة الأعراف جعل الله يوم القيامة بينه وبين إبليس سترا وكان آدم شفيعا له يوم القيامة "..