هي مكية إلا ثمان آيات، وهي قوله: "واسألهم عن القرية" إلى قوله: "وإذ نتقنا الجبل فوقهم". وقد أخرج ابن الضريس والنحاس في ناسخه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل من طرق عن ابن عباس، قال: سورة الأعراف نزلت بمكة. وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير مثله. وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن قتادة : قال: آية من الأعراف مدنية، وهي "واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر" إلى آخر الآية، وسائرها مكية، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بها في المغرب يفرقها في الركعتين. وآياتها مائتان وست آيات. قوله: 1- "المص" قد تقدم في فاتحة سورة البقرة ما يغني عن الإعادة، وهو إما مبتدأ وخبره كتاب: أي المص حروف.
2- "كتاب أنزل إليك" أو هو خبر مبتدأ محذوف تقديره هذا المص أي المسمى به، وأما إذا كانت هذه الفواتح مسرودة على نمط التعديد فلا محل له، وكتاب خبر المبتدأ على الوجه الأول أو خبر مبتدأ محذوف على الثاني أي هو كتاب. قال الكسائي: أي هذا كتاب، و "أنزل إليك" صفة له "فلا يكن في صدرك حرج منه" الحرج: الضيق: أي لا يكن في صدرك ضيق منه من إبلاغه إلى الناس مخافة أن يكذبوك ويؤذوك فإن الله حافظك وناصرك. وقيل: المراد لا يضق صدرك حيث لم يؤمنوا به ولم يستجيبوا لك "فإنما عليك البلاغ"، وقال مجاهد وقتادة: الحرج هنا الشك، لأن الشاك ضيق الصدر: أي لا تشك في أنه منزل من عند الله، وعلى هذا يكون النهي له صلى الله عليه وسلم من باب التعريض، والمراد أمته: أي لا يشك أحد منهم في ذلك، والضمير في منه راجع إلى الكتاب، فعلى الوجه الأول يكون على تقدير مضاف محذوف: أي من إبلاغه، وعلى الثاني يكون التقدير من إنزاله، والضمير في "لتنذر به" راجع إلى الكتاب: أي لتنذر الناس بالكتاب الذي أنزلناه إليك، وهو متعلق بأنزل: أي أنزل إليك لإنذارك للناس به، أو متعلق بالنهي، لأن انتفاء الشك في كونه منزلاً من عند الله أو انتفاء الخوف من قومه يقويه على الإنذار ويشجعه، لأن المتيقن يقدم على بصيرة ويباشر بقوة نفس. قوله: "وذكرى للمؤمنين" الذكرى التذكير. قال البصريون: الذكرى في محل رفع على إضمار مبتدأ. وقال الكسائي: هي في محل رفع عطفاً على كتاب، ويجوز النصب على المصدر: أي وذكر به ذكرى قاله البصريون. ويجوز الجر حملاً على موضع لتنذر أي للإنذار والذكرى، وتخصيص الذكرى بالمؤمنين لأنهم الذين ينجع فيهم ذلك، وفيه إشارة إلى تخصيص الإنذار بالكافرين.
قوله: 3- "اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم" يعني الكتاب ومثله السنة لقوله: "وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا" ونحوها من الآيات، وهو أمر للنبي صلى الله عليه وسلم ولأمته، وقيل: هو أمر للأمة بعد أمره صلى الله عليه وسلم بالتبليغ، وهو منزل إليهم بواسطة إنزاله إلى النبي صلى الله عليه وسلم: "ولا تتبعوا من دونه أولياء" نهي للأمة عن أن يتبعوا أولياء من دون الله يعبدونهم ويجعلونهم شركاء لله، فالضمير على هذا في "من دونه" يرجع إلى رب، ويجوز أن يرجع إلى ما في ما أنزل إليكم: أي لا تتبعوا من دون كتاب الله أولياء تقلدونهم في دينكم كما كان يفعله أهل الجاهلية من طاعة الرؤساء فيما يحللونه لهم ويحرمونه عليهم. قوله: "قليلاً ما تذكرون" انتصاب قليلاً على أنه صفة لمصدر محذوف للفعل المتأخر: أي تذكراً قليلاً، وما مزيدة للتوكيد أو هو منتصب على الحال من فاعل لا تتبعوا، وما مصدرية: أي لا تتبعوا من دونه أولياء قليلاً تذكرهم. قرئ "تذكرون" بالتخفيف بحذف إحدى التاءين، وقرئ بالتشديد على الإدغام.
قوله: 4- "وكم من قرية أهلكناها" كم هي الخبرية المفيدة للتكثير وهي في موضع رفع على الابتداء و "أهلكناها" الخبر، و من قرية تمييز، ويجوز أن تكون في محل نصب بإضمار فعل بعدها لا قبلها، لأن لها صدر الكلام، ولولا اشتغال أهلكناها بالضمير لجاز انتصاب كم به، والقرية موضع اجتماع الناس: أي كم من قرية من القرى الكبيرة أهلكناها نفسها بإهلاك أهلها، أو أهلكنا أهلها، والمراد أردنا إهلاكها. قوله: "فجاءها بأسنا" معطوف على أهلكنا بتقدير الإرادة كما مر، لأن ترتيب مجيء البأس على الإهلاك لا يصح إلا بهذا التقدير، إذ الإهلاك هو نفس مجيء البأس. وقال الفراء: إن الفاء بمعنى الواو فلا يلزم التقدير، والمعنى: أهلكناها وجاءها بأسنا، والواو لمطلق الجمع لا ترتيب فيها، وقيل: إن الإهلاك واقع لبعض أهل القرية، فيكون المعنى: وكم من قرية أهلكنا بعض أهلها فجاءها بأسنا فأهلكنا الجميع، وقيل المعنى: وكم من قرية حكمنا بإهلاكها فجاءها بأسنا، وقيل: أهلكناها بإرسال ملائكة العذاب إليها فجاءها بأسنا، والبأس: هو العذاب. وحكي عن الفراء أنه إذا كان معنى الفعلين واحداً أو كالواحد قدمت أيهما شئت فيكون المعنى: وكم من قرية جاءها بأسنا فأهلكناها، مثل دنا فقرب وقرب فدنا "بياتاً" أي ليلاً، لأنه يبات فيه، يقال: بات يبيت بيتاً وبياتاً، وهو مصدر واقع موقع الحال: أي بائتين. قوله: "أو هم قائلون" معطوف على بياتاً: أي بائتين أو قائلين، وجاءت الجملة الحالية بدون واو استثقالاً لاجتماع الواوين واو العطف وواو الحال، هكذا قال الفراء. واعترضه الزجاج فقال: هذا خطأ بل لا يحتاج إلى الواو، تقول: جاءني زيد راكباً أو هو ماش لأن في الجملة ضميراً قد عاد إلى الأول، وأو في هذا الموضع للتفصيل لا للشك. والقيلولة هي نوم نصف النهار. وقيل: هي مجرد الاستراحة في ذلك الوقت لشدة الحر من دون نوم، وخص الوقتين لأنهما وقت السكون والدعة فمجيء العذاب فيهما أشد وأفظع.
قوله: 5- "فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين" الدعوى: الدعاء: أي فما كان دعاؤهم ربهم عند نزول العذاب إلا اعترافهم بالظلم على أنفسهم، ومثله: "وآخر دعواهم" أي آخر دعائهم، وقيل: الدعوى هنا بمعنى الادعاء، والمعنى: ما كان ما يدعونه لدينهم وينتحلونه إلا اعترافهم ببطلانه وفساده، واسم كان "إلا أن قالوا" وخبرها "دعواهم" ويجوز العكس، والمعنى: ما كان دعواهم إلا قولهم: إنا كنا ظالمين.
قوله: 6- "فلنسألن الذين أرسل إليهم" هذا وعيد شديد، والسؤال للقوم الذين أرسل الله إليهم الرسل من الأمم السالفة للتقريع والتوبيخ، واللام لام القسم: أي لنسألنهم عما أجابوا به رسلهم عند دعوتهم والفاء لترتيب الأحوال الأخروية على الأحوال الدنيوية "ولنسألن المرسلين" أي الأنبياء الذين بعثهم الله: أي نسألهم عنما أجاب به أممهم عليهم ومن أطاع منهم ومن عصى، وقيل المعنى: فلنسألن الذين أرسل إليهم: يعني الأنبياء، ولنسألن المرسلين: يعني الملائكة، ولا يعارض هذا قول الله سبحانه: "ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون" لما قدمنا غير مرة أن الآخرة مواطن، ففي موطن يسألون، وفي موطن لا يسألون، وهكذا سائر ما ورد مما ظاهره التعارض بأن أثبت تارة ونفى أخرى بالنسبة إلى يوم القيامة، فإنه محمول على تعدد المواقف مع طول ذلك اليوم طولاً عظيماً.
7- "فلنقصن عليهم بعلم" أي على الرسل والمرسل إليهم ما وقع بينهم عند الدعوة منهم لهم بعلم لا بجهل: أي عالمين بما يسرون وما يعلنون "وما كنا غائبين" عنهم في حال من الأحوال حتى يخفى علينا شيء مما وقع بينهم. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات وابن النجار في تاريخه عن ابن عباس في قوله: "المص" قال: أنا والله أفضل. وأخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير مثله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس أن هذا ونحوه من فواتح السور قسم أقسم الله به، وهي من أسماء الله. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي في قوله: "المص" قال: هو المصور. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن محمد بن كعب القرظي في قوله: "المص" قال: الألف من الله والميم من الرحمن والصاد من الصمد. وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك قال: معناه أنا الله الصادق، ولا يخفى عليك أن هذا كله قول بالظن وتفسير بالحدس، ولا حجة في شيء من ذلك، والحق ما قدمنا في فاتحة سورة البقرة. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن عباس "فلا يكن في صدرك حرج منه" قال: الشك، وقال لأعرابي: ما الحرج فيكم؟ قال: اللبس. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد نحوه. وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك قال: ضيق. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود: ما هلك قوم حتى يعذروا من أنفسهم، ثم قرأ: "فما كان دعواهم" الآية. وأخرجه ابن جرير عنه مرفوعاً. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس "فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين" قال: نسأل الناس عما أجابوا المرسلين ونسأل المرسلين عما بلغوا، فلنقصن عليهم بعلم، قال: بوضع الكتاب يوم القيامة فنتكلم بما كانوا يعملون. وأخرج عبد بن حميد عن فرقد في الآية قال: أحدهما الأنبياء، وأحدهما الملائكة. وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد في الآية قال: نسأل الناس عن قول لا إله إلا الله ونسأل جبريل.
قوله: 8- "والوزن يومئذ الحق" الوزن مبتدأ وخبره الحق: أي الوزن في هذا اليوم العدل الذي لا جور فيه، أو الخبر يومئذ، والحق وصف للمبتدأ، أي الوزن العدل كائن في هذا اليوم، وقيل: إن الحق خبر مبتدأ محذوف. واختلف أهل العلم في كيفية هذا الوزن الكائن في هذا اليوم، فقيل: المراد به وزن صحائف أعمال العباد بالميزان وزناً حقيقياً، وهذا هو الصحيح، وهو الذي قامت عليه الأدلة، وقيل: توزن نفس الأعمال وإن كانت أعراضاً فإن الله يقلبها يوم القيامة أجساماً كما جاء في الخبر الصحيح: "إن البقرة وآل عمران يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيابتان أو فرقان من طير صواف". وكذلك ثبت في الصحيح أنه يأتي القرآن في صورة شاب شاحب اللون ونحو ذلك، وقيل: الميزان الكتاب الذي فيه أعمال الخلق، وقيل: الوزن والميزان بمعنى العدل والقضاء، وذكرهما من باب ضرب المثل كما تقول هذا الكلام في وزن هذا. قال الزجاج: هذا سائغ من جهة اللسان، والأولى أن نتبع ما جاء في الأسانيد الصحاح من ذكر الميزان. قال القشيري: وقد أحسن الزجاج فيما قال، إذ لو حمل الصراط على الدين الحق، والجنة والنار على ما يرد على الأرواح دون الأجساد، والشياطين والجن على الأخلاق المذمومة والملائكة على القوى المحمودة، ثم قال: وقد أجمعت الأمة في الصدر الأول على الأخذ بهذه الظواهر من غير تأويل وإذا أجمعوا على منع التأويل وجب الأخذ بالظاهر صارت هذه الظواهر نصوصاً انتهى. والحق هو القول الأول. وأما المستبعدون لحمل هذه الظواهر على حقائقها فما يأتون في استبعادهم بشيء من الشرع يرجع إليه، بل غاية ما تشبثوا به مجرد الاستبعادات العقلية، وليس في ذلك حجة على أحد، فهذا إذا لم تقبله عقولهم فقد قبلته عقول قوم هي أقوى من عقولهم من الصحابة والتابعين وتابعيهم حتى جاءت البدع كالليل المظلم وقال: كل ما شاء، وتركوا الشرع خلف ظهورهم وليتهم جاءوا بأحكام عقلية يتفق العقلاء عليها، ويتحد قبولهم لها، بل كل فريق يدعى على العقل ما يطابق هواه، ويوافق ما يذهب إليه هو أو من هو تابع له، فتتناقض عقولهم على حسب ما تناقضت مذاهبهم، يعرف هذا كل منصف ومن أنكره فليصف فهمه وعقله عن شوائب التعصب والتمذهب فإنه إن فعل ذلك أسفر الصبح لعينيه. وقد ورد ذكر الوزن والموازين في مواضع من القرآن كقوله: "ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً"، وقوله: "فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون"، وقوله: " فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون * ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون "، وقوله: "إن الله لا يظلم مثقال ذرة"، وقوله: " فأما من ثقلت موازينه * فهو في عيشة راضية * وأما من خفت موازينه * فأمه هاوية "، والفاء في "فمن ثقلت موازينه" للتفصيل. والموازين: جمع ميزان، وأصله موزان قلبت الواو ياء لكسر ما قبلها، وثقل الموازين هذا يكون بثقل ما وضع فيها من صحائف الأعمال، وقيل: إن الموازين جمع موزون: أي فمن رجحت أعماله الموزونة، والأول أولى. وظاهر جمع الموازين المضافة إلى العامل أن لكل واحد من العاملين موازين يوزن بكل واحد منها صنف من أعماله، وقيل: هو ميزان واحد عبر عنه بلفظ الجمع كما يقال: خرج فلان إلى مكة على البغال، والإشارة بقوله: "فأولئك" إلى من، والجمع باعتبار معناه كما رجع إليه ضمير "موازينه" باعتبار لفظه وهو مبتدأ خبره "هم المفلحون".
والكلام في قوله: 9- "ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم" مثله، والباء في "بما كانوا بآياتنا يظلمون" سببية، وما مصدرية. ومعنى "يظلمون" يكذبون.
قوله: 10- "ولقد مكناكم في الأرض" أي جعلنا لكم فيها مكاناً وهيأنا لكم فيها أسباب المعايش. والمعايش جمع معيشة: أي ما يتعايش به من المطعوم والمشروب وما تكون به الحياة، يقال عاش يعيش عيشاً ومعاشاً ومعيشاً. قال الزجاج: المعيشة ما يتوصلون به إلى العيش، والمعيشة عند الأخفش وكثير من النحويين مفعلة. وقرأ الأعرج معائش بالهمزة، وكذا روى خارجة بن مصعب عن نافع. قال النحاس: والهمز لحن لا يجوز، لأن الواحدة معيشة والياء أصيلة كمدينة ومداين وصحيفة وصحايف. قوله: "قليلاً ما تشكرون" الكلام فيه كالكلام فيما تقدم قريباً من قوله تعالى: "قليلاً ما تذكرون".
قوله: 11- "ولقد خلقناكم ثم صورناكم" هذا ذكر نعمة أخرى من نعم الله على عبيده. والمعنى: خلقناكم نطفاً ثم صورناكم بعد ذلك، وقيل المعنى: خلقنا آدم من تراب ثم صورناكم في ظهره، وقيل: "ولقد خلقناكم" يعني آدم ذكر بلفظ الجمع لأنه أبو البشر "ثم صورناكم" راجع إليه، ويدل عليه "ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم" فإن ترتيب هذا القول على الخلق والتصوير يفيد أن المخلوق المصور آدم عليه السلام. وقال الأخفش: إن ثم في "ثم صورناكم" بمعنى الواو، وقيل المعنى: خلقناكم من ظهر آدم ثم صورناكم حين أخذنا عليكم الميثاق. قال النحاس: وهذا أحسن الأقوال، وقيل المعنى: ولقد خلقنا الأرواح أولاً، ثم صورنا الأشباح، ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم: أي أمرناهم بذلك فامتثلوا الأمر، وفعلوا السجود بعد الأمر "إلا إبليس" قيل: الاستثناء متصل بتغليب الملائكة على إبليس لأنه كان منفرداً بينهم، أو كما قيل: لأن من الملائكة جنساً يقال لهم: الجن، وقيل غير ذلك، وقد تقدم تحقيقه في البقرة. قوله: "لم يكن من الساجدين".
وجملة 12- " قال ما منعك أن لا تسجد " مستأنفة جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: فماذا قال له الله؟ و لا في " أن لا تسجد " زائدة للتوكيد بدليل قوله تعالى في سورة ص: "ما منعك أن تسجد"، وقيل: إن منع بمعنى قال، والتقدير: من قال لك أن لا تسجد، وقيل منع بمعنى دعا: أي ما دعاك إلى أن لا تسجد، وقيل في الكلام حذف، والتقدير: ما منعك من الطاعة وأحوجك إلى أن لا تسجد "إذ أمرتك": أي وقت أمرتك، وقد استدل به على أن الأمر للفور، والبحث مقرر في علم الأصول، والاستفهام في "ما منعك" للتقريع والتوبيخ، وإلا فهو سبحانه عالم بذلك، وجملة "قال أنا خير منه" مستأنفة جواب سؤال مقدر كأنه قيل: فما قال إبليس؟ وإنما قال في الجواب أنا خير منه، ولم يقل منعني كذا، لأن في هذه الجملة التي جاء بها مستأنفة ما يدل على المانع وهو اعتقاده أنه أفضل منه. والفاضل لا يفعل مثل ذلك للمفضول مع ما تفيده هذه الجملة من إنكار أن يؤمر مثله بالسجود لمثله. ثم علل ما ادعاه من الخيرية بقوله: "خلقتني من نار وخلقته من طين" اعتقاداً منه أن عنصر النار أفضل من عنصر الطين. وقد أخطأ عدو الله فإن عنصر الطين أفضل من عنصر النار من جهة رزانته وسكونه وطول بقائه وهي حقيقة مضطربة سريعة النفاد، ومع هذا فهو موجود في الجنة دونها، وهي عذاب دونه، وهي محتاجة إليه لتتحيز فيه، وهو مسجد وطهور، ولولا سبق شقاوته وصدق كلمة الله عليه لكان له بالملائكة المطيعين لهذا الأمر أسوة وقدوة، فعنصرهم النوري أشرف من عنصره الناري.
وجملة 13- "قال فاهبط" استئنافية كالتي قبلها، والفاء لترتيب الأمر بالهبوط على مخالفته للأمر: أي اهبط من السماء التي هي محل المطيعين من الملائكة الذين لا يعصون الله فيما أمرهم إلى الأرض التي هي مقر من يعصي ويطيع، فإن السماء لا تصلح لمن يتكبر ويعصي أمر ربه مثلك، ولهذا قال: "فما يكون لك أن تتكبر فيها". ومن التفاسير الباطلة ما قيل إن معنى "اهبط منها" أي اخرج من صورتك النارية التي افتخرت بها صورة مظلمة مشوهة، وقيل: المراد هبوطه من الجنة، وقيل: من زمرة الملائكة، وجملة "فاخرج" لتأكيد الأمر بالهبوط، وجملة "إنك من الصاغرين" تعليل للأمر: أي إنك من أهل الصغار والهوان على الله وعلى صالحي عباده وهكذا كل من تردى برداء الاستكبار عوقب بلبس رداء الهوان والصغار. ومن لبس رداء التواضع ألبسه الله رداء الترفع.
وجملة 14- "قال أنظرني إلى يوم يبعثون" استئنافية كما تقدم في الجمل السابقة: أي أمهلني إلى يوم البعث، وكأنه طلب أن لا يموت، لأن يوم البعث لا موت بعده، والضمير في "يبعثون" لآدم وذريته.
فأجابه الله بقوله: 15- "إنك من المنظرين" أي الممهلين إلى ذلك اليوم، ثم تعاقب بما قضاه الله لك، وأنزله بك في دركات النار. قيل: الحكمة في إنظاره ابتلاء العباد ليعرف من يطيعه ممن يعصيه.
وجملة 16- "قال فبما أغويتني" مستأنفة كالجمل السابقة واردة جواباً لسؤال مقدر، والباء في "فبما" للسببية والفاء لترتيب الجملة على ما قبلها، وقيل: الباء للقسم كقوله: "فبعزتك لأغوينهم أجمعين" أي فبإغوائك إياي "لأقعدن لهم صراطك المستقيم" والإغواء: الإيقاع في الغي، وقيل: الباء بمعنى اللام، وقيل بمعنى مع. والمعنى: فمع إغوائك إياي، وقيل: "ما" في "فبما أغويتني" للاستفهام. والمعنى: فبأي شيء أغويتني والأول أولى. ومراده بهذا الإغواء الذي جعله سبباً لما سيفعله مع العباد هو ترك السجود منه وأن ذلك كان بإغواء الله له، حتى اختار الضلالة على الهدى، وقيل: أراد به اللعنة التي لعنه الله: أي فبما لعنتني فأهلكتني لأقعدن لهم ومنه "فسوف يلقون غياً" أي هلاكاً. وقال ابن الأعرابي: يقال: غوى الرجل يغوي غياً: إذا فسد عليه أمره أو فسد هو نفسه، ومنه "وعصى آدم ربه فغوى" أي فسد عيشه في الجنة "لأقعدن لهم" أي لأجدن في إغوائهم حتى يفسدوا بسببي كما فسدت بسبب تركي السجود لأبيهم. والصراط المستقيم هو الطريق الموصل إلى الجنة، وانتصابه على الظرفية: أي في صراطك المستقيم كما حكى سيبويه ضرب زيد الظهر والبطن، واللام في "لأقعدن" لام القسم، والباء في "بما أغويتني" متعلقة بفعل القسم المحذوف: أي فبما أغويتني أقسم لأقعدن.
قوله: 17- "ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم" ذكر الجهات الأربع لأنها هي التي يأتي منها العدو عدوه، ولهذا ترك ذكر جهة الفوق والتحت، وعدي الفعل إلى الجهتين الأوليين بمن، وإلى الآخريين بعن، لأن الغالب فيمن يأتي من قدام وخلف أن يكون متوجهاً إلى ما يأتيه بكلية بدنه، والغالب فيمن يأتي من جهة اليمين والشمال أن يكون منحرفاً، فناسب في الأوليين التعدية بحرف الابتداء، وفي الأخريين التعدية بحرف المجاوزة، وهو تمثيل لوسوسته وتسويله بمن يأتي حقيقة، وقيل: المراد "من بين أيديهم" من دنياهم "ومن خلفهم" من آخرتهم "وعن أيمانهم" من جهة حسناتهم "وعن شمائلهم" من جهة سيئاتهم واستحسنه النحاس. قوله: "ولا تجد أكثرهم شاكرين" أي وعند أن أفعل ذلك لا تجد أكثرهم شاكرين لتأثير وسوستي فيهم وإغوائي لهم، وهذا قاله على الظن ومنه قوله تعالى: "ولقد صدق عليهم إبليس ظنه"، وقيل: إنه سمع ذلك من الملائكة فقاله، وعبر بالشكر عن الطاعة أو هو على حقيقته وأنهم لم يشكروا الله بسبب الإغواء.
وجملة 18- "قال اخرج منها" استئناف كالجمل التي قبلها: أي من السماء أو الجنة أو من بين الملائكة كما تقدم " مذؤوما " أي مذموماً من ذأمه إذا زمه يقال: ذأمته وذممته بمعنى. وقرأ الأعمش مذموماً. وقرأ الزهري مذوماً بغير همزة، وقيل المذءوم: المنفي، والمدحور: المطرود. قوله: "لمن تبعك منهم". قرأ الجمهور بفتح اللام على أنها لام القسم، وجوابه "لأملأن جهنم منكم أجمعين" وقيل: اللام في "لمن تبعك" للتوكيد، وفي "لأملأن" لام القسم. والأول أولى، وجواب القسم سد سد جواب الشرط، لأن من شرطية، وفي هذا الجواب من التهديد ما لا يقادر قدره. وقرأ عاصم في رواية عنه: "لمن تبعك" بكسر اللام وأنكره بعض النحويين. قال النحاس: وتقديره والله أعلم من أجل من اتبعك كما يقال: أكرمت فلاناً لك، وقيل: هو علة لأخرج، وضمير "منكم" له ولمن اتبعه، وغلب ضمير الخطاب على ضمير الغيبة، والأصل منك ومنهم. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "والوزن يومئذ الحق" قال: العدل "فمن ثقلت موازينه" قال: حسناته "ومن خفت موازينه" قال: حسناته. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي توزن الأعمال. وقد ورد في كيفية الميزان والوزن والموزون أحاديث كثيرة. وأخرج أحمد والترمذي وابن ماجه وابن حبان والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يصاح برجل من أمتى على رءوس الخلائق يوم القيامة فينشر له تسعة وتسعون سجلاً كل سجل منها مد البصر فيقول: أتنكر من هذا شيئاً؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: أفلك عذر أو حسنة؟ فيهاب الرجل فيقول: لا يا رب، فيقول: بلى إن لك عندنا حسنة وإنه لا ظلم عليك اليوم، فيخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقال إنك لا تظلم، فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة" وقد صححه أيضاً الترمذي وإسناده أحمد حسن. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله: "ولقد خلقناكم ثم صورناكم" قال: خلقوا في أصلاب الرجال وصوروا في أرحام النساء. وأخرج الفريابي عنه أنه قال: خلقوا في ظهر آدم ثم صوروا في الأرحام. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضاً قال: أما خلقناكم فآدم، وأما ثم صورناكم فذريته. وأخرج أبو الشيخ عن عكرمة في الآية قال: خلق إبليس من نار العزة. وقد ثبت في الصحيح من حديث عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خلقت الملائكة من نور، وخلق إبليس من نار، وخلق آدم مما وصفه لكم". وأخرج ابن جرير عن الحسن قال: أول من قاس إبليس في قوله: "خلقتني من نار وخلقته من طين" وإسناده صحيح إلى الحسن. وأخرج أبو نعيم في الحلية والديلمي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أول من قاس أمر الدين برأيه إبليس قال الله له اسجد لآدم، فقال: أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين". قال جعفر: فمن قاس أمر الدين برأيه قرنه الله يوم القيامة بإبليس لأنه اتبعه بالقياس. وينبغي أن ينظر في إسناد هذا الحديث فما أظنه يصح رفعه وهو لا يشبه كلام النبوة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: "فبما أغويتني" أضللتني. وأخرج عبد بن حميد عنه في قوله: "لأقعدن لهم صراطك المستقيم" قال: طريق مكة. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ عن ابن مسعود مثله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس "وعن أيمانهم" أشبه عليهم أمر دينهم "وعن شمائلهم" قال: أسن لهم المعاصي وأحق عليهم الباطل "ولا تجد أكثرهم شاكرين" قال: موحدين. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه "ثم لآتينهم من بين أيديهم" يقول من حيث يبصرون "ومن خلفهم" من حيث لا يبصرون "وعن أيمانهم" من حيث يبصرون "وعن شمائلهم" من حيث لا يبصرون. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عنه أيضاً في الآية قال: لم يستطع أن يقول من فوقهم. وفي لفظ علم أن الرحمة تنزل من فوقهم. وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله: " مذؤوما " قال: ملوماً، مدحوراً: قال مقيتاً. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد " مذؤوما " قال: منفياً "مدحوراً" قال: مطروداً.
قوله: 19- "ويا آدم" هو على تقدير القول: أي وقلنا يا آدم. قال له هذا القول بعد إخراج إبليس من الجنة، أو من السماء، أو من بين الملائكة كما تقدم. وقد تقدم معنى الإسكان، ومعنى "لا تقربا هذه الشجرة" في البقرة. ومعنى "من حيث شئتما" من أي نوع من أنواع الجنة شئتما أكله، ومثله ما تقدم من قوله تعالى: "وكلا منها رغداً حيث شئتما" وحذف النون من "فتكونا" لكونه معطوفاً على المجزوم أو منصوباً على أنه جواب النهي.
قوله: 20- "فوسوس لهما الشيطان" الوسوسة: الصوت الخفي، والوسوسة: حديث النفس، يقال: وسوست إليه نفسه وسوسة ووسواساً بكسر الواو، والوسوسة بالفتح الاسم: مثل الزلزلة والزلزال، ويقال: لهمس الصائد والكلاب وأصواب الحلى وسواس. قال الأعشى: تسمع للحلي وسواساً إذا انصرفت والوسواس: اسم الشيطان. ومعنى وسوس له، وسوس إليه أو فعل الوسوسة لأجله. قوله: "ليبدي لهما" أي ليظهر لهما، واللام للعاقبة كما في قوله: "ليكون لهم عدواً وحزناً"، وقيل هي لام كي: أي فعل ذلك ليتعقبه الإيذاء، أو لكي يقع الإيذاء. قوله: " ما وري " أي ما ستر وغطى "عنهما من سوآتهما" سمى الفرج سوءة، لأن ظهوره يسوء صاحبه، أراد الشيطان أن يسوءهما بظهور ما كان مستوراً عنهما من عوراتهما فإنهما كانا لا يريان عورة أنفسهما ولا يراها أحدهما من الآخر، وإنما لم تقلب الواو في " وري " همزة، لأن الثانية مدة، قيل: إنما بدت عورتهما لهما لا لغيرهما، وكان عليهما نور يمنع من رؤيتها "وقال" أي الشيطان لهما "ما نهاكما ربكما عن" أكل هذه الشجرة "إلا أن تكونا ملكين" أن في موضع نصب، وفي الكلام مضاف محذوف تقديره: ولا كراهة أن تكونا ملكين هكذا قال البصريون. وقال الكوفيون: التقدير لئلا تكونا ملكين "أو تكونا من الخالدين" في الجنة أو من الذين لا يموتون. قال النحاس: فضل الله الملائكة على جميع الخلق في غير موضع في القرآن، فمنها هذا، ومنها "ولا أقول إني ملك"، ومنها "ولا الملائكة المقربون". قال ابن فورك: لا حجة في هذه الآية، لأنه يحتمل أن يريد ملكين في أن لا يكون لهما شهوة في الطعام. وقد اختلف الناس في هذه المسألة اختلافاً كثيراً وأطالوا الكلام في غير طائل، وليست هذه المسألة مما كلفنا الله بعلمه، فالكلام فيها لا يعنينا. وقرأ ابن عباس ويحيى بن أبي كثير والضحاك ملكين بكسر اللام، وأنكر أبو عمرو بن العلاء هذه القراءة وقال: لم يكن قبل آدم ملك فيصيرا ملكين. وقد احتج من قرأ بالكسر بقوله تعالى: "هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى". قال أبو عبيد: هذه حجة بينة لقراءة الكسر ولكن الناس على تركها فلهذا تركناها. قال النحاس: هي قراءة شاذة، وأنكر على أبي عبيد هذا الكلام وجعله من الخطأ الفاحش. قال: وهل يجوز أن يتوهم على آدم عليه السلام أن يصل إلى أكثر من ملك الجنة وهي غاية الطالبين، وإنما معنى "وملك لا يبلى" المقام في ملك الجنة والخلود فيه.
قوله: 21- "وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين" أي حلف لهما فقال: أقسم قساماً أي حلف، ومنه قول الشاعر: وقاسمهما بالله جهداً لأنتما ألذ من السلوى ما إذا نشورها وصيغة المفاعلة وإن كانت في الأصل تدل على المشاركة فقد جاءت كثيراً لغير ذلك. وقد قدمنا تحقيق هذا في المائدة، والمراد بها هنا المبالغة في صدور الأقسام لهما من إبليس، وقيل: إنهما أقسما له بالقبول كما أقسم لهما على المناصحة.
قوله: 22- "فدلاهما بغرور" التدلية والإدلاء: إرسال الشيء من أعلى إلى أسفل، يقال أدلى دلوه: أرسلها والمعنى: أنه أهبطهما بذلك من الرتبة العليا إلى الأكل من الشجرة، وقيل معناه: أوقعهما في الهلاك، وقيل: خدعهما، وأنشد نفطويه: إن الكريم إذا تشاء خدعته وترى اللئيم مجرباً لا يخدع وقيل: معنى "دلاهما" دللهما من الدالة، وهي الجرأة: أي جرأهما على المعصية فخرجا من الجنة. قوله: "فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما" أي لما طعماها ظهرت لهما عوراتهما بسبب زوال ما كان ساتراً لها وهو تقلص النور الذي كان عليها. وقد تقدم في البقرة. قوله: "وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة" طفق يفعل كذا: بمعنى شرع يفعل كذا. وحكى الأخفش: طفق يطفق مثل ضرب يضرب: أي شرعا أو جعلا يخصفان عليهما. قرأ الحسن يخصفان بكسر الخاء وتشديد الصاد، والأصل يختصفان فأدغم وكسرت الخاء لالتقاء الساكنين. وقرأ ابن بريدة ويعقوب بفتح الخاء. وقرأ الزهري يخصفان من أخصف. وقرأ الجمهور يخصفان من خصف. والمعنى: أنهما أخذا يقطعان الورق ويلزقانه بعورتهما ليستراها، من خصف النعل: إذا جعله طبقة فوق طبقة "وناداهما ربهما" قائلاً لهما: "ألم أنهكما عن تلكما الشجرة" التي نهيتكما عن أكلها، وهذا عتاب من الله لهما وتوبيخ حيث لم يحذرا ما حذرهما منه "وأقل لكما" معطوف على أنهكما "إن الشيطان لكما عدو مبين" أي مظهر للعداوة.
قوله: 23- "قالا ربنا ظلمنا أنفسنا" جملة استئنافية مبنية على تقدير سؤال كأنه قيل فماذا قالا؟ وهذا منهما اعتراف بالذنب وأنهما ظلما أنفسهما مما وقع منهما من المخالفة، ثم قالا: "وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين".
وجملة 24- "قال اهبطوا" استئناف كالتي قبلها، والخطاب لآدم وحواء وذريتهما، أو لهما ولإبليس، وجملة "بعضكم لبعض عدو" في محل نصب على الحال "ولكم في الأرض مستقر" أي موضع استقرار "و" لكم "متاع" تتمتعون به في الدنيا وتنتفعون به من المطعم والمشرب ونحوهما "إلى حين" أي إلى وقت، وهو وقت موتكم.
وجملة 25- "قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون" استئنافية كالتي قبلها: أي في الأرض تحيون، وفيها يأتيكم الموت، ومنها تخرجون إلى دار الآخرة، ومثله قوله تعالى: "منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى" واعلم أنه قد سبق شرح هذه القصة مستوفى في البقرة فارجع إليه. وقد أخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن عساكر عن وهب بن منبه في قوله: " ليبدي لهما ما وري عنهما من سوآتهما " قال: كان على كل واحد منهما نور لا يبصر كل واحد منهما سوءة صاحبه، فلما أصابا الخطيئة نزع عنهما. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: أتاهما إبليس فقال: ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين مثله، يعني مثل الله عز وجل، فلم يصدقاه حتى دخل في جوف الحية فكلمهما. وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس في الآية "إلا أن تكونا ملكين" فإن أخطأكما أن تكونا ملكين لم يخطئكما أن تكونا خالدين فلا تموتان فيها أبداً "وقاسمهما" قال: حلف لهما "إني لكما لمن الناصحين". وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن محمد بن كعب في قوله: "فدلاهما بغرور" قال: مناهما بغرور. وأخرج ابن المنذر وابن أبي شيبة عن عكرمة قال: لباس كل دابة منها، ولباس الإنسان الظفر، فأدركت آدم التوبة عند ظفره. وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي وابن عساكر عن ابن عباس قال: كان لباس آدم وحواء كالظفر، فلما أكلا من الشجرة لم يبق عليهما إلا مثل الظفر "وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة" قال: ينزعان ورق التين فيجعلانه على سوآتهما. وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال: لما أسكن الله آدم الجنة كساه سربالاً من الظفر، فلما أصاب الخطيئة سلبه السربال فبقي في أطراف أصابعه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه نحوه من طريق أخرى. وأخرج ابن أبي حاتم عن أنس بن مالك قال: كان لباس آدم في الجنة الياقوت، فلما عصى قلص فصار الظفر. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "وطفقا يخصفان" قال: يرقعان كهيئة الثوب. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي "وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة" قال آدم: رب إنه حلف لي بك ولم أكن أعلم أن أحداً من خلقك يحلف بك إلا صادقاً. وأخرج عبد بن حميد عن الحسن: "قالا ربنا ظلمنا أنفسنا" الآية قال: هي الكلمات التي تلقى آدم من ربه. وأخرج عبد بن حميد عن الضحاك مثله.
عبر سبحانه بالإنزال عن الخلق: أي خلقنا لكم لباساً يواري سوآتكم التي أظهرها إبليس من أبويكم، والسوءة العورة كما سلف، والكلام في قدرها وما يجب ستره منها مبين في كتب الفروع. قوله: "وريشاً" قرأ الحسن وعاصم من رواية المفضل الضبي وأبو عمرو من رواية الحسن بن علي الجعفي ورياشاً وقرأ الباقون وريشاً والرياش جمع ريش: وهو اللباس. قال الفراء: ريش ورياش كما يقال: لبس ولباس، وريش الطائر ما ستره الله به. وقيل المراد بالريش هنا: الخصب ورفاهية العيش. قال القرطبي: والذي عليه أكثر أهل اللغة أن الريش ما ستر من لباس أو معيشة. وحكى أبو حاتم عن أبي عبيدة: وهبت له دابة وريشها: أي وما عليها من اللباس. وقيل: المراد بالريش هنا لباس الزينة لذكره بعد قوله: "قد أنزلنا عليكم لباساً" وعطفه عليه. قوله: "ولباس التقوى" قرأ أهل المدينة وابن عامر والكسائي بنصب لباس. وقرأ الباقون بالرفع، فالنصب على أنه معطوف على لباس الأول، والرفع على أنه مبتدأ، وجملة "ذلك خير" خبره، والمراد بلباس التقوى: لباس الورع واتقاء معاصي الله، وهو الورع نفسه والخشية من الله، فذلك خير لباس وأجمل زينة، وقيل: لباس التقوى الحياء، وقيل: العمل الصالح، وقيل: هو لباس الصوف والخشن من الثياب لما فيه من التواضع لله، وقيل: هو الدرع والمغفر الذي يلبسه من يجاهد في سبيل الله، والأول أولى. وهو يصدق على كل ما فيه تقوى لله فيندرج تحته جميع ما ذكر من الأقوال، ومثل هذه الاستعارة كثيرة الوقوع في كلام العرب، ومنه: إذ المرء لم يلبس ثياباً من التقى تقلب عرياناً وإن كان كاسيا ومثله: تغط بأثواب السخاء فإنني أرى كل عيب والسخاء غطاؤه والإشارة بقوله: "ذلك" إلى لباس التقوى: أي هو خير لباس، وقرأ الأعمش " ولباس التقوى ذلك خير " والإشارة بقوله: "ذلك من آيات الله" إلى الإنزال المدلول عليه بأنزلنا: أي ذلك الإنزال من آيات الله الدالة على أنه له خالقاً ثم كرر الله سبحانه النداء لبني آدم تحذيراً لهم من الشيطان.
فقال: 27- "يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان" أي لا يوقعنكم في الفتنة، فالنهي وإن كان للشيطان فهو في الحقيقة لبني آدم بأن لا يفتتنوا بفتنته ويتأثروا لذلك، والكاف في "كما أخرج" نعت مصدر محذوف: أي لا يفتننكم فتنة مثل إخراج أبويكم من الجنة، وجملة "ينزع عنهما لباسهما" في محل نصب على الحال، وقد تقدم تفسيره، واللام في "ليريهما سوآتهما" لام كي: أي لكي يريهما، وقد تقدم تفسيره أيضاً. قوله: "إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم" هذه الجملة تعليل لما قبلها مع ما تتضمنه من المبالغة في تحذيرهم منه، لأن من كان بهذه المثابة يرى بني آدم من حيث لا يرونه، كان عظيم الكيد، وكان حقيقاً بأن يحترس منه أبلغ احتراس "وقبيله" أعوانه من الشياطين وجنوده. وقد استدل جماعة من أهل العلم بهذه الآية على أن رؤية الشياطين غير ممكنة، وليس في الآية ما يدل على ذلك، وغاية ما فيها أنه يرانا من حيث لا نراه، وليس فيها أنا لا نراه أبداً، فإن انتفاء الرؤية منا له في وقت رؤيته لنا لا يستلزم انتفاءها مطلقاً، ثم أخبر الله سبحانه بأنه جعل الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون من عباده وهم الكفار. وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوآتكم" قال: كان ناس من العرب يطوفون بالبيت عراة، وفي قوله: "وريشاً" قال: المال. وأخرج ابن جرير عن عروة بن الزبير في قوله: "لباساً يواري سوآتكم" قال: الثياب "وريشاً" قال: المال "ولباس التقوى" قال: خشية الله. وأخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن علي في قوله: "لباساً يواري سوآتكم" قال: لباس العامة "وريشاً" قال: لباس الزينة "ولباس التقوى" قال: الإسلام. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ من طرق عن ابن عباس في قوله: "وريشاً" قال: المال واللباس والعيش والنعيم، وفي قوله: "ولباس التقوى" قال: الإيمان والعمل الصالح "ذلك خير" قال: الإيمان والعمل خير من الريش واللباس. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله: "وريشاً" يقول: المال. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "ينزع عنهما لباسهما" قال: التقوى، وفي قوله: "إنه يراكم هو وقبيله" قال: الجن والشياطين.
الفاحشة: ما تبالغ في فحشه وقبحه من الذنوب. قال أكثر المفسرين: هي طواف المشركين بالبيت عراة. وقيل: هي الشرك، والظاهر أنها تصدق على ما هو أعم من الأمرين جميعاً، والمعنى: أنهم إذا فعلوا ذنباً قبيحاً متبالغاً في القبح اعتذروا عن ذلك بعذرين: الأول: أنهم فعلوا ذلك اقتداء بآبائهم لما وجدوهم مستمرين على فعل تلك الفاحشة، والثاني: أنهم مأمورون بذلك من جهة الله سبحانه. وكلا العذرين في غاية البطلان والفساد، لأن وجود آبائهم على القبح لا يسوغ لهم فعله، والأمر من الله سبحانه لهم لم يكن بالفحشاء، بل أمرهم باتباع الأنبياء والعمل بالكتب المنزلة ونهاهم عن مخالفتهما، ومما نهاهم عنه فعل الفواحش، ولهذا رد الله سبحانه عليهم بأن أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم: 28- "إن الله لا يأمر بالفحشاء" فكيف تدعون ذلك عليه سبحانه، ثم أنكر عليهم ما أضافوه إليه، فقال: "أتقولون على الله ما لا تعلمون" وهو من تمام ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقوله لهم، وفيه من التقريع والتوبيخ أمر عظيم، فإن القول بالجهل إذا كان قبيحاً في كل شيء فكيف إذا كان في التقول على الله؟ وإن في هذه الآية الشريفة لأعظم زاجر وأبلغ واعظ للمقلدة الذين يتبعون آباءهم في المذاهب المخالفة للحق، فإن ذلك من الاقتداء بأهل الكفر لا بأهل الحق، فإنهم القائلون: "إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون" والقائلون: " وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها " والمقلد لولا اغتراره بكونه وجد أباه على ذلك المذهب، مع اعتقاده بأنه الذي أمر الله به، وأنه الحق لم يبق عليه، وهذ الخصلة هي التي بقي بها اليهودي على اليهودية والنصراني على النصرانية والمبتدع على بدعته، فما أبقاهم على هذه الضلالات إلا كونهم وجدوا آباءهم في اليهودية والنصرانية أو البدعية وأحسنوا الظن بأن ما هم عليه هو الحق الذي أمر الله به ولم ينظروا لأنفسهم، ولا طلبوا الحق كما يجب وبحثوا عن دين الله كما ينبغي، وهذا هو التقليد البحت والقصور الخالص، فيا من نشأ على مذهب من هذه المذاهب الإسلامية أنا لك النذير المبالغ في التحذير من أن تقول هذه المقالة وتستمر على الضلالة، فقد اختلط الشر بالخير والصحيح بالسقيم وفاسد الرأي بصحيح الرواية. ولم يبعث الله إلى هذه الأمة إلا نبياً واحداً أمرهم باتباعه ونهى عن مخالفته فقال: "ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا" ولو كان محض رأي أئمة المذاهب وأتباعهم حجة على العباد، لكان لهذه الأمة رسل كثيرون متعددون بعدد أهل الرأي المكلفين للناس بما لم يكلفهم الله به. وإن من أعجب الغفلة وأعظم الذهول عن الحق اختيار المقلدة لآراء الرجال مع وجود كتاب الله، ووجود سنة رسوله، ووجود من يأخذونهما عنه، ووجود آلة الفهم لديهم وملكة العقل عندهم.
قوله: 29- "قل أمر ربي بالقسط" القسط: العدل، وفيه أن الله سبحانه يأمر بالعدل لا كما زعموه من أن الله أمرهم بالفحشاء، وقيل: القسط هنا هو لا إله إلا الله، وفي الكلام حذف: أي قل أمر ربي بالقسط فأطيعوه. قوله: "وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد" معطوف على المحذوف المقدر: أي توجهوا إليه في صلاتكم إلى القبلة في أي مسجد كنتم، أو في كل وقت سجود، أو في كل مكان سجود، على أن المراد بالسجود الصلاة "وادعوه مخلصين له الدين" أي ادعوه أو اعبدوه حال كونكم مخلصين الدعاء، أو العبادة له، وقيل: وحدوه ولا تشركوا به. قوله: "كما بدأكم تعودون" الكاف نعت مصدر محذوف. وقال الزجاج: هو متعلق بما قبله. والمعنى: كما أنشأكم في ابتداء الخلق يعيدكم، فيكون المقصود الاحتجاج على منكري البعث، فيجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، وقيل: كما أخرجكم من بطون أمهاتكم تعودون إليه كذلك ليس معكم شيء، فيكون مثل قوله تعالى: "ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة" وقيل: كما بدأكم من تراب تعودون إلى التراب.
30- "فريقاً هدى" منتصب بفعل يفسره ما بعده، وقيل: منتصب على الحال من المضمر في تعودون: أي تعودون فريقين: سعداء وأشقياء ويقويه قراءة أبي فريقين فريقاً هدى، والفريق الذي هداه الله هم المؤمنون بالله المتبعون لأنبيائه، والفريق الذي حقت عليه الضلالة هم الكفار. قوله: "إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله" تعليل لقوله: "وفريقاً حق عليهم الضلالة" أي ذلك بسبب أنهم أطاعوا الشياطين في معصية الله، ومع هذا فإنهم "يحسبون أنهم مهتدون" ولم يعترفوا على أنفسهم بالضلالة، وهذا أشد في تمردهم وعنادهم. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "والذين إذا فعلوا فاحشة" قال: كانوا يطوفون بالبيت عراة، فنهوا عن ذلك. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي مثله. وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب نحوه. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في الآية قال: والله ما أكرم الله عبداً قط على معصيته ولا رضيها له ولا أمر بها، ولكن رضي لكم بطاعته ونهاكم عن معصيته. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "أمر ربي بالقسط" قال: بالعدل "وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد" قال: إلى الكعبة حيث صليتم في كنيسة أو غيرها "كما بدأكم تعودون" قال: شقي وسعيد. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "كما بدأكم تعودون" الآية قال: إن الله بدأ خلق بني آدم مؤمناً وكافراً كما قال "هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن" ثم يعيدهم يوم القيامة كما بدأ خلقهم مؤمناً وكافراً. وأخرج ابن جرير، عن جابر في الآية قال: يبعثون على ما كانوا عليه: المؤمن على إيمانه والمنافق على نفاقه. وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عنه أنه ذكر القدرية فقال: قاتلهم الله أليس قد قال الله تعالى: " كما بدأكم تعودون * فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة ". وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً في الآية: يقول كما خلقناكم أول مرة كذلك تعودون.
هذا خطاب لجميع بني آدم وإن كان وارداً على سبب خاص، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب والزينة ما يتزين به الناس من الملبوس، أمروا بالتزين عند الحضور إلى المساجد للصلاة والطواف. وقد استدل بالآية على وجوب ستر العورة في الصلاة، وإليه ذهب جمهور أهل العلم، بل سترها واجب في كل حال من الأحوال وإن كان الرجل خالياً كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة، والكلام على العورة وما يجب ستره منها مفصل في كتب الفروع. قوله: 31- "وكلوا واشربوا ولا تسرفوا" أمر الله سبحانه عباده بالأكل والشرب، ونهاهم عن الإسراف فلا زهد في ترك مطعم ولا مشرب، وتاركه بالمرة قاتل لنفسه وهو من أهل النار، كما صح في الأحاديث الصحيحة والمقلل منه على وجه يضعف به بدنه ويعجز عن القيام بما يجب عليه القيام به من طاعة أو سعي على نفسه، وعلى من يعول مخالفاً لما أمر الله به وأرشد إليه، والمسرف في إنفاقه على وجه لا يفعله إلا أهل السفه، والتبذير مخالف لما شرعه الله لعباده واقع في النهي القرآني، وهكذا من حرم حلالاً أو حلل حراماً، فإنه يدخل في المسرفين ويخرج عن المقتصدين. ومن الإسراف الأكل لا لحاجة، وفي وقت شبع.
قوله: 32- "قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده" الزينة ما يتزين به الإنسان من ملبوس أو غيره من الأشياء المباحة كالمعادن التي لم يرد نهي عن التزين بها والجواهر ونحوها، وقيل: الملبوس خاصة ولا وجه له، بل هو من جملة ما تشمله الآية، فلا حرج على من لبس الثياب الجيدة الغالية القيمة إذا لم يكن مما حرمه الله، ولا حرج على من تزين بشيء من الأشياء التي لها مدخل في الزينة ولم يمنع منها مانع شرعي، ومن زعم أن ذلك يخالف الزهد فقد غلط غلطاً بيناً. وقد قدمنا في هذا ما يكفي، وهكذا الطيبات من المطاعم والمشارب ونحوهما مما يأكله الناس فإنه لا زهد في ترك الطيب منها، ولهذا جاءت الآية هذه معنونة بالاستفهام المتضمن للإنكار على من حرم ذلك على نفسه أو حرمه على غيره. وما أحسن ما قال ابن جرير الطبري: ولقد أخطأ من آثر لباس الشعر والصوف على لباس القطن والكتان مع وجود السبيل إليه من حله، ومن أكل البقول والعدس واختاره على خبز البر، ومن ترك أكل اللحم خوفاً من عارض الشهوة. وقد قدمنا نقل مثل هذا عنه مطولاً. والطيبات المستلذات من الطعام، وقيل: هو اسم عام لما طاب كسباً ومطعماً: قوله: "قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا" أي أنها لهم بالأصالة وإن شاركهم الكفار فيها ما داموا في الحياة "خالصة يوم القيامة" أي مختصة بهم يوم القيامة لا يشاركهم فيها الكفار. وقرأ نافع " خالصة " بالرفع، وهي قراءة ابن عباس على أنها خبر بعد خبر. وقرأ الباقون بالنصب على الحال. قال أبو علي الفارسي: ولا يجوز الوقف على الدنيا لأن ما بعدها متعلق بقوله: "للذين آمنوا" حال منه بتقدير: قل هي ثابتة للذين آمنوا في الحياة الدنيا في حال خلوصها لهم يوم القيامة. قوله: "كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون" أي مثل هذا التفصيل نفصل الآيات المشتملة على التحليل والتحريم.
قوله: 33- "قل إنما حرم ربي الفواحش" جمع فاحشة. وقد تقدم تفسيرها "ما ظهر منها وما بطن" أي ما أعلن منها وما أسر، وقيل: هي خاصة بفواحش الزنا ولا وجه لذلك، والإثم يتناول كل معصية يتسبب عنها الإثم، وقيل: هو الخمر خاصة، ومنه قول الشاعر: شربت الإثم حتى ضل عقلي كذاك الإثم تذهب بالعقول ومثله قول الآخر: يشرب الإثم بالصواع جهارا وقد أنكر جماعة من أهل العلم على من جعل الإثم خاصاً بالخمر. قال النحاس: فأما أن يكون الإثم الخمر فلا يعرف ذلك، وحقيقته أنه جميع المعاصي، كما قال الشاعر: إني وجدت الأمر أرشده تقوى الإله وشره الإثم قال الفراء: الإثم ما دون الحق والاستطالة على الناس انتهى. وليس في إطلاق الإثم على الخمر ما يدل على اختصاصه به، فهو أحد المعاصي التي يصدق عليها. قال في الصحاح: وقد يسمى الخمر إثماً، وأنشد: شربت الإثم البيت، وكذا أنشده الهروي قبله في غريبته. قوله: "والبغي بغير الحق" أي الظلم المجاوز للحد، وأفرده بالذكر بعد دخوله فيما قبله لكونه ذنباً عظيماً كقوله: "وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي" "وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً" أي وأن تجعلوا لله شريكاً لم ينزل عليكم به حجة. والمراد التهكم بالمشركين، لأن الله لا ينزل برهاناً بأن يكون غيره شريكاً له " وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون " بحقيقته وأن الله قاله، وهذا مثل ما كانوا ينسبون إلى الله سبحانه من التحليلات والتحريمات التي لم يأذن بها. وقد أخرج ابن أبي شيبة ومسلم والنسائي وغيرهم عن ابن عباس أن النساء كن يطفن عراة إلا أن تجعل المرأة على فرجها خرقة وتقول: اليوم يبدو بعضه أو كله وما بدا منه فلا أحله فنزلت "خذوا زينتكم عند كل مسجد". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه في الآية قال: كان الرجال يطوفون بالبيت عراة فأمرهم الله بالزينة. والزينة: اللباس وما يواري السوءة وما سوى ذلك من جيد البر والمتاع. وأخرج ابن عدي وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذوا زينة الصلاة، قالوا: وما زينة الصلاة؟ قال: البسوا نعالكم فصلوا فيها". وأخرج العقيلي وأبو الشيخ وابن مردويه وابن عساكر عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم في قول الله: "خذوا زينتكم عند كل مسجد" قال: صلوا في نعالكم. والأحاديث في مشروعية الصلاة في النعل كثيرة جداً، وأما كون ذلك هو تفسير الآية كما روي في هذين الحديثين فلا أدري كيف إسنادهما. وقد ورد النهي عن أن يصلي الرجل في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء، وهو في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن ابن عباس قال: أحل الله الأكل والشرب ما لم يكن سرفاً أو مخيلة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله: "إنه لا يحب المسرفين" قال: في الطعام والشراب. وأخرج عبد بن حميد والنسائي وابن ماجه وابن مردويه والبيهقي في الشعب من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا في غير مخيلة ولا سرف، فإن الله سبحانه يحب أن يرى أثر نعمته على عبده". وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس قال: كانت قريش تطوف بالبيت وهم عراة يصفرون ويصفقون، فأنزل الله: "قل من حرم زينة الله" فأمروا بالثياب أن يلبسوها "قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة" قال: ينتفعون بها في الدنيا لا يتبعهم فيها مأثم يوم القيامة. وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن الضحاك "قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا" قال: المشركون يشاركون المؤمنين في زهرة الدنيا وهي خالصة يوم القيامة للمؤمنين دون المشركين. وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس "والطيبات من الرزق" قال: الودك واللحم والسمن. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال: كان أهل الجاهلية يحرمون أشياء أحلها الله من الثياب وغيرها، وهو قول الله: "قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراماً وحلالاً" وهذا هذا، فأنزل الله: "قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا" يعني شارك المسلمون الكفار في الطيبات في الحياة الدنيا فأكلوا من طيبات طعامهم ولبسوا من جياد ثيابهم ونكحوا من صالحي نسائها، ثم يخلص الله الطيبات في الآخرة للذين آمنوا وليس للمشركين فيها شيء. وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس قال: ما ظهر منها العربة، وما بطن الزنا، وكانوا يطوفون بالبيت عراة. وأخرج ابن جرير عن مجاهد في الآية قال: ما ظهر منها طواف الجاهلية عارة، وما بطن الزنا. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله: "والإثم" قال المعصية: "والبغي" قال: أن يبغي على الناس بغير حق.
قوله: 34- "ولكل أمة أجل" أي وقت معين محدود ينزل فيه عذابهم من الله أو يميتهم فيه، ويجوز أن تحمل الآية على ما هو أعم من الأمرين جميعاً، والضمير في "أجلهم" لكل أمة: أي إذا جاء أجل كل أمة من الأمم كان ما قدره عليهم واقعاً في ذلك الأجل لا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون عنه ساعة. قال أبو السعود ما معناه: إن قوله: "ولا يستقدمون" عطف على "يستأخرون" لكن لا لبيان انتفاء التقدم مع إمكانه في نفسه كالتأخر بل للمبالغة في انتفاء التأخر بنظمه في سلك المستحيل عقلاً، وقيل المراد بالمجيء: الدنو بحيث يمكن التقدم في الجملة كمجيء اليوم الذي ضرب لهلاكهم ساعة منه وليس بذاك. وقرأ ابن سيرين (آجالهم) بالجمع، وخص الساعة بالذكر لأنها أقل أسماء الأوقات. وقد استدل بالآية الجمهور على أن كل ميت يموت بأجله وإن كان موته بالقتل أو التردي أو نحو ذلك، والبحث في ذلك طويل جداً، ومثل هذه الآية قوله تعالى: "ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون".
قوله: 35- "يا بني آدم إما يأتينكم" الآية، إن هي الشرطية وما زائدة للتوكيد، ولهذا لزمت الفعل النون المؤكدة، والقصص قد تقدم معناه، والمعنى: إن أتاكم رسل كائنون منكم يخبرونكم بأحكامي ويبينونها لكم "فمن اتقى وأصلح" أي اتقى معاصي الله وأصلح حال نفسه باتباع الرسل، وإجابتهم "فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون" وهذه الجملة الشرطية هي الجواب للشرط الأول، وقيل: جوابه ما دل عليه الكلام: أي إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي فأطيعوهم. والأول أولى، وبه قال الزجاج.
36- "والذين كذبوا بآياتنا" التي يقصها عليهم رسلنا "واستكبروا" عن إجابتها والعمل بما فيها "فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون" لا يخرجون منها بسبب كفرهم بتكذيب الآيات والرسل.
37- "فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بآياته" أي لا أحد أظلم منه، وقد تقدم تحقيقه، والإشارة بقوله: "أولئك" إلى المكذبين المستكبرين "ينالهم نصيبهم من الكتاب" أي مما كتب الله لهم من خير وشر، وقيل: ينالهم من العذاب بقدر كفرهم، وقيل: الكتاب هنا القرآن لأن عذاب الكفار مذكور فيه، وقيل: هو اللوح المحفوظ. قوله: "حتى إذا جاءتهم رسلنا" أي إلى غاية هي هذه، وجملة "يتوفونهم" في محل نصب على الحال. والمراد بالرسل هنا ملك الموت وأعوانه، وقيل: حتى هنا هي التي للابتداء، ولكن لا يخفى أن كونها لابتداء الكلام بعدها لا ينافي كونها غاية لما قبلها، والاستفهام في قوله: "أين ما كنتم تدعون من دون الله" للتقريع والتوبيخ: أي أين الآلهة التي كنتم تدعونها من دون الله وتعبدونها، وجملة "قالوا ضلوا عنا" استئنافية بتقدير سؤال وقعت هي جواباً عنه: أي ذهبوا عنا وغابوا فلا ندري أين هم؟ "وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين" أي أقروا بالكفر على أنفسهم.
قوله: 38- "قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم" القائل هو الله عز وجل، و في بمعنى مع: أي مع أمم، وقيل: هي على بابها، والمعنى: ادخلوا في جملتهم، وقيل: هو قول مالك خازن النار، والمراد بالأمم التي قد خلت من قبلهم من الجن والإنس هم الكفار من الطائفتين من الأمم الماضية "كلما دخلت أمة" من الأمم الماضية "لعنت أختها" أي الأمة الأخرى التي سبقتها إلى النار، وجعلت أختاً لها باعتبار الدين، أو الضلالة، أو الكون في النار "حتى إذا اداركوا فيها" أي تداركوا، والتدارك: التلاحق والتتابع والاجتماع في النار. وقرأ الأعمش تداركوا على الأصل من دون إدغام. وقرأ ابن مسعود (حتى إذا أدركوا) أي أدرك بعضهم بعضاً. وروي عن أبي عمرو أنه قرأ بقطع ألف الوصل، فكأنه سكت على إذا للتذكر، فلما طال سكوته قطع ألف الوصل كالمبتدئ بها، وهو مثل قول الشاعر: يا نفس صبراً كل حي لاقى وكل اثنـــين إلى افتـــراق "قالت أخراهم لأولاهم": أي أخراهم دخولاً لأولاهم دخولاً، وقيل "أخراهم": أي سفلتهم وأتباعهم "لأولاهم" لرؤسائهم وكبارهم وهذا أول كما يدل عليه "ربنا هؤلاء أضلونا" فإن المضلين هم الرؤساء. ويجوز أن يراد أنهم أضلوهم لأنهم تبعوهم واقتدوا بدينهم من بعدهم، فيصح الوجه الأول، لأن أخراهم تبعت دين أولاهم قوله: "فآتهم عذاباً ضعفاً من النار" الضعف الزائد على مثله مرة أو مرات، ومثله قوله تعالى: "ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعناً كبيراً" وقيل: الضعف هنا الأفاعي والحيات، وجملة "قال لكل ضعف" استئنافية جواباً لسؤال مقدر، والمعنى لكل طائفة منكم ضعف من العذاب: أي الطائفة الأولى، والطائفة الأخرى "ولكن لا تعلمون" بما لكل نوع من العذاب.
39- "وقالت أولاهم لأخراهم" أي قال السابقون للاحقين، أو المتبوعون للتابعين "فما كان لكم علينا من فضل" بل نحن سواء في الكفر بالله واستحقاق عذابه "فذوقوا" عذاب النار كما ذقناه "بما كنتم تكسبون" من معاصي الله والكفر به. وقد أخرج ابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه والخطيب وابن النجار عن أبي الدرداء قال: تذاكرنا زيادة العمر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: من وصل رحمه أنسئ في أجله فقال: إنه ليس بزائد في عمره، قال الله تعالى: "فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون" ولكن الرجل يكون له الذرية الصالحة، فيدعون الله من بعده فيبلغه ذلك، فذلك الذي ينسأ في أجله. وفي لفظ: فيلحقه دعاؤهم في قبره، فذلك زيادة العمر. وهذا الحديث ينبغي أن يكشف عن إسناده فقيه نكارة، وقد جاءت الأحاديث الصحيحة في الصحيحين وغيرهما بخلافه. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن أبي عروبة قال: كان الحسن يقول: ما أحمق هؤلاء القوم يقولون: اللهم أطل عمره، والله يقول: "فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون". وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد ابن جرير وابن المنذر من طريق الزهري عن ابن المسيب قال: لما طعن عمر قال كعب: لو دعا الله لأخر في أجله، فقيل له: أليس قد قال الله: "فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون" فقال كعب: وقد قال الله: "وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب". وأخرج الفريابي وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب" قال: ما قدر لهم من خير وشر. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في الآية قال: من الأعمال من عمل خيراً جزي به ومن عمل شراً جزي به. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عنه أيضاً قال: نصيبهم من الشقاوة والسعادة. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد في الآية قال: ما سبق من الكتاب. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن محمد بن كعب في الآية قال: رزقه وأجله وعمله. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أبي صالح في الآية قال: من العذاب. وأخرج عبد بن حميد عن الحسن مثله. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله: "قد خلت" قال: قد مضت "كلما دخلت أمة لعنت أختها" قال: كلما دخل أهل ملة لعنوا أصحابهم على ذلك، يعلن المشركون المشركين، واليهود اليهود، والنصارى النصارى، والصابئون الصابئين، والمجوس المجوس، تلعن الآخرة الأولى "حتى إذا اداركوا فيها جميعاً قالت أخراهم" الذين كانوا في آخر الزمان "لأولاهم" الذين شرعوا لهم ذلك الدين "ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذاباً ضعفاً من النار قال لكل ضعف" الأولى والآخرة "وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل" وقد ضللتم كما ضللنا. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "عذاباً ضعفاً" قال: مضاعفاً "قال لكل ضعف" قال: مضاعف، وفي قوله: "فما كان لكم علينا من فضل" قال: تخفيف من العذاب.
قوله: 40- "لا تفتح لهم أبواب السماء". قرأ ابن عباس وحمزة والكسائي بفتح التحتية لكون تأنيث الجمع غير حقيقي فجاز تذكيره. وقرأ الباقون بالفوقية على التأنيث. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي تفتح بالتخفيف. وقرأ الباقون بالتشديد، والمعنى: أنها لا تفتح أبواب السماء لأرواحهم إذا ماتوا، وقد دل على هذا المعنى وأنه المراد من الآية ما جاء في الأحاديث الصحيحة أن الملائكة إذا انتهوا بروح الكافر إلى السماء الدنيا يستفتحون فلا تفتح لهم أبواب السماء، وقيل: لا تفتح أبواب السماء لأدعيتهم إذا دعوا قاله مجاهد والنخعي، وقيل لأعمالهم: أي لا تقبل، بل ترد عليهم فيضرب بها في وجوههم، وقيل المعنى: أنها لا تفتح لهم أبواب الجنة يدخلونها، لأن الجنة في السماء، فيكون على هذا القول العطف لجملة "ولا يدخلون الجنة" من عطف التفسير، ولا مانع من حمل الآية على ما يعم الأرواح والدعاء والأعمال، ولا ينافيه ورود ما ورد من أنها لا تفتح أبواب السماء لواحد من هذه، فإن ذلك لا يدل على فتحها لغيره مما يدخل تحت عموم الآية. قوله: "ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط" أي أن هؤلاء الكفار المكذبين المستكبرين لا يدخلون الجنة بحال من الأحوال، ولهذا علقه بالمستحيل، فقال: "حتى يلج الجمل في سم الخياط" وهو لا يلج أبداً، وخص الجمل بالذكر لكونه يضرب به المثل في كبر الذات، وخص سم الخياط، وهو ثقب الإبرة بالذكر لكونه غاية في الضيق، والجمل الذكر من الإبل والجمع جمال وأجمال وجمالات، وإنما سمي جملاً إذا أربع. وقرأ ابن عباس الجمل بضم الجيم وفتح الميم مشددة، وهو حبل السفينة الذي يقال له: القلس وهو حبال مجموعة قاله ثعلب، وقيل: الحبل الغليظ من القنب، وقيل: الحبل الذي يصعد به في النخل. وقرأ سعيد بن جبير الجمل بضم الجيم وتخفيف الميم. وهو القلس أيضاً. وقرأ أبو السماك الجمل بضم الجيم وسكون الميم. وقرئ أيضاً بضمهما. وقرأ عبد الله بن مسعود: حتى يلج الجمل الأصغر في سم الخياط وقرئ "في سم" بالحركات الثلاث، والسم: كل ثقب لطيف، ومنه ثقب الإبرة، والخياط ما يخاط به، يقال: خياط ومخيط "وكذلك نجزي المجرمين" أي مثل ذلك الجزاء الفظيع نجزي المجرمين: أي جنس من أجرم وقد تقدم تحقيقه.
والمهاد: الفراش، والغواش جمع غاشية: أي نيران تغشاهم من فوقهم كالأغطية 41- "وكذلك نجزي الظالمين" أي مثل ذلك الجزاء العظيم نجزي من اتصف بصفة الظلم.
قوله: 42- "لا نكلف نفساً إلا وسعها" أي لا نكلف العباد إلا بما يدخل تحت وسعهم ويقدون عليه، ولا نكلفهم ما لا يدخل تحت وسعهم، وهذه الجملة معترضة بين المبتدأ والخبر، ومثله "لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها". وقرأ الأعمش تكلف بالفوقية ورفع نفس، والإشارة بقوله: "أولئك" إلى الموصول، وخبره "أصحاب الجنة" والجملة خبر الموصول، وجملة "هم فيها خالدون" في محل نصب على الحال.
قوله: 43- "ونزعنا ما في صدورهم من غل" هذا من جملة ما ينعم الله به على أهل الجنة أن ينزع الله ما في قلوبهم من الغل على بعضهم حتى تصفو قلوبهم ويود بعضهم بعضاً، فإن الغل لو بقي في صدورهم كما كان في الدنيا لكان في ذلك تنغيص لنعيم الجنة، لأن المتشاحنين لا يطيب لأحدهم عيش مع وجود الآخر. والغل: الحقد الكامن في الصدور، وقل نزع الغل في الجنة أن لا يحسد بعضهم بعضاً في تفاضل المنازل "وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا" أي لهذا الجزاء العظيم، وهو الخلود في الجنة ونزع الغل من صدورهم، والهداية هذه لهذا هي الهداية لسببه من الإيمان والعمل الصالح في الدنيا "وما كنا لنهتدي". قرأ ابن عامر بإسقاط الواو، وقرأ الباقون بإثباتها، وما كنا نطيق أن نهتدي بهذا الأمر لولا هداية الله لنا، والجملة مستأنفة أو حالية، وجواب لولا محذوف يدل عليه ما قبله: أي لولا هداية الله لنا ما كنا لنهتدي. قوله: "لقد جاءت رسل ربنا بالحق" اللام لام القسم، قالوا: هذا لما وصلوا إلى ما وصلوا إليه من الجزاء العظيم اغتباطاً بما صاروا فيه بسبب ما تقدم منهم من تصديق الرسل وظهور صدق ما أخبروهم به في الدنيا من أن جزاء الإيمان والعمل الصالح هو هذا الذي صاروا فيه. قوله: "ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون" أي وقع النداء لهؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فقيل لهم: تلكم الجنة أورثتموها: أي ورثتم منازلها بعملكم. قال في الكشاف: بسبب أعمالكم لا بالتفضل كما تقوله المبطلة انتهى. أقول: يا مسكين هذا قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه: "سددوا وقاربوا واعلموا أنه لن يدخل أحد الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته" والتصريح بسبب لا يستلزم نفي سبب آخر، ولولا التفضل من الله سبحانه وتعالى على العامل بإقداره على العمل لم يكن عمل أصلاً، فلو لم يكن التفضل إلا بهذا الإقدار لكان القائلون به محقة لا مبطلة، وفي التنزيل: "ذلك الفضل من الله" وفيه "فسيدخلهم في رحمة منه وفضل". وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "لا تفتح لهم أبواب السماء" يعني لا يصعد إلى الله من عملهم شيء. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه قال: لا تفتح لهم لعمل ولا لدعاء. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه أيضاً في الآية قال: لا تفتح لأرواحهم، وهي تفتح لأرواح المؤمنين. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه أيضاً "حتى يلج الجمل" قال: ذو القوائم "في سم الخياط" قال: في خرت الإبرة. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والطبراني في الكبير وأبو الشيخ عن ابن مسعود في قوله: "حتى يلج الجمل" قال: زوج الناقة. وأخرج أبو عبيد وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ من طرق عن ابن عباس أنه كان يقرأ الجمل بضم الجيم وتشديد الميم وقال: هو الحبل الغليظ أو هو من حبال السفن. وأخرج عبد بن حميد عن ابن عمر أنه سئل عن سم الخياط فقال: الجمل في ثقب الإبرة. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس قال: المهاد الفراش، والغواش اللحف. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن محمد بن كعب مثله. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن علي بن أبي طالب قال: فينا والله أهل بدر نزلت هذه الآية: "ونزعنا ما في صدورهم من غل". وأخرج النسائي وابن جرير وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل أهل النار يرى منزله من الجنة يقول لو هدانا الله فيكون حسرة عليهم، وكل أهل الجنة يرى منزله من النار فيقول لولا أن هدانا الله فهذا شكرهم". وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد والدارمي ومسلم وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي سعيد وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون" قال: نودوا أن صحوا فلا تسقموا، وانعموا فلا تبأسوا، وشبوا فلا تهرموا، واخلدوا فلا تموتوا.
مناداة أصحاب الجنة لأصحاب النار لم تكن لقصد الإخبار لهم بما نادوهم به، بل لقصد تبكيتهم وإيقاع الحسرة في قلوبهم، و 44- "أن قد وجدنا" هو نفس النداء: أي إنا قد وصلنا إلى ما وعدنا الله به من النعيم فهل وصلتم إلى ما وعدكم الله به من العذاب الأليم، والاستفهام هو للتقريع والتوبيخ، وحذف مفعول وعد الثاني لكون الوعد لم يكن لهم بخصوصهم، بل لكل الناس كالبعث والحساب والعقاب، وقيل: حذف لإسقاط الكفار عن رتبة التشريف بالخطاب عند الوعد "قالوا نعم" أي وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً. وقرأ الأعمش والكسائي "نعم" بكسر العين. قال مكي: من قال: نعم بكسر العين فكأنه أراد أن يفرق بين نعم التي جواب وبين نعم التي هي اسم للبقر والغنم والإبل. والمؤذن: المنادي، أي فنادى مناد بينهم: أي بين الفريقين، قيل: هو من الملائكة "أن لعنة الله على الظالمين" قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي والبزي بتشديد "أن" وهو الأصل. وقرأ الباقون بالتخفيف على أنها المخففة من الثقيلة أو المفسرة. وقرأ الأعمش بكسر همزة إن على إضمار القول.
وجملة 45- "الذين يصدون عن سبيل الله" صفة للظالمين، ويجوز الرفع والنصب على إضمارهم، أو أعني. والصد: المنع: أي يمنعون الناس عن سلوك سبيل الحق "ويبغونها عوجاً" أي يطلبون إعوجاجها: أي ينفرون الناس عنها ويقدحون في استقامتها بقولهم إنها غير حق وإن الحق ما هو فيه، والعوج بالكسر في المعاني والأعيان ما لم يكن منتصباً، وبالفتح ما كان في المنتصب كالرمح، وجملة "وهم بالآخرة كافرون" في محل نصب على الحال.
قوله: 46- "وبينهما حجاب" أي بين الفريقين أو بين الجنة والنار. والحجاب هو السور المذكور في قوله تعالى: "فضرب بينهم بسور". قوله: "وعلى الأعراف رجال" الأعراف: جمع عرف، وهي شرفات السور المضروب بينهم، ومنه عرف الفرس وعرف الديك والأعراف في اللغة: المكان المرتفع، وهذا الكلام خارج مخرج المدح كما في قوله: "رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله". وقد اختلف العلماء في أصحاب الأعراف من هم؟ فقيل: هم الشهداء، ذكره القشيري وشرحبيل بن سعد، وقيل: هم فضلاء المؤمنين فرغوا من شغل أنفسهم وتفرغوا لمطالعة أحوال الناس ذكره مجاهد، وقيل: هم قوم أنبياء ذكره الزجاج، وقيل: هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، قاله ابن مسعود وحذيفة بن اليمان وابن عباس والشعبي والضحاك وسعيد بن جبير، وقيل: هم العباس وحمزة وعلي وجعفر الطيار يعرفون محبيهم ببياض الوجوه ومبغضيهم بسوادها، حكي ذلك عن ابن عباس، وقيل: هم عدول القيامة الذين يشهدون على الناس بأعمالهم وهم في كل أمة، واختار هذا القول النحاس، وقيل: هم أولاد الزنا، روي ذلك عن ابن عباس، وقيل: هم ملائكة موكلون بهذا السور يميزون الكافرين من المؤمنين قبل إدخالهم الجنة والنار ذكره أبو مجلز، وجملة "يعرفون كلاً بسيماهم" صفة لرجال. والسيما العلامة: أي يعرفون كلاً من أهل الجنة والنار بعلاماتهم كبياض الوجوه وسوادها، أو مواضع الوضوء من المؤمنين، أو علامة يجعلها الله لكل فرق في ذلك الموقف يعرف رجال الأعراف بها السعداء من الأشقياء "ونادوا أصحاب الجنة" أي نادى رجال الأعراف أصحاب الجنة حين رأوهم "أن سلام عليكم" أي نادوهم بقولهم سلام عليكم تحية لهم وإكراماً وتبشيراً، أو أخبروهم بسلامتهم من العذاب. قوله: "لم يدخلوها وهم يطمعون" أي لم يدخل الجنة أصحاب الأعراف والحال أنه يطمعون في دخولها، وقيل معنى "يطمعون" يعلمون أنهم يدخلونها وذلك معروف عند أهل اللغة: طمع بمعنى علم ذكره النحاس. وهذا القول أعني كونهم أهل الأعراف مروي عن جماعة منهم ابن عباس وابن مسعود. وقال أبو مجلز: هم أهل الجنة: أي أن أهل الأعراف قالوا لهم: سلام عليكم حال كون أهل الجنة لم يدخلوها والحال أنهم يطمعون في دخولها.
قوله: 47- "وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار" أي إذا صرفت أبصار أهل الأعراف تلقاء أصحاب النار: أي جهة أصحاب، واصل معنى "تلقاء" جهة اللقاء، وهي جهة المقابلة ولم يأت مصدر على تفعال بكسر أوله غير مصدرين، أحدهما هذا، والآخر تبيان، وما عداهما بالفتح "قالوا" أي قال أهل الأعراف: "ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين" سألوا الله أن لا يجعلهم منهم.
48- "ونادى أصحاب الأعراف رجالاً" من الكفار "يعرفونهم بسيماهم" أي بعلاماتهم "قالوا" بدل من نادى "ما أغنى عنكم جمعكم" الذي كنتم تجمعون للصد عن سبيل الله، والاستفهام للتقريع والتوبيخ، قوله: "وما كنتم تستكبرون". ما مصدرية: أي وما أغنى عنكم استكباركم.
49- "أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة" هذا من كلام أصحاب الأعراف: أي قالوا للكفار مشيرين إلى المسلمين الذين صاروا إلى الجنة هذه المقالة. وقد كان الكفار يقسمون في الدنيا عند رؤيتهم لضعفاء المسلمين بهذا القسم، وهذا تبكيت للكفار وتحسير لهم. قوله: "ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون" هذا تمام كلام أصحاب الأعراف: أي قالوا للمسلمين ادخلوا الجنة، فقد انتفى عنكم الخوف والحزن بعد الدخول. وقرأ طلحة بن مصرف أدخلوا بكسر الخاء. وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً" قال: من النعيم والكرامة "فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً" قال: من الخزي والهوان والعذاب. وأخرج ابن أبي شيبة وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما وقف على قليب بدر تلا هذ الآية. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله: "وبينهما حجاب" قال: هو السور وهو الأعراف، وإنما سمي الأعراف لأن أصحابه يعرفون الناس. وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن حذيفة قال: الأعراف سور بين الجنة والنار. وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي في البعث والنشور عن ابن عباس قال: الأعراف هو الشيء المشرف. وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ عنه قال: الأعراف سور له عرف كعرف الديك. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير قال: الأعراف جبال بين الجنة والنار فهم على أعرافها، يقول على ذراها. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس إنها تل بين الجنة والنار حبس عليه ناس من أهل الذنوب. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن جريج قال: زعموا أنه الصراط. وأخرج ابن جرير عن حذيفة قال: أصحاب الأعراف قوم كانت لهم أعمال أنجاهم الله بها من النار، وهم آخر من يدخل الجنة، قد عرفوا أهل الجنة وأهل النار. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود: أنهم من استوت حسناتهم وسيئاتهم يقفون على الصراط. وأخرج ابن جرير عن حذيفة نحوه. وكذا أخرج نحوه عنه عبد الرزاق وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ. وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه وابن عساكر عن جابر بن عبد الله نحوه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير قال:" سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الأعراف؟ فقال:هم آخر من يفصل بينهم من العباد، فإذا فرغ رب العالمين من الفصل بين العباد قال: أنتم قوم أخرجتكم حسناتكم من النار ولم تدخلوا الجنة فأنتم عتقائي، فارعوا من الجنة حيث شئتم". قال ابن كثير: وهذا مرسل حسن. وأخرج البيهقي في البعث عن حذيفة أراه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يجمع الناس يوم القيامة فيؤمر بأهل الجنة إلى الجنة ويؤمر بأهل النار إلى النار، ثم يقال لأصحاب الأعراف ما تنتظرون؟ قالوا: ننتظر أمرك، فيقال لهم: إن حسناتكم تجاوزت بكم النار أن تدخلوها وحالت بينكم وبين الجنة خطاياكم فادخلوا بمغفرتي ورحمتي". وأخرج سعيد بن منصور وابن منيع وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في البعث عن عبد الرحمن المزني قال: "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الأعراف؟ فقال:هم قوم قتلوا في سبيل الله في معصية آبائهم، فمنعهم من النار قتلهم في سبيل الله، ومنعهم من الجنة معصيتهم آباءهم". وأخرج الطبراني وابن مردويه بسند ضعيف عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً نحوه. وأخرج ابن مردويه والبيهقي في البعث عن أبي هريرة مرفوعاً نحوه أيضاً. وأخرج الحارث بن أبي أسامة في مسنده وابن جرير وابن مردويه عن عبد الله بن مالك الهلالي عن أبيه مرفوعاً نحوه. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس مرفوعاً نحوه. وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن رجل من مزينة مرفوعاً نحوه. وأخرج أبو الشيخ عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار أنه سئل عن قوله: "لم يدخلوها وهم يطمعون" قال: سلمت عليهم الملائكة وهم لم يدخلوها وهم يطمعون أن يدخلوها حين سلمت. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن السدي قال: أصحاب الأعراف يعرفون الناس بسيماهم، أهل النار بسواد وجوههم وأهل الجنة ببياض وجوههم، فإذا مروا بزمرة يذهب بهم إلى الجنة قالوا: "سلام عليكم" وإذا مروا بزمرة يذهب بها إلى النار قالوا: "ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين" وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس "ونادى أصحاب الأعراف رجالاً" قال: في النار "يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون" قال: الله لأهل التكبر "أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة" يعني أصحاب الأعراف "ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون".
قوله: 50- "أن أفيضوا علينا من الماء" الإفاضة: التوسعة، يقال: أفاض عليه نعمه، طلبوا منهم أن يواسوهم بشيء من الماء أو بشيء مما رزقهم الله من غيره من الأشربة أو الأطعمة، فأجابوا بقولهم: "إن الله حرمهما" أي الماء وما رزقهم الله من غيره "على الكافرين" فلا نواسيكم بشيء مما حرمه الله عليكم، وقيل: إن هذا النداء من أهل النار كان بعد دخول أهل الأعراف الجنة.
وجملة 51- "الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً" في محل جر صفة الكافرين. وقد تقدم تفسير اللهو واللعب والغرر. قوله: "فاليوم ننساهم" أي نتركهم في النار "كما نسوا لقاء يومهم هذا" الكاف نعت مصدر محذوف، وما مصدرية: أي نسياناً كنسيانهم لقاء يومهم هذا. قوله: "وما كانوا بآياتنا يجحدون" معطوف على ما نسوا: أي كما نسوا، وكما كانوا بآياتنا يجحدون: أي ينكرونها.
واللام في 52- "ولقد جئناهم" جواب القسم. والمراد بالكتاب الجنس، إن كان الضمير للكفار جميعاً، وإن كان للمعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم، فالمراد بالكتاب القرآن، والتفصيل التبيين، و "على علم" في محل نصب على الحال: أي عالمين حال كونه "هدى" للمؤمنين "ورحمة" لهم. قال الكسائي والفراء: ويجوز هدى ورحمة بالخفض على النعت لكتاب.
قوله: 53- "هل ينظرون إلا تأويله" بالهمز من آل، وأهل المدينة يخفون الهمزة. والنظر الانتظار: أي هل ينتظرون إلا ما وعدوا به في الكتاب من العقاب الذي يؤول الأمر إليه، وقيل: تأويله جزاؤه، وقيل: عاقبته. والمعنى متقارب. ويوم ظرف ليقول: أي يوم يأتي تأويله، وهو يوم القيامة "يقول الذين نسوه من قبل" أي تركوه من قبل أن يأتي تأويله "قد جاءت رسل ربنا بالحق" الذي أرسلهم الله به إلينا "فهل لنا من شفعاء" استفهام منهم، ومعناه التمني "فيشفعوا لنا" منصوب لكونه جواباً للاستفهام. قوله: "أو نرد". قال الفراء: المعنى أو هل نرد "فنعمل غير الذي كنا نعمل". وقال الزجاج: نرد عطف على المعنى: أي هل يشفع لنا أحد أو نرد. وقرأ ابن أبي إسحاق أو نرد فنعمل بنصبهما، كقول امرئ القيس: فقلت له لا تبك عينك إنما نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا وقرأ الحسن برفعهما، ومعنى الآية: هل لنا شفعاء يخلصونا مما نحن فيه من العذاب، أو هل نرد إلى الدنيا فنعمل صالحاً غير ما كنا نعمل من المعاصي "قد خسروا أنفسهم" أي لم ينتفعوا بها فكانت أنفسهم بلاء عليهم ومحنة لهم فكأنهم خسروها كما يخسر التاجر رأس ماله، وقيل: خسروا النعيم وحظ الأنفس "وضل عنهم ما كانوا يفترون" أي افتراؤهم أو الذي كانوا يفترونه. والمعنى أنه بطل كذبهم الذي كانوا يقولونه في الدنيا أو غاب عنهم ما كانوا يجعلونه شريكاً لله فلم ينفعهم ولا حضر معهم.
قوله: 54- "إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام" هذا نوع من بديع صنع الله وجليل قدرته وتفرده بالإيجاد الذي يوجب على العباد توحيده وعبادته. وأصل ستة سدسة أبدلت التاء من أحد السينين وأدغم فيها الدال، والدليل على هذا أنك تقول في التصغير سديسة، وفي الجمع أسداس، وتقول جاء فلاناً سادساً. واليوم من طلوع الشمس إلى غروبها، قيل: هذه الأيام من أيام الدنيا، وقيل: من أيام الآخرة، وهذه الأيام الست أولها الأحد وآخرها الجمعة، وهو سبحانه قادر على خلقها في لحظة واحدة يقول لها كوني فتكون، ولكنه أراد أن يعلم عباده الرفق والتأني في الأمور، أو خلقها في ستة أيام لكون لكل شيء عنده أجلاً، وفي آية أخرى: "ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب". قوله: "ثم استوى على العرش": قد اختلف العلماء في معنى هذا على أربعة عشر قولاً، وأحقها وأولاها بالصواب مذهب السلف الصالح أنه استوى سبحانه عليه بلا كيف بل على الوجه الذي يليق به مع تنزهه عما لا يجوز عليه، والاستواء في لغة العرب هو العلو والاستقرار. قال الجوهري: استوى على ظهر دابته: أي استقر، واستوى إلى السماء: أي صعد، واستوى: أي استولى وظهر، ومنه قول الشاعر: قد استوى بشر على العراق من غير سيف ودم مهراق واستوى الرجل: أي انتهى شبابه، واستوى: أي انتسق واعتدل. وحكي عن أبي عبيدة أن معنى "استوى" هنا: علا، ومثله قول الشاعر: فيورد بهم ماء ثقيفاً بقفرة وقد حلق النجم اليماني فاستوى أي علا وارتفع. والعرش. قال الجوهري: هو سرير الملك. ويطلق العرش على معان أخر منها عرش البيت: سقفه، وعرش البئر: طيها بالخشب، وعرش السماك: أربعة كواكب صغار، ويطلق على الملك والسلطان والعز ومنه قول زهير: تداركتما عبساً وقد ثل عرشها وذبيان إذ زلت بأقدامهما النعل وقول الآخر: إن يقتلوك فقد ثللت عروشهم بعتيبة بن الحرث بن شهاب وقول الآخر: رأوا عرشي تثلم جانباه فلما أن تثلم أفردوني وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة صفة عرش الرحمن وإحاطته بالسموات والأرض وما بينهما وما عليهما، وهو المراد هنا. قوله: "يغشي الليل النهار" أي يجعل الليل كالغشاء للنهار فيغطي بظلمته ضياءه. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي "يغشي" بالتشديد، وقرأ الباقون بالتخفيف وهما لغتان، يقال: أغشى يغشي، وغشي يغشي، والتغشية في الأصل: إلباس الشيء الشيء، ولم يذكر في هذه الآية يغشي الليل بالنهار اكتفاء بأحد الأمرين عن الآخر كقوله تعالى: "سرابيل تقيكم الحر". وقرأ حميد بن قيس يغشي الليل والنهار على إسناد الفعل إلى الليل، ومحل هذه الجملة النصب على الحال، والتقدير: استوى على العرش مغشياً الليل النهار، وهكذا قوله: "يطلبه حثيثاً" حال من الليل: أي حال كون الليل طالباً للنهار طلباً حثيثاً لا يفتر عنه بحال، وحثيثاً صفة مصدر محذوف، أي يطلبه طلباً حثيثاً: أو حال من فاعل يطلب. والحث: الاستعجال والسرعة، يقال ولى حثيثاً: أي مسرعاً. قوله: "والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره". قال الأخفش: معطوف على السموات، وقرأ ابن عامر برفعها كلها على الابتداء والخبر. والمعنى على الأول: وخلق الشمس والقمر والنجوم حال كونها مسخرات، وعلى الثاني: الإخبار عن هذه بالتسخير. قوله: "ألا له الخلق والأمر" إخبار منه سبحانه لعباده بأنهما له، والخلق: المخلوق، والأمر: كلامه، وهو كن في قوله: " إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون "، أو المراد بالأمر ما يأمر به على التفصيل، أو التصرف في مخلوقاته، ولما ذكر سبحانه في هذه الآية خلق السموات والأرض في ذلك الأمد اليسير، ثم ذكر استواءه على عرشه وتسخير الشمس والقمر والنجوم، وأن له الخلق والأمر. قال: "تبارك الله رب العالمين" أي كثرت بركته واتسعت، ومنه بورك الشيء وبورك فيه، كذا قال ابن عرفة. وقال الأزهري في "تبارك" معناه تعالى وتعاظم. وقد تقدم تفسير "رب العالمين" في الفاتحة مستكملاً. وقد أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة". قال: ينادي الرجل أخاه فيقول: يا أخي أغثني فإني قد احترقت فأفض علي من الماء، فيقال: أجبه، فيقول: "إن الله حرمهما على الكافرين". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله: "أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله" قال: من الطعام. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن زيد في الآية قال: يستسقونهم ويستطعمونهم، وفي قوله: "إن الله حرمهما على الكافرين" قال: طعام الجنة وشرابها. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله: "فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا" يقول: نتركهم في النار كما تركوا لقاء يومهم هذا. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "فاليوم ننساهم" قال: نؤخرهم. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: "هل ينظرون إلا تأويله" قال: عاقبته. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد قال: "يوم يأتي تأويله" جزاؤه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس "يوم يأتي تأويله" قال: يوم القيامة. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس "ما كانوا يفترون" قال: ما كانوا يكذبون في الدنيا. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "استوى على العرش" الكيف غير معقول، والاستواء غير مجهول، والإقرار به إيمان، والجحود كفر. وأخرج اللالكائي عن مالك أن رجلاً سأله كيف استوى على العرش؟ فقال: الكيف غير معقول والاستواء منه غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب الدعاء والخطيب في تاريخه عن الحسن بن علي قال: أنا ضامن لمن قرأ هذه العشرين آية في كل ليلة أن يعصمه الله من كل سلطان ظالم، ومن كل شيطان مريد، ومن كل سبع ضاري، ومن كل لص عادي: آية الكرسي، وثلاث آيات من الأعراف "إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض" وعشراً من أول سورة الصافات، وثلاث آيات من الرحمن، أولها "يا معشر الجن والإنس" وخاتمة الحشر. وأخرج أبو الشيخ عن عبيد بن أبي مرزوق قال: من قرأ عند نومه "إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض" الآية، بسط عليه ملك جناحه حتى يصبح وعوفي من السرق. وأخرج أبو الشيخ عن محمد بن قيس صاحب عمر بن عبد العزيز قال: مرض رجل من أهل المدينة فجاءه زمرة من أصحابه يعودونه، فقرأ رجل منهم "إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض" الآية كلها، وقد أصمت الرجل فتحرك ثم استوى جالساً، ثم سجد يومه وليلته حتى كان من الغد من الساعة التي سجد فيها، قال له أهله: الحمد لله الذي عافاك، قال: بعث إلى نفسي ملك يتوفاها، فلما قرأ صاحبكم الآية التي قرأ سجد الملك وسجدت بسجوده، فهذا حين رفع رأسه، ثم مال فقضى. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله: "يغشي الليل النهار" قال: يغشي الليل النهار فيذهب بضوئه ويطلبه سريعاً حتى يدركه. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة قال: يلبس الليل النهار. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "حثيثاً" قال: سريعاً. وأخرج ابن أبي حاتم عن سفيان بن عيينة في قوله: "ألا له الخلق والأمر" قال: الخلق ما دون العرش، والأمر ما فوق ذلك. وأخرج ابن أبي حاتم والبيهقي عنه قال: الخلق هو الخلق، والأمر هو الكلام.
أمرهم الله سبحانه بالدعاء، وقيد ذلك بكون الداعي متضرعاً بدعائه مخفياً له، وانتصاب 55- "تضرعاً وخفية" على الحال: أي متضرعين بالدعاء مخفين له، أو صفة مصدر محذوف: أي ادعوه دعاء تضرع ودعاء خفية. والتضرع من الضراعة، وهي الذلة والخشوع والاستكانة، والخفية: الإسرار به، فإن ذلك أقطع لعرق الرياء، وأحسم لباب ما يخالف الإخلاص، ثم علل ذلك بقوله: "إنه لا يحب المعتدين" أي المجاوزين لما أمروا به في الدعاء وفي كل شيء، فمن جاوز ما أمره الله به في شيء من الأشياء فقد اعتدى، والله لا يحب المعتدين، وتدخل المجاوزة في الدعاء في هذا العموم دخولاً أولياً. ومن الاعتداء في الدعاء أن يسأل الداعي ما ليس له كالخلود في الدنيا، أو إدراك ما هو محال في نفسه، أو بطلب الوصول إلى منازل الأنبياء في الآخرة أو يرفع صوته بالدعاء صارخاً به.
قوله: 56- "ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها" نهاهم الله سبحانه عن الفساد في الأرض بوجه من الوجوه قليلاً كان أو كثيراً، ومنه قتل الناس وتخريب منازلهم وقطع أشجارهم وتغوير أنهارهم. ومن الفساد في الأرض الكفر بالله والوقوع في معاصيه، ومعنى "بعد إصلاحها": بعد أن أصلحها الله بإرسال الرسل وإنزال الكتب وتقرير الشرائع. قوله: "وادعوه خوفاً وطمعاً" إعرابهما يحتمل الوجهين المتقدمين في "تضرعاً وخيفة" وفيه أنه يشرع للداعي أن يكون عند دعائه خائفاً وجلاً طامعاً في إجابة الله لدعائه، فإنه إذا كان عند الدعاء جامعاً بين الخوف والرجاء ظفر بمطلوبه. والخوف: الانزعاج من المضار التي لا يؤمن من وقوعها، والطمع: توقع حصول الأمور المحبوبة. قوله: " إن رحمة الله قريب من المحسنين " هذا إخبار من الله سبحانه بأن رحمته قريبة من عباده المحسنين بأي نوع من الأنواع كان إحسانهم، وفي هذا ترغيب للعباد إلى الخير وتنشيط لهم، فإن قرب هذه الرحمة التي يكون بها الفوز بكل مطلب مقصود لكل عبد من عبادة الله. وقد اختلف أئمة اللغة والإعراب في وجه تذكير خبر رحمة الله حيث قال: قريب ولم يقل قريبة، فقال الزجاج: إن الرحمة مؤولة بالرحم لكونها بمعنى العفو والغفران، ورجح هذا التأويل النحاس. وقال النضر بن شميل: الرحمة مصدر بمعنى الترحم، وحق المصدر التذكير. وقال الأخفش سعيد: أراد بالرحمة هنا المطر، وتذكير بعض المؤنث جائز، وأنشد: فلا مزنة ودقت ودقها ولا أرض أبقل أبقالهــــا وقال أبو عبيدة: تذكير قريب على تذكير المكان: أي مكان قريب. قال علي بن سليمان الأخفش: وهذا خطأ، ولو كان كما قال لكان قريب منصوباً كما تقول: إن زيداً قريباً منك. وقال الفراء: إن القريب إذا كان بمعنى المسافة فيذكر ويؤنث، وإن كان بمعنى النسب فيؤنث بلا اختلاف بينهم. وروي عن الفراء أنه قال: يقال في النسب قريبة فلان، وفي غير النسب يجوز التذكير والتأنيث فيقال: دارك عنا قريب وفلانة منا قريب. قال الله تعالى: "وما يدريك لعل الساعة تكون قريباً" ومنه قول امرئ القيس: لك الويل أن أمسى ولا أم هاشم قريب ولا البسباسة ابنة يشكرا وروي عن الزجاج أنه خطأ الفراء فيما قاله وقال: إن سبيل المذكر والمؤنث أن يجريا على أفعالهما، وقيل: إنه لما كان تأنيث الرحمة غير حقيقي جاز في خبرها التذكير، ذكر معناه الجوهري.
قوله: 57- " وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته " عطف على قوله: "يغشي الليل النهار" يتضمن ذكر نعمة من النعم التي أنعم بها على عباده مع ما في ذلك من الدلالة على وحدانيته وثبوت إلاهيته. ورياح جمع ريح، وأصل ريح روح، وقرأ أهل الحرمين وأبو عمرو "نشراً" بضم النون والشين جمع ناشر على معنى النسب: أي ذات نشر. وقرأ الحسن وقتادة وابن عامر "نشراً" بضم النون وإسكان الشين من نشر. وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي "نشراً" بفتح النون وإسكان الشين على المصدر ويجوز أن يكون مصدراً في موضع الحال، ومعنى هذه القراءات يرجع إلى النشر الذي هو خلاف الطي فكأن الريح مع سكونها كانت مطوية ثم ترسل من طيها فتصير كالمنفتحة. وقال أبو عبيدة: معناه متفرقة في وجوهها على معنى ننشرها هاهنا وهاهنا. وقرأ عاصم "بشراً" بالباء الموحدة وإسكان الشين جمع بشير: أي الرياح تبشر بالمطر، ومثله قوله تعالى: " يرسل الرياح مبشرات ". قوله: "بين يدي رحمته" أراد بالرحمة هنا المطر: أي قدام رحمته، والمعنى: أنه سبحانه يرسل الرياح ناشرات أو مبشرات بين يدي المطر. قوله: "حتى إذا أقلت سحاباً ثقالاً" أقل فلان الشيء: حمله ورفعه، والسحاب يذكر ويؤنث، والمعنى: حتى إذا حملت الرياح سحاباً ثقالاً بالماء الذي صارت تحمله "سقناه" أي السحاب "لبلد ميت" أي مجدب ليس فيه نبات، يقال: سقته لبلد كذا، وإلى بلد كذا، وقيل اللام هنا لام العلة: أي لأجل بلد ميت، والبلد هو الموضع العامر من الأرض "فأنزلنا به الماء" أي بالبلد الذي سقناه لأجله أو بالسحاب: أي أنزلنا بالسحاب الماء الذي تحمله أو بالريح: أي فأنزلنا بالريح المرسلة بين يدي المطر الماء، وقيل إن الباء هنا بمعنى من: أي فأنزلنا منه الماء "فأخرجنا به" أي بالماء "من كل الثمرات" أي من جميع أنواعها. قوله: "كذلك نخرج الموتى" أي مثل ذلك الإخراج، وهو إخراج الثمرات نخرج الموتى من القبور يوم حشرهم "لعلكم تذكرون" أي تتذكرون فتعلمون بعظيم قدرة الله وبديع صنعته وأنه قادر على بعثكم كما قدر على إخراج الثمرات التي تشاهدونها.
قوله: 58- "والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه". أي التربة الطيبة يخرج نباتها بإذن الله وتيسيره إخراجا حسنا تاما وافيا "والذي خبث لا يخرج إلا نكداً" أي والتربة الخبيثة لا يخرج نباتها إلا نكداً: أي لا خير فيه. وقرأ طلحة بن مصرف نكداً بسكون الكاف. وقرأ ابن القعقاع "نكداً" بفتح الكاف: أي ذا نكد. وقرأ الباقون "نكداً" بفتح النون وكسر الكاف. وقرئ "يخرج" أي يخرجه البلد، قيل الكاف: أي ذا نكد. وقرأ الباقون نكداً بفتح النون وكسر الكاف. وقرئ "يخرج" أي خرجه البلد، قيل: ومعنى الآية التشبيه شبه تعالى السريع الفهم بالبلد الطيب، والبليد بالبلد الخبيث، ذكره النحاس، وقيل هذا مثل للقلوب، فشبه القلب القابل للوعظ بالبلد الطيب والنائي عنه بالبلد الخبيث، قاله الحسن، وقيل: هو مثل لقلب المؤمن والمنافق قاله قتادة، وقيل: هو مثل للطيب والخبيث من بني آدم، قاله مجاهد. "كذلك نصرف الآيات" أي مثل ذلك التصريف "لقوم يشكرون" الله ويعترفون بنعمته. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن عباس "ادعوا ربكم تضرعاً وخفية" قال: السر "إنه لا يحب المعتدين" في الدعاء ولا في غيره. وأخرج أبو الشيخ عن قتادة قال: التضرع علانية والخفية سر. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: "ادعوا ربكم تضرعاً وخفية" يعني مستكيناً، وخفية: يعني في خفض وسكون في حاجاتكم من أمر الدنيا والآخرة "إنه لا يحب المعتدين" يقول: لا تدعوا على المؤمن والمؤمنة بالشر: اللهم اخزه والعنه ونحو ذلك فإن ذلك عدوان. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي مجلز في قوله: "إنه لا يحب المعتدين" قال: لا تسألوا منازل الأنبياء. وأخرج ابن المبارك وابن جرير وأبو الشيخ عن الحسن قال: لقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت إن كان إلا همساً بينهم وبين ربهم، وذلك أن الله يقول: "ادعوا ربكم تضرعاً وخفية" وذلك أن الله ذكر عبداً صالحاً فرضي قوله فقال: "إذ نادى ربه نداء خفياً". وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن صالح في قوله: "ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها" قال: بعدما أصلحها الأنبياء وأصحابهم. وأخرج أبو الشيخ عن أبي سنان في الآية قال: أحللت حلالي وحرمت حرامي وحددت حدودي فلا تفسدوها. وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "ادعوه خوفاً وطمعاً" قال: خوفاً منه وطمعاً لما عنده " إن رحمة الله قريب من المحسنين " يعني المؤمنين، ومن لم يؤمن بالله فهو من المفسدين. وأخرج ابن جريج وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله: "وهو الذي يرسل الرياح" قال: إن الله يرسل الريح فيأتي بالسحاب من بين الخافقين طرف السماء والأرض من حيث يلتقيان فيخرجه من ثم، ثم ينشره فيبسطه في السماء كيف يشاء، ثم يفتح أبواب السماء فيسيل الماء على السحاب، ثم يمطر السحاب بعد ذلك. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "بشراً بين يدي رحمته" قال: يستبشر بها الناس. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي في قوله: "بين يدي رحمته" قال: هو المطر، وفي قوله: "كذلك نخرج الموتى" قال: كذلك تخرجون، وكذلك النشور كما يخرج الزرع بالماء. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "كذلك نخرج الموتى". قال: إذا أراد الله أن يخرج الموتى أمطر السماء حتى يشقق عنهم الأرض، ثم يرسل الأرواح فيهوي كل روح إلى جسده، فكذلك يحيي الله الموتى بالمطر كإحيائه الأرض. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "والبلد الطيب" الآية. قال: هو مثل ضربه الله للمؤمن، يقول: هو طيب وعمله طيب، كما أن البلد الطيب ثمرها طيب "والذي خبث" ضرب مثلاً للكافر كالبلد السبخة المالحة التي لا تخرج منها البركة، فالكافر هو الخبيث وعمله خبيث، وقد روي نحو هذا عن جماعة من التابعين.
لما بين سبحانه كمال قدرته وبديع صنعته في الآيات السابقة ذكر هنا أقاصيص الأمم وما فيها من تحذير الكفار ووعيدهم، لتنبيه هذه الأمة على الصواب، وأن لا يقتدوا بمن خالف الحق من الأمم السالفة. واللام جواب قسم محذوف. وهو أول الرسل إلى أهل الأرض بعد آدم، وقد تقدم ذكر نوح في آل عمران فأغنى عن الإعادة هنا، وما قيل من أن إدريس قبل نوح، فقال ابن العربي: إنه وهم. قال المازري: فإن صح ما ذكره المؤرخون كان محمولاً على أن إدريس كان نبياً غير مرسل، وجملة 59- "فقال يا قوم اعبدوا الله" استئنافية جواب سؤال مقدر. قوله: "ما لكم من إله غيره" هذه الجملة في حكم العلة لقوله: "اعبدوا" أي اعبدوه لأنه لم يكن لكم إله غيره حتى يستحق منكم أن يكون معبوداً. قرأ نافع وأبو عمرو وعاصم وحمزة وابن كثير وابن عامر برفع "غيره" على أنه نعت لإله على الموضع. وقرأ الكسائي بالخفض في جميع القرآن على أنه نعت على اللفظ. وأجاز الفراء والكسائي النصب على الاستثناء: يعني ما لكم من إله إلا إياه. وقال أبو عمرو: ما أعرف الجر ولا النصب، ويرده أن بعض بني أسد ينصبون غير في جميع الأحوال، ومنه قول الشاعر: لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت حمامة في غصون ذات أرقال وجملة "إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم" جملة متضمنة لتعليل الأمر بالعبادة: أي إن لم تعبدوه فإني أخاف عليكم عذاب يوم القيامة أو عذاب يوم الطوفان.
قوله: 60- "قال الملأ من قومه". جملة استئنافية جواب سؤال مقدر، والملأ أشراف القوم ورؤساؤهم، وقيل: هم الرجال، وقد تقدم بيانه في البقرة، والضلال: العدول عن طريق الحق والذهاب عنه: أي إنا لنراك في دعائك إلى عبادة الله وحده في ضلال عن طريق الحق.
وجملة 61- "قال يا قوم" استئنافية أيضاً جواب سؤال مقدر "ليس بي ضلالة" كما تزعمون "ولكني رسول من رب العالمين": أرسلني إليكم لسوق الخير إليكم ودفع الشر عنكم، نفى عن نفسه الضلالة، وأثبت لها ما هو أعلى منصباً وأشرف رفعة وهو أنه رسول الله إليهم.
وجملة 62- "أبلغكم رسالات ربي" في محل رفع على أنها صفة لرسول، أو هي مستأنفة مبينة لحال الرسول. والرسالات: ما أرسله الله به إليهم مما أوحاه إليه "وأنصح لكم" عطف على "أبلغكم" يقال: نصحته ونصحت له، وفي زيادة اللام دلالة على المبالغة في إمحاض النصح. وقال الأصمعي: الناصح: الخالص من الغل، وكل شيء خلص فقد نصح، فمعنى أنصح هنا: أخلص النية لكم عن شوائب الفساد، والاسم النصيحة وجملة "وأعلم من الله ما لا تعلمون" معطوفة على الجملة التي قبلها مقررة لرسالته ومبينة لمزيد علمه، وأنه يختص بعلم الأشياء التي لا يعلمونها بإخبار الله له بذلك.
قوله: 63- "أوعجبتم" فتحت الواو لكونها العاطفة ودخلت عليها همزة الاستفهام للإنكار عليهم. والمعطوف عليه مقدر: كأنه قيل استبعدتم وعجبتم أو أكذبتم وعجبتم أو أنكرتم وعجبتم "أن جاءكم ذكر من ربكم" أي وحي وموعظة "على رجل منكم" أي على لسان رجل منكم تعرفونه، ولم يكن ذلك على لسان من لا تعرفونه أو لا تعرفون لغته، وقيل على بمعنى مع: أي مع رجل منكم لأجل ينذركم به "ولتتقوا" ما يخالفه "ولعلكم ترحمون" بسبب ما يفيده الإنذار لكم والتقوى منكم من التعرض لرحمة الله سبحانه لكم ورضوانه عنكم.
64- "فكذبوه" أي فبعد ذلك كذبوه ولم يعملوا بما جاء به من الإنذار "فأنجيناه والذين معه" من المؤمنين به المستقرين معه "في الفلك وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا" واستمروا على ذلك ولم يرجعوا إلى التوبة، وجملة "إنهم كانوا قوماً عمين" علة لقوله: "وأغرقنا" أي أغرقنا المكذبين لكونهم عمي القلوب لا تنجع فيهم الموعظة ولا يفيدهم التذكير. وقد أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه وابن عساكر عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أول نبي أرسل نوح". وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وأبو نعيم وابن عساكر عن يزيد الرقاشي قال: إنما سمي نوح عليه السلام نوحاً لطول ما ناح على نفسه. وأخرج ابن المنذر عن عكرمة نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن عباس قال: كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك قال: الملأ يعني الأشراف من القوم. وأخرج أبو الشيخ عن السدي "أن جاءكم ذكر من ربكم" يقول بيان من ربكم. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "إنهم كانوا قوماً عمين" قال: كفاراً. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد "إنهم كانوا قوماً عمين" قال: عن الحق.
قوله: 65- "وإلى عاد أخاهم هوداً" أي وأرسلنا إلى قوم عاد أخاهم: أي واحداً من قبيلتهم أو صاحبهم أو سماه أخاً لكونه ابن آدم مثلهم وعاد هو من ولد سام بن نوح. قيل: هو عاد بن عوص بن إرم بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح، وهود هو ابن عبد الله بن رباح بن الخلود بن عوص بن إرم بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح، و "هوداً" عطف بيان "قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره". قد تقدم تفسير هذا قريباً، والاستفهام في "أفلا تتقون" للإنكار.
وقد تقدم أيضاً تفسير الملأ، والسفاهة الخفة والحمق. وقد تقدم بيان ذلك في البقرة، نسبوه إلى الخفة والطيش ولم يكتفوا بذلك حتى قالوا 66- "إنا لنظنك من الكاذبين" مؤكدين لظنهم كذبه فيما ادعاه من الرسالة.
67- "قال يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين" ثم أجاب عليهم بنفي السفاهة عنه، واستدرك من ذلك بأنه رسول رب العالمين. وقد تقدم بيان معنى هذا قريباً.
وكذلك سبق تفسير 68- "أبلغكم رسالات ربي" وتقدم معنى الناصح، والأمين المعروف بالأمانة.
وسبق أيضاً تفسير 69- "أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم" في قصة نوح التي قبل هذه القصة. قوله: "واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح" أذكرهم نعمة من نعم الله عليهم، وهي أنه جعلهم خلفاء من بعد قوم نوح: أي جعلهم سكان الأرض التي كانوا فيها، أو جعلهم ملوكاً، وإذ منصوب بأذكر وجعل الذكر للوقت. والمراد ما كان فيه من الاستخلاف على الأرض لقصد المبالغة، لأن الشيء إذا كان وقته مستحقاً للذكر، فهو مستحق له بالأولى "وزادكم في الخلق بسطة" أي طولاً في الخلق وعظم جسم زيادة على ما كان عليه آباؤهم في الأبدان. وقد ورد عن السلف حكايات عن عظم أجرام قوم عاد. قوله: "فاذكروا آلاء الله" الآلاء: جمع إلى ومن جملتها نعمة الاستخلاف في الأرض، والبسطة في الخلق وغير ذلك مما أنعم به عليهم، وكرر التذكير لزيادة التقرير، والآلاء النعم "لعلكم تفلحون" إن تذكرتم ذلك لأن الذكر للنعمة سبب باعث على شكرها، ومن شكر فقد أفلح.
قوله: 70- "قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده" هذا استنكار منهم لدعائه إلى عبادة الله وحده دون معبوداتهم التي جعلوها شركاء لله، وإنما كان هذا مستنكراً عندهم لأنهم وجدوا آباءهم على خلاف ما دعاهم إليه "ونذر ما كان يعبد آباؤنا" أي نترك الذي كانوا يعبدونه، وهذا داخل في جملة ما استنكروه. قوله: "فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين" هذا استعجال منهم للعذاب الذي كان هود يعدهم به، لشدة تمردهم على الله ونكوصهم عن طريق الحق وبعدهم عن اتباع الصواب.
فأجابهم بقوله: 71- "قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب" جعل ما هو متوقع كالواقع تنبيهاً على تحقق وقوعه، كما ذكره أئمة المعاني والبيان، وقيل معنى وقع وجب: والرجس العذاب، وقيل: هو هنا الرين على القلب بزيادة الكفر، ثم استنكر عليهم ما وقع منهم من المجادلة، فقال: "أتجادلونني في أسماء" يعني أسماء الأصنام التي كانوا يعبدونها جعلها أسماء، لأن مسمياتها لا حقيقة لها بل تسميتها بالآلهة باطلة فكأنها معدومة لم توجد بل الموجود أسماؤها فقط "سميتموها أنتم وآباؤكم" أي سميتم بها معبوداتكم من جهة أنفسكم أنتم وآباؤكم ولا حقيقة لذلك "ما نزل الله بها من سلطان" أي من حجة تحتجون بها على ما تدعونه لها من الدعاوى الباطلة ثم توعدهم بأشد وعيد فقال: "فانتظروا إني معكم من المنتظرين" أي فانتظروا ما طلبتموه من العذاب فإني معكم من المنتظرين له، وهو واقع بكم لا محالة ونازل عليكم بلا شك.
ثم أخبر الله سبحانه أنه نجى هوداً ومن معه من المؤمنين به من العذاب النازل بمن كفر به ولم يقبل رسالته، وأنه قطع دابر القوم المكذبين: أي استأصلهم جميعاً. وقد تقدم تحقيق معناه، وجملة 72- "وما كانوا مؤمنين" معطوفة على كذبوا: أي استأصلنا هؤلاء القوم الجامعين بين التكذيب بآياتنا وعدم الإيمان. وقد أخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "وإلى عاد أخاهم هوداً" قال: ليس بأخيهم في الدين ولكنه أخوهم في النسب لأنه منهم فلذلك جعل أخاهم. وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن خيثم قال: كانت عاد ما بين اليمن إلى الشام مثل الذر. وأخرج ابن عساكر عن وهب قال: كان الرجل من عاد ستين ذراعاً بذراعهم، وكان هامة الرجل مثل القبة العظيمة، وكان عين الرجل لتفرخ فيها السباع، وكذلك مناخرهم. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة قال: ذكر لنا أنهم كانوا اثني عشر ذراعاً طولاً. وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن ابن عباس قال: كان الرجل منهم ثمانون ذراعاً، وكانت البرة فيهم ككلية البقرة، والرمانة الواحدة يقعد في قشرها عشرة نفر. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه "وزادكم في الخلق بسطة" قال: شدة. وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال: إن كان الرجل من قوم عاد ليتخذ المصراع من الحجارة لو اجتمع عليه خمسمائة من هذه الأمة لم يستطيعوا أن يقلوه، وإن كان أحدهم ليدخل قدمه في الأرض فتدخل فيها. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "آلاء الله" قال: نعم الله، وفي قوله: "رجس" قال: سخط. وأخرج ابن عساكر قال: لما أرسل الله الريح على عاد اعتزل هود ومن معه من المؤمنين في حظيرة ما يصيبهم من الريح إلا ما تلين عليه الجلود وتلتذ به الأنفس، وإنها لتمر بالعادي فتحمله بين السماء والأرض وتدمغه بالحجارة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله: "وقطعنا دابر الذين كذبوا" قال: استأصلناهم. وأخرج البخاري في تاريخه وابن جرير وابن عساكر عن علي بن أبي طالب قال: قبر هود بحضرموت في كثيب أحمر عند رأسه سدرة. وأخرج ابن عساكر عن عثمان بن أبي العاتكة قال: قبلة مسجد دمشق قبر هود. وأخرج أبو الشيخ عن أبي هريرة قال: كان عمر هود أربعمائة سنة واثنتين وسبعين سنة.
قوله: 73- "وإلى ثمود أخاهم صالحاً" معطوف على ما تقدم: أي وأرسلنا إلى ثمود أخاهم، وثمود قبيلة سموا باسم أبيهم، وهو ثمود بن عاد بن إرم بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح، وصالح عطف بيان، وهو صالح بن عبيد بن أسف بن ماشح بن عبيد بن حاذر بن ثمود، وامتناع ثمود من الصرف لأنه جعل اسماً للقبيلة. وقال أبو حاتم: لم ينصرف لأنه أعجمي. قال النحاس: وهو غلط لأنه من الثمد، وهو الماء القليل، وقد قرأ القراء " ألا إن ثمود كفروا ربهم " على أنه اسم للحي، وكانت مساكن ثمود الحجر بين الحجاز والشام إلى وادي القرى. قوله: "قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره" قد تقدم تفسيره في قصة نوح "قد جاءتكم بينة من ربكم" أي معجزة ظاهرة، وهي إخراج الناقة من الحجر الصلد، وجملة "هذه ناقة الله لكم آية" مشتملة على بيان البينة المذكورة وانتصاب آية على الحال، والعامل فيها معنى الإشارة، وفي إضافة الناقة إلى الله تشريف لها وتكريم. قوله: "فذروها تأكل في أرض الله" أي دعوها تأكل في أرض الله، فهي ناقة الله، والأرض أرضه فلا تمنعوها مما ليس لكم ولا تملكونه "ولا تمسوها" بشيء من السوء: أي لا تتعرضوا لها بوجه من الوجوه التي تسوءها. قوله: "فيأخذكم عذاب أليم" هو جواب النهي: أي إذا لم تتركوا مسها بشيء من السوء أخذكم عذاب أليم: أي شديد الألم.
قوله: 74- "واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد" أي استخلفكم في الأرض أو جعلكم ملوكاً فيها، كما تقدم في قصة هود "وبوأكم في الأرض" أي جعل لكم فيها مباءة، وهي المنزل الذي تسكنونه "تتخذون من سهولها قصوراً" أي تتخذون من سهولة الأرض قصوراً، أو هذه الجملة مبينة لجملة: "وبوأكم في الأرض"، وسهول الأرض ترابها يتخذون منه اللبن والآجر ونحو ذلك فيبنون به القصور "وتنحتون الجبال بيوتاً" أي تتخذون في الجبال التي هي صخور بيوتاً تسكنون فيها، وقد كانوا لقوتهم وصلابة أبدانهم ينحتون الجبال فيتخذون فيها، كهوفاً يسكنون فيها لأن الأبنية والسقوف كانت تفنى قبل فناء أعمارهم، وانتصاب بيوتاً على أنها حال مقدرة أو على أنها مفعول ثان لتنحتون على تضمينه معنى تتخذون. قوله: "فاذكروا آلاء الله" تقدم تفسيره في القصة التي قبل هذه. قوله: "ولا تعثوا في الأرض مفسدين" العثي والعثو لغتان، وقد تقدم تحقيقه في البقرة بما يغني عن الإعادة.
75- "قال الملأ الذين استكبروا من قومه": أي قال الرؤساء المستكبرون من قوم صالح للمستضعفين الذين استضعفهم المستكبرون، و "لمن آمن منهم" بدل من الذين استضعفوا بإعادة حرف الجر بدل البعض من الكل، لأن من المستضعفين من ليس بمؤمن هذا على عود ضمير منهم إلى الذين استضعفوا، فإن عاد إلى قومه كان بدل كل من المستضعفين، ومقول القول: "أتعلمون أن صالحاً مرسل من ربه" قالوا هذا عن طريق الاستهزاء والسخرية. قوله: "قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون" أجابوهم بأنهم مؤمنون برسالته مع كون سؤال المستكبرين لهم إنما هو عن العلم منهم هل تعلمون برسالته أم لا مسارعة إلى إظهار ما لهم من الإيمان وتنبيهاً على أن كونه مرسلاً أمر واضح مكشوف لا يحتاج إلى السؤال عنه.
فأجابوا تمرداً وعناداً بقولهم: 76- "إنا بالذي آمنتم به كافرون" وهذه الجمل المعنوية يقال: مستأنفة لأنها جوابات عن سؤالات مقدرة كما سبق بيانه.
قوله: 77- "فعقروا الناقة" العقر: الجرح، وقيل: قطع عضو يؤثر في تلف النفس، يقال عقرت الفرس: إذا ضربت قوائمه بالسيف، وقيل أصل العقر: كسر عرقوب البعير ثم قيل للنحر عقر، لأن العقر سبب النحر في الغالب، وأسند العقر إلى الجميع مع كون العاقر واحداً منهم، لأنهم راضون بذلك موافقون عليه. وقد اختلف في عاقر الناقة ما كان اسمه، فقيل: قدار بن سالف، وقيل غير ذلك "وعتوا عن أمر ربهم" أي استكبروا، يقال عتا يعتو عتواً: استكبر، وتعتى فلان: إذا لم يطع، والليل العاتي: الشديد الظلمة "وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا" من العذاب "إن كنت من المرسلين" هذا استعجال منهم للنقمة وطلب منهم لنزول العذاب وحلول البلية بهم.
78- "فأخذتهم الرجفة" أي الزلزلة، يقال: رجف الشيء يرجف رجفاناً، وأصله حركة مع صوت، ومنه "يوم ترجف الراجفة"، وقيل: كانت صيحة شديدة خلعت قلوبهم "فأصبحوا في دارهم" أي بلدهم "جاثمين" لاصقين بالأرض على ركبهم ووجوههم كما يجثم الطائر، وأصل الجثوم للأرنب وشبهها، وقيل: للناس والطير. والمراد أنهم أصبحوا في دورهم ميتين لا حراك بهم.
79- "فتولى عنهم" صالح عند اليأس من إجابتهم "وقال" لهم هذه المقالة "لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين" ويحتمل أنه قال لهم هذه المقالة بعد موتهم على طريق الحكاية لحالهم الماضية، كما وقع من النبي صلى الله عليه وسلم من التكليم لأهل قليب بدر بعد موته، أو قالها لهم عند نزول العذاب بهم، وكأنه كان مشاهداً لذلك فتحسر على ما فاتهم من الإيمان والسلامة من العذاب، ثم أبان عن نفسه أنه لم يأل جهداً في إبلاغهم الرسالة ومحض النصح، لكن أبوا ذلك فلم يقبلوا منه فحق عليهم العذاب، ونزل بهم ما كذبوا به واستعجلوه. وقد أخرج عبد الرزاق والفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي الطفيل قال: قالت ثمود لصالح ائتنا بآية إن كنت من الصادقين، قال: اخرجوا، فخرجوا إلى هضبة من الأرض فإذا هي تمخض كما تمخض الحامل، ثم إنها انفرجت فخرجت الناقة من وسطها، فقال لهم صالح: "هذه ناقة الله لكم آية" فلما ملوها عقروها "فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام". وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة: أن صالحاً قال لهم حين عقروا الناقة: تمتعوا ثلاثة أيام ثم قال لهم: آية هلاككم أن تصبح وجوهكم غداً مصفرة، وتصبح اليوم الثاني محمرة، ثم تصبح اليوم الثالث مسودة، فأصبحت كذلك، فلما كان اليوم الثالث أيقنوا بالهلاك فتكفنوا وتحنطوا، ثم أخذتهم الصيحة فأهمدتهم. وقال عاقر الناقة: لا أقتلها حتى ترضوا أجمعين، فجعلوا يدخلون على المرأة في خدرها فيقولون أترضين؟ فتقول: نعم، والصبي حتى رضوا أجمعون، فعقرها. وأخرج أحمد والبزار وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط وأبو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه عن جابر بن عبد الله "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل الحجر قام فخطب فقال:يا أيها الناس لا تسألوا نبيكم عن الآيات. فإن قوم صالح سألوا نبيهم أن يبعث إليهم آية فبعث الله لهم الناقة، فكانت ترد من هذا الفج فتشرب ماءهم يوم وردها ويحتلبون من لبنها مثل الذي كانوا يأخذون من مائها يوم غبها وتصدر من هذا الفج، فعتوا عن أمر ربهم فعقروها، فوعدهم الله العذاب بعد ثلاثة أيام وكان وعد من الله غير مكذوب، ثم جاءتهم الصيحة فأهلك الله من كان منهم تحت مشارق الأرض ومغاربها، إلا رجلاً كان في حرم الله فمنعه حرم الله من عذاب الله، فقيل يا رسول الله من هو؟ فقال: أبو رغال، فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه". قال ابن كثير: هذا الحديث على شرط مسلم. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ وابن مردويه من حديث أبي الطفيل مرفوعاً مثله. وأخرج أحمد من حديث ابن عمر قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالحجر:لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم مثل ما أصابهم" وأصل الحديث في الصحيحين من غير وجه، وفي لفظ لأحمد من هذا الحديث قال: لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على تبوك نزل بهم الحجر عند بيوت ثمود. وأخرج أحمد وابن المنذر نحوه مرفوعاً من حديث أبي كبشة الأنماري. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله: "ولا تمسوها بسوء" قال: لا تعقروها. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله: "وتنحتون من الجبال بيوتاً" قال: كانوا ينقبون في الجبال البيوت. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "وعتوا عن أمر ربهم" قال: غلوا في الباطل "فأخذتهم الرجفة" قال: الصيحة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن زيد "فأصبحوا في دارهم جاثمين" قال: ميتين. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة مثله.
قوله: 80- "ولوطاً" معطوف على ما سبق: أي وأرسلنا لوطاً أو منصوب بفعل مقدر: أي واذكر لوطاً وقت قال لقومه. قال الفراء: لوط مشتق من قولهم: هذا أليط بقلبي: أي ألصق. قال الزجاج: زعم بعض النحويين أن لوطاً يجوز أن يكون مشتقاً من لطت الحوض إذا ملسته بالطين، وهذا غلط، لأن الأسماء الأعجمية لا تشتق. وقال سيبويه نوح ولوط أسماء أعجمية إلا أنها خفيفة، فلذلك صرفت، ولوط هو ابن هاران بن تارخ، فهو ابن أخي إبراهيم، بعثه الله إلى أمة تسمى سدوم "أتأتون الفاحشة" أي الخصلة الفاحشة المتمادية في الفحش والقبح، قال: ذلك إنكاراً عليهم وتوبيخاً لهم "ما سبقكم بها من أحد من العالمين" أي لم يفعلها أحد قبلكم، فإن اللواط لم يكن في أمة من الأمم قبل هذه الأمة، و من مزيدة للتوكيد للعموم في النفي، وإنه مستغرق لما دخل عليه، والجملة مسوقة لتأكيد النكير عليهم والتوبيخ لهم.
قوله: 81- "إنكم لتأتون الرجال شهوة" قرأ نافع وحفص على الخبر بهمزة واحدة مكسورة. وقرأ الباقون بهمزتين على الاستفهام المقتضي للتوبيخ والتقريع، واختار القراءة الأولى أبو عبيد والكسائي وغيرهما، واختار الخليل وسيبويه القراءة الثانية، فعلى القراءة الأولى تكون هذه الجملة مبينة لقوله: "أتأتون الفاحشة" وكذلك على القراءة الثانية مع مزيد الاستفهام وتكريره المفيد للمبالغة في التقريع والتوبيخ، وانتصاب شهوة على المصدرية: أي تشتهونهم شهوة، ويجوز أن يكون مصدراً في موضع الحال: أي مشتهين، ويجوز أن يكون مفعولاً له: أي لأجل الشهوة، وفيه أنه لا غرض لهم بإتيان هذه الفاحشة إلا مجرد قضاء الشهوة من غير أن يكون لهم في ذلك غرض يوافق العقل، فهم في هذا كالبهائم التي ينزو بعضها على بعض لما يتقاضاها من الشهوة "من دون النساء" أي متجاوزين في فعلكم هذا للنساء اللاتي هن محل لقضاء الشهوة وموضع لطلب اللذة، ثم أضرب عن الإنكار المتقدم إلى الإخبار بما هم عليه من الإسراف الذي تسبب عنه إتيان هذه الفاحشة الفظيعة.
قوله: 82- "وما كان جواب قومه" الواقعين في هذه الفاحشة على ما أنكره عليهم منها "إلا أن قالوا أخرجوهم" أي لوطاً وأتباعه "من قريتكم": أي ما كان لهم جواب إلا هذا القول المباين للإنصاف المخالف لما طلبه منهم وأنكره عليهم، وجملة "إنهم أناس يتطهرون" تعليل لما أمروا به من الإخراج، ووصفهم بالتطهر يمكن أن يكون على حقيقته، وأنهم أرادوا أن هؤلاء يتنزهون عن الوقوع في هذه الفاحشة فلا يساكنونا في قريتنا، ويحتمل أنهم قالوا ذلك على طريق السخرية والاستهزاء.
ثم أخبر الله سبحانه أنه أنجى لوطاً وأهله المؤمنين به، واستثنى امرأته من الأهل لكونها لم تؤمن به، ومعنى "كانت من الغابرين" أنها كانت من الباقين في عذاب الله، يقال: غبر الشيء إذا مضى، وغبر إذا بقي فهو من الأضداد. وحكى ابن فارس في المجمل عن قوم أنهم قالوا: الماضي عابر بالعين المهملة، والباقي غابر بالمعجمة. وقال الزجاج: "من الغابرين" أي من الغائبين عن النجاة. وقال أبو عبيد: المعنى "من الغابرين" أي من المعمرين وكانت قد هرمت، وأكثر أهل اللغة على أن الغابر الباقي.
قوله: 84- "وأمطرنا عليهم مطراً" قيل: أمطر بمعنى إرسال المطر. وقال أبو عبيدة: مطر في الرحمة وأمطر في العذاب، والمعنى هنا: أن الله أمطر عليهم مطراً غير ما يعتادونه وهو رميهم بالحجارة كما في قوله: "وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل" "فانظر كيف كان عاقبة المجرمين" هذا خطاب لكل من يصلح له، أو لمحمد صلى الله عليه وسلم، وسيأتي في هود قصة لوط بأبين مما هنا. وقد أخرج ابن أبي الدنيا وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي في شعب الإيمان وابن عساكر عن ابن عباس في قوله: "أتأتون الفاحشة" قال: أدبار الرجال. وأخرج ابن عساكر عن ابن عباس قال: إنما كان بدء عمل قوم لوط: أن إبليس جاءهم في هيئة صبي، أجمل صبي رآه الناس، فدعاهم إلى نفسه فنكحوه ثم جسروا على ذلك. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر عنه في قوله: "إنهم أناس يتطهرون" قال: من أدبار الرجال ومن أدبار النساء. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "إلا امرأته كانت من الغابرين" قال: من الباقين في عذاب الله. وأخرج أبو الشيخ عن سعيد بن أبي عروبة قال: كان قوم لوط أربعة آلاف ألف.
قوله: 85- "وإلى مدين أخاهم شعيباً" معطوف على ما تقدم: أي وأرسلنا. ومدين اسم قبيلة، وقيل اسم بلد والأول أولى، وسميت القبيلة باسم أبيهم: وهو مدين بن إبراهيم كما يقال: بكر وتميم. قوله: "أخاهم شعيباً" شعيب عطف بيان، وهو شعيب بن ميكائيل بن يشجب بن مدين بن إبراهيم، قاله عطاء وابن إسحاق وغيرهما. وقال الشرفي بن القطامي: إنه شعيب بن عيفاء بن ثويب بن مدين بن إبراهيم. وزعم ابن سمعان أنه شعيب بن حرة بن يشجب بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم. وقال قتادة: هو شعيب بن صفوان بن عيفاء بن ثابت بن مدين بن إبراهيم. قوله: "قال يا قوم" إلى قوله: "بينة من ربكم" قد سبق شرحه في قصة نوح. قوله: "فأوفوا الكيل والميزان" أمرهم بإيفاء الكيل والميزان لأنهم كانوا أهل معاملة بالكيل والوزن، وكانوا لا يعرفونهما، وذكر الكيل الذي هو المصدر وعطف عليه الميزان الذي هو اسم للآلة. واختلف في توجيه ذلك، فقيل: المراد بالكيل المكيال فتناسب عطف الميزان عليه، وقيل: المراد بالميزان الوزن فيناسب الكيل، والفاء في فأوفوا للعطف على اعبدوا. قوله: "ولا تبخسوا الناس أشياءهم" البخس النقص وهو يكون بالتعييب للسلعة أو التزهيد فيها أو المخادعة لصاحبها والاحتيال عليه، وكل ذلك من أكل أموال الناس بالباطل وظاهر قوله: "أشياءهم" أنهم كانوا يبخسون الناس في كل الأشياء، وقيل: كانوا مكاسين يمكسون كل ما دخل إلى أسواقهم، ومنه قول زهير: أفي كل أسواق العراق إتاوة وفي كل ما باع امرؤ مكس درهم قوله: "ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها" قد تقدم تفسيره قريباً ويدخل تحته قليل الفساد وكثيره ودقيقه وجليله، والإشارة بقوله: "ذلكم" إلى العمل بما أمرهم به وترك ما نهاهم عنه، والمراد بالخيرية هنا الزيادة المطلقة، لأنه لا خير في عدم إيفاء الكيل والوزن وفي بخس الناس وفي الفساد في الأرض أصلاً.
قوله: 86- "ولا تقعدوا بكل صراط توعدون" الصراط الطريق: أي لا تقعدوا بكل طريق توعدون الناس بالعذاب، قيل: كانوا يقعدون في الطرقات المفضية إلى شعيب فيتوعدون من أراد المجيء إليه، ويقولون: إنه كذاب فلا تذهب إليه كما كانت قريش تفعله مع النبي صلى الله عليه وسلم، قاله ابن عباس وقتادة ومجاهد والسدي وغيرهم، وقيل: المراد القعود على طرق الدين ومنع من أراد سلوكها، وليس المراد به القعود على الطرق حقيقة، ويؤيده "وتصدون عن سبيل الله من آمن به" وقيل: المراد بالآية النهي عن قطع الطريق وأخذ السلب، وكان ذلك من فعلهم، وقيل: إنهم كانوا عشارين يأخذون الجباية في الطرق من أموال الناس فنهوا عن ذلك. والقول الأول أقربها إلى الصواب مع أنه لا مانع من حمل النهي على جميع هذه الأقوال المذكورة. وجملة توعدون في محل نصب على الحال، وكذلك ما عطف عليها: أي لا تقعدوا بكل طريق موعدين لأهله صادين عن سبيل الله باغين لها عوجاً، والمراد بالصد عن سبيل الله: صد الناس عن الطريق الذي قعدوا عليه ومنعهم من الوصول إلى شعيب، فإن سلوك الناس في ذلك السبيل للوصول إلى نبي الله هو سلوك سبيل الله، و "من آمن به" مفعول "تصدون"، والضمير في آمن به يرجع إلى الله، أو إلى سبيل الله، أو إلى كل صراط أو إلى شعيب، "وتبغونها عوجاً" أي تطلبون سبيل الله أن تكون معوجة غير مستقيمة، وقد سبق الكلام على العوج. قال الزجاج: كسر العين في المعاني وفتحها في الإحرام "واذكروا إذ كنتم" أي وقت كنتم "قليلاً" عددكم "فكثركم" بالنسل، وقيل: كنتم فقراء فأغناكم "وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين" من الأمم الماضية فإن الله أهلكهم وأنزل بهم من العقوبات ما ذهب بهم ومحا أثرهم.
87- "وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به" إليكم من الأحكام التي شرعها الله لكم "وطائفة" منكم "لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين" هذا من باب التهديد والوعيد الشديد لهم. وليس هو من باب الأمر بالصبر على الكفر. وحكم الله بين الفريقين هو نصر المحقين على المبطلين، ومثله قوله تعالى: "فتربصوا إنا معكم متربصون" أو هو أمر للمؤمنين بالصبر على ما يحل بهم من أذى الكفار حتى ينصرهم الله عليهم.
88- "قال الملأ الذين استكبروا من قومه" أي قال: الأشراف المستكبرون "لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك" لم يكتفوا بترك الإيمان والتمرد عن الإجابة إلى ما دعاهم إليه، بل جاوزوا ذلك بغياً وبطراً وأشراً إلى توعد نبيهم ومن آمن به بالإخراج من قريتهم أو عوده هو ومن معه في ملتهم الكفرية: أي لا بد من أحد الأمرين: إما الإخراج، أو العود. قال الزجاج: يجوز أن يكون العود بمعنى الابتداء، يقال: عاد إلي من فلان مكروه: أي صار وإن لم يكن سبقه مكروه قبل ذلك فلا يرد ما يقال: كيف يكون شعيب على ملتهم الكفرية من قبل أن يبعثه الله رسولاً؟ ويحتاج إلى الجواب بتغليب قومه المتبعين له عليه في الخطاب بالعود إلى ملتهم، وجملة " قال أو لو كنا كارهين " مستأنفة جواب عن سؤال مقدر، والهمزة لإنكار وقوع ما طلبوه من الإخراج أو العود، والواو للحال: أي أتعيدوننا في ملتكم في حال كراهتنا للعود إليها، أو أتخرجوننا من قريتكم في حال كراهتنا للخروج منها، أو في حال كراهتنا للأمرين جميعاً، والمعنى: إنه ليس لكم أن تكرهونا على أحد الأمرين ولا يصح لكم ذلك، فإن المكره لا اختيار له ولا تعد موافقته مكرهاً موافقة ولا عوده إلى ملتكم مكرهاً عوداً، وبهذا التقرير يندفع ما استشكله كثير من المفسرين في هذا المقام حتى تسبب عن ذلك تطويل ذيول الكلام.
89- "قد افترينا على الله كذباً إن عدنا في ملتكم" التي هي الشرك "بعد إذ نجانا الله منها" بالإيمان فلا يكون منا عود إليها أصلاً "وما يكون لنا" أي ما يصح لنا ولا يستقيم "أن نعود فيها" بحال من الأحوال "إلا أن يشاء الله" أي إلا حال مشيئته سبحانه، فإنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. قال الزجاج: أي إلا بمشيئة الله عز وجل، قال: وهذا قول أهل السنة، والمعنى: أنه لا يكون منا العود إلى الكفر إلا أن يشاء الله ذلك، فالاستثناء منقطع، وقيل: إن الاستثناء هنا على جهة التسليم لله عز وجل كما في قوله: "وما توفيقي إلا بالله" وقيل: هو كقولهم لا أكلمك حتى يبيض الغراب، وحتى يلج الجمل في سم الخياط، والغراب لا يبيض، والجمل لا يلج، فهو من باب التعليق بالمحال. "وسع ربنا كل شيء علماً" أي أحاط علمه بكل المعلومات فلا يخرج عنه منها شيء، وعلماً منصوب على التمييز، وقيل: المعنى "وما يكون لنا أن نعود فيها" أي القرية بعد أن كرهتم مجاورتنا لكم "إلا أن يشاء الله" عودنا إليها "على الله توكلنا" أي عليه اعتمدنا في أن يثبتنا على الإيمان، ويحول بيننا وبين الكفر وأهله ويتم علينا نعمته ويعصمنا من نقمته. قوله: "ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين" الفتاحة الحكومة أي احكم بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الحاكمين، دعوا الله سبحانه أن يحكم بينهم ولا يكون حكمه سبحانه إلا بنصر المحقين على المبطلين: كما أخبرنا به في غير موضع من كتابه فكأنهم طلبوا نزول العذاب بالكافرين وحلول نقمة الله بهم.
90- "وقال الملأ الذين كفروا من قومه" معطوف على "قال الملأ الذين استكبروا" يحتمل أن يكون هؤلاء هم أولئك، ويحتمل أن يكونوا غيرهم من طوائف الكفار الذين أرسل إليهم شعيب، واللام في "لئن اتبعتم شعيباً" موطئة لجواب قسم محذوف: أي دخلتم في دينه وتركتم دينكم "إنكم إذاً لخاسرون" جواب القسم ساد مسد جواب الشرط، وخسرانهم: هلاكهم أو ما يخسرونه بسبب إيفاء الكيل والوزن وترك التطفيف الذي كانوا يعاملون الناس به.
91- "فأخذتهم الرجفة" أي الزلزلة، وقيل: الصيحة كما في قوله: "وأخذت الذين ظلموا الصيحة"، "فأصبحوا في دارهم جاثمين" قد تقدم تفسيره في قصة صالح.
قوله: 92- "الذين كذبوا شعيباً كأن لم يغنوا فيها" هذه الجملة مستأنفة مبينة لما حل بهم من النقمة، والموصول مبتدأ، وكأن لم يغنوا خبره: يقال، غنيت بالمكان إذا أقمت به، وغني القوم في دارهم أي طال مقامهم فيها والمغني: المنزل، والجمع المغاني. قال حاتم الطائي: غنينا زماناً بالتصعلك والغنى وكلا سقاناه بكاسيهما الدهـر فما زادنا بغياً على ذي قرابة غناناً ولا أزرى بإحساننا الفقر ومعنى الآية: الذين كذبوا شعيباً كأن لم يقيموا في دارهم، لأن الله سبحانه استأصلهم بالعذاب، والموصل في "الذين كذبوا شعيباً" مبتدأ خبره " كانوا هم الخاسرين "، وهذه الجملة مستأنفة كالأولى متضمنة لبيان خسران القوم المكذبين.
93- "فتولى عنهم" أي شعيب لما شاهد نزول العذاب بهم "وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي" التي أرسلني بها إليكم "ونصحت لكم" ببيان ما فيه سلامة دينكم ودنياكم "فكيف آسى" أي أحزن "على قوم كافرين" بالله مصرين على كفرهم متمردين عن الإجابة أو الأسى شدة الحزن، آسى على ذلك فهو آس. قال شعيب هذه المقالة تحسراً على عدم إيمان قومه، ثم سلا نفسه بأنه كيف يقع منه الأسى على قوم ليس بأهل للحزن عليهم لكفرهم بالله وعدم قبولهم لما جاء به رسوله. وقد أخرج ابن إسحاق وابن عساكر عن عكرمة والسدي قالا: ما بعث الله نبياً مرتين إلا شعيباً: مرة إلى مدين فأخذتهم الصيحة، ومرة إلى أصحاب الأيكة فأخذهم الله بعذاب يوم الظلة. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس "ولا تبخسوا الناس أشياءهم" قال: لا تظلموا الناس. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ عن قتادة "ولا تبخسوا الناس أشياءهم" قال: لا تظلموهم "ولا تقعدوا بكل صراط توعدون" قال: كانوا يوعدون من أتى شعيباً وغشيه وأراد الإسلام. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس "ولا تقعدوا بكل صراط توعدون" قال: كانوا يجلسون في الطريق فيخبرون من أتى عليهم أن شعيباً كذاب فلا يفتننكم عن دينكم. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد "بكل صراط توعدون" قال: بكل سبيل حق "وتصدون عن سبيل الله" قال: تصدون أهلها "وتبغونها عوجاً" قال: تلتمسون لها الزيغ. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي "ولا تقعدوا بكل صراط توعدون" قال: هو العاشر "وتصدون عن سبيل الله" قال: تصدون عن الإسلام "وتبغونها عوجاً" قال: هلاكاً. وأخرج أبو الشيخ عن مجاهد قال: هم العشار. وأخرج ابن جرير عن أبي العالية عن أبي هريرة أو غيره: شك أبو العالية قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به على خشبة على الطريق لا يمر بها ثوب إلا شقته ولا شيء إلا خرقته قال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا مثل أقوام من أمتك يقعدون على الطريق فيقطعونه ثم تلا "ولا تقعدوا بكل صراط توعدون". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله: "وما يكون لنا أن نعود فيها" قال: ما ينبغي لنا أن نعود في شرككم بعد إذ نجانا الله "إلا أن يشاء الله ربنا" والله لا يشاء الشرك، ولكن يقول: إلا أن يكون الله قد علم شيئاً، فإنه قد وسع كل شيء علماً. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات وابن الأنباري في الوقف والابتداء عن ابن عباس قال: ما كنت أدري ما قوله: "ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق" حتى سمعت ابنه ذي يزن تقول: تعال أفاتحك، تعني أقاضيك. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله: "ربنا افتح" يقول: اقض. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال: الفتح القضاء لغة يمانية إذا قال أحدهم: تعال أقاضيك القضاء قال: تعال أفاتحك. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس "لم يغنوا فيها" قال: لم يعيشوا فيها. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة مثله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس "فكيف آسى" قال: أحزن. وأخرج ابن عساكر عن ابن عباس قال: في المسجد الحرام قبران ليس فيه غيرهما، قبر إسماعيل وقبر شعيب فقبر إسماعيل في الحجر، وقبر شعيب مقابل الحجر الأسود. وأخرج ابن عساكر عن وهب بن منبه إن شعيباً مات بمكة ومن معه من المؤمنين، فقبورهم في غربي الكعبة بين دار الندوة وبين باب بني سهم. وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم عن ابن إسحاق قال: ذكر لي يعقوب بن أبي مسلمة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا ذكر شعيباً قال:ذاك خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه فيما يريدهم به، فلما كذبوه وتوعدوه بالرجم والنفي من بلادهم وعتوا على الله أخذهم عذاب يوم الظلة".
قوله: 94- "وما أرسلنا في قرية من نبي" لما فصل الله سبحانه أحوال بعض الأنبياء مع أممهم، وهم المذكورون سابقاً أجمل حال سائر الأمم المرسل إليها: أي وما أرسلنا في قرية من القرى من نبي من الأنبياء، وفي الكلام محذوف أي فكذب أهلها إلا أخذناهم، والاستثناء مفرغ: أي ما أرسلنا في حال من الأحوال إلا في حال أخذنا أهلها فمحل أخذنا النصب، والبأساء: البؤس والفقر، والضراء: الضر، وقد تقدم تحقيق معنى البأساء والضراء "لعلهم يضرعون" أي لكي يتضرعوا ويتذللوا، فيدعوا ما هم عليه من الاستكبار وتكذيب الأنبياء.
قوله: 95- "ثم بدلنا" معطوف على أخذنا: أي ثم بعد الأخذ لأهل القرى بدلناهم "مكان السيئة" التي أصبناهم بها من البلاء والامتحان "الحسنة" أي الخصلة الحسنة: فصاروا في خير وسعة وأمن "حتى عفوا" يقال: عفا كثر، وعفا درس، فهو من أسماء الأضداد، والمراد هنا: أنهم كثروا في أنفسهم وفي أموالهم: أي أعطيناهم الحسنة مكان السيئة حتى كثروا "وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء" أي قالوا هذه المقالة عند أن صاروا في الحسنة بعد السيئة: أي أن هذا الذي مسنا من البأساء والضراء، ثم من الرخاء والخصب من بعد هو أمر وقع لآبائنا قبلنا مثله، فمسهم من البأساء والضراء ما مسنا ومن النعمة والخير ما نلناه، ومعناهم: أن هذه العادة الجارية في السلف والخلف، وأن ذلك ليس من الله سبحانه ابتلاء لهم واختباراً لما عندهم، وفي هذا من شدة عنادهم وقوة تمردهم وعتوهم ما لا يخفى، ولهذا عاجلهم الله بالعقوبة ولم يمهلهم فقال: "فأخذناهم بغتة" أي فجأة عقب أن قالوا هذه المقالة من دون تراخ ولا إمهال "و" الحال أنـ "هم لا يشعرون" بذلك ولا يترقبونه.
واللام في 96- "القرى" للعهد: أي "ولو أن أهل القرى" التي أرسلنا إليهم رسلنا "آمنوا" بالرسل المرسلين إليهم "واتقوا" ما صمموا عليه من الكفر ولم يصروا على ما فعلوا من القبائح "لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض" أي يسرنا لهم خير السماء والأرض كما يحصل التيسير للأبواب المغلقة بفتح أبوابها، قيل المراد بخير السماء: المطر، وخير الأرض النبات، والأولى حمل ما في الآية على ما هو أعم من ذلك، ويجوز أن تكون اللام في القرى للجنس، والمراد: لو أن أهل القرى أين كانوا وفي أي بلاد سكنوا آمنوا واتقوا إلى آخر الآية "ولكن كذبوا" بالآيات والأنبياء ولم يؤمنوا ولا اتقوا "فأخذناهم" بالعذاب بـ سبب "ما كانوا يكسبون" من الذنوب الموجبة لعذابهم.
والاستفهام في 97- "أفأمن أهل القرى" للتقريع والتوبيخ، وأهل القرى هم أهل القرى المذكورة قبله، والفاء للعطف، وهو مثل "أفحكم الجاهلية يبغون"، وقيل: المراد بالقرى مكة وما حولها لتكذيبهم للنبي صلى الله عليه وسلم والحمل على العموم أولى. قوله: "أن يأتيهم بأسنا بياتاً" أي وقت بيات، وهو الليل على أنه منصوب على الظرفية، ويجوز أن يكون مصدراً: بمعنى تبيتاً، أو مصدراً في موضع الحال: أي مبيتين، وجملة "وهم نائمون" في محل نصب على الحال.
والاستفهام في 98- "أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون" كالاستفهام الذي قبله، والضحى ضحوة النهار، وهو في الأصل اسم لضوء الشمس إذا أشرقت وارتفعت. قرأ ابن عامر والحرميان "أو أمن" بإسكان الواو وقرأ الباقون بفتحها، وجملة "وهم يلعبون" في محل نصب على الحال: أي يشتغلون بما لا يعود عليهم بفائدة.
والاستفهام في 99- "أفأمنوا مكر الله" للتقريع والتوبيخ وإنكار ما هم عليه من أمان ما لا يؤمن من مكر الله بهم وعقوبته لهم، وفي تكرير هذا الاستفهام زيادة تقرير لإنكار ما أنكره عليهم، ثم بين حال من أمن مكر الله، فقال: "فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون" أي الذين أفرطوا في الخسران، ووقعوا في وعيده الشديد، وقيل: مكر الله هنا هو استدراجه بالنعمة والصحة. والأولى حمله على ما هو أعم من ذلك.
قوله: 100- " أولم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها " قرئ نهد بالنون وبالتحتية فعلى القراءة بالنون يكون فاعل الفعل هو الله سبحانه ومفعول الفعل "أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم" أي أن الشأن هو هذا، وعلى القراءة بالتحتية يكون فاعل يهد هو "أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم" أي أخذناهم بكفرهم وتكذيبهم، والهداية هنا بمعنى التبيين، ولهذا عديت باللام. قوله: "ونطبع على قلوبهم" أي ونحن نطبع على قلوبهم على الاستئناف ولا يصح عطفه على أصبنا لأنهم ممن طبع الله على قلبه عدم قبولهم للإيمان، وقيل: هو معطوف على فعل مقدر دل عليه الكلام، كأنه قيل: يغفلون عن الهداية ونطبع، وقيل: معطوف على يرثون، قوله: "فهم لا يسمعون" جواب لو: أي صاروا بسبب إصابتنا لهم بذنوبهم والطبع على قلوبهم لا يسمعون ما يتلوه عليهم من أرسله الله إليهم من الوعظ والإعذار والإنذار. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة" قال: مكان الشدة الرخاء "حتى عفوا" قال: كثروا وكثرت أموالهم. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "حتى عفوا" قال: جموا. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "قد مس آباءنا الضراء والسراء" قال: قالوا: قد أتى على آبائنا مثل هذا فلم يكن شيئاً "فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون". وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه في قوله: "ولو أن أهل القرى آمنوا" قال: بما أنزل الله "واتقوا" قال: ما حرمه الله "لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض" يقول: أعطتهم السماء بركتها والأرض نباتها. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق معاذ بن رفاعة عن موسى الطائفي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أكرموا الخبز فإن الله أنزله من بركات السماء وأخرجه من بركات الأرض". وأخرج البزار والطبراني، قال السيوطي: بسند ضعيف عن عبد الله ابن أم حرام قال: صليت القبلتين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أكرموا الخبز فإن الله أنزله من بركات السماء وسخر له بركات الأرض، ومن تتبع ما يسقط من السفرة غفر له". وأخرج ابن أبي شيبة عن الحسن قال: كان أهل قرية أوسع الله عليهم حتى كانوا يستنجون بالخبز فبعث الله عليهم الجوع. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: " أولم يهد " قال: أو لم نبين. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد مثله. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي في قوله: "للذين يرثون الأرض من بعد أهلها" قال: المشركون.
قوله: 101- "تلك القرى" أي التي أهلكناها وهي قرى نوح وصالح ولوط وشعيب المتقدم ذكرها "نقص عليك" أي نتلو عليك "من أنبائها" أي من أخبارها وهذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين ونقص إما في محل نصب على أنه حال، و "تلك القرى" مبتدأ وخبر، أو يكون في محل رفع على أنه الخبر، و "القرى" صفة لتلك، ومن في "من أنبائها" للتبعيض: أي نقص عليك بعض أنبائها، واللام في "لقد جاءتهم رسلهم بالبينات" جواب القسم. والمعنى: أن من أخبارهم أنها جاءتهم رسل الله ببيناته كما سبق بيانه في قصص الأنبياء المذكورين قبل هذا "فما كانوا ليؤمنوا" عند مجيء الرسل "بما كذبوا" به "من قبل" مجيئهم أو فما كانوا ليؤمنوا بما جاءتهم به الرسل في حال من الأحوال ولا في وقت من الأوقات بما كذبوا به قبل مجيئهم، بل هم مستمرون على الكفر متشبثون بأذيال الطغيان دائماً، ولم ينجع فيهم مجيء الرسل ولا ظهر له أثر، بل حالهم عند مجيئهم كحالهم قبله، وقيل المعنى: فما كانوا ليؤمنوا بعد هلاكهم بما كذبوا به لو أحييناهم كقوله: "ولو ردوا لعادوا" وقيل: سألوا المعجزات، فلما رأوها لم يؤمنوا بما كذبوا به من قبل رؤيتها. والأول أولى، ومعنى تكذيبهم قبل مجيء الرسل: أنهم كانوا في الجاهلية يكذبون بكل ما سمعوا به من إرسال الرسل، وإنزال الكتب. قوله: "كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين" أي مثل ذلك الطبع الشديد يطبع الله على قلوب الكافرين فلا ينجع فيهم بعد ذلك وعظ ولا تذكير ولا ترغيب ولا ترهيب.
قوله: 102- "وما وجدنا لأكثرهم من عهد" الضمير يرجع إلى أهل القرى المذكورين سابقاً: أي ما وجدنا لأكثر أهل هذه القرى من عهد: أي عهد يحافظون عليه ويتمسكون به، بل دأبهم نقض العهود في كل حال، وقيل: الضمير يرجع إلى الناس على العموم: أي ما وجدنا لأكثر الناس من عهد وقيل المراد بالعهد: هو المأخوذ عليهم في عالم الذر، وقيل: الضمير يرجع إلى الكفار على العموم من غير تقييد بأهل القرى: أي الأكثر منهم لا عهد ولا وفاء، والقليل منهم قد يفي بعهده ويحافظ عليه، وإن في "وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين" هي المخففة من الثقيلة، وضمير الشأن محذوف: أي أن الشأن وجدنا أكثرهم لفاسقين، أو هي النافية، واللام في "لفاسقين" بمعنى إلا: أي إلا فاسقين خارجين عن الطاعة خروجاً شديداً. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أبي بن كعب في قوله: "فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل" قال: كان في علم الله يوم أقروا له بالميثاق من يكذب به ممن يصدق به. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل" قال: مثل قوله: "ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه". وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله: "وما وجدنا لأكثرهم من عهد" قال: الوفاء. وأخرج ابن أبي حاتم في الآية قال: هو ذاك العهد يوم أخذ الميثاق. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين" قال: ذاك أن الله إنما أهلك القرى لأنهم لم يكونوا حفظوا ما وصاهم به.
قوله: 103- "ثم بعثنا من بعدهم موسى" أي من بعد نوح وهود وصالح ولوط وشعيب: أي ثم أرسلنا موسى بعد إرسالنا لهؤلاء الرسل، وقيل: الضمير في "من بعدهم" راجع إلى الأمم السابقة: أي من بعد إهلاكهم " إلى فرعون وملئه " فرعون هو لقب لكل من يملك أرض مصر بعد العمالقة وملأ فرعون: أشراف قومه وتخصيص الذكر مع عموم الرسالة لهم ولغيرهم، لأن من عداهم كالأتباع لهم. قوله: "فظلموا بها" أي كفروا بها، وأطلق الظلم على الكفر لكون كفرهم بالآيات التي جاء بها موسى كان كفراً متبالغاً لوجود ما يوجب الإيمان من المعجزات العظيمة التي جاءهم بها والمراد بالآيات هنا: هي الآيات التسع، أو معنى "فظلموا بها" ظلموا الناس بسببها لما صدوهم عن الإيمان بها، أو ظلموا أنفسهم بسببها "فانظر كيف كان عاقبة المفسدين" أي المكذبين بالآيات الكافرين بها وجعلهم مفسدين، لأن تكذيبهم وكفرهم من أقبح أنواع الفساد.
قوله: 104- "وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين" أخبره بأنه مرسل من الله إليه وجعل ذلك عنواناً لكلامه معه، لأن من كان مرسلاً من جهة من هو رب العالمين أجمعين فهو حقيق بالقبول لما جاء به كما يقول من أرسله الملك في حاجة إلى رعيته: أنا رسول الملك إليكم ثم يحكي ما أرسل به فإن في ذلك من تربية المهابة وإدخال الروعة ما لا يقادر قدره.
قوله: 105- "حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق" قرئ (حقيق علي أن لا أقول): أي واجب علي ولازم لي أن لا أقول فيما أبلغكم عن الله إلا القول الحق، وقرئ "حقيق على أن لا أقول" بدون ضمير في علي، قيل: في توجيهه أن على معنى الباء: أي حقيق بأن لا أقول، ويؤيده قراءة أبي والأعمش فإنهما قرآ (حقيق بأن لا أقول) وقيل: إن "حقيق" مضمن معنى حريص، وقيل: إنه لما كان لازماً للحق كان الحق لازماً له، فقول الحق حقيق عليه وهو حقيق على قول الحق، وقيل: إنه أغرق في وصف نفسه في ذلك المقام حتى جعل نفسه حقيقة على قول الحق كأنه وجب على الحق أن يكون موسى هو قائله. وقرأ عبد الله بن مسعود حقيق أن لا أقول بإسقاط على، ومعناه واضح ثم قال بعد هذا: "قد جئتكم ببينة من ربكم" أي بما يتبين به صدقي وأني رسول من رب العالمين. وقد طوى هنا ذكر ما دار بينهما من المحاورة كما في موضع آخر أنه قال فرعون "فمن ربكما يا موسى" ثم قال بعد جواب موسى "وما رب العالمين" الآيات الحاكية لما دار بينهما. قوله: "فأرسل معي بني إسرائيل" أمره بأن يدع بني إسرائيل يذهبون معه ويرجعون إلى أوطانهم وهي الأرض المقدسة. وقد كانوا باقين لديه مستعبدين ممنوعين من الرجوع إلى وطنهم والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها.
فلما قال ذلك 106- "قال" له فرعون "إن كنت جئت بآية" من عند الله كما تزعم " فأت بها " حتى نشاهدها وننظر فيها "إن كنت من الصادقين" في هذه الدعوى التي جئت بها.
قوله: 107- "فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين" أي وضعها على الأرض فانقلبت ثعباناً: أي حية عظيمة من ذكور الحيات، ومعنى "مبين" أن كونها حية في تلك الحال أمر ظاهر واضح لا لبس فيه.
108- "ونزع يده" أي أخرجها وأظهرها من جيبه أو من تحت إبطه، وفي التنزيل: "وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء". قوله: "فإذا هي بيضاء للناظرين" أي فإذا يده التي أخرجها بيضاء تتلألأ نوراً يظهر لكل مبصر.
109- "قال الملأ" أي الأشراف "من قوم فرعون" لما شاهدوا انقلاب العصى حية، ومصير يده بيضاء من غير سوء "إن هذا" أي موسى "لساحر عليم" أي كثير العلم بالسحر ولا تنافي بين نسبة هذا القول إلى الملأ هنا وإلى فرعون في سورة الشعراء فكلهم قد قالوه، فكان ذلك مصححاً لنسبته إليهم تارة وإليه أخرى.
وجملة 110- "يريد أن يخرجكم من أرضكم" وصف لساحر، والأرض المنسوبة إليهم هي أرض مصر: وهذا من كلام الملأ، وأم "فماذا تأمرون" فقيل: هو من كلام فرعون، قال: للملأ لما قالوا بما تقدم: أي بأي شيء تأمرونني، وقيل: هو من كلام الملأ: أي قالوا لفرعون فبأي شيء تأمرنا وخاطبوه بما تخاطب به الجماعة تعظيماً له كما يخاطب الرؤساء أتباعهم، وما في موضع نصب بالفعل الذي بعدها، ويجوز أنتكون ذا بمعنى الذي كما ذكره النحاة في ماذا صنعت.
وكون هذا من كلام فرعون هو الأولى بدليل ما بعده وهو 111- "قالوا أرجه وأخاه" قال: الملأ جواباً لكلام فرعون حيث استشارهم وطلب ما عندهم من الرأي أرجه: أي أخره وأخاه يقال: أرجأته وأرجيته: أخرته. قرأ عاصم والكسائي وحمزة وأهل المدينة "أرجه" بغير همز، وقرأ الباقون بالهمز، وقرأ أهل الكوفة إلا الكسائي "أرجه" بسكون الهاء. قال الفراء: هي لغة للعرب يقفون على الهاء في الوصل، وأنكر ذلك البصريون، وقيل معنى أرجه: احبسه، وقيل: هو من رجا يرجو: أي أطمعه ودعه يرجوك، حكاه النحاس عن محمد بن يزيد المبرد "وأرسل في المدائن حاشرين" أي أرسل جماعة حاشرين في المدائن التي فيها السحرة، وحاشرين مفعول أرسل، وقيل: هو منصوب على الحال.
و 112- "يأتوك" جواب الأمر: أي يأتوك هؤلاء الذين أرسلتهم "بكل سحار عليم" أي بكل ماهر في السحر كثير العلم بصناعته. قرأ أهل الكوفة إلا عاصم "سحار" وقرأ من عداهم "ساحر".
قوله: 113- "وجاء السحرة فرعون" في الكلام طي: أي فبعث في المدائن حاشرين وجاء السحرة فرعون. قوله: "قالوا إن لنا لأجراً" أي فلما جاءوا فرعون قالوا له إن لنا لأجراً، والجملة استئنافية جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: أي شيء قالوا له لما جاءوه؟ والأجر الجائزة والجعل، ألزموا فرعون أن يجعل لهم جعلاً إن غلبوا موسى بسحرهم. قرأ نافع وابن كثير "إن لنا" على الإخبار، وقرأ الباقون "أإن لنا" على الاستفهام، استفهموا فرعون عن الجعل الذي سيجعله لهم على الغلبة، ومعنى الاستفهام التقرير. وأما على القراءة الأولى فكأنهم قاطعون بالجعل وأنه لا بد لهم منه.
فأجابهم فرعون بقوله: "نعم وإنكم لمن المقربين" أي إن لكم لأجراً وإنكم مع هذا الأجر المطلوب منكم لمن المقربين لدينا.
قوله: 115- "قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين" هذه الجملة مستأنفة جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: فما قالوا لموسى بعد أن قال لهم فرعون: "نعم وإنكم لمن المقربين". والمعنى: أنهم خيروا موسى بين أن يبتدئ بإلقاء ما يلقيه عليهم أو يبتدئوه هم بذلك تأدباً معه وثقة من أنفسهم بأنهم غالبون وإن تأخروا، وأن في موضع نصب، قاله الكسائي والفراء: أي إما أن تفعل الإلقاء أو نفعله نحن.
فأجابهم موسى بقوله: 116- "ألقوا" اختار أن يكونوا المتقدمين عليه بإلقاء ما يلقونه غير مبال بهم ولا هائب لما جاءوا به. قال الفراء: في الكلام حذف، المعنى: قال لهم موسى إنكم لن تغلبوا ربكم ولن تبطلوا آياته، وقيل هو تهديد: أي ابتدئوا بالإلقاء فستنظرون ما يحل بكم من الافتضاح والموجب لهذين التأويلين عند من قال بهما أنه لا يجوز على موسى أن يأمرهم بالسحر "فلما ألقوا" أي حبالهم وعصيهم "سحروا أعين الناس" أي قلبوها وغيروها عن صحة إدراكها بما جاءوا به من التمويه والتخييل الذي يفعله المشعوذون وأهل الخفة "واسترهبوهم" أي أدخلوا الرهبة في قلوبهم إدخالاً شديداً " وجاؤوا بسحر عظيم " في أعين الناظرين لما جاءوا به، وإن كان لا حقيقة له في الواقع.
قوله: 117- "وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك" أمره الله سبحانه عند أن جاء السحرة بما جاءوا به من السحر أن يلقي عصاه "فإذا هي" أي العصا "تلقف ما يأفكون". قرأ حفص "تلقف" بإسكان اللام وتخفيف القاف من لقف يلقف. وقرأ الباقون بفتح اللام وتشديد القاف من تلقف يتلقف، يقال: لقفت الشيء وتلقفته: إذا أخذته أو بلغته. قال أبو حاتم: وبلغني في بعض القراءات تلقم بالميم والتشديد. قال الشاعر: أنت عصا موسى التي لم تزل تلقم ما يأفكه الساحــر و ما في "ما يأفكون" مصدرية أو موصولة: أي إفكهم أو ما يأفكونه، سماه إفكاً، لأنه لا حقيقة له في الواقع بل هو كذب وزور وتمويه وشعوذة.
118- "فوقع الحق" أي ظهر وتبين لما جاء به موسى "وبطل ما كانوا يعملون" من سحرهم: أي تبين بطلانه.
119- "فغلبوا" أي السحرة "هنالك" أي في الموقف الذي أظهروا فيه سحرهم "وانقلبوا" من ذلك الموقف "صاغرين" أذلاء مقهورين.
120- "وألقي السحرة ساجدين" أي خروا ساجدين كأنما ألقاهم ملق على هيئة السجود أو لم يتمالكوا مما رأوا فكأنهم ألقوا أنفسهم.
وجملة 121- " قالوا آمنا برب العالمين * رب موسى وهارون " مستأنفة جواب سؤال مقدر، كأنه قيل ماذا قالوا عند سجودهم أو في سجودهم، وإنما قالوا هذه المقالة وصرحوا بأنهم آمنوا برب العالمين.
ثم لم يكتفوا بذلك حتى قالوا: 122- "رب موسى وهارون" لئلا يتوهم متوهم من قوم فرعون المقرين بإلهيته أن السجود له. وقد أخرج أبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: " ثم بعثنا من بعدهم موسى " قال: إنما سمي موسى، لأنه ألقي بين ماء وشجر فالماء بالقبطية مو والشجر سي. وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد: أن فرعون كان فارسياً من أهل إصطخر. وأخرج أيضاً عن ابن لهيعة: أنه كان من أبناء مصر، وأخرج أيضاً وأبو الشيخ عن محمد بن المنكدر قال: عاش فرعون ثلثمائة سنة. وأخرج ابن أبي حاتم عن علي بن أبي طلحة أن فرعون كان قبطياً ولد زنا طوله سبعة أشبار. وأخرج أيضاً عن الحسن قال: كان علجاً من همذان. وأخرج أبو الشيخ عن إبراهيم بن مقسم الهذلي قال: مكث فرعون أربعمائة سنة لم يصدع له رأس. وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: "فألقى عصاه" قال: ذكر لنا أن تلك العصا عصا آدم أعطاه إياها ملك حين توجه إلى مدين، فكانت تضيء بالليل ويضرب بها الأرض بالنهار فتخرج له رزقه ويهش بها على غنمه "فإذا هي ثعبان مبين" قال: حية تكاد تساوره. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: لقد دخل موسى على فرعون وعليه زرمانقة من صوف ما تجاوز مرفقيه، فاستأذن على فرعون فقال: أدخلوه، فدخل فقال: إن إلهي أرسلني إليك، فقال للقوم حوله: ما علمت لكم من إله غيري، خذوه. قال: إني قد جئتك بآية، قال: فائت بها إن كنت من الصادقين، فألقى عصاه فصارت ثعباناً بين لحييه ما بين السقف إلى الأرض، وأدخل يده في جيبه فأخرجها مثل البرق تلتمع الأبصار، فخروا على وجوههم وأخذ موسى عصاه ثم خرج ليس أحد من الناس إلا نفر منه، فلما أفاق وذهب عن فرعون الروع قال للملأ حوله: ماذا تأمروني "قالوا أرجه وأخاه" ولا تأتنا به ولا يقربنا "وأرسل في المدائن حاشرين" وكانت السحرة يخشون من فرعون، فلما أرسل إليهم قالوا: قد احتاج إليكم إلهكم؟ قال: إن هذا قعل كذا وكذا، قالوا: إن هذا ساحر سحر " إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين * قال نعم وإنكم لمن المقربين ". وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال: عصا موسى اسمها ماشا. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ من طرق عنه في قوله: "فإذا هي ثعبان مبين" قال: الحية الذكر. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي في قوله: "فإذا هي ثعبان مبين" قال: الذكر من الحيات فاتحة فمها واضعة لحيها الأسفل في الأرض والأعلى على سورة القصر، ثم توجهت نحو فرعون لتأخذه، فلما رآها ذعر منها ووثب، فأحدث ولم يكن يحدث قبل ذلك، فصاح يا موسى خذها وأنا أؤمن بربك وأرسل معك بني إسرائيل، فأخذها موسى فصارت عصا. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "أرجه" قال: أخره. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة قال: احبسه وأخاه. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس من طرق في قوله: "وأرسل في المدائن حاشرين" قال: الشرط. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه في قوله: "وجاء السحرة" قال: كانوا سبعين رجلاً أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء. وقد اختلفت كلمة السلف في عددهم، فقيل: كانوا سبعين كما قال ابن عباس، وقيل: كانوا إثني عشر، وقيل: خمسة عشر ألفاً، وقيل: سبعة عشر ألفاً، وقيل: تسعة عشر ألفاً، وقيل: ثلاثين ألفاً، وقيل: سبعين ألفاً، وقيل: ثمانين ألفاً، وقيل: ثلثمائة ألف، وقيل: تسعمائة ألف، وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "إن لنا لأجراً" أي عطاء. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: "فلما ألقوا" قال: ألقوا حبالاً غلاظاً وخشباً طوالاً، فأقبلت يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي قال: ألقى موسى عصاه فأكلت كل حية لهم، فلما رأوا ذلك سجدوا. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر عن مجاهد في قوله: "تلقف ما يأفكون" قال: ما يكذبون. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الحسن في قوله: "تلقف ما يأفكون" قال: ما يكذبون. واخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الحسن في قوله: "تلقف ما يأفكون" قال: تسترط حبالهم وعصيهم. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن مسعود وناس من الصحابة قال: التقى موسى وأمير السحرة، فقال له موسى: أرأيتك إن غلبتك أتؤمن بي وتشهد أن ما جئت به حق؟ فقال الساحر: لآتين غداً بسحر لا يغلبه سحر، فوالله لئن غلبتني لأؤمنن بك ولأشهدن أنه حق، وفرعون ينظر إليهما وهو قول فرعون "إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة". وأخرج ابن أبي حاتم عن الأوزاعي قال: لما خر السحرة سجداً رفعت لهم الجنة حتى نظروا إليها.
قوله: 123- "آمنتم به" قرئ بحذف الهمزة على الإخبار وبإثباتها. أنكر على السحرة فرعون إيمانهم بموسى قبل أن يأذن لهم بذلك، ثم قال بعد الإنكار عليهم مبيناً لما هو الحامل لهم على ذلك في زعمه "إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة" أي حيلة احتلتموها أنتم وموسى عن مواطأة بينكم سابقة "لتخرجوا" من مدينة مصر "أهلها" من القبط وتستولوا عليها وتسكنوا فيها أنتم وبنو إسرائيل. ومعنى "في المدينة" أن هذه الحيلة والمواطأة كانت بينكم وأنتم بالمدينة مدينة مصر قبل أن تبرزوا أنتم وموسى إلى هذه الصحراء، ثم هددهم بقوله: "فسوف تعلمون" عاقبة صنعكم هذا وسوء مغبته.
ثم لم يكتف بهذا الوعيد المجمل بل فصله فقال: 124- "لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف" أي الرجل اليمنى واليد اليسرى، أو الرجل اليسرى واليد اليمنى، ثم لم يكتف عدو الله بهذا، بل جاوزه إلى غيره فقال: "ثم لأصلبنكم" في جذوع النخل: أي أجعلكم عليها مصلوبين زيادة تنكيل بهم وإفراطاً في تعذيبهم.
وجملة: 125- "قالوا إنا إلى ربنا منقلبون" استئنافية جواب سؤال كما تقدم، ومعناه: إنك وإن فعلت بنا هذا الفعل فتعده يوم الجزاء سيجازيك الله بصنعك ويحسن إلينا بما أصابنا في ذاته، فتوعدوه بعذاب الله في الآخرة لما توعدهم بعذاب الدنيا. ويحتمل أن يكون المعنى: "إنا إلى ربنا منقلبون" بالموت: أي لا بد لنا من الموت ولا يضرنا كونه بسبب منك.
قوله: 126- "وما تنقم منا". قرأ الحسن بفتح القاف. قال الأخفش: هي لغة، وقرأ الباقون بكسرها، يقال: نقمت الأمر أنكرته: أي لست تعيب علينا وتنكر منا "إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا" مع أن هذا هو الشرف العظيم والخير الكامل، ومثله لا يكون موضعاً للعيب ومكاناً للإنكار، بل هو حقيق بالثناء الحسن والاستحسان البالغ، ثم تركوا خطابه وقطعوا الكلام معه والتفتوا إلى خطاب الجناب العلي مفوضين الأمر إليه طالبين منه عز وجل أن يثبتهم على هذه المحنة بالصبر قائلين "ربنا أفرغ علينا صبراً" الإفراغ: الصب: أي اصببه علينا حتى يفيض ويغمرنا: طلبوا أبلغ أنواع الصبر استعداداً منهم لما سينزل بهم من العذاب من عدو الله وتوطيناً لأنفسهم على التصلب في الحق وثبوت القدم على الإيمان، ثم قالوا: "وتوفنا مسلمين" أي توفنا إليك حال ثبوتنا على الإسلام غير محرفين ولا مبدلين ولا مفتونين ولقد كان ما هم عليه من السحر والمهارة في علمه مع كونه شراً محضاً سبباً للفوز بالسعادة لأنهم علموا أن هذا الذي جاء به موسى خارج عن طوق البشر وأنه من فعل الله سبحانه فوصلوا بالشر إلى الخير ولم يحصل من غيرهم ممن لا يعرف هذا العلم من أتباع فرعون ما حصل منهم من الإذعان والاعتراف والإيمان، وإذا كانت المهارة في علم الشر قد تأتي بمثل هذه الفائدة فما بالك بالمهارة في علم الخير، اللهم انفعنا بما علمتنا، وثبت أقدامنا على الحق، وأفرغ علينا سجال الصبر وتوفنا مسلمين.
قوله: 127- "وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض" هذا الاستفهام منهم للإنكار عليه: أي أتتركه وقومه ليفسدوا في الأرض بإيقاع الفرقة وتشتيت الشمل. والمراد بالأرض هنا: أرض مصر. قوله: "ويذرك وآلهتك" قرأ نعيم بن ميسرة ويذرك بالرفع على تقدير مبتدأ: أي وهو يذرك أو على العطف على "أتذر موسى": أي أتذره ويذرك، وقرأ الأشهب العقيلي "ويذرك" بالجزم: إما على التخفيف بالسكون لثقل الضمة، أو على ما قيل في "وأكن من الصالحين" في توجيه الجزم. وقرأ أنس بن مالك ونذرك بالنون والرفع، ومعناه: أنهم أخبروا عن أنفسهم بأنهم سيذرونه وآلهته. وقرأ الباقون "ويذرك" بالنصب بأن مقدرة على أنه جواب الاستفهام والواو نائبة عن الفاء أو عطفاً على "يفسدوا" أي ليفسدوا، وليذرك لأنهم على الفساد في زعمهم، وهو يؤدي إلى ترك فرعون وآلهته. واختلف المفسرون في معنى "وآلهتك" لكون فرعون كان يدعي الربوبية كما في قوله: "ما علمت لكم من إله غيري"، وقوله: "أنا ربكم" فقيل معنى وآلهتك: وطاعتك، وقيل معناه: وعبادتك، ويؤيده قراءة علي وابن عباس والضحاك وإلهتك وفي حرف أبي أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض وقد تركوك أن يعبدوك وقيل إنه كان يعبد بقرة، وقيل كان يعبد النجوم، وقيل كان له أصنام يعبدها قومه تقرباً إليه فنسبت إليه ولهذا قال: "أنا ربكم الأعلى". قاله الزجاج، وقيل كان يعبد الشمس، فقال فرعون مجيباً لهم ومثبتاً لقلوبهم على الكفر "سنقتل أبناءهم". قرأ نافع وابن كثير "سنقتل" بالتخفيف. وقرأ الباقون بالتشديد: أي سنقتل الأبناء ونستحيي النساء: أي نتركهن في الحياة، ولم يقل سنقتل موسى لأنه يعلم أنه لا يقدر عليه "وإنا فوقهم قاهرون" أي مستعلون عليهم بالقهر والغلبة أو هم تحت قهرنا وبين أيدينا، ما شئنا أن نفعله بهم فعلناه.
وجملة: 128- "قال موسى لقومه" مستأنفة جواب سؤال مقدر. لما بلغ موسى ما قاله فرعون أمر قومه بالاستعانة بالله والصبر على المحنة، ثم أخبرهم "إن الأرض" يعني أرض مصر "لله يورثها من يشاء من عباده" أو جنس الأرض، وهو وعد من موسى لقومه بالنصر على فرعون وقومه، وأن الله سيورثهم أرضهم وديارهم. ثم بشرهم أن العاقبة للمتقين: أي العاقبة المحمودة في الدنيا والآخرة للمتقين من عباده، وهم موسى ومن معه. وعاقبة كل شيء آخره. وقرئ والعاقبة بالنصب عطفاً على الأرض.
وجملة 129- "قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا" مستأنفة جواب سؤال مقدر كالتي قبلها: أي أوذينا من قبل أن تأتينا رسولاً وذلك بقتل فرعون أبناءنا عند مولدك لما أخبر بأنه سيولد مولود يكون زوال ملكه على يده " ومن بعد ما جئتنا " رسولاً بقتل أبنائنا الآن، وقيل: المعنى أوذينا من قبل أن تأتينا باستعمالنا في الأعمال الشاقة بغير جعل "ومن بعد ما جئتنا" بما صرنا فيه الآن من الخوف على أنفسنا وأولادنا وأهلنا، وقيل: إن الأذى من قبل ومن بعد واحد، وهو قبض الجزية منهم، وجملة "قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم" مستأنفة كالتي قبلها، وعدهم بإهلاك الله لعدوهم، وهو فرعون وقومه. قوله: "ويستخلفكم في الأرض" هو تصريح بما رمز إليه سابقاً من أن الأرض لله. وقد حقق الله رجاءه وملكوا مصر في زمان داود وسليمان وفتحوا بيت المقدس مع يوشع بن نون، وأهلك فرعون وقومه بالغرق وأنجاهم "فينظر كيف تعملون" من الأعمال بعد أن يمن عليكم بإهلاك عدوكم "ويستخلفكم في الأرض" فيجازيكم بما عملتم فيه من خير وشر. وقد أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله: "إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة" إذا التقيتما لتظاهرا فتخرجا منها أهلها "لأقطعن أيديكم" الآية، قال: فقتلهم وقطعهم كما قال. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان أول من صلب فرعون. وهو أول من قطع الأيدي والأرجل من خلاف. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله: "من خلاف" قال: يداً من هاهنا ورجلاً من هاهنا. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا" قال: من قبل إرسال الله إياك ومن بعده. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن وهب بن منبه في الآية قال: قالت بنو إسرائيل لموسى كان فرعون يكلفنا اللبن قبل أن تأتينا، فلما جئت كلفنا اللبن مع التبن أيضاً، فقال موسى: أي رب أهلك فرعون، حتى متى تبقيه؟ فأوحى الله إليه إنهم لم يعملوا الذنب الذي أهلكهم به. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في الآية قال: حزا لعدو الله حاز أنه يولد في العام غلام يسلب ملكك. قال: فتتبع أولادهم في ذلك العام بذبح الذكر منهم، ثم ذبحهم أيضاً بعدما جاءهم موسى. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: إن بنا أهل البيت يفتح ويختم، ولا بد أن تقع دولة لبني هاشم فانظروا فيمن تكون من بني هاشم؟ وفيهم نزلت: "عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون" وينبغي أن ينظر في صحة هذا عن ابن عباس. فالآية نازلة في بني إسرائيل لا في بني هاشم واقعة في هذه القصة الحاكية لما جرى بين موسى وفرعون.
المراد بآل فرعون هنا قومه، والمراد بالسنين الجدب، وهذا معروف عند أهل اللغة، يقولون أصابتهم سنة: أي جدب سنة، وفي الحديث: "اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف" وأكثر العرب يعربون السنين إعراب جمع المذكر السالم، ومن العرب من يعربه إعراب المفرد ويجري الحركات على النون، وأنشد الفراء: أرى مر السنين أخذن مني كما أخذ السرار من الهلال بكسر النون من السنين. قال النحاس: وأنشد سيبويه هذا البيت بفتح النون. أقول: قد ورد ما لا احتمال فيه وهو قول الشاعر: وماذا تزدري الأقوام مني وقد جاوزت حد الأربعين وبعده: أخو الخمسين مجتمع أشدي وتجذبني مداورة السنين فإن الأبيات قبله وبعده مكسورة. وأول هذه الأبيات: أنا ابن جلا وطلاع الثنايا متى أضع العمامة تعرفوني وحكى الفراء عن بني عامر أنهم يقولون: أقمت عنده سنيناً مصروفاً، قال: وبنو تميم لا يصرفونه، ويقال أسنت القوم: أي أجدبوا، ومنه قول ابن الزبعري: ورجال مكة مسنتون عجاف 130- "ونقص من الثمرات" بسبب عدم نزول المطر وكثرة العاهات "لعلهم يذكرون" فيتعظون ويرجعون عن غوايتهم.
قوله: 131- "فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه" أي الخصلة الحسنة من الخصب بكثرة المطر وصلاح الثمرات ورخاء الأسعار "قالوا لنا هذه" أي أعطيناها باستحقاق، وهي مختصة بنا "وإن تصبهم سيئة" أي خصلة سيئة من الجدب والقحط وكثرة الأمراض ونحوها من البلاء "يطيروا بموسى ومن معه" أي يتشاءموا بموسى ومن معه من المؤمنين به، والأصل يتطيروا أدغمت التاء في الطاء. وقرأ طلحة " تطيرنا " على أنه فعل ماض، وقد كانت العرب تتطير بأشياء من الطيور والحيوانات، ثم استعمل بعد ذلك في كل من تشاءم بشيء، ومثل هذا قوله تعالى: "وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك" قيل: ووجه تعريف الحسنة أنها كثيرة الوقوع، ووجه تنكير السيئة ندرة وقوعها. قوله: "ألا إنما طائرهم عند الله" أي سبب خيرهم وشرهم بجميع ما ينالهم من خصب وقحط هو من عند الله ليس بسبب موسى ومن معه، وكان هذا الجواب على نمط ما يعتقدونه وبما يفهمونه، ولهذا عبر بالطائر عن الخير والشر الذي يجري بقدر الله وحكمته ومشيئته "ولكن أكثرهم لا يعلمون" بهذا بل ينسبون الخير والشر إلى غير الله جهلاً منهم.
وقرأ الحسن طيرهم قوله: 132- "وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين" قال الخليل: أصل مهما ما الشرطية زيدت عليه ما التي للتوكيد كما تزاد في سائر الحروف مثل: حيثما وأينما وكيفما ومتى ما، ولكنهم كرهوا اجتماع المثلين فأبدلوا ألف الأولى هاء. وقال الكسائي: أصله مه: أي اكفف ما تأتينا به من آية، وزيدت عليها ما الشرطية، وقيل: هي كلمة مفردة يجازي بها، ومحل مهما الرفع على الابتداء، أو النصب بفعل يفسره ما بعدها، و من آية لبيان مهما، وسموها آية استهزاء بموسى كما يفيده ما بعده، وهو "لتسحرنا بها" أي لتصرفنا عما نحن عليه كما يفعله السحرة بسحرهم، والضمير في به عائد إلى مهما، والضمير في بها عائد إلى آية، وقيل: إنهما جميعاً عائدان إلى مهما، وتذكير الأول باعتبار اللفظ، وتأنيث الثاني باعتبار المعنى "فما نحن لك بمؤمنين" جواب الشرط: أي فما نحن لك بمصدقين: أخبروا عن أنفسهم أنهم لا يؤمنون بشيء مما يجيء به من الآيات التي هي في زعمهم من السحر.
فعند ذلك نزلت بهم العقوبة من الله عز وجل المبينة بقوله: 133- "فأرسلنا عليهم الطوفان" وهو المطر الشديد. قال الأخفش: واحدة طوفانة، وقيل: هو مصدر كالرجحان والنقصان فلا واحد له، وقيل الطوفان: الموت. وقال النحاس: الطوفان في اللغة ما كان مهلكاً من موت أو سيل: أي ما يطيف بهم فيهلكهم "والجراد" هو الحيوان المعروف أرسله الله لأكل زروعهم فأكلها "والقمل" قيل: هي الدباء، والدباء الجراد قبل أن تطير، وقيل: هي السوس، وقيل البراغيث، وقيل دواب سود صغار، وقيل ضرب من القردان، وقيل الجعلان. قال النحاس: يجوز أن تكون هذه الأشياء كلها أرسلت عليهم. وقرأ الحسن القمل بفتح القاف وإسكان الميم. وقرأ الباقون بضم القاف وفتح الميم مشددة. وقد فسر عطاء الخراساني القمل بالقمل "والضفادع" جمع ضفدع وهو الحيوان المعروف الذي يكون في الماء "والدم" روي أنه سال النيل عليهم دماً، وقيل هو الرعاف. قوله: "آيات مفصلات" أي مبينات. قال الزجاج: هو منصوب على الحال. والمعنى: أرسلنا عليهم هذه الأشياء حال كونها آيات بينات ظاهرات "فاستكبروا" أي ترفعوا عن الإيمان بالله "وكانوا قوماً مجرمين" لا يهتدون إلى حق ولا ينزعون عن باطل.
قوله: 134- "ولما وقع عليهم الرجز" أي العذاب بهذه الأمور التي أرسلها الله عليهم، وقرئ بضم الراء وهما لغتان، وقيل: كان هذا الرجز طاعوناً مات به من القبط في يوم واحد سبعون ألفاً "قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك" أي بما استودعك من العلم، أو بما اختصك به من النبوة، أو بما عهد إليك أن تدعو به فيجيبك، والباء متعلقة بادع على معنى أسعفنا إلى ما نطلب من الدعاء بحق ما عندك من عهد الله، أو ادع لنا متوسلاً إليه بعهده عندك، وقيل إن الباء للقسم، وجوابه لنؤمنن: أي أقسمنا بعهد الله عندك "لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك" على أن جواب الشرط ساد مسد جواب القسم، وعلى أن الباء ليست للقسم تكون اللام في "لئن كشفت عنا الرجز" جواب قسم محذوف، و "لنؤمنن" جواب الشرط ساد مسد جواب القسم "ولنرسلن معك بني إسرائيل" معطوف على لنؤمنن. وقد كانوا حابسين لبني إسرائيل عندهم يمتهنونهم في الأعمال فوعدوه بإرسالهم معه.
135- "فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه" أي رفعنا عنهم العذاب عند أن رجعوا إلى موسى وسألوه بما سألوه، لكن لا رفعاً مطلقاً، بل رفعاً مقيداً بغاية هي الأجل المضروب لإهلاكهم بالغرق، وجواب لما "إذا هم ينكثون" أي ينقضون ما عقدوه على أنفسهم. وإذا هي الفجائية: أي فاجثوا النكث وبادروه.
136- "فانتقمنا منهم" أي أردنا الانتقام منهم لما نكثوا بسبب ما تقدم لهم من الذنوب المتعددة "فأغرقناهم في اليم" أي في البحر، قيل: هو الذي لا يدرك قعره، وقيل: هو لجته وأوسطه، وجملة "بأنهم كذبوا بآياتنا" تعليل للإغراق "وكانوا عنها غافلين" معطوف على كذبوا: أي كانوا غافلين عن النقمة المدلول عليها بانتقمنا، أو عن الآيات التي لم يؤمنوا بها بل كذبوا بها وكانوا في تكذيبهم بمنزلة الغافلين عنها. والثاني أولى لأن الجملتين تعليل للإغراق. وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن مسعود "ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين" قال: السنين الجوع. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد قال: السنين الجوائح "ونقص من الثمرات" دون ذلك. وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: لما أخذ الله آل فرعون بالسنين يبس كل شيء لهم، وذهبت مواشيهم حتى يبس نيل مصر، واجتمعوا إلى فرعون، فقالوا: إن كنت كما تزعم فائتنا في نيل مصر بماء، قال: غدوة يصبحكم الماء فلما خرجوا من عنده قال: أي شيء صنعت إن لم أقدر على أن أجري في نيل مصر ماء غدوة كذبوني؟ فلما كان جوف الليل قام فاغتسل ولبس مدرعة صوف ثم خرج حافياً حتى أتى نيل مصر فقال: اللهم إنك تعلم أني أعلم أنك تقدر على أن تملأ نيل مصر ماء فاملأه ماء، فما علم إلا بجزر الماء يقبل فخرج وأقبل النيل يزخ بالماء لما أراد الله بهم من الهلكة. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "فإذا جاءتهم الحسنة" قال: العافية والرخاء "قالوا لنا هذه" نحن أحق بها "وإن تصبهم سيئة" قال: بلاء وعقوبة "يطيروا بموسى" قال: يتشاءموا به. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : " ألا إنما طائرهم عند الله " قال : الأمر من قبل الله . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الطوفان الموت". قال ابن كثير: هو حديث غريب. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ عن ابن عباس قال: الطوفان الغرق. وأخرج هؤلاء عن مجاهد قال: الطوفان الموت على كل حال. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس قال: الطوفان: مطروا دائماً بالليل والنهار ثمانية أيام، والقمل: الجراد الذي له أجنحة. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال: الطوفان أمر من أمر ربك، ثم قرأ: "فطاف عليها طائف من ربك". وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد قال: الطوفان: الماء والطاعون والجراد. قال: يأكل مسامير أرتجهم: يعني أبوابهم وثيابهم، والقمل الدباء والضفادع تسقط على فرشهم وفي أطعمتهم، والدم يكون في ثيابهم ومائهم وطعامهم. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس قال: القمل الدباء. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس قال: كانت الضفادع برية، فلما أرسلها الله على آل فرعون سمعت وأطاعت فجعلت تقذف نفسها في القدر وهي تغلي، وفي التنانير وهي تفور. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد قال: سال النيل دماً فكان الإسرائيلي يستقي ماء طيباً، ويستقي الفرعوني دماً، ويشتركان في إناء واحد فيكون ما يلي الإسرائيلي ماءً طيباً وما يلي الفرعوني دماً. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم في قوله: "والدم" قال: سلط الله عليهم الرعاف. وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس قال: مكث موسى في آل فرعون بعد ما غلب السحرة أربعين سنة يريهم الآيات والجراد والقمل والضفادع. وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله: "آيات مفصلات" قال: كانت آيات مفصلات يتبع بعضها بعضاً ليكون لله الحجة عليهم. وأخرج ابن المنذر عنه قال: يتبع بعضها بعضاً تمكث فيهم سبتاً إلى سبت ثم ترفع عنهم شهراً. وأخرج ابن مردويه عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الرجز: العذاب". وأخرج عبد بن حميد عن سعيد بن جبير قال: الرجز الطاعون. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "إلى أجل هم بالغوه" قال: الغرق. وأخرج ابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس قال: اليم البحر. وأخرج أيضاً عن السدي مثله.
قوله: 137- "وأورثنا القوم" يعني بني إسرائيل "الذين كانوا يستضعفون" أي يذلون ويمتهون بالخدمة لفرعون وقومه "مشارق الأرض ومغاربها" منصوبان بأورثنا. وقال الكسائي والفراء: إن الأصل في مشارق الأرض ومغاربها ثم حذفت في فنصبا، والأول أظهر لأنه يقال: أورثته المال، والأرض هي مصر والشام، ومشارقها جهات مشرقها. ومغاربها جهات مغربها، وهي التي كانت لفرعون وقومه من القبط، وقيل: المراد جميع الأرض لأن داود وسليمان من بني إسرائيل، وقد ملكا الأرض. قوله: "التي باركنا فيها" صفة للمشارق والمغارب، وقيل: صفة الأرض والمباركة فيها إخراج الزرع والثمار منها على أتم ما يكون وأنفع ما ينفق. قوله: "وتمت كلمة ربك الحسنى" أي مضت واستمرت على التمام والكلمة هي "ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين". وهذا وعد من الله سبحانه بالنصر والظفر بالأعداء والاستيلاء على أملاكهم، والحسنى: صفة للكلمة، وهي تأنيث الأحسن، وتمام هذه الكلمة "على بني إسرائيل" بسبب صبرهم على ما أصيبوا به من فرعون وقومه. قوله: "ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه" التدمير الإهلاك: أي أهلكنا بالخراب ما كانوا يصنعونه من العمارات "وما كانوا يعرشون" قرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم يعرشون بضم الراء. قال الكسائي: هي لغة تميم. وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة يعرشون بتشديد الراء وضم حرف المضارعة. وقرأ الباقون بكسر الراء مخففة: أي ما كانوا يعرشونه من الجنات، ومنه قوله تعالى: "وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات" وقيل: معنى يعرشون يبنون، يقال: عرش يعرش: أي بنى يبني.
قوله: 138- "وجاوزنا ببني إسرائيل البحر" جزناه بهم وقطعناه. وقرئ جوزنا بالتشديد، وهو بمعنى قراءة الجمهور "فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم". قرأ حمزة والكسائي "يعكفون" بكسر الكاف، وقرأ الباقون بضمها، يقال: عكيف يعكف: ويعكف بمعنى أقام على الشيء ولزمه، والمصدر منهما عكوف، قيل: هؤلاء القوم الذين أتاهم بنو إسرائيل هم من لخم كانوا نازلين بالرقة، كانت أصنامهم تماثيل بقر، وقيل: كانوا من الكنعانيين "قالوا" أي بنو إسرائيل عند مشاهدتهم لتلك التماثيل "يا موسى اجعل لنا إلهاً" أي صنماً نعبده كائناً كالذي لهؤلاء القوم فالكاف متعلق بمحذوف وقع صفة لإلهاً، فأجاب عليهم موسى، و "قال إنكم قوم تجهلون" وصفهم بالجهل لأنهم قد شاهدوا من آيات الله ما يزجر من له أدنى علم عن طلب عبادة غير الله، ولكن هؤلاء القوم: أعني بني إسرائيل أشد خلق الله عناداً وجهلاً وتلوناً. وقد سلف في سورة البقرة بيان ما جرى منهم من ذلك.
ثم قال لهم موسى: "إن هؤلاء" يعني القوم العاكفين على الأصنام "متبر ما هم فيه" التبار الهلاك، وكل إناء منكسر فهو متبر: أي أن هؤلاء هالك ما هم فيه مدمر مكسر، والذي هم فيه عبادة الأصنام أخبرهم بأن هذا الدين الذي هؤلاء القوم عليه هالك مدمر لا يتم منه شيء. قوله: "وباطل ما كانوا يعملون" أي ذاهب مضمحل جميع ما كانوا يعملونه من الأعمال مع عبادتهم للأصنام. قال في الكشاف: وفي إيقاع هؤلاء اسماً لـ إن وتقديم خبر المبتدأ من الجملة الواقعة خبراً لها، وسم لعبدة الأصنام بأنهم هم المعرضون للتبار، وأنه لا يعدوهم البتة، وأنه لهم ضربة لازب ليحذرهم عاقبة ما طلبوا ويبغض إليهم ما أحبوا.
قوله: 140- "أغير الله أبغيكم إلهاً" الاستفهام للإنكار والتوبيخ: أي كيف أطلب لكم غير الله إلهاً تعبدونه وقد شاهدتم من آياته العظام ما يكفي البعض منه؟ والمعنى: أن هذا الذي طلبتم لا يكون أبداً، وإدخال الهمزة على غير للإشعار بأن المنكر هو كون المبتغي غيره سبحانه إلهاً، و غير مفعول للفعل الذي بعده، وإلهاً تمييز أو حال، وجملة "وهو فضلكم على العالمين" في محل نصب على الحال: أي والحال أنه فضلكم على العالمين من أهل عصركم بما أنعم به عليكم من إهلاك عدوكم واستخلافكم في الأرض وإخراجكم من الذل والهوان إلى العز والرفعة فكيف تقابلون هذه النعم بطلب عبادة غيره.
قوله: 141- "وإذ أنجيناكم من آل فرعون" أي واذكروا وقت إنجائنا لكم من آل فرعون بعد أن كانوا مالكين لكم يستعبدونكم فيما يريدونه منكم ويمتهنونكم بأنواع الامتهانات، هذا على أن هذا الكلام محكي عن موسى، وأما إذا كان في حكم الخطاب لليهود الموجودين في عصر محمد، فهو بمعنى اذكروا إذ أنجينا أسلافكم من آل فرعون، وجملة "يسومونكم سوء العذاب" في محل نصب على الحال: أي أنجيناكم من آل فرعون حال كونهم "يسومونكم سوء العذاب"، ويجوز أن تكون مستأنفة لبيان ما كانوا فيه مما أنجاهم منه، وجملة "يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم" مفسرة للجملة التي قبلها، أو بدل منها. وقد سبق بيان ذلك، والإشارة بقوله: "وفي ذلكم" إلى العذاب: أي في هذا العذاب التي كنتم فيه "بلاء" عليكم "من ربكم عظيم" وقيل: الإشارة إلى الإنجاء، والبلاء النعمة. والأول أولى. وقد أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الحسن في قوله: "مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها" قال: الشام وأخرج هؤلاء عن قتادة مثله. وأخرج ابن عساكر عن زيد بن أسلم نحوه. وأخرج أبو الشيخ عن عبد الله بن شوذب قال: هي فلسطين، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضل الشام أحاديث ليس هذا موضع ذكرها. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: " وتمت كلمة ربك الحسنى " قال: ظهور قوم موسى على فرعون وتمكين الله لهم في الأرض وما ورثهم منها. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وما كانوا يعرشون" قال: يبنون. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم" قال: لخم وجذام. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أبي عمران الجوني مثله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريج في الآية قال: تماثيل بقر من نحاس، فلما كان عجل السامري شبه لهم أنه من تلك البقر، فذلك كان أول شأن العجل ليكون الله عليهم الحجة فينتقم منهم بعد ذلك. وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والترمذي وصححه والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي واقد الليثي قال:" خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حنين فمررنا بسدرة، فقلت: يا رسول الله اجعل لنا هذه ذوات أنواط كما للكفار ذوات أنواط، وكان الكفار ينوطون سلاحهم بسدرة ويعكفون حولها فقال النبي صلى الله عليه وسلم:الله أكبر هذا كما قالت بنو إسرائيل لموسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة، إنكم تركبون سنن الذين من قبلكم". وأخرج نحوه ابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه من طريق كثير بن عبد الله بن عوف عن أبيه عن جده مرفوعاً، وكثير ضعيف جداً. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "متبر" قال: خسران. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه قال: هلاك.
هذا من جملة ما كرم الله به موسى عليه السلام وشرفه. والثلاثين هي ذو القعدة والعشر هي عشر ذي الحجة ضرب الله هذه المدة موعدا لمناجاة موسى ومكالمته، قيل: وكان التكليم في يوم النحر، والفائدة في 142- "فتم ميقات ربه أربعين ليلة" مع العلم بأن الثلاثين والعشر أربعون ليلاً يتوهم وأن المراد أتممنا الثلاثين بعشر منها فبين أن العشر غير الثلاثين، وأربعين ليلة منصوب على الحال: أي فتم حال كونه بالغاً أربعين ليلة. قوله: "وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي" أي كن خليفتي فيهم، قال موسى: هذا لما أراد المضي إلى المناجاة "وأصلح" أمر بني إسرائيل بحسن سياستهم والرفق بهم وتفقد أحوالهم "ولا تتبع سبيل المفسدين" أي لا تسلك سبيل العاصين ولا تكن عوناً للظالمين. وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ من طرق عن ابن عباس في قوله: "وواعدنا موسى" الآية قال: ذو القعدة، وعشر من ذي الحجة. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن مجاهد مثله. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال: إن موسى قال لقومه: إن ربي وعدني ثلاثين ليلة أن ألقاه وأخلف هارون فيكم، فلما فصل موسى إلى ربه زاده الله عشراً فكانت فتنتهم في العشر التي زاده الله، فلما مضى ثلاثون ليلة كان السامري قد أبصر جبريل، فأخذ من أثر الفرس قبضة من تراب، ثم ذكر قصة السامري.
اللام في 143- "لميقاتنا" للاختصاص: أي كان مجيئه مختصاً بالميقات المذكور بمعنى أنه جاء في الوقت الموعود "وكلمه ربه" أي اسمعه كلامه من غير واسطة. قوله: "أرني أنظر إليك" أي أرني نفسك أنظر إليك: أي سأله النظر إليه اشتياقاً إلى رؤيته لما أسمعه كلامه. وسؤال موسى للرؤية يدل على أنها جائزة عنده في الجملة، ولو كانت مستحيلة عنده لما سألها، والجواب بقوله: "لن تراني" يفيد أنه لا يراه هذا الوقت الذي طلب رؤيته فيه، أو أنه لا يرى ما دام الرائي حياً في دار الدنيا. وأما رؤيته في الآخرة فقد ثبتت بالأحاديث المتواترة تواتراً لا يخفى على من يعرف السنة المطهرة، والجدال في مثل هذا والمراوغة لا تأتي بفائدة، ومنهج الحق واضح، ولكن الاعتقاد لمذهب نشأ الإنسان عليه وأدرك عليه آباءه وأهل بلده مع عدم التنبه لما هو المطلوب من العباد من هذه الشريعة المطهرة يوقع في التعصب. والمتعصب وإن كان بصره صحيحاً فبصيرته عمياء. وأذنه عن سماع الحق صماء، يدفع الحق وهو يظن أنه ما دفع غير الباطل ويحسب أن ما نشأ عليه هو الحق غفلة منه وجهلاً بما أوجبه الله عليه من النظر الصحيح وتلقي ما جاء به الكتاب والسنة بالإذعان والتسليم. وما أقل المنصفين بعد ظهوره هذه المذاهب في الأصول والفروع فإنه صار بها باب الحق مرتجاً، وطريق الإنصاف مستوعرة، والأمر لله سبحانه، والهداية منه: يأبى الفتى إلا اتباع الهوى ومنهج الحق له واضح وجملة "قال لن تراني" مستأنفة لكونها جواباً لسؤال مقدر كأنه قيل: فما قال الله له؟ والاستدراك بقوله: "ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني" معناه أنك لا تثبت لرؤيتي ولا يثبت لها ما هو أعظم منك جرماً وصلابة وقوة، وهو الجبل فانظر إليه "فإن استقر مكانه" ولم يتزلزل عند رؤيتي له "فسوف تراني" وإن ضعف عن ذلك فأنت منه أضعف، فهذا الكلام بمنزلة ضرب المثل لموسى عليه السلام الجبل، وقيل: هو من باب التعليق بالمحال، وعلى تسليم هذا فهو في الرؤية في الدنيا لما قدمنا. وقد تمسك بهذه الآية كلا طائفتي المعتزلة والأشعرية: فالمعتزلة استدلوا بقوله: "لن تراني"، وبأمره بأن ينظر إلى الجبل، والأشعرية قالوا: إن تعليق الرؤية باستقرار الجبل يدل على أنها جائزة غير ممتنعة، ولا يخفاك أن الرؤية الأخروية هي بمعزل عن هذا كله، والخلاف بينهم هو فيها لا في الرؤية في الدنيا فقد كان الخلاف فيها في زمن الصحابة وكلامهم فيها معروف. قوله: "فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً" تجلى معناه: ظهر، من قولك جلوت العروس: أي أبرزتها، وجلوت السيف: أخلصته من الصدأ، وتجلى الشيء: انكشف. والمعنى: فلما ظهر ربه للجبل جعله دكاً، وقيل المتجلي هو أمره وقدرته، قاله قطرب وغيره والدك مصدر بمعنى المفعول: أي جعله مدكوكاً مدقوقاً فصار تراباً، هذا على قراءة من قرأ دكاً بالمصدر، وهم أهل المدينة وأهل البصرة، وأما على قراءة أهل الكوفة "جعله دكاء" على التأنيث، والجمع دكاوات كحمراء وحمراوات، وهي اسم للرابية الناشزة من الأرض أو للأرض المستوية، فالمعنى: أن الجبل صار صغيراً كالرابية أو أرضاً مستوية. قال الكسائي: الدك: الجبال العراض واحدها أدك، والدكاوات جمع دكاء، وهي رواب من طين ليست بالغلاظ، والدكادك: ما التبد من الأرض فلم يرتفع، وناقة دكاء: لا سنام لها "وخر موسى صعقاً" أي مغشياً عليه مأخوذاً من الصاعقة: والمعنى: أنه صار حاله لما غشي عليه كحال من يغشى عليه عند إصابة الصاعقة له. يقال: صعق الرجل فهو صعق ومصعوق: إذا أصابته الصاعقة "فلما أفاق" من غشيته "قال سبحانك" أي أنزهك تنزيهاً من أن أسأل شيئاً لم تأذن لي به "تبت إليك" عن العود إلى مثل هذا السؤال. قال القرطبي: وأجمعت الأمة على أن هذه التوبة ما كانت عن معصية فإن الأنبياء معصومون، وقيل: هي توبة من قتله للقبطي، ذكره القشيري، ولا وجه له في مثل هذا المقام "وأنا أول المؤمنين" بك قبل قومي الموجودين في هذا العصر المعترفين بعظمتك وجلالك.
وجملة 144- "قال يا موسى" مستأنفة كالتي قبلها متضمنة لإكرام موسى واختصاصه بما اختصه الله به. والاصطفاء: الاجتباء والاختيار: أي اخترتك على الناس المعاصرين لك برسالتي كذا قرأ نافع وابن كثير بالإفراد، وقرأ الباقون بالجمع. والرسالة مصدر، والأصل فيه الإفراد، ومن جمع فكأنه نظر إلى أن الرسالة هي على ضروب فجمع لاختلاف الأنواع، والمراد بالكلام هنا: التكليم. امتن الله سبحانه عليه بهذين النوعين العظيمين من أنواع الإكرام، وهما الرسالة والتكليم من غير واسطة ثم أمره بأن يأخذ ما آتاه: أي أعطاه من هذا الشرف الكريم، وأمره بأن يكون من الشاكرين على هذا العطاء العظيم والإكرام الجليل.
قوله: 145- "وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلاً لكل شيء" من كل شيء: أي من كل ما يحتاج إليه بنو إسرائيل في دينهم ودنياهم، وهذه الألواح: هي التوراة، قيل: كانت من زمردة خضراء، وقيل: من ياقوتة حمراء، وقيل: من زبرجد، وقيل: من صخرة صماء. وقد اختلف في عدد الألواح وفي مقدار طولها وعرضها، والألواح: جمع لوح، وسمي لوحاً لكونه تلوح فيه المعاني، وأسند الله سبحانه الكتابة إلى نفسه تشريفا للمكتوب في الألواح، وهي مكتوبة بأمره سبحانه، وقيل: هي كتابة خلقها الله في الألواح، و "من كل شيء" في محل نصب على أنه مفعول "كتبنا" و "موعظة وتفصيلاً" بدل من محل كل شيء أي موعظة لمن يتعظ بها من بني إسرائيل وغيرهم وتفصيلاً للأحكام المحتاجة إلى التفصيل "فخذها بقوة" أي خذ الألواح بقوة: أي بجد ونشاط وقيل: الضمير عائد إلى الرسالات، أو إلى كل شيء، أو إلى التوراة، قيل: وهذا الأمر على إضمار القول: أي فقلنا له خذها، وقيل إن "فخذها" بدل من قوله: "فخذ ما آتيتك" "وأمر قومك يأخذوا بأحسنها" أي بأحسن ما فيها بما أجره أكثر من غيره، وهو مثل قوله تعالى: "اتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم"، وقوله: "فيتبعون أحسنه"، ومن الأحسن الصبر على الغير والعفو عنه والعمل بالعزيمة دون الرخصة، وبالفريضة دون النافلة، وفعل المأمور به، وترك المنهي عنه. قوله: " سأريكم دار الفاسقين " قيل: هي أرض مصر التي كانت لفرعون وقومه وقيل: منازل عاد وثمود، وقيل: هي جهنم، وقيل: منازل الكفار من الجبابرة والعمالقة ليعتبروا بها، وقيل الدار: الهلاك. والمعنى: سأريكم هلاك الفاسقين. وقد تقدم تحقيق معنى الفسق.
قوله: 146- "سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق" قيل: معنى "سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون" سأمنعهم فهم كتابي، وقيل: سأصرفهم عن الإيمان بها، وقيل: سأصرفهم عن نفعها مجازاة على تكبرهم كما في قوله: " فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم "، وقيل: سأطبع على قلوبهم حتى لا يتفكروا فيها ولا يعتبروا بها. واختلف في تفسير الآيات فقيل هي المعجزات، وقيل الكتب المنزلة، وقيل هي خلق السموات والأرض وصرفهم عنها أن لا يعتبروا بها، ولا مانع من حمل الآيات على جميع ذلك حمل الصرف على جميع المعاني المذكورة و "بغير الحق" إما متعلق بقوله: "يتكبرون" أي يتكبرون بما ليس بحق، أو بمحذوف وقع حالاً: أي يتكبرون متلبسين بغير الحق. قوله: "وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها" معطوف على "يتكبرون" منتظم معه في حكم الصلة. والمعنى سأصرف عن آياتي المتكبرين التاركين للإيمان بما يرونه من الآيات، ويدخل تحت كل آية الآيات المنزلة، والآيات التكوينية، والمعجزات: أي لا يؤمنون بآية من الآيات كائنة ما كانت. وقرأ مالك بن دينار يروا بضم الياء في الموضعين، وجملة "وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلاً" معطوفة على ما قبلها داخلة في حكمها، وكذلك جملة "وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلاً" والمعنى: أنهم إذا وجدوا سبيلاً من سبل الرشد تركوه وتجنبوه، وإن رأوا سبيلاً من سبل الغي سلكوه واختاروه لأنفسهم. قرأ أهل المدينة وأهل البصرة "الرشد" بضم الراء وإسكان الشين. وقرأ أهل الكوفة إلا عاصماً بفتح الراء والشين. قال أبو عبيدة: فرق أبو عمرو بين الرشد والرشد فقال: الرشد الصلاح والرشد في الدين. قال النحاس: سيبويه يذهب إلى أن الرشد والرشد كالسخط والسخط. قال الكسائي: والصحيح عن أبي عمرو وغيره ما قال أبو عبيدة. وأصل الرشد في اللغة: أن يظفر الإنسان بما يريد، وهو ضد الخيبة، والإشارة بقوله: "ذلك" إلى الصرف: أي ذلك الصرف بسبب تكذيبهم أو الإشارة إلى التكبر وعدم الإيمان بالآيات، وتجنب سبيل الرشد، وسلوك سبيل الغي، واسم الإشارة مبتدأ، وخبره جملة "بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين" أي بسبب تكذيبهم بالآيات وغفلتهم عنها.
والموصول في 147- "والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة" مبتدأ، وخبره "حبطت أعمالهم"، والمراد بلقاء الآخرة: لقاء الدار الآخرة: أي لقائهم لها أو لقائهم ما وعدوا به فيها على أن الإضافة إلى الظرف. وحباط الأعمال بطلانها: أي بطلان ما عملوه مما صورته صورة الطاعة كالصدقة والصلة وإن كانوا في حال كفرهم لا طاعات لهم، ويحتمل أن يراد أن تبطل بعدما كانت مرجوة النفع على تقدير إسلامهم لما في الحديث الصحيح: "لما أسلمت على ما أسلفت من خير". "هل يجزون إلا ما كانوا يعملون" من الكفر بالله، والتكذيب بآياته، وتنكب سبيل الحق، وسلوك سبيل الغي. وقد أخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن كعب قال: لما كلم الله موسى قال: يا رب أهكذا كلامك؟ قال: يا موسى إنما أكلمك بقوة عشرة آلاف لسان ولي قوة الألسن كلها، ولو كلمتك بكنه كلامي لم تك شيئاً. وأخرج البزار وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في الأسماء والصفات من حديث جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما كلم الله موسى يوم الطور كلمه بغير الكلام الذي كلمه به يوم ناداه فقال له موسى: يا رب أهذا كلامك الذي كلمتني به؟ قال: يا موسى إنما كلمتك بقوة عشرة آلاف لسان ولي قوة الألسن كلها وأقوى من ذلك، فلما رجع موسى إلى بني إسرائيل قالوا: يا موسى صف لنا كلام الرحمن، فقال: لا تستطيعونه، ألم تروا إلى أصوات الصواعق التي تقتل، في أحلى حلاوة سمعتموه فذاك قريب منه وليس به". وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن أبي الحويرث عبد الرحمن بن معاوية قال: إنما كلم الله موسى بقدر ما يطيق من كلامه ولو تكلم بكلامه كله لم يطقه شيء، فمكث موسى أربعين ليلة لا يراه أحد إلا مات من نور رب العالمين. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "قال رب أرني أنظر إليك" يقول: أعطني أنظر إليك. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة في الآية قال: لما سمع الكلام طمع في الرؤية. وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس قال: حين قال موسى لربه تبارك وتعالى: "رب أرني أنظر إليك" قال الله: يا موسى إنك لن تراني، قال: يقول: ليس تراني ولا يكون ذلك أبداً، يا موسى إنه لن يراني أحد فيحيا، قال موسى: رب إني أراك ثم أموت أحب إلي من أن لا أراك ثم أحيا، فقال الله لموسى: يا موسى انظر إلى الجبل العظيم الطويل الشديد "فإن استقر مكانه" يقول: فإن ثبت مكانه لم يتضعضع ولم ينهد لبعض ما يرى من عظمتي "فسوف تراني" أنت لضعفك وذلتك، وإن الجبل انهد بقوته وشدته وعظمته فأنت أضعف وأذل. وأخرج أحمد وعبد بن حميد والترمذي وصححه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن عدي في الكامل وأبو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في كتاب الرؤية من طرق عن أنس بن مالك: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية "فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً" قال:هكذا، وأشار بأصبعيه ووضع إبهاميه على أنملة الخنصر، وفي لفظ على المفصل الأعلى من الخنصر، فساخ الجبل "وخر موسى صعقاً"". وفي لفظ: "فساخ الجبل في الأرض فهو يهوي فيها إلى يوم القيامة". وهذا الحديث حديث صحيح على شرط مسلم. وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس قال: الجبل الذي أمره الله أن ينظر إليه الطور. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي في كتاب الرؤية عن ابن عباس: "فلما تجلى ربه للجبل" قال: ما تجلى منه إلا قدر الخنصر "جعله دكاً" قال: تراباً "وخر موسى صعقاً" قال: مغشياً عليه. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية والديلمي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لما تجلى الله للجبل طارت لعظمته ستة أجبل، فوقعت ثلاثة بالمدينة وثلاثة بمكة، بالمدينة: أحد وورقان ورضوى، وبمكة: حراء وثبير وثور". وأخرج الطبراني في الأوسط عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لما تجلى الله لموسى تطايرت سبعة أجبل، ففي الحجاز خمسة منها، وفي اليمن اثنان،في الحجاز: أحد وثبير وحراء وثور وورقان، وفي اليمن: حضور وصبر". وأخرج ابن جرير والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن عباس أن موسى لما كلمه ربه أحب أن ينظر إليه فسأله فقال: "لن تراني ولكن انظر إلى الجبل" قال: فحف حول الجبل الملائكة وحف حول الملائكة بنار وحف حول النار بملائكة وحف حولهم بنار، ثم تجلى ربه للجبل تجلى منه مثل الخنصر، فجعل الجبل دكاً وخر موسى صعقاً، فلم يزل صعقاً ما شاء الله، ثم أفاق فقال: سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين من بني إسرائيل. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ عن علي بن أبي طالب قال: كتب الله الألواح لموسى وهو يسمع صريف الأقلام في لوح. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الألواح التي أنزلت على موسى كانت من سدر الجنة كان طول اللوح إثني عشر ذراعاً". وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: كانوا يقولون كانت الألواح من ياقوتة. وأنا أقول: إنما كانت من زمرد وكتابها الذهب، كتبها الله بيده، فسمع أهل السموات صريف الأقلام. أقول: رحم الله سعيداً ما كان أغناه عن هذا الذي قاله من جهة نفسه، فمثله لا يقال بالرأي ولا بالحدس، والذي يغلب به الظن أن كثيراً من السلف رحمهم الله كانوا يسألون اليهود عن هذه الأمور، فلهذا اختلفت واضطربت فهذا يقول من خشب، وهذا يقول من ياقوت، وهذا يقول من زمرد، وهذا يقول من زبرجد، وهذا يقول من برد، وهذا يقول من حجر. وأخرج أبو الشيخ عن السدي "وكتبنا له في الألواح من كل شيء" كل شيء أمروا به ونهوا عنه. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد مثله. وقد اختلف السلف في المكتوب في الألواح اختلافاً كثيراً، ولا مانع من حمل المكتوب على جميع ذلك لعدم التنافي. وأخرج وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس "فخذها بقوة" قال: بجد وحزم " سأريكم دار الفاسقين " قال: دار الكفار. وأخرج ابن جرير عنه "وأمر قومك يأخذوا بأحسنها" قال: أمر موسى أن يأخذها بأشد مما أمر به قومه. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس "فخذها بقوة" قال: بطاعة. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله: "فخذها بقوة" يعني بجد واجتهاد "وأمر قومك يأخذوا بأحسنها" قال: بأحسن ما يجدون منها. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد " سأريكم دار الفاسقين " قال: مصيرهم في الآخرة. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن قتادة قال: منازلهم في الدنيا. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الحسن قال: جهنم. وأخرج أبو الشيخ عن قتادة قال: مصر. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله: "سأصرف عن آياتي" قال: عن أن يتفكروا في آياتي. وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن جريج "عن آياتي" قال: عن خلق السموات والأرض والآيات التي فيها سأصرفهم عن أن يتفكروا فيها أو يعتبروا. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن سفيان بن عيينة في الآية قال: أنزع عنهم فهم القرآن.
قوله: 148- "واتخذ قوم موسى من بعده" أي من بعد خروجه إلى الطور "من حليهم" متعلق باتخذ أو بمحذوف وقع حالاً، ومن للتبعيض، أو للابتداء، أو للبيان، والحلي جمع حلى. وقرأ أهل المدينة وأهل البصرة من حليهم بضم الحاء وتشديد الياء. وقرأ أهل الكوفة إلا عاصماً بكسر الحاء. وقرأ يعقوب بفتح الحاء وتخفيف الياء. قال النحاس: جمع حلي وحلي وحلى مثل ثدي وثدي وثدي، والأصل حلوى أدغمت الواو في الياء فانكسرت اللام لمجاورتها الياء وتكسر الحاء لكسرة اللام وضمها على الأصل، وأضيفت الحلي إليهم وإن كانت لغيرهم لأن الإضافة تجوز لأدنى ملابسة، و "عجلاً" مفعول اتخذ، وقيل: هو بمعنى التصيير فيتعدى إلى مفعولين ثانيهما محذوف: أي اتخذوا عجلاً إلهاً، و "جسداً" بدل من عجلاً، وقيل: وصف له، والخوار الصياح: يقال: خار يخور خوراً إذا صاح، وكذلك خار يخار خواراً. ونسب اتخاذ العجل إلى القوم جميعاً مع أنه اتخذه السامري وحده لكونه واحداً منهم وهم راضون بفعله. روي أنه لما وعد موسى قومه ثلاثين ليلة فأبطأ عليهم في العشر المزيدة، قال السامري لبني إسرائيل وكان مطاعاً فيهم: إن معكم حلياً من حلي آل فرعون الذي استعرتموه منهم لتتزينوا به في العيد وخرجتم وهو معكم، وقد أغرق الله أهله من القبط فهاتوها، فدفعوها إليه فاتخذ منها العجل المذكور. قوله: "ألم يروا أنه لا يكلمهم" الاستفهام للتقريع والتوبيخ: أي ألم يعتبروا بأن هذا الذي اتخذوه إلهاً لا يقدر على تكليمهم فضلاً عن أن يقدر على جلب نفع لهم أو دفع ضر منهم "ولا يهديهم سبيلاً" أي طريقاً واضحة يسلكونها "اتخذوه وكانوا ظالمين" أي اتخذوه إلهاً "وكانوا ظالمين" لأنفسهم في اتخاذه أو في كل شيء، ومن جملة ذلك هذا الاتخاذ.
قوله: 149- "ولما سقط في أيديهم" أي ندموا وتحيروا بعد عود موسى من الميقات، يقال للنادم المتحير: قد سقط في يده. قال الأخفش: يقال: سقط في يده وأسقط، ومن قال: سقط في أيديهم على البناء للفاعل، غماً فالمعنى عنده: سقط الندم وأصله أن من شأن من اشتد ندمه وحسرته أن يعض يده غماً فتصير يده مسقوطاً فيها، لأن فاه قد وقع فيها. وقال الأزهري والزجاج والنحاس وغيرهم: معنى سقط في أيديهم: أي في قلوبهم وأنفسهم كما يقال: حصل في يده مكروه، وإن كان محالاً أن يكون في اليد تشبيهاً لما يحصل في القلب والنفس بما يحصل في اليد، لأن مباشرة الأشياء في الغالب باليد، قال الله تعالى: "ذلك بما قدمت يداك" وأيضاً الندم وإن حل القلب فأثره يظهر في البدن، لأن النادم يعض يده ويضرب إحدى يديه على الأخرى، قال الله تعالى: "فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها" ومنه "يوم يعض الظالم على يديه" أي من الندم وأيضاً النادم يضع ذقنه في يده، "ورأوا أنهم قد ضلوا" سقط: أي تبينوا أنهم قد ضلوا باتخاذهم العجل وأنهم قد ابتلوا بمعصية الله سبحانه "قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا" قرأ حمزة والكسائي بالفوقية في الفعلين جميعاً، وقرأ الباقون بالتحتية واللام للقسم. وجوابه "لنكونن من الخاسرين". وفي هذا الكلام منهم ما يفيد الاستغاثة بالله والتضرع والابتهال في السؤال، وسيأتي في سورة طه إن شاء الله ما يدل على أن هذا الكلام المحكي عنهم هنا وقع بعد رجوع موسى، وإنما قدم هنا على رجوعه لقصد حكاية ما صدر عنهم من القول والفعل في موضع واحد.
قوله: 150- "ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفاً" هذا بيان لما وقع من موسى بعد رجوعه، وانتصاب غضبان و أسفاً على الحال، والأسف شديد الغضب. قيل: هو منزلة وراء الغضب أشد منه وهو أسف وأسيف وأسفان وأسوف، قال ابن جرير الطبري: أخبره الله قبل رجوعه بأنهم قد فتنوا، فلذلك رجع وهو غضبان أسفاً "قال بئسما خلفتموني من بعدي" هذا ذم من موسى لقومه: أي بئس العمل ما عملتموه من بعدي: أي من بعد غيبتي عنكم، يقال: خلفه بخير وخلفه بشر، استنكر عليهم ما فعلوه وذمهم لكونهم قد شاهدوا من الآيات ما يوجب بعضه الانزجار والإيمان بالله وحده، ولكن هذا شأن بني إسرائيل في تلون حالهم واضطراب أفعالهم، ثم قال منكراً عليهم: "أعجلتم أمر ربكم" والعجلة: التقدم بالشيء قبل وقته، يقال: عجلت الشيء سبقته وأعجلت الرجل حملته على العجلة، والمعنى: أعجلتم عن انتظار أمر ربكم: أي ميعاده الذي وعدنيه، وهو الأربعون ففعلتم ما فعلتم، وقيل معناه: تعجلتم سخط ربكم، وقيل معناه: أعجلتم بعبادة العجل قبل أن يأتيكم أمر ربكم "وألقى الألواح" أي طرحها لما اعتراه من شدة الغضب والأسف حين أشرف على قومه وهم عاكفون على عبادة العجل. قوله: "وأخذ برأس أخيه يجره إليه" أي أخذ برأس أخيه هارون أو بشعر رأسه حال كونه يجره إليه: فعل به ذلك لكونه لم ينكر على السامري ولا غيره ما رآه من عبادة بني إسرائيل للعجل فقال هارون معتذراً منه: "ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني" أي إني لم أطق تغيير ما فعلوه لهذين الأمرين استضعافهم لي، ومقاربتهم لقتلي وإنما قال ابن أم مع كونه أخاه من أبيه وأمه، لأنها كلمة لين وعطف، ولأنها كانت كما قيل مؤمنة. وقال الزجاج: قيل كان هارون أخا موسى لأمه لا لأبيه. قرئ ابن أم بفتح الميم تشبيهاً له بخمسة عشر، فصار كقولك: يا خمسة عشر أقبلوا. وقال الكسائي والفراء وأبو عبيد: إن الفتح على تقدير يابن أما. وقال البصريون هذا القول خطأ: لأن الألف خفيفة لا تحذف، ولكن جعل الإسمين إسماً واحداً كخمسة عشر، واختاره الزجاج والنحاس. وأما من قرأ بكسر الميم فهو على تقدير ابن أمي، ثم حذفت الياء وأبقيت الكسرة لتدل عليها. وقال الأخفش وأبو حاتم: ابن أم بالكسر كما تقول: يا غلام أقبل، وهي لغة شاذة والقراءة بها بعيدة، وإنما هذا فيما يكون مضافاً إليك. وقرئ " ابن أم " بإثبات الياء. قوله: "فلا تشمت بي الأعداء" الشماتة: السرور من الأعداء بما يصيب من يعادونه مع المصائب، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني أعوذ بك من سوء القضاء ودرك الشقاء وجهد البلاء وشماتة الأعداء" وهو في الصحيح، ومنه قول الشاعر: إذا ما الدهر جر على أناس كلاكله أناخ بآخــرينا فقل للشامتين بنا أفيقوا سيلقى الشامتون كما لقينا والمعنى: لا تفعل بي ما يكون سبباً للشماتة منهم. وقرأ مجاهد ومالك بن دينار "فلا تشمت بي الأعداء" بفتح حرف المضارعة وفتح الميم ورفع الأعداء على أن الفعل مسند إليهم: أي لا يكون ذلك منهم لفعل تفعله بي. وروي عن مجاهد أنه قرأ "تشمت" كما تقدم عنه مع نصب الأعداء. قال ابن جني: والمعنى فلا تشمت بي أنت يا رب وجاز هذا كما في قوله: "الله يستهزئ بهم" ونحوه ثم عاد إلى المراد فأضمر فعلاً نصب به الأعداء كأنه قال: ولا تشمت يا رب بي الأعداء، وما أبعد هذه القراءة عن الصواب وأبعد تأويلها عن وجوه الإعراب. قوله: "ولا تجعلني مع القوم الظالمين" أي لا تجعلني بغضبك علي في عداد القوم الظالمين: يعني الذين عبدوا العجل أو لا تعتقد أني منهم.
قوله: 151- "قال رب اغفر لي ولأخي" هذا كلام مستأنف جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: فماذا قال موسى بعد كلام هارون هذا؟ فقيل: "قال رب اغفر لي ولأخي" طلب المغفرة له أولاً، ولأخيه ثانياً ليزيل عن أخيه ما خافه من الشماتة، فكأنه تذمم مما فعله بأخيه، وأظهر أنه لا وجه له، وطلب المغفرة من الله مما فرط منه في جانبه، ثم طلب المغفرة لأخيه إن كان قد وقع منه تقصير فيما يجب عليهم من الإنكار عليهم وتغيير ما وقع منهم، ثم طلب إدخاله وإدخال أخيه في رحمة الله التي وسعت كل شيء فهو "أرحم الراحمين". وقد أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد في قوله: "واتخذ قوم موسى" الآية، قال: حين دفنوها ألقى عليها السامري قبضة من تراب أثر فرس جبريل عليه السلام. وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في الآية قال: استعاروا حلياً من آل فرعون، فجمعه السامري فصاغ منه "عجلاً" فجعله "جسداً" لحماً ودماً "له خوار". وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله: "خوار" قال: الصوت. وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك قال: خار العجل خورة لم يئن ألم تر أن الله قال: "ألم يروا أنه لا يكلمهم". وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "سقط في أيديهم" قال: ندموا. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ من طرق عن ابن عباس "أسفاً" قال: حزيناً. وأخرج أبو الشيخ عن أبي الدرداء قال: الأسف منزلة وراء الغضب أشد من ذلك. وأخرج عبد بن حميد عن محمد بن كعب قال: الأسف الغضب الشديد. وأخرج أبو عبيد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس قال: لما ألقى موسى الألواح تكسرت فرفعت إلا سدسها. وأخرج أبو الشيخ عنه قال: رفع الله منها ستة أسباعها وبقي سبع. وأخرج أبو نعيم في الحلية عن مجاهد أو سعيد بن جبير قال: لما ألقاها موسى ذهب التفصيل وبقي الهدى. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال: كانت تسعة رفع منها لوحان وبقي سبعة. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "ولا تجعلني مع القوم الظالمين" قال: مع أصحاب العجل.
الغضب ما نزل بهم من العقوبة في الدنيا بقتل أنفسهم، وما سينزل بهم في الآخرة من العذاب، والذلة هي التي ضربها الله عليهم بقوله: "ضربت عليهم الذلة"، وقيل هي إخراجهم من ديارهم، وقيل هي الجزية، وفيه نظر لأنها لم تؤخذ منهم، وإنما أخذت من ذراريهم. والأولى أن يقيد الغضب والذلة بالدنيا لقوله: 152- "في الحياة الدنيا" وإن ذلك مختص بالمتخذين للعجل إلهاً لا لمن بعدهم من ذراريهم ومجرد ما أمروا به من قتل أنفسهم هو غضب من الله عليهم، وبه يصيرون أذلاء، وكذلك خروجهم من ديارهم هو من غضب الله عليهم، وبه يصبرون أذلاء وأما ما نال ذراريهم من الذلة فلا يصح تفسير ما في الآية به إلا إذا تعذر حمل الآية على المعنى الحقيقي، وهو لم يتعذر هنا "وكذلك نجزي المفترين" أي مثل ما فعلنا بهؤلاء نفعل بالمفترين، والافتراء الكذب، فمن افترى على الله سيناله من الله غضب وذلة في الحياة الدنيا، وإن لم يكن بنفس ما عوقب به هؤلاء، بل المراد ما يصدق عليه أنه من غضب الله سبحانه وأن فيه ذلة بأي نوع كان.
153- "والذين عملوا السيئات" أي سيئة كانت "ثم تابوا" عنها "من بعد" عملـ " من بعدها وآمنوا " بالله "إن ربك من بعدها" أي من بعد هذه التوبة، أو من بعد عمل هذه السيئات التي قد تاب عنها فاعلها وآمن بالله "لغفور رحيم" أي كثير الغفران لذنوب عباده وكثير الرحمة لهم.
قوله: 154- "ولما سكت عن موسى الغضب" أصل السكوت السكون والإمساك، يقال: جرى الوادي ثلاثاً ثم سكن: أي أمسك عن الجري: قيل: هذا مثل كأن الغضب كان يغريه على ما فعل، ويقول له: قل لقومك كذا وألق الألواح وجر برأس أخيك فترك الإغراء وسكت، وقيل: هذا الكلام فيه قلب، والأصل سكت موسى عن الغضب كقولهم: أدخلت الأصبع الخاتم، والخاتم الأصبع، وأدخلت القلنسوة رأسي، ورأسي القلنسوة. وقرأ معاوية بن قرة ولما سكن عن موسى الغضب وقرئ سكت وأسكت "أخذ الألواح" التي ألقاها عند غضبه "وفي نسختها هدى ورحمة" النسخ نقل ما في كتاب إلى كتاب آخر، ويقال للأصل الذي كان النقل منه: نسخة وللمنقول نسخة أيضاً. قال القشيري. والمعنى "وفي نسختها": أي فيما نسخ من الألواح المتكسرة ونقل إلى الألواح الجديدة "هدى ورحمة" وقيل المعنى: وفيما نسخ له منها: أي من اللوح المحفوظ، وقيل المعنى: وفيما كتب له فيها هدى ورحمة، فلا يحتاج إلى أصل ينقل عنه، وهذا كما يقال: أنسخ ما يقول فلان: أي أثبته في كتابك والنسخة فعلة، بمعنى مفعولة كالخطبة. والهدى ما يهتدون به من الأحكام، والرحمة ما يحصل لهم من الله عند عملهم بما فيها من الرحمة الواسعة، واللام في "للذين هم" متعلقة بمحذوف: أي كائنة لهم أو لأجلهم، واللام في "لربهم يرهبون" للتقوية للفعل لما كان مفعوله متقدماً عليه فإنه يضعف بذلك بعض الضعف. وقد صرح الكسائي بأنها زائدة. وقال الأخفش: هي لام الأجل أي لأجل ربهم يرهبون. وقال محمد بن يزيد المبرد: هي متعلقة بمصدر الفعل المذكور، والتقدير: للذين هم رهبتهم لربهم يرهبون. وقد أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أيوب قال: تلا أبو قلابة هذه الآية "إن الذين اتخذوا العجل" إلى قوله: "وكذلك نجزي المفترين" قال: هو جزاء كل مفتر يكون إلى يوم القيامة أن يذله الله. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: أعطي موسى التوراة في سبعة ألواح من زبرجد، فيها تبيان لكل شيء وموعظة، ولما جاء فرأى بني إسرائيل عكوفاً على العجل رمى التوراة من يده فتحطمت، وأقبل على هارون فأخذ برأسه فرفع الله منها ستة أسباع وبقي سبع: " ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة " قال: فيما بقي منها. وأخرج ابن المنذر عن مجاهد أو سعيد بن جبير قال: كانت الألواح من زمرد فلما ألقاها موسى ذهب التفصيل، وبقي الهدى والرحمة، وقرأ وكتبنا له في الألواح موعظة وتفصيلاً لكل شيء وقرأ "ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة" قال: ولم يذكر التفصيل هاهنا.
قوله: 155- "واختار موسى قومه سبعين رجلاً لميقاتنا" هذا شروع في بيان ما كان من موسى ومن القوم الذين اختارهم، وسبعين مفعول اختار، وقومه منصوب بنزع الخافض: أي من قومه على الحذف والإيصال، ومثله قول الراعي: اخترتك الناس إذ رثت خلائقهم واعتل من كان يرجى عنده السول يريد اخترتك من الناس، ومعنى "لميقاتنا" للوقت الذي وقتناه له بعد أن وقع من قومه ما وقع، والميقات الكلام الذي تقدم ذكره لأن الله أمره أن يأتي إلى الطور في ناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه سبحانه من عبادة العجل كذا قيل، والرجفة في اللغة: الزلزلة الشديدة، قيل: إنهم زلزلوا حتى ماتوا، فلما رأى موسى أخذ الرجفة لهم: "قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي" قاله عليه السلام تحسراً وتلهفاً، لأن سبب أخذ الرجفة لهم "وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة" على ما تقدم في البقرة، وقيل: هؤلاء السبعون غير من قالوا "أرنا الله جهرة" بل أخذتهم الرجفة، بسبب عدم انتهائهم عن عبادة العجل، وقيل: إنهم قوم لم يرضوا بعبادة العجل ولا نهوا السامري ومن معه عن عبادته، فأخذتهم الرجفة بسبب سكوتهم والمعنى لو شئت إهلاكنا لأهلكتنا بذنوبنا قبل هذا الوقت اعترافاً منه عليه السلام بالذنب، وتلهفاً على ما فرط من قومه والاستفهام في قوله: "أتهلكنا بما فعل السفهاء منا" للجحد: أي لست ممن يفعل ذلك، قاله ثقة منه برحمة الله، والمقصود منه الاستعطاف والتضرع، وقيل معناه الدعاء والطلب: أي لا تهلكنا. قال المبرد: المراد بالاستفهام استفهام الإعظام كأنه يقول: وقد علم موسى أنه لا يهلك أحد بذنب غيره، ولكنه كقول عيسى: "إن تعذبهم فإنهم عبادك"، وقيل المراد بالسفهاء: السبعون، والمعنى: أتهلك بني إسرائيل بما فعل هؤلاء السفهاء في قولهم: "أرنا الله جهرة"، وقيل المراد بهم: السامري وأصحابه. قوله: "إن هي إلا فتنتك" أي ما الفتنة التي وقع فيها هؤلاء السفهاء إلا فتنتك التي تختبر بها من شئت وتمتحن بها من أردت، ولعله عليه السلام استفاد هذا من قوله سبحانه: "إنا قد فتنا قومك من بعدك" "تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء" أي تضل بهذه الفتنة من تشاء من عبادك وتهدي بها من تشاء منهم، ومثله: " ليبلوكم أيكم أحسن عملا "، ثم رجع إلى الاستعطاف والدعاء فقال: "أنت ولينا" أي المتولي لأمورنا "فاغفر لنا" ما أذنبناه "وارحمنا" برحمتك التي وسعت كل شيء "وأنت خير الغافرين" للذنوب.
156- "واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة" بتوفيقنا للأعمال الصالحة، أو تفضل علينا بإفاضة النعم في هذه الدنيا من العافية وسعة الرزق "وفي الآخرة" أي واكتب لنا في الآخرة الجنة بما تجازينا به أو بما تتفضل به علينا من النعيم في الآخرة، وجملة "إنا هدنا إليك" تعليل لما قبلها من سؤال المغفرة والرحمة والحسنة في الدنيا وفي الآخرة أي إنا تبنا إليك ورجعنا عن الغواية التي وقعت من بني إسرائيل. والهود: التوبة. وقد تقدم في البقرة، وجملة "قال عذابي أصيب به من أشاء" مستأنفة كنظائرها فيما تقدم، قيل المراد بالعذاب هنا: الرجفة: وقيل: أمره سبحانه لهم بأن يقتلوا أنفسهم: أي ليس هذا إليك يا موسى، بل ما شئت كان، وما لم أشأ لم يكن. والظاهر أن العذاب هنا يندرج تحته كل عذاب ويدخل فيه عذاب هؤلاء دخولاً أولياً، وقيل: المراد من أشاء من المستحقين للعذاب أو من أشاء أن أضله وأسلبه التوفيق "ورحمتي وسعت كل شيء" من الأشياء من المكلفين وغيرهم، ثم أخبر سبحانه أنه سيكتب هذه الرحمة الواسعة "للذين يتقون" الذنوب "ويؤتون الزكاة" المفروضة عليهم "والذين هم بآياتنا يؤمنون" أي يصدقون بها ويذعنون لها.
ثم بين سبحانه هؤلاء الذين كتب لهم هذه الرحمة ببيان أوضح مما قبله وأصرح فقال: "الذين يتبعون الرسول النبي الأمي" وهو محمد عليه الصلاة والسلام، فخرجت اليهود والنصارى وسائر الملل. والأمي: إما نسبة إلى الأمة الأمية التي لا تكتب ولا تحسب: وهم العرب، أو نسبة إلى الأم. والمعنى أنه باق على حالته التي ولد عليها لا يكتب ولا يقرأ المكتوب، وقيل: نسبة إلى أم القرى، وهي مكة "الذي يجدونه" يعني اليهود والنصارى: أي يجدون نعته "مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل" وهما مرجعهم في الدين، وهذا الكلام منه سبحانه مع موسى قبل نزول الإنجيل فهو من باب الإخبار بما سيكون، ثم وصف هذا النبي الذي يجدونه كذلك بأنه يأمر بالمعروف: أي بكل ما تعرفه القلوب ولا تنكره من الأشياء التي هي من مكارم الأخلاق "وينهاهم عن المنكر" أي ما تنكره القلوب ولا تعرفه، وهو ما كان من مساوئ الأخلاق، قيل إن قوله: "يأمرهم بالمعروف" إلى قوله: "أولئك هم المفلحون" كلام يتضمن تفصيل أحكام الرحمة التي وعد بها ذكر معناه الزجاج، وقيل هو في محل نصب على الحال من النبي، وقيل هو مفسر لقوله: "مكتوباً". قوله: "يحل لهم الطيبات" أي المستلذات وقيل: يحل لهم ما حرم عليهم من الأشياء التي حرمت عليهم بسبب ذنوبهم "ويحرم عليهم الخبائث" أي المستخبئات كالحشرات والخنازير "ويضع عنهم إصرهم" الإصر الثقل: أي يضع عنهم التكاليف الشاقة الثقيلة. وقد تقدم بيانه في البقرة "والأغلال التي كانت عليهم" أي ويضع عنهم الأغلال التي كانت عليهم، الأغلال مستعارة للتكاليف الشاقة التي كانوا قد كلفوها "فالذين آمنوا به" أي بمحمد صلى الله عليه وسلم "واتبعوه" فيما جاء به من الشرائع "وعزروه" أي عظموه ووقروه، قاله الأخفش، وقيل: معناه منعوه من عدوه، وأصل العزر: المنع، وقرأ الجحدري "وعزروه" بالتخفيف "ونصروه" أي قاموا بنصره على من يعاديه "واتبعوا النور الذي أنزل معه" أي اتبعوا القرآن الذي أنزل عليه مع نبوته، وقيل المعنى: واتبعوا القرآن المنزل إليه مع اتباعه بالعمل بسنته مما يأمر به وينهى عنه، أو اتبعوا القرآن مصاحبين له في اتباعه، والإشارة بـ "أولئك" إلى المتصفين بهذه الأوصاف "هم المفلحون" الفائزون بالخير والفلاح لا غيرهم من الأمم. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "واختار موسى قومه" الآية. قال كان الله أمره أن يختار من قومه سبعين رجلاً، فاختار سبعين رجلاً فبرز بهم ليدعوا ربهم، فكان فيما دعوا الله أن قالوا: اللهم أعطنا ما لم تعط أحداً من قبلنا ولا تعطه أحداً بعدنا، فكره الله ذلك من دعائهم فأخذتهم الرجفة "قال" موسى " رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك " يقول: إن هي إلا عذابك تصيب به من تشاء وتصرفه عمن تشاء. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد "لميقاتنا" قال: لتمام الموعد وفي قوله: "فلما أخذتهم الرجفة" قال: ماتوا ثم أحياهم. وأخرج ابن أبي شيبة وأبو الشيخ عن أبي العالية في قوله: "إن هي إلا فتنتك" قال: بليتك. وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس "إن هي إلا فتنتك" قال: مشيئتك. وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن ابن عباس قال: إن السبعين الذين اختارهم موسى من قومه، إنما أخذتهم الرجفة، لأنهم لم يرضوا العمل ولم ينهوا عنه. وأخرج سعيد بن منصور عنه في قوله: "واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة" فلم يعطها موسى "قال عذابي أصيب به من أشاء" إلى قوله: "المفلحون". وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله: "واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة" قال: فكتب الرحمة يومئذ لهذه الأمة. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس في قوله: "إنا هدنا إليك" قال: تبنا إليك. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير مثله. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أبي وجزة السعدي، وكان من أعلم الناس بالعربية قال: لا والله ما أعلمها في كلام العرب هدنا، قيل: فكيف قال هدنا بكسر الهاء، يقول: ملنا. وأخرج عبد الرزاق وأحمد في الزهد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الحسن وقتادة في قوله: "ورحمتي وسعت كل شيء" قال: وسعت رحمته في الدنيا البر والفاجر. وهي يوم القيامة للذين اتقوا خاصة. وأخرج مسلم وغيره عن سلمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن لله مائة رحمة فمنها رحمة يتراحم بها الخلق وبها تعطف الوحوش على أولادها، وأخر تسعة وتسعين إلى يوم القيامة". وأخرج نحوه أحمد وأبو داود والطبراني والحاكم والضياء المقدسي من حديث جندب بن عبد الله العجلي. وأخرج أبو الشيخ عن السدي قال: لما نزلت "ورحمتي وسعت كل شيء" قال إبليس: وأنا من الشيء، فنسخها الله، فنزلت "فسأكتبها للذين يتقون" إلى آخر الآية. وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن جريج قال: لما نزلت "ورحمتي وسعت كل شيء" قال إبليس: أنا من الشيء، قال الله تعالى: "فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة" قالت اليهود: فنحن نتقي ونؤتي الزكاة، قال الله: "الذين يتبعون الرسول النبي الأمي" فعزلها الله عن إبليس وعن اليهود، وجعلها لأمة محمد صلى الله عليه وسلم. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ عن قتادة نحوه. وأخرج البزار في مسنده وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس قال: سأل موسى ربه مسألة فأعطاها محمداً صلى الله عليه وسلم. قوله: "واختار موسى قومه" إلى قوله: "فسأكتبها للذين يتقون" فأعطى محمداً كل شيء سأل موسى ربه في هذه الآية. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه في قوله: "فسأكتبها للذين يتقون" قال: كتبها الله لهذه الأمة. وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال: يتقون الشرك. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن النخعي في قوله: "النبي الأمي" قال: كان لا يقرأ ولا يكتب. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في الآية قال: هو نبيكم صلى الله عليه وسلم كان أمياً لا يكتب. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: "الذي يجدونه مكتوباً عندهم" قال: يجدون نعته وأمره ونبوته مكتوباً عندهم. وأخرج ابن سعد والبخاري وابن جرير والبيهقي في الدلائل عن عطاء بن يسار قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص، فقلت له: أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: أجل والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً، وحرزاً للأميين أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا تجزي بالسيئة السيئة، ولكن تعفو وتصفح، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله ويفتح به أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً. وأخرج ابن سعد والدارمي في مسنده والبيهقي في الدلائل وابن عساكر عن عبد الله بن سلام مثله. وقد روي نحو هذا مع اختلاف في بعض الألفاظ وزيادة في بعض ونقص في بعض عن جماعة. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله: "ويحل لهم الطيبات" قال: الحلال "ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم" قال: التثقيل الذي كان في دينهم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله: "ويحرم عليهم الخبائث" قال: كلحم الخنزير والربا وما كانوا يستحلونه من المحرمات من المآكل التي حرمها الله، وفي قوله: "ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم" قال: هو ما كان الله أخذ عليهم من الميثاق فيما حرم عليهم. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: "ويضع عنهم إصرهم" قال: ما غلظ على بني إسرائيل من قرض البول من جلودهم إذا أصابهم ونحوه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وعزروه" يعني: عظموه ووقروه.
لما تقدم ذكر أوصاف رسول الله صلى الله عليه وسلم المكتوبة في التوراة والإنجيل: أمره سبحانه أن يقول هذا القول المقتضي لعموم رسالته إلى الناس جميعاً لا كما كان غيره من الرسل عليهم السلام، فإنهم كانوا يبعثون إلى قومهم خاصة، وجميعاً منصوب على الحال: أي حال كونكم جميعاً، و "الذي له ملك السموات والأرض" إما في محل جر على الصفة للاسم الشريف أو منصوب على المدح، أو مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف، وجملة "لا إله إلا هو" بدل من الصلة مقرر لمضمونها مبين لها، لأن من ملك السموات والأرض وما فيهما هو الإله على الحقيقة، وهكذا من كان يحيي ويميت هو المستحق لتفرده بالربوبية ونفي الشركاء عنه، والأمر بالإيمان بالله وبرسوله متفرع على ما قبله، وقد تقدم تفسير النبي الأمي، وهما وصفان لرسوله، وكذلك "الذي يؤمن بالله وكلماته" وصف له، والمراد بالكلمات ما أنزله الله عليه وعلى الأنبياء من قبله أو القرآن فقط، وجملة "واتبعوه" مقررة لجملة "فآمنوا بالله"، و "لعلكم تهتدون" علة للأمر بالإيمان والاتباع. وقد أخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس قال: بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الأحمر والأسود فقال: "يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً" والأحاديث الصحيحة الكثيرة في هذا المعنى مشهورة فلا نطيل بذكرها. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "يؤمن بالله وكلماته" قال: آياته. وأخرج أبو عبيد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد "وكلماته" قال: عيسى.
قوله: 159- "ومن قوم موسى" لما قص الله علينا ما وقع من السامري وأصحابه وما حصل من بني إسرائيل من التزلزل في الدين: قص علينا سبحانه أن من قوم موسى أمة مخالفة لأولئك الذين تقدم ذكرهم، ووصفهم بأنهم "يهدون بالحق" أي يدعون الناس إلى الهداية حال كونهم متلبسين بالحق "وبه" أي بالحق "يعدلون" بين الناس في الحكم، وقيل: هم الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم منهم.
160- " وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطا " الضمير يرجع إلى قوم موسى المتقدم ذكرهم: لا إلى هؤلاء الأمة منهم الذين يهدون بالحق وبه يعدلون، والمعنى: صيرناهم قطعاً متفرقة وميزنا بعضهم من بعض، وهذا من جملة ما قصه الله علينا من النعم التي أنعم بها على بني إسرائيل والمعنى: أنه ميز بعضهم من بعض حتى صاروا أسباطاً كل سبط معروف على انفراده، لكل سبط نقيب كما في قوله تعالى: " وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا " وقد تقدم. وقوله: "اثنتي عشرة" هو ثاني مفعولي قطعنا لتضمنه معنى التصيير، وأسباطاً تمييز له أو بدل منه، أو "أمماً" نعت للأسباط أو بدل منه، والأسباط جمع سبط: وهو ولد الولد، صاروا اثنتي عشرة أمة من إثني عشر ولداً، وأراد بالأسباط القبائل، ولهذا أنث العدد كما في قول الشاعر: وإن قريشاً كلها عشر أبطن وأنت بريء من قبائلها العشر أراد بالبطن القبيلة، وقد تقدم تحقيق معنى الأسباط في البقرة، وروى المفضل عن عاصم أنه قرأ "قطعناهم" مخففاً، وسماهم أمماً، لأن كل سبط كان جماعة كثيرة العدد: وكانوا مختلفي الآراء يؤم بعضهم غير ما يؤمه الآخر "وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه" أي وقت استسقائهم له لما أصابهم العطش في التيه "أن اضرب بعصاك الحجر" تفسير لفعل الإيحاء "فانبجست" عطف على مقدر يدل عليه السياق: أي فضرب فانبجست، والانبجاس: الانفجار، أي فانفجرت "منه اثنتا عشرة عيناً" بعدد الأسباط لكل سبط عين يشربون منها "قد علم كل أناس مشربهم" أي كل سبط منهم العين المختصة به التي يشرب منها، وقد تقدم في البقرة ما فيه كفاية مغنية عن الإعادة "وظللنا عليهم الغمام" أي جعلناه ظللاً عليهم في التيه يسير بسيرهم ويقيم بإقامتهم "وأنزلنا عليهم المن والسلوى" أي الترنجبين والسماني كما تقدم تحقيقه في البقرة "كلوا من طيبات ما رزقناكم" أي وقلنا لهم: كلوا من المستلذات التي رزقناكم "وما ظلمونا" بما وقع منهم من المخالفة وكفران النعم وعدم تقريرها حق قدرها "ولكن كانوا أنفسهم يظلمون" أي كان ظلمهم مختصاً بهم مقصوراً عليهم لا يجاوزهم إلى غيرهم.
161- "وإذ قيل لهم" أي واذكر وقت قيل لهم هذا القول وهو "اسكنوا هذه القرية" أي بيت المقدس أو أريحاء، وقيل غير ذلك مما تقدم بيانه "وكلوا منها" أي من المأكولات الموجودة فيها "حيث شئتم" أي في أي مكان شئتم من أمكنتها لا مانع لكم من الأكل فيه "وقولوا حطة" قد تقدم تفسيرها في البقرة "وادخلوا الباب" أي باب القرية المتقدمة حال كونكم "سجداً" أمروا بأن يجمعوا بين قولهم حطة وبين الدخول ساجدين، فلا يقال: كيف قدم الأمر بالقول هنا على الدخول وأخره في البقرة؟ وقد تقدم بيان معنى السجود الذي أمروا به "نغفر لكم خطيئاتكم" جواب الأمر. وقرئ " خطيئاتكم " ثم وعدهم بقوله: "سنزيد المحسنين" أي سنزيدهم على المغفرة للخطايا بما يتفضل به عليهم من النعم، والجملة استئنافية جواب سؤال مقدر كأنه قيل: فماذا لهم بعد المغفرة؟
162- "فبدل الذين ظلموا منهم قولاً غير الذي قيل لهم" قد تقدم بيان ذلك في البقرة "فأرسلنا عليهم رجزاً من السماء" أي عذاباً كائناً منها "بما كانوا يظلمون" أي بسبب ظلمهم.
قوله: 163- "واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر" معطوف على عامل إذ المقدر: أي اذكر إذ قيل لهم واسألهم، وهذا سؤال تقريع وتوبيخ، والمراد من سؤال القرية: سؤال أهلها: أي اسألهم عن هذا الحادث الذي حدث لهم فيها المخالف لما أمرهم الله به. وفي ضمن هذا السؤال فائدة جليلة، وهي تعريف اليهود بأن ذلك مما يعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن اطلاعه لا يكون إلا بإخبار له من الله سبحانه، فيكون دليلاً على صدقه. واختلف أهل التفسير في هذه القرية: أي قرية هي؟ فقيل أيلة، وقيل طبرية، وقيل مدين، وقيل إيليا، وقيل قرية من قرى ساحل الشام التي كانت حاضرة البحر: أي التي كانت بقرب البحر، يقال كنت بحضرة الدار: أي بقربها. والمعنى: سل يا محمد هؤلاء اليهود الموجودين عن قصة أهل القرية المذكورة. قرئ واسألهم وقرئ سلهم "إذ يعدون" أي وقت يعدون وهو ظرف لمحذوف دل عليه الكلام لأن السؤال هو عن حالهم وقصتهم وقت يعدون، وقيل: إنه ظرف لكانت أو لحاضرة. وقرئ يعدون بضم الياء وكسر العين وتشديد الدال من الإعداء للآلة. وقرأ الجمهور يعدون بفتح الياء وسكون العين وضم الدال مخففة: أي يتجاوزون حدود الله بالصيد يوم السبت الذي نهوا عن الاصطياد فيه، وقرئ يعدون بفتح الياء والعين وضم الدال مشددة بمعنى يعتدون، أدغمت التاء في الدال. والسبت هو اليوم المعروف وأصله السكون، يقال: سبت إذا سكن وسبت اليهود تركوا العمل في سبتهم، والجمع أسبت، وسبوت، وأسبات وقرأ ابن السميفع في الأسبات على الجمع "إذ تأتيهم حيتانهم" ظرف ليعدون. والحيتان: جمع حوت وأضيفت إليهم لمزيد اختصاص لهم بما كان منها على هذه الصفة من الإتيان يوم السبت دون ما عداه، و "يوم سبتهم" ظرف لتأتيهم. وقرئ يوم أسباتهم و "شرعاً" حال، وهو جمع شارع: أي ظاهرة على الماء، وقيل رافعة رؤوسها، وقيل إنها كانت تشرع على أبوابها كالكباش البيض. قال في الكشاف: يقال: شرع علينا فلان إذا دنا منا وأشرف علينا، وشرعت على فلان في بيته فرأيته يفعل كذا انتهى "ويوم لا يسبتون لا تأتيهم" أي لا يفعلون السبت، وذلك عند خروج يوم السبت لا تأتيهم الحيتان، كما كانت تأتيهم في يوم السبت "كذلك نبلوهم" أي مثل ذلك البلاء العظيم نبلوهم بسبب فسقهم والابتلاء الامتحان والاختبار.
164- "وإذ قالت أمة" معطوف على إذ يعدون معمول لعامله داخل في حكمه، والأمة الجماعة: أي قالت جماعة من صلحاء أهل القرية لآخرين ممن كان يجتهد في وعظ المتعدين في السبت حين أيسوا من قبولهم للموعظة، وإقلاعهم عن المعصية "لم تعظون قوماً الله مهلكهم" أي مستأمل لهم بالعقوبة "أو معذبهم عذاباً شديداً" بما انتهكوا من الحرمة وفعلوا من المعصية، وقيل: إن الجماعة القائلة لم تعظون قوماً؟ هم العصاة الفاعلون للصيد في يوم السبت، قالوا ذلك للواعظين لهم حين وعظوهم. والمعنى: إذا علمتم أن الله مهلكنا كما تزعمون فلم تعظوننا "قالوا معذرة إلى ربكم" أي قال الواعظون للجماعة القائلين لهم لم تعظون، وهم طائفة من صلحاء القرية على الوجه الأول، أو الفاعلين على الوجه الثاني "معذرة إلى ربكم" قرأ عيسى بن عمر وطلحة بن مصرف "معذرة" بالنصب، وهي قراءة حفص عن عاصم، وقرأ الباقون بالرفع. قال الكسائي: ونصبه على وجهين: أحدهما على المصدر، والثاني على تقدير فعلنا ذلك معذرة: أي لأجل المعذرة. والرفع على تقدير مبتدأ: أي موعظتنا معذرة إلى الله حتى لا يؤاخذنا بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اللذين أوجبهما علينا، ولرجاء أن يتعظوا فيتقوا ويقلعوا عما هم فيه من المعصية. قال جمهور المفسرين: إن بني إسرائيل افترقت ثلاث فرق: فرقة عصت وصادت وكانت نحو سبعين ألفاً، وفرقة اعتزلت فلم تنه ولم تعص، وفرقة اعتزلت ونهت ولم تعص، فقالت الطائفة التي لم تنه ولم تعص للفرقة الناهية "لم تعظون قوماً" يريدون الفرقة العاصية "الله مهلكهم أو معذبهم" قالوا ذلك على غلبة الظن لما جرت به عادة الله من إهلاك العصاة أو تعذيبهم من دون استئصال بالهلاك، فقالت الناهية موعظتنا معذرة إلى الله ولعلهم يتقون ولو كانوا فرقتين فقط ناهية غير عاصية، وعاصية لقال: لعلكم تتقون.
قوله: 165- "فلما نسوا ما ذكروا به" أي لما ترك العصاة من أهل القرية ما ذكرهم به الصالحون الناهون عن المنكر ترك الناسي للشيء المعرض عنه كلية الإعراض "أنجينا الذين ينهون عن السوء" أي الذين فعلوا النهي، ولم يتركوه "وأخذنا الذين ظلموا" وهم العصاة المعتدون في السبت "بعذاب بئيس" أي شديد من بؤس الشيء يبؤس بأساً إذا اشتد، وفيه إحدى عشرة قراءة للسبعة وغيرهم "بما كانوا يفسقون" أي بسبب فسقهم والجار والمجرور متعلق بأخذنا.
166- " فلما عتوا عن ما نهوا عنه " أي تجاوزوا الحد في معصية الله سبحانه تمرداً وتكبراً "قلنا لهم كونوا قردة" أي أمرناهم أمراً كونياً لا أمراً قولياً: أي مسخناهم قردة، قيل: إنه سبحانه عذبهم أولاً بسبب المعصية فلما لم يقلعوا مسخهم قردة، وقيل إن قوله: " فلما عتوا عن ما نهوا عنه " تكرير لقوله: "فلما نسوا ما ذكروا به" للتأكيد والتقرير، وأن المسخ هو العذاب البيس، والخاسئ الصاغر الذليل أو المباعد المطرود، يقال: خسأته فخسئ: أي باعدته فتباعد. واعلم أن ظاهر النظم القرآني هو أنه لم ينج من العذاب إلا الفرقة الناهية التي لم تعص لقوله: "أنجينا الذين ينهون عن السوء" وأنه لم يعذب بالمسخ إلا الطائفة العاصية لقوله: "فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين" فإن كانت الطوائف منهم ثلاثاً كما تقدم فالطائفة التي لم تنه ولم تعص يحتمل أنها ممسوخة مع الطائفة العاصية لأنها قد ظلمت نفسها بالسكوت عن النهي وعتت عما نهاها الله عنه من ترك النهي عن المنكر، ويحتمل أنها لم تمسخ لأنها وإن كانت ظالمة لنفسها عاتية عن أمر ربها ونهيه لكنها لم تظلم نفسها بهذه المعصية الخاصة، وهي صيد الحوت في يوم السبت، ولا عتت عن نهيه لها عن الصيد، وأما إذا كانت الطائفة الثالثة ناهية كالطائفة الثانية، وإنما جعلت طائفة مستقلة لكونها قد جرت المقاولة بينها وبين الطائفة الأخرى من الناهين المعتزلين فهما في الحقيقة طائفة واحدة لاجتماعهما في النهي والاعتزال والنجاة من المسخ. وقد أخرج الفريابي وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: قال موسى: يا رب أجد أمة أناجيلهم في قلوبهم، قال: تلك أمة تكون بعدك: أمة أحمد، قال: يا رب أجد أمة يعطون صدقات أموالهم ثم ترجع فيهم فيأكلون، قال: تلك بعدك: أمة أحمد، قال: يا رب اجعلني من أمة أحمد، فأنزل الله كهيئة المرضاة لموسى "ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن جريج في قوله: "ومن قوم موسى أمة" الآية، قال: بلغني أن بني إسرائيل لما قتلوا أنبياءهم وكفروا وكانوا إثني عشر سبطاً، تبرأ سبط منهم مما صنعوا واعتذروا وسألوا الله أن يفرق بينهم وبينهم ففتح الله لهم نفقاً في الأرض فساروا فيه حتى خرجوا من وراء الصين فهم هنالك حنفاء مسلمين يستقبلون قبلتنا. قال ابن جريج: قال ابن عباس: فذلك قوله: "وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفاً" ووعد الآخرة عيسى ابن مريم. قال ابن عباس ساروا في السرب سنة ونصفاً. أقول: ومثل هذا الخبر العجيب والنبأ الغريب محتاج إلى تصحيح النقل. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن علي بن أبي طالب قال: افترقت بنو إسرائيل بعد موسى إحدى وسبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة، وافترقت النصارى بعد عيسى على اثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة، ولتفترقن هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة، فأما اليهود فإن الله يقول: "ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون" فهذه التي تنجو، وأما النصارى فإن الله يقول: "منهم أمة مقتصدة" فهذه التي تنجو، وأما نحن فيقول: "وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون" فهذه التي تنجو من هذه الأمة. وقد قدمنا أن زيادة كلها في النار لم تصح لا مرفوعة ولا موقوفة. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "فانبجست" قال: فانفجرت. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عكرمة قال: دخلت على ابن عباس، وهو يقرأ هذه الآية "واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر" قال: يا عكرمة هل تدري أي قرية هذه؟ قلت: لا، قال: هي أيلة. وأخرج ابن أبي حاتم عن الزهري قال: هي طبرية. وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "إذ يعدون في السبت" قال: يظلمون. وأخرج ابن جرير عنه في قوله: "شرعاً" يقول: من كل مكان. وأخرج ابن جرير عنه أيضاً قال: ظاهرة على الماء. وأخرج ابن المنذر عنه قال: واردة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في الآية قال: هي قرية على شاطئ البحر بين مصر والمدينة يقال لها: أيلة، فحرم الله عليهم الحيتان يوم سبتهم فكانت تأتيهم يوم سبتهم شرعاً في ساحل البحر فإذا مضى يوم السبت لم يقدروا عليها، فمكثوا كذلك ما شاء الله، ثم إن طائفة منهم أخذوا الحيتان يوم سبتهم فنهتهم طائفة فلم يزدادوا إلا غياً. فقالت طائفة من النهاة يعلمون أن هؤلاء قوم حق عليهم العذاب "لم تعظون قوماً الله مهلكهم" وكانوا أشد غضباً من الطائفة الأخرى وكل قد كانوا ينهون، فلما وقع عليهم غضب الله نجت الطائفتان اللتان قالوا: "لم تعظون" والذين قالوا: "معذرة إلى ربكم" وأهلك الله أهل معصيته الذين أخذوا الحيتان فجعلهم قردة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه أنهم ثلاث فرق: فرقة العصاة، وفرقة الناهون، وفرقة القائلون لم تعظون، فما نجا إلا الذين نهوا وهلك سائرهم، فأصبح الذين نهوا ذات غداة في مجالسهم يتفقدون الناس لا يرونهم، وقد باتوا من ليلتهم وغلقوا عليهم دورهم، فجعلوا يقولون إن للناس لشأناً فانظروا ما شأنهم؟ فاطلعوا في دورهم فإذا القوم قد مسخوا يعرفون الرجل بعينه وإنه لقرد، والمرأة بعينها وإنها لقردة. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن عكرمة عن ابن عباس فذكر القصة، وفي آخرها أنه قال: فأرى الذين نهوا قد نجوا ولا أرى الآخرين ذكروا، ونحن نرى أشياء ننكرها ولا نقول فيها. قال عكرمة: فقلت: جعلني الله فداك ألا ترى أنهم قد كرهوا ما هم عليه وخالفوهم، وقالوا: "لم تعظون قوماً الله مهلكهم" قال: فأمر بي فكسيت ثوبين غليظين. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس أيضاً قال: نجا الناهون وهلك الفاعلون، ولا أدري ما صنع بالساكتين. وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عنه قال: والله لأن أكون علمت أن القوم الذين قالوا: "لم تعظون قوماً" نجوا من الذين نهوا عن السوء أحب إلي مما عدل به. وفي لفظ: من حمر النعم. ولكن أخاف أن تكون العقوبة نزلت بهم جميعاً. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن عكرمة قال: قال ابن عباس: ما أدري أنجا الذين قالوا: "لم تعظون قوماً الله مهلكهم" أم لا؟ قال: فما زلت أبصره حتى عرف أنهم قد نجوا فكساني حلة. وأخرج عبد بن حميد عن ليث بن أبي سليم قال: مسخوا حجارة الذين قالوا: "لم تعظون قوماً الله مهلكهم". وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن ابن عباس في قوله: " بعذاب بئيس " قال: أليم وجيع.
قوله: 167- "وإذ تأذن ربك" معطوف على ما قبله: أي واسألهم وقت تأذن ربك وتأذن تفعل من الإيذان، وهو الإعلام. قال أبو علي الفارسي: آذن بالمد أعلم، وأذن بالتشديد نادى. وقال قوم: كلاهما بمعنى أعلم كما يقال: أيقن وتيقن. والمعنى في الآية: واسألهم وقت أن وقع الإعلام لهم من ربك "ليبعثن عليهم" قيل: وفي هذا الفعل معنى القسم كعلم الله وشهد الله ولذلك أجيب بما يجاب به القسم حيث قال: "ليبعثن عليهم" أي ليرسلن عليهم ويسلطن كقوله: "بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد" "إلى يوم القيامة" غاية لسومهم سوء العذاب ممن يبعثه الله عليهم وقد كانوا أقماهم الله هكذا أذلاء مستضعفين معذبين بأيدي أهل الملل، وهكذا هم في هذه الملة الإسلامية في كل قطر من أقطار الأرض في الذلة المضروبة عليهم والعذاب والصغار، يسلمون الجزية بحقن دمائهم ويمتهنهم المسلمون فيما فيه ذلة من الأعمال التي يتنزه عنها غيرهم من طوائف الكفار. ومعنى "يسومهم" يذيقهم، وقد تقدم بيان أصل معناه، ثم علل ذلك بقوله: "إن ربك لسريع العقاب" يعاجل به في الدنيا كما وقع لهؤلاء "وإنه لغفور رحيم" أي كثير الغفران والرحمة.
168- "وقطعناهم في الأرض" أي فرقناهم في جوانبها، أو شتتنا أمرهم فلم تجتمع لهم كلمة، و "أمماً" منتصب على الحال أو مفعول ثان لقطعنا على تضمينه معنى صيرنا، وجملة "منهم الصالحون" بدل من أمماً، قيل: هم الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، ومن مات قبل البعثة المحمدية غير مبدل، وقيل: هم الذين سكنوا وراء الصين كما تقدم بيانه قبل هذا "ومنهم دون ذلك" أي دون هذا الوصف الذي اتصفت به الطائفة الأولى وهو الصلاح، ومحل "دون ذلك" الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، والتقدير: ومنهم أناس دون ذلك، والمراد بهؤلاء هم من لم يؤمن، بل انهمك في المخالفة لما أمره الله به. قال النحاس "دون" منصوب على الظرف ولا نعلم أحداً رفعه "وبلوناهم بالحسنات والسيئات" أي امتحناهم بالخير والشر رجاء أن يرجعوا مما هم من الكفر والمعاصي.
169- "فخلف من بعدهم خلف" المراد بهم أولاد الذين قطعهم الله في الأرض. قال أبو حاتم: الخلف بسكون اللام الأولاد، الواحد والجمع سواء. والخلف بفتح اللام البدل ولداً كان أو غيره. وقال ابن الأعرابي: الخلف بالفتح الصالح، وبالسكون الطالح. قال لبيد: ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيت في خلف كجلد الأجرب ومنه قيل للرديء من الكلام خلف بالسكون، وقد يستعمل كل واحد منهما موضع الآخر، ومنه قول حسان بن ثابت: لنا القدم الأولى إليك وخلفنا لأولنا في طاعة الله تابع "ورثوا الكتاب" أي التوراة من أسلافهم يقرأونها ولا يعملون بها "يأخذون عرض هذا الأدنى" أخبر الله عنهم بأنهم يأخذون ما يعرض لهم من متاع الدنيا لشدة حرصهم وقوة نهمتهم، والأدنى مأخوذ من الدنو، وهو القرب: أي يأخذون عرض هذا الشيء الأدنى، وهو الدنيا يتعجلون مصالحها بالرشاء وما هو مجعول لهم من السحت في مقابلة تحريفهم لكلمات الله، وتهوينهم للعمل بأحكام التوراة وكتمهم لما يكتمونه منها، وقيل: إن الأدنى مأخوذ من الدناءة والسقوط: أي إنهم يأخذون عرض الشيء الدنيء السابق "ويقولون سيغفر لنا" أي يعللون أنفسهم بالمغفرة مع تماديهم في الضلالة وعدم رجوعهم إلى الحق، وجملة "يأخذون" يحتمل أن تكون مستأنفة لبيان حالهم أو في محل نصب على الحال، وجملة "يقولون" معطوفة عليها، والمراد بهذا الكلام: التقريع والتوبيخ لهم، وجملة " وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه " في محل نصب على الحال: أي يتعللون بالمغفرة، والحال أنهم إذا أتاهم عرض مثل العرض الذي كانوا يأخذونه أخذوه غير مبالين بالعقوبة ولا خائفين من التبعة، وقيل: الضمير في "يأتيهم" ليهود المدينة: أي وإن يأت هؤلاء اليهود الذين هم في عصر محمد صلى الله عليه وسلم عرض مثل العرض الذي كان يأخذه أسلافهم أخذوه كما أخذه أسلافهم "ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب" أي التوراة "أن لا يقولوا على الله إلا الحق" والاستفهام للتقريع والتوبيخ، وجملة "ودرسوا ما فيه" معطوفة على "يؤخذ" على المعنى، وقيل على "ورثوا الكتاب"، والأولى أن تكون في محل نصب على الحال بتقدير قد. والمعنى: أنهم تركوا العمل بالميثاق المأخوذ عليهم في الكتاب، والحال أن قد درسوا ما في الكتاب وعلموه فكان الترك منهم عن علم لا عن جهل، وذلك أشد ذنباً وأعظم جرماً. وقيل: معنى "درسوا ما فيه" أي محوه بترك العمل به والفهم له، من قولهم درست الريح الآثار: إذا محتها "والدار الآخرة خير" من ذلك العرض الذي أخذوه وآثروه عليها "للذين يتقون" اله ويجتنبون معاصيه "أفلا تعقلون" فتعلمون بهذا وتفهمونه، وفي هذا من التوبيخ والتقريع ما لا يقادر قدره.
قوله: 170- "والذين يمسكون بالكتاب" قرأ الجمهور يمسكون بالتشديد من مسك وتمسك: أي استمسك بالكتاب وهو التوراة. وقرأ أبو العالية وعاصم في رواية أبي بكر بالتخفيف من أمسك يمسك. وروي عن أبي بن كعب أنه قرأ مسكوا والمعنى: أن طائفة من أهل الكتاب لا يتمسكون بالكتاب ولا يعملون بما فيه مع كونهم قد درسوه وعرفوه وهم من تقدم ذكره، وطائفة يتمسكون بالكتاب: أي التوراة ويعملون بما فيه ويرجعون إليه في أمر دينهم فهم المحسنون الذين لا يضيع أجرهم عند الله، والموصول مبتدأ، و "إنا لا نضيع أجر المصلحين" خبره: أي لا نضيع أجر المصلحين منهم، وإنما وقع التنصيص على الصلاة مع كونها داخلة في سائر العبادات التي يفعلها المتمسكون بالتوراة لأنها رأس العبادات وأعظمها، فكان ذلك وجهاً لتخصيصها بالذكر، وقيل: لأنها تقام في أوقات مخصوصة، والتمسك بالكتاب مستمر فذكرت لهذا، وفيه نظر. فإن كل عبادة في الغالب تختص بوقت معين، ويجوز أن يكون الموصول معطوفاً على الموصول الذي قبله وهو للذين يتقون، ولكون "أفلا تعقلون" جملة معترضة. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "يسومهم سوء العذاب" قال: محمد وأمته إلى يوم القيامة، وسوء العذاب: الجزية. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه قال: "سوء العذاب" الخراج، وفي قوله: "وقطعناهم" قال: هم اليهود بسطهم الله في الأرض فليس منها بقعة إلا وفيها عصابة منهم وطائفة. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في قوله: "ليبعثن عليهم" قال: على اليهود والنصارى "إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب" فبعث الله عليهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم يأخذون منهم الجزية وهم صاغرون "وقطعناهم في الأرض أمماً" قال: يهود "منهم الصالحون" وهم مسلمة أهل الكتاب "ومنهم دون ذلك" قال: اليهود "وبلوناهم بالحسنات" قال: الرخاء والعافية "والسيئات" قال: البلاء والعقوبة. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس "وبلوناهم بالحسنات والسيئات" بالخصب والجدب. وأخرج أبو الشيخ عنه أنه سئل عن هذه الآية "فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى" قال: أقوام يقبلون على الدنيا فيأكلونها ويتبعون رخص القرآن "ويقولون سيغفر لنا" ولا يعرض لهم شيء من الدنيا إلا أخذوه. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "فخلف من بعدهم خلف" قال: النصارى "يأخذون عرض هذا الأدنى" قال: ما أشرف لهم من شيء من الدنيا حلالاً أو حراماً يشتهونه أخذوه ويتمنون المغفرة، وإن يجدوا الغد مثله يأخذوه. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس "فخلف من بعدهم خلف" الآية يقول: يأخذون ما أصابوا ويتركون ما شاءوا من حلال أو حرام "ويقولون سيغفر لنا". وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق" فيما يوجبون على الله من غفران ذنوبهم التي لا يزالون يعودون إليها ولا يتوبون منها. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي زيد في قوله: "ودرسوا ما فيه" قال: علموا ما في الكتاب لم يأتوه بجهالة. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الحسن في قوله: "والذين يمسكون بالكتاب" قال: هي لأهل الإيمان منهم. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "والذين يمسكون بالكتاب" قال: من اليهود والنصارى.
قوله: 171- "وإذ" منصوب بفعل مقدر معطوف على ما قبله: أي واسألهم إذ نتقنا الجبل: أي رفعنا الجبل "فوقهم" و "كأنه ظلة" أي كأنه لارتفاعه سحابة تظلهم، والظلة: اسم لكل ما أظل، وقرئ طلة بالطاء من أطل عليه إذا أشرف "وظنوا أنه واقع بهم" أي ساقط عليهم. قيل: الظن هنا بمعنى العلم، وقيل: هو على بابه "خذوا ما آتيناكم بقوة" هو على تقدير القول: أي وقلنا لهم خذوا، والقوة: الجد والعزيمة: أي أخذاً كائناً بقوة "واذكروا ما فيه" من الأحكام التي شرعها الله لكم ولا تنسوه "لعلكم تتقون" رجاء أن تتقوا ما نهيتهم عنه وتعملوا بما أمرتم به، وقد تقدم تفسير ما هنا في البقرة مستوفى فلا نعده. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وإذ نتقنا الجبل" يقول: رفعناه، وهو قوله: "ورفعنا فوقهم الطور" فقال: "خذوا ما آتيناكم بقوة" وإلا أرسلته عليكم. وأخرج ابن أبي حاتم عنه في الآية قال: رفعته الملائكة فوق رؤوسهم، فقيل لهم: "خذوا ما آتيناكم بقوة" فكانوا إذا نظروا إلى الجبل قالوا: سمعنا وأطعنا، وإذا نظروا إلى الكتاب قالوا: سمعنا وعصينا. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه أيضاً قال: إني لأعلم لم تسجد اليهود على حرف قال الله: "وإذ نتقنا الجبل فوقهم" قال: لتأخذن أمري أو لأرمينكم به، فسجدوا وهم ينظرون إليه مخافة أن يسقط عليهم، وكانت سجدة رضيها الله سبحانه فاتخذوها سنة. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة "وإذ نتقنا الجبل" قال: انتزعه الله من أصله، ثم جعله فوق رؤوسهم، ثم قال: لتأخذن أمري أو لأرمينكم به.
قوله: 172- "وإذ" منصوب بفعل مقدر معطوف على ما قبله كما تقدم. قوله: "من بني آدم" استدل بهذا على أن المراد بالمأخوذين هنا: هم ذرية بني آدم، أخرجهم الله من أصلابهم نسلاً بعد نسل. وقد ذهب إلى هذا جماعة من المفسرين، قالوا: ومعنى "أشهدهم على أنفسهم" دلهم بخلقه على أنه خالقهم فقامت هذه الدلالة مقام الإشهاد، فتكون هذه الآية من باب التمثيل كما في قوله تعالى: "فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين". وقيل المعنى: أن الله سبحانه أخرج الأرواح قبل خلق الأجساد، وأنه جعل فيها من المعرفة ما فهمت من خطابه سبحانه، وقيل المراد ببني آدم هنا: آدم نفسه كما وقع في غير هذا الموضع. والمعنى: أن الله سبحانه لما خلق آدم مسح ظهره فاستخرج منه ذريته وأخذ عليهم العهد، وهؤلاء هم عالم الذر، وهذا هو الحق الذي لا ينبغي العدول عنه ولا المصير إلى غيره لثبوته مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم وموقوفاً على غيره من الصحابة ولا ملجئ للمصير إلى المجاز، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل، وسنذكر آخر هذا البحث إن شاء الله بعض ما ورد في ذلك. قوله: "من ظهورهم" هو بدل من بني آدم بدل بعض من كل، وقيل: بدل اشتمال قوله: "ذرياتهم"، قرأ الكوفيون وابن كثير "ذريتهم" بالتوحيد، وهي تقع على الواحد والجمع، وقرأ الباقون "ذرياتهم" بالجمع "وأشهدهم على أنفسهم" أي أشهد كل واحد منهم "ألست بربكم" أي قائلاً: ألست بربكم فهو على إرادة القول "قالوا بلى شهدنا" أي على أنفسنا بأنك ربنا. قوله: "أن تقولوا"، قرأ أبو عمرو بالياء التحتية في هذا. وفي قوله: " أن يقولوا " على الغيبة كما كان فيما قبله على الغيبة، وقرأ الباقون بالفوقية على الخطاب. والمعنى: كراهة أن يقولوا أو لئلا يقولوا: أي فعلنا ذلك الأخذ والإشهاد كراهة أن يقولوا: "يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين" أي عن كون الله ربنا وحده لا شريك له.
قوله: 173- "أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل" معطوف على "تقولوا" الأول أي فعلنا ذلك كراهة أن تعتذروا بالغفلة أو تنسبوا الشرك إلى آبائكم دونكم، و "أو" لمنع الخلو دون الجمع، فقد يعتذرون بمجموع الأمرين "من قبل" أي من قبل زماننا "وكنا ذرية من بعدهم" لا نهتدي إلى الحق ولا نعرف الصواب "أفتهلكنا بما فعل المبطلون" من آبائنا ولا ذنب لنا لجهلنا وعجزنا عن النظر واقتفائنا آثار سلفنا بين الله سبحانه في هذه الحكمة التي لأجلها أخرجهم من ظهر آدم وأشهدهم على أنفسهم، وأنه فعل ذلك بهم لئلا يقولوا هذه المقالة يوم القيامة، ويعتلوا بهذه العلة الباطلة ويعتذروا بهذه المعذرة الساقطة.
174- "وكذلك" أي ومثل ذلك التفصيل "نفصل الآيات ولعلهم يرجعون" إلى الحق ويتركون ما هم عليه من الباطل. وقد أخرج مالك في الموطأ وأحمد في المسند وعبد بن حميد والبخاري في تاريخه، وأبو داود والترمذي وحسنه والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان في صحيحه، وأبو الشيخ والحاكم وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات، والضياء في المختارة: أن عمر بن الخطاب سئل عن هذه الآية "وإذ أخذ ربك" الآية فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عنها فقال: "إن الله خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون، فقال رجل: يا رسول الله ففيم العمل؟ فقال: إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله به الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله النار". وأخرج أحمد والنسائي وابن جرير والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم بنعمان يوم عرفة، فأخرج من صلبه كل ذرية ذراها فنشرها بين يديه، ثم كلمهم فقال: "ألست بربكم؟ قالوا بلى شهدنا" إلى قوله: "المبطلون"" وإسناده لا مطعن فيه. وقد أخرجه ابن أبي حاتم موقوفاً على ابن عباس. وأخرج ابن جرير وابن منده في كتاب الرد على الجهمية عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم، قال: أخذهم من ظهره كما يؤخذ المشط من الرأس، فقال لهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى، قالت الملائكة: شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين" وفي إسناده أحمد بن أبي ظيبة أبو محمد الجرجاني قاضي قومس كان أحد الزهاد. وأخرج له النسائي في سننه. وقال أبو حاتم الرازي: يكتب حديثه. وقال ابن عدي: حدث بأحاديث كثيرة غرائب. وقد روى هذا الحديث عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان الثوري عن منصور عن مجاهد عن عبد الله بن عمر، وهؤلاء أئمة ثقات. وأخرج عبد بن حميد والحكيم الترمذي في نوادر الأصول والطبراني وأبو الشيخ في العظمة وابن مردويه عن أبي أمامة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لما خلق الله الخلق وقضى القضية وأخذ ميثاق النبيين وعرشه على الماء، فأخذ أهل اليمين بيمينه وأخذ أهل الشمال بيده الأخرى وكلتا يدي الرحمن يمين، فقال: يا أصحاب اليمين، فاستجابوا له فقالوا: لبيك ربنا وسعديك، قال: ألست بربكم قالوا: بلى" الحديث والأحاديث في هذا الباب كثيرة بعضها مقيد بتفسير هذه الآية، وبعضها مطلق يشتمل على ذكر إخراج ذرية آدم من ظهره، وأخذ العهد عليهم كما في حديث أنس مرفوعاً في الصحيحين وغيرهما. وأما المروي عن الصحابة في تفسير هذه الآية بإخراج ذرية آدم من صلبه في عالم الذر وأخذ العهد عليهم وإشهادهم على أنفسهم فهي كثيرة، منها عن ابن عباس عند عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في قوله: "وإذ أخذ ربك من بني آدم" الآية قال: خلق الله آدم وأخذ ميثاقه أنه ربه وكتب أجله ورزقه، ثم أخرج ولده من ظهره كهيئة الذر، فأخذ مواثيقهم أنه ربهم وكتب آجالهم وأرزاقهم ومصيباتهم. وأخرج نحوه عنه ابن جرير وابن أبي حاتم. وأخرج نحوه عنه أيضاً ابن جرير وابن المنذر. وأخرج نحوه عنه عبد الرزاق وابن المنذر. وأخرج نحوه عنه عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن منده، وهذا المعنى مروي عنه من طرق كثيرة غير هذه موقوفة عليه. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عبد الله بن عمر في قوله: "وإذ أخذ ربك من بني آدم" الآية قال: أخذهم كما يأخذ المشط من الرأس. وأخرج ابن عبد البر في التمهيد عن ابن مسعود وناس من الصحابة في تفسير الآية نحوه. وأخرج عبد بن حميد وعبد الله بن أحمد بن حنبل في رواية المسند وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن منده وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات والضياء في المختارة وابن عساكر في تاريخه عن أبي بن كعب في قوله: "وإذ أخذ ربك من بني آدم" الآية قال: جمعهم جميعاً فجعلهم أرواحاً في صورهم، ثم استنطقهم فتكلموا، ثم أخذ عليهم العهد والميثاق، ثم أشهدهم على أنفسهم. وقد روي عن جماعة ممن بعد الصحابة تفسير هذه الآية بإخراج ذرية آدم من ظهره، وفيما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم في تفسيرها مما قدمنا ذكره ما يغني عن التطويل.
قوله: 175- "واتل" معطوف على الأفعال المقدرة في القصص السابقة: وإيراد هذه القصة منه سبحانه وتذكير أهل الكتاب بها لأنها كانت مذكورة عندهم في التوراة. وقد اختلف في هذا الذي أوتي الآيات "فانسلخ منها" فقيل: هو بلعم بن باعوراء، وكان قد حفظ بعض الكتب المنزلة، وقيل: كان قد أوتي النبوة وكان مجاب الدعوة، بعثه الله إلى مدين يدعوهم إلى الإيمان، فأعطوه الأعطية الواسعة فاتبع دينهم وترك ما بعث به، فلما أقبل موسى في بني إسرائيل لقتال الجبارين، سأل الجبارون بلعم بن باعوراء أن يدعو على موسى، فقام ليدعو عليه فتحول لسانه بالدعاء على أصحابه، فقيل له في ذلك فقال: لا أقدر على أكثر مما تسمعون، واندلع لسانه على صدره فقال: قد ذهبت مني الآن الدنيا والآخرة فلم يبق إلا المكر والخديعة والحيلة وسأمكر لكم، وإني أرى أن تخرجوا إليهم فتياتكم فإن الله يبغض الزنا، فإن وقعوا فيه هلكوا، فوقع بنو إسرائيل في الزنا، فأرسل الله عليهم الطاعون فمات منهم سبعون ألفاً، وقيل: إن هذا الرجل اسمه باعم وهو من بني إسرائيل، وقيل: المراد به أمية بن أبي الصلت الثقفي، وكان قد قرأ الكتب وعلم أن الله مرسل رسولاً في ذلك، فلما أرسل الله محمداً صلى الله عليه وسلم حسده وكفر به، وقيل: هو أبو عامر بن صيفي وكان يلبس المسوح في الجاهلية، فكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: نزلت في قريش آتاهم الله آياته التي أنزلها على محمد صلى الله عليه وسلم فكفروا بها، وقيل: نزلت في اليهود والنصارى انتظروا خروج محمد صلى الله عليه وسلم فكفروا به. قوله: "فانسلخ منها" أي من هذه الآيات التي أوتيها كما تنسلخ الشاة عن جلدها فلم يبق له بها اتصال "فأتبعه الشيطان" عند انسلاخه عن الآيات: أي لحقه فأدركه وصار قريناً له، أو فأتبعه خطواته، وقرئ فاتبعه بالتشديد بمعنى تبعه "فكان من الغاوين" المتمكنين في الغواية وهم الكفار.
قوله: 176- "ولو شئنا لرفعناه بها" الضمير يعود إلى الذي أوتي الآيات، والمعنى: لو شئنا رفعه: بما آتيناه من الآيات لرفعناه بها: أي بسببها، ولكن لم نشأ ذلك لانسلاخه عنها وتركه للعمل بها، وقيل المعنى: ولو شئنا لأمتناه قبل أن يعصي فرفعناه إلى الجنة بها: أي بالعمل بها "ولكنه أخلد إلى الأرض" أصل الإخلاد اللزوم، يقال: أخلد فلان بالمكان إذا أقام به ولزمه، والمعنى هنا: أنه مال إلى الدنيا ورغب فيها وآثرها على الآخرة "واتبع هواه" أي اتبع ما يهواه وترك العمل بما يقتضيه العلم الذي علمه الله وهو حطام الدنيا، وقيل: كان هواه مع الكفار، وقيل: اتبع رضا زوجته، وكانت هي التي حملته على الانسلاخ من آيات الله. قوله: "فمثله كمثل الكلب" أي فصار لما انسلخ عن الآيات ولم يعمل بها منحطاً إلى أسفل رتبة مشابهاً لأخس الحيوانات في الدناءة مماثلاً له في أقبح أوصافه، وهو أنه يلهث في كلا حالتي قصد الإنسان له وتركه، فهو لاهث سواء زجر أو ترك، طرد أو لم يطرد، شد عليه أو لم يشد عليه، وليس بعد هذا في الخسة والدناءة شيء، وجملة "إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث" في محل نصب على الحال: أي مثله كمثل الكلب حال كونه متصفاً بهذه الصفة، والمعنى: أن هذا المنسلخ عن الآيات لا يرعوي عن المعصية في جميع أحواله سواء وعظه الواعظ وذكره المذكر وزجره الزاجر أو لم يقع شيء من ذلك. قال القتيبي: كل شيء يلهث فإنما يلهث من إعياء أو عطش، إلا الكلب فإنه يلهث في حال الكلال، وحال الراحة وحال المرض، وحال الصحة، وحال الري، وحال العطش، فضربه الله مثلا لمن كذب بآياته، فقال: إن وعظته ضل وإن تركته ضل، فهو كالكلب إن تركته لهث وإن طردته لهث كقوله تعالى: "وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون" واللهث: إخراج اللسان لتعب أو عطش أو غير ذلك. قال الجوهري: لهث الكلب بالفتح يلهث لهثاً ولهاثاً بالضم إذا أخرج لسانه من التعب أو العطش، وكذلك الرجل إذا أعيا. قيل معنى الآية: أنك إذا حملت على الكلب نبح وولى هارباً، وإن تركته شد عليك ونبح، فيتعب نفسه مقبلاً علي ومدبراً عنك، فيعتريه عند ذلك ما يعتريه عند العطش من إخراج اللسان، والإشارة بقوله ذلك إلى ما تقدم من التمثيل بتلك الحالة الخسيسة. وهو مبتدأ وخبره "مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا" أي ذلك المثل الخسيس مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا من اليهود بعد أن علموا بها وعرفوها فحرفوا وبدلوا وكتموا صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبوا بها "فاقصص القصص" أي فاقصص عليهم هذا القصص الذي هو صفة الرجل المنسلخ عن الآيات فإن مثله المذكور كمثل هؤلاء القوم المكذبين من اليهود الذي تقص عليهم "لعلهم يتفكرون" في ذلك ويعملون فيه أفهامهم فينزجرون عن الضلال ويقبلون على الصواب.
قوله: 177- "ساء مثلاً القوم الذين كذبوا بآياتنا" هذه الجملة متضمنة لبيان حال هؤلاء القوم البالغة في القبح إلى الغاية: يقال: ساء الشيء قبح، فهو لازم، وساءه يسوؤه مساءة: فهو متعد وهو من أفعال الذم: كبئس، وفاعله ضمير مستتر فيه، ومثلاً تمييز مفسر له والمخصوص بالذم هو الذين كذبوا بآياتنا، ولا بد من تقدير مضاف محذوف لأجل المطابقة أي ساء مثلاً مثل القوم الذين كذبوا. وقال الأخفش: جعل المثل القوم مجازاً، والقوم مرفوع بالابتداء أو على إضمار مبتدأ التقدير: ساء المثل مثلاً هو مثل القوم، كذا قال. وقدره أبو علي الفارسي: ساء مثلاً مثل القوم كما قدمنا. وقرأ الجحدري والأعمش " ساء مثلا القوم ". قوله: "وأنفسهم كانوا يظلمون" أي ما ظلموا بالتكذيب إلا أنفسهم لا يتعداها ظلمهم إلى غيرها ولا يتجاوزها، والجملة معطوفة على التي قبلها على معنى أنهم جمعوا بين التكذيب بآيات الله وظلم أنفسهم.
178- "من يهد الله فهو المهتدي" لما أمر به وشرعه لعباده "ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون" الكاملون في الخسران، من هداه فلا مضل له، ومن أضله فلا هادي له: ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. وقد أخرج الفريابي وعبد الرزاق وعبد بن حميد والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن مسعود في قوله: "واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا" قال: هو رجل من بني إسرائيل يقال له: بلعم بن آبز. وأخرج ابن حميد وابن جرير وأبو الشيخ وابن مردويه من طرق عن ابن عباس قال: هو بلعم بن باعوراء، وفي لفظ: بلعام بن باعر الذي أوتي الاسم كان في بني إسرائيل. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا" قال: هو رجل من مدينة الجبارين يقال له: بلعم، تعلم اسم الله الأكبر، فلما نزل بهم موسى أتاه بنو عمه وقومه فقالوا: إن موسى رجل حديد ومعه جنود كثيرة، وإنه إن يظهر علينا يهلكنا، فادع الله أن يرد عنا موسى ومن معه، قال: إني إن دعوت الله أن يرد موسى ومن معه مضت دنياي وآخرتي، فلم يزالوا به حتى دعا الله فسلخ ما كان فيه. وفي قوله: "إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث" قال: إن حمل الحكمة لم يحملها، وإن ترك لم يهت لخير كالكلب إن كان رابضاً لهث وإن يطرد لهث. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه في الآية قال: هو رجل أعطي ثلاث دعوات يستجاب له فيهن، وكانت له امرأة له منها ولد، فقالت: اجعل لي منها واحدة، قال: فلك واحدة فما الذي تريدين؟ قالت: ادع الله أن يجعلني أجمل امرأة في بني إسرائيل، فدعا الله فجعلها أجمل امرأة في بني إسرائيل، فلما علمت أن ليس فيهم مثلها رغبت عنه وأرادت شيئاً آخر، فدعا الله أن يجعلها كلبة فصارت كلبة، فذهبت دعوتان، فجاء بنوها فقالوا: ليس بنا على هذا قرار قد صارت أمنا كلبة يعيرنا الناس بها، فادع الله أن يردها إلى الحال التي كانت عليه فدعا الله فعادت كما كانت فذهبت الدعوات الثلاث وسميت البسوس. وأخرج عبد بن حميد والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عن عبد الله بن عمرو في الآية قال: هو أمية بن أبي الصلت الثقفي، وفي لفظ: نزلت في صاحبكم أمية بن أبي الصلت. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عنه نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن الشعبي في هذه الآية قال: قال ابن عباس: هو رجل من بني إسرائيل يقال له بلعام بن باعوراء، وكانت الأنصار تقول: هو ابن الراهب الذي بنى له مسجد الشقاق، وكانت ثقيف تقول: هو أمية بن أبي الصلت. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: هو صيفي بن الراهب. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه في قوله: "فانسلخ منها" قال: نزع منه العلم. وفي قوله: "ولو شئنا لرفعناه بها" قال: رفعه الله بعلمه. وأخرج مسلم والنسائي وابن ماجه وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عن جابر بن عبد الله قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته يحمد الله ويثني عليه بما هو أهله، ثم يقول:من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدث بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار" ثم يقول: "بعثت أنا والساعة كهاتين".
179- "ولقد ذرأنا" أي خلقنا. وقد تقدم بيان أصل معناه مستوفى، وهذه الجملة مقررة لمضمون ما قبلها "لجهنم" أي للتعذيب بها "كثيراً" أي خلقاً كثيراً "من الجن والإنس" أي من طائفتي الجن والإنس جعلهم سبحانه للنار بعدله وبعمل أهلها يعملون. وقد علم ما هم عاملون قبل كونهم كما ثبت في الأحاديث الصحيحة، ثم وصف هؤلاء فقال: "لهم قلوب لا يفقهون بها" كما يفقه غيرهم بعقولهم، وجملة "لا يفقهون بها" في محل رفع على أنها صفة لقلوب، وجملة "لهم قلوب" في محل نصب صفة لكثيراً جعل سبحانه قلوبهم لما كانت غير فاقهة لما فيه نفعهم وإرشادهم غير فاقهة مطلقاً وإن كانت تفقه في غير ما فيه النفع والرشاد فهو كالعدم، وهكذا معنى "ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها" فإن الذي انتفى من الأعين هو إبصار ما فيه الهداية بالتفكر والاعتبار وإن كانت مبصرة في غير ذلك، والذي انتفى من الآذان هو سماع المواعظ النافعة، والشرائع التي اشتملت عليها الكتب المنزلة، وما جاءت به رسل الله، وإن كانوا يسمعون غير ذلك، والإشارة بقوله: "أولئك" إلى هؤلاء المتصفين بهذه الأوصاف كالأنعام في انتفاء انتفاعهم بههذ المشاعر، ثم حكم عليهم بأنهم أضل منها، لأنها تدرك بهذه الأمور ما ينفعها ويضرها فتنتفع بما ينفع، وتجتنب ما يضر، وهؤلاء لا يميزون بين ما ينفع وما يضر باعتبار ما طلبه الله منهم وكلفهم به، ثم حكم عليهم بالغفلة الكاملة لما هو عليه من عدم التمييز الذي هو من شأن من له عقل وبصر وسمع. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ولقد ذرأنا" قال: خلقنا. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن الحسن في الآية قال: خلقنا لجهنم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه وابن النجار عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لما ذرأ لجهنم من ذرأ كان ولد الزنا ممن ذرأ لجهنم". وأخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله: "ولقد ذرأنا لجهنم" قال: لقد خلقنا لجهنم "لهم قلوب لا يفقهون بها" قال: لا يفقهون شيئاً من أمور الحياة "ولهم أعين لا يبصرون بها" الهدى "ولهم آذان لا يسمعون بها" الحق، ثم جعلهم كالأنعام، ثم جعلهم شراً من الأنعام، فقال: "بل هم أضل" ثم أخبر أنهم الغافلون.
هذه الآية مشتملة على الإخبار من الله سبحانه بما له من الأسماء على الجملة دون التفصيل، والحسنى تأنيث الأحسن: أي التي هي أحسن الأسماء لدلالتها على أحسن مسمى وأشرف مدلول، ثم أمرهم بأن يدعوه بها عند الحاجة فإنه إذا دعي بأحسن أسمائه كان ذلك من أسباب الإجابة، وقد ثبت في الصحيح: "إن لله تسعة وتسعين إسماً من أحصاها دخل الجنة" وسيأتي أيضاً بيان عددها آخر البحث إن شاء الله. قوله: 180- "وذروا الذين يلحدون في أسمائه" الإلحاد: الميل وترك القصد، يقال: لحد الرجل في الدين وألحد: إذا مال، ومنه اللحد في القبر لأنه في ناحية، وقرئ يلحدون وهما لغتان، والإلحاد في أسمائه سبحانه يكون على ثلاثة أوجه: إما بالتغيير كما فعله المشركون فإنهم أخذوا اسم اللات من الله، والعزى من العزيز، ومناة من المنان، أو بالزيادة عليها بأن يخترعوا أسماء من عندهم لم يأذن الله بها، أو بالنقصان منها بأن يدعوه ببعضها دون بعض ومعنى "وذروا الذين يلحدون" أتركوهم ولا تحاجوهم ولا تعرضوا لهم، وعلى هذا المعنى فالآية منسوخة بآيات القتال، وقيل معناه: الوعيد كقوله تعالى: "ذرني ومن خلقت وحيداً"، وقوله: "ذرهم يأكلوا ويتمتعوا" وهذا أولى لقوله: "سيجزون ما كانوا يعملون" فإنه وعيد لهم بنزول العقوبة وتحذير للمسلمين أن يفعلوا كفعلهم. وقد ذكر مقاتل وغيره من المفسرين أن هذه الآية نزلت في رجل من المسلمين كان يقول في صلاته يا رحمن يا رحيم، فقال رجل من المشركين: أليس يزعم محمد وأصحابه أنهم يعبدون رباً واحداً فما بال هذا يدعو ربين اثنين؟ حكى ذلك القرطبي. وقد أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة وأبو عوانة وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني وابن منده وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة إنه وتر يحب الوتر". وفي لفظ ابن مردويه وأبي نعيم: "من دعى بها استجاب الله دعاءه". وزاد الترمذي في سننه بعد قوله يحب الوتر: "هو الله الذي لا إله إلا هو، الرحمن، الرحيم، الملك، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، الباسط، الخافض، الرافع، المعز، المذل، السميع، البصير، الحكم، العدل، اللطيف، الخبير، الحليم، العظيم، الغفور، الشكور، العلي، الكبير، الحفيظ، المقيت، الحسيب، الجليل، الكريم، الرقيب، المجيب، الواسع، الحكيم، الودود، المجيد، الباعث، الشهيد، الحق، الوكيل، القوي، المتين، الولي، الحميد، المحصي، المبدئ، المعيد، المحيي، المميت، الحي، القيوم، الواجد، الماجد، الأحد، الصمد، القادر، المقتدر، المقدم، المؤخر، الأول، الآخر، الظاهر، الباطن، الوالي، المتعالي، البر، التواب، المنتقم، العفو، الرؤوف، مالك الملك، ذو الجلال والإكرام، المقسط، الجامع، الغني، المغني، المانع، الضار، النافع، النور، الهادي، البديع، الباقي، الوارث، الرشيد، الصبور". هكذا أخرج الترمذي هذه الزيادة عن الجوزجاني عن صفوان بن صالح عن الوليد بن مسلم عن شعيب بن أبي حمزة عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة مرفوعة وقال: هذا حديث غريب. وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة، ولا يعلم في كثير شيء من الروايات ذكر الأسماء إلا في هذا الحديث. ورواه ابن حبان في صحيحه وابن خزيمة والحاكم من طريق صفوان بإسناده السابق. ورواه ابن ماجه في سننه من طريق أخرى عن موسى بن عقبة عن الأعرج عن أبي هريرة مرفوعاً فسرد الأسماء المتقدمة بزيادة ونقصان. قال ابن كثير في تفسيره والذي عول عليه جماعة من الحفاظ أن سرد الأسماء في هذا الحديث مدرج فيه. وإنما ذلك كما رواه الوليد بن مسلم وعبد الملك بن محمد الصنعاني عن زهير بن محمد أنه بلغه عن غير واحد من أهل العلم أنهم قالوا ذلك: أي أنهم جمعوها من القرآن كما روي عن جعفر بن محمد وسفيان بن عيينة وأبي زيد اللغوي. قال: ثم ليعلم أن الأسماء الحسنى ليست منحصرة في التسعة والتسعين بدليل ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن يزيد بن هارون عن فضيل بن مرزوق عن أبي سلمة الجهني عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن عبد الله بن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما أصاب أحداً قط هم ولا حزن فقال اللهم إني عبدك وابن عبدك وأمتك، ناصيتي بيدك ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني وذهاب همي وغمي، إلا أذهب الله همه وحزنه وأبدله مكانه فرجاً، فقيل يا رسول الله ألا نتعلمها؟ فقال: بلى ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها". وقد أخرجه الإمام أبو حاتم بن حبان في صحيحه بمثله انتهى. وأخرجه البيهقي أيضاً في الأسماء والصفات. قال ابن حزم: جاءت في إحصائها، يعني الأسماء الحسنى أحاديث مضطربة لا يصح منها شيء أصلاً. وقد أخرجها بهذا العدد الذي أخرجه الترمذي وابن مردويه وأبو نعيم عن ابن عباس وابن عمر قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكراه، ولا أدري كيف إسناده. وأخرج ابن أبي الدنيا والطبراني كلاهما في الدعاء وأبو الشيخ والحاكم وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي عن أبي هريرة: إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة: أسأل الله الرحمن، الرحيم، الإله، الرب، الملك، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، الخالق، البارئ، المصور، الحليم، العليم، السميع، البصير، الحي، القيوم، الواسع، اللطيف، الخبير، الحنان، المنان، البديع، الغفور، الودود، الشكور، المجيد، المبدئ، المعيد، النور، البارئ، وفي لفظ: القائم، الأول، الآخر، الظاهر، الباطن، العفو، الغفار، الوهاب، الفرد، وفي لفظ: القادر، الأحد الصمد، الوكيل، الكافي، الباقي، المغيث، الدائم المتعالي، ذا الجلال والإكرام، المولى، البصير، الحق، المتين، الوارث، المنير، الباعث، القدير، وفي لفظ: المجيب، المحيي، المميت، الحميد، وفي لفظ: الجميل، الصادق، الحفيظ، المحيط، الكبير، القريب، الرقيب، الفتاح، التواب، القديم، الوتر، الفاطر، الرزاق، العلام، العلي، العظيم، الغني، الملك، المقتدر، الأكرم، الرؤوف، المدبر، المالك، القاهر، الهادي، الشاكر، الكريم، الرفيع، الشهيد، الواحد، ذا الطول، ذا المعارج، ذا الفضل، الخلاق، الكفيل، الجليل. وأخرج أبو نعيم عن محمد بن جعفر قال: سألت أبي جعفر بن محمد الصادق عن الأسماء التسعة والتسعين التي من أحصاها دخل الجنة؟ فقال: هي في القرآن، ففي الفاتحة خمسة أسماء: يا الله، يارب، يا رحمن، يا رحيم، يا ملك، وفي البقرة ثلاثة وثلاثون اسماً: يا محيط، يا قدير، يا عليم، يا حكيم، يا علي، يا عظيم، يا تواب، يا بصير، يا ولي، يا واسع، يا كافي، يا رؤوف، يا بديع، يا شاكر، يا واحد، يا سميع، يا قابض، يا مجيب، يا عزيز، يا نصير، يا قوي، يا شديد، يا سريع، يا خبير، وفي آل عمران: يا وهاب، يا قائم، يا صادق، يا باعث، يا منعم، يا متفضل، وفي النساء: يا رقيب، يا حسيب، يا شهيد، يا مقيت، يا وكيل، يا علي، يا كبير، وفي الأنعام: يا فاطر، يا قاهر، يا لطيف، يا برهان، وفي الأعراف: يا محيي، يا مميت، وفي الأنفال: يا نعم المولى، ويا نعم النصير، وفي هود: يا حفيظ، يا مجيد، يا ودود، يا فعال لما تريد، وفي الرعد: يا كبير، يا متعالي، وفي إبراهيم: يا منان، يا وارث، وفي الحجر: يا خلاق، وفي مريم: يا فرد، وفي طه: يا غفار، وفي قد أفلح، يا كريم، وفي النور: يا حق، يا مبين، وفي الفرقان: يا هادي، وفي سبأ: يا فتاح، وفي الزمر: يا عالم، وفي غافر: يا قابل التوب، يا ذا الطول، يا رفيع، وفي الذاريات: يا رزاق، يا ذا القوة، يا متين، وفي الطور: يا بر، وفي اقتربت: يا مقتدر، يا مليك، وفي الرحمن: يا ذا الجلال والإكرام، يا رب المشرقين، يا رب المغربين، يا باقي، يا معين، وفي الحديد: يا أول، يا آخر، يا ظاهر، يا باطن، وفي الحشر: يا ملك، يا قدوس، يا سلام، يا مؤمن، يا مهيمن، يا عزيز، يا جبار، يا متكبر، يا خالق، يا بارئ، يا مصور، وفي البروج: يا مبدئ، يا معيد، وفي الفجر: يا وتر، وفي الإخلاص: يا أحد، يا صمد انتهى. وقد ذكر ابن حجر في التلخيص أنه تتبعها من الكتاب العزيز إلى أن حررها منه تسعة وتسعين ثم سردها فابحثه. ويؤيد هذا ما أخرجه أبو نعيم عن ابن عباس وابن عمر قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لله تسعة وتسعون اسماً من أحصاها دخل الجنة، وهي في القرآن". وأخرج البيهقي عن عائشة "أنها قالت: يا رسول الله علمني اسم الله الذي إذا دعي به أجاب، قال لها: قومي فتوضئي وادخلي المسجد فصلي ركعتين ثم ادعي حتى أسمع، ففعلت، فلما جلست للدعاء قال النبي صلى الله عليه وسلم:اللهم وفقها فقالت: اللهم إني أسألك بجميع أسمائك الحسنى كلها ما علمنا منها وما لم نعلم، وأسألك باسمك العظيم الأعظم الكبير الأكبر الذي من دعاك به أجبته، ومن سألك به أعطيته، قال النبي:أصبتيه أصبتيه". وقد أطال أهل العلم الكلام على الأسماء الحسنى حتى أن ابن العربي في شرح الترمذي حكى عن بعض أهل العلم أنه جمع من الكتاب والسنة من أسماء الله ألف اسم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وذروا الذين يلحدون في أسمائه" قال: الإلحاد، أن يدعو اللات والعزى في أسماء الله. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال: الإلحاد التكذيب. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن جريج في الآية قال: اشتقوا العزى من العزيز، واشتقوا اللات من الله. وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء في الآية قال: الإلحاد المضاهاة. وأخرج ابن أبي حاتم عن الأعمش أنه قرأ يلحدون من لحد، وقال تفسيرها: يدخلون فيها ما ليس منها. وأخرج عبد الرزاق وابن حميد وابن جرير عن قتادة في الآية قال: يشركون.
قوله: 181- "وممن خلقنا" خبر مقدم و "أمة" مبتدأ مؤخر و "يهدون" وما بعده صفة له، ويجوز أن يكون "وممن خلقنا" هو المبتدأ كما تقدم في قوله: "ومن الناس من يقول" والمعنى: أن من جملة من خلقه الله أمة يهدون الناس متلبسين بالحق أو يهدونهم بماعرفون من الحق "و" بالحق "يعدلون" بينهم قيل: هم من هذه الأمة، وإنهم الفرقة الذين لا يزالون على الحق ظاهرين كما ورد في الحديث الصحيح.
ثم لما بين حال هذه الأمة الصالحة بين حال من يخالفهم فقال: 182- "والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون" والاستدراج: هو الأخذ بالتدريج منزلة بعد منزلة، والدرج: كف الشيء، يقال: أدرجته ودرجته، ومنه إدراج الميت في أكفانه، وقيل: هو من الدرجة، فالاستدراج: أن يخطو درجة بعد درجة إلى المقصود، ومنه درج الصبي: إذا قارب بين خطاه، وأدرج الكتاب: طواه شيئاً بعد شيء، ودرج القوم: مات بعضهم في أثر بعض، والمعنى: سنستدينهم قليلاً قليلاً إلى ما يهلكهم، وذلك بإدرار النعم عليهم وإنسائهم شكرها، فينهمكون في الغواية ويتنكبون طرق الهداية لاغترارهم بذلك وأنه لم يحصل لهم إلا بما لهم عند الله من المنزلة والزلفة.
قوله: 183- "وأملي لهم" معطوف على سنستدرجهم: أي أطيل لهم المدة وأمهلهم وأؤخر عنهم العقوبة، وجملة "إن كيدي متين" مقررة لما قبلها من الاستدراج والإملاء ومؤكدة له، والكيد: المكر، والمتين: الشديد القوي، وأصله من المتن وهو اللحم الغليظ الذي على جانب الصلب. قال في الكشاف: سماه كيداً، لأنه شبيه بالكيد من حيث إنه في الظاهر إحسان وفي الحقيقة خذلان.
والاستفهام في 184- " أولم يتفكروا " للإنكار عليهم حيث لم يتفكروا في شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيما جاء به و ما في "ما بصاحبهم" للاستفهام الإنكاري، وهي في محل رفع بالابتداء والخبر بصاحبهم، والجنة مصدر: أي وقع منهم التكذيب ولم يتفكروا أي شيء من جنون كائن بصاحبهم كما يزعمون، فإنهم لو تفكروا لوجدوا زعمهم باطلاً، وقولهم زوراً وبهتاً، وقيل إن ما نافية واسمها "من جنة" وخبرها بصاحبهم: أي ليس بصاحبهم شيء مما يدعونه من الجنون، فيكون هذا رداً لقولهم: "يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون" ويكون الكلام قد تم عند قوله: " أولم يتفكروا " والوقف عليه من الأوقاف الحسنة، وجملة "إن هو إلا نذير مبين" مقررة لمضمون ما قبلها، ومبينة لحقيقة حال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والاستفهام في 185- " أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض " للإنكار والتقريع والتوبيخ ولقصد التعجيب من إعراضهم عن النظر في الآيات البينة الدالة على كمال قدرته وتفرده بالإلهية، والملكوت من أبنية المبالغة، ومعناه الملك العظيم وقد تقدم بيانه، والمعنى: إن هؤلاء لم يتفكروا حتى ينتفعوا بالتفكر، ولا نظروا في مخلوقات الله حتى يهتدوا بذلك إلى الإيمان به، بل هم سادرون في ضلالتهم خائضون في غوايتهم لا يعملون فكراً ولا يمعنون نظراً. قوله: "وما خلق الله من شيء" أي لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض ولا فيما خلق الله من شيء من الأشياء كائناً ما كان، فإن في كل مخلوقاته عبرة للمعتبرين وموعظة للمتفكرين، سواء كانت من جلائل مصنوعاته كملكوت السموات والأرض، أو من دقائقها من سائر مخلوقاته. قوله: "وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم" معطوف على ملكوت وأن هي المخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن وخبرها عسى وما بعدها: أي أو لم ينظروا في أن الشأن والحديث عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فيموتون عن قريب. والمعنى: إنهم إذا كانوا يجوزون قرب آجالهم فما لهم لا ينظرون فيما يهتدون به وينتفعون بالتفكر فيه والاعتبار به "فبأي حديث بعده يؤمنون" الضمير يرجع إلى ما تقدم من التفكر والنظر في الأمور المذكورة: أي فبأي حديث بعد هذا الحديث المتقدم بيانه يؤمنون؟ وفي هذا الاستفهام من التقريع والتوبيخ ما لا يقادر قدره، وقيل الضمير للقرآن، وقيل لمحمد صلى الله عليه وسلم، وقيل للأجل المذكور قبله.
وجملة 186- "من يضلل الله فلا هادي له" مقررة لما قبلها: أي إن هذه الغفلة منهم عن هذه الأمور الواضحة البينة ليس إلا لكونهم ممن أضله الله ومن يضلله فلا هادي له: أي فلا يوجد من يهديه إلى الحق وينزعه عن الضلالة ألبتة "ويذرهم في طغيانهم يعمهون" قرئ بالرفع على الاستئناف وبالجزم عطفاً على محل الجزاء، وقرئ بالنون، ومعنى يعمهون: يتحيرون، وقيل يترددون وهو في محل نصب على الحال. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن جريج في قوله: "وممن خلقنا أمة يهدون بالحق" قال: ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "هذه أمتي بالحق يحكمون ويقضون ويأخذون ويعطون". وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في الآية قال: بلغنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا قرأها: "هذه لكم وقد أعطي القوم بين أيديكم مثلها، "ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون"". وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع في الآية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من أمتي قوماً على الحق حتى ينزل عيسى ابن مريم متى نزل". وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله: "سنستدرجهم من حيث لا يعلمون" يقول: سنأخذهم من حيث لا يعلمون، قال: عذاب بدر. وأخرج أبو الشيخ عن يحيى بن المثنى في الآية قال: كلما أحدثوا ذنباً جددنا لهم نعمة تنسيهم الاستغفار. وأخرج ابن أبي الدنيا وأبو الشيخ والبيهقي في الأسماء والصفات عن سفيان في الآية قال: نسبغ عليهم النعمة ونمنعهم شكرها. وأخرج ابن أبي الدنيا والبيهقي عن ثابت البناني أنه سئل عن الاستدراج فقال: ذلك مكر الله بالعباد المضيعين. وأخرج أبو الشيخ في قوله: "وأملي لهم" يقول: أكف عنهم "إن كيدي متين" إن مكري شديد، ثم نسخها الله فأنزل: "فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم". وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كيد الله العذاب والنقمة. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة قال: ذكر لنا "أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قام على الصفا، فدعا قريشاً فخذاً فخذاً: يا بني فلان يا بني فلان، يحذرهم بأس الله ووقائع الله إلى الصباح حتى قال قائل: إن صاحبكم هذا لمجنون بات يصوت حتى أصبح، فأنزل الله: " أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة إن هو إلا نذير مبين "".
قوله: 187- "يسألونك عن الساعة" السائلون: هم اليهود، وقيل قريش، والساعة: القيامة وهي من الأسماء الغالبة، وإطلاقها على القيامة لوقوعها بغتة أو لسرعة حسابها، وأيان ظرف زمان مبني على الفتح. قال الراجز: أيان تقضي حاجتي أيانا أما ترى لنجحها أوانــا ومعناه معنى متى، واشتقاقه من أي: وقيل من أين. وقرأ السلمي إيان بكسر الهمزة وهو في موضع رفع على الخبر، و "مرساها" المبتدأ عند سيبويه، ومرساها بضم الميم: أي وقت إرسائها من أرساها الله: أي أثبها، وبفتح الميم من رست: أي ثبتت، ومنه "وقدور راسيات"، ومنه رسا الجبل. والمعنى: متى يرسيها الله: أي يثبتها ويوقعها، وظاهر "يسألونك عن الساعة" أن السؤال عن نفس الساعة، وظاهر "أيان مرساها" أن السؤال عن وقتها، فحصل من الجميع أن السؤال المذكور هو عن الساعة باعتبار وقوعها في الوقت المعين لذلك، ثم أمره الله سبحانه بأن يجيب عنهم بقوله: "قل إنما علمها عند ربي" أي علمها باعتبار وقوعها عند الله لا يعلمها غيره ولا يهتدي إليها سواه "لا يجليها لوقتها إلا هو" أي لا يظهرها لوقتها ولا يكشف عنها إلا الله سبحانه، والتجلية: إظهار الشيء، يقال: جلى لي فلان الخبر: إذا أظهره وأوضحه، وفي استئثار الله سبحانه بعلم الساعة حكمة عظيمة وتدبير بليغ كسائر الأشياء التي أخفاها الله واستأثر بعلمها. وهذه الجملة مقررة لمضمون التي قبلها. قوله: "ثقلت في السموات والأرض" قيل معنى ذلك: أنه لما خفي علمها على أهل السموات والأرض كانت ثقيلة، لأن كل ما خفي علمه ثقيل على القلوب، وقيل المعنى: لا تطيقها السموات والأرض لعظمها، لأن السماء تنشق، والنجوم تتناثر، والبحار تنضب، وقيل عظم وصفها عليهم، وقيل ثقلت المسألة عنها، وهذه الجملة مقررة لمضمون ما قبلها أيضاً "لا تأتيكم إلا بغتة" إلا فجأة على غفلة، والبغتة، مصدر في موضع الحال، وهذه الجملة كالتي قبلها في التقرير. قوله: "يسألونك كأنك حفي عنها". قال ابن فارس: الحفي العالم بالشيء، والحفي المستقصي في السؤال، ومنه قول الأعشى: فإن تسألي عني فيا رب سائل حفي عن الأعشى به حيث أصعدا يقال: أحفى في المسألة وفي الطلب فهو محف، وحفي على التكثير مثل مخصب وخصيب. والمعنى: يسألونك عن الساعة كأنك عالم بها، أو كأنه مستقص للسؤال عنها ومستكثر منه، والجملة التشبيهية في محل نصب على الحال أي يسألونك مشبهاً حالك حال من هو حفي عنها، وقيل المعنى: يسألونك عنها كأنك حفي بهم: أي حفي ببرهم وفرح بسؤالهم. والأول هو معنى النظم القرآني على مقتضى المسلك العربي. قوله: "قل إنما علمها عند ربي" أمره الله سبحانه بأن يكرر ما أجاب عليهم سابقاً لتقرير الحكم وتأكيده، وقيل ليس بتكرير، بل أحدهما معناه الاستئثار بوقوعها، والآخر الاستئثار بكنهها نفسها " ولكن أكثر الناس لا يعلمون " باستئثار الله بهذا وعدم علم خلقه به، لم يعلمه ملك مقرب ولا نبي مرسل.
قوله: 188- "قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله" هذه الجملة متضمنة لتأكيد ما تقدم من عدم علمه بالساعة أيان تكون ومتى تقع، لأنه إذا كان لا يقدر على جلب نفع له أو دفع ضر عنه إلا ما شاء الله سبحانه من النفع له والدفع عنه فبالأولى أن يقدر على علم ما استأثر الله بعلمه، وفي هذا من إظهار العبودية والإقرار بالعجز عن الأمور التي ليست من شأن العبيد والاعتراف بالضعف عن انتحال ما ليس له صلى الله عليه وسلم ما فيه أعظم زاجر، وأبلغ واعظ لمن يدعي لنفسه ما ليس من شأنها، وينتحل علم الغيب بالنجامة أو الرمل أو الطرق بالحصا أو الزجر، ثم أكد هذا وقرره بقوله: "ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير" أي لو كنت أعلم جنس الغيب لتعرضت لما فيه الخير فجلبته إلى نفسي وتوقيت ما فيه السوء حتى لا يمسني ولكني عبد لا أدري ما عند ربي، ولا ما قضاه في وقدره لي، فكيف أدري غير ذلك وأتكلف علمه، وقيل المعنى: لو كنت أعلم ما يريد الله عز وجل مني من قبل أن يعرفنيه لفعلته، وقيل: لو كنت أعلم متى يكون لي النصر في الحرب لقاتلت فلم أغلب، وقيل: لو كنت أعلم الغيب لأجبت عن كل ما أسأل عنه، والأولى حمل الآية على العموم فتندرج هذه الأمور وغيرها تحتها، وقد قيل إن " وما مسني السوء " كلام مستأنف أي ليس بي ما تزعمون من الجنون والأولى أنه متصل بما قبله، والمعنى: لو علمت الغيب ما مسنى السوء ولحذرت عنه كما قدمنا ذلك. قوله: "إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون" أي ما أنا إلا مبلغ عن الله لأحكامه أنذر بها قوماً وأبشر بها آخرين ولست أعلم بغيب الله سبحانه، واللام في "لقوم" متعلق بكلا الصفتين: أي بشير لقوم، ونذير لقوم، وقيل هو متعلق ببشير، والمتعلق بنذير محذوف: أي نذير لقوم يكفرون، وبشير لقوم يؤمنون.
قوله: 189- "هو الذي خلقكم من نفس واحدة" هذا كلام مبتدأ يتضمن ذكر نعم الله على عباده وعدم مكافأتهم لها مما يجب من الشكر والاعتراف بالعبودية وأنه المنفرد بالإلهية. قال جمهور المفسرين: المراد بالنفس الواحدة آدم، وقوله: "وجعل منها زوجها" معطوف على "خلقكم" أي هو الذي خلقكم من نفس آدم وجعل من هذه النفس زوجها، وهي حواء خلقها من ضلع من أضلاعه، وقيل المعنى "جعل منها" من جنسها كما في قوله: "جعل لكم من أنفسكم أزواجاً" والأول أولى "ليسكن إليها" علة للجعل: أي جعله منها لأجل يسكن إليها يأنس إليها ويطمئن بها فإن الجنس بجنسه أسكن وإليه آنس، وكان هذا في الجنة كما وردت بذلك الأخبار: ثم ابتدأ سبحانه بحالة أخرى كانت بينهما في الدنيا بعد هبوطهما، فقال: "فلما تغشاها"، والتغشي كناية عن الوقاع: أي فلما جامعها "حملت حملاً خفيفاً" علقت به بعد الجماع، ووصفه بالخفة لأنه عند إلقاء النطفة أخف منه عند كونه علقة، وعند كونه علقة أخف منه عند كونه مضغة وعند كونه مضغة أخف مما بعده وقيل: إنه خف عليها هذا الحمل من ابتدائه إلى انتهائه، ولم تجد منه ثقلاً كما تجده الحوامل من النساء لقوله: "فمرت به" أي استمرت بذلك الحمل تقوم وتقعد وتمضي في حوائجها لا تجد به ثقلاً، والوجه الأول أولى لقوله: "فلما أثقلت" فإن معناه: فلما صارت ذات ثقل لكبر الولد في بطنها، وقرئ فمرت به بالتخفيف: أي فجزعت لذلك، وقرئ فمارت به من المور، وهو المجيء والذهاب، وقيل المعنى: فاستمرت به. وقد رويت قراءة التخفيف عن ابن عباس ويحيى بن يعمر، ورويت قراءة فمارت عن عبد الله بن عمر، وروي عن ابن عباس أنه قرأ فاستمرت به قوله: "دعوا الله ربهما" جواب لما: أي دعا آدم وحواء ربهما ومالك أمرهما "لئن آتيتنا صالحاً" أي ولداً صالحاً، واللام جواب قسم محذوف، و "لنكونن من الشاكرين" جواب القسم ساد مسد جواب الشرط: أي من الشاكرين لك على هذه النعمة، وفي هذا الدعاء دليل على أنهما قد علما أن ما حدث في بطن حواء من أثر ذلك الجماع هو من جنسهما وعلما بثبوت النسل المتأثر عن ذلك السبب.
190- "فلما آتاهما" ما طلباه من الولد الصالح وأجاب دعاءهما "جعلا له شركاء فيما آتاهما". قال كثير من المفسرين: إنه جاء إبليس إلى حواء وقال لها: إن ولدت ولداً فسميه باسمي فقالت: وما اسمك؟ قال: الحرث ولو سمى لها نفسه لعرفته فسمته عبد الحرث، فكان هذا شركاً في التسمية ولم يكن شركاً في العبادة. وإنما قصدا أن الحرث كان سبب نجاة الولد كما يسمي الرجل نفسه عبد ضيفه كما قال حاتم الطائي: وإني لعبد الضيف ما دام ثاوياً وما في إلا تلك من شيمة العبد وقال جماعة من المفسرين: إن الجاعل شركاً فيما آتاهما هم جنس بني آدم كما وقع من المشركين منهم ولم يكن ذلك من آدم وحواء، ويدل على هذا جمع الضمير في قوله: "فتعالى الله عما يشركون" وذهب جماعة من الفسرين إلى أن معنى "من نفس واحدة" من هيئة واحدة وشكل واحد "وجعل منها زوجها" أي من جنسها "فلما تغشاها" يعني جنس الذكر جنس الأنثى، وعلى هذا لا يكون لآدم وحواء ذكر في الآية وتكون ضمائر التثنية راجعة إلى الجنسين. وقد قدمنا الإشارة إلى نحو هذا وذكرنا أنه خلاف الأولى لأمور منها "وجعل منها زوجها" بأن هذا إنما هو لحواء، ومنها "دعوا الله ربهما" فإن كل مولود يولد بين الجنسين لا يكون منهما عند مقاربة وضعه هذا الدعاء. وقد قرأ أهل المدينة وعاصم شركاً على التوحيد، وقرأ أبو عمرو وسائر أهل الكوفة بالجمع. وأنكر الأخفش سعيد القراءة الأولى، وأجيب عنه بأنها صحيحة على حذف المضاف: أي جعلا له ذا شرك، أو ذوي شرك.
والاستفهام في 191- "أيشركون ما لا يخلق شيئاً" للتقريع والتوبيخ: أي كيف يجعلون لله شريكاً لا يخلق شيئاً ولا يقدر على نفع لهم ولا دفع عنهم. قوله: "وهم يخلقون" عطف على "ما لا يخلق" والضمير راجع إلى الشركاء الذين لا يخلقون شيئاً: أي وهؤلاء الذين جعلوهم شركاء من الأصنام أو الشياطين مخلوقون، وجمعهم جمع العقلاء لاعتقاد من جعلهم شركاء أنهم كذلك.
192- "ولا يستطيعون لهم" أي لمن جعلهم شركاء "نصراً" إن طلبه منهم "ولا أنفسهم ينصرون" إن حصل عليهم شيء من جهة غيرهم، ومن عجز عن نصر نفسه فهو عن نصر غيره أعجز. وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وأبو الشيخ عن ابن عباس قال: قال حمل بن أبي قيس وشمول بن زيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أخبرنا متى الساعة إن كنت نبياً كما تقول فإنا نعلم ما هي؟ فأنزل الله "يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي" إلى قوله: "ولكن أكثر الناس لا يعلمون". وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة "أيان مرساها" أي متى قيامها؟ "قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو" قال: قالت قريش يا محمد أسر إلينا الساعة لما بيننا وبينك من القرابة؟ قال: "يسألونك كأنك حفي عنها قل إنما علمها عند الله" وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "تهيج الساعة بالناس والرجل يسقى على ماشيته، والرجل يصلح حوضه، والرجل يخفض ميزانه ويرفعه، والرجل يقيم سلعته في السوق قضاء الله لا تأتيكم إلا بغتة". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "أيان مرساها" قال: منتهاها. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد "لا يجليها لوقتها إلا هو" يقول: لا يأتي بها إلا الله. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال: هو يجليها لوقتها لا يعلم ذلك إلا الله. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "ثقلت في السموات والأرض" قال: ليس شيء من الخلق إلا يصيبه من ضرر يوم القيامة. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "ثقلت في السموات والأرض" قال: ثقل علمها على أهل السموات والأرض يقول كبرت عليهم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن جريج في قوله: "ثقلت في السموات والأرض" قال: إذا جاءت انشقت السماء، وانتثرت النجوم، وكورت الشمس، وسيرت الجبال، وما يصيب الأرض، وكان ما قال الله سبحانه فذلك ثقلها فيهما. وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "لا تأتيكم إلا بغتة" قال: فجأة آمنين. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي في البعث عن مجاهد في قوله: "كأنك حفي عنها" قال: استحفيت عنها السؤال حتى علمتها. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "كأنك حفي عنها" يقول: كأنك عالم بها: أي لست تعلمها. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي عنه "كأنك حفي عنها" قال: لطيف بها. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي عنه أيضاً "كأنك حفي عنها" يقول: كأن بينك وبينهم مودة كأنك صديق لهم، قال: لما سأل الناس محمداً صلى الله عليه وسلم عن الساعة سألوه سؤال قوم كأنهم يرون أن محمداً حفي بهم، فأوحى الله إليه "إنما علمها عند الله" استأثر بعلمها فلم يطلع ملكاً ولا رسولاً. وأخرج عبد بن حميد عن عمرو بن دينار قال: كان ابن عباس يقرأ: كأنك حفي بها. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن جريج "قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً" قال: الهدى والضلالة "ولو كنت أعلم الغيب" متى أموت "لاستكثرت من الخير" قال: العمل الصالح. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير" قال: لعلمت إذا اشتريت شيئاً ما أربح فيه فلا أبيع شيئاً لا ربح فيه "وما مسني السوء" قال: لاجتنبت ما يكون من الشر قبل أن يكون. وأخرج أحمد والترمذي وحسنه وأبو يعلى وابن جرير وابن أبي حاتم والروياني والطبراني وأبو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لما ولدت حواء طاف بها إبليس، وكان لا يعيش لها ولد، فقال: سميه عبد الحرث فإنه يعيش، فسمته عبد الحرث فعاش، فكان ذلك من وحي الشيطان وأمره". وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن مردويه عن سمرة في قوله: "فلما آتاهما صالحاً جعلا له شركاءً" قال: سمياه عبد الحرث. وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن أبي بن كعب نحو حديث سمرة المرفوع موقوفاً عليه. وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: حملت حواء فأتاها إبليس فقال: إني صاحبكما الذي أخرجتكما من الجنة لتطيعنني أو لأجعلن له قرني أيل فيخرج من بطنك فيشقه ولأفعلن ولأفعلن يخوفهما، سمياه عبد الحرث، فأبيا أن يطيعاه فخرج ميتاً، ثم حملت فأتاهما أيضاً فقال مثل ذلك، فأبيا أن يطيعاه فخرج ميتاً، ثم حملت فأتاهما فذكر لهما فأدركهما حب الولد فسمياه عبد الحرث، فذلك قوله: "جعلا له شركاء فيما آتاهما". وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن الحسن في الآية قال: كان هذا في بعض أهل الملل وليس بآدم. وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن سمرة في قوله: "حملت حملاً خفيفاً" لم يستبن "فمرت به" لما استبان حملها. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "فمرت به" قال: فشكت أحملت أم لا. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن أيوب قال: سئل الحسن عن قوله: "فمرت به" قال: لو كنت عربياً لعرفتها إنما هي استمرت بالحمل. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي في قوله: "حملت حملاً خفيفاً" قال: هي النطفة "فمرت به" يقول: استمرت به. وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "فمرت به" يقول: استخفته. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أبي صالح في قوله: "لئن آتيتنا صالحاً" فقال: أشفقا أن يكون بهيمة، فقالا: لئن آتيتنا بشراً سوياً. وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد نحوه. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن في الآية قال: غلاماً سوياً. وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس في قوله: "جعلا له شركاء" قال: كان شريكاً في طاعة ولم يكن شريكاً في عبادة. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال: ما أشرك آدم إن أولها شكر، وآخرها مثل ضربه لمن بعده. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي في قوله: "فتعالى الله عما يشركون" هذا فصل من آية آدم خاصة في آلهة العرب. وأخرج ابن أبي مالك نحوه. وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن الحسن في الآية قال: هذا في الكفار يدعون الله فإذا آتاهما صالحاً هودا أو نصرا، ثم قال: "أيشركون ما لا يخلق شيئاً وهم يخلقون" يقول: يطيعون ما لا يخلق شيئاً، وهي الشياطين لا تخلق شيئاً وهي تخلق "ولا يستطيعون لهم نصراً" يقول: لمن يدعوهم.
قوله: 193- "وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم" هذا خطاب للمشركين: أي وإن تدعوا هؤلاء الشركاء إلى الهدى والرشاد بأن تطلبوا منهم أن يهدوكم ويرشدوكم لا يتبعوكم ولا يجيبوكم إلى ذلك، وهو دون ما تطلبونه منهم من جلب النفع ودفع الضر، والنصر على الأعداء. قال الأخفش معناه وإن تدعوهم: أي الأصنام إلى الهدى لا يتبعوكم، وقيل: المراد من سبق في علم الله أنه لا يؤمن. وقرئ لا يتبعوكم مشدداً ومخففاً وهما لغتان. وقال بعض أهل اللغة أتبعه مخففاً: إذا مضى خلفه ولم يدركه، واتبعه مشدداً: إذا مضى خلفه فأدركه، وجملة "سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون" مقررة لمضمون ما قبلها: أي دعاؤكم لهم عند الشدائد وعدمه سواء لا فرق بينهما، لأنهم لا ينفعون ولا يضرون ولا يسمعون ولا يجيبون، وقال: "أم أنتم صامتون" مكان أصمتم لما في الجملة الإسمية من المبالغة. وقال محمد بن يحيى: إنما جاء بالجملة الإسمية لكونها رأس آية، يعني لمطابقة "ولا أنفسهم ينصرون" وما قبله.
قوله: 194- "إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم" أخبرهم سبحانه بأنه هؤلاء الذين جعلتموهم آلهة هم عباد لله كما أنتم عباد له مع أنكم أكمل منهم، لأنكم أحياء تنطقون وتمشون وتسمعون وتبصرون، وهذه الأصنام ليست كذلك، ولكنها مثلكم في كونها مملوكة لله مسخرة لأمره، وفي هذا تقريع لهم بالغ وتوبيخ لهم عظيم، وجملة "فادعوهم فليستجيبوا لكم" مقررة لمضمون ما قبلها من أنهم إن دعوهم إلى الهدى لا يتبعوهم، وأنهم لا يستطيعون شيئاً: أي ادعوا هؤلاء الشركاء، فإن كانوا كما تزعمون "فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين" فيما تدعونه لهم من قدرتهم على النفع والضر.
والاستفهام في قوله: 195- "ألهم أرجل" وما بعده للتقريع والتوبيخ: أي هؤلاء الذين جعلتموهم شركاء ليس لهم شيء من الآلات التي هي ثابتة لكم فضلاً عن أن يكونوا قادرين على ما تطلبونه منهم، فإنهم كما ترون هذه الأصنام التي تعكفون على عبادتها ليست لهم "أرجل يمشون بها" في نفع أنفسهم فضلاً عن أن يمشوا في نفعكم وليس "لهم أيد يبطشون بها" كما يبطش غيرهم من الأحياء، وليس "لهم أعين يبصرون بها" كما تبصرون، وليس "لهم آذان يسمعون بها" كما تسمعون، فكيف تدعون من هم على هذه الصفة من سلب الأدوات، وبهذه المنزلة من العجز، وأم في هذه المواضع هي المنقطعة التي بمعنى بل والهمزة كما ذكره أئمة النحو. وقرأ سعيد بن جبير "إن الذين تدعون" بتخفيف إن ونصب عباداً: أي ما الذين تدعون " من دون الله عباد أمثالكم " على إعمال إن النافية عمل ما الحجازية وقد ضعفت هذه القراءة بأنها خلاف ما رجحه سيبويه وغيره من اختيار الرفع في خبرها، وبأن الكسائي قال: إنها لا تكاد تأتي في كلام العرب بمعنى ما إلا أن يكون بعدها إيجاب كما في قوله: "إن الكافرون إلا في غرور"، والبطش: الأخذ بقوة. وقرأ أبو جعفر "يبطشون" بضم الطاء، وهي لغة، ثم لما بين لهم حال هذه الأصنام، وتعاور وجوه النقص والعجز لها من كل باب، أمره الله بأن يقول لهم ادعوا شركاءكم الذين تزعمون أن لهم قدرة على النفع والضر "ثم كيدون" أنتم وهم جميعاً بما شئتم من وجوه الكيد "فلا تنظرون" أي فلا تمهلوني ولا تؤخرون إنزال الضرر بي من جهتها، والكيد: المكر، وليس بعد هذا التحدي لهم والتعجيز لأصنامهم شيء.
ثم قال لهم: 196- "إن وليي الله الذي نزل الكتاب" أي كيف أخاف هذه الأصنام التي هذه صفتها ولي ولي ألجأ إليه وأستنصر به وهو الله عز وجل "الذي نزل الكتاب" وهذه الجملة تعليل لعدم المبالاة بها وولي الشيء هو الذي يحفظه ويقوم بنصرته ويمنع منه الضرر "وهو يتولى الصالحين" أي يحفظهم وينصرهم، ويحول ما بينهم وبين أعدائهم. قال الأخفش: وقرئ "إن وليي الله الذي نزل الكتاب" يعني جبرائيل. قال النحاس: هي قراءة عاصم الجحدري والقراءة الأولى أبين لقوله: "وهو يتولى الصالحين".
قوله: 197- "والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون" كرر سبحانه هذا لمزيد التأكيد والتقرير، ولما في تكرار التوبيخ والتقريع من الإهانة للمشركين والتنقص بهم، وإظهار سخف عقولهم، وركاكة أحلامهم.
198- "وتراهم ينظرون إليك" جملة مبتدأة لبيان عجزهم، أو حالية: أي والحال أنك تراهم ينظرون إليك حال كونهم لا يبصرون، والمراد: الأصنام إنهم يشبهون الناظرين، ولا أعين لهم يبصرون بها، قيل: كانوا يجعلون للأصنام أعيناً من جواهر مصنوعة، فكانوا بذلك في هيئة الناظرين ولا يبصرون، وقيل المراد بذلك المشركون، أخبر الله عنهم بأنهم لا يبصرون حين لم ينتفعوا بأبصارهم، وإن أبصروا بها غير ما فيه نفعهم. وقد أخرج أبو الشيخ عن سعيد بن جبير قال: يجاء بالشمس والقمر حتى يلقيا بين يدي الله تعالى، ويجاء بمن كان يعبدهما، فيقال: "ادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله: "وتراهم ينظرون إليك" قال: هؤلاء المشركون. وأخرج هؤلاء أيضاً عن مجاهد في قوله: "وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون" ما يدعوهم إليه من الهدى.
قوله: 199- "خذ العفو" لما عدد الله ما عدده من أحوال المشركين وتسفيه رأيهم وضلال سعيهم: أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يأخذ العفو من أخلاقهم، يقال: أخذت حقي عفواً: أي سهلاً، وهذا نوع من التيسير الذي كان يأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الصحيح أنه كان يقول: "يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا" والمراد بالعفو هنا ضد الجهد، وقيل المراد: خذ العفو من صدقاتهم ولا تشدد عليهم فيها وتأخذ ما يشق عليهم، وكان هذا قبل نزول فريضة الزكاة "وأمر بالعرف" أي بالمعروف. وقرأ عيسى بن عمر بالعرف بضمتين، وهما لغتان، والعرف والمعروف والعارفة: كل خصلة حسنة ترتضيها العقول وتطمئن إليها النفوس، ومنه قول الشاعر: من يفعل الخير لا يعدم جوازيه لا يذهب العرف بين الله والناس "وأعرض عن الجاهلين" أي إذا أقمت الحجة في أمرهم بالمعروف فلم يفعلوا، فأعرض عنهم ولا تمارهم ولا تسافههم مكافأة لما يصدر منهم من المراء والسفاهة، قيل: وهذه الآية هي من جملة ما نسخ بآية السيف، قاله عبد الرحمن بن زيد وعطاء، وقيل: هي محكمة، قاله مجاهد وقتادة.
قوله: 200- "وإما ينزغنك من الشيطان نزغ" النزغ الوسوسة وكذا النغز والنخس. قال الزجاج: النزغ أدنى حركة تكون، ومن الشيطان أدنى وسوسة، وأصل النزغ: الفساد، يقال: نزغ بيننا: أي أفسد، وقيل النزغ: الإغواء، والمعنى متقارب، أمر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم إذا أدرك شيئاً من وسوسة الشيطان أن يستعيذ بالله، وقيل: "إنه لما نزل قوله: "خذ العفو" قال النبي صلى الله عليه وسلم:كيف يا رب بالغضب فنزلت، وجملة "إنه سميع عليم"" علة لأمره بالاستعاذة أي استعذ به والتجئ إليه، فإنه يسمع ذلك منك ويعلم به.
وجملة 201- "إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا" مقررة لمضمون ما قبلها: أي إن شأن الذين يتقون الله وحالهم هو التذكر لما أمر الله به من الاستعاذة به والالتجاء إليه عند أن يمسهم طائف من الشيطان وإن كان يسيراً. قرأ أهل البصرة "طيف" وكذا أهل مكة. وقرأ أهل المدينة والكوفة "طائف". وقرأ سعيد بن جبير "طيف" بالتشديد. قال النحاس: كلام العرب في مثل هذا طيف بالتخفيف على أنه مصدر من طاف يطيف. قال الكسائي: هو مخفف مثل ميت وميت. قال النحاس: ومعناه في اللغة ما يتخيل في القلب أو يرى في النوم، وكذا معنى طائف. قال أبو حاتم: سألت الأصمعي عن طيف فقال: ليس في المصادر فيعل. قال النحاس: ليس هو مصدراً ولكن يكون بمعنى طائف، وقيل: الطيف والطائف معنيان مختلفان، فالأول التخيل، والثاني الشيطان نفسه، فالأول من طاف الخيال يطوف طيفاً، ولم يقولوا من هذا طائف. قال السهيلي: لأنه تخيل لا حقيقة له، فأما قوله: "فطاف عليها طائف من ربك" فلا يقال فيه طيف لأنه اسم فاعل حقيقة. قال الزجاج: طفت عليهم أطوف، فطاف الخيال يطيف. قال حسان: فدع هذا ولكن من لطيف يؤرقني إذا ذهب العشاء وسميت الوسوسة طيفاً لأنها لمة من الشيطان تشبه لمة الخيال "فإذا هم مبصرون" بسبب التذكر: أي منتبهون، وقيل على بصيرة. وقرأ سعيد بن جبير "تذكروا" بتشديد الذال. قال النحاس: ولا وجه له في العربية.
قوله: 202- "وإخوانهم يمدونهم في الغي" قيل المعنى: وإخوان الشياطين وهم الفجار من ضلال الإنس على أن الضمير في إخوانهم يعود إلى الشيطان المذكور سابقاً، والمراد به الجنس، فجاز إرجاع ضمير الجمع إليه "يمدونهم في الغي" أي تمدهم الشياطين في الغي وتكون مدداً لهم، وسميت الفجار من الإنس إخوان الشياطين لأنهم يقبلون منهم ويقتدون بهم، وقيل: إن المراد بالإخوان الشياطين وبالضمير الفجار من الإنس، فيكون الخبر جارياً على من هو له. وقال الزجاج: في الكلام تقديم وتأخير، والمعنى: والذين تدعون من دونه لا يستطيعون لكم نصرا ولا أنفسهم ينصرون "وإخوانهم يمدونهم في الغي" لأن الكفار إخوان الشياطين، "ثم لا يقصرون" الإقصار: الانتهاء عن الشيء: أي لا تقصر الشياطين في مد الكفار في الغي، قيل: إن في الغي متصلاً بقوله: "يمدونهم" وقيل: بالإخوان، والغي: والجهل. قرأ نافع "يمدونهم" بضم حرف المضارعة وكسر الميم. وقرأ الباقون بفتح حرف المضارعة وضم الميم، وهما لغتان: يقال: مد وأمد. قال مكي: ومد أكثر. وقال أبو عبيد وجماعة من أهل اللغة: فإنه يقال إذا كثر شيء شيئاً بنفسه مده، وإذا كثره بغيره، قيل: أمده نحو "يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة" وقيل: يقال مددت في الشر وأمددت في الخير. وقرأ عاصم الجحدري " يمدونهم في الغي ". وقرأ عيسى بن عمر "ثم لا يقصرون" بفتح الياء وضم الصاد وتخفيف القاف.
قوله: 203- "وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها" اجتبى الشيء بمعنى جباه لنفسه: أي جمعه أي هلا اجتمعتها افتعالاً لها من عند نفسك؟ وقيل المعنى: اختلقتها، يقال: اجتبيت الكلام: انتحلته واختلقته واخترعته إذا جئت به من عند نفسك، كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تراخى الوحي هذه المقالة، فأمره الله بأن يجيب عليهم بقوله: "إنما أتبع ما يوحى إلي" أي لست ممن يأتي بالآيات من قبل نفسه كما تزعمون " قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي " فما أوحاه إلي وأنزله علي أبلغته إليكم، وبصائر جمع بصيرة: أي هذا القرآن المنزل علي هو "بصائر من ربكم" يتبصر بها من قبلها، وقيل: البصائر الحجج والبراهين. وقال الزجاج: البصائر الطرق "وهدى ورحمة لقوم يؤمنون" معطوف على بصائر: أي هذا القرآن هو بصائر وهدى يهتدي به المؤمنون ورحمة لهم.
قوله: 204- "وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا" أمرهم الله سبحانه بالاستماع للقرآن والإنصات له عند قراءته لينتفعوا به ويتدبروا ما فيه من الحكم والمصالح، قيل: هذا الأمر خاص بوقت الصلاة عند قراءة الإمام، ولا يخفاك أن اللفظ أوسع من هذا والعام لا يقصر على سببه، فيكون الاستماع والإنصات عند قراءة القرآن في كل حالة وعلى أي صفة مما يجب على السامع، وقيل: هذا خاص بقراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم للقرآن دون غيره ولا وجه لذلك "لعلكم ترحمون" أي تنالون الرحمة وتفوزون بها بامتثال أمر الله سبحانه، ثم أمره الله سبحانه أن يذكره في نفسه، فإن الإخفاء أدخل في الإخلاص وأدعى للقبول، قيل: المراد بالذكر هنا ما هو أعم من القرآن وغيره من الأذكار التي يذكر الله بها.
وقال النحاس: لم يختلف في معنى 205- "واذكر ربك في نفسك" أنه الدعاء، وقيل هو خاص بالقرآن: أي اقرأ القرآن بتأمل وتدبراً و "تضرعاً وخيفة" منتصبان على الحال: أي متضرعاً وخائفاً، والخيفة: الخوف، وأصلها خوفة قلبت الواو ياءً لانكسار ما قبلها. وحكى الفراء أنه يقال في جمع خيفة خيف. قال الجوهري: والخيفة الخوف والجمع خيف، وأصله الواو: أي خوف "ودون الجهر من القول" أي دون المجهور به من القول وهو معطوف على ما قبله: أي متضرعاً، وخائفاً، ومتكلماً بكلام هو دون الجهر من القول، و "بالغدو والآصال" متعلق بأذكر أي أوقات الغدوات وأوقات الأصائل، والغدو: جمع غدوة، والآصال: جمع أصيل، قاله الزجاج والأخفش، مثل يمين وأيمان، وقيل: الآصال جمع أصل، والأصل جمع أصيل فهو على هذا جمع الجمع، قاله الفراء. قال الجوهري: الأصيل الوقت من بعد العصر إلى المغرب، وجمعه أصل وآصال وأصائل كأنه جمع أصيلة. قال الشاعر: لعمري لأنت البيت أكرم أهله وأقعد في أفنائه بالأصائل ويجمع أيضاً على أصلان مثل بعير وبعران، وقرأ أبو مجلز والإيصال وهو مصدر. وخص هذين الوقتين لشرفهما، والمراد دوام الذكر لله "ولا تكن من الغافلين" أي عن ذكر الله.
206- "إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته" المراد بهم الملائكة. قال القرطبي: بالإجماع. قال الزجاج: وقال عند ربك والله عز وجل بكل مكان لأنهم قريبون من رحمته، وكل قريب من رحمة الله عز وجل فهو عنده. وقال غيره: لأنهم في موضع لا ينفذ فيه إلا حكم الله، وقيل: إنهم رسل الله كما يقال عند الخليفة جيش كثير، وقيل: هذا على جهة التشريف والتكريم لهم، ومعنى "يسبحونه" يعظمونه وينزهونه عن كل شين "وله يسجدون" أي يخصونه بعبادة السجود التي هي أشرف عبادة، وقيل: المراد بالسجود الخضوع والذلة، وفي ذكر الملأ الأعلى تعريض لبني آدم. وقد أخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة والبخاري وأبو داود والنسائي والنحاس في ناسخه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن عبد الله بن الزبير في قوله: "خذ العفو" الآية قال: ما نزلت هذه الآية إلا في اختلاف الناس، وفي لفظ: أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأخذ العفو من أخلاق الناس. وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط وأبو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن عمر في قوله: "خذ العفو" قال: أمر الله نبيه أن يأخذ العفو من أخلاق الناس. وأخرج ابن أبي الدنيا وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الشعبي قال:" لما أنزل الله "خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:ما هذا يا جبريل؟ قال: لا أدري حتى أسأل العالم، فذهب ثم رجع فقال:إن الله أمرك أن تعفو عمن ظلمك، وتعطي من حرمك، وتصل من قطعك". وأخرج ابن مردويه عن جابر نحوه. وأخرج ابن مردويه عن قيس بن سعد بن عبادة قال: لما نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حمزة بن عبد المطلب قال: والله لأمثلن بسبعين منهم، فجاءه جبريل بهذه الآية. وأخرج ابن مردويه عن عائشة في قوله: "خذ العفو" قال: ما عفا لك من مكارم الأخلاق. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "خذ العفو" قال: خذ ما عفا من أموالهم ما أتوك به من شيء فخذه، وهذا قبل أن تنزل براءة بفرائض الصدقة وتفصيلها. وأخرج ابن جرير والنحاس في ناسخه عن السدي في الآية قال: الفضل من المال نسخته الزكاة. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد قال:" لما نزل "خذ العفو" الآية. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:كيف بالغضب يا رب؟ فنزل "وإما ينزغنك من الشيطان نزغ"". وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "إن الذين اتقوا" قال: هم المؤمنون. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: " إذا مسهم طائف من الشيطان " قال: الغضب. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: الطيف الغضب. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله: "تذكروا" قال: إذا زلوا تابوا. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال الطائف: اللمة من الشيطان. "تذكروا فإذا هم مبصرون" يقول: فإذا هم منتهون عن المعصية آخذون بأمر الله عاصون للشيطان "وإخوانهم" قال: إخوان الشياطين "يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون" قال: لا الإنس يمسكون عما يعملون من السيئات، ولا الشياطين تمسك عنهم و "إذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها" يقول: لولا أحدثتها لولا تلقيتها فأنشأتها. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عنه "وإخوانهم يمدونهم في الغي" قال: هم الجن يوحون إلى أوليائهم من الإنس "ثم لا يقصرون" يقول: لا يسأمون "وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها" يقول: هلا افتعلتها من تلقاء نفسك. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه وابن عساكر عن أبي هريرة في قوله: "وإذا قرئ القرآن" الآية قال: نزلت في رفع الأصوات وهم خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر والبيهقي عن ابن عباس في الآية قال: يعني في الصلاة المفروضة. وأخرج ابن مردويه والبيهقي عنه قال: صلى الله عليه وسلم، فقرأ خلفه قوم فخلطوا، فنزلت "وإذا قرئ القرآن" الآية، فهذه في المكتوبة. قال: وإن كنا لم نستمع لمن يقرأ بالأخفى من الجهر. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي حاتم والبيهقي عن محمد بن كعب القرظي نحوه. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي عن عبد الله بن مغفل نحوه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي عن ابن مسعود نحوه أيضاً، وقد روي نحو هذا عن جماعة من السلف، وصرحوا بأن هذه الآية نزلت في قراءة الصلاة من الإمام. وأخرج ابن أبي شيبة عن الحسن في الآية قال: عند الصلاة المكتوبة، وعند الذكر. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في الآية قال: في الصلاة وحين ينزل الوحي. وأخرج البيهقي عنه في الآية أنه قال: هذا في الصلاة. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "واذكر ربك في نفسك" الآية قال: أمره الله أن يذكره، ونهاه عن الغفلة: أما بالغدو فصلاة الصبح، والآصال بالعشي. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي صخر. قال: الآصال ما بين الظهر والعصر. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن زيد في الآية قال: لا تجهر بذاك "بالغدو والآصال" بالبكر والعشي. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن مجاهد "بالغدو" قال: آخر الفجر صلاة الصبح، والآصال آخر العشي صلاة العصر، والأحاديث والآثار عن الصحابة في سجود التلاوة، وعدد المواضع التي يسجد فيها، وكيفية السجود وما يقال فيه مستوفاة في كتب الحديث والفقه فلا نطول بإيراد ذلك هاهنا.