المص، هذه الحروف الصوتية تذكر فى أوائل بعض السور المكية، لتنبيه المشركين إلى أن القرآن الكريم مكون من الحروف التى ينطقون بها، ومع ذلك يعجزون عن الإتيان بمثله، كما أن فى هذه الحروف إذا تليت حملا لهم على السماع إذا تواصوا بألا يسمعوا القرآن.
أنزل إليك القرآن لتنذر به المكذبين ليؤمنوا، وتذكِّر به المؤمنين ليزدادوا إيمانًا، فلا يكن فى صدرك ضيق عند تبليغه خوفًا من التكذيب.
اتبعوا ما أوحاه إليكم ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء تستجيبون لهم وتستعينون بهم.<BR>إنكم قلما تتعظون حين تتركون دين الله وتتبعون غيره مع أن العبر فى ذلك كثيرة.
فقد أهلكنا قرى عدة، بسبب عبادة أهلها غير الله وسلوكهم غير طريقه، بأن جاءهم عذابنا فى وقت غفلتهم واطمئنانهم ليلا وهم نائمون، كما حدث لقوم لوط، أو نهارًا وهم مستريحون وقت القيلولة كقوم شعيب.
فاعترفوا بذنبهم الذى كان سبب نكبتهم فما كان منهم عندما رأوا عذابنا إلا أن قالوا - حيث لا ينفعهم ذلك - إنا كنا ظالمين لأنفسنا بالمعصية ولم يظلمنا الله بعذابه.
وسيكون حساب الله يوم القيامة دقيقًا عادلاً، فلنسألن الناس الذين أرسلت إليهم الرسل: هل بلغتهم الرسالة؟ وبماذا أجابوا المرسلين؟ ولنسألن الرسل أيضًا: هل بلغتم ما أنزل إليكم من ربكم؟ وبماذا أجابكم أقوامكم؟
ولنخبرن الجميع إخبارًا صادقًا بجميع ما كان منهم؛ لأننا أحصينا عليهم كل شىء فما كنا غائبين عنهم، ولا جاهلين لما كانوا يعملون.
ويوم نسألهم ونخبرهم، سيكون تقدير الأعمال للجزاء عليها تقديرًا عادلاً، فالذين كثرت حسناتهم ورجحت على سيئاتهم هم الفائزون الذين نصونهم عن النار ويدخلون الجنة.
والذين كثرت سيئاتهم ورجحت على حسناتهم هم الخاسرون؛ لأنهم باعوا أنفسهم للشيطان، فتركوا التدبر فى آياتنا كفرًا وعنادًا.
ولقد مكناكم فى الأرض فمنحناكم القوة لاستغلالها، والانتفاع بها، وهيأنا لكم وسائل العيش، فكان شكركم لله على هذه النعم قليلا جدًا، وستلقون جزاء ذلك.
وفى أخبار الأولين عبر ومواعظ، يتضح فيها أن الشيطان يحاول أن يزيل عنكم النعم بنسيانكم أمر الله، فقد خلقنا أباكم آدم، ثم صورناه، ثم قلنا للملائكة: عظموه فعظموه طاعة لأمر ربهم، إلا إبليس فإنه لم يمتثل.
قال الله منكرًا عليه عصيانه: ما منعك عن تعظيم آدم وقد أمرتك به؟ أجاب إبليس فى عناد وكبر: أنا خير من آدم لأنك خلقتنى من نار وخلقته من طين، والنار أشرف من الطين.
فجزاه الله على عناده وكبره بطرده من دار كرامته، وقال له: اهبط منها، بعد أن كنت فى منزلة عالية، فما ينبغى لك أن تتكبر وتعصى فيها.<BR>.<BR>اخرج منها محكومًا عليك بالصغار والهوان.
قال إبليس لله: أمهلنى ولا تمتنى إلى يوم القيامة.
فأجابه الله بقوله: إنك من الممهلين المؤخرين.
ولحقده على آدم وحسده له قال إبليس: بسبب حكمك علىَّ بالغواية والضلال، أقسم لأضلن بنى آدم وأصرفهم عن طريقك المستقيم، متخذًا فى ذلك كل وسيلة ممكنة.
وأقسم لآتينهم من أمامهم ومن خلفهم، وعن أيمانهم وعن شمائلهم ومن كل جهة استطيعها، ملتمسًا كل غفلة منهم أو ضعف فيهم، لأصل إلى إغوائهم، حتى لا يكون أكثرهم مؤمنين بك، لعدم شكرهم لنعمتك.
فزاده الله نكاية وقال له: اخرج من دار كرامتى مذمومًا بكبرك وعصيانك، وهالكًا فى نهايتك، وأقسم أن من اتبعك من بنى آدم لأملأن جهنم منك ومنهم أجمعين.
ويا آدم اسكن أنت وزوجك دار كرامتى، وهى الجنة، وتنعما بما فيها، فكلا من أى طعام أردتما، إلا هذه الشجرة، فلا تقرباها حتى لا تكونا من الظالمين لأنفسهم بالعقاب المترتب على المخالفة.
فزين لهما الشيطان مخالفة أمر الله، ليزيل عنهما الملابس، فتنكشف عوراتهما، وقال لهما: ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا كراهة أن تكونا ملكين، أو كراهة أن تكونا من الخالدين الذين لا ينقطع نعيمهم فى هذه الدار.
وأقسم لهما أنه من الناصحين لهما، وكرر قسمه.
فساقهما إلى الأكل من الشجرة بهذه الخدعة، فلما ذاقا طعمها وانكشفت لهما عوراتهما، جعلا يجمعان بعض أوراق الشجر ليسترا بها عوراتهما وعاتبهما ربهما، ونبههما إلى خطئهما قائلاً: ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأخبركما أن الشيطان لكما عدو مبين لا يريد لكما الخير؟
قال آدم وزوجته نادمين متضرعين: يا ربنا ظلمنا أنفسنا بمخالفة أمرك الذى استوجب زوال النعيم، وإن لم تغفر لنا مخالفتنا وترحمنا بفضلك لنكونن من الخاسرين.
فى الأرض تولدون وتعيشون، وفيها تموتون وتدفنون، ومنها عند البعث تخرجون.
يا بنى آدم: قد أنعمنا عليكم، فخلقنا لكم ملابس تستر عوراتكم، ومواد تتزينون بها، ولكن الطاعة خير لباس يقيكم العذاب.<BR>تلك النعم من الآيات الدالة على قدرة الله وعلى رحمته، ليتذكر الناس بها عظمته واستحقاقه وحده الألوهية.<BR>وتلك القصة من سنن الله الكونية التى تبين جزاء مخالفة أمر الله، فيتذكر بها الناس ويحرصون على طاعة الله وعلى شكر نعمه.
يا بنى آدم: لا تستجيبوا للشيطان وإضلاله، فتخرجوا من هذه النعم التى لا تدوم إلا بالشكر والطاعة، كما استجاب أبواكم آدم وزوجه فأخرجهما الشيطان من النعيم والكرامة، ونزع عنهما لباسهما وأظهر لهما عوراتهما.<BR>إنه يأتيكم هو وأعوانه من حيث لا تشعرون بهم، ولا تحسون بأساليبهم ومكرهم، وليس للشيطان سلطان على المؤمنين، إنا جعلناه وأعوانه أولياء للذين لا يؤمنون إيمانًا صادقًا يستلزم الطاعة التامة.
وإذا فعل المكذبون أمرًا بالغ النكر - كالشرك، والطواف بالبيت عراة، وغيرهما - اعتذروا وقالوا: وجدنا آباءنا يسيرون على هذا المنهاج ونحن بهم مقتدون، والله أمرنا به ورضى عنه حيث أقرنا عليه، قل لهم يا أيها النبى منكرًا عليهم افتراءهم: إن الله لا يأمر بهذه الأمور المنكرة، أتنسبون إلى الله ما لا تجدون له مستندًا ولا تعلمون عنه دليل صحة النسب إليه سبحانه؟
بَيِّن لهم ما أمر به الله وقل: أمر ربى بالعدل وما لا فحش فيه، وأمركم أن تخصوه بالعبادة فى كل زمان ومكان، وأن تكونوا مخلصين له فيها، وكلكم بعد الموت راجعون إليه، وكما بدأ خلقكم بيسر وكنتم لا تملكون إذ ذاك شيئًا، ستعودون إليه بيسر تاركين ما حولكم من النعم وراء ظهوركم.
وسيكون الناس يوم القيامة فريقين: فريقًا وفَّقه الله لأنه اختار طريق الحق فآمن وعمل عملا صالحًا، وفريقًا حُكِمَ عليه بالضلالة؛ لأنه اختار طريق الباطل وهو الكفر والعصيان، وهؤلاء الضالون قد اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله فاتبعوهم، وهم يظنون أنهم مُوَفَّقون لاغترارهم بخداع الشياطين.
يا بنى آدم: خذوا زينتكم من اللباس المادى الذى يستر العورة، ومن اللباس الأدبى وهو التقوى، عند كل مكان للصلاة، وفى كل وقت تؤدون فيه العبادة، وتمتعوا بالأكل والشرب غير مسرفين فى ذلك، فلا تتناولوا المحرم، ولا تتجاوزوا الحد المعقول من المتعة، إن الله لا يرضى عن المسرفين (1).<BR>_________<BR>(1) يحث الإسلام على وجوب المحافظة على حسن المظهر وما يتبعه من النظافة لا سيما فى كل اجتماع وهذا ما تقرره أساليب الصحة الوقائية.<BR>وأما عدم الإسراف فقد قرر العلم أن الجسم لا يستفيد بكل ما يلقى فيه من الطعام، وإنما يأخذ مجرد كفايته منه، ثم يبذل بعد ذلك مجهودًا كبيرًا للتخلص مما زاد منه عن حاجته، وبجانب هذا تصاب المعدة وسائر الجهاز الهضمى بإرهاق شديد ويسلم المرء إلى أمراض معينة خاصة بذلك الجهاز، ومن الإسراف كذلك تناول مادة معينة من مواد الطعام بنسبة كبيرة تطغى على النسب اللازمة من المواد الأخرى كالإسراف فى تناول الدهنيات بحيث تطغى على مقدار ما يحتاجه الجسم من زلاليات وهكذا، والآية الكريمة تحثنا بجانب هذا على الأكل من الطيبات لتصح أبداننا ولنقوى على العمل، وكذلك فإن الإسراف فى الأكل يؤدى إلى البدانة الأمر الذى يرهق الجسم، وقد يؤدى ذلك إلى ارتفاع ضغط الدم والسكر والذبحة الصدرية.
قل لهم - يا محمد - منكرًا عليهم افتراء التحليل والتحريم على الله: مَنْ الذى حرَّم زينة الله التى خلقها لعباده؟ ومن الذى حرم الحلال الطيب من الرزق؟ قل لهم: هذه الطيبات نعمة من الله، ما كان ينبغى أن يتمتع بها إلا الذين آمنوا فى الدنيا، لأنهم يؤدون حقها بالشكر والطاعة، ولكن رحمة الله الواسعة شملت الكافرين والمخالفين فى الدنيا، وستكون هذه النعم خالصة يوم القيامة للمؤمنين، لا يشاركهم فيها غيرهم، ونحن نفصل الآيات الدالة على الأحكام على هذا المنوال الواضح، لقوم يدركون أن الله - وحده - مالك الملك بيده التحليل والتحريم.
قل يا محمد: إنما حرم ربى الأمور المتزايدة فى القبح كالزنى، سواء منها ما يرتكب سرًا وما يرتكب علانية، والمعصية أيًا كان نوعها، والظلم الذى ليس له وجه من الحق، وحرَّم أن تشركوا به دون حُجة صحيحة، أو دليل قاطع، وأن تفتروا عليه سبحانه بالكذب فى التحليل والتحريم وغيرهما.
ولكل أمة نهاية معلومة، لا يمكن لأية قوة أن تقدم هذه النهاية أو تؤخرها أية مدة مهما قلَّت.
يا بنى آدم: إن جاءتكم رسل من جنسكم الآدمى ليبلغوكم آياتى الموحى بها كنتم فريقين: فالذين يؤمنون ويعملون الصالحات مخلصين، فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون فى دنياهم أو أُخراهم.
والذين يكذبون بالآيات ويستكبرون عن اتباعها والاهتداء بها، فأولئك أهل النار هم فيها معذبون، خالدون أبدًا فى العذاب.
فليس هناك أظلم من الذين يفترون الكذب على الله، بنسبة الشريك والولد إليه، وادِّعاء التحليل والتحريم وغيرهما من غير حُجة، أو يكذبون بآيات الله الموحى بها فى كتبه الموجودة فى كونه، أولئك ينالون فى الدنيا نصيبًا مما كتب الله لهم من الرزق أو الحياة أو العذاب، حتى إذا جاءتهم ملائكة الموت ليقبضوا أرواحهم، قالوا لهم موبخين: أين الآلهة التى كنتم تعبدونها من دون الله لتدرأ عنكم الموت؟ فيجيبون: تبرأوا منا، وتركونا وغابوا عنا، وشهدوا على أنفسهم مقرين بأنهم كانوا كافرين.
يقول الله يوم القيامة لهؤلاء الكافرين: ادخلوا النار فى ضمن أمم من كفار الإنس والجن، قد مضت من قبلكم، كلما دخلت أمة النار لعنت الأمة التى كفرت مثلها والتى اتخذتها قدوة، حتى إذا تتابعوا فيها مجتمعين قال التابعون يذمٌّون المتبوعين: ربنا هؤلاء أضلونا بتقليدنا لهم، بحكم تقدمهم علينا أو بحكم سلطانهم فينا، فصرفونا عن طريق الحق، فعاقبهم عقابًا مضاعفًا يحملون فيه جزاء عصيانهم وعصياننا، فيرد الله عليهم: لكل منكم عذاب مضاعف لا ينجو منه أحد من الفريقين، يضاعف عقاب التابعين لكفرهم وضلالهم، ولاقتدائهم بغيرهم دون تدبر وتفكر، ويضاعف عقاب المتبوعين لكفرهم وضلالهم وتكفيرهم غيرهم وإضلالهم، ولكن لا تعلمون مدى ما لكل منكم من العذاب.
وهنا يقول المتبوعون للتابعين: إنكم بانقيادكم لنا فى الكفر والعصيان لا تفضلون علينا بما يخفف عنكم من العذاب، فيقول الله لهم جميعا: ذوقوا العذاب الذى استوجبتموه بما كنتم تقترفون من كفر وعصيان.
إن الذين كذبوا بآياتنا المنزلة فى الكتب الموجودة فى الكون، واستكبروا عن الاهتداء بها ولم يتوبوا، ميئوس من قبول أعمالهم ورحمة الله بهم، ومن دخولهم الجنة، كما أن دخول الجمل فى ثقب الإبرة ميئوس منه، وعلى هذا النحو من العقاب نعاقب المكذبين المستكبرين من كل أمة.
لهم فى جهنم فراش من نار وأغطية من نار، وعلى هذا النحو فمن ظلم نفسه بالظلم والضلال يعاقب هذا العقاب.
والذين آمنوا وعملوا الأعمال الصالحة التى لم نكلفهم إلا ما يطيقونه منها، أولئك هم أهل الجنة يتنعمون فيها، خالدين فيها أبدًا.
وأخرجنا من قلوبهم ما كان فيها من غل، فهم فى الجنة إخوان متحابون، تجرى من تحتهم الأنهار بمائها العذب، ويقولون - سرورا بما نالوا من النعيم - الحمد للَّه الذى دلَّنا على طريق هذا النعيم، ووفقنا إلى سلوكه، ولولا أن هدانا اللَّه إليه بإرسال الرسل وتوفيقه لنا، ما كان فى استطاعتنا أن نوفق إلى الهداية.<BR>لقد جاءت رسل ربنا بالوحى الحق، وهنا يقول اللَّه لهم: إن هذه الجنة هبة من اللَّه، أعطيتمُوها فضلاً منى دون عوض منكم كالميراث، وهذا التكريم بسبب أعمالكم الصالحة فى الدنيا.
ونادى أهل الجنة أهل النار قائلين: قد وجدنا ما وعدنا ربنا من الثواب حقا، فهل وجدتم ما وعد ربكم من العذاب حقا؟ فأجابوهم: نعم، فنادى مناد بين أهل الجنة وأهل النار: أن الحرمان أو الطرد من رحمة اللَّه جزاء الظالمين لأنفسهم بالكفر والضلال.
هؤلاء الظالمون هم الذين يمنعون الناس عن السير فى طريق اللَّه الحق، وهو الإيمان والعمل الصالح، ويضعون العراقيل والشكوك حتى يبدو الطريق معوجاً للناس فلا يتبعوه، وهؤلاء كافرون بالدار الآخرة لا يخشون عقاب اللَّه.
وبين أهل الجنة وأهل النار حاجز يسبق إلى احتلال أعرافه - وهى أماكنه الرفيعة العالية - رجال من خيار المؤمنين وأفاضلهم، يشرفون منها على جميع الخلائق، ويعرفون كلا من السعداء والأشقياء بعلامات تدل عليهم من أثر الطاعة والعصيان، فينادون السعداء قبل دخولهم الجنة وهم يرجون دخولها، فيبشرونهم بالأمان والاطمئنان ودخول الجنة.
وإذا تحولت أبصار المؤمنين إلى جهة أصحاب النار بعد هذا النداء، قالوا من هول ما رأوا من نيران: ربنا لا تدخلنا مع هؤلاء الظالمين الذين ظلموا أنفسهم والحقّ والناس.
ونادى أهل الدرجات العالية فى الجنة، من الأنبياء والصديقين.<BR>مَن كانوا يعرفونهم بأوصافهم من أهل النار، قائلين لهم لائمين: ما أفادكم جمعكم الكثير العدد ولا استكباركم على أهل الحق بسبب عصبيتكم وغناكم، وها أنتم أولاء ترون حالهم وحالكم.
هؤلاء الضعفاء الذين استكبرتم عليهم، وأقسمتم أنه لا يمكن أن ينزل الله عليهم رحمة، كأنكم تمسكون رحمته، قد دخلوا الجنة؛ وقال لهم ربهم: ادخلوها آمنين، فلا خوف عليكم من أمر يستقبلكم، ولا أنتم تحزنون على أمر فاتكم.
وإن أصحاب النار ينادون أصحاب الجنة قائلين: اتركوا لنا بعض الماء يفيض علينا أو أعطونا شيئًا مما أعطاكم الله تعالى من طيبات المأكل والملبس وسائر متع أهل الجنة، فيجيبهم أهل الجنة: إننا لا نستطيع، لأن الله منع ذلك كله عن القوم الجاحدين، الذين كفروا به وبنعمه فى الدنيا.
هؤلاء الجاحدون الذين لم يسعوا فى طلب الدين الحق، بل كان دينهم اتِّباع الهوى والشهوات، فكان لهوًا يتلهون به وعبثًا يعبثونه وخدعتهم الحياة الدنيا بزخرفها فظنوها - وحدها - الحياة، ونسوا لقاءنا، فيوم القيامة ننساهم، فلا يتمتعون بالجنة، ويذوقون النار، بسبب نسيانهم يوم القيامة، وجحودهم بالآيات البينات الواضحات المثبتات للحق.
ولقد آتيناهم - بيانًا للحق - كتابًا بَيَّناه وفصَّلناه، مشتملا على علم كثير، فيه أدلة التوحيد وآيات الله فى الكون، وفيه شرعه، وفيه بيان الطريق المستقيم والهداية إليه، وفيه ما لو اتبعه الناس لكان رحمة بهم، ولا ينتفع به إلا الذين من شأنهم الإذعان للحق والإيمان به.
إنهم لا يؤمنون به، ولا ينتظرون إلا المآل الذى بيَّنه الله لمن يكفر به.<BR>ويوم يأتى هذا المآل - وهو يوم القيامة - يقول الذين تركوا أوامره وبيناته وغفلوا عن وجوب الإيمان به، معترفين بذنوبهم: قد جاءت الرسل من عند خالقنا ومربينا، داعين إلى الحق الذى أرسلوا به، فكفرنا به.<BR>ويسألون هل لهم شفعاء يشفعون لهم؟ فلا يجدون، أو هل يردُّون إلى الدنيا ليعملوا صالحًا؟ فلا يجابون.<BR>قد خسروا عمل أنفسهم بغرورهم فى الدنيا، وغاب عنهم ما كانوا يكذبونه من ادعاء إله غير الله.
إن ربكم الذى يدعوكم رسله إلى الحق وإلى الإيمان باليوم الآخر والجزاء فيه، هو خالق الكون ومبدعه، خلق السموات والأرض فى ست أحوال تشبه ستة أيام من أيام الدنيا، ثم استولى على السلطان الكامل فيها، وهو الذى يجعل الليل يستر النهار بظلامه، ويعقب الليل النهار بانتظام وتعاقب مستمر كأنه يطلبه، وخلق الله سبحانه الشمس والقمر والنجوم، وهى خاضعة لله تعالى مُسَيَّرات بأمره، وأنه له - وحده - الخلق والأمر المطاع فيها، تعالت بركات منشئ الكون وما فيه ومن فيه.
إذا كان الله ربكم قد أنشأ الكون - وحده -، فادعوه بالعبادة وغيرها، معلنين الدعاء متذللين خاضعين، جاهرين أو غير جاهرين، ولا تعتدُوا بإشراك غيره، أو بظلم أحد، فإن الله تعالى لا يحب المعتدين.
والله - سبحانه وتعالى وحده - هو الذى يطلق الرياح مبشرة برحمته فى الأمطار التى تنبت الزرع وتسقى الغرس، فتحمل هذه الرياح سحابًا (1) محملا بالماء، نسوقه لبلد لا نبات فيه، فيكون كالميت الذى فقد الحياة، فينزل الماء، فينبت الله به أنواعًا من كل الثمرات، وبمثل ذلك الإحياء للأرض بالإنبات نخرج الموتى فنجعلهم أحياء لعلكم تتذكرون بهذا قدرة الله وتؤمنون بالبعث.<BR>_______<BR>(1) تقرر هذه الآية حقيقة علمية لم تكن معروفة عند نزول القرآن الكريم وهى أن الرياح تحمل بخار الماء وعند إرسالها أى إطلاقها تتجمع فى صعيد واحد فتكون السحب وتثيرها وهى السحب الثقيلة التى ينهمر منها الماء.
والأرض الطيبة الجيدة التربة يخرج نباتها ناميًا حيًا بإذن ربه، والأرض الخبيثة لا تخرج إلا نباتًا قليلاً عديم الفائدة يكون سبب نَكَدٍ لصاحبها.
قال أهل الصدارة والزعامة منهم، مجيبين تلك الدعوة إلى الوحدانية واليوم الآخر: إنا لنراك فى بُعْد بيِّن عن الحق.
قال نوح لهم نافيًا ما رموه به: ليس بى كما تزعمون.<BR>ولكنى رسول من خالق العالمين ومنشئهم، فلا يمكن أن يكون ما أدعوكم إليه بعيدًا عن الحق.
وإنى فى هذه الدعوة الحق إلى الوحدانية والإيمان باليوم الآخر، أبلِّغكم ما أرسلنى الله به من الأحكام الإلهية التى يصلح بها الإنسان وإنى أمحضكم النصح وأخلصه لكم، وقد علمنى الله تعالى ما لا تعلمون.
أترموننى بالضلالة والبعد عن الحق؟ وتعجبون أن يجىء إليكم تذكير من الله خالقكم، على لسان رجل جاء إليكم لينذركم بالعقاب إن كذبتم، وليدعوكم إلى الهداية وإصلاح القلوب وتجنب غضب الله تعالى، رجاء أن تكونوا فى رحمة الله تعالى فى الدنيا والآخرة، فلا يصح أن تعجبوا وتكذبوا مع قيام البينات المثبتة للرسالة.
ولكنهم مع تلك البينات لم يؤمن أكثرهم، فكذبوه، فأنزلنا عليهم عذابًا بالإغراق فى الماء، وأنجينا الذين آمنوا به بالفلك الذى صنعه بهداية منا، وغرق الذين كذبوا مع قيام الدلائل البينة الواضحة، فعاندونا، وكانوا بذلك غير مبصرين الحق وقد عموا عنه.
وكما أرسلنا نوحًا إلى قومه داعيًا إلى التوحيد، أرسلنا إلى عاد (1) هودا واحدًا منهم علاقته بهم كعلاقة الأخ بأخيه، فقال لهم: يا قوم اعبدوا الله - وحده - وليس لكم إله غيره، وإن ذلك سبيل الاتقاء من الشر والعذاب وهو الطريق المستقيم، فهلا سلكتموه لتتقوا الشر والفساد؟.<BR>_______<BR>(1) عاد هى أقوى بطون الشعوب السامية، ويشكلون الطبقة الأولى من طبقات العرب البائدة، وأما منازلهم فكانت بوادى الأحقاف التى ورد ذكرها فى الكتاب العزيز بسورة الأحقاف آية 21.<BR>وقد اتفق الثقات من أعلام المسلمين على أن الأحقاف بأرض اليمن وإن اختلفوا فى تحديد مكانها اختلافًا طفيفًا، فهى عند ياقوت الحموى واد بين عمان وأرض مهرة، وعند ابن إسحاق نقلا عن ابن عباس وعند ابن خلدون أنها رمل بين عمان وحضرموت؛ وعند قتادة رمل مشرفة على البحر بالشجر من أرض اليمن، ويجدر بالذكر أن منازل عاد عند بعض الغربيين القدامى تقع فى أعالى الحجاز فى منطقة حسمى وعلى مقربة من منازل ثمود، وأيا كان هذا الرأى فلا يستبعد أن يكون قوم عاد قد رحلوا فى وقت ما من الأحقاف إلى هذه المنطقة.
قال ذوو الزعامة والصدارة فى قومه: إنا لنراك فى خفة عقل، حيث دعوتنا هذه الدعوة، وإنا لنعتقد أنك من الكاذبين.
قال: يا قوم ليس بى فى هذه الدعوة أى قدر من خفة العقل، ولست بكاذب، ولكنى جئت بالهداية، وأنا رسول الله إليكم.<BR>وهو رب العالمين.
إنى فيما أقول لكم: أبِّلغكم أوامر ربى ونواهيه، وهى رسالاته إليكم، وإنى أمحضكم نصحًا وإخلاصًا لكم، وأنا أمين فيما أخبركم به، ولست من الكاذبين.
ثم قال لهم هود: هل أثار عجبكم، واستغربتم أن يجىء إليكم تذكير بالحق على لسان رجل منكم لينذركم بسوء العقبى فيما أنتم عليه؟ إنه لا عجب فى الأمر.<BR>ثم أشار إلى ما أصاب المكذبين الذين سبقوهم، وإلى نعمه عليهم، فقال: اذكروا إذ جعلكم وارثين للأرض من بعد قوم نوح الذين أهلكهم الله تعالى لتكذيبهم نوحًا، وزادكم قوة فى الأبدان وقوة فى السلطان، تلك نعمة تقتضى الإيمان، فاذكروا نعمه لعلكم تفوزون.
ولكنهم مع هذه الدعوة بالحسنى قالوا مستغربين: أجئتنا لتدعونا إلى عبادة الله - وحده - وترك ما كان يعبد آباؤنا من الأصنام؟ وإنا لن نفعل، فأتنا بالعذاب الذى تهددنا به إن كنت من الصادقين؟.
إنكم لعنادكم قد حق عليكم عذاب الله ينزل بكم، وغضبه يحل عليكم، أتجادلون فى أصنام سميتموها أنتم وآباؤكم آلهة؟، وما هى من الحقائق إلا أسماء لا مؤدى لها، وما جعل الله من حُجة تدل على ألوهيتها، فما كان لها من قوة خالقة منشئة تسوغ عبادتكم لها، وإذ لججتم هذه اللجاجة فانتظروا عقاب الله، وأنا معكم، ننتظر ما ينزل بكم.
فأنجينا هودًا والذين آمنوا معه برحمة منا، وأنزلنا بالكافرين ما أبادهم ولم يُبْق لهم من بقية وأثر، وما كانوا داخلين فى زمرة المؤمنين.
وأرسلنا إلى ثمود (1) أخاهم صالحا الذى يشاركهم فى النسب والوطن، وكانت دعوته كدعوة الرسل قبله وبعده.<BR>قال لهم: أخلصوا العبادة لله - وحده - ما لكم أى إله غيره، وقد جاءتكم حُجة على رسالتى من ربكم، هى ناقة ذات خَلق اختصت به، فيها الحُجة، وهى ناقة الله، فاتركوها تأكل فى أرض الله من عشبها، ولا تنالوها بسوء فينالكم عذاب شديد الإيلام.<BR>________<BR>(1) ثمود قوم يشكلون الطبقة الأولى من طبقات العرب البائدة شأنهم فى ذلك شأن عاد، وقد ورد اسمهم فى نقوش الملك سرجون الآشورى سنة 517 ق.<BR>م وقد جاء ذكرهم بين الشعوب التى أخضعها هذا الملك فى شمال شبه جزيرة العرب.<BR>أما مساكنهم فالمشهور فى كتب العرب أنها كانت بالحجر المعروفة بمدائن صالح فى وادى القرى، وقد زارها الأصطخرى وذكر أن بها بئرًا تسمى بئر ثمود.<BR>أما المسعودى فى " مروج الذهب " (المجلد الأول صفحة 259) فقد ذكر أن منازلهم كانت بين الشام والحجاز إلى ساحل البحر الحبشى وديارهم بفج الناقة، وأما بيوتهم فمنحوتة فى الجبال، وأما رممهم فكانت فى أيامه باقية وآثارهم بادية، وذلك فى طريق الحاج القادم من الشام بالقرب من وادى القرى.
وتذكَّروا أن الله جعلكم وارثين لأرض عاد، وأنزلكم فى الأرض منازل طيبة تتخذون من السهول قصورًا فخمة، وتنحتون الجبال فتجعلون منها بيوتًا، فاذكروا نعم الله تعالى إذ مكنكم من الأرض ذلك التمكين، ولا تَعْثوا فى الأرض فتكونوا مفسدين بعد هذا التمكين.
قال المتكبرون من أهل الصدارة والزعامة، مخاطبين الذين آمنوا من المستضعفين لائمين لهم ومستعلين عليهم: أتعتقدون أن صالحًا مُرسل من ربه؟ فأجابهم أهل الحق: إنا بما أرسل معتقدون، مذعنون له.
قال أولئك المستكبرون: إنا جاحدون منكرون للذى آمنتم به: وهو ما يدعو إليه صالح من الوحدانية.
وَلجَّ العناد بأولئك المستكبرين، فتحدوا الله ورسوله، وذبحوا الناقة، وتجاوزوا الحد فى استكبارهم، وأعرضوا عن أمر ربهم، وقالوا - متحدين -: يا صالح، ائتنا بالعذاب الذى وعدتنا إن كنت ممن أرسلهم الله حقًا.
فأخذتهم الزلازل الشديدة، فأصبحوا فى دارهم ميتين خامدين.
وقبل أن تنزل بهم النازلة أعرض عنهم أخوهم صالح، وقال: يا قوم قد أبلغتكم أوامر ربى ونواهيه، ومحضت لكم النصح، ولكنكم بلجاجتكم وإصراركم صرتم لا تحبون من ينصحكم.
ولقد أرسلنا لوطًا - نبى الله - إلى قومه، يدعوهم إلى التوحيد، وينبههم إلى وجوب التخلى عن أقبح جريمة يفعلونها.<BR>أتأتون الأمر الذى يتجاوز الحد فى القبح والخروج على الفطرة وقد ابتدعتم تلك الفاحشة بشذوذكم، فلم يسبقكم بها أحد من الناس؟
وهى أنكم تأتون الرجال مشتهين ذلك، وتتركون النساء، أنتم شأنكم الإسراف، ولهذا خرجتم على الفطرة وفعلتم ما لم يفعله الحيوان.
وما كان جواب قومه على هذا الاستنكار - لأقبح الأفعال - إلا أن قالوا: أخرجوا لوطًا وآله وأتباعه من قريتكم، لأنهم يتطهرون ويَنْأوْن عن هذا الفعل الذى يستقبحه العقل والفطرة ويستحسنونه هم.
ولقد حقت عليهم كلمة العذاب، فأنجينا لوطًا وأهله، إلا امرأته فإنها كانت من هؤلاء الضالين.
وأمطرنا عليهم حجارة مخربة، ومادت الأرض بالزلازل من تحتهم فانظر - يا أيها النبى - إلى عاقبة المجرمين وكيف كانت؟.
ولقد أرسلنا إلى مدين أخاهم شعيبًا قال: يا قوم، اعبدوا الله - وحده - فليس لكم ولى - أى إله - غيره قد جاءتكم الحُجج المبينة للحق من ربكم مثبتة رسالتى إليكم، وجاءتكم رسالة ربكم بالإصلاح بينكم، والمعاملة العادلة، فأوفوا الكيل والميزان فى مبادلاتكم، ولا تنقصوا حقوق الناس، ولا تفسدوا فى الأرض الصالحة بإفساد الزرع ونحوه، وبقطع الأرحام والمودة، فإن ذلك خير لكم إن كنتم تؤمنون بالله تعالى وبالحق المبين.
ولا تقعدوا بكل طريق من طرق الحق والهداية والعمل الصالح: تهددون سالكه، وبذلك تمنعون طالبى الخير من الوصول، وهم أهل الإيمان الذين يؤمنون بالله، وتريدون أنتم الطريق المعوج، واذكروا إذ كنتم عددًا قليلاً فصيَّركم الله عددًا كثيرًا بالاستقامة فى طلب النسل والمال، واعتبروا بعاقبة المفسدين قبلكم.
وإذا كانت طائفة منكم آمنوا بالحق الذى أرسلت به، وطائفة لم يؤمنوا، فانتظروا حتى يحكم الله بين الفريقين وهو خير الحاكمين.
هذا شأن شعيب فى دعوته قومه، أما القوم فقد تمالأوا على الباطل، وتولى أكابرهم الذين استكبروا عن الدعوة، واستنكفوا أن يتبعوا الحق، وواجهوا شعيبًا بما يضمرون، فقالوا له: إنا لا محالة سنخرجك ومن آمن معك من قريتنا، ونطردكم، ولا ننجيكم من هذا العذاب إلا أن تصيروا فى ديننا الذى هجرتموه.<BR>فرد عليهم شعيب - عليه السلام - قائلا: أنصير فى ملتكم ونحن كارهون لها لفسادها؟ لا يكون ذلك أبدًا.
وبالغ فى قطع طمعهم من العود إلى ملتهم كما يطلبون، فقال: نكون كاذبين على الله إن صرنا فى ملتكم بعد أن هدانا الله إلى الصراط المستقيم، ولا ينبغى لنا أن نصير فى ملتكم بمحض اختيارنا ورغبتنا.<BR>إلا أن يشاء الله عودتنا إلى ملتكم، وهيهات ذلك.<BR>لأنه ربنا العليم بنا، فلا يشاء رجوعنا إلى باطلكم، فهو - جل شأنه - وسع كل شىء علمًا، يهدينا بلطفه وحكمته إلى ما يحفظ علينا إيماننا إليه - وحده - سلمنا أمرنا مع قيامنا بما أوجبه علينا.<BR>ربنا افصل بيننا وبين قومنا بالحق الذى مضت به سنتك فى الفصل بين المحقين المصلحين والمبطلين المفسدين، وأنت - لإحاطة علمك وقدرتك - أعدل الحاكمين وأقدرهم.
هنا يئس القوم من مطاوعة شعيب ومن معه لهم، وعلموا أنهم ثابتون على دينهم، كذلك خافوا أن يكثر المهتدون مع شعيب بظهور قوته وثباته على دعوته، فاتجه كبراؤهم الكافرون إلى متبوعيهم، يهددونهم قائلين: والله إن طاوعتم شعيبًا فى قبول دعوته، إنكم لخاسرون شرفكم وثروتكم فى اتباعكم دينًا باطلاً لم يكن عليه سلفكم.
هنا حقَّت عليهم كلمة العذاب، فأصابهم الله بزلزلة اضطربت لها قلوبهم، فصاروا فى دارهم منكبين على وجوههم لا حياة فيهم.
هذا شأن الله مع الذين كذَّبوا شعيبًا، وهددوه وأنذروه بالإخراج من قريتهم، وعملوا على رد دعوته، قد هلكوا وهلكت قريتهم كأن لم يعش فيها الذين كذَّبوا شعيبًا، وزعموا أن من يتبعه يكون خاسرًا، وأكدوا هذا الزعم وكانوا هم الخاسرين لسعادتهم فى الدنيا والآخرة.
فلما رأى شعيب ما نزل بهم من الهلاك المدمر، أعرض عنهم، وقال مبرئًا نفسه من التقصير معهم: لقد أبلغتكم رسالات ربكم المفضية إلى الإحسان إليكم لو عملتم بها، وبالغت فى إسداء النصح لكم، والعظة بما به تنجون من عقوبة الله، فكيف أحزن الحزن الشديد على قوم كافرين؟ لا يكون ذلك بعدما أعذرت إليهم، وبذلت جهدى فى سبيل هدايتهم ونجاتهم، فاختاروا ما فيه هلاكهم.
وما بعثنا نبيًا من الأنبياء فى قرية من القرى، يدعو أهلها إلى دين الله القويم، وأعرضوا عن قبول تلك الدعوة، إلا أصبناهم بالفقر والمرض، كى يتذللوا ويبتهلوا إلى الله مخلصين له فى كشف ما نزل بهم، ويستجيبوا لرسوله.
ثم لما لم يفعلوا ذلك، واستمروا فى كفرهم وعنادهم، امتحناهم بالعافية مكان البلاء استدراجًا، فأعطيناهم رخاء وسعة وصحة وعافية، حتى كثروا ونموًّا فى أموالهم وأنفسهم، وقالوا لجهلهم: إن ما أصاب آباءنا من المحن والبلايا والرفاهية والنعيم، فذلك شأن الدهر، يُدَاول الضَّراء والسَرَّاء بين الناس، من غير أن ينتبهوا إلى أن هذا جزاء كفرهم فيرتدعوا وبهذا جهلوا سنته - جل شأنه - فى أسباب الصلاح والفساد فى البشر، وما يترتب عليهما من السعادة والشقاء فكانت عاقبة ذلك أن أصابهم الله بالعذاب المدمر فجأة، وهم فاقدون للشعور بما سيحل بهم.
ولو أن أهل تلك القرى آمنوا بما جاء به الرسل، وعملوا بوصاياهم وابتعدوا عما حرَّمه الله لأعطيناهم بركات من السماء والأرض، كالمطر والنبات والثمار والأنعام والأرزاق والأمن والسلامة من الآفات، ولكن جحدوا وكذبوا الرسل، فأصبناهم بالعقوبات وهم نائمون، بسبب ما كانوا يقترفون من الشرك والمعاصى، فأخذهم بالعقوبة أَثرٌ لازم لكسبهم القبيح، وعبرة لأمثالهم إن كانوا يعقلون.
أَأَمِن أهل القرى الذين بلغتهم دعوة أنبيائهم ولم يؤمنوا أن يأتيهم عذابنا وقت بياتهم وهم غارقون فى نومهم؟.
أغفل هؤلاء وأمنوا أن يأتيهم العذاب فى ضحى النهار وانبساط الشمس وهم منهمكون فيما لا نفع فيه لهم؟.
أجهلوا سنة الله فى المكذبين، فأمنوا عذابه ليلاً أو نهارًا، يسوقه بتدبيره الذى يخفى على الناس أمره؟ إنه لا يجهل تدبير الله وسنته فى عقوبة المكذبين إلا الذين خسروا أنفسهم بعدم اليقظة إلى ما فيه سعادتهم.
أغاب عن الذين يخلفون من قبلَهم من الأمم سنة الله فيمن قبلهم، وأن شأننا فيهم كشأننا فيمن سبقوهم؟ وهو أنهم خاضعون لمشيئتنا، لو نشاء أن نُعَذبهم بسبب ذنوبهم لأصبناهم كما أصبنا أمثالهم، ونحن نختم على قلوبهم لفرط فسادها حتى وصلت إلى حالة لا تقبل معها شيئًا من الهدى، فهم بهذا الطبع والختْم لا يسمعون الحكم والنصائح سماع تفقه واتعاظ.
تلك القرى التى بعد عهدها، وطال الأمد على تاريخها، نقُص عليك الآن بعض أخبارها مما فيه عبرة.<BR>ولقد جاء أهل تلك القرى رسلهم بالبينات الدالة على صدق دعوتهم، فلم يكن من شأنهم أن يؤمنوا بعد مجىء البينات، لتمرسهم بالتكذيب للصادقين، فكذَّبوا رسلهم ولم يهتدوا، وهكذا يجعل الله حجابًا على قلوب الكافرين وعقولهم، فيخفى عليهم طريق الحق ويَنْأوْن عنه.
وما وجدنا لأكثر أولئك الأقوام وفاء بميثاق مما أوصيناهم به من الإيمان، على لسان الرسل، وعلى ما يوحى به العقل والنظر السليم.<BR>وإن الشأن المطرد فيهم تَمكُّن أكثرهم من الفسوق والخروج عن كل عهد.
ثم بعثنا من بعد أولئك الرسل موسى - عليه السلام - ومعه دلائلنا التى تدل على صدقه فيما يُبلغه عنا إلى فرعون وقومه، فبلَّغهم موسى دعوة ربه، وأراهم آية الله، فظلموا أنفسهم وقومهم بالكفر بها، كِبْرا وجحودًا فاستحقوا من الله عقوبة صارمة كانت بها نهاية أمرهم، فانظر - أيها النبى - نهاية المفسدين فى الأرض.
وقال موسى: يا فرعون إنى مُرْسَل من الله رب العالمين ومالك أمرهم، لأبلغكم دعوته، وأدعوكم إلى شريعته.
وإنى حريص على قول الصدق عن الله تعالى، وقد جئتكم بآية عظيمة الشأن ظاهرة الحُجة فى بيان الحق الذى جئت به، فأطلق معى بنى إسرائيل، وأخرجهم من رق قهرك، ليذهبوا معى إلى دارٍ غير دارك، يعبدون فيها ربهم وربك.
قال فرعون لموسى: إن كنت جئت مؤيدًا بآية من عند من أرسلك فأظهرها لدى إن كنت من أهل الصدق الملتزمين لقول الحق.
فلم يلبث موسى أن ألقى عصاه التى كانت بيمينه أمام فرعون وقومه، فإذا هذه العصا ثعبان ظاهر بيِّن يسعى من مكان إلى آخر، فى قوة تدل على تمام حياته.
وأخرج يده من جيبه، فإذا هى ناصعة البياض تتلألأ للناظرين.
فلما أظهر موسى آية الله تعالى، ثارت نفوس بطانة فرعون وعظماء قومه، فقالوا تزلُّفًا ومشايعة لفرعون: إن هذا لماهر فى علم السحر، وليس ذلك بآية من الله.
وقد وجه إرادته لسلب ملككم، وإخراجكم من أرضكم بسحره، وما ينشأ عنه من استمالة أفراد الشعب ليتبعوه، وانظروا ماذا تأمرون بما يكون سبيلا للتخلص منه.
وقالوا: أجّل البت فى أمره وأمر أخيه الذى يعاونه فى دعوته، وأرسل فى مدائن ملكك رجالا من جندك يجمعون الناس أولى العلم بالسحر.
فيأتوك بكل عليم بفنون السحر، وهم يكشفون لك حقيقة ما جاء به موسى.<BR>فلا يفتتن به أحد.
وجاء إلى فرعون السحرة الذين جمعهم له جنده، وقالوا له: إن لنا لجزاء عظيمًا يكافئ ما يُطلب منا إن كانت الغلبة لنا على موسى.
وجاء فرعون مجيبًا لهم إلى ما طلبوا: نعم إن لكم لجزاء عظيمًا، وإنكم مع ذلك لمن أهل الحظوة عندنا.
ثم توجه السحرة إلى موسى بعد أن وعدهم فرعون بما وعدهم، وأظهروا الثقة بأنفسهم واعتدادهم بسحرهم فى ميدان المباراة، وقالوا له: إما أن تلقى ما عندك أولا، وإما أن نكون نحن الملقين بما عندنا من دونك.
فأجابهم موسى إجابة الواثق بالغلبة والظفر، مظهرًا عدم مبالاته بهم: ألقوا ما أنتم ملقون أولا.<BR>فلما ألقى كل واحد منهم ما كان معه من حبال وعصى، خيلوا إلى أبصار الناس وَمَّوهوا عليهم أن ما فعلوه حقيقة وما هو إلا خيال، فهال الأمر الناس وأوقع فى قلوبهم الرَّهَبَ والرعب، وقد جاء السحرة النَّاسَ بسحر مظهره كبير وتأثيره فى أعينهم عظيم.
وأصدر الله أمره إلى موسى أن ألق بعصاك، فقد جاء وقتها، فألقاها كما أمر، فإذا عصاه تبتلع بسرعة ما يكذبون ويموّهون.
فثبت الحق وظهر فى جانب موسى - عليه السلام - وبطل تخيل السحرة.
فَهُزم فرعون وملؤه فى ذلك المجمع العظيم، وعادوا من ذلك المجمع أذلة بما رزئوا من الخذلان والخيبة.
هذا ما كان من شأن فرعون وملئه، وأما السحرة فقد بهرهم الحق، فاندفعوا ساجدين لله مذعنين للحق.
قالوا مؤكدين فعل السجود بالقول: {آمنا برب العالمين}.
إنَّه الإله الذى يعتقده ويؤمن به موسى وهارون.
فهال هذا الأمر فرعون، وأثار حميته فقال: هل آمنتم وصدقتم برب موسى وهارون قبل أن آذن لكم؟ إن هذا الصنيع الذى صنعتموه أنتم وموسى وهارون كان بالاتفاق، وليس إلا مكرًا مكرتموه فى المدينة ( مصر) لأجل أن تخرجوا منها أهلها بمكركم، فسوف ترون ما يحل بكم من العذاب جزاء اتباعكم موسى وهارون، وعقابًا على هذا المكر والخداع.
وأقسم لأنُكِّلنَّ بكم، وأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف، فأقطع اليد من جانب والرجل من جانب آخر، ثم لأصلِّبنَّ كل واحد منكم وهو على هذه الحالة المشوهة، لتكونوا عبرة لمن تحدثه نفسه بالكيد لنا أو بالخروج على سلطاننا.
فلم يأبهوا لقوله وتهديداته، لتمكن الإيمان من شغاف قلوبهم، فقالوا له: إنا إلى ربنا راجعون، فنتقلب فى رحمته ونعيم جزائه.
وما تُنكر منا وتُعَاقِبنا عليه إلا أن صدقنا موسى، وأذعنا لآيات ربنا الواضحة الدالة على الحق لما جاءتنا.<BR>ثم توجهوا إلى الله ضارعين إليه قائلين: يا ربنا أفض علينا صبرًا عظيمًا نقوى معه على احتمال الشدائد، وتوفنا على الإسلام غير مفتونين من وعيد فرعون.
وبعد أن شاهد فرعون وقومه ما شاهدوا - من ظهور أمر موسى وقوة غلبته وإيمان السحرة به - قال الكبراء من قومه: أنترك موسى وقومه أحرارا آمنين، ليكون مآلهم أن يفسدوا قومك عليك فى أرض مصر بإدخالهم فى دينهم، ويتركك مع آلهتك فى غير مبالاة، فيظهر للمصريين عجزك وعجزهم؟ قال فرعون مجيبا لهم: سنقتل أبناء قومه تقتيلا ما تناسلوا، ونستبقى نساءهم أحياء، حتى لا يكون لهم قوة كما فعلنا من قبل، وإنا مستعلون عليهم بالغلبة والسلطان قاهرون لهم.
وهنا رأى موسى أثر الجزع فى نفوس قومه، فشد من عزمهم، وقال لهم: اطلبوا معونة اللَّه وتأييده، واثبتوا ولا تجزعوا، إن الأرض فى قبضة قدرة اللَّه وملكه، يجعلها ميراثا لمن يشاء من عباده لا لفرعون، والعاقبة الحسنة للذين يتقون اللَّه بالاعتصام به والاستمساك بأحكامه.
فقال القوم فى حزن وضعف: نحن نالنا الأذى قديماً من فرعون قبل مجيئك إلينا، وحديثا من بعد مجيئك.<BR>فقتح موسى لهم باب الأمل وقال لهم: إن المرجو من فضل - ربكم - أن يهلك عدوكم الذى سخركم وآذاكم بظلمه، ويجعلكم خلفاء الأرض التى وعدكم إياها، فيعلم سبحانه ما أنتم عاملون بعد هذا التمكين: أتشكرون النعمة أم تكفرون؟ وتصلحون فى الأرض أم تفسدون؟ ليجزيكم فى الدنيا والآخرة بما تعملون.
ولقد عاقبنا فرعون وقومه بالجدب والقحط وضيق المعيشة، وبنقص ثمرات الزروع والأشجار، رجاء أن ينتبهوا إلى ضعفهم وعجز ملكهم الجبار أمام قوة اللَّه، فيتعظوا ويرجعوا عن ظلمهم لبنى إسرئيل، ويستجيبوا لدعوة موسى - عليه السلام - فإن شأن الشدائد أن تمنع الغرور وتهذب الطباع وتوجه الأنفس إلى قبول الحق، وإرضاء رب العالمين، والتضرع إليه دون غيره.
ولكن دأب فرعون وأعوانه عدم الثبات على الحق، فسرعان ما يعودون إلى الغدر والمعصية، فهم متقلبون.<BR>فإذا جاءهم الخصب والرخاء - وكثيرا ما يكون ذلك - قالوا: نحن المستحقون له لما لنا من الامتياز على الناس، وإن أصابهم ما يسوؤهم كجدب أو جائحة أو مصيبة فى الأبدان والأرزاق، يرون أنهم أصيبوا بشؤم موسى ومن معه، ويغفلون عن أن ظلمهم وفجورهم هو الذى أدى بهم إلى ما نالهم، ألا فليعلموا أن علم شؤمهم عند اللَّه، فهو الذى أصابهم بسبب أعمالهم القبيحة، فهى التى ساقت إليهم ما يسوؤهم، وليس موسى ومن معه، ولكن أكثرهم لا يدرى هذه الحقيقة التى لا شك فيها.
ولهذه الفكرة السيئة عندهم أصروا على الجحود، وقالوا عند رؤيتهم لآيات موسى: إنك مهما جئتنا بكل نوع من أنواع الآيات التى تستدل بها على حقيقة دعوتك - لأجل أن تصرفنا بها عما نحن عليه من ديننا ومن استعباد قومك - فما نحن لك بمصدقين ولا مذعنين.
فأنزل اللَّه عليهم مزيدا من المصائب والنكبات: بالطوفان الذى يغشى أماكنهم، وبالجراد الذى يأكل ما بقى من نبات أو شجر، وبالقمل وهو حشرة تفسد الثمار وتقضى على الحيوان والنبات، وبالضفادع التى تنتشر فتنغص عليهم حياتهم وتذهب بصفائها، وبالدم الذى يسبب الأمراض الكثيرة كالنزيف من أى جسم، والدم الذى ينحبس فيسبب ضغطا أو ينفجر فيسبب شللا، ويشمل البول الدموى بسبب البلهارسيا ونحوها، أو الذى تحول إليه ماؤهم الذى يستخدمونه فى حاجات معاشهم، أصابهم اللَّه بهذه الآيات المميزات الواضحات فلم يتأثروا بها، وجمدت قرائحهم وفسد ضميرهم، فعتوا عن الإيمان والرجوع إلى الحق من حيث هو حق، وكانوا قوما موغلين فى الإجرام كما هو شأنهم.
ولفرط تقلبهم حسب الدواعى، كانوا كلما وقع عليهم نوع من العذاب قالوا لشدة تأثيره فيهم وتألمهم به: يا موسى، سل ربك لنا بالذى عهد به إليك أن تدعوه به فيعطيك الآيات ويستجيب لك الدعاء، أن تكشف عنا هذا العذاب، ونحن نقسم لك لئن أزلته عنا لنخضعن لك، ولنطلقنَّ معك بنى إسرائيل كما أردت.
فلما كشفنا عنهم العذاب مرة بعد أخرى إلى وقت هم منتهون إليه فى كل مرة، إذا هم ينقضون عهدهم ويحنثون فى قسمهم، ويعودون إلى ما كانوا عليه، ولم تُجْد فيهم هذه المحن الزاجرة.
فأنزلنا عليهم نقمتنا، فأغرقناهم فى البحر بسبب استمرارهم على التكذيب بآياتنا، وتمام غفلتهم عما تقتضيه هذه الآيات من الإيمان والإذعان.
وأعطينا القوم الذين كانوا يستضعفون فى مصر - وهم بنو إسرائيل - جميع الأرض التى حباها اللَّه بالخصب والخير الكثير، فى مشارقها ومغاربها، ونفذت كلمة اللَّه الحسنى تامة، ووعد بالنصر شاملاً لبنى إسرائيل بسبب صبرهم على الشدائد، ودمَّرنا ما كان يصنع فرعون وقومه من الصروح والقصور المشيدة، وما كانوا يعرشونه من السقائف للنبات والشجر المتسلق كعرائش العنب، هذا شأن اللَّه، وصدق وعده الجميل لبنى إسرائيل.
وتجاوز بنو أسرائيل البحر بعنايتنا وتأييدنا وتيسير الأمر لهم فلما تجاوزوه مروا على قوم ملازمين لعبادة أصنام لهم، فلما شاهدوا هذه الحالة غلب عليهم ما ألفوا قديما من عبادة المصريين للأصنام، فطلبوا من موسى أن يجعل لهم صنما يعبدونه، كما أن لهؤلاء القوم أصناما يعبدونها فسارع موسى - عليه السلام - موبخا لهم رادعا وقال: إنكم قوم سفهاء لا عقول لكم، لا تعرفون العبادة الحقة، ولا من هو الإله الذى يستحق أن يعبد.
إن هؤلاء الذين ترونهم يعبدون الأصنام، هالك ما هم فيه من الدين الباطل، وزائل عملهم لا بقاء له.
أأطلب لكم معبوداً غير اللَّه رب العالمين، وهو قد منحكم الفضل فأعطاكم نعما لم يعطها غيركم من أهل زمانكم؟!.
واذكروا إذ أنجاكم اللَّه تعالى بعنايته من آل فرعون الذين كانوا يذيقونكم أشد العذاب، ويسخرونكم لخدمتهم فى مشاق الأعمال، ولا يرون لكم حرمة كالبهائم، فيقتلون ما يولد لكم من الذكور، ويستبقون الإناث لكم لتزدادوا ضعفا بكثرتهن، وفيما نزل بكم من تعذيب فرعون لكم وإنجائكم منه، اختبار عظيم من ربكم ليس وراءه بلاء واختبار.
وواعدنا موسى بالمناجاة وإعطاء التوراة عند تمام ثلاثين ليلة يتعبد فيها، وأتممنا مدة الوعد بعشر ليال يستكمل فيها عبادته، فصارت المدة أربعين ليلة، وقال موسى لأخيه هارون حين توجه للمناجاة: كن خليفتى فى قومى، وأصلح ما يحتاج إلى الإصلاح من أمورهم، واحذر أن تتبع طريق المفسدين.
ولما جاء لمناجاتنا، وكلَّمه ربه تكليما ليس كتكليمنا، قال رب أرنى ذاتك، وتجلَّ لى أنظر إليك فأزداد شرفا، قال: لن تطيق رؤيتى.<BR>ثم أراد سبحانه أن يقنعه بأنه لا يطيقها فقال: لكن انظر إلى الجبل الذى هو أقوى منك، فإن ثبت مكانه عند التجلى فسوف ترانى إذا تجليت لك.<BR>فلما ظهر ربه للجبل على الوجه اللائق به تعالى، جعله مفتتا مستويا بالأرض، وسقط موسى مغشياً عليه لهول ما رأى، فلما أفاق من صعقته قال: أنزهك يارب تنزيها عظيما عن أن تُرى فى الدنيا، إنى تبت إليك من الإقدام على السؤال بغير إذن، وأنا أول المؤمنين فى زمانى بجلالك وعظمتك.
لما منع اللَّه موسى من رؤيته، عدد عليه نعمه ليتسلى بها عن المنع فقال: يا موسى إنى فضلتك واخترتك على أهل زمانك، بتبليغ أسفار التوراة وبتكليمى إياك من غير واسطة، فخذ ما فضلتك به، واشكرنى كما يفعل الشاكرون المقدرون للنعم.
وبينا لموسى فى ألواح التوراة كل شىء من المواعظ والأحكام المفضلة التى يحتاج الناس إليها فى المعاش والمعاد، وقلنا له: خذ الألواح بجد وحزم، وأمر قومك أن يأخذوا بأفضل ما فيها، كالعفو بدل القصاص، والإبراء بدل الانتظار، واليسر بدل العسر.<BR>سأريكم يا قوم موسى فى أسفاركم دار الخارجين على أوامر اللَّه، وما صارت إليه من الخراب لتعتبروا، فلا تخالفوا حتى لا يصيبكم ما أصابهم.
سأمنع من التفكير فى دلائل قدرتى القائمة فى الأنفس والأفاق، أولئك الذين يتطاولون فى الأرض ويتكبرون عن قبول الصواب غير محقين، وإن يروا كل آية تدل على صدق رسلنا لا يصدقوها، وإن يشاهدوا طريق الهدى لا يسلكوه، وإن يشاهدوا طريق الضلال يسلكوه.<BR>يحدث ذلك منهم بسبب أنهم كذبوا بآياتنا المنزلة، وغفلوا عن الاهتداء بها.
والذين كذبوا بآياتنا المنزلة على رسلنا للهداية، وكذبوا بلقائنا يوم القيامة، فأنكروا البعث والجزاء، بطلت أعمالهم التى كانوا يرجون نفعها فلا يلقون إلا جزاء ما استمروا على عمله من الكفر والمعاصى.
وبعد أن ذهب موسى إلى الجبل لمناجاة ربه، اتخذ قومه من حليهم المخصصة للزينة جسما على صورة العجل الذى لا يعقل ولا يميز، له صوت يشبه صوت البقر، مما أودع فيه من الصناعة ومرور الريح بداخله.<BR>.<BR>وقد صنعه لهم السامرى وأمرهم بعبادته.<BR>يا لسفاهة عقولهم.<BR>ألم يروا حين اتخذوه إلها وعبدوه أنه لا يكلمهم ولا يقدر على هدايتهم إلى طريق الصواب؟! إنهم ظلموا أنفسهم بهذا العمل الشنيع.
ولما شعروا بزلتهم وخطئهم، تحيروا وندموا أشد الندم على اتخاذ العجل إلها.<BR>وتبينوا ضلالهم تبيناً ظاهراً، وقالوا: واللَّه لئن لم يتب علينا ربنا ويتجاوز عنا لنكونن من الذين خسروا خسراناً مبينا، بوضعهم العبادة فى غير موضعها.
ولما رجع موسى من مناجاة ربه إلى قومه، غضبان عليهم لعبادتهم العجل، حزينا لأن اللَّه فتنهم - وكان اللَّه قد اخبره بذلك قبل رجوعه - فقال لهم: ما أقبح ما فعلتم بعد غيبتى، أسَبَقْتم بعبادة العجل ما أمركم به ربكم من انتظارى وحفظ عهدى حتى آتيكم بالتوراة؟! ووضع الألواح، واتجه إلى أخيه لشدة حزنه حين رأى ما رأى من قومه، وأخذ يشد أخاه من رأسه ويجره نحوه من شدة الغضب، ظنا منه أنه قصر فى كفَّهم عما فعلوا، فقال هارون لموسى.<BR>يا ابن أمى إن القوم حين فعلوا ما فعلوا قد استضعفونى وقهرونى،وقاربوا قتلى لما نهيتهم عن عبادة العجل، فلا تَسُر الأعداء بإيذائك لى، ولا تعتقدنى واحدا من الظالمين مع براءتى منهم ومن ظلمهم.
قال موسى: رب اغفر لى ما صنعت بأخى قبل جلية الأمر، واغفر لأخى إن كان فَرّط فى حسن الخلافة، وأدخلنا فى سعة رحمتك لأنك أكثر الراحمين رحمة.
إن الذين استمروا على اتخاذ العجل إلها، كالسامرى وأشياعه، سينالهم غضب عظيم من ربهم فى الدار الآخرة، ومهانة شديدة فى الحياة الدنيا، بمثل ذلك الجزاء نجزى كل من اختلق الكذب على اللَّه وعبد غيره.
والذين عملوا الأعمال القبيحة من الكفر وعبادة العجل والمعاصى، ثم رجعوا إلى اللَّه من بعد عملها، وصدقوا به، إن ربك من بعد توبتهم ستَّار عليهم، غفَّار لما كان منهم.
ولما ذهب عن موسى الغضب باعتذار أخيه، عاد إلى الألواح التى ألقاها وأخذها، وفيما نُسِخَ فيها هدى وإرشاد وأسباب رحمة، للذين يخافون غضب ربهم.
ثم أمر اللَّه موسى أن يأتيه فى جماعة من قومه يعتذرون عَمَّن عبدوا العجل، ووعدهم موْعدا، فاختار موسى من قومه سبعين رجلا ممن لم يعبدوا العجل، وهم يمثلون قومه، وذهب بهم إلى الطور، وهنالك سألوا اللَّه أن يكشف عنهم البلاء، ويتوب على من عبد العجل منهم، فأخذتهم فى ذلك المكان زلزلة شديدة غشى عليهم بسببها، وهذا لأنهم لم يفارقوا قومهم حين عبدوا العجل، ولم يأمروهم بالمعروف، ولم ينهوهم عن المنكر، فلما رأى موسى ذلك قال: يا رب لو شئت إهلاكهم أهلكتهم من قبل خروجهم إلى الميقات، وأهلكتنى معهم، ليرى ذلك بنو إسرائيل فلا يتهمونى بقتلهم فلا تهلكنا يا رب بما فعل الجُهَّال منا، فما محنة عبدة العجل إلا فتنة منك، أضللت بها من شئت إضلاله ممن سلكوا سبيل الشر، وهديت بها من شئت هدايته.<BR>وأنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا.
ولأنك يا رب خير من يغفر نسألك أن تقدّر لنا فى هذه الدنيا حياة طيبة، وتوفيقا للطاعة، وفى الآخرة مثوبة حسنة ورحمة، لأننا رجعنا إليك وتبنا إليك، فقال له ربه: عذابى أصيب به من أشاء ممن لم يتب، ورحمتى وسعت كل شىء، وسأكتبها للذين يتقون الكفر والمعاصى من قومك، ويؤدون الزكاة المفروضة، والذين يصدقون بجميع الكتب المنزلة.
وأخص بها الذين يتبعون الرسول محمدا، الذى لا يكتب ولا يقرأ، وهو الذى يجدون وصفه مكتوبا عندهم فى التوراة والإنجيل، يأمرهم بكل خير وينهاهم عن كل شر، ويحل لهم الأشياء التى يستطيبها الطبع، ويُحرم عليهم الأشياء التى يستخبثها الطبع كالدم والميتة، ويزيل عنهم الأثقال والشدائد التى كانت عليهم.<BR>فالذين صدقوا برسالته وآزروه وأيدوه ونصروه على أعدائه، واتبعوا القرآن الذى أنزل معه كالنور الهادى، أولئك هم الفائزون دون غيرهم ممن لم يؤمنوا به.
قل - يأيها النبى - للناس: إنى مرسل من اللَّه إليكم جميعا، لا فرق بين عربى وعجمى وأسود وأبيض واللَّه الذى أرسلنى له - وحده - ملك السموات والأرض يدبر أمرهما حسب حكمته، ويتصرف فيهما كيف يشاء، ولا معبود بحق إلا هو، وهو الذى يقدر على الإحياء والإماتة دون غيره، فآمنوا به وبرسوله النبى الذى لا يقرأ ولا يكتب، وهو يؤمن باللَّه الذى يدعوكم إلى الإيمان، ويؤمن بكتبه المنزلة، واتبعوه فى كل ما يفعل ويقول لتهتدوا وترشدوا.
ومن قوم موسى جماعة بقوا على الدين الصحيح يهدون الناس بالحق الذى جاء به موسى من عند ربه، ويعدلون فى تنفيذه إذا حكموا.
عدَّد اللَّه نعمه على قوم موسى، فأفاد أنه صَّيرهم اثنتى عشرة فرقة وجعلهم جماعات، وميَّز كل جماعة بنظامها، منعا للتحاسد والخلاف، وأوحى إلى موسى حين طلب منه قومه الماء فى التيه، بأن يضرب الحجر بعصاه، فضربه فانفجرت اثنتا عشرة عينا بعدد الأسباط، وقد عرف كل جماعة منهم مكان شربهم الخاص بهم، فلا يزاحمهم فيه غيرهم، وجعل لهم السحاب يلقى عليهم ظله فى التيه، ليقيهم حر الشمس، وأنزل عليهم المن، وهو طعام يشبه البرد فى منظره، ويشبه الشهد فى مطعمه، وأنزل السلوى، وهو الطير السمانى، وقال لهم: كلوا من مستلذات ما رزقناكم مما أنزلناه عليكم.<BR>فظلموا أنفسهم وكفروا بتلك النعم، وطلبوا غيرها، وما رجع إلينا ضرر ظلمهم ولكنه كان مقصورا عليهم.
واذكر - يأيها النبى - لمن وجد منهم فى زمانك، تقريعا لهم بما فعل أسلافهم، اذكر لهم قولنا لأسلافهم على لسان موسى: اسكنوا مدينة بيت المقدس بعد الخروج من التيه، وكلوا من خيراتها فى أية ناحية من نواحيها شئتم، وقولوا نسألك يا ربنا أن تحط عنا خطايانا، وادخلوا باب القرية مع انحناء الرءوس كهيئة الركوع تواضعا للَّه.<BR>إذا فعلتم ذلك تجاوزنا عن ذنوبكم، وسنزيد ثواب من أحسنوا الأعمال.
فخالفوا أمر ربهم، فقالوا بسبب ظلمهم قولا غير الذى قيل لهم، قصد الاستهزاء بموسى، فأنزلنا عليهم عذابا من السماء بسبب استمرارهم على الظلم وتجاوز الحد.
واسأل اليهود - استنكارَا لما فعل أسلافهم - عن خبر أهل قرية - أيلة - التى كانت قريبة من البحر، حين كانوا يتجاوزون حدود اللَّه بصيد السمك فى يوم السبت، وحين كانت تأتيهم حيتان الأسماك وتظهر على وجه الماء يوم السبت، وفى غيره لا تأتيهم، ابتلاء من اللَّه.<BR>بمثل ذلك البلاء المذكور نبلوهم بلاء آخر بسبب فسقهم المستمر ليظهر منهم المحسن من المسىء.
واذكر أيضا لهؤلاء اليهود إذ قالت جماعة من صلحاء أسلافهم - لم يقعوا فيما وقع فيه غيرهم - لمن يعظون أولئك الأشرار: لأى سبب تنصحون قوما اللَّه مهلكهم بسبب ما يرتكبون أو معذبهم فى الأخرة عذابا شديدا؟! قالوا: وعظناهم اعتذاراً إلى ربكم، لئلا ننسب إلى التقصير، ورجاء أن يتقوا.
فلما تركوا ما وعظوا به، أنجينا الذين ينهون عن العمل السيئ من العذاب، وأخذنا الذين ظلموا فاعتدوا وخالفوا بعذاب شديد، هو البؤس والشقاء.<BR>بسبب استمرارهم على الخروج عن طاعة اللَّه ربهم.
فلما قسوا واستمروا على ترك ما نهوا عنه، ولم يردعهم العذاب الشديد، جعلناهم كالقردة فى مسخ قلوبهم وعدم توفيقهم لفهم الحق، مبعدين عن كل خير.
واذكر أيضا لهؤلاء اليهود حين أعلم ربك أسلافهم على ألسنة أنبيائهم: ليسلَّطنَّ اللَّه على جماعة اليهود إلى يوم القيامة من يوقع بهم أسوأ أنواع العذاب على ظلمهم وفسقهم، لأن ربك سريع العقاب لأهل الكفر، لأن عقابه واقع لا محالة، وكل آت قريب، , إنه غفور رحيم لمن رجع إليه وتاب.
وقد فرقناهم فى الأرض جماعات: منهم الصالحون، وهم الذين آمنوا واستقاموا، ومنهم أناس منحطون عن وصف الصلاح، وقد اختبرناهم جميعا بالنعم والنقم ليتوبوا عما نهوا عنه.
فجاء من بعد الذين ذكرناهم وقسمناهم إلى القسمين، خلف سُوءٍ ورثوا التوراة عن أسلافهم ولكنهم لم يعملوا بها، لأنهم يأخذون متاع الدنيا عوضا عن قول الحق، ويقولون فى أنفسهم: سيغفر اللَّه لنا ما فعلناه.<BR>يرجون المغفرة.<BR>والحال أنهم إن يأتهم شىء مثل ما أخذوه يأخذوه.<BR>فهم مصرون على الذنب مع طلب المفغرة، ثم وبخهم اللَّه على طلبهم المغفرة مع إصرارهم على ما هم عليه، فقال: إنا أخذنا عليهم العهد فى التوراة، وقد درسوا ما فيها، أن يقولوا الحق، فقالوا الباطل، وإن نعيم الدار الآخرة للذين يتقون المعاصى خير من متاع الدنيا.<BR>أتستمرون على عصيانكم فلا تعقلون أن ذلك النعيم خير لكم، وتؤثرون عليه متاع الدنيا؟
والذين يتمسكون بالتوراة، وأقاموا الصلاة المفروضة عليهم، إنا لا نضيع أجرهم، لإصلاحهم وإحسانهم الأعمال.
رد اللَّه على اليهود فى قولهم: إن بنى إسرائيل لم تصدر منهم مخالفة فى الحق، فقال: واذكر لهم - أيها النبى - حين رفعنا الجبل فوق رؤوس بنى إسرائيل كأنه غمامة، وفزعوا لظنهم أنه واقع عليهم، وقلنا لهم - فى حالة الرفع ورهبتهم - خذوا ما أعطيناكم من هدى فى التوراة بجد وعزم على الطاعة، وتذكروا ما فيه لعلكم تعتبرون وتتهذب نفوسكم بالتقوى.
بيَّن اللَّه هنا هداية بنى آدم بنصب الأدلة فى الكائنات، بعد أن بيَّنها عن طريق الرسل والكتب، فقال: واذكر - أيها النبى - للناس حين أخرج ربك من أصلاب بنى أدم ونسلهم وما يتوالدون قرنا بعد قرن، ثم نصب لهم دلائل ربوبيته فى الموجودات، وركز فيهم عقولا وبصائر يتمكنون بها من معرفتنا، والاستدلال بها على التوحيد والربوبية، حتى صاروا بمنزلة من قيل لهم: ألست بربكم؟ قالوا: بل أنت ربنا شهدنا بذلك على أنفسنا، لأن تمكينهم من العلم بالأدلة وتمكنهم منه فى منزلة الإقرار والاعتراف.<BR>وإنما فعلنا هذا لئلا تقولوا يوم القيامة: إنا كنا عن هذا التوحيد غافلين لا نعرفه.
أو تقولوا: إنما أشرك آباؤنا من قبلنا، وكنا ذرية لهم فاقتدينا بهم، أفتؤاخذنا يا رب فتهلكنا بما فعل المبطلون من آبائنا بتأسيس الشرك الذى جرونا إليه.<BR>.<BR>فلا حجة لكم.
ومثل ذلك البيان الحكيم نُبيَن لبنى آدم الدلائل على وجود اللَّه، ليرجعوا عن مخالفتهم وتقليد المبطلين.
ثم ضرب اللَّه مثلا للمكذبين بآياته المنزلة على رسوله، فقال: واقرأ - أيها النبى - على قومك خبر رجل من بنى إسرائيل آتيناه علما بآياتنا المنزلة على رسلنا، فأهملها ولم يلتفت إليها، فأتبعه الشيطان خطواته، وسلط عليه بإغوائه فصار فى زمرة الضالين.
ولو شئنا رفعه إلى منازل الأبرار لرفعناه إليها، بتوفيقه للعمل بتلك الآيات، ولكنه تعلق بالأرض ولم يرتفع إلى سماء الهداية، واتبع هواه، فصار حاله فى قلقه الدائم، وانشغاله بالدنيا، وتفكيره المتواصل فى تحصيلها كحال الكلب فى أسوأ أحواله عندما يلهث دائما، إن زجرته أو تركته، إذ يندلع لسانه من التنفس الشديد، وكذلك طالب الدنيا يلهث وراء متعه وشهواته دائما.<BR>إن ذلك الوصف الذى اتصف به المنسلخ من آياتنا، هو وصف جميع الذين كذبوا بآياتنا المنزلة.<BR>فاقصص عليهم قصصه ليتفكروا فيؤمنوا (1).<BR>_________<BR>(1) أوردت هذه الآية ظاهرة مشاهدة، وهى أن الكلب يلهث سواء حملت عليه أم لم تحمل، وقد أثبت العلم أن الكلب لا توجد فيه غدد عرقية إلا القليل فى باطن أقدامه والتى لا تفرز من العرق ما يكفى لتنظيم درجة حرارة جسمه، ولذلك فإنه يستعين عن نقص وسائل تنظيم الحرارة باللهث، وهو ازدياد عدد مرات تنفسه زيادة كبيرة عن الحالة العادية مع تعويض مساحة أكبر من داخل الجهاز التنفسى كاللسان والسطح الخارجى من فمه.
قُبحتْ حال هؤلاء الذين جحدوا آياتنا، وما ظلموا بهذا الانحراف عن الحق إلا أنفسهم.
من يوفقه اللَّه لسلوك سبيل الحق فهو المهتدى حقا، الفائز بسعادة الدارين، ومن يحرم من هذا التوفيق بسبب سيطرة هواه، فهذا الفريق هم الخاسرون.
ولقد خلقنا كثيرا من الجن والإنس مآلهم النار يوم القيامة، لأن لهم قلوبا لا ينفذون بها إلى الحق، ولهم أعين لا ينظرون بها دلائل القدرة، ولهم آذان لا يسمعون بها الآيات والمواعظ سماع تدبر واتعاظ.<BR>أولئك كالبهائم لعدم انتفاعهم بما وهبهم اللَّه من عقول للتدبر، بل هم أضل منها، لأنها تطلب منافعها وتهرب من مضارها، وهؤلاء لا يدركون ذلك، أولئك هم الكاملون فى الغفلة.
وللَّه - دون غيره - الأسماء الدالة على أكمل الصفات، فأجروها عليه دعاء ونداء وتسمية، وابتعدوا عن الذين يميلون فيها إلى ما لا يليق بذاته العلية وإنهم سيُجْزُون جزاء أعمالهم.
وممن خلقنا للجنة طائفة يدعون غيرهم للحق بسبب حبهم الحق، وبالحق - وحده - يعدلون فى أحكامهم.
والذين كذبوا بآياتنا المنزلة سنستدرجهم ونتركهم حتى يصلوا إلى أقصى غاياتهم، وذلك بإدرار النعم عليهم، مع انهماكهم فى الغنى، حتى يفاجئهم الهلاك وهم غافلون يرتعون.
وسأمد لهم فى الحياة غير مُهملِ لسيئاتهم، وتدبيرى لهم شديد عليهم، يكافئ سيئاتهم التى كثرت بتماديهم.
لقد بادروا بالتكذيب، ولم يتدبروا ما يدعوهم الرسول إليه، وما يقدمه من حجج، بل رموه بالجنون وليس به من جنون، فما هو إلا مُنَذِر لهم من عاقبة شركهم، وإنذاره بين واضح.
لقد كذبوا محمدا فيما يدعوهم إليه من توحيد، ولم ينظروا نظر تأمل واستدلال فى ملك اللَّه العظيم للسموات والأرض وما فيها، مما يدل على كمال قدرة الصانع ووحدانيته، ولم يفكروا فى أنه قد اقترب أجلهم، أو عسى أن يكون قد اقترب، فيسارعوا إلى النظر وطلب الحق قبل مفاجأة الأجل، فإذا لم يؤمنوا بالقرآن فبأى كلام يؤمنون بعده؟
من يكتب اللَّه عليه الضلالة لسوء اختياره فلا يهديه أحد، ويتركهم - سبحانه - فى ضلالهم يتحيرون لا يهتدون سبيلا.
يسألك اليهود – يا محمد - عن الساعة التى تنتهى فيها هذه الدنيا، فى أى وقت تكون ويستقر العلم بها؟ قل لهم: علم وقتها عند ربى - وحده - لا يظهرها فى وقتها أحد سواه.<BR>قد عظم هولها عندما تقع إلى أهل السموات والأرض.<BR>يسألونك هذا السؤال، كأنك حريص على العلم بها.<BR>فكرر الجواب، فقل لهم مؤكدا: إن علمها عند اللَّه، ولكن أكثر الناس لا يدركون الحقائق التى تغيب عنهم، أو التى تظهر لهم!.
قل لهم: لا أملك لنفسى جلب نفع ولا دفع ضر إلا الذى شاء اللَّه من ذلك فيملكنى إياه.<BR>ولو كنت أعلم ما غاب عنى كما تظنون، لاستكثرت من كل خير، لعلمى بأسبابه، ولدفعت عن نفسى كل سوء باجتناب موجباته، ما أنا إلا نذير بالعذاب ومبشر بالثواب لقوم يؤمنون بالحق ويذعنون له.
هو اللَّه الذى أنشأكم من نفس واحدة، وجعل من جنسها زوجها، واستمرت سلالتهما فى الوجود.<BR>وكنتم زوجاً وزوجة، فإذا تغشاها حملت محمولاً خفيفا هو الجنين عند كونه علقة ومضغة، فلما ثقل الحمل فى بطنها دعا الزوج والزوجة ربهما قائلين: واللَّه لئن أعطيتنا ولدا سليما من فساد الخلقة، لنكونن من الشاكرين لنعمائك.
فلما أعطاهما ما طلبا جعلا الأصنام شركاء للَّه تعالى فى عطيته الكريمة، وتقربا إليها، كأنهما يشكرانها، واللَّه - وحده - هو المستحق للشكر يتعالى ويتسامى عن أن يكون كشركائهم.
هل يصح أن يشركوا مع اللَّه أصناما لا تقدر أن تخلق شيئا من الأشياء وهم مخلوقون للَّه؟!.
ولا يقدرون على نصر لمن يعبدونهم، ولا ينصرون أنفسهم إذا تعدى الغير عليهم.
وإن تدعوا - أيها العابدون - الأصنام ليرشدوكم إلى ما تحبون، لا يجيبوكم إلى مرادكم، فمستوٍ عندكم فى عدم الفائدة دعاؤكم إياهم، وسكونكم، فإنه لا يتغير حالهم فى الحالتين.
إن الذين تعبدون من غير اللَّه، وترجون النفع منهم، خاضعون للَّه بحكم تكوينهم، من حيث كونهم مسخرين لأمره مثلكم، فإن كنتم صادقين فى زعمكم أنهم يقدرون على شىء، فاطلبوه منهم فلن يحققوه لكم.
بل إن هذه الأصنام أقل منكم فى الخلق والتكوين، ألهم أرجل يمشون بها؟ أو أيد يدفعون بها الضر عنكم وعنهم؟ أو أعين يبصرون بها؟ أو آذان يسمعون بها ما تطلبون فيحققوه لكم؟ ليس لهم شىء من ذلك، فكيف تشركونهم مع اللَّه؟، وإذا كنتم تتوهمون أنها تنزل الضر بى أو بأحد، فنادوها ودبروا لى معها ما تشاءون من غير إمهال ولا انتظار، فإنها لن تستطيع شيئا، فلا تمهلونى فإنى لا أبالى بها.
إن ناصرى عليكم هو اللَّه الذى له ولايتى، وهو الذى أنزل على القرآن، وهو - وحده - الذى ينصر الصالحين من عباده.
والأصنام الذين تطلبون منهم النصر دون اللَّه، لا يستطيعون نصركم ولا نصر أنفسهم.
وإن تسألوهم الهداية إلى ما فيه خيركم لا يسمعوا سؤالكم فضلا عن إرشادكم، وإنك لتراهم - فى مقابلك - كأنما ينظرون إليك، وهم فى الحقيقة لا يرون شيئا.
أعرض - أيها النبى - عن الجاهلين، وسر فى سبيل الدعوة، وخذ الناس بما يسهل، وأمرهم بكل أمر مستحسن تعرفه العقول وتدركه.
وإن تعرض لك من الشيطان وسوسة لصرفك عما أمرت، كأن تغضب من لجاجتهم بالشر، فاستجر باللَّه يصرفه عنك، لأنه سميع لكل ما يقع عليم به.
إن الذين خافوا ربهم، وجعلوا بينهم وبين المعاصى وقاية من الشيطان بوسوسة منه طافت بهم لصرفهم عما يجب عليهم تذكروا عداوة الشيطان وكيده، فإذا هم مبصرون الحق فيرجعون.
وإخوان الشياطين من الكفار، تزيدهم الشياطين بالوسوسة ضلالا، ثم هؤلاء الكفار لا يُكفون عن ضلالهم بالتبصر.
وإذا لم تأت الكفار بآية مما يطلبون عنادًا وكفرًا، قالوا: هلا طلبتها؟ قل لهم: ما أتَّبع إلا القرآن الذى يوحى إلى من ربى، وقل لهم: هذا القرآن حُجج من ربكم تبصركم وجوه الحق، وهو ذو هداية ورحمة للمؤمنين، لأنهم العاملون به.
وإذ تُلِىَ عليكم - أيها المؤمنون - القرآن فاصغوا إليه بأسماعكم.<BR>لتتدبَّروا مواعظه، وأحسنوا الاستماع لتفوزوا بالرحمة.
واذكر ربك ذكرًا نفسيًا، تحس فيه بالتقرب إلى الله والخضوع له والخوف منه، من غير صياح، بل فوق السر ودون الجهر من القول.<BR>وليكن ذكرك فى طرفى النهار لتفتتح نهارك بالذكر لربك وتختمه به، ولا تكُنْ فى عامة أوقاتك من الغافلين عن ذكر الله.
إن الذين هم قريبون من ربك بالتشريف والتكريم، لا يستكبرون عن عبادته، وينزهونه عما لا يليق به، وله يخضعون.