islamkingdomfaceBook islamkingdomtwitter islamkingdominstagram islamkingdomyoutube islamkingdomnew

تفسير القرطبى
16331

102-التكاثر

أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ

| أَلْهَاكُمْ | شَغَلَكُمْ . قَالَ : <br>فَأَلْهَيْتهَا عَنْ ذِي تَمَائِم مُغْيَل <br>أَيْ شَغَلَكُمْ الْمُبَاهَاة بِكَثْرَةِ الْمَال وَالْعَدَد عَنْ طَاعَة اللَّه , حَتَّى مِتُّمْ وَدُفِنْتُمْ فِي الْمَقَابِر . وَقِيلَ | أَلْهَاكُمْ | : أَنْسَاكُمْ . | التَّكَاثُر | أَيْ مِنْ الْأَمْوَال وَالْأَوْلَاد , قَالَهُ اِبْن عَبَّاس وَالْحَسَن . وَقَالَ قَتَادَة : أَيْ التَّفَاخُر بِالْقَبَائِلِ وَالْعَشَائِر . وَقَالَ الضَّحَّاك : أَيْ أَلْهَاكُمْ التَّشَاغُل بِالْمَعَاشِ وَالتِّجَارَة . يُقَال : لَهِيت عَنْ كَذَا ( بِالْكَسْرِ ) أَلْهَى لُهِيًّا وَلِهْيَانًا : إِذَا سَلَوْت عَنْهُ , وَتَرَكْت ذِكْره , وَأَضْرَبْت عَنْهُ . وَأَلْهَاهُ : أَيْ شَغَلَهُ . وَلَهَّاهُ بِهِ تَلْهِيَة أَيْ عَلَّلَهُ . وَالتَّكَاثُر : الْمُكَاثَرَة . قَالَ مُقَاتِل وَقَتَادَة وَغَيْرهمَا : نَزَلَتْ فِي الْيَهُود حِين قَالُوا : نَحْنُ أَكْثَر مِنْ بَنِي فُلَان , وَبَنُو فُلَان أَكْثَر مِنْ بَنِي فُلَان , أَلْهَاهُمْ ذَلِكَ حَتَّى مَاتُوا ضُلَّالًا . وَقَالَ اِبْن زَيْد : نَزَلَتْ فِي فَخِذ مِنْ الْأَنْصَار . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَمُقَاتِل وَالْكَلْبِيّ : نَزَلَتْ فِي حَيَّيْنِ مِنْ قُرَيْش : بَنِي عَبْد مَنَاف , وَبَنِي : سَهْم , تَعَادَوْا وَتَكَاثَرُوا بِالسَّادَةِ وَالْأَشْرَاف فِي الْإِسْلَام , فَقَالَ كُلّ حَيّ مِنْهُمْ نَحْنُ أَكْثَر سَيِّدًا , وَأَعَزّ عَزِيزًا , وَأَعْظَم نَفَرًا , وَأَكْثَر عَائِذًا , فَكَثَرَ بَنُو عَبْد مَنَاف سَهْمًا . ثُمَّ تَكَاثَرُوا بِالْأَمْوَاتِ , فَكَثَرَتْهُمْ سَهْم , فَنَزَلَتْ | أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُر | بِأَحْيَائِكُمْ فَلَمْ تَرْضَوْا | حَتَّى زُرْتُمْ الْمَقَابِر | مُفْتَخِرِينَ بِالْأَمْوَاتِ . وَرَوَى سَعِيد عَنْ قَتَادَة قَالَ : كَانُوا يَقُولُونَ نَحْنُ أَكْثَر مِنْ بَنِي فُلَان , وَنَحْنُ أَعَدّ مِنْ بَنِي فُلَان ; وَهُمْ كُلّ يَوْم يَتَسَاقَطُونَ إِلَى آخِرهمْ , وَاَللَّه مَازَالُوا كَذَلِكَ حَتَّى صَارُوا مِنْ أَهْل الْقُبُور كُلّهمْ . وَعَنْ عَمْرو بْن دِينَار : حَلَفَ أَنَّ هَذِهِ السُّورَة نَزَلَتْ فِي التُّجَّار . وَعَنْ شَيْبَان عَنْ قَتَادَة قَالَ : نَزَلَتْ فِي أَهْل الْكِتَاب .</p><p>قُلْت : الْآيَة تَعُمّ جَمِيع مَا ذُكِرَ وَغَيْره . وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ مُطَرِّف عَنْ أَبِيهِ قَالَ : أَتَيْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقْرَأ | أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُر | قَالَ : ( يَقُول اِبْن آدَم : مَالِي مَالِي ! وَهَلْ لَك يَا بْن آدَم مِنْ مَالك إِلَّا مَا أَكَلْت فَأَفْنَيْت , أَوْ لَبِسْت فَأَبْلَيْت , أَوْ تَصَدَّقْت فَأَمْضَيْت [ وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَذَاهِب وَتَارِكه لِلنَّاسِ ] . وَرَوَى الْبُخَارِيّ عَنْ اِبْن شِهَاب : أَخْبَرَنِي أَنَس بْن مَالِك أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( لَوْ أَنَّ لِابْنِ آدَم وَادِيًا مِنْ ذَهَب , لَأَحَبَّ أَنْ يَكُون لَهُ وَادِيَانِ , وَلَنْ يَمْلَأ فَاهُ إِلَّا التُّرَاب , وَيَتُوب اللَّه عَلَى مَنْ تَابَ ) . قَالَ ثَابِت عَنْ أَنَس عَنْ أُبَيّ : كُنَّا نَرَى هَذَا مِنْ الْقُرْآن , حَتَّى نَزَلَتْ | أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُر | . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهَذَا نَصّ صَحِيح مَلِيح , . غَابَ عَنْ أَهْل التَّفْسِير فَجَهِلُوا وَالْحَمْد لِلَّهِ عَلَى الْمَعْرِفَة . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : قَرَأَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ | أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُر | قَالَ : ( تَكَاثُر الْأَمْوَال : جَمْعهَا مِنْ غَيْر حَقّهَا , وَمَنْعهَا مِنْ حَقّهَا , وَشَدّهَا فِي الْأَوْعِيَة ) .

حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ

أَيْ حَتَّى أَتَاكُمْ الْمَوْت , فَصِرْتُمْ فِي الْمَقَابِر زُوَّارًا , تَرْجِعُونَ مِنْهَا كَرُجُوعِ الزَّائِر إِلَى مَنْزِله مِنْ جَنَّة أَوْ نَار . يُقَال لِمَنْ مَاتَ : قَدْ زَارَ قَبْره . وَقِيلَ : أَيْ أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُر حَتَّى عَدَدْتُمْ الْأَمْوَات , عَلَى مَا تَقَدَّمَ . وَقِيلَ : هَذَا وَعِيد . أَيْ اِشْتَغَلْتُمْ بِمُفَاخَرَةِ الدُّنْيَا , حَتَّى تَزُورُوا الْقُبُور , فَتَرَوْا مَا يَنْزِل بِكُمْ مِنْ عَذَاب اللَّه عَزَّ وَجَلَّ . قَوْله تَعَالَى : | الْمَقَابِر | جَمْع مَقْبَرَة وَمَقْبَرَة ( بِفَتْحِ الْبَاء وَضَمّهَا ) . وَالْقُبُور : جَمْع الْقَبْر قَالَ : <br>أَرَى أَهْل الْقُصُور إِذَا أُمِيتُوا .......... بَنَوْا فَوْق الْمَقَابِر بِالصُّخُورِ <br><br>أَبَوْا إِلَّا مُبَاهَاة وَفَخْرًا .......... عَلَى الْفُقَرَاء حَتَّى فِي الْقُبُور <br>وَقَدْ جَاءَ فِي الشِّعْر ( الْمَقْبَر ) قَالَ : <br>لِكُلِّ أُنَاس مَقْبَر بِفِنَائِهِمْ .......... فَهُمْ يَنْقُصُونَ وَالْقُبُور تَزِيد <br>وَهُوَ الْمَقْبُرِيّ وَالْمَقْبَرِيّ : لِأَبِي سَعِيد الْمَقْبُرِيّ ; وَكَانَ يَسْكُن الْمَقَابِر . وَقَبَرْت الْمَيِّت أَقْبِرُهُ وَأُقْبِرهُ قَبْرًا , أَيْ دَفَنْته . وَأَقْبَرْته أَيْ أَمَرْت بِأَنْ يُقْبَر . وَقَدْ مَضَى فِي سُورَة | عَبَسَ | الْقَوْل فِيهِ . وَالْحَمْد لِلَّهِ .</p><p>لَمْ يَأْتِ فِي التَّنْزِيل ذِكْر الْمَقَابِر إِلَّا فِي هَذِهِ السُّورَة . وَزِيَارَتهَا مِنْ أَعْظَم الدَّوَاء لِلْقَلْبِ الْقَاسِي ; لِأَنَّهَا تُذَكِّر الْمَوْت وَالْآخِرَة . وَذَلِكَ يَحْمِل عَلَى قِصَر الْأَمَل , وَالزُّهْد فِي الدُّنْيَا , وَتَرْك الرَّغْبَة فِيهَا . قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَة الْقُبُور , فَزُورُوا الْقُبُور , فَإِنَّهَا تُزَهِّد فِي الدُّنْيَا , وَتُذَكِّر الْآخِرَة ) رَوَاهُ اِبْن مَسْعُود ; أَخْرَجَهُ اِبْن مَاجَهْ . وَفِي صَحِيح مُسْلِم مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة : ( فَإِنَّهَا تُذَكِّر الْمَوْت ) . وَفِي التِّرْمِذِيّ عَنْ بُرَيْدَة : ( فَإِنَّهَا تُذَكِّر الْآخِرَة ) . قَالَ : هَذَا حَدِيث حَسَن صَحِيح . وَفِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة : أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ زَوَّارَات الْقُبُور . قَالَ : وَفِي الْبَاب عَنْ اِبْن عَبَّاس وَحَسَّان بْن ثَابِت . قَالَ أَبُو عِيسَى : وَهَذَا حَدِيث حَسَن صَحِيح . وَقَدْ رَأَى بَعْض أَهْل الْعِلْم أَنَّ هَذَا كَانَ قَبْل أَنْ يُرَخِّص النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي زِيَارَة الْقُبُور ; فَلَمَّا رَخَّصَ دَخَلَ فِي رُخْصَته الرِّجَال وَالنِّسَاء . وَقَالَ بَعْضهمْ : إِنَّمَا كُرِهَ زِيَارَة الْقُبُور لِلنِّسَاءِ لِقِلَّةِ صَبْرهنَّ , وَكَثْرَة جَزَعهنَّ .</p><p>قُلْت : زِيَارَة الْقُبُور لِلرِّجَالِ مُتَّفَق عَلَيْهِ عِنْد الْعُلَمَاء , مُخْتَلَف فِيهِ لِلنِّسَاءِ . أَمَّا الشَّوَابّ فَحَرَام عَلَيْهِنَّ الْخُرُوج , وَأَمَّا الْقَوَاعِد فَمُبَاح لَهُنَّ ذَلِكَ . وَجَائِز لِجَمِيعِهِنَّ . ذَلِكَ إِذَا اِنْفَرَدْنَ بِالْخُرُوجِ عَنْ الرِّجَال ; وَلَا يُخْتَلَف فِي هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّه . وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى يَكُون قَوْله : ( زُورُوا الْقُبُور ) عَامًّا . وَأَمَّا مَوْضِع أَوْ وَقْت يُخْشَى فِيهِ الْفِتْنَة مِنْ اِجْتِمَاع الرِّجَال وَالنِّسَاء , فَلَا يَحِلّ وَلَا يَجُوز . فَبَيْنَا الرَّجُل يَخْرُج لِيَعْتَبِر , فَيَقَع بَصَره عَلَى اِمْرَأَة فَيُفْتَتَن , وَبِالْعَكْسِ فَيَرْجِع كُلّ وَاحِد مِنْ الرِّجَال وَالنِّسَاء مَأْزُورًا غَيْر مَأْجُور . وَاَللَّه أَعْلَم .</p><p>قَالَ الْعُلَمَاء : يَنْبَغِي لِمَنْ أَرَادَ عِلَاج قَلْبه وَانْقِيَاده بِسَلَاسِل الْقَهْر إِلَى طَاعَة رَبّه , أَنْ يُكْثِر مِنْ ذِكْر هَاذِم اللَّذَّات , وَمُفَرِّق الْجَمَاعَات , وَمُوتِم الْبَنِينَ وَالْبَنَات , وَيُوَاظِب عَلَى مُشَاهَدَة الْمُحْتَضَرِينَ , وَزِيَارَة قُبُور أَمْوَات الْمُسْلِمِينَ . فَهَذِهِ ثَلَاثَة أُمُور , يَنْبَغِي لِمَنْ قَسَا قَلْبه , وَلَزِمَهُ ذَنْبه , أَنْ يَسْتَعِين بِهَا عَلَى دَوَاء دَائِهِ , وَيَسْتَصْرِخ بِهَا عَلَى فِتَن الشَّيْطَان وَأَعْوَانه ; فَإِنْ اِنْتَفَعَ بِالْإِكْثَارِ مِنْ ذِكْر الْمَوْت , وَانْجَلَتْ بِهِ قَسَاوَة قَلْبه فَذَاكَ , وَإِنْ عَظُمَ عَلَيْهِ رَان قَلْبه , وَاسْتَحْكَمَتْ فِيهِ دَوَاعِي الذَّنْب ; فَإِنَّ مُشَاهَدَة الْمُحْتَضَرِينَ , وَزِيَارَة قُبُور أَمْوَات الْمُسْلِمِينَ , تَبْلُغ فِي دَفْع ذَلِكَ مَا لَا يَبْلُغهُ الْأَوَّل ; لِأَنَّ ذِكْر الْمَوْت إِخْبَار لِلْقَلْبِ بِمَا إِلَيْهِ الْمَصِير , وَقَائِم لَهُ مَقَام التَّخْوِيف وَالتَّحْذِير . وَفِي مُشَاهَدَة مَنْ اُحْتُضِرَ , وَزِيَارَة قَبْر مَنْ مَاتَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مُعَايَنَة وَمُشَاهَدَة ; فَلِذَلِكَ كَانَ أَبْلَغ مِنْ الْأَوَّل ; قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَيْسَ الْخَبَر كَالْمُعَايَنَةِ ) رَوَاهُ اِبْن عَبَّاس . فَأَمَّا الِاعْتِبَار بِحَالِ الْمُحْتَضَرِينَ , فَغَيْر مُمْكِن فِي كُلّ الْأَوْقَات , وَقَدْ لَا يَتَّفِق لِمَنْ أَرَادَ عِلَاج قَلْبه فِي سَاعَة مِنْ السَّاعَات . وَأَمَّا زِيَارَة الْقُبُور فَوُجُودهَا أَسْرَع , وَالِانْتِفَاع بِهَا أَلْيَق وَأَجْدَر . فَيَنْبَغِي لِمَنْ عَزَمَ عَلَى الزِّيَارَة , أَنْ يَتَأَدَّب بِآدَابِهَا , وَيُحْضِر قَلْبه فِي إِتْيَانهَا , وَلَا يَكُون حَظّه مِنْهَا التَّطْوَاف عَلَى الْأَجْدَاث فَقَطْ ; فَإِنَّ هَذِهِ حَالَة تُشَارِكهُ فِيهَا بَهِيمَة . وَنَعُوذ بِاَللَّهِ مِنْ ذَلِكَ . بَلْ يَقْصِد بِزِيَارَتِهِ وَجْه اللَّه تَعَالَى , وَإِصْلَاح فَسَاد قَلْبه , أَوْ نَفْع الْمَيِّت بِمَا يَتْلُو عِنْده مِنْ الْقُرْآن وَالدُّعَاء , وَيَتَجَنَّب الْمَشْي عَلَى الْمَقَابِر , وَالْجُلُوس عَلَيْهَا وَيُسَلِّم إِذَا دَخَلَ الْمَقَابِر , وَإِذَا وَصَلَ إِلَى قَبْر مَيِّته الَّذِي يَعْرِفهُ سَلَّمَ عَلَيْهِ أَيْضًا , وَأَتَاهُ مِنْ تِلْقَاء وَجْهه ; لِأَنَّهُ فِي زِيَارَته كَمُخَاطَبَتِهِ حَيًّا , وَلَوْ خَاطَبَهُ حَيًّا لَكَانَ الْأَدَب اِسْتِقْبَاله بِوَجْهِهِ ; فَكَذَلِكَ هَاهُنَا . ثُمَّ يَعْتَبِر بِمَنْ صَارَ تَحْت التُّرَاب , وَانْقَطَعَ عَنْ الْأَهْل وَالْأَحْبَاب , بَعْد أَنْ قَادَ الْجُيُوش وَالْعَسَاكِر , وَنَافَسَ الْأَصْحَاب وَالْعَشَائِر , وَجَمَعَ الْأَمْوَال وَالذَّخَائِر ; فَجَاءَهُ الْمَوْت فِي وَقْت لَمْ يَحْتَسِبهُ , وَهَوْل لَمْ يَرْتَقِبهُ . فَلْيَتَأَمَّلْ الزَّائِر حَال مَنْ مَضَى مِنْ إِخْوَانه , وَدَرَجَ مِنْ أَقْرَانه الَّذِينَ بَلَغُوا الْآمَال , وَجَمَعُوا الْأَمْوَال ; كَيْف اِنْقَطَعَتْ آمَالهمْ , وَلَمْ تُغْنِ عَنْهُمْ أَمْوَالهمْ , وَمَحَا التُّرَاب مَحَاسِن وُجُوههمْ , وَافْتَرَقَتْ فِي الْقُبُور أَجْزَاؤُهُمْ , وَتَرَمَّلَ مِنْ بَعْدهمْ نِسَاؤُهُمْ , وَشَمِلَ ذُلّ الْيُتْم أَوْلَادهمْ , وَاقْتَسَمَ غَيْرهمْ طَرِيفهمْ وَتِلَادهمْ . وَلْيَتَذَكَّرْ تَرَدُّدهمْ فِي الْمَآرِب , وَحِرْصهمْ عَلَى نَيْل الْمَطَالِب , وَانْخِدَاعهمْ لِمُوَاتَاةِ الْأَسْبَاب , وَرُكُونهمْ إِلَى الصِّحَّة وَالشَّبَاب . وَلْيَعْلَمْ أَنَّ مَيْله إِلَى اللَّهْو وَاللَّعِب كَمَيْلِهِمْ , وَغَفْلَته عَمَّا بَيْن يَدَيْهِ مِنْ الْمَوْت الْفَظِيع , وَالْهَلَاك السَّرِيع , كَغَفْلَتِهِمْ , وَأَنَّهُ لَا بُدّ صَائِر إِلَى مَصِيرهمْ , وَلْيُحْضِرْ بِقَلْبِهِ ذِكْر مَنْ كَانَ مُتَرَدِّدًا فِي أَغْرَاضه , وَكَيْف تَهَدَّمَتْ رِجْلَاهُ . وَكَانَ يَتَلَذَّذ بِالنَّظَرِ إِلَى مَا خُوِّلَهُ وَقَدْ سَالَتْ عَيْنَاهُ , وَيَصُول بِبَلَاغَةِ نُطْقه وَقَدْ أَكَلَ الدُّود لِسَانه , وَيَضْحَك لِمُوَاتَاةِ دَهْره وَقَدْ أَبْلَى التُّرَاب أَسْنَانه , وَلْيَتَحَقَّقْ أَنَّ حَاله كَحَالِهِ , وَمَآله كَمَآلِهِ . وَعِنْد هَذَا التَّذَكُّر وَالِاعْتِبَار تَزُول عَنْهُ جَمِيع الْأَغْيَار الدُّنْيَوِيَّة , وَيُقْبِل عَلَى الْأَعْمَال الْأُخْرَوِيَّة , فَيَزْهَد فِي دُنْيَاهُ , وَيُقْبِل عَلَى طَاعَة مَوْلَاهُ , وَيَلِين قَلْبه , وَتَخْشَع جَوَارِحه .

كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ

( كَلَّا ) قَالَ الْفَرَّاء : أَيْ لَيْسَ الْأَمْر عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ التَّفَاخُر وَالتَّكَاثُر وَالتَّمَام عَلَى هَذَا | كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ | أَيْ سَوْفَ تَعْلَمُونَ عَاقِبَة هَذَا .

ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ

وَعِيد بَعْد وَعِيد ; قَالَهُ مُجَاهِد . وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون تَكْرَاره عَلَى وَجْه التَّأْكِيد وَالتَّغْلِيظ ; وَهُوَ قَوْل الْفَرَّاء . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : | كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ | مَا يَنْزِل بِكُمْ مِنْ الْعَذَاب فِي الْقَبْر . | ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ | : فِي الْآخِرَة إِذَا حَلَّ بِكُمْ الْعَذَاب . فَالْأَوَّل فِي الْقَبْر , وَالثَّانِي فِي الْآخِرَة ; فَالتَّكْرَار لِلْحَالَتَيْنِ . وَقِيلَ | كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ | عِنْد الْمُعَايَنَة , أَنَّ مَا دَعَوْتُكُمْ إِلَيْهِ حَقّ . | ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ | : عِنْد الْبَعْث أَنَّ مَا وَعَدْتُكُمْ بِهِ صِدْق . وَرَوَى زِرّ بْن حُبَيْش عَنْ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ , قَالَهُ : كُنَّا نَشُكّ فِي عَذَاب الْقَبْر , حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَة , فَأَشَارَ إِلَى أَنَّ قَوْله : | كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ | يَعْنِي فِي الْقُبُور . وَقِيلَ : | كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ | ; إِذَا نَزَلَ بِكُمْ الْمَوْت , وَجَاءَتْكُمْ رُسُل لِتَنْزِع أَرْوَاحكُمْ . | ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ : إِذَا دَخَلْتُمْ قُبُوركُمْ , وَجَاءَكُمْ مُنْكَر وَنَكِير , وَحَاطَ بِكُمْ هَوْل السُّؤَال , وَانْقَطَعَ مِنْكُمْ الْجَوَاب .</p><p>قُلْت : فَتَضَمَّنَتْ السُّورَة الْقَوْل فِي عَذَاب الْقَبْر . وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَاب | التَّذْكِرَة | أَنَّ الْإِيمَان بِهِ وَاجِب , وَالتَّصْدِيق بِهِ لَازِم ; حَسْبَمَا أَخْبَرَ بِهِ الصَّادِق , وَأَنَّ اللَّه تَعَالَى يُحْيِي الْعَبْد الْمُكَلَّف فِي قَبْره , بِرَدِّ الْحَيَاة إِلَيْهِ , وَيَجْعَل لَهُ مِنْ الْعَقْل فِي مِثْل الْوَصْف الَّذِي عَاشَ عَلَيْهِ ; لِيَعْقِل مَا يُسْأَل عَنْهُ , وَمَا يُجِيب بِهِ , وَيَفْهَم مَا أَتَاهُ مِنْ رَبّه , وَمَا أَعَدَّ لَهُ فِي قَبْره , مِنْ كَرَامَة وَهَوَان . وَهَذَا هُوَ مَذْهَب أَهْل السُّنَّة , وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْجَمَاعَة مِنْ أَهْل الْمِلَّة . وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ هُنَاكَ مُسْتَوْفًى , وَالْحَمْد لِلَّهِ , وَقِيلَ : | كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ | عِنْد النُّشُور أَنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ | ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ | فِي الْقِيَامَة أَنَّكُمْ مُعَذَّبُونَ . وَعَلَى هَذَا تَضَمَّنَتْ أَحْوَال الْقِيَامَة مِنْ بَعْث وَحَشْر , وَسُؤَال وَعَرْض , إِلَى غَيْر ذَلِكَ مِنْ أَهْوَالهَا وَأَفْزَاعهَا حَسَب مَا ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَاب | التَّذْكِرَة , بِأَحْوَالِ الْمَوْتَى وَأُمُور الْآخِرَة | . وَقَالَ الضَّحَّاك : | كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ | يَعْنِي الْكُفَّار , | ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ | : قَالَ الْمُؤْمِنُونَ . وَكَذَلِكَ كَانَ يَقْرَؤُهَا , الْأُولَى بِالتَّاءِ وَالثَّانِيَة بِالْيَاءِ .

كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ

أَعَادَ | كَلَّا | وَهُوَ زَجْر وَتَنْبِيه ; لِأَنَّهُ عَقَّبَ كُلّ وَاحِد بِشَيْءٍ آخَر ; كَأَنَّهُ قَالَ : لَا تَفْعَلُوا , فَإِنَّكُمْ تَنْدَمُونَ , لَا تَفْعَلُوا , فَإِنَّكُمْ تَسْتَوْجِبُونَ الْعِقَاب . وَإِضَافَة الْعِلْم إِلَى الْيَقِين كَقَوْلِهِ تَعَالَى : | إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقّ الْيَقِين | [ الْوَاقِعَة : 95 ] . وَقِيلَ : الْيَقِين هَاهُنَا : الْمَوْت ; قَالَهُ قَتَادَة . وَعَنْهُ أَيْضًا : الْبَعْث ; لِأَنَّهُ إِذَا جَاءَ زَالَ الشَّكّ , أَيْ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْم الْبَعْث وَجَوَاب | لَوْ | مَحْذُوف ; أَيْ لَوْ تَعْلَمُونَ الْيَوْم مِنْ الْبَعْث مَا تَعْلَمُونَهُ إِذَا جَاءَتْكُمْ نَفْخَة الصُّور , وَانْشَقَّتْ اللُّحُود عَنْ جُثَثكُمْ , كَيْف يَكُون حَشْركُمْ ؟ لَشَغَلَكُمْ ذَاكَ عَنْ التَّكَاثُر بِالدُّنْيَا . وَقِيلَ : | كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْم الْيَقِين | أَيْ لَوْ قَدْ تَطَايَرَتْ الصُّحُف , فَشَقِيّ وَسَعِيد . وَقِيلَ : إِنَّ | كَلَّا | فِي هَذِهِ الْمَوَاضِع الثَّلَاثَة بِمَعْنَى | أَلَا | قَالَهُ اِبْن أَبِي حَاتِم , وَقَالَ الْفَرَّاء : هِيَ بِمَعْنَى | حَقًّا | وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَام فِيهَا مُسْتَوْفًى .

لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ

هَذَا وَعِيد آخَر . وَهُوَ عَلَى إِضْمَار الْقَسَم ; أَيْ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيم فِي الْآخِرَة . وَالْخِطَاب لِلْكُفَّارِ الَّذِينَ وَجَبَتْ لَهُمْ النَّار . وَقِيلَ : هُوَ عَامّ ; كَمَا قَالَ : | وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدهَا | [ مَرْيَم : 71 ] فَهُيِّئَ لِلْكُفَّارِ دَار , وَلِلْمُؤْمِنِينَ مَمَرّ . وَفِي الصَّحِيح : ( فَيَمُرّ أَوَّلهمْ كَالْبَرْقِ , ثُمَّ كَالرِّيحِ , ثُمَّ كَالطَّيْرِ . ) الْحَدِيث . وَقَدْ مَضَى فِي سُورَة | مَرْيَم | . وَقَرَأَ الْكِسَائِيّ وَابْن عَامِر | لَتُرَوُنَّ | بِضَمِّ التَّاء , مِنْ أَرَيْته الشَّيْء ; أَيْ تُحْشَرُونَ إِلَيْهَا فَتَرَوْنَهَا . وَعَلَى فَتْح التَّاء , هِيَ قِرَاءَة الْجَمَاعَة ; أَيْ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيم بِأَبْصَارِكُمْ عَلَى الْبُعْد .

ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ

أَيْ مُشَاهَدَة . وَقِيلَ : هُوَ إِخْبَار عَنْ دَوَام مَقَامهمْ فِي النَّار ; أَيْ هِيَ رُؤْيَة دَائِمَة مُتَّصِلَة . وَالْخِطَاب عَلَى هَذَا لِلْكُفَّارِ . وَقِيلَ : مَعْنَى | لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْم الْيَقِين | أَيْ لَوْ تَعْلَمُونَ الْيَوْم فِي الدُّنْيَا عِلْم الْيَقِين فِيمَا أَمَامكُمْ , مِمَّا وَصَفْت : | لَتَرَوُنَّ الْجَحِيم | بِعُيُونِ قُلُوبكُمْ ; فَإِنَّ عِلْم الْيَقِين يُرِيك الْجَحِيم بِعَيْنِ فُؤَادك ; وَهُوَ أَنْ تُتَصَوَّر لَك تَارَات الْقِيَامَة , وَقَطْع مَسَافَاتهَا . | ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْن الْيَقِين | : أَيْ عِنْد الْمُعَايَنَة بِعَيْنِ الرَّأْس , فَتَرَاهَا يَقِينًا , لَا تَغِيب عَنْ عَيْنك . | ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمئِذٍ عَنْ النَّعِيم | : فِي مَوْقِف السُّؤَال وَالْعُرْف .

ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ

رَوَى مُسْلِم فِي صَحِيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : خَرَجَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَات يَوْم أَوْ لَيْلَة , فَإِذَا هُوَ بِأَبِي بَكْر وَعُمَر ; فَقَالَ : ( مَا أَخْرَجَكُمَا مِنْ بُيُوتكُمَا هَذِهِ السَّاعَة ) ؟ قَالَا : الْجُوع يَا رَسُول اللَّه . قَالَ : ( وَأَنَا وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَخْرَجَنِي الَّذِي أَخْرَجَكُمَا قُومَا ) فَقَامَا مَعَهُ ; فَأَتَى رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَار , فَإِذَا هُوَ لَيْسَ فِي بَيْته , فَلَمَّا رَأَتْهُ الْمَرْأَة قَالَتْ : مَرْحَبًا وَأَهْلًا . فَقَالَ لَهَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَيْنَ فُلَان ) ؟ قَالَتْ : يَسْتَعْذِب لَنَا مِنْ الْمَاء ; إِذْ جَاءَ الْأَنْصَارِيّ , فَنَظَرَ إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبَيْهِ , ثُمَّ قَالَ : الْحَمْد لِلَّهِ مَا أَحَد الْيَوْم أَكْرَم أَضْيَافًا مِنِّي . قَالَ : فَانْطَلَقَ , فَجَاءَهُمْ بِعِذْقٍ فِيهِ بُسْر وَتَمْر وَرُطَب , فَقَالَ : كُلُوا مِنْ هَذِهِ . وَأَخَذَ الْمُدْيَة فَقَالَ لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِيَّاكَ وَالْحَلُوب ) فَذَبَحَ لَهُمْ , فَأَكَلُوا مِنْ الشَّاة , وَمِنْ ذَلِكَ الْعِذْق , وَشَرِبُوا ; فَلَمَّا أَنْ شَبِعُوا وَرَوُوا , قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْر وَعُمَر : ( وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُسْأَلُنَّ عَنْ نَعِيم هَذَا الْيَوْم , يَوْم الْقِيَامَة , أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُيُوتكُمْ الْجُوع , ثُمَّ لَمْ تَرْجِعُوا حَتَّى أَصَابَكُمْ هَذَا النَّعِيم ) . خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيّ , وَقَالَ فِيهِ : ( هَذَا وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مِنْ النَّعِيم الَّذِي تُسْأَلُونَ عَنْهُ يَوْم الْقِيَامَة : ظِلّ بَارِد , وَرُطَب طَيِّب , وَمَاء بَارِد ) وَكَنَّى الرَّجُل الَّذِي مِنْ الْأَنْصَار , فَقَالَ : أَبُو الْهَيْثَم بْن التَّيْهَان . وَذَكَرَ قِصَّته .</p><p>قُلْت : اِسْم هَذَا الرَّجُل الْأَنْصَارِيّ مَالِك بْن التَّيْهَان , وَيُكَنَّى أَبَا الْهَيْثَم . وَفِي هَذِهِ الْقِصَّة يَقُول عَبْد اللَّه بْن رَوَاحَة , يَمْدَح بِهَا أَبَا الْهَيْثَم بْن التَّيْهَان : <br>فَلَمْ أَرَ كَالْإِسْلَامِ عِزًّا لِأُمَّةٍ .......... وَلَا مِثْل أَضْيَاف الْإِرَاشِيّ مَعْشَرًا <br><br>نَبِيّ وَصِدِّيق وَفَارُوق أُمَّة .......... وَخَيْر بَنِي حَوَّاء فَرْعًا وَعُنْصُرَا <br><br>فَوَافَوْا لِمِيقَاتٍ وَقَدْر قَضِيَّة .......... وَكَانَ قَضَاء اللَّه قَدْرًا مُقَدَّرَا <br><br>إِلَى رَجُل نَجْد يُبَارِي بِجُودِهِ .......... شُمُوس الضُّحَى جُودًا وَمَجْدًا وَمَفْخَرَا <br><br>وَفَارِس خَلْق اللَّه فِي كُلّ غَارَة .......... إِذَا لَبِسَ الْقَوْم الْحَدِيد الْمُسَمَّرَا <br><br>فَفَدَّى وَحَيَّا ثُمَّ أَدْنَى قِرَاهُمْ .......... فَلَمْ يَقْرِهِمْ إِلَّا سَمِينًا مُتَمَّرَا <br>وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو نُعَيْم الْحَافِظ , عَنْ أَبِي عسيب مَوْلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; قَالَ : خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلًا , فَخَرَجْت إِلَيْهِ , ثُمَّ مَرَّ بِأَبِي بَكْر فَدَعَاهُ , فَخَرَجَ إِلَيْهِ , ثُمَّ مَرَّ بِعُمَر فَدَعَاهُ , فَخَرَجَ إِلَيْهِ , فَانْطَلَقَ حَتَّى دَخَلَ حَائِطًا لِبَعْضِ الْأَنْصَار , فَقَالَ لِصَاحِبِ الْحَائِط : ( أَطْعِمْنَا بُسْرًا ) فَجَاءَ بِعِذْقٍ , فَوَضَعَهُ فَأَكَلُوا , ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَشَرِبَ , فَقَالَ : ( لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هَذَا يَوْم الْقِيَامَة ) قَالَ : وَأَخَذَ عُمَر الْعِذْق , فَضَرَبَ بِهِ الْأَرْض حَتَّى تَنَاثَرَ الْبُسْر نَحْو وَجْه رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : يَا رَسُول اللَّه , إِنَّا لَمَسْئُولُونَ عَنْ هَذَا يَوْم الْقِيَامَة ؟ قَالَ : ( نَعَمْ إِلَّا مِنْ ثَلَاث : كِسْرَة يَسُدّ بِهَا جَوْعَته , أَوْ ثَوْب يَسْتُر بِهِ عَوْرَته , أَوْ حَجَر يَأْوِي فِيهِ مِنْ الْحَرّ وَالْقُرّ ) . وَاخْتَلَفَ أَهْل التَّأْوِيل فِي النَّعِيم الْمَسْئُول عَنْهُ عَلَى عَشَرَة أَقْوَال :</p><p>أَحَدهَا : الْأَمْن وَالصِّحَّة ; قَالَهُ اِبْن مَسْعُود .</p><p>الثَّانِي : الصِّحَّة وَالْفَرَاغ ; قَالَهُ سَعِيد بْن جُبَيْر . وَفِي الْبُخَارِيّ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَام : ( نِعْمَتَانِ مَغْبُون فِيهِمَا كَثِير مِنْ النَّاس : الصِّحَّة وَالْفَرَاغ ) .</p><p>الثَّالِث : الْإِدْرَاك بِحَوَاسّ السَّمْع وَالْبَصَر ; قَالَهُ اِبْن عَبَّاس . وَفِي التَّنْزِيل : | إِنَّ السَّمْع وَالْبَصَر وَالْفُؤَاد كُلّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا | [ الْإِسْرَاء : 36 ] . وَفِي الصَّحِيح عَنْ أَبِي هُرَيْرَة وَأَبِي سَعِيد قَالَا : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يُؤْتَى بِالْعَبْدِ يَوْم الْقِيَامَة , فَيَقُول لَهُ : أَلَمْ أَجْعَل لَك سَمْعًا وَبَصَرًا , وَمَالًا وَوَلَدًا 000 ) , الْحَدِيث . خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيّ وَقَالَ فِيهِ : حَدِيث حَسَن صَحِيح .</p><p>الرَّابِع : مَلَاذّ الْمَأْكُول وَالْمَشْرُوب قَالَهُ جَابِر بْن عَبْد اللَّه الْأَنْصَارِيّ . وَحَدِيث أَبِي هُرَيْرَة يَدُلّ عَلَيْهِ .</p><p>الْخَامِس : أَنَّهُ الْغَدَاء وَالْعَشَاء ; قَالَهُ الْحَسَن .</p><p>السَّادِس : قَوْل مَكْحُول الشَّامِيّ : أَنَّهُ شِبَع الْبُطُون وَبَارِد الشَّرَاب , وَظِلَال الْمَسَاكِن , وَاعْتِدَال الْخَلْق ; وَلَذَّة النَّوْم . وَرَوَاهُ زَيْد بْن أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( | لَتُسْأَلُنَّ يَوْمئِذٍ عَنْ النَّعِيم | يَعْنِي عَنْ شِبَع الْبُطُون 000 ) . فَذَكَرَهُ . ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيّ , وَقَالَ : وَهَذَا السُّؤَال يَعُمّ الْكَافِر وَالْمُؤْمِن , إِلَّا أَنَّ سُؤَال الْمُؤْمِن تَبْشِير بِأَنْ يُجْمَع لَهُ بَيْن نَعِيم الدُّنْيَا وَنَعِيم الْآخِرَة . وَسُؤَال الْكَافِر تَقْرِيع أَنْ قَابَلَ نَعِيم الدُّنْيَا بِالْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَة . وَقَالَ قَوْم : هَذَا السُّؤَال عَنْ كُلّ نِعْمَة , إِنَّمَا يَكُون فِي حَقّ الْكُفَّار , فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْر لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة قَالَ : يَا رَسُول اللَّه , أَرَأَيْت أَكْلَة أَكَلْتهَا مَعَك فِي بَيْت أَبِي الْهَيْثَم بْن التَّيْهَان , مِنْ خُبْز شَعِير وَلَحْم وَبُسْر قَدْ ذَنَّبَ , وَمَاء عَذْب , أَتَخَافُ عَلَيْنَا أَنْ يَكُون هَذَا مِنْ النَّعِيم الَّذِي نُسْأَل عَنْهُ ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام : ( ذَلِكَ لِلْكُفَّارِ ; ثُمَّ قَرَأَ : | وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُور | [ سَبَأ : 17 ] . ذَكَرَهُ الْقُشَيْرِيّ أَبُو نَصْر . وَقَالَ الْحَسَن لَا يُسْأَل عَنْ النَّعِيم إِلَّا أَهْل النَّار . وَقَالَ الْقُشَيْرِيّ : وَالْجَمْع بَيْن الْأَخْبَار : أَنَّ الْكُلّ يُسْأَلُونَ وَلَكِنَّ سُؤَال الْكُفَّار تَوْبِيخ ; لِأَنَّهُ قَدْ تَرَكَ الشُّكْر . وَسُؤَال الْمُؤْمِن سُؤَال تَشْرِيف ; لِأَنَّهُ شَكَرَ . و هَذَا النَّعِيم فِي كُلّ نِعْمَة .</p><p>قُلْت : هَذَا الْقَوْل حَسَن ; لِأَنَّ اللَّفْظ يَعُمّ . وَقَدْ ذَكَرَ الْفِرْيَابِيّ قَالَ : حَدَّثَنَا وَرْقَاء عَنْ اِبْن أَبِي نَجِيح عَنْ مُجَاهِد , فِي قَوْله تَعَالَى : | ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمئِذٍ عَنْ النَّعِيم | قَالَ : كُلّ شَيْء مِنْ لَذَّة الدُّنْيَا . وَرَوَى أَبُو الْأَحْوَص عَنْ عَبْد اللَّه عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( إِنَّ اللَّه تَعَالَى لَيُعَدِّد نِعَمه عَلَى الْعَبْد يَوْم الْقِيَامَة , حَتَّى يَعُدّ عَلَيْهِ : سَأَلَتْنِي فُلَانَة أَنْ أُزَوِّجكهَا , فَيُسَمِّيهَا بِاسْمِهَا , فَزَوَّجْتُكهَا ) . وَفِي التِّرْمِذِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة : | ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمئِذٍ عَنْ النَّعِيم | قَالَ النَّاس : يَا رَسُول اللَّه , عَنْ أَيّ النَّعِيم نُسْأَل ؟ فَإِنَّمَا هُمَا الْأَسْوَدَانِ وَالْعَدُوّ حَاضِر , وَسُيُوفنَا عَلَى عَوَاتِقنَا . قَالَ : ( إِنَّ ذَلِكَ سَيَكُونُ ) . وَعَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ أَوَّل مَا يُسْأَل عَنْهُ يَوْم الْقِيَامَة - يَعْنِي الْعَبْد - أَنْ يُقَال لَهُ : أَلَمْ نُصِحّ لَك جِسْمك , وَنُرْوِيك مِنْ الْمَاء الْبَارِد ) قَالَ : حَدِيث اِبْن عُمَر قَالَ : سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( إِذَا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة دَعَا اللَّه بِعَبْدٍ مِنْ عِبَاده , فَيُوقِفهُ بَيْن يَدَيْهِ , فَيَسْأَلهُ عَنْ جَاهه كَمَا يَسْأَلهُ عَنْ مَاله ) . وَالْجَاه مِنْ نَعِيم الدُّنْيَا لَا مَحَالَة . وَقَالَ مَالِك رَحِمَهُ اللَّه : إِنَّهُ صِحَّة الْبَدَن , وَطِيب النَّفْس . وَهُوَ الْقَوْل السَّابِع . وَقِيلَ : النَّوْم مَعَ الْأَمْن وَالْعَافِيَة . وَقَالَ سُفْيَان بْن عُيَيْنَة : إِنَّ مَا سَدَّ الْجُوع وَسَتَرَ الْعَوْرَة مِنْ خَشِن الطَّعَام وَاللِّبَاس , لَا يُسْأَل عَنْهُ الْمَرْء يَوْم الْقِيَامَة , وَإِنَّمَا يُسْأَل عَنْ النَّعِيم . قَالَ : وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَسْكَنَ آدَم الْجَنَّة . فَقَالَ لَهُ : | إِنَّ لَك أَلَّا تَجُوع فِيهَا وَلَا تَعْرَى . وَأَنَّك لَا تَظْمَأ فِيهَا وَلَا تَضْحَى | [ طَه : 118 - 119 ] . فَكَانَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاء الْأَرْبَعَة - مَا يَسُدّ بِهِ الْجُوع , وَمَا يَدْفَع بِهِ الْعَطَش , وَمَا يَسْتَكِنّ فِيهِ مِنْ الْحَرّ , وَيَسْتُر بِهِ عَوْرَته - لِآدَم عَلَيْهِ السَّلَام بِالْإِطْلَاقِ , لَا حِسَاب عَلَيْهِ فِيهَا لِأَنَّهُ لَا بُدّ لَهُ مِنْهَا .</p><p>قُلْت : وَنَحْو هَذَا ذَكَرَهُ الْقُشَيْرِيّ أَبُو نَصْر , قَالَ : إِنَّ مِمَّا لَا يُسْأَل عَنْهُ الْعَبْد لِبَاسًا يُوَارِي سَوْأَته , وَطَعَامًا يُقِيم صُلْبه , وَمَكَانًا يُكِنّهُ مِنْ الْحَرّ وَالْبَرْد .</p><p>قُلْت : وَهَذَا مُنْتَزَع مِنْ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( لَيْسَ لِابْنِ آدَم حَقّ فِي سِوَى هَذِهِ الْخِصَال : بَيْت يَسْكُنهُ , وَثَوْب يُوَارِي عَوْرَته , وَجِلْف الْخُبْز وَالْمَاء ) خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيّ . وَقَالَ النَّضْر بْن شُمَيْل : جِلْف الْخُبْز : لَيْسَ مَعَهُ إِدَام . وَقَالَ مُحَمَّد بْن كَعْب : النَّعِيم : هُوَ مَا أَنْعَمَ اللَّه عَلَيْنَا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَفِي التَّنْزِيل : | لَقَدْ مَنَّ اللَّه عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسهمْ | [ آل عِمْرَان : 164 ] . وَقَالَ الْحَسَن أَيْضًا وَالْمُفَضَّل : هُوَ تَخْفِيف الشَّرَائِع , وَتَيْسِير الْقُرْآن , قَالَ اللَّه تَعَالَى : | وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّين مِنْ حَرَج | [ الْحَجّ : 78 ] , وَقَالَ تَعَالَى : | وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآن لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِر | [ الْقَمَر : 17 ] .</p><p>قُلْت : وَكُلّ هَذِهِ نِعَم , فَيُسْأَل الْعَبْد عَنْهَا : هَلْ شَكَرَ ذَلِكَ أَمْ كَفَرَ . وَالْأَقْوَال الْمُتَقَدِّمَة أَظْهَر وَاَللَّه أَعْلَم


1-الفاتحة 2-البقرة 3-آل-عمران 4-النساء 5-المائدة 6-الأنعام 7-الأعراف 8-الأنفال 9-التوبة 10-يونس 11-هود 12-يوسف 13-الرعد 14-إبراهيم 15-الحجر 16-النحل 17-الإسراء 18-الكهف 19-مريم 20-طه 21-الأنبياء 22-الحج 23-المؤمنون 24-النور 25-الفرقان 26-الشعراء 27-النمل 28-القصص 29-العنكبوت 30-الروم 31-لقمان 32-السجدة 33-الأحزاب 34-سبأ 35-فاطر 36-يس 37-الصافات 38-ص 39-الزمر 40-غافر 41-فصلت 42-الشورى 43-الزخرف 44-الدخان 45-الجاثية 46-الأحقاف 47-محمد 48-الفتح 49-الحجرات 50-ق 51-الذاريات 52-الطور 53-النجم 54-القمر 55-الرحمن 56-الواقعة 57-الحديد 58-المجادلة 59-الحشر 60-الممتحنة 61-الصف 62-الجمعة 63-المنافقون 64-التغابن 65-الطلاق 66-التحريم 67-الملك 68-القلم 69-الحاقة 70-المعارج 71-نوح 72-الجن 73-المزمل 74-المدثر 75-القيامة 76-الإنسان 77-المرسلات 78-النبأ 79-النازعات 80-عبس 81-التكوير 82-الانفطار 83-المطففين 84-الانشقاق 85-البروج 86-الطارق 87-الأعلى 88-الغاشية 89-الفجر 90-البلد 91-الشمس 92-الليل 93-الضحى 94-الشرح 95-التين 96-العلق 97-القدر 98-البينة 99-الزلزلة 100-العاديات 101-القارعة 102-التكاثر 103-العصر 104-الهمزة 105-الفيل 106-قريش 107-الماعون 108-الكوثر 109-الكافرون 110-النصر 111-المسد 112-الإخلاص 113-الفلق 114-الناس