مَكِّيَّة , وَهِيَ ثَمَان وَعِشْرُونَ آيَة قَدْ مَضَى الْقَوْل فِي | الْأَعْرَاف | أَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَام أَوَّل رَسُول أُرْسِل . وَرَوَاهُ قَتَادَة عَنْ اِبْن عَبَّاس عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( أَوَّل رَسُول أُرْسِل نُوح وَأُرْسِلَ إِلَى جَمِيع أَهْل الْأَرْض ) . فَلِذَلِكَ لَمَّا كَفَرُوا أَغْرَقَ اللَّه أَهْلَ الْأَرْض جَمِيعًا . وَهُوَ نُوح بْن لَامك بْن متوشلخ بْن أخنوخ وَهُوَ إِدْرِيس بْن يَرِد بْن مهلايل بْن أَنُوش بْن قَيْنَان بْن شيث بْن آدَم عَلَيْهِ السَّلَام . قَالَ وَهْب : كُلّهمْ مُؤْمِنُونَ . أُرْسِلَ إِلَى قَوْمه وَهُوَ اِبْن خَمْسِينَ سَنَة . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : اِبْن أَرْبَعِينَ سَنَة . وَقَالَ عَبْد اللَّه بْن شَدَّاد : بُعِثَ وَهُوَ اِبْن ثَلَاثِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَة . وَقَدْ مَضَى فِي سُورَة | الْعَنْكَبُوت | الْقَوْل فِيهِ . وَالْحَمْد لِلَّهِ .|أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ|أَيْ بِأَنْ أَنْذِرْ قَوْمَك ; فَمَوْضِع | أَنْ | نَصْب بِإِسْقَاطِ الْخَافِض . وَقِيلَ : مَوْضِعهَا جَرّ لِقُوَّةِ خِدْمَتهَا مَعَ | أَنْ | . وَيَجُوز | أَنْ | بِمَعْنَى الْمُفَسِّرَة فَلَا يَكُون لَهَا مَوْضِع مِنْ الْإِعْرَاب ; لِأَنَّ فِي الْإِرْسَال مَعْنَى الْأَمْر , فَلَا حَاجَةَ إِلَى إِضْمَار الْبَاء . وَقِرَاءَة عَبْد اللَّه | أَنْذِرْ قَوْمَك | بِغَيْرِ | أَنْ | بِمَعْنَى قُلْنَا لَهُ أَنْذِرْ قَوْمَك . وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى الْإِنْذَار فِي أَوَّل | الْبَقَرَة | .|مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ|قَالَ اِبْن عَبَّاس : يَعْنِي عَذَاب النَّار فِي الْآخِرَة . وَقَالَ الْكَلْبِيّ : هُوَ مَا نَزَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ الطُّوفَان . وَقِيلَ : أَيْ أَنْذِرْهُمْ الْعَذَاب الْأَلِيمَ عَلَى الْجُمْلَة إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا . فَكَانَ يَدْعُو قَوْمَهُ وَيُنْذِرهُمْ فَلَا يَرَى مِنْهُمْ مُجِيبًا ; وَكَانُوا يَضْرِبُونَهُ حَتَّى يُغْشَى عَلَيْهِ فَيَقُول ( رَبّ اِغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ) . وَقَدْ مَضَى هَذَا مُسْتَوْفًى فِي سُورَة | الْعَنْكَبُوت | وَالْحَمْد لِلَّهِ .
أَيْ مُخَوِّف .|نَذِيرٌ|أَيْ مُظْهِر لَكُمْ بِلِسَانِكُمْ الَّذِي تَعْرِفُونَهُ .
و | أَنْ | الْمُفَسِّرَة عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي | أَنْ أَنْذِرْ | . | اُعْبُدُوا | أَيْ وَحِّدُوا . وَاتَّقُوا : خَافُوا .|وَأَطِيعُونِ|أَيْ فِيمَا آمُركُمْ بِهِ , فَإِنِّي رَسُول اللَّه إِلَيْكُمْ .
جُزِمَ | يَغْفِر | بِجَوَابِ الْأَمْر . و | مِنْ | صِلَة زَائِدَة . وَمَعْنَى الْكَلَام يَغْفِر لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ,|قَالَهُ السُّدِّيّ . وَقِيلَ : لَا يَصِحّ كَوْنهَا زَائِدَة ; لِأَنَّ | مِنْ | لَا تُزَاد فِي الْوَاجِب , وَإِنَّمَا هِيَ هُنَا لِلتَّبْعِيضِ , وَهُوَ بَعْض الذُّنُوب , وَهُوَ مَا لَا يَتَعَلَّق بِحُقُوقِ الْمَخْلُوقِينَ . وَقِيلَ : هِيَ لِبَيَانِ الْجِنْس . وَفِيهِ بُعْد , إِذْ لَمْ يَتَقَدَّم جِنْس يَلِيق بِهِ . وَقَالَ زَيْد بْن أَسْلَمَ : الْمَعْنَى يُخْرِجكُمْ مِنْ ذُنُوبكُمْ . اِبْن شَجَرَة : الْمَعْنَى يَغْفِر لَكُمْ مِنْ ذُنُوبكُمْ مَا اِسْتَغْفَرْتُمُوهُ مِنْهَا|وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى|قَالَ اِبْن عَبَّاس : أَيْ يُنْسِئ فِي أَعْمَاركُمْ . وَمَعْنَاهُ أَنَّ اللَّه تَعَالَى كَانَ قَضَى قَبْلَ خَلْقهمْ أَنَّهُمْ إِنْ آمَنُوا بَارَكَ فِي أَعْمَارهمْ , وَإِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا عُوجِلُوا بِالْعَذَابِ . وَقَالَ مُقَاتِل : يُؤَخِّركُمْ إِلَى مُنْتَهَى آجَالكُمْ فِي عَافِيَة ; فَلَا يُعَاقِبكُمْ بِالْقَحْطِ وَغَيْره . فَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا يُؤَخِّركُمْ مِنْ الْعُقُوبَات ( والشَّدَائِد إِلَى آجَالكُمْ . وَقَالَ الزَّجَّاج أَيْ يُؤَخِّركُمْ عَنْ الْعَذَاب فَتَمُوتُوا غَيْر مَوْتَة الْمُسْتَأْصَلِينَ بِالْعَذَابِ . وَعَلَى هَذَا قِيلَ : | أَجَل مُسَمًّى | عِنْدَكُمْ تَعْرِفُونَهُ , لَا يُمِيتكُمْ غَرَقًا وَلَا حَرْقًا وَلَا قَتْلًا ; ذَكَرَهُ الْفَرَّاء . وَعَلَى الْقَوْل الْأَوَّل | أَجَل مُسَمًّى | عِنْدَ اللَّه .|إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ|أَيْ إِذَا جَاءَ الْمَوْت لَا يُؤَخَّر بِعَذَابٍ كَانَ أَوْ بِغَيْرِ عَذَاب . وَأَضَافَ الْأَجَلَ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ لِأَنَّهُ الَّذِي أَثْبَتَهُ . وَقَدْ يُضَاف إِلَى الْقَوْم , كَقَوْلِهِ تَعَالَى : | فَإِذَا جَاءَ أَجَلهمْ | [ النَّحْل : 61 ] لِأَنَّهُ مَضْرُوب لَهُمْ .|لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ|بِمَعْنَى | إِنْ | أَيْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . وَقَالَ الْحَسَن : مَعْنَاهُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ لَعَلِمْتُمْ أَنَّ أَجَلَ اللَّه إِذَا جَاءَكُمْ لَمْ يُؤَخَّر .
أَيْ سِرًّا وَجَهْرًا . وَقِيلَ : أَيْ وَاصَلْت الدُّعَاءَ .
أَيْ تَبَاعُدًا مِنْ الْإِيمَان . وَقِرَاءَة الْعَامَّة بِفَتْحِ الْيَاء مِنْ | دُعَائِي | وَأَسْكَنَهَا الْكُوفِيُّونَ وَيَعْقُوب وَالدَّوْرِيّ عَنْ أَبِي عَمْرو .
أَيْ إِلَى سَبَب الْمَغْفِرَة , وَهِيَ الْإِيمَان بِك وَالطَّاعَة لَك .|جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ|لِئَلَّا يَسْمَعُوا دُعَائِي|وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ|أَيْ غَطَّوْا بِهَا وُجُوهَهُمْ لِئَلَّا يَرَوْهُ . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : جَعَلُوا ثِيَابَهُمْ عَلَى رُءُوسهمْ لِئَلَّا يَسْمَعُوا كَلَامَهُ . فَاسْتِغْشَاء الثِّيَاب إِذًا زِيَادَة فِي سَدّ الْآذَان حَتَّى لَا يَسْمَعُوا , أَوْ لِتَنْكِيرِهِمْ أَنْفُسهمْ حَتَّى يَسْكُت أَوْ لِيُعَرِّفُوهُ إِعْرَاضَهُمْ عَنْهُ . وَقِيلَ : هُوَ كِنَايَة عَنْ الْعَدَاوَة . يُقَال : لَبِسَ لِي فُلَان ثِيَابَ الْعَدَاوَة .|وَأَصَرُّوا|أَيْ عَلَى الْكُفْر فَلَمْ يَتُوبُوا .|وَاسْتَكْبَرُوا|عَنْ قَبُول الْحَقّ ; لِأَنَّهُمْ قَالُوا : | أَنُؤْمِنُ لَك وَاتَّبَعَك الْأَرْذَلُونَ | [ الشُّعَرَاء : 111 ] .|اسْتِكْبَارًا|تَفْخِيم .
أَيْ مُظْهِرًا لَهُمْ الدَّعْوَة . وَهُوَ مَنْصُوب | بِدَعَوْتُهُمْ | نَصْب الْمَصْدَر ; لِأَنَّ الدُّعَاءَ أَحَد نَوْعَيْهِ الْجِهَار , فَنُصِبَ بِهِ نَصْب الْقُرْفُصَاء بِقَعَدَ ; لِكَوْنِهَا أَحَد أَنْوَاع الْقُعُود , أَوْ لِأَنَّهُ أَرَادَ | بِدَعَوْتُهُمْ | جَاهَرْتهمْ . وَيَجُوز أَنْ يَكُونَ صِفَة لِمَصْدَرِ دَعَا ; أَيْ دُعَاء جِهَارًا ; أَيْ مُجَاهِرًا بِهِ . وَيَكُون مَصْدَرًا فِي مَوْضِع الْحَال ; أَيْ دَعَوْتهمْ مُجَاهِرًا لَهُمْ بِالدَّعْوَةِ .
أَيْ لَمْ أُبْقِ مَجْهُودًا . وَقَالَ مُجَاهِد : مَعْنَى أَعْلَنْت : صِحْت , | وَأَسْرَرْت لَهُمْ إِسْرَارًا | . بِالدُّعَاءِ عَنْ بَعْضهمْ مِنْ بَعْض . وَقِيلَ : | أَسْرَرْت لَهُمْ | أَتَيْتهمْ فِي مَنَازِلهمْ . وَكُلّ هَذَا مِنْ نُوح عَلَيْهِ السَّلَام مُبَالَغَة فِي الدُّعَاء لَهُمْ , وَتَلَطُّف فِي الِاسْتِدْعَاء . وَفَتَحَ الْيَاءَ مِنْ | إِنِّي أَعْلَنْت لَهُمْ | الْحَرَمِيُّونَ وَأَبُو عَمْرو . وَأَسْكَنَ الْبَاقُونَ .
أَيْ سَلُوهُ الْمَغْفِرَةَ مِنْ ذُنُوبكُمْ السَّالِفَة بِإِخْلَاصِ الْإِيمَان .|إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا|وَهَذَا مِنْهُ تَرْغِيب فِي التَّوْبَة . وَقَدْ رَوَى حُذَيْفَة بْن الْيَمَان عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( الِاسْتِغْفَار مِمْحَاة لِلذُّنُوبِ ) . وَقَالَ الْفُضَيْل : يَقُول الْعَبْد أَسْتَغْفِر اللَّهَ ; وَتَفْسِيرهَا أَقِلْنِي .
أَيْ يُرْسِل مَاء السَّمَاء ; فَفِيهِ إِضْمَار . وَقِيلَ : السَّمَاء الْمَطَر ; أَيْ يُرْسِل الْمَطَرَ . قَالَ الشَّاعِر : <br>إِذَا سَقَطَ السَّمَاء بِأَرْضِ قَوْم .......... رَعَيْنَاهُ وَإِنْ كَانُوا غِضَابًا <br>وَ | مِدْرَارًا | ذَا غَيْث كَثِير . وَجُزِمَ | يُرْسِل | جَوَابًا لِلْأَمْرِ . وَقَالَ مُقَاتِل : لَمَّا كَذَّبُوا نُوحًا زَمَانًا طَوِيلًا حَبَسَ اللَّه عَنْهُمْ الْمَطَرَ , وَأَعْقَمَ أَرْحَامَ نِسَائِهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَة ; فَهَلَكَتْ مَوَاشِيهمْ وَزُرُوعهمْ , فَصَارُوا إِلَى نُوح عَلَيْهِ السَّلَام وَاسْتَغَاثُوا بِهِ . فَقَالَ | اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا | أَيْ لَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ لِمَنْ أَنَابَ إِلَيْهِ . ثُمَّ قَالَ تَرْغِيبًا فِي الْإِيمَان : | يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا . وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَهُمْ جَنَّات وَيَجْعَل لَكُمْ أَنْهَارًا | . قَالَ قَتَادَة : عَلِمَ نَبِيّ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ أَهْل حِرْص عَلَى الدُّنْيَا فَقَالَ : ( هَلُمُّوا إِلَى طَاعَة اللَّه فَإِنَّ فِي طَاعَة اللَّه دَرْك الدُّنْيَا وَالْآخِرَة ) .</p><p>فِي|هَذِهِ الْآيَة وَاَلَّتِي فِي | هُود | دَلِيل عَلَى أَنَّ الِاسْتِغْفَارَ يُسْتَنْزَل بِهِ الرِّزْق وَالْأَمْطَار . قَالَ الشَّعْبِيّ : خَرَجَ عُمَر يَسْتَسْقِي فَلَمْ يَزِدْ عَلَى الِاسْتِغْفَار حَتَّى رَجَعَ , فَأُمْطِرُوا فَقَالُوا : مَا رَأَيْنَاك اِسْتَسْقَيْت ؟ فَقَالَ : لَقَدْ طَلَبْت الْمَطَرَ بِمَجَادِيح السَّمَاء الَّتِي يُسْتَنْزَل بِهَا الْمَطَر ; ثُمَّ قَرَأَ : | اِسْتَغْفِرُوا رَبّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا . يُرْسِل السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا | . وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ : خَرَجَ النَّاس يَسْتَسْقُونَ , فَقَامَ فِيهِمْ بِلَال بْن سَعْد فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ , ثُمَّ قَالَ : اللَّهُمَّ إِنَّا سَمِعْنَاك تَقُول : | مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيل | [ التَّوْبَة : 91 ] وَقَدْ أَقْرَرْنَا بِالْإِسَاءَةِ , فَهَلْ تَكُون مَغْفِرَتك إِلَّا لِمِثْلِنَا ؟ ! اللَّهُمَّ اِغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَاسْقِنَا ! فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَرَفَعُوا أَيْدِيَهُمْ فَسُقُوا . وَقَالَ اِبْن صُبَيْح : شَكَا رَجُل إِلَى الْحَسَنِ الْجُدُوبَةَ فَقَالَ لَهُ : اِسْتَغْفِرْ اللَّهَ . وَشَكَا آخَر إِلَيْهِ الْفَقْرَ فَقَالَ لَهُ : اِسْتَغْفِرْ اللَّهَ . وَقَالَ لَهُ آخَر : اُدْعُ اللَّهَ أَنْ يَرْزُقَنِي وَلَدًا ; فَقَالَ لَهُ : اِسْتَغْفِرْ اللَّهَ . وَشَكَا إِلَيْهِ آخَر جَفَاف بُسْتَانه ; فَقَالَ لَهُ : اِسْتَغْفِرْ اللَّهَ . فَقُلْنَا لَهُ فِي ذَلِكَ ؟ فَقَالَ : مَا قُلْت مِنْ عِنْدِي شَيْئًا ; إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُول فِي سُورَة | نُوح | : | اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا . يُرْسِل السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا .
وَقَدْ مَضَى فِي سُورَة | آل عِمْرَان | كَيْفِيَّة الِاسْتِغْفَار , وَإِنَّ ذَلِكَ يَكُون عَنْ إِخْلَاص وَإِقْلَاع مِنْ الذُّنُوب . وَهُوَ الْأَصْل فِي الْإِجَابَة .
قِيلَ : الرَّجَاء هُنَا بِمَعْنَى الْخَوْف ; أَيْ مَا لَكُمْ لَا تَخَافُونَ لِلَّهِ عَظَمَة وَقُدْرَة عَلَى أَحَدكُمْ بِالْعُقُوبَةِ . أَيْ أَيّ عُذْر لَكُمْ فِي تَرْك الْخَوْف مِنْ اللَّه . وَقَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر وَأَبُو الْعَالِيَة وَعَطَاء بْن أَبِي رَبَاح : مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ ثَوَابًا وَلَا تَخَافُونَ لَهُ عِقَابًا . وَقَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر عَنْ اِبْن عَبَّاس : مَا لَكُمْ لَا تَخْشَوْنَ لِلَّهِ عِقَابًا وَتَرْجُونَ مِنْهُ ثَوَابًا . وَقَالَ الْوَالِبِيّ وَالْعَوْفِيّ عَنْهُ : مَا لَكُمْ لَا تَعْلَمُونَ لِلَّهِ عَظَمَة . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا وَمُجَاهِد : مَا لَكُمْ لَا تَرَوْنَ لِلَّهِ عَظَمَة . وَعَنْ مُجَاهِد وَالضَّحَّاك : مَا لَكُمْ لَا تُبَالُونَ لِلَّهِ عَظَمَة . قَالَ قُطْرُب : هَذِهِ لُغَة حِجَازِيَّة . وَهُذَيْل وَخُزَاعَة وَمُضَر يَقُولُونَ : لَمْ أَرْجُ : لَمْ أُبَالِ . وَالْوَقَار : الْعَظَمَة . وَالتَّوْقِير : التَّعْظِيم . وَقَالَ قَتَادَة : مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ عَاقِبَة ; كَأَنَّ الْمَعْنَى مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ عَاقِبَة الْإِيمَان . وَقَالَ اِبْن كَيْسَان : مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ فِي عِبَادَة اللَّه وَطَاعَته أَنْ يُثِيبَكُمْ عَلَى تَوْقِيركُمْ خَيْرًا . وَقَالَ اِبْن زَيْد : مَا لَكُمْ لَا تُؤَدُّونَ لِلَّهِ طَاعَة . وَقَالَ الْحَسَن : مَا لَكُمْ لَا تَعْرِفُونَ لِلَّهِ حَقًّا وَلَا تَشْكُرُونَ لَهُ نِعْمَة . وَقِيلَ : مَا لَكُمْ لَا تُوَحِّدُونَ اللَّهَ ; لِأَنَّ مَنْ عَظَّمَهُ فَقَدْ وَحَّدَهُ . وَقِيلَ : إِنَّ الْوَقَارَ الثَّبَات لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ; وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : | وَقَرْنَ فِي بُيُوتكُنَّ | [ الْأَحْزَاب : 33 ] أَيْ اُثْبُتْنَ . وَمَعْنَاهُ مَا لَكُمْ لَا تُثْبِتُونَ وَحْدَانِيَّةَ اللَّه تَعَالَى وَأَنَّهُ إِلَهكُمْ لَا إِلَهَ لَكُمْ سِوَاهُ ; قَالَهُ اِبْن بَحْر . ثُمَّ دَلَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ :
أَيْ جَعَلَ لَكُمْ فِي أَنْفُسكُمْ آيَة تَدُلّ عَلَى تَوْحِيده . قَالَ اِبْن عَبَّاس : | أَطْوَارًا | يَعْنِي نُطْفَة ثُمَّ عَلَقَة ثُمَّ مُضْغَة ; أَيْ طَوْرًا بَعْدَ طَوْر إِلَى تَمَام الْخَلْق , كَمَا ذُكِرَ فِي سُورَة | الْمُؤْمِنُونَ | . وَالطَّوْر فِي اللُّغَة : الْمَرَّة ; أَيْ مَنْ فَعَلَ هَذَا وَقَدَرَ عَلَيْهِ فَهُوَ أَحَقّ أَنْ تُعَظِّمُوهُ . وَقِيلَ : | أَطْوَارًا | صِبْيَانًا , ثُمَّ شَبَابًا , ثُمَّ شُيُوخًا وَضُعَفَاء , ثُمَّ أَقْوِيَاء . وَقِيلَ : أَطْوَارًا أَيْ أَنْوَاعًا : صَحِيحًا وَسَقِيمًا , وَبَصِيرًا وَضَرِيرًا , وَغَنِيًّا وَفَقِيرًا . وَقِيلَ : إِنَّ | أَطْوَارًا | اِخْتِلَافهمْ فِي الْأَخْلَاق وَالْأَفْعَال .
ذَكَرَ لَهُمْ دَلِيلًا آخَر ; أَيْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ الَّذِي قَدَرَ عَلَى هَذَا , فَهُوَ الَّذِي يَجِب أَنْ يُعْبَدَ وَمَعْنَى | طِبَاقًا | بَعْضهَا فَوْقَ بَعْض , كُلّ سَمَاء مُطْبَقَة عَلَى الْأُخْرَى كَالْقِبَابِ ; قَالَهُ اِبْن عَبَّاس وَالسُّدِّيّ . وَقَالَ الْحَسَن : خَلَقَ اللَّه سَبْعَ سَمَوَات طِبَاقًا عَلَى سَبْع أَرَضِينَ , بَيْنَ كُلّ أَرْض وَأَرْض , وَسَمَاء وَسَمَاء خَلْق وَأَمْر . وَقَوْله : | أَلَمْ تَرَوْا | عَلَى جِهَة الْإِخْبَار لَا الْمُعَايَنَة ; كَمَا تَقُول : أَلَمْ تَرَنِي كَيْفَ صَنَعْت بِفُلَانٍ كَذَا . وَطِبَاقًا | نُصِبَ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَر ; أَيْ مُطَابِقَة طِبَاقًا . أَوْ حَال بِمَعْنَى ذَات طِبَاق ; فَحَذَفَ ذَات وَأَقَامَ طِبَاقًا مَقَامَهُ .
أَيْ فِي سَمَاء الدُّنْيَا ; كَمَا يُقَال : أَتَانِي بَنُو تَمِيم وَأَتَيْت بَنِي تَمِيم وَالْمُرَاد بَعْضهمْ ; قَالَهُ الْأَخْفَش . قَالَ اِبْن كَيْسَان : إِذَا كَانَ فِي إِحْدَاهُنَّ فَهُوَ فِيهِنَّ . وَقَالَ قُطْرُب : | فِيهِنَّ | بِمَعْنَى مَعَهُنَّ ; وَقَالَهُ الْكَلْبِيّ . أَيْ خَلَقَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ مَعَ خَلْق السَّمَوَات وَالْأَرْض . وَقَالَ جُلَّة أَهْل اللُّغَة فِي قَوْل اِمْرِئِ الْقَيْس : <br>وَهَلْ يَنْعَمَنَّ مَنْ كَانَ آخِر عَهْده .......... ثَلَاثِينَ شَهْرًا فِي ثَلَاثَة أَحْوَال <br>| فِي | بِمَعْنَى مَعَ . النَّحَّاس : وَسَأَلْت أَبَا الْحَسَن بْن كَيْسَان عَنْ هَذِهِ الْآيَة فَقَالَ : جَوَاب النَّحْوِيِّينَ أَنَّهُ إِذَا جَعَلَهُ فِي إِحْدَاهُنَّ فَقَدْ جَعَلَهُ فِيهِنَّ ; كَمَا تَقُول : أَعْطِنِي الثِّيَابَ الْمُعْلَمَةَ وَإِنْ كُنْت إِنَّمَا أَعْلَمْت أَحَدهَا . وَجَوَاب آخَر أَنَّهُ يُرْوَى أَنَّ وَجْه الْقَمَر إِلَى السَّمَاء , وَإِذَا كَانَ إِلَى دَاخِلهَا فَهُوَ مُتَّصِل بِالسَّمَوَاتِ , وَمَعْنَى | نُورًا | أَيْ لِأَهْلِ الْأَرْض ; قَالَهُ السُّدِّيّ . وَقَالَ عَطَاء : نُورًا لِأَهْلِ السَّمَاء وَالْأَرْض . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَابْن عُمَر : وَجْهه يُضِيء لِأَهْلِ الْأَرْض وَظَهْره يُضِيء لِأَهْلِ السَّمَاء .|وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا|يَعْنِي مِصْبَاحًا لِأَهْلِ الْأَرْض لِيَتَوَصَّلُوا إِلَى التَّصَرُّف لِمَعَايِشِهِمْ . وَفِي إِضَاءَتهَا لِأَهْلِ السَّمَاء الْقَوْلَانِ الْأَوَّلَانِ حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيّ . وَحَكَى الْقُشَيْرِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّ الشَّمْسَ وَجْههَا فِي السَّمَوَات وَقَفَاهَا فِي الْأَرْض . وَقِيلَ : عَلَى الْعَكْس . وَقِيلَ لِعَبْدِ اللَّه بْن عُمَر : مَا بَال الشَّمْس تَقْلِينَا أَحْيَانًا وَتَبْرُد عَلَيْنَا أَحْيَانًا ؟ فَقَالَ : إِنَّهَا فِي الصَّيْف فِي السَّمَاء الرَّابِعَة , وَفِي الشِّتَاء فِي السَّمَاء السَّابِعَة عِنْدَ عَرْش الرَّحْمَن ; وَلَوْ كَانَتْ فِي السَّمَاء الدُّنْيَا لَمَا قَامَ لَهَا شَيْءٌ .
يَعْنِي آدَم عَلَيْهِ السَّلَام خَلَقَهُ مِنْ أَدِيم الْأَرْض كُلّهَا ; قَالَهُ اِبْن جُرَيْج . وَقَدْ مَضَى فِي سُورَة | الْأَنْعَام وَالْبَقَرَة | بَيَان ذَلِكَ . وَقَالَ خَالِد بْن مَعْدَان : خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ طِين ; فَإِنَّمَا تَلِين الْقُلُوب فِي الشِّتَاء . وَ | نَبَاتًا | مَصْدَر عَلَى غَيْر الْمَصْدَر ; لِأَنَّ مَصْدَرَهُ أَنْبَتَ إِنْبَاتًا , فَجَعَلَ الِاسْمَ الَّذِي هُوَ النَّبَات فِي مَوْضِع الْمَصْدَر . وَقَدْ مَضَى بَيَانه فِي سُورَة | آل عِمْرَان | وَغَيْرهَا . وَقِيلَ : هُوَ مَصْدَر مَحْمُول عَلَى الْمَعْنَى ; لِأَنَّ مَعْنَى : | أَنْبَتَكُمْ | جَعَلَكُمْ تَنْبُتُونَ نَبَاتًا ; قَالَهُ الْخَلِيل وَالزَّجَّاج . وَقِيلَ : أَيْ أَنْبَتَ لَكُمْ مِنْ الْأَرْض النَّبَات . | فَنَبَاتًا | عَلَى هَذَا نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَر الصَّرِيح . وَالْأَوَّل أَظْهَر . وَقَالَ اِبْن جُرَيْج : أَنْبَتَهُمْ فِي الْأَرْض بِالْكِبَرِ بَعْدَ الصِّغَر وَبِالطُّولِ بَعْد الْقِصَر .
أَيْ عِنْدَ مَوْتكُمْ بِالدَّفْنِ .|وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا|بِالنُّشُورِ لِلْبَعْثِ يَوْم الْقِيَامَة .
أَيْ مَبْسُوطَة .
السُّبُل : الطُّرُق . وَالْفِجَاج جَمْع فَجّ , وَهُوَ الطَّرِيق الْوَاسِعَة ; قَالَهُ الْفَرَّاء . وَقِيلَ : الْفَجّ الْمَسْلَك بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ . وَقَدْ مَضَى فِي سُورَة | الْأَنْبِيَاء وَالْحَجّ | .
شَكَاهُمْ إِلَى اللَّه تَعَالَى , وَأَنَّهُمْ عَصَوْهُ وَلَمْ يَتَّبِعُوهُ فِيمَا أَمَرَهُمْ بِهِ مِنْ الْإِيمَان . وَقَالَ أَهْل التَّفْسِير : لَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَة إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا دَاعِيًا لَهُمْ وَهُمْ عَلَى كُفْرهمْ وَعِصْيَانهمْ . قَالَ اِبْن عَبَّاس : رَجَا نُوح عَلَيْهِ السَّلَام الْأَبْنَاء بَعْدَ الْآبَاء ; فَيَأْتِي بِهِمْ الْوَلَد بَعْدَ الْوَلَد حَتَّى بَلَغُوا سَبْع قُرُون , ثُمَّ دَعَا عَلَيْهِمْ بَعْدَ الْإِيَاس مِنْهُمْ , وَعَاشَ بَعْدَ الطُّوفَان سِتِّينَ عَامًا حَتَّى كَثُرَ النَّاس وَفَشَوْا . قَالَ الْحَسَن : كَانَ قَوْم نُوح يَزْرَعُونَ فِي الشَّهْر مَرَّتَيْنِ ; حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيّ . | وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَده إِلَّا خَسَارًا | يَعْنِي كُبَرَاءَهُمْ وَأَغْنِيَاءَهُمْ الَّذِينَ لَمْ يَزِدْهُمْ كُفْرهمْ وَأَمْوَالهمْ وَأَوْلَادهمْ إِلَّا ضَلَالًا فِي الدُّنْيَا وَهَلَاكًا فِي الْآخِرَة . وَقَرَأَ أَهْل الْمَدِينَة وَالشَّام وَعَاصِم | وَوَلَده | بِفَتْحِ الْوَاو وَاللَّام . الْبَاقُونَ | وُلْده | بِضَمِّ الْوَاو وَسُكُون اللَّام وَهِيَ لُغَة فِي الْوَلَد . وَيَجُوز أَنْ يَكُونَ جَمْعًا لِلْوَلَدِ , كَالْفُلْكِ فَإِنَّهُ وَاحِد وَجَمْع . وَقَدْ تَقَدَّمَ .
أَيْ كَبِيرًا عَظِيمًا . يُقَال : كَبِير وَكُبَار وَكُبَّار , مِثْل عَجِيب وَعُجَاب وَعُجَّاب بِمَعْنًى , وَمِثْله طَوِيل وَطُوَال وَطُوَّال . يُقَال : رَجُل حَسَن وَحُسَّان , وَجَمِيل وَجُمَّال , وَقُرَّاء لِلْقَارِئِ , وَوُضَّاء لِلْوَضِيءِ . وَأَنْشَدَ اِبْن السِّكِّيت : <br>بَيْضَاء تَصْطَاد الْقُلُوب وَتَسْتَبِي .......... بِالْحُسْنِ قَلْب الْمُسْلِم الْقُرَّاء <br>وَقَالَ آخَر : <br>وَالْمَرْء يُلْحِقهُ بِفِتْيَانِ النَّدَى .......... خُلُق الْكَرِيم وَلَيْسَ بِالْوُضَّاءِ <br>وَقَالَ الْمُبَرِّد : | كُبَّارًا | ( بِالتَّشْدِيدِ ) لِلْمُبَالَغَةِ . وَقَرَأَ اِبْن مُحَيْصِن وَحُمَيْد وَمُجَاهِد | كُبَارًا | بِالتَّخْفِيفِ . وَاخْتُلِفَ فِي مَكْرهمْ مَا هُوَ ؟ فَقِيلَ : تَحْرِيشهمْ سَفَلَتهمْ عَلَى قَتْل نُوح . وَقِيلَ : هُوَ تَعْزِيرهمْ النَّاسَ بِمَا أُوتُوا مِنْ الدُّنْيَا وَالْوَلَد ; حَتَّى قَالَتْ الضَّعَفَة : لَوْلَا أَنَّهُمْ عَلَى الْحَقّ لَمَا أُوتُوا هَذِهِ النِّعَم . وَقَالَ الْكَلْبِيّ : هُوَ مَا جَعَلُوهُ لِلَّهِ مِنْ الصَّاحِبَة وَالْوَلَد . وَقِيلَ : مَكْرهمْ كُفْرهمْ . وَقَالَ مُقَاتِل : هُوَ قَوْل كُبَرَائِهِمْ لِأَتْبَاعِهِمْ : | لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوث وَيَعُوق وَنَسْرًا | .
قَالَ اِبْن عَبَّاس وَغَيْره : هِيَ أَصْنَام وَصُوَر , كَانَ قَوْم نُوح يَعْبُدُونَهَا ثُمَّ عَبَدَتْهَا الْعَرَب وَهَذَا قَوْل الْجُمْهُور . وَقِيلَ : إِنَّهَا لِلْعَرَبِ لَمْ يَعْبُدهَا غَيْرهمْ . وَكَانَتْ أَكْبَر أَصْنَامهمْ وَأَعْظَمهَا عِنْدَهُمْ ; فَلِذَلِكَ خَصُّوهَا بِالذِّكْرِ بَعْدَ قَوْله تَعَالَى : | لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ | . وَيَكُون مَعْنَى الْكَلَام كَمَا قَالَ قَوْم نُوح لِأَتْبَاعِهِمْ : | لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ | قَالَتْ الْعَرَب لِأَوْلَادِهِمْ وَقَوْمهمْ : لَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا ; ثُمَّ عَادَ بِالذِّكْرِ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى قَوْم نُوح عَلَيْهِ السَّلَام . وَعَلَى الْقَوْل الْأَوَّل , الْكَلَام كُلّه مَنْسُوق فِي قَوْم نُوح . وَقَالَ عُرْوَة بْن الزُّبَيْر وَغَيْره : اِشْتَكَى آدَم عَلَيْهِ السَّلَام وَعِنْدَهُ بَنُوهُ : وَدّ , وَسُوَاع , وَيَغُوث , وَيَعُوق , وَنَسْر . وَكَانَ وَدّ أَكْبَرهمْ وَأَبَرّهمْ بِهِ . قَالَ مُحَمَّد بْن كَعْب : كَانَ لِآدَم عَلَيْهِ السَّلَام خَمْس بَنِينَ : وَدّ وَسُوَاع وَيَغُوث وَيَعُوق وَنَسْر ; وَكَانُوا عُبَّادًا فَمَاتَ وَاحِد مِنْهُمْ فَحَزِنُوا عَلَيْهِ ; فَقَالَ الشَّيْطَان : أَنَا أُصَوِّر لَكُمْ مِثْله إِذَا نَظَرْتُمْ إِلَيْهِ ذَكَرْتُمُوهُ . قَالُوا : اِفْعَلْ فَصَوَّرَهُ فِي الْمَسْجِد مِنْ صُفْر وَرَصَاص . ثُمَّ مَاتَ آخَر , فَصَوَّرَهُ حَتَّى مَاتُوا كُلّهمْ فَصَوَّرَهُمْ . وَتَنَقَّصَتْ الْأَشْيَاء كَمَا تَتَنَقَّص الْيَوْم إِلَى أَنْ تَرَكُوا عِبَادَةَ اللَّه تَعَالَى بَعْدَ حِينٍ . فَقَالَ لَهُمْ الشَّيْطَان : مَا لَكُمْ لَا تَعْبُدُونَ شَيْئًا ؟ قَالُوا : وَمَا نَعْبُد ؟ قَالَ : آلِهَتَكُمْ وَآلِهَةَ آبَائِكُمْ , أَلَا تَرَوْنَ فِي مُصَلَّاكُمْ . فَعَبَدُوهَا مِنْ دُون اللَّه ; حَتَّى بَعَثَ اللَّه نُوحًا فَقَالُوا : { لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا | الْآيَة . وَقَالَ مُحَمَّد بْن كَعْب أَيْضًا وَمُحَمَّد بْن قَيْس : بَلْ كَانُوا قَوْمًا صَالِحِينَ بَيْنَ آدَم وَنُوح , وَكَانَ لَهُمْ تَبَع يَقْتَدُونَ بِهِمْ , فَلَمَّا مَاتُوا زَيَّنَ لَهُمْ إِبْلِيس أَنْ يُصَوِّرُوا صُوَرَهُمْ لِيَتَذَكَّرُوا بِهَا اِجْتِهَادهمْ , وَلِيَتَسَلَّوْا بِالنَّظَرِ إِلَيْهَا ; فَصَوَّرَهُمْ . فَلَمَّا مَاتُوا هُمْ وَجَاءَ آخَرُونَ قَالُوا : لَيْتَ شِعْرنَا هَذِهِ الصُّوَر مَا كَانَ آبَاؤُنَا يَصْنَعُونَ بِهَا ؟ فَجَاءَهُمْ الشَّيْطَان فَقَالَ : كَانَ آبَاؤُكُمْ يَعْبُدُونَهَا فَتَرْحَمهُمْ وَتَسْقِيهِمْ الْمَطَر . فَعَبَدُوهَا فَابْتُدِئَ عِبَادَة الْأَوْثَان مِنْ ذَلِكَ الْوَقْت . قُلْت : وَبِهَذَا الْمَعْنَى فُسِّرَ مَا جَاءَ فِي صَحِيح مُسْلِم مِنْ حَدِيث عَائِشَة أَنَّ أُمّ حَبِيبَةَ وَأُمّ سَلَمَة ذَكَرَتَا كَنِيسَة رَأَيْنَهَا بِالْحَبَشَةِ تُسَمَّى مَارِيَة , فِيهَا تَصَاوِير لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ أُولَئِكَ إِذَا كَانَ فِيهِمْ الرَّجُل الصَّالِح فَمَاتَ بَنَوْا عَلَى قَبْره مَسْجِدًا وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَر أُولَئِكَ شِرَار الْخَلْق عِنْدَ اللَّه يَوْم الْقِيَامَة ) . وَذَكَرَ الثَّعْلَبِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : هَذِهِ الْأَصْنَام أَسْمَاء رِجَال صَالِحِينَ مِنْ قَوْم نُوح ; فَلَمَّا هَلَكُوا أَوْحَى الشَّيْطَان إِلَى قَوْمهمْ أَنْ اِنْصِبُوا فِي مَجَالِسهمْ الَّتِي كَانُوا يَجْلِسُونَ فِيهَا أَنْصَابًا وَسَمُّوهَا بِأَسْمَائِهِمْ تَذْكُرُوهُمْ بِهَا ; فَفَعَلُوا , فَلَمْ تُعْبَد حَتَّى إِذَا هَلَكَ أُولَئِكَ وَنُسِخَ الْعِلْم عُبِدَتْ مِنْ دُون اللَّه . وَذُكِرَ أَيْضًا عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَام , كَانَ يَحْرُس جَسَدَ آدَم عَلَيْهِ السَّلَام عَلَى جَبَل بِالْهِنْدِ , فَيَمْنَع الْكَافِرِينَ أَنْ يَطُوفُوا بِقَبْرِهِ ; فَقَالَ لَهُمْ الشَّيْطَان : إِنَّ هَؤُلَاءِ يَفْخَرُونَ عَلَيْكُمْ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ بَنُو آدَم دُونَكُمْ , وَإِنَّمَا هُوَ جَسَد , وَأَنَا أُصَوِّر لَكُمْ مِثْله تَطُوفُونَ بِهِ ; فَصَوَّرَ لَهُمْ هَذِهِ الْأَصْنَام الْخَمْسَة وَحَمَلَهُمْ عَلَى عِبَادَتهَا . فَلَمَّا كَانَ أَيَّام الطُّوفَان دَفَنَهَا الطِّين وَالتُّرَاب وَالْمَاء ; فَلَمْ تَزَلْ مَدْفُونَة حَتَّى أَخْرَجَهَا الشَّيْطَان لِمُشْرِكِي الْعَرَب . قَالَ الْمَاوَرْدِيّ : فَأَمَّا وَدّ فَهُوَ أَوَّل صَنَم مَعْبُود , سُمِّيَ وَدًّا لِوُدِّهِمْ لَهُ ; وَكَانَ بَعْد قَوْم نُوح لِكَلْبٍ بِدَوْمَةِ الْجَنْدَل ; فِي قَوْل اِبْن عَبَّاس وَعَطَاء وَمُقَاتِل . وَفِيهِ يَقُول شَاعِرهمْ : <br>حَيَّاك وَدّ فَإِنَّا لَا يَحِلّ لَنَا لَهْو .......... النِّسَاء وَإِنَّ الدِّين قَدْ عَزَمَا <br>وَأَمَّا سُوَاع فَكَانَ لِهُذَيْلٍ بِسَاحِلِ الْبَحْر ; فِي قَوْلهمْ . وَأَمَّا يَغُوث فَكَانَ لِغُطَيْفٍ مِنْ مُرَاد بِالْجَوْفِ مِنْ سَبَأ ; فِي قَوْل قَتَادَة . وَقَالَ الْمَهْدَوِيّ : لِمُرَادٍ ثُمَّ لِغَطَفَانَ . الثَّعْلَبِيّ : وَأَخَذَتْ أَعْلَى وأنعم - وَهُمَا مِنْ طَيِّئ - وَأَهْل جُرَش مِنْ مَذْحِج يَغُوث فَذَهَبُوا بِهِ إِلَى مُرَاد فَعَبَدُوهُ زَمَانًا . ثُمَّ إِنَّ بَنِي نَاجِيَة أَرَادُوا نَزْعه مِنْ أَعْلَى وأنعم , فَفَرُّوا بِهِ إِلَى الْحُصَيْن أَخِي بْن الْحَارِث بْن كَعْب مِنْ خُزَاعَة . وَقَالَ أَبُو عُثْمَان النَّهْدِيّ : رَأَيْت يَغُوث وَكَانَ مِنْ رَصَاص , وَكَانُوا يَحْمِلُونَهُ عَلَى جَمَل أَحْرَد , وَيَسِيرُونَ مَعَهُ وَلَا يُهَيِّجُونَهُ حَتَّى يَكُون هُوَ الَّذِي يَبْرُك , فَإِذَا بَرَكَ نَزَلُوا وَقَالُوا : قَدْ رَضِيَ لَكُمْ الْمَنْزِل ; فَيَضْرِبُونَ عَلَيْهِ بِنَاء يَنْزِلُونَ حَوْلَهُ . وَأَمَّا يَعُوق فَكَانَ|لِهَمْدَانَ بِبَلْخَع ; فِي قَوْل عِكْرِمَة وَقَتَادَة وَعَطَاء . ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيّ . وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ : وَأَمَّا يَعُوق فَكَانَ لِكَهْلَان مِنْ سَبَأ , ثُمَّ تَوَارَثَهُ بَنُوهُ ; الْأَكْبَر فَالْأَكْبَر حَتَّى صَارَ إِلَى هَمْدَان . وَفِيهِ يَقُول مَالِك بْن نَمَط الْهَمْدَانِيّ : <br>يَرِيش اللَّه فِي الدُّنْيَا وَيَبْرِي .......... وَلَا يَبْرِي يَعُوق وَلَا يَرِيش <br>وَأَمَّا نَسْر فَكَانَ لِذِي الْكُلَاع مِنْ حِمْيَر ; فِي قَوْل قَتَادَة , وَنَحْوه عَنْ مُقَاتِل . وَقَالَ الْوَاقِدِيّ : كَانَ وَدّ عَلَى صُورَة رَجُل , وَسُوَاع عَلَى صُورَة اِمْرَأَةٍ , وَيَغُوث عَلَى صُورَة أَسَد , وَيَعُوق عَلَى صُورَة فَرَس , وَنَسْر عَلَى صُورَة نَسْر مِنْ الطَّيْر ; فَاَللَّه أَعْلَم . وَقَرَأَ نَافِع | وَلَا تَذَرُنَّ وُدًّا | بِضَمِّ الْوَاو . وَفَتَحَهَا الْبَاقُونَ . قَالَ اللَّيْث : وَدّ ( بِفَتْحِ الْوَاو ) صَنَم كَانَ لِقَوْمِ نُوح . وَوُدّ ( بِالضَّمِّ ) صَنَم لِقُرَيْشٍ ; وَبِهِ سُمِّيَ عَمْرو بْن وُدّ . وَفِي الصِّحَاح : وَالْوَدّ ( بِالْفَتْحِ ) الْوَتِد فِي لُغَة أَهْل , نَجْد ; كَأَنَّهُمْ سَكَّنُوا التَّاءَ وَأَدْغَمُوهَا فِي الدَّال . وَالْوَدّ فِي قَوْل اِمْرِئِ الْقَيْس : <br>تُظْهِر الْوَدّ إِذَا مَا أَشْجَذَتْ .......... وَتُوَارِيه إِذَا مَا تَعْتَكِر <br>قَالَ اِبْن دُرَيْد : هُوَ اِسْم جَبَل : وَوَدّ صَنَم كَانَ لِقَوْمِ نُوح عَلَيْهِ السَّلَام ثُمَّ صَارَ لِكَلْبٍ وَكَانَ بِدُومَةِ الْجَنْدَل ; وَمِنْهُ سَمَّوْهُ عَبْد وُدّ وَقَالَ : | لَا تَذَرُنَّ آلِهَتكُمْ | ثُمَّ قَالَ : | وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا | الْآيَة . خَصَّهَا بِالذِّكْرِ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى : | وَإِذْ أَخَذْنَا مِنْ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْك وَمِنْ نُوح | [ الْأَحْزَاب : 7 ] .
هَذَا مِنْ قَوْل نُوح ; أَيْ أُضِلّ كُبَرَاؤُهُمْ كَثِيرًا مِنْ أَتْبَاعهمْ ; فَهُوَ عَطْف عَلَى قَوْله : | وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا | . وَقِيلَ : إِنَّ الْأَصْنَامَ | أَضَلُّوا كَثِيرًا | أَيْ ضَلَّ بِسَبَبِهَا كَثِير ; نَظِيره قَوْل إِبْرَاهِيم : | رَبّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنْ النَّاس | [ إِبْرَاهِيم : 36 ] فَأَجْرَى عَلَيْهِمْ وَصْف مَا يَعْقِل ; لِاعْتِقَادِ الْكُفَّار فِيهِمْ ذَلِكَ .|وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا|أَيْ عَذَابًا ; قَالَهُ اِبْن بَحْر . وَاسْتَشْهَدَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : | إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَال وَسُعُر | [ الْقَمَر : 47 ] . وَقِيلَ إِلَّا خُسْرَانًا . وَقِيلَ إِلَّا فِتْنَة بِالْمَالِ وَالْوَلَد . وَهُوَ مُحْتَمِل .
|مَا | صِلَة مُؤَكَّدَة ; وَالْمَعْنَى مِنْ خَطَايَاهُمْ وَقَالَ الْفَرَّاء : الْمَعْنَى مِنْ أَجْل خَطَايَاهُمْ ; فَأَدَّتْ | مَا | هَذَا الْمَعْنَى . قَالَ : وَ | مَا | تَدُلّ عَلَى الْمُجَازَاة . وَقِرَاءَة أَبِي عَمْرو | خَطَايَاهُمْ | عَلَى جَمْع التَّكْسِير ; الْوَاحِدَة خَطِيَّة . وَكَانَ الْأَصْل فِي الْجَمْع خَطَائِئٌ عَلَى فَعَائِل ; فَلَمَّا اِجْتَمَعَتْ الْهَمْزَتَانِ قُلِبَتْ الثَّانِيَة يَاء , لِأَنَّ قَبْلهَا كَسْرَة ثُمَّ اُسْتُثْقِلَتْ وَالْجَمْع ثَقِيل , وَهُوَ مُعْتَلّ مَعَ ذَلِكَ ; فَقُلِبَتْ الْيَاء أَلِفًا ثُمَّ قُلِبَتْ الْهَمْزَة الْأُولَى يَاء لِخَفَائِهَا بَيْنَ الْأَلِفَيْنِ . الْبَاقُونَ | خَطِيئَاتهمْ | عَلَى جَمْع السَّلَامَة . قَالَ أَبُو عَمْرو : قَوْم كَفَرُوا أَلْفَ سَنَة فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ إِلَّا خَطِيَّات ; يُرِيد أَنَّ الْخَطَايَا أَكْثَر مِنْ الْخَطِيَّات . وَقَالَ قَوْم : خَطَايَا وَخَطِيَّات وَاحِد ; جَمْعَانِ مُسْتَعْمَلَانِ فِي الْكَثْرَة وَالْقِلَّة ; وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : | مَا نَفِدَتْ كَلِمَات اللَّه | [ لُقْمَان : 27 ] وَقَالَ الشَّاعِر : <br>لَنَا الْجَفَنَات الْغُرّ يَلْمَعْنَ بِالضُّحَى .......... وَأَسْيَافنَا يَقْطُرْنَ مِنْ نَجْدَة دَمًا <br>وَقُرِئَ | خَطِيئَاتهمْ | و | خَطِيَّاتِهِمْ | بِقَلْبِ الْهَمْزَة يَاءً وَإِدْغَامهَا . وَعَنْ الْجَحْدَرِيّ وَعَمْرو بْن عُبَيْد وَالْأَعْمَش وَأَبِي حَيْوَةَ وَأَشْهَب الْعُقَيْلِيّ | خَطِيئَتهمْ | عَلَى التَّوْحِيد , وَالْمُرَاد الشِّرْك .|فَأُدْخِلُوا نَارًا|أَيْ بَعْد إِغْرَاقهمْ . قَالَ الْقُشَيْرِيّ : وَهَذَا يَدُلّ عَلَى عَذَاب الْقَبْر . وَمُنْكِرُوهُ يَقُولُونَ : صَارُوا مُسْتَحِقِّينَ دُخُولَ النَّارِ , أَوْ عُرِضَ عَلَيْهِمْ أَمَاكِنهمْ مِنْ النَّار ; كَمَا قَالَ تَعَالَى : | النَّار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُّوا وَعَشِيًّا | [ غَافِر : 46 ] . وَقِيلَ : أَشَارُوا إِلَى مَا فِي الْخَبَر مِنْ قَوْله : ( الْبَحْر نَار مِنْ نَار ) . وَرَوَى أَبُو رَوْق عَنْ الضَّحَّاك فِي قَوْله تَعَالَى : | أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا | قَالَ : يَعْنِي عُذِّبُوا بِالنَّارِ فِي الدُّنْيَا مَعَ الْغَرَق فِي الدُّنْيَا فِي حَالَة وَاحِدَة ; كَانُوا يَغْرَقُونَ فِي جَانِب وَيَحْتَرِقُونَ فِي الْمَاء مِنْ جَانِب . ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيّ قَالَ : أَنْشَدَنَا أَبُو الْقَاسِم الْحُبَيْبِيّ قَالَ أَنْشَدَنَا أَبُو سَعِيد أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن رُمَيْح قَالَ أَنْشَدَنِي أَبُو بَكْر بْن الْأَنْبَارِيّ : <br>الْخَلْق مُجْتَمِع طَوْرًا وَمُفْتَرِق .......... وَالْحَادِثَات فُنُون ذَات أَطْوَار <br><br>لَا تَعْجَبَنَّ لِأَضْدَادٍ إِنْ اِجْتَمَعَتْ .......... فَاَللَّه يَجْمَع بَيْنَ الْمَاء وَالنَّار<br>|فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا|أَيْ مَنْ يَدْفَع عَنْهُمْ الْعَذَابَ .
الْأُولَى : دَعَا عَلَيْهِمْ حِينَ يَئِسَ مِنْ اِتِّبَاعهمْ إِيَّاهُ . وَقَالَ قَتَادَة : دَعَا عَلَيْهِمْ بَعْدَ أَنْ أَوْحَى اللَّه إِلَيْهِ : | أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِن مِنْ قَوْمك إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ | [ هُود : 36 ] فَأَجَابَ اللَّه دَعْوَته وَأَغْرَقَ أُمَّته ; وَهَذَا كَقَوْلِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( اللَّهُمَّ مُنْزِل الْكِتَاب سَرِيع الْحِسَاب وَهَازِم الْأَحْزَاب اِهْزِمْهُمْ وَزَلْزِلْهُمْ ) . وَقِيلَ : سَبَب دُعَائِهِ أَنَّ رَجُلًا مِنْ قَوْمه حَمَلَ وَلَدًا صَغِيرًا عَلَى كَتِفه فَمَرَّ بِنُوحٍ فَقَالَ : ( اِحْذَرْ هَذَا فَإِنَّهُ يُضِلّك ) . فَقَالَ : يَا أَبَتِ أَنْزِلْنِي ; فَأَنْزَلَهُ فَرَمَاهُ فَشَجَّهُ ; فَحِينَئِذٍ غَضِبَ وَدَعَا عَلَيْهِمْ . وَقَالَ مُحَمَّد بْن كَعْب وَمُقَاتِل وَالرَّبِيع وَعَطِيَّة وَابْن زَيْد : إِنَّمَا قَالَ هَذَا حِينَمَا أَخْرَجَ اللَّه كُلّ مُؤْمِن مِنْ أَصْلَابهمْ وَأَرْحَام نِسَائِهِمْ . وَأَعْقَمَ أَرْحَام النِّسَاء وَأَصْلَاب الرِّجَال قَبْل الْعَذَاب بِسَبْعِينَ سَنَة . وَقِيلَ : بِأَرْبَعِينَ . قَالَ قَتَادَة : وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ صَبِيّ وَقْت الْعَذَاب . وَقَالَ الْحَسَن وَأَبُو الْعَالِيَة : لَوْ أَهْلَكَ اللَّه أَطْفَالهمْ مَعَهُمْ كَانَ عَذَابًا مِنْ اللَّه لَهُمْ وَعَدْلًا فِيهِمْ ; وَلَكِنَّ اللَّه أَهْلَكَ أَطْفَالهمْ وَذُرِّيَّتهمْ بِغَيْرِ عَذَاب , ثُمَّ أَهْلَكَهُمْ بِالْعَذَابِ ; بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى : | وَقَوْم نُوح لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُل أَغْرَقْنَاهُمْ | [ الْفُرْقَان : 37 ] . الثَّانِيَة : قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : | دَعَا نُوح عَلَى الْكَافِرِينَ أَجْمَعِينَ , وَدَعَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَنْ تَحَزَّبَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّبَ عَلَيْهِمْ . وَكَانَ هَذَا أَصْلًا فِي الدُّعَاء عَلَى الْكَافِرِينَ فِي الْجُمْلَة , فَأَمَّا كَافِر مُعَيَّن لَمْ تُعْلَم خَاتِمَته فَلَا يُدْعَى عَلَيْهِ ; لِأَنَّ مَآله عِنْدنَا مَجْهُول , وَرُبَّمَا كَانَ عِنْد اللَّه مَعْلُوم الْخَاتِمَة بِالسَّعَادَةِ . وَإِنَّمَا خَصَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالدُّعَاءِ عُتْبَة وَشَيْبَة وَأَصْحَابهمَا ; لِعِلْمِهِ بِمَآلِهِمْ وَمَا كُشِفَ لَهُ مِنْ الْغِطَاء عَنْ حَالهمْ . وَاَللَّه أَعْلَم | . قُلْت : قَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَة مُجَوَّدَة فِي سُورَة | الْبَقَرَة | وَالْحَمْد لِلَّهِ . الثَّالِثَة : قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : | إِنْ قِيلَ لِمَ جَعَلَ نُوح دَعْوَته عَلَى قَوْمه سَبَبًا لِتَوَقُّفِهِ عَنْ طَلَب الشَّفَاعَة لِلْخَلْقِ مِنْ اللَّه فِي الْآخِرَة ؟ قُلْنَا قَالَ النَّاس فِي ذَلِكَ وَجْهَانِ : أَحَدهمَا أَنَّ تِلْكَ الدَّعْوَة نَشَأَتْ عَنْ غَضَب وَقَسْوَة ; وَالشَّفَاعَة تَكُون عَنْ رِضًا وَرِقَّة , فَخَافَ أَنْ يُعَاتَب وَيُقَال : دَعَوْت عَلَى الْكُفَّار بِالْأَمْسِ وَتَشْفَع لَهُمْ الْيَوْم . الثَّانِي أَنَّهُ دَعَا غَضَبًا بِغَيْرِ نَصّ وَلَا إِذْن صَرِيح فِي ذَلِكَ ; فَخَافَ الدَّرْك فِيهِ يَوْم الْقِيَامَة ; كَمَا قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام : ( إِنِّي قَتَلْت نَفْسًا لَمْ أُومَرْ بِقَتْلِهَا ) . قَالَ : وَبِهَذَا أَقُول | . قُلْت : وَإِنْ كَانَ لَمْ يُؤْمَر بِالدُّعَاءِ نَصًّا فَقَدْ قِيلَ لَهُ : | أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِن مِنْ قَوْمك إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ | [ هُود : 36 ]. فَأُعْلِمَ عَوَاقِبهمْ فَدَعَا عَلَيْهِمْ بِالْهَلَاكِ ; كَمَا دَعَا نَبِيّنَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى شَيْبَة وَعُتْبَةَ وَنُظَرَائِهِمْ فَقَالَ : ( اللَّهُمَّ عَلَيْك بِهِمْ ) لَمَّا أُعْلِمَ عَوَاقِبهمْ ; وَعَلَى هَذَا يَكُون فِيهِ مَعْنَى الْأَمْر بِالدُّعَاءِ . وَاَللَّه أَعْلَم .|دَيَّارًا|أَيْ مَنْ يَسْكُن الدِّيَار ; قَالَهُ السُّدِّيّ . وَأَصْله دَيْوَار عَلَى فَيْعَال مِنْ دَار يَدُور ; فَقُلِبَتْ الْوَاو يَاء وَأُدْغِمَتْ إِحْدَاهُمَا فِي الْأُخْرَى . مِثْل الْقِيَام ; أَصْله قِيْوَام . وَلَوْ كَانَ فَعَّالًا لَكَانَ دَوَّارًا . وَقَالَ الْقُتَبِيّ : أَصْله مِنْ الدَّار ; أَيْ نَازِل بِالدَّارِ . يُقَال : مَا بِالدَّارِ دَيَّار ; أَيْ أَحَد . وَقِيلَ : الدَّيَّار صَاحِب الدَّار .
دَعَا لِنَفْسِهِ وَلِوَالِدَيْهِ وَكَانَا مُؤْمِنَيْنِ . وَهُمَا : لمك بْن متوشلخ وشمخى بِنْت أنوش ; ذَكَرَهُ الْقُشَيْرِيّ وَالثَّعْلَبِيّ . وَحَكَى الْمَاوَرْدِيّ فِي اِسْم أُمّه منجل . وَقَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر : أَرَادَ بِوَالِدَيْهِ أَبَاهُ وَجَدّه . وَقَرَأَ سَعِيد بْن جُبَيْر | لِوَالِدِي | بِكَسْرِ الدَّال عَلَى الْوَاحِد . قَالَ الْكَلْبِيّ : كَانَ بَيْنه وَبَيْنَ آدَم عَشَرَة آبَاء كُلّهمْ مُؤْمِنُونَ . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : لَمْ يَكْفُر لِنُوحٍ وَالِد فِيمَا بَيْنه وَبَيْنَ آدَم عَلَيْهِمَا السَّلَام .|وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا|أَيْ مَسْجِدِي وَمُصَلَّايَ مُصَلِّيًا مُصَدِّقًا بِاَللَّهِ . وَكَانَ إِنَّمَا يَدْخُل بُيُوت الْأَنْبِيَاء مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ فَجَعَلَ الْمَسْجِد سَبَبًا لِلدُّعَاءِ بِالْغَفِرَةِ . وَقَدْ قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( الْمَلَائِكَة تُصَلِّي عَلَى أَحَدكُمْ مَا دَامَ فِي مَجْلِسه الَّذِي صَلَّى فِيهِ مَا لَمْ يُحْدِث فِيهِ تَقُول اللَّهُمَّ اِغْفِرْ لَهُ اللَّهُمَّ اِرْحَمْهُ ) الْحَدِيث . وَقَدْ تَقَدَّمَ . وَهَذَا قَوْل اِبْن عَبَّاس : | بَيْتِيَ | مَسْجِدِي ; حَكَاهُ الثَّعْلَبِيّ وَقَالَهُ الضَّحَّاك . وَعَنْ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا : أَيْ وَلِمَنْ دَخَلَ دِينِي ; فَالْبَيْت بِمَعْنَى الدِّين ; حَكَاهُ الْقُشَيْرِيّ وَقَالَهُ جُوَيْبِر . وَعَنْ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا : يَعْنِي صَدِيقِي الدَّاخِل إِلَى مَنْزِلِي ; حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيّ . وَقِيلَ : أَرَادَ دَارِي . وَقِيلَ سَفِينَتِي .|وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ|عَامَّة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ; قَالَهُ الضَّحَّاك . وَقَالَ الْكَلْبِيّ : مِنْ أُمَّة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقِيلَ : مِنْ قَوْمه ; وَالْأَوَّل أَظْهَر .|وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ|أَيْ الْكَافِرِينَ .|إِلَّا تَبَارًا|إِلَّا هَلَاكًا ; فَهِيَ عَامَّة فِي كُلّ كَافِر وَمُشْرِك . وَقِيلَ : أَرَادَ مُشْرِكِي قَوْمه . وَالتَّبَار : الْهَلَاك . وَقِيلَ : الْخُسْرَان ; حَكَاهُمَا السُّدِّيّ . وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : | إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّر مَا هُمْ فِيهِ | [ الْأَعْرَاف : 139 ] . وَقِيلَ : التَّبَار الدَّمَار ; وَالْمَعْنَى وَاحِد . وَاَللَّه أَعْلَم بِذَلِكَ . وَهُوَ الْمُوَفِّق لِلصَّوَابِ .