islamkingdomfaceBook islamkingdomtwitter islamkingdominstagram islamkingdomyoutube islamkingdomnew

تفسير القرطبى
16253

59-الحشر

سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ

رَوَى اِبْن عَبَّاس أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ قَرَأَ سُورَة الْحَشْر لَمْ يَبْقَ شَيْء مِنْ الْجَنَّة وَالنَّار وَالْعَرْش وَالْكُرْسِيّ وَالسَّمَوَات وَالْأَرْض وَالْهَوَامّ وَالرِّيح وَالسَّحَاب وَالطَّيْر وَالدَّوَابّ وَالشَّجَر وَالْجِبَال وَالشَّمْس وَالْقَمَر وَالْمَلَائِكَة إِلَّا صَلَّوْا عَلَيْهِ وَاسْتَغْفَرُوا لَهُ . فَإِنْ مَاتَ مِنْ يَوْمه أَوْ لَيْلَته مَاتَ شَهِيدًا ) . خَرَّجَهُ الثَّعْلَبِيّ . وَخَرَّجَ الثَّعَالِبِيّ عَنْ يَزِيد الرَّقَاشِيّ عَنْ أَنَس أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ قَرَأَ آخِر سُورَة الْحَشْر | لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآن عَلَى جَبَل | [ الْحَشْر : 21 ] - إِلَى آخِرهَا - فَمَاتَ مِنْ لَيْلَته مَاتَ شَهِيدًا ) . وَرَوَى التِّرْمِذِيّ عَنْ مَعْقِل بْن يَسَار قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ قَالَ حِين يُصْبِح ثَلَاث مَرَّات أَعُوذ بِاَللَّهِ السَّمِيع الْعَلِيم مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيم وَقَرَأَ ثَلَاث آيَات مِنْ آخِر سُورَة الْحَشْر وَكَّلَ اللَّه بِهِ سَبْعِينَ أَلْف مَلَك يُصَلُّونَ عَلَيْهِ حَتَّى يُمْسِي وَإِنْ مَاتَ فِي يَوْمه مَاتَ شَهِيدًا وَمَنْ قَرَأَهَا حِين يُمْسِي فَكَذَلِكَ ) . قَالَ : حَدِيث حَسَن غَرِيب .</p><p>| سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الْأَرْض | أَيْ مَجَّدَ اللَّه وَنَزَّهَهُ عَنْ السُّوء . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : صَلَّى لِلَّهِ | مَا فِي السَّمَوَات | مِمَّنْ خَلَقَ مِنْ الْمَلَائِكَة | وَالْأَرْض | مِنْ شَيْء فِيهِ رُوح أَوْ لَا رُوح فِيهِ . وَقِيلَ : هُوَ تَسْبِيح الدَّلَالَة . وَأَنْكَرَ الزَّجَّاج هَذَا وَقَالَ : لَوْ كَانَ هَذَا تَسْبِيح الدَّلَالَة وَظُهُور آثَار الصَّنْعَة لَكَانَتْ مَفْهُومَة , فَلِمَ قَالَ : | وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحهمْ | [ الْإِسْرَاء : 44 ] وَإِنَّمَا هُوَ تَسْبِيح مُقَال . وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : | وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُد الْجِبَال يُسَبِّحْنَ | [ الْأَنْبِيَاء : 79 ] فَلَوْ كَانَ هَذَا تَسْبِيح دَلَالَة فَأَيّ تَخْصِيص لِدَاوُدَ ؟ !</p><p>قُلْت : وَمَا ذَكَرَهُ هُوَ الصَّحِيح , وَقَدْ مَضَى بَيَانه وَالْقَوْل فِيهِ فِي | الْإِسْرَاء | عِنْد قَوْله تَعَالَى : | وَإِنْ مِنْ شَيْء إِلَّا يُسَبِّح بِحَمْدِهِ | [ الْإِسْرَاء : 44 ]|وَهُوَ الْعَزِيزُ|مَعْنَاهُ الْمَنِيع الَّذِي لَا يُنَال وَلَا يُغَالَب . وَقَالَ اِبْن كَيْسَان : مَعْنَاهُ الَّذِي لَا يُعْجِزهُ شَيْء ; دَلِيله : | وَمَا كَانَ اللَّه لِيُعْجِزهُ مِنْ شَيْء فِي السَّمَاوَات وَلَا فِي الْأَرْض | . [ فَاطِر : 44 ] . الْكِسَائِيّ : | الْعَزِيز | الْغَالِب ; وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : | وَعَزَّنِي فِي الْخِطَاب | [ ص : 23 ] وَفِي الْمَثَل : { مَنْ عَزَّ بَزَّ } أَيْ مَنْ غَلَبَ سَلَبَ . وَقِيلَ : | الْعَزِيز | الَّذِي لَا مِثْل لَهُ ; بَيَانه | لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء | [ الشُّورَى : 11 ] .|الْحَكِيمُ|مَعْنَاهُ الْحَاكِم , وَبَيْنهمَا مَزِيد الْمُبَالَغَة . وَقِيلَ مَعْنَاهُ الْمُحْكِم وَيَجِيء الْحَكِيم عَلَى هَذَا مِنْ صِفَات الْفِعْل , صُرِفَ عَنْ مُفْعِل إِلَى فَعِيل , كَمَا صُرِفَ عَنْ مُسْمِع إِلَى سَمِيع وَمُؤْلِم إِلَى أَلِيم , قَالَهُ اِبْن الْأَنْبَارِيّ . وَقَالَ قَوْم : الْمَانِع مِنْ الْفَسَاد , وَمِنْهُ سُمِّيَتْ حَكَمَة اللِّجَام , لِأَنَّهَا تَمْنَع الْفَرَس مِنْ الْجَرْي وَالذَّهَاب فِي غَيْر قَصْد . قَالَ جَرِير : <br>أَبَنِي حَنِيفَة أَحْكِمُوا سُفَهَاءَكُمْ .......... إِنِّي أَخَاف عَلَيْكُمْ أَنْ أَغْضَبَا <br>أَيْ اِمْنَعُوهُمْ مِنْ الْفَسَاد . وَقَالَ زُهَيْر : <br>الْقَائِد الْخَيْل مَكْنُوبًا دَوَابِرهَا .......... قَدْ أُحْكِمَتْ حَكَمَات الْقِدّ وَالْأَبَقَا <br>الْقِدّ : الْجِلْد . وَالْأَبَق : الْقُنَّب . وَالْعَرَب تَقُول : أَحْكِمْ الْيَتِيم عَنْ كَذَا وَكَذَا , يُرِيدُونَ مَنْعه . وَالسُّورَة الْمُحْكَمَة : الْمَمْنُوعَة مِنْ التَّغْيِير وَكُلّ التَّبْدِيل , وَأَنْ يَلْحَق بِهَا مَا يَخْرُج عَنْهَا , وَيُزَاد عَلَيْهَا مَا لَيْسَ مِنْهَا , وَالْحِكْمَة مِنْ هَذَا , لِأَنَّهَا تَمْنَع صَاحِبهَا مِنْ الْجَهْل . وَيُقَال : أَحْكَمَ الشَّيْء إِذَا أَتْقَنَهُ وَمَنَعَهُ مِنْ الْخُرُوج عَمَّا يُرِيد . فَهُوَ مُحْكَم وَحَكِيم عَلَى التَّكْثِير .

هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي ق

فِيهِ ثَلَاث مَسَائِل : </subtitle>الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : | هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْل الْكِتَاب مِنْ دِيَارهمْ | قَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر : قُلْت لِابْنِ عَبَّاس : سُورَة الْحَشْر ؟ قَالَ : قُلْ سُورَة النَّضِير ; وَهُمْ رَهْط مِنْ الْيَهُود مِنْ ذُرِّيَّة هَارُون عَلَيْهِ السَّلَام , نَزَلُوا الْمَدِينَة فِي فِتَن بَنِي إِسْرَائِيل اِنْتِظَارًا لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَكَانَ مِنْ أَمْرهمْ مَا نَصَّ اللَّه عَلَيْهِ .</p><p>الثَّانِيَة : قَوْله تَعَالَى : | لِأَوَّلِ الْحَشْر | الْحَشْر الْجَمْع ; وَهُوَ عَلَى أَرْبَعَة أَوْجُه : حَشْرَانِ فِي الدُّنْيَا وَحَشْرَانِ فِي الْآخِرَة ; أَمَّا الَّذِي فِي الدُّنْيَا فَقَوْله تَعَالَى : | هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْل الْكِتَاب مِنْ دِيَارهمْ لِأَوَّلِ الْحَشْر | قَالَ الزُّهْرِيّ : كَانُوا مِنْ سَبْط لَمْ يُصِبْهُمْ جَلَاء , وَكَانَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ قَدْ كَتَبَ عَلَيْهِمْ الْجَلَاء ; فَلَوْلَا ذَلِكَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَكَانَ أَوَّل حَشْر حُشِرُوا فِي الدُّنْيَا إِلَى الشَّام . قَالَ اِبْن عَبَّاس وَعِكْرِمَة : مَنْ شَكَّ أَنَّ الْمَحْشَر فِي الشَّام فَلْيَقْرَأْ هَذِهِ الْآيَة , وَأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُمْ : ( اُخْرُجُوا ) قَالُوا إِلَى أَيْنَ ؟ قَالَ : ( إِلَى أَرْض الْمَحْشَر ) . قَالَ قَتَادَة : هَذَا أَوَّل الْمَحْشَر . قَالَ اِبْن عَبَّاس : هُمْ أَوَّل مَنْ حُشِرَ مِنْ أَهْل الْكِتَاب وَأُخْرِجَ مِنْ دِيَاره . وَقِيلَ : إِنَّهُمْ أُخْرِجُوا إِلَى خَيْبَر , وَأَنَّ مَعْنَى | لِأَوَّلِ الْحَشْر | إِخْرَاجهمْ مِنْ حُصُونهمْ إِلَى خَيْبَر , وَآخِره إِخْرَاج عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ إِيَّاهُمْ مِنْ خَيْبَر إِلَى نَجْد وَأَذْرِعَات . وَقِيلَ تَيْمَاء وَأَرِيحَاء , وَذَلِكَ بِكُفْرِهِمْ وَنَقْضِ عَهْدهمْ . وَأَمَّا الْحَشْر الثَّانِي : فَحَشْرهمْ قُرْب الْقِيَامَة . قَالَ قَتَادَة : تَأْتِي نَار تَحْشُر النَّاس مِنْ الْمَشْرِق إِلَى الْمَغْرِب , تَبِيت مَعَهُمْ حَيْثُ بَاتُوا , وَتَقِيل مَعَهُمْ حَيْثُ قَالُوا , وَتَأْكُل مِنْهُمْ مَنْ تَخَلَّفَ . وَهَذَا ثَابِت فِي الصَّحِيح , وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي ( كِتَاب التَّذْكِرَة ) . وَنَحْوه رَوَى اِبْن وَهْب عَنْ مَالِك قَالَ : قُلْت لِمَالِكٍ هُوَ جَلَاؤُهُمْ مِنْ دِيَارهمْ ؟ فَقَالَ لِي : الْحَشْر يَوْم الْقِيَامَة حَشْر الْيَهُود . قَالَ : وَأَجْلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْيَهُود إِلَى خَيْبَر حِين سُئِلُوا عَنْ الْمَال فَكَتَمُوهُ ; فَاسْتَحَلَّهُمْ بِذَلِكَ . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : لِلْحَشْرِ أَوَّل وَوَسَط وَآخِر ; فَالْأَوَّل إِجْلَاء بَنِي النَّضِير , وَالْأَوْسَط إِجْلَاء خَيْبَر , وَالْآخِر حَشْر يَوْم الْقِيَامَة . وَعَنْ الْحَسَن : هُمْ بَنُو قُرَيْظَة . وَخَالَفَهُ بَقِيَّة الْمُفَسِّرِينَ وَقَالُوا : بَنُو قُرَيْظَة مَا حُشِرُوا وَلَكِنَّهُمْ قُتِلُوا . حَكَاهُ الثَّعْلَبِيّ .</p><p>الثَّالِثَة : قَالَ إِلْكِيَا الطَّبَرِيّ : وَمُصَالَحَة أَهْل الْحَرْب عَلَى الْجَلَاء مِنْ دِيَارهمْ مِنْ غَيْر شَيْء لَا يَجُوز الْآن , وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ فِي أَوَّل الْإِسْلَام ثُمَّ نُسِخَ . وَالْآن فَلَا بُدّ مِنْ قِتَالهمْ أَوْ سَبْيهمْ أَوْ ضَرْب الْجِزْيَة عَلَيْهِمْ .|مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا|يُرِيد لِعِظَمِ أَمْر الْيَهُود وَمَنَعَتهمْ وَقُوَّتهمْ فِي صُدُور الْمُسْلِمِينَ , وَاجْتِمَاع كَلِمَتهمْ .|وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ|قِيلَ : هِيَ الْوَطِيح وَالنَّطَاة وَالسُّلَالِم وَالْكَتِيبَة .|مِنَ اللَّهِ|أَيْ مِنْ أَمْره . وَكَانُوا أَهْل حَلْقَة - أَيْ سِلَاح كَثِير - وَحُصُون مَنِيعَة ; فَلَمْ يَمْنَعهُمْ شَيْء مِنْهَا .|فَأَتَاهُمُ اللَّهُ|أَيْ أَمْره وَعَذَابه .|مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا|أَيْ لَمْ يَظُنُّوا . وَقِيلَ : مِنْ حَيْثُ لَمْ يَعْلَمُوا . وَقِيلَ : | مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا | بِقَتْلِ كَعْب بْن الْأَشْرَف ; قَالَ اِبْن جُرَيْج وَالسُّدِّيّ وَأَبُو صَالِح .|وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ|بِقَتْلِ سَيِّدهمْ كَعْب بْن الْأَشْرَف ; وَكَانَ الَّذِي قَتَلَهُ هُوَ مُحَمَّد بْن مَسْلَمَة وَأَبُو نَائِلَة سِلْكَان بْن سَلَامَة بْن وَقْش - وَكَانَ أَخَا كَعْب بْن الْأَشْرَف مِنْ الرَّضَاعَة - وَعَبَّاد بْن بِشْر بْن وَقْش , وَالْحَارِث بْن أَوْس بْن مُعَاذ , وَأَبُو عَبْس بْن جَبْر . وَخَبَره مَشْهُور فِي السِّيرَة . وَفِي الصَّحِيح أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( نُصِرْت بِالرُّعْبِ بَيْن يَدَيْ مَسِيرَة شَهْر ) فَكَيْفَ لَا يُنْصَر بِهِ مَسِيرَة مِيل مِنْ الْمَدِينَة إِلَى مَحَلَّة بَنِي النَّضِير . وَهَذِهِ خِصِّيصَى لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُون غَيْره .|يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ|قِرَاءَة الْعَامَّة بِالتَّخْفِيفِ مِنْ أَخْرَبَ ; أَيْ يَهْدِمُونَ . وَقَرَأَ السُّلَمِيّ وَالْحَسَن وَنَصْر بْن عَاصِم وَأَبُو الْعَالِيَة وَقَتَادَة وَأَبُو عَمْرو | يُخْرِبُونَ | بِالتَّشْدِيدِ مِنْ التَّخْرِيب . قَالَ أَبُو عَمْرو : إِنَّمَا اِخْتَرْت التَّشْدِيد لِأَنَّ الْإِخْرَاب تَرْك الشَّيْء خَرَابًا بِغَيْرِ سَاكِن , وَبَنُو النَّضْر لَمْ يَتْرُكُوهَا خَرَابًا وَإِنَّمَا خَرَّبُوهَا بِالْهَدْمِ ;|وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ|وَقَالَ آخَرُونَ : التَّخْرِيب وَالْإِخْرَاب بِمَعْنًى وَاحِد , وَالتَّشْدِيد بِمَعْنَى التَّكْثِير . وَحَكَى سِيبَوَيْهِ : أَنَّ مَعْنَى فَعَّلْت وَأَفْعَلْت يَتَعَاقَبَانِ ; نَحْو أَخْرَبْته وَخَرَّبْته وَأَفْرَحْته وَفَرَّحْته . وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْد وَأَبُو حَاتِم الْأُولَى . قَالَ قَتَادَة وَالضَّحَّاك : كَانَ الْمُؤْمِنُونَ يُخَرِّبُونَ مِنْ خَارِج لِيَدْخُلُوا , وَالْيَهُود يُخَرِّبُونَ مِنْ دَاخِل لِيَبْنُوا بِهِ مَا خَرِبَ مِنْ حِصْنهمْ . فَرُوِيَ أَنَّهُمْ صَالَحُوا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَلَّا يَكُونُوا عَلَيْهِ وَلَا لَهُ ; فَلَمَّا ظَهَرَ يَوْم بَدْر قَالُوا : هُوَ النَّبِيّ الَّذِي نُعِتَ فِي التَّوْرَاة , فَلَا تَرِد لَهُ رَايَة . فَلَمَّا هُزِمَ الْمُسْلِمُونَ يَوْم أُحُد اِرْتَابُوا وَنَكَثُوا , فَخَرَجَ كَعْب بْن الْأَشْرَف فِي أَرْبَعِينَ رَاكِبًا إِلَى مَكَّة , فَخَالَفُوا عَلَيْهِ قُرَيْشًا عِنْد الْكَعْبَة , فَأَمَرَ عَلَيْهِ السَّلَام مُحَمَّد بْن مَسْلَمَة الْأَنْصَارِيّ فَقُتِلَ كَعْبًا غِيلَة ثُمَّ صَبَّحَهُمْ بِالْكَتَائِبِ ; فَقَالَ لَهُمْ . اُخْرُجُوا مِنْ الْمَدِينَة . فَقَالُوا : الْمَوْت أَحَبّ إِلَيْنَا مِنْ ذَلِكَ ; فَتَنَادَوْا بِالْحَرْبِ . وَقِيلَ : اِسْتَمْهَلُوا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشَرَة أَيَّام لِيَتَجَهَّزُوا لِلْخُرُوجِ , فَدَسَّ إِلَيْهِمْ عَبْد اللَّه بْن أُبَيّ الْمُنَافِق وَأَصْحَابه لَا تَخْرُجُوا مِنْ الْحِصْن , فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَنَحْنُ مَعَكُمْ لَا نَخْذُلكُمْ , وَلَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ . فَدُرِّبُوا عَلَى الْأَزِقَّة وَحَصَّنُوهَا إِحْدَى وَعِشْرِينَ لَيْلَة , فَلَمَّا قَذَفَ اللَّه فِي قُلُوبهمْ الرُّعْب وَأَيِسُوا مِنْ نَصْر الْمُنَافِقِينَ طَلَبُوا الصُّلْح ; فَأَبَى عَلَيْهِمْ إِلَّا الْجَلَاء ; عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه . وَقَالَ الزُّهْرِيّ وَابْن زَيْد وَعُرْوَة بْن الزُّبَيْر : لَمَّا صَالَحَهُمْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنَّ لَهُمْ مَا أَقَلَّتْ الْإِبِل ; كَانُوا يَسْتَحْسِنُونَ الْخَشَبَة وَالْعَمُود فَيَهْدِمُونَ بُيُوتهمْ وَيَحْمِلُونَ ذَلِكَ عَلَى إِبِلهمْ وَيُخَرِّب الْمُؤْمِنُونَ بَاقِيهَا . وَعَنْ اِبْن زَيْد أَيْضًا : كَانُوا يُخَرِّبُونَهَا لِئَلَّا يَسْكُنهَا الْمُسْلِمُونَ بَعْدهمْ . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : كَانُوا كُلَّمَا ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى دَار مِنْ دُورهمْ هَدَمُوهَا لِيَتَّسِع مَوْضِع الْقِتَال , وَهُمْ يَنْقُبُونَ دُورهمْ مِنْ أَدْبَارهَا إِلَى الَّتِي بَعْدهَا لِيَتَحَصَّنُوا فِيهَا , وَيَرْمُوا بِاَلَّتِي أَخْرَجُوا مِنْهَا الْمُسْلِمِينَ . وَقِيلَ : لِيَسُدُّوا بِهَا أَزِقَّتهمْ . وَقَالَ عِكْرِمَة | بِأَيْدِيهِمْ | فِي إِخْرَاب دَوَاخِلهَا وَمَا فِيهَا لِئَلَّا يَأْخُذهُ الْمُسْلِمُونَ . و | أَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ | فِي إِخْرَاب ظَاهِرهَا لِيَصِلُوا بِذَلِكَ إِلَيْهِمْ . قَالَ عِكْرِمَة : كَانَتْ مَنَازِلهمْ مُزَخْرَفَة فَحَسَدُوا الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَسْكُنُوهَا | فَخَرَّبُوهَا مِنْ دَاخِل وَخَرَّبَهَا الْمُسْلِمُونَ مِنْ خَارِج . وَقِيلَ : | يُخْرِبُونَ بُيُوتهمْ | بِنَقْضِ الْمُوَاعَدَة | وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ | بِالْمُقَاتَلَةِ ; قَالَهُ الزُّهْرِيّ أَيْضًا . وَقَالَ أَبُو عَمْرو بْن الْعَلَاء | بِأَيْدِيهِمْ | فِي تَرْكهمْ لَهَا . و | أَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ | فِي إِجْلَائِهِمْ عَنْهَا . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : التَّنَاوُل لِلْإِفْسَادِ إِذَا كَانَ بِالْيَدِ كَانَ حَقِيقَة , وَإِذَا كَانَ بِنَقْضِ الْعَهْد كَانَ مَجَازًا ; إِلَّا أَنَّ قَوْل الزُّهْرِيّ فِي الْمَجَاز أَمْثَل مِنْ قَوْل أَبِي عَمْرو بْن الْعَلَاء .|فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي|أَيْ اِتَّعِظُوا يَا أَصْحَاب الْعُقُول وَالْأَلْبَاب . وَقِيلَ : يَا مَنْ عَايَنَ ذَلِكَ بِبَصَرِهِ ; فَهُوَ جَمْع لِلْبَصَرِ . وَمِنْ جُمْلَة الِاعْتِبَار هُنَا أَنَّهُمْ اِعْتَصَمُوا بِالْحُصُونِ مِنْ اللَّه فَأَنْزَلَهُمْ اللَّه مِنْهَا . وَمِنْ وُجُوهه : أَنَّهُ سَلَّطَ عَلَيْهِمْ مَنْ كَانَ يَنْصُرهُمْ . وَمِنْ وُجُوهه أَيْضًا : أَنَّهُمْ هَدَمُوا أَمْوَالهمْ بِأَيْدِيهِمْ . وَمَنْ لَمْ يَعْتَبِر بِغَيْرِهِ اُعْتُبِرَ فِي نَفْسه . وَفِي الْأَمْثَال الصَّحِيحَة : | السَّعِيد مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ | .

وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ

أَيْ لَوْلَا أَنَّهُ قَضَى أَنَّهُ سَيُجْلِيهِمْ عَنْ دَارهمْ وَأَنَّهُمْ يَبْقَوْنَ مُدَّة فَيُؤْمِن بَعْضهمْ وَيُولَد لَهُمْ مَنْ يُؤْمِن .|لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ|أَيْ بِالْقَتْلِ وَالسَّبْي كَمَا فَعَلَ بِبَنِي قُرَيْظَة . وَالْجَلَاء مُفَارَقَة الْوَطَن يُقَال : جَلَّا بِنَفْسِهِ جَلَاء , وَأَجْلَاهُ غَيْره إِجْلَاء . وَالْفَرْق بَيْن الْجَلَاء وَالْإِخْرَاج وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُمَا فِي الْإِبْعَاد وَاحِدًا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدهمَا : أَنَّ الْجَلَاء مَا كَانَ مَعَ الْأَهْل وَالْوَلَد , وَالْإِخْرَاج قَدْ يَكُون مَعَ بَقَاء الْأَهْل وَالْوَلَد . الثَّانِي : أَنَّ الْجَلَاء لَا يَكُون إِلَّا لِجَمَاعَةٍ , وَالْإِخْرَاج يَكُون لِوَاحِدٍ وَلِجَمَاعَةٍ ; قَالَهُ الْمَاوَرْدِيّ .

ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ

أَيْ ذَلِكَ الْجَلَاء|بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ|أَيْ عَادُوهُ وَخَالَفُوا أَمْره .|وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ|قَرَأَ طَلْحَة بْن مُصَرِّف وَمُحَمَّد بْن السَّمَيْقَع | وَمَنْ يُشَاقِقْ اللَّه | بِإِظْهَارِ التَّضْعِيف كَاَلَّتِي فِي | الْأَنْفَال | , وَأَدْغَمَ الْبَاقُونَ .

مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ

فِيهِ خَمْس مَسَائِل : </subtitle>الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : | مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَة | | مَا | فِي مَحَلّ نَصْب ب | قَطَعْتُمْ | ; كَأَنَّهُ قَالَ : أَيّ شَيْء قَطَعْتُمْ . وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَزَلَ عَلَى حُصُون بَنِي النَّضِير - وَهِيَ الْبُوَيْرَة - حِين نَقَضُوا الْعَهْد بِمَعُونَةِ قُرَيْش عَلَيْهِ يَوْم أُحُد , أَمَرَ بِقَطْعِ نَخِيلهمْ وَإِحْرَاقهَا . وَاخْتَلَفُوا فِي عَدَد ذَلِكَ ; فَقَالَ قَتَادَة وَالضَّحَّاك : إِنَّهُمْ قَطَعُوا مِنْ نَخِيلهمْ وَأَحْرَقُوا سِتّ نَخَلَات . وَقَالَ مُحَمَّد بْن إِسْحَاق : إِنَّهُمْ قَطَعُوا نَخْلَة وَأَحْرَقُوا نَخْلَة . وَكَانَ ذَلِكَ عَنْ إِقْرَار رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ بِأَمْرِهِ ; إِمَّا لِإِضْعَافِهِمْ بِهَا وَإِمَّا لِسَعَةِ الْمَكَان بِقَطْعِهَا . فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَقَالُوا وَهُمْ يَهُود أَهْل الْكِتَاب : يَا مُحَمَّد , أَلَسْت تَزْعُم أَنَّك نَبِيّ تُرِيد الصَّلَاح , أَفَمِنْ الصَّلَاح قَطْع النَّخْل وَحَرْق الشَّجَر ؟ وَهَلْ وَجَدْت فِيمَا أَنْزَلَ اللَّه عَلَيْك إِبَاحَة الْفَسَاد فِي الْأَرْض ؟ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَوَجَدَ الْمُؤْمِنُونَ فِي أَنْفُسهمْ حَتَّى اِخْتَلَفُوا ; فَقَالَ بَعْضهمْ : لَا تَقْطَعُوا مِمَّا أَفَاءَ اللَّه عَلَيْنَا . وَقَالَ بَعْضهمْ : اقْطَعُوا لِنَغِيظَهُمْ بِذَلِكَ . فَنَزَلَتْ الْآيَة بِتَصْدِيقِ مَنْ نَهَى عَنْ الْقَطْع وَتَحْلِيل مَنْ قَطَعَ مِنْ الْإِثْم , وَأَخْبَرَ أَنَّ قَطْعه وَتَرْكه بِإِذْنِ اللَّه . وَقَالَ شَاعِرهمْ سِمَاك الْيَهُودِيّ فِي ذَلِكَ : <br>أَلَسْنَا وِرْثنَا الْكِتَاب الْحَكِيم .......... عَلَى عَهْد مُوسَى وَلَمْ نَصْدِف <br><br>وَأَنْتُمْ رِعَاء لِشَاءٍ عِجَاف .......... بِسَهْلِ تِهَامَة وَالْأَخْيَف <br><br>تَرَوْنَ الرِّعَايَة مَجْدًا لَكُمْ .......... لَدَى كُلّ دَهْر لَكُمْ مُجْحِف <br><br>فَيَا أَيّهَا الشَّاهِدُونَ اِنْتَهُوا .......... عَنْ الظُّلْم وَالْمَنْطِق الْمُؤْنِف <br><br>لَعَلَّ اللَّيَالِي وَصَرْف الدُّهُور .......... يُدِلْنَ مَنْ الْعَادِل الْمُنْصِف <br><br>بِقَتْلِ النَّضِير وَإِجْلَائِهَا .......... وَعَقْر النَّخِيل وَلَمْ تُقْطِف <br>فَأَجَابَهُ حَسَّان بْن ثَابِت : <br>تَفَاقَدَ مَعْشَرٌ نَصَرُوا قُرَيْشًا .......... وَلَيْسَ لَهُمْ بِبَلْدَتِهِمْ نَصِير <br><br>هُمُوا أُوتُوا الْكِتَاب فَضَيَّعُوهُ .......... وَهُمْ عُمْي عَنْ التَّوْرَاة بُور <br><br>كَفَرْتُمْ بِالْقُرَانِ وَقَدْ أَبَيْتُمْ .......... بِتَصْدِيقِ الَّذِي قَالَ النَّذِير <br><br>وَهَانَ عَلَى سَرَاة بَنِي لُؤَيّ .......... حَرِيق بِالْبُوَيْرَةِ مُسْتَطِير <br>فَأَجَابَهُ أَبُو سُفْيَان بْن الْحَارِث بْن عَبْد الْمُطَّلِب : <br>أَدَامَ اللَّه ذَلِكَ مِنْ صَنِيع .......... وَحَرَّقَ فِي نَوَاحِيهَا السَّعِير <br><br>سَتَعْلَمُ أَيّنَا مِنْهَا بِنُزْهٍ .......... وَتَعْلَم أَيَّ أَرْضَيْنَا تَصِير <br><br>فَلَوْ كَانَ النَّخِيل بِهَا رِكَابًا .......... لَقَالُوا لَا مُقَام لَكُمْ فَسِيرُوا<br>الثَّانِيَة : كَانَ خُرُوج النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ فِي رَبِيع الْأَوَّل أَوَّل السَّنَة الرَّابِعَة مِنْ الْهِجْرَة , وَتَحَصَّنُوا مِنْهُ فِي الْحُصُون , وَأَمَرَ بِقَطْعِ النَّخْل وَإِحْرَاقهَا , وَحِينَئِذٍ نَزَلَ تَحْرِيم الْخَمْر . وَدَسَّ عَبْد اللَّه بْن أُبَيّ اِبْن سَلُول وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُنَافِقِينَ إِلَى بَنِي النَّضِير : إِنَّا مَعَكُمْ , وَإِنْ قُوتِلْتُمْ قَاتَلْنَا مَعَكُمْ , وَإِنْ أُخْرِجْتُمْ خَرَجْنَا مَعَكُمْ ; فَاغْتَرُّوا بِذَلِكَ . فَلَمَّا جَاءَتْ الْحَقِيقَة خَذَلُوهُمْ وَأَسْلَمُوهُمْ وَأَلْقَوْا بِأَيْدِيهِمْ , وَسَأَلُوا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَكُفّ عَنْ دِمَائِهِمْ وَيُجْلِيهِمْ ; عَلَى أَنَّ لَهُمْ مَا حَمَلَتْ الْإِبِل مِنْ أَمْوَالهمْ إِلَّا السِّلَاح , فَاحْتَمَلُوا كَذَلِكَ إِلَى خَيْبَر , وَمِنْهُمْ مَنْ سَارَ إِلَى الشَّام . وَكَانَ مِمَّنْ سَارَ مِنْهُمْ إِلَى خَيْبَر أَكَابِرهمْ ; كَحُيَيّ بْن أَخْطَب , وَسَلَّام بْن أَبِي الْحُقَيْق , وَكِنَانَة بْن الرَّبِيع . فَدَانَتْ لَهُمْ خَيْبَر .</p><p>الثَّالِثَة : ثَبَتَ فِي صَحِيح مُسْلِم وَغَيْره عَنْ اِبْن عُمَر أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطَعَ نَخْل بَنِي النَّضِير وَحَرَّقَ . وَلَهَا يَقُول حَسَّان : <br>وَهَانَ عَلَى سَرَاة بَنِي لُؤَيّ .......... حَرِيق بِالْبُوَيْرَةِ مُسْتَطِير <br>وَفِي ذَلِكَ نَزَلَتْ : | مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَة | الْآيَة . وَاخْتَلَفَ النَّاس فِي تَخْرِيب دَار الْعَدُوّ وَتَحْرِيقهَا وَقَطْع ثِمَارهَا عَلَى قَوْلَيْنِ : الْأَوَّل : أَنَّ ذَلِكَ جَائِز ; قَالَهُ فِي الْمُدَوَّنَة . الثَّانِي : إِنْ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ ذَلِكَ لَهُمْ لَمْ يَفْعَلُوا , وَإِنْ يَئِسُوا فَعَلُوا ; قَالَهُ مَالِك فِي الْوَاضِحَة . وَعَلَيْهِ يُنَاظِر أَصْحَاب الشَّافِعِيّ . اِبْن الْعَرَبِيّ : وَالصَّحِيح الْأَوَّل . وَقَدْ عَلِمَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ نَخْل بَنِي النَّضِير لَهُ ; وَلَكِنَّهُ قَطَعَ وَحَرَّقَ لِيَكُونَ ذَلِكَ نِكَايَة لَهُمْ وَوَهْنًا فِيهِمْ حَتَّى يَخْرُجُوا عَنْهَا . وَإِتْلَاف بَعْض الْمَال لِصَلَاحِ بَاقِيه مَصْلَحَة جَائِزَة شَرْعًا , مَقْصُودَة عَقْلًا .</p><p>الرَّابِعَة : قَالَ الْمَاوَرْدِيّ : إِنَّ فِي هَذِهِ الْآيَة دَلِيلًا عَلَى أَنَّ كُلّ مُجْتَهِد مُصِيب . وَقَالَهُ إِلْكِيَا الطَّبَرِيّ قَالَ : وَإِنْ كَانَ الِاجْتِهَاد يَبْعُد فِي مِثْله مَعَ وُجُود النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْن أَظْهُرهمْ , وَلَا شَكَّ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى ذَلِكَ وَسَكَتَ ; فَتَلَقَّوْا الْحُكْم مِنْ تَقْرِيره فَقَطْ . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهَذَا بَاطِل ; لِأَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مَعَهُمْ , وَلَا اِجْتِهَاد مَعَ حُضُور رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَإِنَّمَا يَدُلّ عَلَى اِجْتِهَاد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا لَمْ يَنْزِل عَلَيْهِ ; أَخْذًا بِعُمُومِ الْأَذِيَّة لَلْكُفَّار , وَدُخُولًا فِي الْإِذْن لِلْكُلِّ لِمَا يَقْضِي عَلَيْهِمْ بِالِاجْتِيَاحِ وَالْبَوَار ; وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : | وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ | .</p><p>الْخَامِسَة : اُخْتُلِفَ فِي اللِّينَة مَا هِيَ ; عَلَى أَقْوَال عَشَرَة : الْأَوَّل : النَّخْل كُلّه إِلَّا الْعَجْوَة ; قَالَهُ الزُّهْرِيّ وَمَالِك وَسَعِيد بْن جُبَيْر وَعِكْرِمَة وَالْخَلِيل . وَعَنْ اِبْن عَبَّاس وَمُجَاهِد وَالْحَسَن : أَنَّهَا النَّخْل كُلّه , وَلَمْ يَسْتَثْنُوا عَجْوَة وَلَا غَيْرهَا . وَعَنْ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا : أَنَّهَا لَوْن مِنْ النَّخْل . وَعَنْ الثَّوْرِيّ : أَنَّهَا كِرَام النَّخْل . وَعَنْ أَبِي عُبَيْدَة : أَنَّهَا جَمِيع أَلْوَان التَّمْر سِوَى الْعَجْوَة وَالْبَرْنِيّ . وَقَالَ جَعْفَر بْن مُحَمَّد : إِنَّهَا الْعَجْوَة خَاصَّة . وَذُكِرَ أَنَّ الْعَتِيق وَالْعَجْوَة كَانَتَا مَعَ نُوح عَلَيْهِ السَّلَام فِي السَّفِينَة . وَالْعَتِيق : الْفَحْل . وَكَانَتْ الْعَجْوَة أَصْل الْإِنَاث كُلّهَا فَلِذَلِكَ شَقَّ عَلَى الْيَهُود قَطْعهَا ; حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيّ . وَقِيلَ : هِيَ ضَرْب مِنْ النَّخْل يُقَال لِتَمْرِهِ : اللَّوْن , تَمْره أَجْوَد التَّمْر , وَهُوَ شَدِيد الصُّفْرَة , يُرَى نَوَاهُ مِنْ خَارِجه وَيَغِيب فِيهِ الضِّرْس ; النَّخْلَة مِنْهَا أَحَبّ إِلَيْهِمْ مِنْ وَصِيف . وَقِيلَ : هِيَ النَّخْلَة الْقَرِيبَة مِنْ الْأَرْض . وَأَنْشَدَ الْأَخْفَش . <br>قَدْ شَجَانِي الْحَمَام حِين تَغَنَّى .......... بِفِرَاقِ الْأَحْبَاب مِنْ فَوْق لِينَهْ <br>وَقِيلَ : إِنَّ اللِّينَة الْفَسِيلَة ; لِأَنَّهَا أَلْيَن مِنْ النَّخْلَة . وَمِنْهُ قَوْل الشَّاعِر : <br>غَرَسُوا لِينهَا بِمَجْرَى مَعِين .......... ثُمَّ حَفُّوا النَّخِيل بِالْآجَامِ <br>وَقِيلَ : إِنَّ اللِّينَة الْأَشْجَار كُلّهَا لِلِينِهَا بِالْحَيَاةِ ; قَالَ ذُو الرِّمَّة : <br>طِرَاق الْخَوَافِي وَاقِع فَوْق لِينَة .......... نَدَى لَيْله فِي رِيشه يَتَرَقْرَق <br>وَالْقَوْل الْعَاشِر : أَنَّهَا الدَّقَل ; قَالَهُ الْأَصْمَعِيّ . قَالَ : وَأَهْل الْمَدِينَة يَقُولُونَ لَا تَنْتَفِخ الْمَوَائِد حَتَّى تُوجَد الْأَلْوَان ; يَعْنُونَ الدَّقَل . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَالصَّحِيح مَا قَالَهُ الزُّهْرِيّ وَمَالِك لِوَجْهَيْنِ : أَحَدهمَا : أَنَّهُمَا أَعْرَف بِبَلَدِهِمَا وَأَشْجَارهمَا . الثَّانِي : أَنَّ الِاشْتِقَاق يَعْضُدهُ , وَأَهْل اللُّغَة يُصَحِّحُونَهُ ; فَإِنَّ اللِّينَة وَزْنهَا لُونَة , وَاعْتَلَّتْ عَلَى أُصُولهمْ فَآلَتْ إِلَى لِينَة فَهِيَ لَوْن , فَإِذَا دَخَلَتْ الْهَاء كُسِرَ أَوَّلهَا ; كَبَرْك الصَّدْر ( بِفَتْحِ الْبَاء ) وَبِرْكه ( بِكَسْرِهَا ) لِأَجْلِ الْهَاء . وَقِيلَ لِينَة أَصْلهَا لِوْنَة فَقُلِبَتْ الْوَاو يَاء لِانْكِسَارِ مَا قَبْلهَا . وَجَمْع اللِّينَة لِين . وَقِيلَ : لِيَان ; قَالَ اِمْرُؤُ الْقَيْس يَصِف عُنُق فَرَسه : <br>وَسَالِفَة كَسَحُوقِ اللِّيَا .......... نِ أَضْرَمَ فِيهَا الْغَوِيّ السُّعُر <br>وَقَالَ الْأَخْفَش : إِنَّمَا سُمِّيَتْ لِينَة اِشْتِقَاقًا مِنْ اللَّوْن لَا مِنْ اللَّيْن . الْمَهْدَوِيّ : وَاخْتُلِفَ فِي اِشْتِقَاقهَا ; فَقِيلَ : هِيَ مِنْ اللَّوْن وَأَصْلهَا لُونَة . وَقِيلَ : أَصْلهَا لِينَة مِنْ لَانَ يَلِين . وَقَرَأَ عَبْد اللَّه | مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَة وَلَا تَرَكْتُمْ قَوْمَاء عَلَى أُصُولهَا | أَيْ قَائِمَة عَلَى سُوقهَا . وَقَرَأَ الْأَعْمَش | مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَة أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قُوَّمًا عَلَى أُصُولهَا | الْمَعْنَى لَمْ تَقْطَعُوهَا . وَقُرِئَ | قَوْمَاء عَلَى أُصُلهَا | . وَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدهمَا : أَنَّهُ جَمْع أَصْل ; كَرَهْنٍ وَرُهُن . وَالثَّانِي : اُكْتُفِيَ فِيهِ بِالضَّمَّةِ عَنْ الْوَاو . وَقُرِئَ | قَائِمًا عَلَى أُصُوله | ذَهَابًا إِلَى لَفْظ | مَا | . | فَبِإِذْنِ اللَّه | أَيْ بِأَمْرِهِ | وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ | أَيْ لِيُذِلّ الْيَهُود الْكُفَّار بِهِ وَبِنَبِيِّهِ وَكُتُبه .

وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ

هَذِهِ الْآيَة وَاَلَّتِي بَعْدهَا إِلَى قَوْله | شَدِيد الْعِقَاب |</p><p>قَوْله تَعَالَى : | وَمَا أَفَاءَ اللَّه | يَعْنِي مَا رَدَّهُ اللَّه تَعَالَى | عَلَى رَسُوله | مِنْ أَمْوَال بَنِي النَّضِير . | فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ | أَوْضَعْتُمْ عَلَيْهِ . وَالْإِيجَاف : الْإِيضَاع فِي السَّيْر وَهُوَ الْإِسْرَاع ; يُقَال : وَجَفَ الْفَرَس إِذَا أَسْرَعَ , وَأَوْجَفْته أَنَا أَيْ حَرَّكْته وَأَتْعَبْته ; وَمِنْهُ قَوْل تَمِيم بْن مُقْبِل : مَذَاوِيد بِالْبِيضِ الْحَدِيث صِقَالهَا عَنْ الرَّكْب أَحْيَانًا إِذَا الرَّكْب أَوْجَفُوا وَالرِّكَاب الْإِبِل , وَاحِدهَا رَاحِلَة . يَقُول : لَمْ تَقْطَعُوا إِلَيْهَا شُقَّة وَلَا لَقِيتُمْ بِهَا حَرْبًا وَلَا مَشَقَّة ; وَإِنَّمَا كَانَتْ مِنْ الْمَدِينَة عَلَى مِيلَيْنِ ; قَالَهُ الْفَرَّاء . فَمَشَوْا إِلَيْهَا مَشْيًا وَلَمْ يَرْكَبُوا خَيْلًا وَلَا إِبِلًا ; إِلَّا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ رَكِبَ جَمَلًا وَقِيلَ حِمَارًا مَخْطُومًا بِلِيفٍ , فَافْتَتَحَهَا صُلْحًا وَأَجْلَاهُمْ وَأَخَذَ أَمْوَالهمْ . فَسَأَلَ الْمُسْلِمُونَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُقْسِم لَهُمْ فَنَزَلَتْ : | وَمَا أَفَاءَ اللَّه عَلَى رَسُوله مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ | الْآيَة . فَجَعَلَ أَمْوَال بَنِي النَّضِير لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّة يَضَعهَا حَيْثُ شَاءَ ; فَقَسَمَهَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْن الْمُهَاجِرِينَ . قَالَ الْوَاقِدِيّ : وَرَوَاهُ اِبْن وَهْب عَنْ مَالِك ; وَلَمْ يُعْطِ الْأَنْصَار مِنْهَا شَيْئًا إِلَّا ثَلَاثَة نَفَر مُحْتَاجِينَ ; مِنْهُمْ أَبُو دُجَانَة سِمَاك بْن خَرَشَة , وَسَهْل بْن حُنَيْف , وَالْحَارِث بْن الصِّمَّة . وَقِيلَ : إِنَّمَا أَعْطَى رَجُلَيْنِ , سَهْلًا وَأَبَا دُجَانَة . وَيُقَال : أَعْطَى سَعْد بْن مُعَاذ سَيْف ابْن أَبِي الْحُقَيْق , وَكَانَ سَيْفًا لَهُ ذُكِرَ عِنْدهمْ . وَلَمْ يُسْلِم مِنْ بَنِي النَّضِير إِلَّا رَجُلَانِ : سُفْيَان بْن عُمَيْر , وَسَعْد بْن وَهْب ; أَسْلَمَا عَلَى أَمْوَالهمَا فَأَحْرَزَاهَا . وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ عُمَر قَالَ : كَانَتْ أَمْوَال بَنِي النَّضِير مِمَّا أَفَاءَ اللَّه عَلَى رَسُوله مِمَّا لَمْ يُوجِف عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ بِخَيْلٍ وَلَا رِكَاب , وَكَانَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّة , فَكَانَ يُنْفِق عَلَى أَهْله نَفَقَة سَنَة , وَمَا بَقِيَ يَجْعَلهُ فِي الْكُرَاع وَالسِّلَاح عُدَّة فِي سَبِيل اللَّه تَعَالَى . وَقَالَ الْعَبَّاس لِعُمَر - رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا - : اِقْضِ بَيْنِي وَبَيْن هَذَا الْكَاذِب الْآثِم الْغَادِر الْخَائِن - يَعْنِي عَلِيًّا رَضِيَ اللَّه عَنْهُ - فِيمَا أَفَاءَ اللَّه عَلَى رَسُوله مِنْ أَمْوَال بَنِي النَّضِير . فَقَالَ عُمَر : أَتَعْلَمَانِ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( لَا نُورَث مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَة ) قَالَا نَعَمْ . قَالَ عُمَر : إِنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ كَانَ خَصَّ رَسُوله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَاصَّةٍ وَلَمْ يُخَصِّص بِهَا أَحَدًا غَيْره . قَالَ : | مَا أَفَاءَ اللَّه عَلَى رَسُوله مِنْ أَهْل الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ | ( مَا أَدْرِي هَلْ قَرَأَ الْآيَة الَّتِي قَبْلهَا أَمْ لَا ) فَقَسَمَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنكُمْ أَمْوَال بَنِي النَّضِير , فَوَاَللَّهِ مَا اِسْتَأْثَرَهَا عَلَيْكُمْ وَلَا أَخَذَهَا دُونكُمْ حَتَّى بَقِيَ هَذَا الْمَال ; فَكَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْخُذ مِنْهُ نَفَقَة سَنَة , ثُمَّ يَجْعَل مَا بَقِيَ أُسْوَة الْمَال ... الْحَدِيث بِطُولِهِ , خَرَّجَهُ مُسْلِم . وَقِيلَ : لَمَّا تَرَكَ بَنُو النَّضِير دِيَارهمْ وَأَمْوَالهمْ طَلَبَ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَكُون لَهُمْ فِيهَا حَظّ كَالْغَنَائِمِ ; فَبَيَّنَ اللَّه تَعَالَى أَنَّهَا فَيْء وَكَانَ جَرَى ثَمَّ بَعْض الْقِتَال ; لِأَنَّهُمْ حُوصِرُوا أَيَّامًا وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا , ثُمَّ صَالَحُوا عَلَى الْجَلَاء . وَلَمْ يَكُنْ قِتَال عَلَى التَّحْقِيق ; بَلْ جَرَى مَبَادِئ الْقِتَال وَجَرَى الْحِصَار , وَخَصَّ اللَّه تِلْكَ الْأَمْوَال بِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَالَ مُجَاهِد : أَعْلَمَهُمْ اللَّه تَعَالَى وَذَكَّرَهُمْ أَنَّهُ إِنَّمَا نَصَرَ رَسُوله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَصَرَهُمْ بِغَيْرِ كُرَاع وَلَا عُدَّة . | وَلَكِنَّ اللَّه يُسَلِّط رُسُله عَلَى مَنْ يَشَاء | أَيْ مِنْ أَعْدَائِهِ . وَفِي هَذَا بَيَان أَنَّ تِلْكَ الْأَمْوَال كَانَتْ خَاصَّة لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُون أَصْحَابه .

مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُ

قَالَ اِبْن عَبَّاس : هِيَ قُرَيْظَة وَالنَّضِير , وَهُمَا بِالْمَدِينَةِ وَفَدَك , وَهِيَ عَلَى ثَلَاثَة أَيَّام مِنْ الْمَدِينَة وَخَيْبَر . وَقُرَى عُرَيْنَة وَيَنْبُع جَعَلَهَا اللَّه لِرَسُولِهِ . وَبَيَّنَ أَنَّ فِي ذَلِكَ الْمَال الَّذِي خَصَّهُ بِالرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَام سُهْمَانًا لِغَيْرِ الرَّسُول نَظَرًا مِنْهُ لِعِبَادِهِ . وَقَدْ تَكَلَّمَ الْعُلَمَاء فِي هَذِهِ الْآيَة وَاَلَّتِي قَبْلهَا , هَلْ مَعْنَاهُمَا وَاحِد أَوْ مُخْتَلَف , وَالْآيَة الَّتِي فِي الْأَنْفَال ; فَقَالَ قَوْم مِنْ الْعُلَمَاء : إِنَّ قَوْله تَعَالَى : | مَا أَفَاءَ اللَّه عَلَى رَسُوله مِنْ أَهْل الْقُرَى | مَنْسُوخ بِمَا فِي سُورَة الْأَنْفَال مِنْ كَوْن الْخُمُس لِمَنْ سُمِّيَ لَهُ , وَالْأَخْمَاس الْأَرْبَعَة لِمَنْ قَاتَلَ . وَكَانَ فِي أَوَّل الْإِسْلَام تُقْسَم الْغَنِيمَة عَلَى هَذِهِ الْأَصْنَاف وَلَا يَكُون لِمَنْ قَاتَلَ عَلَيْهَا شَيْء . وَهَذَا قَوْل يَزِيد بْن رُومَان وَقَتَادَة وَغَيْرهمَا . وَنَحْوه عَنْ مَالِك . وَقَالَ قَوْم : إِنَّمَا غَنِمَ بِصُلْحٍ مِنْ غَيْر إِيجَاف خَيْل وَلَا رِكَاب ; فَيَكُون لِمَنْ سَمَّى اللَّه تَعَالَى فِيهِ فَيْئًا وَالْأُولَى لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّة , إذَا أَخَذَ مِنْهُ حَاجَته كَانَ الْبَاقِي فِي مَصَالِح الْمُسْلِمِينَ . وَقَالَ مَعْمَر : الْأُولَى : لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَالثَّانِيَة : هِيَ الْجِزْيَة وَالْخَرَاج لِلْأَصْنَافِ الْمَذْكُورَة فِيهِ . وَالثَّالِثَة : الْغَنِيمَة فِي سُورَة الْأَنْفَال لِلْغَانِمِينَ . وَقَالَ قَوْم مِنْهُمْ الشَّافِعِيّ : إِنَّ مَعْنَى الْآيَتَيْنِ وَاحِد ; أَيْ مَا حَصَلَ مِنْ أَمْوَال الْكُفَّار بِغَيْرِ قِتَال قُسِّمَ عَلَى خَمْسَة أَسْهُم ; أَرْبَعَة مِنْهَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَكَانَ الْخُمُس الْبَاقِي عَلَى خَمْسَة أَسْهُم : سَهْم لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْضًا وَسَهْم لِذَوِي الْقُرْبَى - وَهُمْ بَنُو هَاشِم وَبَنُو الْمُطَّلِب - لِأَنَّهُمْ مُنِعُوا الصَّدَقَة فَجَعَلَ لَهُمْ حَقّ فِي الْفَيْء . وَسَهْم لِلْيَتَامَى . وَسَهْم لِلْمَسَاكِينِ . وَسَهْم لِابْنِ السَّبِيل . وَأَمَّا بَعْد وَفَاة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَاَلَّذِي كَانَ مِنْ الْفَيْء لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصْرَف عِنْد الشَّافِعِيّ فِي قَوْل إِلَى الْمُجَاهِدِينَ الْمُتَرَصِّدِينَ لِلْقِتَالِ فِي الثُّغُور ; لِأَنَّهُمْ الْقَائِمُونَ مَقَام الرَّسُول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام . وَفِي قَوْل آخَر لَهُ : يُصْرَف إِلَى مَصَالِح الْمُسْلِمِينَ مِنْ سَدّ الثُّغُور وَحَفْر الْأَنْهَار وَبِنَاء الْقَنَاطِر ; يُقَدَّم الْأَهَمّ فَالْأَهَمّ , وَهَذَا فِي أَرْبَعَة أَخْمَاس الْفَيْء . فَأَمَّا السَّهْم الَّذِي كَانَ لَهُ مِنْ خُمُس الْفَيْء وَالْغَنِيمَة فَهُوَ لِمَصَالِح الْمُسْلِمِينَ بَعْد مَوْته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَا خِلَاف ; كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام : ( لَيْسَ لِي مِنْ غَنَائِمكُمْ إِلَّا الْخُمُس وَالْخُمُس مَرْدُود فِيكُمْ ) . وَقَدْ مَضَى الْقَوْل فِيهِ فِي سُورَة | الْأَنْفَال | . وَكَذَلِكَ مَا خَلَّفَهُ مِنْ الْمَال غَيْر مَوْرُوث , بَلْ هُوَ صَدَقَة يُصْرَف عَنْهُ إِلَى مَصَالِح الْمُسْلِمِينَ ; كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام : ( إِنَّا لَا نُوَرِّث مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَة ) . وَقِيلَ : كَانَ مَال الْفَيْء لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , لِقَوْلِهِ تَعَالَى : | مَا أَفَاءَ اللَّه عَلَى رَسُوله | فَأَضَافَهُ إِلَيْهِ ; غَيْر أَنَّهُ كَانَ لَا يَتَأَثَّل مَالًا , إِنَّمَا كَانَ يَأْخُذ بِقَدْرِ حَاجَة عِيَاله وَيَصْرِف الْبَاقِي فِي مَصَالِح الْمُسْلِمِينَ . قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْر بْن الْعَرَبِيّ : لَا إِشْكَال أَنَّهَا ثَلَاثَة مَعَانٍ فِي ثَلَاث آيَات ; أَمَّا الْآيَة الْأُولَى فَهِيَ قَوْله : | هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْل الْكِتَاب مِنْ دِيَارهمْ لِأَوَّلِ الْحَشْر | [ الْحَشْر : 2 ] ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : | وَمَا أَفَاءَ اللَّه عَلَى رَسُوله مِنْهُمْ | يَعْنِي مِنْ أَهْل الْكِتَاب مَعْطُوفًا عَلَيْهِمْ . | فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْل وَلَا رِكَاب | يُرِيد كَمَا بَيَّنَّا ; فَلَا حَقّ لَكُمْ فِيهِ , وَلِذَلِكَ قَالَ عُمَر : إِنَّهَا كَانَتْ خَالِصَة لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , يَعْنِي بَنِي النَّضِير وَمَا كَانَ مِثْلهَا . فَهَذِهِ آيَة وَاحِدَة وَمَعْنًى مُتَّحِد . الْآيَة الثَّانِيَة : قَوْله تَعَالَى : | مَا أَفَاءَ اللَّه عَلَى رَسُوله مِنْ أَهْل الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ | وَهَذَا كَلَام مُبْتَدَأ غَيْر الْأَوَّل لِمُسْتَحَقٍّ غَيْر الْأَوَّل . وَسَمَّى الْآيَة الثَّالِثَة آيَة الْغَنِيمَة , وَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُ مَعْنًى آخَر بِاسْتِحْقَاقٍ ثَانٍ لِمُسْتَحِقٍّ آخَر , بَيْد أَنَّ الْآيَة الْأُولَى وَالثَّانِيَة , اِشْتَرَكَتَا فِي أَنَّ كُلّ وَاحِدَة مِنْهُمَا تَضَمَّنَتْ شَيْئًا أَفَاءَهُ اللَّه عَلَى رَسُوله , وَاقْتَضَتْ الْآيَة الْأُولَى أَنَّهُ حَاصِل بِغَيْرِ قِتَال , وَاقْتَضَتْ آيَة الْأَنْفَال أَنَّهُ حَاصِل بِقِتَالٍ , وَعَرِيَتْ الْآيَة الثَّالِثَة وَهِيَ قَوْله تَعَالَى : | مَا أَفَاءَ اللَّه عَلَى رَسُوله مِنْ أَهْل الْقُرَى | عَنْ ذِكْر حُصُوله بِقِتَالٍ أَوْ بِغَيْرِ قِتَال ; فَنَشَأَ الْخِلَاف مِنْ هَاهُنَا , فَمِنْ طَائِفَة قَالَتْ : هِيَ مُلْحَقَة بِالْأُولَى , وَهُوَ مَال الصُّلْح كُلّه وَنَحْوه . وَمِنْ طَائِفَة قَالَتْ : هِيَ مُلْحَقَة بِالثَّانِيَةِ وَهِيَ آيَة الْأَنْفَال . وَاَلَّذِينَ قَالُوا أَنَّهَا مُلْحَقَة بِآيَةِ الْأَنْفَال اِخْتَلَفُوا ; هَلْ هِيَ مَنْسُوخَة - كَمَا تَقَدَّمَ - أَوْ مُحْكَمَة ؟ وَإِلْحَاقهَا بِشَهَادَةِ اللَّه بِاَلَّتِي قَبْلهَا أَوْلَى ; لِأَنَّ فِيهِ تَجْدِيد فَائِدَة وَمَعْنًى . وَمَعْلُوم أَنَّ حَمْل الْحَرْف مِنْ الْآيَة فَضْلًا عَنْ الْآيَة عَلَى فَائِدَة مُتَجَدِّدَة أَوْلَى مِنْ حَمْله عَلَى فَائِدَة مُعَادَة . وَرَوَى اِبْن وَهْب عَنْ مَالِك فِي قَوْله تَعَالَى : | فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْل وَلَا رِكَاب | بَنِي النَّضِير , لَمْ يَكُنْ فِيهَا خُمُس وَلَمْ يُوجَف عَلَيْهَا بِخَيْلٍ وَلَا رِكَاب . كَانَتْ صَافِيَة لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَقَسَمَهَا بَيْن الْمُهَاجِرِينَ وَثَلَاثَة مِنْ الْأَنْصَار ; حَسَب مَا تَقَدَّمَ . وَقَوْله : | مَا أَفَاءَ اللَّه عَلَى رَسُوله مِنْ أَهْل الْقُرَى | هِيَ قُرَيْظَة , وَكَانَتْ قُرَيْظَة وَالْخَنْدَق فِي يَوْم وَاحِد . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : قَوْل مَالِك إِنَّ الْآيَة الثَّانِيَة فِي بَنِي قُرَيْظَة , إِشَارَة إِلَى أَنَّ مَعْنَاهَا يَعُود إِلَى آيَة الْأَنْفَال , وَيَلْحَقهَا النَّسْخ . وَهَذَا أَقْوَى مِنْ الْقَوْل بِالْإِحْكَامِ . وَنَحْنُ لَا نَخْتَار إِلَّا مَا قَسَمْنَا وَبَيَّنَّا أَنَّ الْآيَة الثَّانِيَة لَهَا مَعْنًى مُجَدِّد حَسَب مَا دَلَّلْنَا عَلَيْهِ . وَاَللَّه أَعْلَم . قُلْت : مَا اِخْتَارَهُ حَسَن . وَقَدْ قِيلَ إِنَّ سُورَة | الْحَشْر | نَزَلَتْ بَعْد الْأَنْفَال , فَمِنْ الْمُحَال أَنْ يَنْسَخ الْمُتَقَدِّم الْمُتَأَخِّر . وَقَالَ اِبْن أَبِي نَجِيح : الْمَال ثَلَاثَة : مَغْنَم , أَوْ فَيْء , أَوْ صَدَقَة , وَلَيْسَ مِنْهُ دِرْهَم إِلَّا وَقَدْ بَيَّنَ اللَّه مَوْضِعه . وَهَذَا أَشْبَه .</p><p>الْأَمْوَال الَّتِي لِلْأَئِمَّةِ وَالْوُلَاة فِيهَا مَدْخَل ثَلَاثَة أَضْرُب : مَا أُخِذَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى طَرِيق التَّطْهِير لَهُمْ ; كَالصَّدَقَاتِ وَالزَّكَوَات . وَالثَّانِي : الْغَنَائِم ; وَهُوَ مَا يَحْصُل فِي أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَمْوَال الْكَافِرِينَ بِالْحَرْبِ وَالْقَهْر وَالْغَلَبَة . وَالثَّالِث : الْفَيْء , وَهُوَ مَا رَجَعَ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ أَمْوَال الْكُفَّار عَفْوًا صَفْوًا مِنْ غَيْر قِتَال وَلَا إِيجَاف ; كَالصُّلْحِ وَالْجِزْيَة وَالْخَرَاج وَالْعُشُور الْمَأْخُوذَة مِنْ تُجَّار الْكُفَّار . وَمِثْله أَنْ يَهْرَب الْمُشْرِكُونَ وَيَتْرُكُوا أَمْوَالهمْ , أَوْ يَمُوت أَحَد مِنْهُمْ فِي دَار الْإِسْلَام وَلَا وَارِث لَهُ . فَأَمَّا الصَّدَقَة فَمَصْرِفهَا الْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا ; حَسَب مَا ذَكَرَهُ اللَّه تَعَالَى , وَقَدْ مَضَى فِي | بَرَاءَة | . وَأَمَّا الْغَنَائِم فَكَانَتْ فِي صَدْر الْإِسْلَام لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَع فِيهَا مَا شَاءَ ; كَمَا قَالَ فِي سُورَة | الْأَنْفَال | : | قُلْ الْأَنْفَال لِلَّهِ وَالرَّسُول | [ الْأَنْفَال : 1 ] , ثُمَّ نُسِخَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : | وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْء | [ الْأَنْفَال : 41 ] الْآيَة . وَقَدْ مَضَى فِي الْأَنْفَال بَيَانه . فَأَمَّا الْفَيْء فَقِسْمَته وَقِسْمَة الْخُمُس سَوَاء . وَالْأَمْر عِنْد مَالِك فِيهِمَا إِلَى الْإِمَام , فَإِنْ رَأَى حَبْسهمَا لِنَوَازِل تَنْزِل بِالْمُسْلِمِينَ فَعَلَ , وَإِنْ رَأَى قِسْمَتهمَا أَوْ قِسْمَة أَحَدهمَا قَسَمَهُ كُلّه بَيْن النَّاس , وَسَوَّى فِيهِ بَيْن عَرَبِيّهمْ وَمَوْلَاهُمْ . وَيَبْدَأ بِالْفُقَرَاءِ مِنْ رِجَال وَنِسَاء حَتَّى يَغْنَوْا , وَيُعْطُوا ذَوُو الْقُرْبَى مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْفَيْء سَهْمهمْ عَلَى مَا يَرَاهُ الْإِمَام , وَلَيْسَ لَهُ حَدّ مَعْلُوم . وَاخْتُلِفَ فِي إِعْطَاء الْغَنِيّ مِنْهُمْ ; فَأَكْثَر النَّاس عَلَى إِعْطَائِهِ لِأَنَّهُ حَقّ لَهُمْ . وَقَالَ مَالِك : لَا يُعْطَى مِنْهُ غَيْر فُقَرَائِهِمْ , لِأَنَّهُ جُعِلَ لَهُمْ عِوَضًا مِنْ الصَّدَقَة . وَقَالَ الشَّافِعِيّ : أَيّمَا حَصَلَ مِنْ أَمْوَال الْكُفَّار مِنْ غَيْر قِتَال كَانَ يُقْسَم فِي عَهْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى خَمْسَة وَعِشْرِينَ سَهْمًا : عِشْرُونَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَل فِيهَا مَا يَشَاء . وَالْخُمُس يُقْسَم عَلَى مَا يُقَسِّم عَلَيْهِ خُمُس الْغَنِيمَة . قَالَ أَبُو جَعْفَر أَحْمَد بْن الدَّاوُدِيّ : وَهَذَا قَوْل مَا سَبَقَهُ بِهِ أَحَد عَلِمْنَاهُ , بَلْ كَانَ ذَلِكَ خَالِصًا لَهُ ; كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيح عَنْ عُمَر مُبَيِّنًا لِلْآيَةِ . وَلَوْ كَانَ هَذَا لَكَانَ قَوْله : | خَالِصَة لَك مِنْ دُون الْمُؤْمِنِينَ | [ الْأَحْزَاب : 50 ] يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوز الْمَوْهُوبَة لِغَيْرِهِ , وَأَنَّ قَوْله : | خَالِصَة يَوْم الْقِيَامَة | [ الْأَعْرَاف : 32 ] يَجُوز أَنْ يُشْرِكهُمْ فِيهَا غَيْرهمْ . وَقَدْ مَضَى قَوْل الشَّافِعِيّ مُسْتَوْعَبًا فِي ذَلِكَ وَالْحَمْد لِلَّهِ . وَمَذْهَب الشَّافِعِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : أَنَّ سَبِيل خُمُس الْفَيْء سَبِيل خُمُس الْغَنِيمَة , وَأَنَّ أَرْبَعَة أَخْمَاسه كَانَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَهِيَ بَعْده لِمَصَالِح الْمُسْلِمِينَ . وَلَهُ قَوْل آخَر : أَنَّهَا بَعْده لِلْمُرْصِدِينَ أَنْفُسهمْ لِلْقِتَالِ بَعْده خَاصَّة ; كَمَا تَقَدَّمَ .</p><p>قَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَيُقْسَم كُلّ مَال فِي الْبَلَد الَّذِي جُبِيَ فِيهِ , وَلَا يُنْقَل عَنْ ذَلِكَ الْبَلَد الَّذِي جُبِيَ فِيهِ حَتَّى يَغْنَوْا , ثُمَّ يُنْقَل إِلَى الْأَقْرَب مِنْ غَيْرهمْ , إِلَّا أَنْ يَنْزِل بِغَيْرِ الْبَلَد الَّذِي جُبِيَ فِيهِ فَاقَة شَدِيدَة , فَيَنْتَقِل ذَلِكَ إِلَى أَهْل الْفَاقَة حَيْثُ كَانُوا , كَمَا فَعَلَ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فِي أَعْوَام الرَّمَادَة , وَكَانَتْ خَمْسَة أَعْوَام أَوْ سِتَّة . وَقَدْ قِيلَ عَامَيْنِ وَقِيلَ : عَام فِيهِ اِشْتَدَّ الطَّاعُون مَعَ الْجُوع . وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَا وَصَفْنَا وَرَأَى الْإِمَام إِيقَاف الْفَيْء أَوْقَفَهُ لِنَوَائِب الْمُسْلِمِينَ , وَيُعْطِي مِنْهُ الْمَنْفُوس وَيَبْدَأ بِمَنْ أَبُوهُ فَقِير . وَالْفَيْء حَلَال لِلْأَغْنِيَاءِ . وَيُسَوِّي بَيْن النَّاس فِيهِ إِلَّا أَنَّهُ يُؤْثِر أَهْل الْحَاجَة وَالْفَاقَة . وَالتَّفْضِيل فِيهِ إِنَّمَا يَكُون عَلَى قَدْر الْحَاجَة . وَيُعْطَى مِنْهُ الْغُرَمَاء مَا يُؤَدُّونَ بِهِ دُيُونهمْ . وَيُعْطِي مِنْهُ الْجَائِزَة وَالصِّلَة إِنْ كَانَ ذَلِكَ أَهْلًا , وَيَرْزُق الْقُضَاة وَالْحُكَّام وَمَنْ فِيهِ مَنْفَعَة لِلْمُسْلِمِينَ . وَأَوْلَاهُمْ بِتَوَفُّرِ الْحَظّ مِنْهُمْ أَعْظَمهمْ لِلْمُسْلِمِينَ نَفْعًا . وَمَنْ أَخَذَ مِنْ الْفَيْء شَيْئًا فِي الدِّيوَان كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَغْزُو إِذَا غَزَى .</p><p>قَوْله تَعَالَى : | كَيْ لَا يَكُون دُولَة | قِرَاءَة الْعَامَّة | يَكُون | بِالْيَاءِ . | دُولَةً | بِالنَّصْبِ , أَيْ كَيْ لَا يَكُون الْفَيْء دُولَةً وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَر وَالْأَعْرَج وَهِشَام - عَنْ اِبْن عَامِر - وَأَبُو حَيْوَة | تَكُون | بِتَاءِ | دُولَةٌ | بِالرَّفْعِ , أَيْ كَيْ لَا تَقَع دُولَةٌ . فَكَانَ تَامَّة . و | دُولَةٌ | رُفِعَ عَلَى اِسْم كَانَ وَلَا خَبَر لَهُ . وَيَجُوز أَنْ تَكُون نَاقِصَة وَخَبَرهَا | بَيْن الْأَغْنِيَاء مِنْكُمْ | . وَإِذَا كَانَتْ تَامَّة فَقَوْله : | بَيْن الْأَغْنِيَاء مِنْكُمْ | مُتَعَلِّق ب | دُولَة | عَلَى مَعْنَى تَدَاوَلَ بَيْن الْأَغْنِيَاء مِنْكُمْ . وَيَجُوز أَنْ يَكُون | بَيْن الْأَغْنِيَاء مِنْكُمْ | وَصْفًا ل | دُولَة | . وَقِرَاءَة الْعَامَّة | دُولَة | بِضَمِّ الدَّال . وَقَرَأَهَا السُّلَمِيّ وَأَبُو حَيْوَة بِالنَّصْبِ . قَالَ عِيسَى بْن عُمَر وَيُونُس وَالْأَصْمَعِيّ : هُمَا لُغَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِد . وَقَالَ أَبُو عَمْرو بْن الْعَلَاء : الدَّوْلَة ( بِالْفَتْحِ ) الظَّفَر فِي الْحَرْب وَغَيْره , وَهِيَ الْمَصْدَر . وَبِالضَّمِّ اِسْم الشَّيْء الَّذِي يَتَدَاوَل مِنْ الْأَمْوَال . وَكَذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدَة : الدُّولَة اِسْم الشَّيْء الَّذِي يُتَدَاوَل . وَالدَّوْلَة الْفِعْل . وَمَعْنَى الْآيَة : فَعَلْنَا ذَلِكَ فِي هَذَا الْفَيْء , كَيْ لَا تَقْسِمهُ الرُّؤَسَاء وَالْأَغْنِيَاء وَالْأَقْوِيَاء بَيْنهمْ دُون الْفُقَرَاء وَالضُّعَفَاء , لِأَنَّ أَهْل الْجَاهِلِيَّة كَانُوا إِذَا غَنِمُوا أَخَذَ الرَّئِيس رُبُعهَا لِنَفْسِهِ , وَهُوَ الْمِرْبَاع . ثُمَّ يَصْطَفِي مِنْهَا أَيْضًا بَعْد الْمِرْبَاع مَا شَاءَ ; وَفِيهَا قَالَ شَاعِرهمْ : <br>لَك الْمِرْبَاع مِنْهَا وَالصَّفَايَا <br>يَقُول : كَيْ لَا يَعْمَل فِيهِ كَمَا كَانَ يَعْمَل فِي الْجَاهِلِيَّة . فَجَعَلَ اللَّه هَذَا لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; يَقْسِمهُ فِي الْمَوَاضِع الَّتِي أَمَرَ بِهَا لَيْسَ فِيهَا خُمُس , فَإِذَا جَاءَ خُمُس وَقَعَ بَيْن الْمُسْلِمِينَ جَمِيعًا .</p><p>قَوْله تَعَالَى : | وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عِه فَانْتَهُوا | أَيْ مَا أَعْطَاكُمْ مِنْ مَال الْغَنِيمَة فَخُذُوهُ , وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ مِنْ الْأَخْذ وَالْغُلُول فَانْتَهُوا ; قَالَهُ الْحَسَن وَغَيْره . السُّدِّيّ : مَا أَعْطَاكُمْ مِنْ مَال الْفَيْء فَاقْبَلُوهُ , وَمَا مَنَعَكُمْ مِنْهُ فَلَا تَطْلُبُوهُ . وَقَالَ اِبْن جُرَيْج : مَا آتَاكُمْ مِنْ طَاعَتِي فَافْعَلُوهُ , وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ مِنْ مَعْصِيَتِي فَاجْتَنِبُوهُ . الْمَاوَرْدِيّ : وَقِيلَ إِنَّهُ مَحْمُول عَلَى الْعُمُوم فِي جَمِيع أَوَامِره وَنَوَاهِيه ; لَا يَأْمُر إِلَّا بِصَلَاحٍ وَلَا يَنْهَى إِلَّا عَنْ فَسَاد . قُلْت : هَذَا هُوَ مَعْنَى الْقَوْل الَّذِي قَبْله . فَهِيَ ثَلَاثَة أَقْوَال .</p><p>قَالَ الْمَهْدَوِيّ : قَوْله تَعَالَى : | وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا | هَذَا يُوجِب أَنَّ كُلّ مَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْر مِنْ اللَّه تَعَالَى . وَالْآيَة وَإِنْ كَانَتْ فِي الْغَنَائِم فَجَمِيع أَوَامِره صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَوَاهِيه دَخَلَ فِيهَا . وَقَالَ الْحَكَم بْن عُمَيْر - وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَة - قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ هَذَا الْقُرْآن صَعْب مُسْتَصْعَب عَسِير عَلَى مَنْ تَرَكَهُ يَسِير عَلَى مَنْ اِتَّبَعَهُ وَطَلَبَهُ , وَحَدِيثِي صَعْب مُسْتَصْعَب وَهُوَ الْحُكْم فَمَنْ اِسْتَمْسَكَ بِحَدِيثِي وَحَفِظَهُ نَجَا مَعَ الْقُرْآن . وَمَنْ تَهَاوَنَ بِالْقُرْآنِ وَحَدِيثِي خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَة . وَأُمِرْتُمْ أَنْ تَأْخُذُوا بِقَوْلِي وَتَكْتَنِفُوا أَمْرِي وَتَتَّبِعُوا سُنَّتِي فَمَنْ رَضِيَ بِقَوْلِي فَقَدْ رَضِيَ بِالْقُرْآنِ وَمَنْ اِسْتَهْزَأَ بِقَوْلِي فَقَدْ اِسْتَهْزَأَ بِالْقُرْآنِ قَالَ اللَّه تَعَالَى : | وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا | ) .</p><p>قَالَ عَبْد الرَّحْمَن بْن زَيْد : لَقِيَ اِبْن مَسْعُود رَجُلًا مُحْرِمًا وَعَلَيْهِ ثِيَابه فَقَالَ لَهُ : اِنْزِعْ عَنْك هَذَا . فَقَالَ الرَّجُل : أَتَقْرَأُ عَلَيَّ بِهَذَا آيَة مِنْ كِتَاب اللَّه تَعَالَى ؟ قَالَ : نَعَمْ , | وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا | . وَقَالَ عَبْد اللَّه بْن مُحَمَّد بْن هَارُون الْفِرْيَابِيّ : سَمِعْت الشَّافِعِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ يَقُول : سَلُونِي عَمَّا شِئْتُمْ أُخْبِركُمْ مِنْ كِتَاب اللَّه تَعَالَى وَسُنَّة نَبِيّكُمْ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; قَالَ فَقُلْت لَهُ : مَا تَقُول - أَصْلَحَك اللَّه - فِي الْمُحْرِم يَقْتُل الزُّنْبُور ؟ قَالَ فَقَالَ : بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَن الرَّحِيم , قَالَ اللَّه تَعَالَى : | وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا | . وَحَدَّثَنَا سُفْيَان بْن عُيَيْنَة عَنْ عَبْد الْمَلِك بْن عُمَيْر عَنْ رِبْعِيّ بْن حِرَاش عَنْ حُذَيْفَة بْن الْيَمَان قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( اِقْتَدُوا بِاَللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْر وَعُمَر ) . حَدَّثَنَا سُفْيَان بْن عُيَيْنَة عَنْ مِسْعَر بْن كِدَام عَنْ قَيْس بْن مُسْلِم عَنْ طَارِق بْن شِهَاب عَنْ عُمَر بْن الْخَطَّاب - رَضِيَ اللَّه عَنْهُ - أَنَّهُ أَمَرَ بِقَتْلِ الزُّنْبُور . قَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَهَذَا جَوَاب فِي نِهَايَة الْحُسْن , أَفْتَى بِجَوَازِ قَتْل الزُّنْبُور فِي الْإِحْرَام , وَبَيَّنَ أَنَّهُ يَقْتَدِي فِيهِ بِعُمَر , وَأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ , وَأَنَّ اللَّه سُبْحَانه أَمَرَ بِقَبُولِ مَا يَقُولهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَجَوَاز قَتْله مُسْتَنْبَط مِنْ الْكِتَاب وَالسُّنَّة . وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى مِنْ قَوْل عِكْرِمَة حِين سُئِلَ عَنْ أُمَّهَات الْأَوْلَاد فَقَالَ : هُنَّ أَحْرَار فِي سُورَة | النِّسَاء | عِنْد قَوْله تَعَالَى : | أَطِيعُوا اللَّه وَأَطِيعُوا الرَّسُول وَأُولِي الْأَمْر مِنْكُمْ | [ النِّسَاء : 59 ] . وَفِي صَحِيح مُسْلِم وَغَيْره عَنْ عَلْقَمَة عَنْ اِبْن مَسْعُود قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَعَنَ اللَّه الْوَاشِمَات وَالْمُسْتَوْشِمَات وَالْمُتَنَمِّصَات وَالْمُتَفَلِّجَات لِلْحُسْنِ الْمُغَيِّرَات خَلْق اللَّه ) فَبَلَغَ ذَلِكَ اِمْرَأَة مِنْ بَنِي أَسَد يُقَال لَهَا أُمّ يَعْقُوب ; فَجَاءَتْ فَقَالَتْ : بَلَغَنِي أَنَّك لَعَنْت كَيْت وَكَيْت ! فَقَالَ : وَمَا لِي لَا أَلْعَن مَنْ لَعَنَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي كِتَاب اللَّه ! فَقَالَتْ : لَقَدْ قَرَأْت مَا بَيْن اللَّوْحَيْنِ فَمَا وَجَدْت فِيهِ مَا تَقُول . فَقَالَ : لَئِنْ كُنْت قَرَأْتِيهِ لَقَدْ وَجَدْتِيهِ ! أَمَا قَرَأْت | وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا | ! قَالَتْ : بَلَى . قَالَ : فَإِنَّهُ قَدْ نَهَى عَنْهُ ..... الْحَدِيث . وَقَدْ مَضَى الْقَوْل فِيهِ فِي | النِّسَاء | مُسْتَوْفًى .|وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ|وَإِنْ جَاءَ بِلَفْظِ الْإِيتَاء وَهُوَ الْمُنَاوَلَة فَإِنَّ مَعْنَاهُ الْأَمْر ;|وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا|فَقَابَلَهُ بِالنَّهْيِ , وَلَا يُقَابَل النَّهْي إِلَّا بِالْأَمْرِ ; وَالدَّلِيل عَلَى فَهْم ذَلِكَ مَا ذَكَرْنَاهُ قَبْل مَعَ قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام : ( إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اِسْتَطَعْتُمْ , وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْء فَاجْتَنِبُوهُ ) . وَقَالَ الْكَلْبِيّ : إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي رُؤَسَاء الْمُسْلِمِينَ , قَالُوا فِيمَا ظَهَرَ عَلَيْهِ رَسُول اللَّه مِنْ أَمْوَال الْمُشْرِكِينَ : يَا رَسُول اللَّه , خُذْ صَفِيّك وَالرُّبُع , وَدَعْنَا وَالْبَاقِي ; فَهَكَذَا كُنَّا نَفْعَل فِي الْجَاهِلِيَّة . وَأَنْشَدُوهُ : <br>لَك الْمِرْبَاع مِنْهَا وَالصَّفَايَا .......... وَحُكْمك وَالنَّشِيطَة وَالْفُضُول <br>فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْآيَة .|وَاتَّقُوا اللَّهَ|أَيْ عَذَاب اللَّه , إِنَّهُ شَدِيد لِمَنْ عَصَاهُ . وَقِيلَ : اِتَّقُوا اللَّه فِي أَوَامِره وَنَوَاهِيه فَلَا تُضَيِّعُوهَا .|إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ|لِمَنْ خَالَفَ مَا أَمَرَهُ بِهِ .

لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ

أَيْ الْفَيْء وَالْغَنَائِم | لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ | . وَقِيلَ : | كَيْ لَا يَكُون دُولَة بَيْن الْأَغْنِيَاء | وَلَكِنْ يَكُون | لِلْفُقَرَاءِ | . وَقِيلَ : هُوَ بَيَان لِقَوْلِهِ : | وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِين وَابْن السَّبِيل | فَلَمَّا ذُكِّرُوا بِأَصْنَافِهِمْ قِيلَ الْمَال لِهَؤُلَاءِ , لِأَنَّهُمْ فُقَرَاء وَمُهَاجِرُونَ وَقَدْ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارهمْ ; فَهُمْ أَحَقّ النَّاس بِهِ . وَقِيلَ : | وَلَكِنَّ اللَّه يُسَلِّط رُسُله عَلَى مَنْ يَشَاء | لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ لِكَيْلَا يَكُون الْمَال دُولَة لِلْأَغْنِيَاءِ مِنْ بَنِي الدُّنْيَا . وَقِيلَ : وَاَللَّه شَدِيد الْعِقَاب لِلْمُهَاجِرِينَ ; أَيْ شَدِيد الْعِقَاب لِلْكُفَّارِ بِسَبَبِ الْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ وَمِنْ أَجْلهمْ . وَدَخَلَ فِي هَؤُلَاءِ الْفُقَرَاء الْمُتَقَدِّم ذِكْرهمْ فِي قَوْله تَعَالَى : | وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى | . وَقِيلَ : هُوَ عَطْف عَلَى مَا مَضَى , وَلَمْ يَأْتِ بِوَاوِ الْعَطْف كَقَوْلِك : هَذَا الْمَال لِزَيْدٍ لِبَكْرٍ لِفُلَانٍ لِفُلَانٍ . وَالْمُهَاجِرُونَ هُنَا : مَنْ هَاجَرَ إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُبًّا فِيهِ وَنُصْرَة لَهُ . قَالَ قَتَادَة : هَؤُلَاءِ الْمُهَاجِرُونَ الَّذِينَ تَرَكُوا الدِّيَار وَالْأَمْوَال وَالْأَهْلِينَ وَالْأَوْطَان حُبًّا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ , حَتَّى إِنَّ الرَّجُل مِنْهُمْ كَانَ يَعْصِب الْحَجَر عَلَى بَطْنه لِيُقِيمَ بِهِ صُلْبه مِنْ الْجُوع , وَكَانَ الرَّجُل يَتَّخِذ الْحَفِيرَة فِي الشِّتَاء مَاله دِثَار غَيْرهَا . وَقَالَ عَبْد الرَّحْمَن بْن أَبْزَى وَسَعِيد بْن جُبَيْر : كَانَ نَاس مِنْ الْمُهَاجِرِينَ لِأَحَدِهِمْ الْعَبْد وَالزَّوْجَة وَالدَّار وَالنَّاقَة يَحُجّ عَلَيْهَا وَيَغْزُو فَنَسَبَهُمْ اللَّه إِلَى الْفَقْر وَجَعَلَ لَهُمْ سَهْمًا فِي الزَّكَاة . وَمَعْنَى | أَخْرَجُوا مِنْ دِيَارهمْ | أَيْ أَخْرَجَهُمْ كُفَّار مَكَّة ; أَيْ أَحْوَجُوهُمْ إِلَى الْخُرُوج ; وَكَانُوا مِائَة رَجُل .|يَبْتَغُونَ|يَطْلُبُونَ .|فَضْلًا مِنَ اللَّهِ|أَيْ غَنِيمَة فِي الدُّنْيَا|وَرِضْوَانًا|فِي الْآخِرَة ; أَيْ مَرْضَاة رَبّهمْ .|وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ|فِي الْجِهَاد فِي سَبِيل اللَّه .|أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ|فِي فِعْلهمْ ذَلِكَ . وَرُوِيَ أَنَّ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ خَطَبَ بِالْجَابِيَةِ فَقَالَ : مَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْأَل عَنْ الْقُرْآن فَلْيَأْتِ أُبَيّ بْن كَعْب , وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْأَل عَنْ الْفَرَائِض فَلْيَأْتِ زَيْد بْن ثَابِت , وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْأَل عَنْ الْفِقْه فَلْيَأْتِ مُعَاذ بْن جَبَل , وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْأَل عَنْ الْمَال فَلْيَأْتِنِي ; فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى جَعَلَنِي لَهُ خَازِنًا وَقَاسِمًا . أَلَا وَإِنِّي بَادٍ بِأَزْوَاجِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمُعْطِيهنَّ , ثُمَّ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ ; أَنَا وَأَصْحَابِي أُخْرِجْنَا مِنْ مَكَّة مِنْ دِيَارنَا وَأَمْوَالنَا .

وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ

قَوْله تَعَالَى : | وَاَلَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّار وَالْإِيمَان مِنْ قَبْلهمْ | لَا خِلَاف أَنَّ الَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّار هُمْ الْأَنْصَار الَّذِينَ اِسْتَوْطَنُوا الْمَدِينَة قَبْل الْمُهَاجِرِينَ إِلَيْهَا . | وَالْإِيمَان | نُصِبَ بِفِعْلٍ غَيْر تَبَوَّأَ ; لِأَنَّ التَّبَوُّء إِنَّمَا يَكُون فِي الْأَمَاكِن . و | مِنْ قَبْلهمْ | | مِنْ | صِلَة تَبَوَّأَ وَالْمَعْنَى : وَاَلَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّار مِنْ قِبَل الْمُهَاجِرِينَ وَاعْتَقَدُوا الْإِيمَان وَأَخْلَصُوهُ ; لِأَنَّ الْإِيمَان لَيْسَ بِمَكَانٍ يُتَبَوَّأ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى : | فَأَجْمِعُوا أَمْركُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ | [ يُونُس : 71 ] أَيْ وَادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ; ذَكَرَهُ أَبُو عَلِيّ وَالزَّمَخْشَرِي وَغَيْرهمَا . وَيَكُون مِنْ بَاب قَوْله : عَلَفْتهَا تِبْنًا وَمَاء بَارِدًا . وَيَجُوز حَمْله عَلَى حَذْف الْمُضَاف كَأَنَّهُ قَالَ : تَبَوَّءُوا الدَّار وَمَوَاضِع الْإِيمَان . وَيَجُوز حَمْله عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ تَبَوَّأَ ; كَأَنَّهُ قَالَ : لَزِمُوا الدَّار وَلَزِمُوا الْإِيمَان فَلَمْ يُفَارِقُوهُمَا . وَيَجُوز أَنْ يَكُون تَبَوَّأَ الْإِيمَان عَلَى طَرِيق الْمَثَل ; كَمَا تَقُول : تَبَوَّأَ مِنْ بَنِي فُلَان الصَّمِيم . وَالتَّبَوُّء : التَّمَكُّن وَالِاسْتِقْرَار . وَلَيْسَ يُرِيد أَنَّ الْأَنْصَار آمَنُوا قَبْل الْمُهَاجِرِينَ , بَلْ أَرَادَ آمَنُوا قَبْل هِجْرَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ .</p><p>وَاخْتُلِفَ أَيْضًا هَلْ هَذِهِ الْآيَة مَقْطُوعَة مِمَّا قَبْلهَا أَوْ مَعْطُوفَة ; فَتَأَوَّلَ قَوْم أَنَّهَا مَعْطُوفَة عَلَى قَوْله : | | لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ | وَأَنَّ الْآيَات الَّتِي فِي الْحَشْر كُلّهَا مَعْطُوفَة بَعْضهَا عَلَى بَعْض . وَلَوْ تَأَمَّلُوا ذَلِكَ وَأَنْصَفُوا لَوَجَدُوهُ عَلَى خِلَاف مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى يَقُول : | هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْل الْكِتَاب مِنْ دِيَارهمْ لِأَوَّلِ الْحَشْر مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا | إِلَى قَوْله | الْفَاسِقِينَ | [ الْحَشْر : 2 - 5 ] فَأَخْبَرَ عَنْ بَنِي النَّضِير وَبَنِي قَيْنُقَاع . ثُمَّ قَالَ : | وَمَا أَفَاءَ اللَّه عَلَى رَسُوله مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْل وَلَا رِكَاب وَلَكِنَّ اللَّه يُسَلِّط رُسُله عَلَى مَنْ يَشَاء | فَأَخْبَرَ أَنَّ ذَلِكَ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; لِأَنَّهُ لَمْ يُوجِف عَلَيْهِ حِين خَلُّوهُ . وَمَا تَقَدَّمَ فِيهِمْ مِنْ الْقِتَال وَقَطْع شَجَرهمْ فَقَدْ كَانُوا رَجَعُوا عَنْهُ وَانْقَطَعَ ذَلِكَ الْأَمْر . ثُمَّ قَالَ : | مَا أَفَاءَ اللَّه عَلَى رَسُوله مِنْ أَهْل الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِين وَابْن السَّبِيل | وَهَذَا كَلَام غَيْر مَعْطُوف عَلَى الْأَوَّل . وَكَذَا | وَاَلَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّار وَالْإِيمَان | اِبْتِدَاء كَلَام فِي مَدْح الْأَنْصَار وَالثَّنَاء عَلَيْهِمْ ; فَإِنَّهُمْ سَلَّمُوا ذَلِكَ الْفَيْء لِلْمُهَاجِرِينَ ; وَكَأَنَّهُ قَالَ ; الْفَيْء لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ ; وَالْأَنْصَار يُحِبُّونَ لَهُمْ وَلَمْ يَحْسُدُوهُمْ عَلَى مَا صَفَا لَهُمْ مِنْ الْفَيْء . وَكَذَا | وَاَلَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدهمْ | [ الْحَشْر : 10 ] اِبْتِدَاء كَلَام ; وَالْخَبَر | يَقُولُونَ رَبّنَا اِغْفِرْ لَنَا | [ الْحَشْر : 10 ] . وَقَالَ إِسْمَاعِيل بْن إِسْحَاق : إِنَّ قَوْله | وَاَلَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّار | | وَاَلَّذِينَ جَاءُوا مَعْطُوف عَلَى مَا قَبْلُ , وَأَنَّهُمْ شُرَكَاء فِي الْفَيْء ; أَيْ هَذَا الْمَال لِلْمُهَاجِرِينَ وَاَلَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّار . وَقَالَ مَالِك بْن أَوْس : قَرَأَ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ هَذِهِ الْآيَة | إِنَّمَا الصَّدَقَات لِلْفُقَرَاءِ | [ التَّوْبَة : 60 ] فَقَالَ : هَذِهِ لِهَؤُلَاءِ . ثُمَّ قَرَأَ | وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْء فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسه | فَقَالَ : هَذِهِ لِهَؤُلَاءِ . ثُمَّ قَرَأَ | مَا أَفَاءَ اللَّه عَلَى رَسُوله - حَتَّى بَلَغَ - لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ | , | وَاَلَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّار وَالْإِيمَان | , | وَاَلَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدهمْ | ثُمَّ قَالَ : لَئِنْ عِشْت لَيَأْتِيَن الرَّاعِي وَهُوَ بِسَرْوِ حِمْيَر نَصِيبه مِنْهَا لَمْ يَعْرَق فِيهَا جَبِينه . وَقِيلَ : إِنَّهُ دَعَا الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَار وَاسْتَشَارَهُمْ فِيمَا فَتَحَ اللَّه عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ , وَقَالَ لَهُمْ : تَثَبَّتُوا الْأَمْر وَتَدَبَّرُوهُ ثُمَّ اُغْدُوَا عَلَيَّ . فَفَكَّرَ فِي لَيْلَته فَتَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَات فِي ذَلِكَ أُنْزِلَتْ . فَلَمَّا غَدَوْا عَلَيْهِ قَالَ : قَدْ مَرَرْت الْبَارِحَة بِالْآيَاتِ الَّتِي فِي سُورَة | الْحَشْر | وَتَلَا | مَا أَفَاءَ اللَّه عَلَى رَسُوله مِنْ أَهْل الْقُرَى - إِلَى قَوْله - لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ | فَلَمَّا بَلَغَ قَوْله : | أُولَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ | [ الْحُجُرَات : 15 ] قَالَ : مَا هِيَ لِهَؤُلَاءِ فَقَطْ . وَتَلَا قَوْله : | وَاَلَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدهمْ | إِلَى قَوْله | رَءُوف رَحِيم | [ الْحَشْر : 10 ] ثُمَّ قَالَ : مَا بَقِيَ أَحَد مِنْ أَهْل الْإِسْلَام إِلَّا وَقَدْ دَخَلَ فِي ذَلِكَ . وَاَللَّه أَعْلَم .</p><p>رَوَى مَالِك عَنْ زَيْد بْن أَسْلَم عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَر قَالَ : لَوْلَا مَنْ يَأْتِي مِنْ آخِر النَّاس مَا فُتِحَتْ قَرْيَة إِلَّا قَسَمْتهَا كَمَا قَسَمَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَر . وَفِي الرِّوَايَات الْمُسْتَفِيضَة مِنْ الطُّرُق الْكَثِيرَة : أَنَّ عُمَر أَبْقَى سَوَاد الْعِرَاق وَمِصْر وَمَا ظَهَرَ عَلَيْهِ مِنْ الْغَنَائِم ; لِتَكُونَ مِنْ أَعْطِيَات الْمُقَاتِلَة وَأَرْزَاق الْحِشْوَة وَالذَّرَارِيّ , وَأَنَّ الزُّبَيْر وَبِلَالًا وَغَيْر وَاحِد مِنْ الصَّحَابَة أَرَادُوهُ عَلَى قَسْم مَا فُتِحَ عَلَيْهِمْ ; فَكَرِهَ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَاخْتَلَفَ فِيمَا فَعَلَ مِنْ ذَلِكَ ; فَقِيلَ : إِنَّهُ اِسْتَطَابَ أَنْفُس أَهْل الْجَيْش ; فَمَنْ رَضِيَ لَهُ بِتَرْكِ حَظّه بِغَيْرِ ثَمَن لِيُبْقِيَهُ لِلْمُسْلِمِينَ قِلَّة . وَمَنْ أَبَى أَعْطَاهُ ثَمَن حَظّه . فَمَنْ قَالَ : إِنَّمَا أَبْقَى الْأَرْض بَعْد اِسْتِطَابَة أَنْفُس الْقَوْم جَعَلَ فِعْله كَفِعْلِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; لِأَنَّهُ قَسَمَ خَيْبَر , لِأَنَّ اِشْتِرَاءَهُ إِيَّاهَا وَتَرْك مَنْ تَرَكَ عَنْ طِيب نَفْسه بِمَنْزِلَةِ قَسْمهَا . وَقِيلَ : إِنَّهُ أَبْقَاهَا بِغَيْرِ شَيْء أَعْطَاهُ أَهْل الْجُيُوش . وَقِيلَ إِنَّهُ تَأَوَّلَ فِي ذَلِكَ قَوْل اللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى : | لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ - إِلَى قَوْله - رَبّنَا إِنَّك رَءُوف رَحِيم | عَلَى مَا تَقَدَّمَ . وَاَللَّه أَعْلَم .</p><p>وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي قِسْمَة الْعَقَار ; فَقَالَ مَالِك : لِلْإِمَامِ أَنْ يُوقِفهَا لِمَصَالِح الْمُسْلِمِينَ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : الْإِمَام مُخَيَّر بَيْن أَنْ يَقْسِمهَا أَوْ يَجْعَلهَا وَقْفًا لِمَصَالِح الْمُسْلِمِينَ . وَقَالَ الشَّافِعِيّ : لَيْسَ لِلْإِمَامِ حَبْسهَا عَنْهُمْ بِغَيْرِ رِضَاهُمْ , بَلْ يَقْسِمهَا عَلَيْهِمْ كَسَائِرِ الْأَمْوَال . فَمَنْ طَابَ نَفْسًا عَنْ حَقّه لِلْإِمَامِ أَنْ يَجْعَلهُ وَقْفًا عَلَيْهِمْ فَلَهُ . وَمَنْ لَمْ تَطِبْ نَفْسه فَهُوَ أَحَقّ بِمَالِهِ . وَعُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ اِسْتَطَابَ نُفُوس الْغَانِمِينَ وَاشْتَرَاهَا مِنْهُمْ . قُلْت : وَعَلَى هَذَا يَكُون قَوْله : | وَاَلَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدهمْ | [ الْحَشْر : 10 ] مَقْطُوعًا مِمَّا قَبْله , وَأَنَّهُمْ نُدِبُوا بِالدُّعَاءِ لِلْأَوَّلِينَ وَالثَّنَاء عَلَيْهِمْ .</p><p>قَالَ اِبْن وَهْب : سَمِعْت مَالِكًا يَذْكُر فَضْل الْمَدِينَة عَلَى غَيْرهَا مِنْ الْآفَاق فَقَالَ : إِنَّ الْمَدِينَة تُبُوِّئَتْ بِالْإِيمَانِ وَالْهِجْرَة , وَإِنَّ غَيْرهَا مِنْ الْقُرَى اُفْتُتِحَتْ بِالسَّيْفِ ; ثُمَّ قَرَأَ | وَاَلَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّار وَالْإِيمَان مِنْ قَبْلهمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ | الْآيَة . وَقَدْ مَضَى الْكَلَام فِي هَذَا , وَفِي فَضْل الصَّلَاة فِي الْمَسْجِدَيْنِ : الْمَسْجِد الْحَرَام وَمَسْجِد الْمَدِينَة ; فَلَا مَعْنَى لِلْإِعَادَةِ .|وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا|يَعْنِي لَا يَحْسُدُونَ الْمُهَاجِرِينَ عَلَى مَا خُصُّوا بِهِ مِنْ مَال الْفَيْء وَغَيْره ; كَذَلِكَ قَالَ النَّاس . وَفِيهِ تَقْدِير حَذْف مُضَافَيْنِ ; الْمَعْنَى مَسّ حَاجَة مِنْ فَقْد مَا أُوتُوا . وَكُلّ مَا يَجِد الْإِنْسَان فِي صَدْره مِمَّا يَحْتَاج إِلَى إِزَالَته فَهُوَ حَاجَة . وَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ فِي دُور الْأَنْصَار , فَلَمَّا غَنِمَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أَمْوَال بَنِي النَّضِير , دَعَا الْأَنْصَار وَشَكَرَهُمْ فِيمَا صَنَعُوا مَعَ الْمُهَاجِرِينَ فِي إِنْزَالهمْ إِيَّاهُمْ فِي مَنَازِلهمْ , وَإِشْرَاكهمْ فِي أَمْوَالهمْ . ثُمَّ قَالَ : ( إِنْ أَحْبَبْتُمْ قَسَمْت مَا أَفَاءَ اللَّه عَلَيَّ مِنْ بَنِي النَّضِير بَيْنكُمْ وَبَيْنهمْ , وَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ السُّكْنَى فِي مَسَاكِنكُمْ وَأَمْوَالكُمْ وَإِنْ أَحْبَبْتُمْ أَعْطَيْتهمْ وَخَرَجُوا مِنْ دُوركُمْ ) . فَقَالَ سَعْد بْن عُبَادَة وَسَعْد بْن مُعَاذ : بَلْ نَقْسِمهُ بَيْن الْمُهَاجِرِينَ , وَيَكُونُونَ فِي دُورنَا كَمَا كَانُوا . وَنَادَتْ الْأَنْصَار : رَضِينَا وَسَلَّمْنَا يَا رَسُول اللَّه , فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( اللَّهُمَّ اِرْحَمْ الْأَنْصَار وَأَبْنَاء الْأَنْصَار ) . وَأَعْطَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُهَاجِرِينَ وَلَمْ يُعْطِ الْأَنْصَار شَيْئًا إِلَّا الثَّلَاثَة الَّذِينَ ذَكَرْنَاهُمْ . وَيَحْتَمِل أَنْ يُرِيد بِهِ | وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورهمْ حَاجَة مِمَّا أُوتُوا | إِذَا كَانَ قَلِيلًا بَلْ يَقْنَعُونَ بِهِ وَيَرْضَوْنَ عَنْهُ . وَقَدْ كَانُوا عَلَى هَذِهِ الْحَالَة حِين حَيَاة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُنْيَا , ثُمَّ كَانُوا عَلَيْهِ بَعْد مَوْته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحُكْمِ الدُّنْيَا . وَقَدْ أَنْذَرَهُمْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ : ( سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَة فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْض ) .|وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ|فِي التِّرْمِذِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة : أَنَّ رَجُلًا بَاتَ بِهِ ضَيْف فَلَمْ يَكُنْ عِنْده إِلَّا قُوته وَقُوت صِبْيَانه ; فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ : نَوِّمِي الصِّبْيَة وَأَطْفِئِي السِّرَاج وَقَرِّبِي لِلضَّيْفِ مَا عِنْدك ; فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة | وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسهمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَة | قَالَ : هَذَا حَدِيث حَسَن صَحِيح . خَرَّجَهُ مُسْلِم أَيْضًا . وَخُرِّجَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : جَاءَ رَجُل إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إِنِّي مَجْهُود . فَأَرْسَلَ إِلَى بَعْض نِسَائِهِ فَقَالَتْ : وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ مَا عِنْدِي إِلَّا مَاء . ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى الْأُخْرَى فَقَالَتْ مِثْل ذَلِكَ ; حَتَّى قُلْنَ كُلّهنَّ مِثْل ذَلِكَ : لَا وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ مَا عِنْدِي إِلَّا مَاء . فَقَالَ : مَنْ يُضَيِّف هَذَا اللَّيْلَة رَحِمَهُ اللَّه ؟ فَقَامَ رَجُل مِنْ الْأَنْصَار فَقَالَ : أَنَا يَا رَسُول اللَّه . فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى رَحْله فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ : هَلْ عِنْدك شَيْء ؟ قَالَتْ : لَا , إِلَّا قُوت صِبْيَانِي . قَالَ : فَعَلِّلِيهِمْ بِشَيْءٍ فَإِذَا دَخَلَ ضَيْفنَا فَأَطْفِئِي السِّرَاج وَأَرِيه أَنَّا نَأْكُل ; فَإِذَا أَهْوَى لِيَأْكُل فَقُومِي إِلَى السِّرَاج حَتَّى تُطْفِئِيهِ . قَالَ : فَقَعَدُوا وَأَكَلَ الضَّيْف . فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : ( قَدْ عَجِبَ اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - مِنْ صَنِيعكُمَا بِضَيْفِكُمَا اللَّيْلَة ) . وَفِي رِوَايَة عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : جَاءَ رَجُل إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُضَيِّفهُ فَلَمْ يَكُنْ عِنْده مَا يُضَيِّفهُ . فَقَالَ : ( أَلَا رَجُل يُضَيِّف هَذَا رَحِمَهُ اللَّه ) ؟ فَقَامَ رَجُل مِنْ الْأَنْصَار يُقَال لَهُ أَبُو طَلْحَة . فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى رَحْله ... ; وَسَاقَ الْحَدِيث بِنَحْوِ الَّذِي قَبْله , وَذَكَرَ فِيهِ نُزُول الْآيَة . وَذَكَرَ الْمَهْدَوِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة أَنَّ هَذَا نَزَلَ فِي ثَابِت بْن قَيْس وَرَجُل مِنْ الْأَنْصَار - نَزَلَ بِهِ ثَابِت - يُقَال لَهُ أَبُو الْمُتَوَكِّل , فَلَمْ يَكُنْ عِنْد أَبِي الْمُتَوَكِّل إِلَّا قُوته وَقُوت صِبْيَانه ; فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ : أَطْفِئِي السِّرَاج وَنَوِّمِي الصِّبْيَة ; وَقَدَّمَ مَا كَانَ عِنْده إِلَى ضَيْفه . وَكَذَا ذَكَرَ النَّحَّاس قَالَ : قَالَ أَبُو هُرَيْرَة : نَزَلَ بِرَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَار - يُقَال لَهُ أَبُو الْمُتَوَكِّل - ثَابِت بْن قَيْس ضَيْفًا , وَلَمْ يَكُنْ عِنْده إِلَّا قُوته وَقُوت صِبْيَانه ; فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ : أَطْفِئِي السِّرَاج وَنَوِّمِي الصِّبْيَة ; فَنَزَلَتْ | وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسهمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَة - إِلَى قَوْله - فَأُولَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ | . وَقِيلَ : إِنَّ فَاعِل ذَلِكَ أَبُو طَلْحَة . وَذَكَرَ الْقُشَيْرِيّ أَبُو نَصْر عَبْد الرَّحِيم بْن عَبْد الْكَرِيم : وَقَالَ اِبْن عُمَر : أُهْدِيَ لِرَجُلٍ مِنْ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْس شَاة فَقَالَ : إِنَّ أَخِي فُلَانًا وَعِيَاله أَحْوَج إِلَى هَذَا مِنَّا ; فَبَعَثَهُ إِلَيْهِمْ , فَلَمْ يَزَلْ يَبْعَث بِهِ وَاحِد إِلَى آخَر حَتَّى تَدَاوَلَهَا سَبْعَة أَبْيَات , حَتَّى رَجَعَتْ إِلَى أُولَئِكَ ; فَنَزَلَتْ | وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسهمْ | . ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيّ عَنْ أَنَس قَالَ : أُهْدِيَ لِرَجُلٍ مِنْ الصَّحَابَة رَأْس شَاة وَكَانَ مَجْهُودًا فَوَجَّهَ بِهِ إِلَى جَارٍ لَهُ , فَتَدَاوَلَتْهُ سَبْعَة أَنْفُس فِي سَبْعَة أَبْيَات , ثُمَّ عَادَ إِلَى الْأَوَّل ; فَنَزَلَتْ : | وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسهمْ | الْآيَة . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْأَنْصَارِ يَوْم بَنِي النَّضِير : ( إِنْ شِئْتُمْ قَسَمْت لِلْمُهَاجِرِينَ مِنْ دِيَاركُمْ وَأَمْوَالكُمْ وَشَارَكْتُمُوهُمْ فِي هَذِهِ الْغَنِيمَة وَإِنْ شِئْتُمْ كَانَتْ لَكُمْ دِيَاركُمْ وَأَمْوَالكُمْ وَلَمْ نَقْسِم لَكُمْ مِنْ الْغَنِيمَة شَيْئًا ) فَقَالَتْ الْأَنْصَار : بَلْ نَقْسِم لِإِخْوَانِنَا مِنْ دِيَارنَا وَأَمْوَالنَا وَنُؤْثِرهُمْ بِالْغَنِيمَةِ ; فَنَزَلَتْ | وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسهمْ | الْآيَة . وَالْأَوَّل أَصَحّ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَس : أَنَّ الرَّجُل كَانَ يَجْعَل لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّخَلَات مِنْ أَرْضه حَتَّى فُتِحَتْ عَلَيْهِ قُرَيْظَة وَالنَّضِير , فَجَعَلَ بَعْد ذَلِكَ يَرُدّ عَلَيْهِ مَا كَانَ أَعْطَاهُ . لَفْظ مُسْلِم . وَقَالَ الزُّهْرِيّ عَنْ أَنَس بْن مَالِك : لَمَّا قَدِمَ الْمُهَاجِرُونَ مِنْ مَكَّة الْمَدِينَةَ قَدِمُوا وَلَيْسَ بِأَيْدِيهِمْ شَيْء , وَكَانَ الْأَنْصَار أَهْل الْأَرْض وَالْعَقَار , فَقَاسَمَهُمْ الْأَنْصَار عَلَى أَنْ أَعْطَوْهُمْ أَنْصَاف ثِمَار أَمْوَالهمْ كُلّ عَام وَيَكْفُونَهُمْ الْعَمَل وَالْمُؤُونَة ; وَكَانَتْ أُمّ أَنَس بْن مَالِك تُدْعَى أُمّ سُلَيْم , وَكَانَتْ أُمّ عَبْد اللَّه بْن أَبِي طَلْحَة , كَانَ أَخًا لِأَنَسٍ لِأُمِّهِ ; وَكَانَتْ أَعْطَتْ أُمّ أَنَس رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِذَاقًا لَهَا ; فَأَعْطَاهَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمّ أَيْمَن مَوْلَاته , ثُمَّ أُسَامَة بْن زَيْد . قَالَ اِبْن شِهَاب : فَأَخْبَرَنِي أَنَس بْن مَالِك : أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا فَرَغَ مِنْ قِتَال أَهْل خَيْبَر وَانْصَرَفَ إِلَى الْمَدِينَة , رَدَّ الْمُهَاجِرُونَ إِلَى الْأَنْصَار مَنَائِحَهُمْ الَّتِي كَانُوا مَنَحُوهُمْ مِنْ ثِمَارهمْ . قَالَ : فَرَدَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أُمِّي عِذَاقهَا , وَأَعْطَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمّ أَيْمَن مَكَانهنَّ مِنْ حَائِطه . خَرَّجَهُ مُسْلِم أَيْضًا .</p><p>الْإِيثَار : هُوَ تَقْدِيم الْغَيْر عَلَى النَّفْس وَحُظُوظهَا الدُّنْيَوِيَّة , وَرَغْبَة فِي الْحُظُوظ الدِّينِيَّة . وَذَلِكَ يَنْشَأ عَنْ قُوَّة الْيَقِين , وَتَوْكِيد الْمَحَبَّة , وَالصَّبْر عَلَى الْمَشَقَّة . يُقَال : آثَرْته بِكَذَا ; أَيْ خَصَصْته بِهِ وَفَضَّلْته . وَمَفْعُول الْإِيثَار مَحْذُوف ; أَيْ يُؤْثِرُونَهُمْ عَلَى أَنْفُسهمْ بِأَمْوَالِهِمْ وَمَنَازِلهمْ , لَا عَنْ غِنًى بَلْ مَعَ اِحْتِيَاجهمْ إِلَيْهَا ; حَسَب مَا تَقَدَّمَ بَيَانه . وَفِي مُوَطَّأ مَالِك : | أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنْ عَائِشَة زَوْج النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , أَنَّ مِسْكِينًا سَأَلَهَا وَهِيَ صَائِمَة وَلَيْسَ فِي بَيْتهَا إِلَّا رَغِيف ; فَقَالَتْ لِمَوْلَاةٍ لَهَا : أَعْطِيهِ إِيَّاهُ ; فَقَالَتْ : لَيْسَ لَك مَا تُفْطِرِينَ عَلَيْهِ ؟ فَقَالَتْ : أَعْطِيهِ إِيَّاهُ . قَالَتْ : فَفَعَلَتْ . قَالَتْ : فَلَمَّا أَمْسَيْنَا أَهْدَى لَنَا أَهْل بَيْت أَوْ إِنْسَان مَا كَانَ يُهْدَى لَنَا : شَاة وَكَفَنهَا . فَدَعَتْنِي عَائِشَة فَقَالَتْ : كُلِي مِنْ هَذَا , فَهَذَا خَيْر مِنْ قُرْصك . قَالَ عُلَمَاؤُنَا : هَذَا مِنْ الْمَال الرَّابِح , وَالْفِعْل الزَّاكِي عِنْد اللَّه تَعَالَى يُعَجِّل مِنْهُ مَا يَشَاء , وَلَا يَنْقُص ذَلِكَ مِمَّا يَدَّخِرهُ عَنْهُ . وَمَنْ تَرَكَ شَيْئًا لِلَّهِ لَمْ يَجِد فَقْده . وَعَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا فِي فِعْلهَا هَذَا مِنْ الَّذِينَ أَثْنَى اللَّه عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ يُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسهمْ مَعَ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ الْخَصَاصَة , وَأَنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ وَقَى شُحّ نَفْسه وَأَفْلَحَ فَلَاحًا لَا خَسَارَة بَعْده . وَمَعْنَى ( شَاة وَكَفَنهَا ) فَإِنَّ الْعَرَب - أَوْ بَعْض الْعَرَب أَوْ بَعْض وُجُوههمْ - كَانَ هَذَا مِنْ طَعَامهمْ , يَأْتُونَ إِلَى الشَّاة أَوْ الْخَرُوف إِذَا سَلَخُوهُ غَطَّوْهُ كُلّه بِعَجِينِ الْبُرّ وَكَفَنُوهُ بِهِ ثُمَّ عَلَّقُوهُ فِي التَّنُّور , فَلَا يَخْرُج مِنْ وَدَكه شَيْء إِلَّا فِي ذَلِكَ الْكَفَن ; وَذَلِكَ مِنْ طِيب الطَّعَام عِنْدهمْ . وَرَوَى النَّسَائِيّ عَنْ نَافِع أَنَّ اِبْن عُمَر اِشْتَكَى وَاشْتَهَى عِنَبًا , فَاشْتُرِيَ لَهُ عُنْقُود بِدِرْهَمٍ , فَجَاءَ مِسْكِين فَسَأَلَ ; فَقَالَ : أَعْطُوهُ إِيَّاهُ ; فَخَالَفَ إِنْسَان فَاشْتَرَاهُ بِدِرْهَمٍ , ثُمَّ جَاءَ بِهِ إِلَى اِبْن عُمَر , فَجَاءَ الْمِسْكِين فَسَأَلَ ; فَقَالَ : أَعْطُوهُ إِيَّاهُ ; ثُمَّ خَالَفَ إِنْسَان فَاشْتَرَاهُ بِدِرْهَمٍ , ثُمَّ جَاءَ بِهِ إِلَيْهِ ; فَأَرَادَ السَّائِل أَنْ يَرْجِع فَمُنِعَ . وَلَوْ عَلِمَ اِبْن عُمَر أَنَّهُ ذَلِكَ الْعُنْقُود مَا ذَاقَهُ ; لِأَنَّ مَا خَرَجَ لِلَّهِ لَا يَعُود فِيهِ . وَذَكَرَ اِبْن الْمُبَارَك قَالَ : أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن مُطَرِّف قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو حَازِم عَنْ عَبْد الرَّحْمَن بْن سَعِيد بْن يَرْبُوع عَنْ مَالِك الدَّار : أَنَّ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَخَذَ أَرْبَعمِائَةِ دِينَار , فَجَعَلَهَا فِي صُرَّة ثُمَّ قَالَ لِلْغُلَامِ : اِذْهَبْ بِهَا إِلَى أَبِي عُبَيْدَة بْن الْجَرَّاح , ثُمَّ تَلَكَّأَ سَاعَة فِي الْبَيْت حَتَّى تَنْظُر مَاذَا يَصْنَع بِهَا . فَذَهَبَ بِهَا الْغُلَام إِلَيْهِ فَقَالَ : يَقُول لَك أَمِير الْمُؤْمِنِينَ : اِجْعَلْ هَذِهِ فِي بَعْض حَاجَتك ; فَقَالَ : وَصَلَهُ اللَّه وَرَحِمَهُ , ثُمَّ قَالَ : تَعَالَيْ يَا جَارِيَة , اِذْهَبِي بِهَذِهِ السَّبْعَة إِلَى فُلَان , وَبِهَذِهِ الْخَمْسَة إِلَى فُلَان ; حَتَّى أَنْفَذَهَا . فَرَجَعَ الْغُلَام إِلَى عُمَر , فَأَخْبَرَهُ فَوَجَدَهُ قَدْ أَعَدَّ مِثْلهَا لِمُعَاذِ بْن جَبَل ; وَقَالَ : اِذْهَبْ بِهَذَا إِلَى مُعَاذ بْن جَبَل ; وَتَلَكَّأَ فِي الْبَيْت سَاعَة حَتَّى تَنْظُر مَاذَا يَصْنَع , فَذَهَبَ بِهَا إِلَيْهِ فَقَالَ : يَقُول لَك أَمِير الْمُؤْمِنِينَ : اِجْعَلْ هَذِهِ فِي بَعْض حَاجَتك , فَقَالَ : رَحِمَهُ اللَّه وَوَصَلَهُ , وَقَالَ : يَا جَارِيَة , اِذْهَبِي إِلَى بَيْت فُلَان بِكَذَا وَبَيْت فُلَان بِكَذَا , فَاطَّلَعَتْ اِمْرَأَة مُعَاذ فَقَالَتْ : وَنَحْنُ ! وَاَللَّه مَسَاكِين فَأَعْطِنَا . وَلَمْ يَبْقَ فِي الْخِرْقَة إِلَّا دِينَارَانِ قَدْ جَاءَ بِهِمَا إِلَيْهَا . فَرَجَعَ الْغُلَام إِلَى عُمَر فَأَخْبَرَهُ فَسُرَّ بِذَلِكَ عُمَر وَقَالَ : إِنَّهُمْ إِخْوَة ! بَعْضهمْ مِنْ بَعْض . وَنَحْوه عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا فِي إِعْطَاء مُعَاوِيَة إِيَّاهَا , وَكَانَ عَشَرَة آلَاف وَكَانَ الْمُنْكَدِر دَخَلَ عَلَيْهَا . فَإِنْ قِيلَ : وَرَدَتْ أَخْبَار صَحِيحَة فِي النَّهْي عَنْ التَّصَدُّق بِجَمِيعِ مَا يَمْلِكهُ الْمَرْء , قِيلَ لَهُ : إِنَّمَا كُرِهَ ذَلِكَ فِي حَقّ مَنْ لَا يَوْثُق مِنْهُ الصَّبْر عَلَى الْفَقْر , وَخَافَ أَنْ يَتَعَرَّض لِلْمَسْأَلَةِ إِذَا فَقَدَ مَا يُنْفِقهُ . فَأَمَّا الْأَنْصَار الَّذِينَ أَثْنَى اللَّه عَلَيْهِمْ بِالْإِيثَارِ عَلَى أَنْفُسهمْ , فَلَمْ يَكُونُوا بِهَذِهِ الصِّفَة , بَلْ كَانُوا كَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى : | وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَحِين الْبَأْس | [ الْبَقَرَة : 177 ] . وَكَانَ الْإِيثَار فِيهِمْ أَفْضَل مِنْ الْإِمْسَاك . وَالْإِمْسَاك لِمَنْ لَا يَصْبِر وَيَتَعَرَّض لِلْمَسْأَلَةِ أَوْلَى مِنْ الْإِيثَار . وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِ الْبَيْضَة مِنْ الذَّهَب فَقَالَ : هَذِهِ صَدَقَة , فَرَمَاهُ بِهَا وَقَالَ : ( يَأْتِي أَحَدكُمْ بِجَمِيعِ مَا يَمْلِكهُ فَيَتَصَدَّق بِهِ ثُمَّ يَقْعُد يَتَكَفَّف النَّاس ) . وَاَللَّه أَعْلَم .</p><p>وَالْإِيثَار بِالنَّفْسِ فَوْق الْإِيثَار بِالْمَالِ وَإِنْ عَادَ إِلَى النَّفْس . وَمِنْ الْأَمْثَال السَّائِرَة : وَالْجُود بِالنَّفْسِ أَقْصَى غَايَة الْجُود وَمِنْ عِبَارَات الصُّوفِيَّة الرَّشِيقَة فِي حَدّ الْمَحَبَّة : أَنَّهَا الْإِيثَار , أَلَا تَرَى أَنَّ أَمْرَأَة الْعَزِيز لَمَّا تَنَاهَتْ فِي حُبّهَا لِيُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام , آثَرَتْهُ عَلَى نَفْسهَا فَقَالَتْ : أَنَا رَاوَدْته عَنْ نَفْسه . وَأَفْضَل الْجُود بِالنَّفْسِ الْجُود عَلَى حِمَايَة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَفِي الصَّحِيح أَنَّ أَبَا طَلْحَة تَرَّسَ عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْم أُحُد , وَكَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَطَلَّع لِيَرَى الْقَوْم . فَيَقُول لَهُ أَبُو طَلْحَة : لَا تُشْرِف يَا رَسُول اللَّه ! لَا يُصِيبُونَك ! نَحْرِي دُون نَحْرك وَوَقَى بِيَدِهِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشُلَّتْ . وَقَالَ حُذَيْفَة الْعَدَوِيّ : اِنْطَلَقْت يَوْم الْيَرْمُوك أَطْلُب اِبْن عَمّ لِي - وَمَعِي شَيْء مِنْ الْمَاء - وَأَنَا أَقُول : إِنْ كَانَ بِهِ رَمَق سَقَيْته , فَإِذَا أَنَا بِهِ , فَقُلْت لَهُ : أَسْقِيك , فَأَشَارَ بِرَأْسِهِ أَنْ نَعَمْ , فَإِذَا أَنَا بِرَجُلٍ يَقُول : آهْ ! آهْ ! فَأَشَارَ إِلَيَّ اِبْن عَمِّي أَنْ اِنْطَلِقْ إِلَيْهِ , فَإِذَا هُوَ هِشَام بْن الْعَاصِ فَقُلْت : أَسْقِيك ؟ فَأَشَارَ أَنْ نَعَمْ . فَسَمِعَ آخَر يَقُول : آهْ ! آهْ ! فَأَشَارَ هِشَام أَنْ اِنْطَلِقْ إِلَيْهِ فَجِئْته فَإِذَا هُوَ قَدْ مَاتَ . فَرَجَعْت إِلَى هِشَام فَإِذَا هُوَ قَدْ مَاتَ . فَرَجَعْت إِلَى اِبْن عَمِّي فَإِذَا هُوَ قَدْ مَاتَ . وَقَالَ أَبُو يَزِيد الْبِسْطَامِيّ : مَا غَلَبَنِي أَحَد مَا غَلَبَنِي شَابّ مِنْ أَهْل بَلْخ ! قَدِمَ عَلَيْنَا حَاجًّا فَقَالَ لِي : يَا أَبَا يَزِيد , مَا حَدّ الزُّهْد عِنْدكُمْ ؟ فَقُلْت : إِنْ وَجَدْنَا أَكْلنَا . وَإِنْ فَقَدْنَا صَبَرْنَا . فَقَالَ : هَكَذَا كِلَاب بَلْخ عِنْدنَا . فَقُلْت : وَمَا حَدّ الزُّهْد عِنْدكُمْ ؟ قَالَ : إِنْ فَقَدْنَا شَكَرْنَا , وَإِنْ وَجَدْنَا آثَرْنَا . وَسُئِلَ ذُو النُّون الْمِصْرِيّ : مَا حَدّ الزَّاهِد الْمُنْشَرِح صَدْره ؟ قَالَ ثَلَاث : تَفْرِيق الْمَجْمُوع , وَتَرْك طَلَب الْمَفْقُود , وَالْإِيثَار عِنْد الْقُوت . وَحُكِيَ عَنْ أَبِي الْحَسَن الْأَنْطَاكِيّ : أَنَّهُ اُجْتُمِعَ عِنْده نَيِّف وَثَلَاثُونَ رَجُلًا بِقَرْيَةٍ مِنْ قُرَى الرَّيّ , وَمَعَهُمْ أَرْغِفَة مَعْدُودَة لَا تُشْبِع جَمِيعهمْ , فَكَسَرُوا الرُّغْفَان وَأَطْفَئُوا السِّرَاج وَجَلَسُوا لِلطَّعَامِ ; فَلَمَّا رَفَعَ فَإِذَا الطَّعَام بِحَالِهِ لَمْ يَأْكُل مِنْهُ أَحَد شَيْئًا ; إِيثَارًا لِصَاحِبِهِ عَلَى نَفْسه .</p><p>قَوْله تَعَالَى : | وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَة | الْخَصَاصَة : الْحَاجَة الَّتِي تَخْتَلّ بِهَا الْحَال . وَأَصْلهَا مِنْ الِاخْتِصَاص وَهُوَ اِنْفِرَاد بِالْأَمْرِ . فَالْخَصَاصَة الِانْفِرَاد بِالْحَاجَةِ ; أَيْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ فَاقَة وَحَاجَة . وَمِنْهُ قَوْل الشَّاعِر . <br>أَمَّا الرَّبِيع إِذَا تَكُون خَصَاصَة .......... عَاشَ السَّقِيم بِهِ وَأَثْرَى الْمُقْتَر<br>|وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ|الشُّحّ وَالْبُخْل سَوَاء ; يُقَال : رَجُل شَحِيح بَيْن الشُّحّ وَالشَّحّ وَالشَّحَاحَة . قَالَ عَمْرو بْن كُلْثُوم : <br>تَرَى اللَّحِز الشَّحِيح إِذَا أُمِرَّتْ .......... عَلَيْهِ لِمَالِهِ فِيهَا مُهِينَا <br>وَجَعَلَ بَعْض أَهْل اللُّغَة الشُّحّ أَشَدّ مِنْ الْبُخْل . وَفِي الصِّحَاح : الشُّحّ الْبُخْل مَعَ حِرْص ; تَقُول : شَحِحْت ( بِالْكَسْرِ ) تَشَحّ . وَشَحَحْت أَيْضًا تَشُحّ وَتَشِحّ . وَرَجُل شَحِيح , وَقَوْم شِحَاح وَأَشِحَّة . وَالْمُرَاد بِالْآيَةِ : الشُّحّ بِالزَّكَاةِ وَمَا لَيْسَ بِفَرْضٍ مِنْ صِلَة ذَوِي الْأَرْحَام وَالضِّيَافَة , وَمَا شَاكَلَ ذَلِكَ . فَلَيْسَ بِشَحِيحٍ وَلَا بِخَيْلٍ مَنْ أَنْفَقَ فِي ذَلِكَ وَإِنْ أَمْسَكَ عَنْ نَفْسه . وَمَنْ وَسَّعَ عَلَى نَفْسه وَلَمْ يُنْفِق فِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الزَّكَوَات وَالطَّاعَات فَلَمْ يُوقَ شُحّ نَفْسه . وَرَوَى الْأَسْوَد عَنْ اِبْن مَسْعُود أَنَّ رَجُلًا أَتَاهُ فَقَالَ لَهُ : إِنِّي أَخَاف أَنْ أَكُون قَدْ هَلَكْت ؟ قَالَ : وَمَا ذَاكَ ؟ قَالَ : سَمِعْت اللَّه عَزَّ وَجَلَّ يَقُول : | وَمَنْ يُوقَ شُحّ نَفْسه فَأُولَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ | وَأَنَا رَجُل شَحِيح لَا أَكَاد أَنْ أُخْرِج مِنْ يَدِي شَيْئًا . فَقَالَ اِبْن مَسْعُود : لَيْسَ ذَلِكَ بِالشُّحِّ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّه تَعَالَى فِي الْقُرْآن , إِنَّمَا الشُّحّ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّه تَعَالَى فِي الْقُرْآن أَنْ تَأْكُل مَال أَخِيك ظُلْمًا , وَلَكِنْ ذَلِكَ الْبُخْل , وَبِئْسَ الشَّيْء الْبُخْل . فَفَرَّقَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ بَيْن الشُّحّ وَالْبُخْل . وَقَالَ طَاوُس : الْبُخْل أَنْ يَبْخَل الْإِنْسَان بِمَا فِي يَده , وَالشُّحّ أَنْ يَشِحّ بِمَا فِي أَيْدِي النَّاس , يُحِبّ أَنْ يَكُون لَهُ مَا فِي أَيْدِيهمْ بِالْحِلِّ وَالْحَرَام , لَا يَقْنَع . اِبْن جُبَيْر : الشُّحّ مَنْع الزَّكَاة وَادِّخَار الْحَرَام . اِبْن عُيَيْنَة : الشُّحّ الظُّلْم . اللَّيْث : تَرْك الْفَرَائِض وَانْتِهَاك الْمَحَارِم . اِبْن عَبَّاس : مَنْ اِتَّبَعَ هَوَاهُ وَلَمْ يَقْبَل الْإِيمَان فَذَلِكَ الشَّحِيح . اِبْن زَيْد : مَنْ لَمْ يَأْخُذ شَيْئًا لِشَيْءٍ نَهَاهُ اللَّه عَنْهُ , وَلَمْ يَدَعهُ الشُّحّ عَلَى أَنْ يَمْنَع شَيْئًا مِنْ شَيْء أَمَرَهُ اللَّه بِهِ , فَقَدْ وَقَاهُ اللَّه شُحّ نَفْسه . وَقَالَ أَنَس : قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( بَرِيء مِنْ الشُّحّ مَنْ أَدَّى الزَّكَاة وَقَرَى الضَّيْف وَأَعْطَى فِي النَّائِبَة ) . وَعَنْهُ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدْعُو ( اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذ بِك مِنْ شُحّ نَفْسِي وَإِسْرَافهَا وَوَسَاوِسهَا ) . وَقَالَ أَبُو الْهَيَّاج الْأَسَدِيّ : رَأَيْت رَجُلًا فِي الطَّوَاف يَدْعُو : اللَّهُمَّ قِنِي شُحّ نَفْسِي . لَا يَزِيد عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا , فَقُلْت لَهُ ؟ فَقَالَ : إِذَا وُقِيت شُحّ نَفْسِي لَمْ أَسْرِق وَلَمْ أَزْنِ وَلَمْ أَفْعَل . فَإِذَا الرَّجُل عَبْد الرَّحْمَن بْن عَوْف . قُلْت : يَدُلّ عَلَى هَذَا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( اِتَّقُوا الظُّلْم فَإِنَّ الظُّلْم ظُلُمَات يَوْم الْقِيَامَة وَاتَّقُوا الشُّحّ فَإِنَّ الشُّحّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلكُمْ حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمهمْ ) . وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي آخِر | آل عِمْرَان | . وَقَالَ كِسْرَى لِأَصْحَابِهِ : أَيّ شَيْء أَضَرّ بِابْنِ آدَم ؟ قَالُوا : الْفَقْر . فَقَالَ كِسْرَى : الشُّحّ أَضَرّ مِنْ الْفَقْر ; لِأَنَّ الْفَقِير إِذَا وَجَدَ شَبِعَ , وَالشَّحِيح إِذَا وَجَدَ لَمْ يَشْبَع أَبَدًا .

وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ

يَعْنِي التَّابِعِينَ وَمَنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَام إِلَى يَوْم الْقِيَامَة . قَالَ اِبْن أَبِي لَيْلَى : النَّاس عَلَى ثَلَاثَة مَنَازِل : الْمُهَاجِرُونَ , وَاَلَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّار وَالْإِيمَان , وَاَلَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدهمْ . فَاجْهَدْ أَلَّا تَخْرُج مِنْ هَذِهِ الْمَنَازِل . وَقَالَ بَعْضهمْ : كُنْ شَمْسًا , فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَكُنْ قَمَرًا , فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَكُنْ كَوْكَبًا مُضِيئًا , فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَكُنْ كَوْكَبًا صَغِيرًا , وَمِنْ جِهَة النُّور لَا تَنْقَطِع . وَمَعْنَى هَذَا : كُنْ مُهَاجِرِيًّا . فَإِنْ قُلْت : لَا أَجِد , فَكُنْ أَنْصَارِيًّا . فَإِنْ لَمْ تَجِد فَاعْمَلْ كَأَعْمَالِهِمْ , فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَأَحِبَّهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ كَمَا أَمَرَك اللَّه . وَرَوَى مُصْعَب بْن سَعْد قَالَ : النَّاس عَلَى ثَلَاثَة مَنَازِل , فَمَضَتْ مَنْزِلَتَانِ وَبَقِيَتْ مَنْزِلَة ; فَأَحْسَن مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ أَنْ تَكُونُوا بِهَذِهِ الْمَنْزِلَة الَّتِي بَقِيَتْ . وَعَنْ جَعْفَر بْن مُحَمَّد بْن عَلِيّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّه عَلِيّ بْن الْحُسَيْن رَضِيَ اللَّه عَنْهُ , أَنَّهُ جَاءَهُ رَجُل فَقَالَ لَهُ : يَا اِبْن بِنْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , مَا تَقُول فِي عُثْمَان ؟ فَقَالَ لَهُ : يَا أَخِي أَنْتَ مِنْ قَوْم قَالَ اللَّه فِيهِمْ : | لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ | الْآيَة . قَالَ لَا قَالَ : فَوَاَللَّهِ لَئِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْ أَهْل الْآيَة فَأَنْتَ مِنْ قَوْم قَالَ اللَّه فِيهِمْ : | وَاَلَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّار وَالْإِيمَان | الْآيَة . قَالَ لَا قَالَ : فَوَاَللَّهِ لَئِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْ أَهْل الْآيَة الثَّالِثَة لَتَخْرُجَن مِنْ الْإِسْلَام وَهِيَ قَوْله تَعَالَى : | وَاَلَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدهمْ يَقُولُونَ رَبّنَا اِغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ | الْآيَة . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ مُحَمَّد بْن عَلِيّ بْن الْحُسَيْن , رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ , رَوَى عَنْ أَبِيهِ : أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَهْل الْعِرَاق جَاءُوا إِلَيْهِ , فَسَبُّوا أَبَا بَكْر وَعُمَر - رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا - ثُمَّ عُثْمَان - رَضِيَ اللَّه عَنْهُ - فَأَكْثَرُوا ; فَقَالَ لَهُمْ : أَمِنَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ أَنْتُمْ ؟ قَالُوا لَا . فَقَالَ : أَفَمِنْ الَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّار وَالْإِيمَان مِنْ قَبْلهمْ ؟ فَقَالُوا لَا . فَقَالَ : قَدْ تَبَرَّأْتُمْ مِنْ هَذَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ ! أَنَا أَشْهَد أَنَّكُمْ لَسْتُمْ مِنْ الَّذِينَ قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : | وَاَلَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدهمْ يَقُولُونَ رَبّنَا اِغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَل فِي قُلُوبنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبّنَا إِنَّك رَءُوف رَحِيم | قُومُوا , فَعَلَ اللَّه بِكُمْ وَفَعَلَ ذَكَرَهُ النَّحَّاس .</p><p>هَذِهِ الْآيَة دَلِيل عَلَى وُجُوب مَحَبَّة الصَّحَابَة ; لِأَنَّهُ جَعَلَ لِمَنْ بَعْدهمْ حَظًّا فِي الْفَيْء مَا أَقَامُوا عَلَى مَحَبَّتهمْ وَمُوَالَاتهمْ وَالِاسْتِغْفَار لَهُمْ , وَأَنَّ مَنْ سَبَّهُمْ أَوْ وَاحِدًا مِنْهُمْ أَوْ اِعْتَقَدَ فِيهِ شَرًّا إِنَّهُ لَا حَقّ لَهُ فِي الْفَيْء ; رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مَالِك وَغَيْره . قَالَ مَالِك : مَنْ كَانَ يُبْغِض أَحَدًا مِنْ أَصْحَاب مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , أَوْ كَانَ فِي قَلْبه عَلَيْهِمْ غِلّ , فَلَيْسَ لَهُ حَقّ فِي فَيْء الْمُسْلِمِينَ ; ثُمَّ قَرَأَ | وَاَلَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدهمْ | الْآيَة .</p><p>هَذِهِ الْآيَة تَدُلّ عَلَى أَنَّ الصَّحِيح مِنْ أَقْوَال الْعُلَمَاء قِسْمَة الْمَنْقُول , وَإِبْقَاء الْعَقَار وَالْأَرْض شَمْلًا بَيْن الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ ; كَمَا فَعَلَ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ ; إِلَّا أَنْ يَجْتَهِد الْوَالِي فَيُنْفِذ أَمْرًا فَيُمْضِي عَمَله فِيهِ لِاخْتِلَافِ النَّاس عَلَيْهِ وَأَنَّ هَذِهِ الْآيَة قَاضِيَة بِذَلِكَ ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْ الْفَيْء وَجَعَلَهُ لِثَلَاثِ طَوَائِف : الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَار - وَهُمْ مُعَلَّمُونَ - | وَاَلَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدهمْ يَقُولُونَ رَبّنَا اِغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ | . فَهِيَ عَامَّة فِي جَمِيع التَّابِعِينَ وَالْآتِينَ بَعْدهمْ إِلَى يَوْم الدِّين . وَفِي الْحَدِيث الصَّحِيح : أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ إِلَى الْمَقْبَرَة فَقَالَ : ( السَّلَام عَلَيْكُمْ دَار قَوْم مُؤْمِنِينَ وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّه بِكُمْ لَاحِقُونَ وَدِدْت أَنْ رَأَيْت إِخْوَاننَا ) قَالُوا : يَا رَسُول اللَّه , أَلَسْنَا بِإِخْوَانِك ؟ فَقَالَ : ( بَلْ أَنْتُمْ أَصْحَابِي وَإِخْوَاننَا الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْد وَأَنَا فَرَطهمْ عَلَى الْحَوْض ) . فَبَيَّنَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ إِخْوَانهمْ كُلّ مَنْ يَأْتِي بَعْدهمْ ; لَا كَمَا قَالَ السُّدِّيّ وَالْكَلْبِيّ : إِنَّهُمْ الَّذِينَ هَاجَرُوا بَعْد ذَلِكَ . وَعَنْ الْحَسَن أَيْضًا | وَاَلَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدهمْ | مَنْ قَصَدَ إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَة بَعْد اِنْقِطَاع الْهِجْرَة .|يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ|نُصِبَ فِي مَوْضِع الْحَال ; أَيْ قَائِلِينَ .|وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ|فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدهمَا : أُمِرُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِمَنْ سَبَقَ هَذِهِ الْأُمَّة مِنْ مُؤْمِنِي أَهْل الْكِتَاب . قَالَتْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا : فَأُمِرُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لَهُمْ فَسَبُّوهُمْ . الثَّانِي : أُمِرُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلسَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَار . قَالَ اِبْن عَبَّاس : أَمَرَ اللَّه تَعَالَى بِالِاسْتِغْفَارِ لِأَصْحَابِ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَهُوَ يَعْلَم أَنَّهُمْ سَيُفْتَنُونَ . وَقَالَتْ عَائِشَة : أُمِرْتُمْ بِالِاسْتِغْفَارِ لِأَصْحَابِ مُحَمَّد فَسَبَبْتُمُوهُمْ , سَمِعْت نَبِيّكُمْ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( لَا تَذْهَب هَذِهِ الْأُمَّة حَتَّى يَلْعَن آخِرهَا أَوَّلهَا ) وَقَالَ اِبْن عُمَر : سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( إِذَا رَأَيْتُمْ الَّذِينَ يَسُبُّونَ أَصْحَابِي فَقُولُوا لَعَنَ اللَّه أَشَرّكُمْ ) . وَقَالَ الْعَوَّام بْن حَوْشَب : أَدْرَكْت صَدْر هَذِهِ الْأُمَّة يَقُولُونَ : اُذْكُرُوا مَحَاسِن أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى تَأَلَّفَ عَلَيْهِمْ الْقُلُوب , وَلَا تَذْكُرُوا مَا شَجَرَ بَيْنهمْ فَتُجَسِّرُوا النَّاس عَلَيْهِمْ . وَقَالَ الشَّعْبِيّ : تَفَاضَلَتْ الْيَهُود وَالنَّصَارَى عَلَى الرَّافِضَة بِخَصْلَةٍ , سُئِلَتْ الْيَهُود : مَنْ خَيْر أَهْل مِلَّتكُمْ ؟ فَقَالُوا : أَصْحَاب مُوسَى . وَسُئِلَتْ النَّصَارَى : مَنْ خَيْر أَهْل مِلَّتكُمْ ؟ فَقَالُوا : أَصْحَاب عِيسَى . وَسُئِلَتْ الرَّافِضَة مَنْ شَرّ أَهْل مِلَّتكُمْ ؟ فَقَالُوا : أَصْحَاب مُحَمَّد , أُمِرُوا بِالِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ فَسَبُّوهُمْ , فَالسَّيْف عَلَيْهِمْ مَسْلُول إِلَى يَوْم الْقِيَامَة , لَا تَقُوم لَهُمْ رَايَة , وَلَا تَثْبُت لَهُمْ قَدَم , وَلَا تَجْتَمِع لَهُمْ كَلِمَة كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّه بِسَفْكِ دِمَائِهِمْ وَإِدْحَاض حُجَّتهمْ . أَعَاذَنَا اللَّه وَإِيَّاكُمْ مِنْ الْأَهْوَاء الْمُضِلَّة . | وَلَا تَجْعَل فِي قُلُوبنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبّنَا إِنَّك رَءُوف رَحِيم | أَيْ حِقْدًا وَحَسَدًا | رَبّنَا إِنَّك رَءُوف رَحِيم |

أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَ

تَعَجُّب مِنْ اِغْتِرَار الْيَهُود بِمَا وَعَدَهُمْ الْمُنَافِقُونَ مِنْ النَّصْر مَعَ عِلْمهمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَعْتَقِدُونَ دِينًا وَلَا كِتَابًا . وَمِنْ جُمْلَة الْمُنَافِقِينَ عَبْد اللَّه بْن أُبَيّ ابْن سَلُول , وَعَبْد اللَّه بْن نَبْتَل , وَرِفَاعَة بْن زَيْد . وَقِيلَ : رَافِعَة بْن تَابُوت , وَأَوْس بْن قَيْظِيّ , كَانُوا مِنْ الْأَنْصَار وَلَكِنَّهُمْ نَافَقُوا , وَقَالُوا لِيَهُودِ قُرَيْظَة وَالنَّضِير .|لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ|وَقِيلَ : هُوَ مِنْ قَوْل بَنِي النَّضِير لِقُرَيْظَة .|وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ|يَعْنُونَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; لَا نُطِيعهُ فِي قِتَالكُمْ . وَفِي هَذَا دَلِيل عَلَى صِحَّة نُبُوَّة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جِهَة عِلْم الْغَيْب ; لِأَنَّهُمْ أُخْرِجُوا فَلَمْ يَخْرُجُوا , وَقُوتِلُوا فَلَمْ يَنْصُرُوهُمْ ; كَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى .|وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ|أَيْ فِي قَوْلهمْ وَفِعْلهمْ .

لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ

قَوْله تَعَالَى : | لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَار | أَيْ مُنْهَزِمِينَ . | ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ | قِيلَ : مَعْنَى | لَا يَنْصُرُونَهُمْ | طَائِعِينَ . | وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ | مُكْرَهِينَ | لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَار | . وَقِيلَ : مَعْنَى | لَا يَنْصُرُونَهُمْ | لَا يَدُومُونَ عَلَى نَصْرهمْ . هَذَا عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَيْنِ مُتَّفِقَانِ . وَقِيلَ : إِنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ ; وَالْمَعْنَى لَئِنْ أُخْرِجَ الْيَهُود لَا يَخْرُج مَعَهُمْ الْمُنَافِقُونَ , وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ . | وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ | أَيْ وَلَئِنْ نَصَرَ الْيَهُود الْمُنَافِقِينَ | لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَار | . وَقِيلَ : | لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ | أَيْ عَلِمَ اللَّه مِنْهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَخْرُجُونَ إِنْ أُخْرِجُوا . | وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ | أَيْ عَلِمَ اللَّه مِنْهُمْ ذَلِكَ . ثُمَّ قَالَ : | لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَار | فَأَخْبَرَ عَمَّا قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَكُون كَيْفَ كَانَ يَكُون لَوْ كَانَ ؟ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : | وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ | [ الْأَنْعَام : 28 ] . وَقِيلَ : مَعْنَى | وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ | أَيْ وَلَئِنْ شِئْنَا أَنْ يَنْصُرُوهُمْ زَيَّنَّا ذَلِكَ لَهُمْ . | لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَار | .

لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ

يَا مَعْشَر الْمُسْلِمِينَ|أَشَدُّ رَهْبَةً|أَيْ خَوْفًا وَخَشْيَة|فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ|يَعْنِي صُدُور بَنِي النَّضِير . وَقِيلَ : فِي صُدُور الْمُنَافِقِينَ . وَيَحْتَمِل أَنْ يَرْجِع إِلَى الْفَرِيقَيْنِ ; أَيْ يَخَافُونَ مِنْكُمْ أَكْثَر مِمَّا يَخَافُونَ مِنْ رَبّهمْ ذَلِكَ الْخَوْف .|ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ|أَيْ لَا يَفْقَهُونَ قَدْر عَظَمَة اللَّه وَقُدْرَته .

لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ

يَعْنِي الْيَهُود|إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ|أَيْ بِالْحِيطَانِ وَالدُّور ; يَظُنُّونَ أَنَّهَا تَمْنَعهُمْ مِنْكُمْ .|أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ|أَيْ مِنْ خَلْف حِيطَان يَسْتَتِرُونَ بِهَا لِجُبْنِهِمْ وَرَهْبَتهمْ . وَقِرَاءَة الْعَامَّة | جُدُر | عَلَى الْجَمْع , وَهُوَ اِخْتِيَار أَبِي عُبَيْدَة وَأَبِي حَاتِم ; لِأَنَّهَا نَظِير قَوْله تَعَالَى : | فِي قُرًى مُحَصَّنَة | وَذَلِكَ جَمْع . وَقَرَأَ اِبْن عَبَّاس وَمُجَاهِد وَابْن كَثِير وَابْن مُحَيْصِن وَأَبُو عَمْرو | جِدَار | عَلَى التَّوْحِيد ; لِأَنَّ التَّوْحِيد يُؤَدِّي عَنْ الْجَمْع . وَرُوِيَ عَنْ بَعْض الْمَكِّيِّينَ | جَدْر | ( بِفَتْحِ الْجِيم وَإِسْكَان الدَّال ) ; وَهِيَ لُغَة فِي الْجِدَار . وَيَجُوز أَنْ يَكُون مَعْنَاهُ مِنْ وَرَاء نَخِيلهمْ وَشَجَرهمْ ; يُقَال : أَجْدَرَ النَّخْل إِذَا طَلَعَتْ رُءُوسه فِي أَوَّل الرَّبِيع . وَالْجِدْر : نَبْت وَاحِدَته جِدْرَة . وَقُرِئَ | جُدْر | ( بِضَمِّ الْجِيم وَإِسْكَان الدَّال ) جَمْع الْجِدَار . وَيَجُوز أَنْ تَكُون الْأَلِف فِي الْوَاحِد كَأَلِفِ كِتَاب , وَفِي الْجَمْع كَأَلِفِ ظِرَاف . وَمِثْله نَاقَة هِجَان وَنُوق هِجَان ; لِأَنَّك تَقُول فِي التَّثْنِيَة : هِجَانَانِ ; فَصَارَ لَفْظ الْوَاحِد وَالْجَمْع مُشْتَبِهَيْنِ فِي اللَّفْظ مُخْتَلِفَيْنِ فِي الْمَعْنَى ; قَالَهُ اِبْن جِنِّي .|بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ|يَعْنِي عَدَاوَة بَعْضهمْ لِبَعْضٍ . وَقَالَ مُجَاهِد : | بَأْسهمْ بَيْنهمْ شَدِيد | أَيْ بِالْكَلَامِ وَالْوَعِيد لَنَفْعَلَنَّ كَذَا . وَقَالَ السُّدِّيّ : الْمُرَاد اِخْتِلَاف قُلُوبهمْ حَتَّى لَا يَتَّفِقُوا عَلَى أَمْر وَاحِد . وَقِيلَ : | بَأْسهمْ بَيْنهمْ شَدِيد | أَيْ إِذَا لَمْ يَلْقَوْا عَدُوًّا نَسَبُوا أَنْفُسهمْ إِلَى الشِّدَّة وَالْبَأْس , وَلَكِنْ إِذَا لَقُوا الْعَدُوّ اِنْهَزَمُوا .|تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا|يَعْنِي الْيَهُود وَالْمُنَافِقِينَ ; قَالَهُ مُجَاهِد . وَعَنْهُ أَيْضًا يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ . الثَّوْرِيّ : هُمْ الْمُشْرِكُونَ وَأَهْل الْكِتَاب . وَقَالَ قَتَادَة : | تَحْسَبهُمْ جَمِيعًا | أَيْ مُجْتَمَعِينَ عَلَى أَمْر وَرَأْي .|وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى|مُتَفَرِّقَة . فَأَهْل الْبَاطِل مُخْتَلِفَة آرَاؤُهُمْ , مُخْتَلِفَة شَهَادَتهمْ , مُخْتَلِفَة أَهْوَاؤُهُمْ وَهُمْ مُجْتَمِعُونَ فِي عَدَاوَة أَهْل الْحَقّ . وَعَنْ مُجَاهِد أَيْضًا : أَرَادَ أَنَّ دِين الْمُنَافِقِينَ مُخَالِف لِدِينِ الْيَهُود ; وَهَذَا لِيُقَوِّيَ أَنْفُس الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِمْ . وَقَالَ الشَّاعِر : <br>إِلَى اللَّه أَشْكُو نِيَّة شَقَّتْ الْعَصَا .......... هِيَ الْيَوْم شَتَّى وَهِيَ أَمَسّ جُمَّعُ <br>وَفِي قِرَاءَة اِبْن مَسْعُود | وَقُلُوبهمْ أَشَتّ | يَعْنِي أَشَدّ تَشْتِيتًا ; أَيْ أَشَدّ اِخْتِلَافًا .|ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ|أَيْ ذَلِكَ التَّشْتِيت وَالْكُفْر بِأَنَّهُمْ لَا عَقْل لَهُمْ يَعْقِلُونَ بِهِ أَمْر اللَّه .

كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ

قَالَ اِبْن عَبَّاس : يَعْنِي بِهِ قَيْنُقَاع ; أَمْكَنَ اللَّه مِنْهُمْ قَبْل بَنِي النَّضِير . وَقَالَ قَتَادَة : يَعْنِي بَنِي النَّضِير ; أَمْكَنَ اللَّه مِنْهُمْ قَبْل قُرَيْظَة . مُجَاهِد : يَعْنِي كُفَّار قُرَيْش يَوْم بَدْر . وَقِيلَ : هُوَ عَامّ فِي كُلّ مَنْ اِنْتَقَمَ مِنْهُ عَلَى كُفْره قَبْل بَنِي النَّضِير مِنْ نُوح إِلَى مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَمَعْنَى | وَبَال | جَزَاء كُفْرهمْ . وَمَنْ قَالَ : هُمْ بَنُو قُرَيْظَة , جَعَلَ | وَبَال أَمْرهمْ | نُزُولهمْ عَلَى حُكْم سَعْد بْن مُعَاذ ; فَحَكَمَ فِيهِمْ بِقَتْلِ الْمُقَاتِلَة وَسَبْي الذُّرِّيَّة . وَهُوَ قَوْل الضَّحَّاك . وَمَنْ قَالَ الْمُرَاد بَنُو النَّضِير قَالَ : | وَبَال أَمْرهمْ | الْجَلَاء وَالنَّفْي . وَكَانَ بَيْن النَّضِير وَقُرَيْظَة سَنَتَانِ . وَكَانَتْ وَقْعَة بَدْر قَبْل غَزْوَة بَنِي النَّضِير بِسِتَّةِ أَشْهُر , فَلِذَلِكَ قَالَ : | قَرِيبًا | وَقَدْ قَالَ قَوْم : غَزْوَة بَنِي النَّضِير بَعْد وَقْعَة أُحُد . | وَلَهُمْ عَذَاب أَلِيم | فِي الْآخِرَة .

كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ

هَذَا ضَرْب مَثَل لِلْمُنَافِقِينَ وَالْيَهُود فِي تَخَاذُلهمْ وَعَدَم الْوَفَاء فِي نُصْرَتهمْ . وَحُذِفَ حَرْف الْعَطْف , وَلَمْ يَقُلْ : وَكَمَثَلِ الشَّيْطَان ; لِأَنَّ حَذْف حَرْف الْعَطْف كَثِير كَمَا تَقُول : أَنْتَ عَاقِل أَنْتَ كَرِيم أَنْتَ عَالِم . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَنَّ الْإِنْسَان الَّذِي قَالَ لَهُ الشَّيْطَان اُكْفُرْ , رَاهِب تُرِكَتْ عِنْده اِمْرَأَة أَصَابَهَا لَمَم لِيَدْعُوَ لَهَا , فَزَيَّنَ لَهُ الشَّيْطَان فَوَطِئَهَا فَحَمَلَتْ , ثُمَّ قَتَلَهَا خَوْفًا أَنْ يَفْتَضِح , فَدَلَّ الشَّيْطَان قَوْمهَا عَلَى مَوْضِعهَا , فَجَاءُوا فَاسْتَنْزَلُوا الرَّاهِب لِيَقْتُلُوهُ , فَجَاءَ الشَّيْطَان فَوَعَدَهُ أَنَّهُ إِنْ سَجَدَ لَهُ أَنْجَاهُ مِنْهُمْ , فَسَجَدَ لَهُ فَتَبَرَّأَ مِنْهُ فَأَسْلَمَهُ . ذَكَرَهُ الْقَاضِي إِسْمَاعِيل وَعَلِيّ بْن الْمَدِينِيّ عَنْ سُفْيَان بْن عُيَيْنَة عَنْ عَمْرو بْن دِينَار عَنْ عُرْوَة بْن عَامِر عَنْ عُبَيْد بْن رِفَاعَة الزُّرَقِيّ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَذَكَرَ خَبَره مُطَوَّلًا اِبْن عَبَّاس وَوَهْب بْن مُنَبِّه . وَلَفْظهمَا مُخْتَلِف . قَالَ اِبْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى : | كَمَثَلِ الشَّيْطَان | : كَانَ رَاهِب فِي الْفَتْرَة يُقَال لَهُ : بِرْصِيصَا ; قَدْ تَعَبَّدَ فِي صَوْمَعَته سَبْعِينَ سَنَة , لَمْ يَعْصِ اللَّه فِيهَا طَرْفَة عَيْن , حَتَّى أَعْيَا إِبْلِيس , فَجَمَعَ إِبْلِيس مَرَدَة الشَّيَاطِين فَقَالَ : أَلَا أَجِد مِنْكُمْ مَنْ يَكْفِينِي أَمْر بِرْصِيصَا ؟ فَقَالَ الْأَبْيَض , وَهُوَ صَاحِب الْأَنْبِيَاء , وَهُوَ الَّذِي قَصَدَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صُورَة جِبْرِيل لِيُوَسْوِس إِلَيْهِ عَلَى وَجْه الْوَحْي , فَجَاءَ جِبْرِيل فَدَخَلَ بَيْنهمَا , ثُمَّ دَفَعَهُ بِيَدِهِ حَتَّى وَقَعَ بِأَقْصَى الْهِنْد فَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : | ذِي قُوَّة عِنْد ذِي الْعَرْش مَكِين | [ التَّكْوِير : 20 ] فَقَالَ : أَنَا أَكْفِيكَهُ ; فَانْطَلَقَ فَتَزَيَّا بِزِيِّ الرُّهْبَان , وَحَلَقَ وَسَط رَأْسه حَتَّى أَتَى صَوْمَعَة بِرْصِيصَا فَنَادَاهُ فَلَمْ يُجِبْهُ ; وَكَانَ لَا يَنْفَتِل مِنْ صَلَاته إِلَّا فِي كُلّ عَشَرَة أَيَّام يَوْمًا , وَلَا يُفْطِر إِلَّا فِي كُلّ عَشَرَة أَيَّام ; وَكَانَ يُوَاصِل الْعَشَرَة الْأَيَّام وَالْعِشْرِينَ وَالْأَكْثَر ; فَلَمَّا رَأَى الْأَبْيَض أَنَّهُ لَا يُجِيبهُ أَقْبَلَ عَلَى الْعِبَادَة فِي أَصْل صَوْمَعَته ; فَلَمَّا اِنْفَتَلَ بِرْصِيصَا مِنْ صَلَاته , رَأَى الْأَبْيَض قَائِمًا يُصَلِّي فِي هَيْئَة حَسَنَة مِنْ هَيْئَة الرُّهْبَان ; فَنَدِمَ حِين لَمْ يُجِبْهُ , فَقَالَ : مَا حَاجَتك ؟ فَقَالَ : أَنْ أَكُون مَعَك , فَأَتَأَدَّب بِأَدَبِك , وَأَقْتَبِس مِنْ عَمَلك , وَنَجْتَمِع عَلَى الْعِبَادَة ; فَقَالَ : إِنِّي فِي شُغْل عَنْك ; ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى صَلَاته ; وَأَقْبَلَ الْأَبْيَض أَيْضًا عَلَى الصَّلَاة ; فَلَمَّا رَأَى بِرْصِيصَا شِدَّة اِجْتِهَاده وَعِبَادَته قَالَ لَهُ : مَا حَاجَتك ؟ فَقَالَ : أَنْ تَأْذَن لِي فَأَرْتَفِع إِلَيْك . فَأَذِنَ لَهُ فَأَقَامَ الْأَبْيَض مَعَهُ حَوْلًا لَا يُفْطِر إِلَّا فِي كُلّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا يَوْمًا وَاحِدًا , وَلَا يَنْفَتِل مِنْ صَلَاته إِلَّا فِي كُلّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا , وَرُبَّمَا مَدّ إِلَى الثَّمَانِينَ ; فَلَمَّا رَأَى بِرْصِيصَا اِجْتِهَاده تَقَاصَرَتْ إِلَيْهِ نَفْسه . ثُمَّ قَالَ الْأَبْيَض : عِنْدِي دَعَوَات يَشْفِي اللَّه بِهَا السَّقِيم وَالْمُبْتَلَى وَالْمَجْنُون ; فَعَلَّمَهُ إِيَّاهَا . ثُمَّ جَاءَ إِلَى إِبْلِيس فَقَالَ : قَدْ وَاَللَّه أَهْلَكْت الرَّجُل . ثُمَّ تَعَرَّضَ لِرَجُلٍ فَخَنَقَهُ , ثُمَّ قَالَ لِأَهْلِهِ - وَقَدْ تَصَوَّرَ فِي صُورَة الْآدَمِيِّينَ - : إِنَّ بِصَاحِبِكُمْ جُنُونًا أَفَأَطِبُّهُ ؟ قَالُوا نَعَمْ . فَقَالَ : لَا أَقْوَى عَلَى جِنِّيَّته , وَلَكِنْ اِذْهَبُوا بِهِ إِلَى بِرْصِيصَا , فَإِنَّ عِنْده اِسْم اللَّه الْأَعْظَم الَّذِي إِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى , وَإِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ ; فَجَاءُوهُ فَدَعَا بِتِلْكَ الدَّعَوَات , فَذَهَبَ عَنْهُ الشَّيْطَان . ثُمَّ جَعَلَ الْأَبْيَض يَفْعَل بِالنَّاسِ ذَلِكَ وَيُرْشِدهُمْ إِلَى بِرْصِيصَا فَيُعَافُونَ . فَانْطَلَقَ إِلَى جَارِيَة مِنْ بَنَات الْمُلُوك بَيْن ثَلَاثَة إِخْوَة , وَكَانَ أَبُوهُمْ مَلِكًا فَمَاتَ وَاسْتَخْلَفَ أَخَاهُ , وَكَانَ عَمّهَا مَلِكًا فِي بَنِي إِسْرَائِيل فَعَذَّبَهَا وَخَنَقَهَا . ثُمَّ جَاءَ إِلَيْهِمْ فِي صُورَة رَجُل مُتَطَبِّب لِيُعَالِجهَا فَقَالَ : إِنَّ شَيْطَانهَا مَارِد لَا يُطَاق , وَلَكِنْ اِذْهَبُوا بِهَا إِلَى بِرْصِيصَا فَدَعُوهَا عِنْده , فَإِذَا جَاءَ شَيْطَانهَا دَعَا لَهَا فَبَرِئَتْ ; فَقَالُوا : لَا يُجِيبنَا إِلَى هَذَا ; قَالَ : فَابْنُوا صَوْمَعَة فِي جَانِب صَوْمَعَته ثُمَّ ضَعُوهَا فِيهَا , وَقُولُوا : هِيَ أَمَانَة عِنْدك فَاحْتَسِبْ فِيهَا . فَسَأَلُوهُ ذَلِكَ فَأَبَى , فَبَنَوْا صَوْمَعَة وَوَضَعُوا فِيهَا الْجَارِيَة ; فَلَمَّا اِنْفَتَلَ مِنْ صَلَاته عَايَنَ الْجَارِيَة وَمَا بِهَا مِنْ الْجَمَال فَأُسْقِطَ فِي يَده , فَجَاءَهَا الشَّيْطَان فَخَنَقَهَا فَانْفَتَلَ مِنْ صَلَاته وَدَعَا لَهَا فَذَهَبَ عَنْهَا الشَّيْطَان , ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى صَلَاته فَجَاءَهَا الشَّيْطَان فَخَنَقَهَا . وَكَانَ يَكْشِف عَنْهَا وَيَتَعَرَّض بِهَا لِبِرْصِيصَا , ثُمَّ جَاءَهُ الشَّيْطَان فَقَالَ : وَيْحك ! وَاقِعهَا , فَمَا تَجِد مِثْلهَا ثُمَّ تَتُوب بَعْد ذَلِكَ . فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى وَاقَعَهَا فَحَمَلَتْ وَظَهَرَ حَمْلهَا . فَقَالَ لَهُ الشَّيْطَان : وَيْحك ! قَدْ اِفْتَضَحْت . فَهَلْ لَك أَنْ تَقْتُلهَا ثُمَّ تَتُوب فَلَا تَفْتَضِح , فَإِنْ جَاءُوك وَسَأَلُوك فَقُلْ جَاءَهَا شَيْطَانهَا فَذَهَبَ بِهَا . فَقَتَلَهَا بِرْصِيصَا وَدَفْنهَا لَيْلًا ; فَأَخَذَ الشَّيْطَان طَرَف ثَوْبهَا حَتَّى بَقِيَ خَارِجًا مِنْ التُّرَاب ; وَرَجَعَ بِرْصِيصَا إِلَى صَلَاته . ثُمَّ جَاءَ الشَّيْطَان إِلَى إِخْوَتهَا فِي الْمَنَام فَقَالَ : إِنَّ بِرْصِيصَا فَعَلَ بِأُخْتِكُمْ كَذَا وَكَذَا , وَقَتَلَهَا وَدَفَنَهَا فِي جَبَل كَذَا وَكَذَا ; فَاسْتَعْظَمُوا ذَلِكَ وَقَالُوا لِبِرْصِيصَا : مَا فَعَلَتْ أُخْتنَا ؟ فَقَالَ : ذَهَبَ بِهَا شَيْطَانهَا ; فَصَدَّقُوهُ وَانْصَرَفُوا . ثُمَّ جَاءَهُمْ الشَّيْطَان فِي الْمَنَام وَقَالَ : إِنَّهَا مَدْفُونَة فِي مَوْضِع كَذَا وَكَذَا , وَإِنَّ طَرَف رِدَائِهَا خَارِج مِنْ التُّرَاب ; فَانْطَلَقُوا فَوَجَدُوهَا , فَهَدَمُوا صَوْمَعَته وَأَنْزَلُوهُ وَخَنَقُوهُ , وَحَمَلُوهُ إِلَى الْمَلِك فَأَقَرَّ عَلَى نَفْسه فَأَمَرَ بِقَتْلِهِ . فَلَمَّا صُلِبَ قَالَ الشَّيْطَان : أَتَعْرِفُنِي ؟ قَالَ لَا وَاَللَّه قَالَ : أَنَا صَاحِبك الَّذِي عَلَّمْتُك الدَّعَوَات , أَمَا اِتَّقَيْت اللَّه أَمَا اسْتَحَيْت وَأَنْتَ أَعْبَد بَنِي إِسْرَائِيل ثُمَّ لَمْ يَكْفِك صَنِيعك حَتَّى فَضَحْت نَفْسك , وَأَقْرَرْت عَلَيْهَا وَفَضَحْت أَشْبَاهك مِنْ النَّاس فَإِنْ مِتّ عَلَى هَذِهِ الْحَالَة لَمْ يُفْلِح أَحَد مِنْ نُظَرَائِك بَعْدك . فَقَالَ : كَيْفَ أَصْنَع ؟ قَالَ : تُطِيعنِي فِي خَصْلَة وَاحِدَة وَأُنْجِيك مِنْهُمْ وَآخُذ بِأَعْيُنِهِمْ . قَالَ : وَمَا ذَاكَ ؟ قَالَ تَسْجُد لِي سَجْدَة وَاحِدَة ; فَقَالَ : أَنَا أَفْعَل ; فَسَجَدَ لَهُ مِنْ دُون اللَّه . فَقَالَ : يَا بِرْصِيصَا , هَذَا أَرَدْت مِنْك ; كَانَ عَاقِبَة أَمْرك أَنْ كَفَرْت بِرَبِّك , إِنِّي بَرِيء مِنْك , إِنِّي أَخَاف اللَّه رَبّ الْعَالَمِينَ . وَقَالَ وَهْب بْن مُنَبِّه : إِنَّ عَابِدًا كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيل , وَكَانَ مِنْ أَعْبَد أَهْل زَمَانه , وَكَانَ فِي زَمَانه ثَلَاثَة إِخْوَة لَهُمْ أُخْت , وَكَانَتْ بِكْرًا , لَيْسَتْ لَهُمْ أُخْت غَيْرهَا , فَخَرَجَ الْبَعْث عَلَى ثَلَاثَتهمْ , فَلَمْ يَدْرُوا عِنْد مَنْ يَخْلُفُونَ أُخْتهمْ , وَلَا عِنْد مَنْ يَأْمَنُونَ عَلَيْهَا , وَلَا عِنْد مَنْ يَضَعُونَهَا . قَالَ فَاجْتَمَعَ رَأْيهمْ عَلَى أَنْ يَخْلُفُوهَا عِنْد عَابِد بَنِي إِسْرَائِيل , وَكَانَ ثِقَة فِي أَنْفُسهمْ , فَأَتَوْهُ فَسَأَلُوهُ أَنْ يَخْلُفُوهَا عِنْده , فَتَكُون فِي كَنَفه وَجِوَاره إِلَى أَنْ يَقْفِلُوا مِنْ غُزَاتهمْ , فَأَبَى ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَتَعَوَّذَ بِاَللَّهِ مِنْهُمْ وَمِنْ أُخْتهمْ . قَالَ فَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتَّى أَطْمَعَهُمْ فَقَالَ : أَنْزِلُوهَا فِي بَيْت حِذَاء صَوْمَعَتِي , فَأَنْزَلُوهَا فِي ذَلِكَ الْبَيْت ثُمَّ اِنْطَلَقُوا وَتَرَكُوهَا , فَمَكَثَتْ فِي جِوَار ذَلِكَ الْعَابِد زَمَانًا , يُنْزِل إِلَيْهَا الطَّعَام مِنْ صَوْمَعَته , فَيَضَعهُ عِنْد بَاب الصَّوْمَعَة , ثُمَّ يُغْلِق بَابه وَيَصْعَد فِي صَوْمَعَته , ثُمَّ يَأْمُرهَا فَتَخْرُج مِنْ بَيْتهَا فَتَأْخُذ مَا وُضِعَ لَهَا مِنْ الطَّعَام . قَالَ : فَتَلَطَّفَ لَهُ الشَّيْطَان فَلَمْ يَزَلْ يُرَغِّبهُ فِي الْخَيْر , وَيُعَظِّم عَلَيْهِ خُرُوج الْجَارِيَة مِنْ بَيْتهَا نَهَارًا , وَيُخَوِّفهُ أَنْ يَرَاهَا أَحَد فَيَعْلَقهَا . قَالَ : فَلَبِثَ بِذَلِكَ زَمَانًا , ثُمَّ جَاءَهُ إِبْلِيس فَرَغَّبَهُ فِي الْخَيْر وَالْأَجْر , وَقَالَ لَهُ : لَوْ كُنْت تَمْشِي إِلَيْهَا بِطَعَامِهَا حَتَّى تَضَعهُ فِي بَيْتهَا كَانَ أَعْظَم لِأَجْرِك ; قَالَ : فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى مَشَى إِلَيْهَا بِطَعَامِهَا فَوَضَعَهُ فِي بَيْتهَا , قَالَ : فَلَبِثَ بِذَلِكَ زَمَانًا ثُمَّ جَاءَهُ إِبْلِيس فَرَغَّبَهُ فِي الْخَيْر وَحَضَّهُ عَلَيْهِ , وَقَالَ : لَوْ كُنْت تُكَلِّمهَا وَتُحَدِّثهَا فَتَأْنَس بِحَدِيثِك , فَإِنَّهَا قَدْ اِسْتَوْحَشَتْ وَحْشَة شَدِيدَة . قَالَ : فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى حَدَّثَهَا زَمَانًا يَطَّلِع عَلَيْهَا مِنْ فَوْق صَوْمَعَته . قَالَ : ثُمَّ أَتَاهُ إِبْلِيس بَعْد ذَلِكَ فَقَالَ : لَوْ كُنْت تَنْزِل إِلَيْهَا فَتَقْعُد عَلَى بَاب صَوْمَعَتك وَتُحَدِّثهَا وَتَقْعُد عَلَى بَاب بَيْتهَا فَتُحَدِّثك كَانَ آنَس لَهَا . فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى أَنْزَلَهُ وَأَجْلَسَهُ عَلَى بَاب صَوْمَعَته يُحَدِّثهَا , وَتَخْرُج الْجَارِيَة مِنْ بَيْتهَا , فَلَبِثَا زَمَانًا يَتَحَدَّثَانِ , ثُمَّ جَاءَهُ إِبْلِيس فَرَغَّبَهُ فِي الْخَيْر وَالثَّوَاب فِيمَا يَصْنَع بِهَا , وَقَالَ : لَوْ خَرَجْت مِنْ بَاب صَوْمَعَتك فَجَلَسْت قَرِيبًا مِنْ بَاب بَيْتهَا كَانَ آنَس لَهَا . فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى فَعَلَ . قَالَ : فَلَبِثَا زَمَانًا , ثُمَّ جَاءَهُ إِبْلِيس فَرَغَّبَهُ فِي الْخَيْر وَفِيمَا لَهُ مِنْ حُسْن الثَّوَاب فِيمَا يَصْنَع بِهَا , وَقَالَ لَهُ : لَوْ دَنَوْت مِنْ بَاب بَيْتهَا فَحَدَّثْتهَا وَلَمْ تَخْرُج مِنْ بَيْتهَا , فَفَعَلَ . فَكَانَ يَنْزِل مِنْ صَوْمَعَته فَيَقْعُد عَلَى بَاب بَيْتهَا فَيُحَدِّثهَا . فَلَبِثَا بِذَلِكَ حِينًا ثُمَّ جَاءَهُ إِبْلِيس فَقَالَ : لَوْ دَخَلْت الْبَيْت مَعَهَا تُحَدِّثهَا وَلَمْ تَتْرُكهَا تُبْرِز وَجْههَا لِأَحَدٍ كَانَ أَحْسَن بِك . فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى دَخَلَ الْبَيْت , فَجَعَلَ يُحَدِّثهَا نَهَاره كُلّه , فَإِذَا أَمْسَى صَعِدَ فِي صَوْمَعَته . قَالَ : ثُمَّ أَتَاهُ إِبْلِيس بَعْد ذَلِكَ , فَلَمْ يَزَلْ يُزَيِّنهَا لَهُ حَتَّى ضَرَبَ الْعَابِد عَلَى فَخِذهَا وَقَبَّلَهَا . فَلَمْ يَزَلْ بِهِ إِبْلِيس يُحَسِّنهَا فِي عَيْنه وَيُسَوِّل لَهُ حَتَّى وَقَعَ عَلَيْهَا فَأَحْبَلَهَا , فَوَلَدَتْ لَهُ غُلَامًا , فَجَاءَهُ إِبْلِيس فَقَالَ لَهُ : أَرَأَيْت أَنْ جَاءَ إِخْوَة هَذِهِ الْجَارِيَة وَقَدْ وَلَدَتْ مِنْك ! كَيْفَ تَصْنَع ! لَا آمَن عَلَيْك أَنْ تَفْتَضِح أَوْ يَفْضَحُوك ! فَاعْمِدْ إِلَى اِبْنهَا فَاذْبَحْهُ وَادْفِنْهُ , فَإِنَّهَا سَتَكْتُمُ عَلَيْك مَخَافَة إِخْوَتهَا أَنْ يَطَّلِعُوا عَلَى مَا صَنَعْت بِهَا , فَفَعَلَ . فَقَالَ لَهُ : أَتَرَاهَا تَكْتُم إِخْوَتهَا مَا صَنَعْت بِهَا وَقَتَلْت اِبْنهَا ! خُذْهَا فَاذْبَحْهَا وَادْفِنْهَا مَعَ اِبْنهَا . فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى ذَبَحَهَا وَأَلْقَاهَا فِي الْحَفِيرَة مَعَ اِبْنهَا , وَأَطْبَقَ عَلَيْهَا صَخْرَة عَظِيمَة , وَسَوَّى عَلَيْهَا التُّرَاب , وَصَعِدَ فِي صَوْمَعَته يَتَعَبَّد فِيهَا ; فَمَكَثَ بِذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّه أَنْ يَمْكُث ; حَتَّى قَفَلَ إِخْوَتهَا مِنْ الْغَزْو , فَجَاءُوهُ فَسَأَلُوهُ عَنْهَا فَنَعَاهَا لَهُمْ وَتَرَحَّمَ عَلَيْهَا , وَبَكَى لَهُمْ وَقَالَ : كَانَتْ خَيْر أُمَّة , وَهَذَا قَبْرهَا فَانْظُرُوا إِلَيْهِ . فَأَتَى إِخْوَتهَا الْقَبْر فَبَكَوْا عَلَى قَبْرهَا وَتَرَحَّمُوا عَلَيْهَا , وَأَقَامُوا عَلَى قَبْرهَا أَيَّامًا ثُمَّ اِنْصَرَفُوا إِلَى أَهَالِيهمْ . فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِمْ اللَّيْل وَأَخَذُوا مَضَاجِعهمْ , أَتَاهُمْ الشَّيْطَان فِي صُورَة رَجُل مُسَافِر , فَبَدَأَ بِأَكْبَرِهِمْ فَسَأَلَهُ عَنْ أُخْتهمْ ; فَأَخْبَرَهُ بِقَوْلِ الْعَابِد وَمَوْتهَا وَتَرَحُّمه عَلَيْهَا , وَكَيْفَ أَرَاهُمْ مَوْضِع قَبْرهَا ; فَكَذَّبَهُ الشَّيْطَان وَقَالَ : لَمْ يَصْدُقكُمْ أَمْر أُخْتكُمْ , إِنَّهُ قَدْ أَحْبَلَ أُخْتكُمْ وَوَلَدَتْ مِنْهُ غُلَامًا فَذَبَحَهُ وَذَبَحَهَا مَعَهُ فَزَعًا مِنْكُمْ , وَأَلْقَاهَا فِي حَفِيرَة اِحْتَفَرَهَا خَلْف الْبَاب الَّذِي كَانَتْ فِيهِ عَنْ يَمِين مَنْ دَخَلَهُ . فَانْطَلَقُوا فَدَخَلُوا الْبَيْت الَّذِي كَانَتْ فِيهِ عَنْ يَمِين مَنْ دَخَلَهُ فَإِنَّكُمْ سَتَجِدُونَهُمَا هُنَالِكَ جَمِيعًا كَمَا أَخْبَرْتُكُمْ . قَالَ : وَأَتَى الْأَوْسَط فِي مَنَامه وَقَالَ لَهُ مِثْل ذَلِكَ . ثُمَّ أَتَى أَصْغَرهمْ فَقَالَ لَهُ مِثْل ذَلِكَ . فَلَمَّا اِسْتَيْقَظَ الْقَوْم اِسْتَيْقَظُوا مُتَعَجِّبِينَ لِمَا رَأَى كُلّ وَاحِد مِنْهُمْ . فَأَقْبَلَ بَعْضهمْ عَلَى بَعْض , يَقُول كُلّ وَاحِد مِنْهُمْ : لَقَدْ رَأَيْت عَجَبًا , فَأَخْبَرَ بَعْضهمْ بَعْضًا بِمَا رَأَى . قَالَ أَكْبَرهمْ : هَذَا حُلْم لَيْسَ بِشَيْءٍ , فَامْضُوا بِنَا وَدَعُوا هَذَا . قَالَ أَصْغَرهمْ : لَا أَمْضِي حَتَّى آتِي ذَلِكَ الْمَكَان فَأَنْظُر فِيهِ . قَالَ : فَانْطَلَقُوا جَمِيعًا حَتَّى دَخَلُوا الْبَيْت الَّذِي كَانَتْ فِيهِ أُخْتهمْ , فَفَتَحُوا الْبَاب وَبَحَثُوا الْمَوْضِع الَّذِي وَصَفَ لَهُمْ فِي مَنَامهمْ , فَوَجَدُوا أُخْتهمْ وَابْنهَا مَذْبُوحَيْنِ فِي الْحَفِيرَة كَمَا قِيلَ لَهُمْ , فَسَأَلُوا الْعَابِد فَصَدَّقَ قَوْل إِبْلِيس فِيمَا صَنَعَ بِهِمَا . فَاسْتَعْدَوْا عَلَيْهِ مَلِكهمْ , فَأُنْزِلَ مِنْ صَوْمَعَته فَقَدَّمُوهُ لِيُصْلَب , فَلَمَّا أَوْقَفُوهُ عَلَى الْخَشَبَة أَتَاهُ الشَّيْطَان فَقَالَ لَهُ : قَدْ عَلِمْت أَنِّي صَاحِبك الَّذِي فَتَنْتُك فِي الْمَرْأَة حَتَّى أَحَبَلْتهَا وَذَبَحْتهَا وَذَبَحْت اِبْنهَا , فَإِنْ أَنْتَ أَطَعْتنِي الْيَوْم وَكَفَرْت بِاَللَّهِ الَّذِي خَلَقَك خَلَّصْتُك مِمَّا أَنْتَ فِيهِ . قَالَ : فَكَفَرَ الْعَابِد بِاَللَّهِ ; فَلَمَّا كَفَرَ خَلَّى عَنْهُ الشَّيْطَان بَيْنه وَبَيْن أَصْحَابه فَصَلَبُوهُ . قَالَ : فَفِيهِ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة : | كَمَثَلِ الشَّيْطَان إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اُكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيء مِنْك إِنِّي أَخَاف اللَّه رَبّ الْعَالَمِينَ - إِلَى قَوْله - جَزَاء الظَّالِمِينَ . قَالَ اِبْن عَبَّاس : فَضَرَبَ اللَّه هَذَا مَثَلًا لِلْمُنَافِقِينَ مِنْ الْيَهُود . وَذَلِكَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَمَرَ نَبِيّه عَلَيْهِ السَّلَام أَنْ يُجْلِي بَنِي النَّضِير مِنْ الْمَدِينَة , فَدَسَّ إِلَيْهِمْ الْمُنَافِقُونَ أَلَّا تَخْرُجُوا مِنْ دِيَاركُمْ , فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ كُنَّا مَعَكُمْ , وَإِنْ أَخْرَجُوكُمْ كُنَّا مَعَكُمْ , فَحَارَبُوا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَذَلَهُمْ الْمُنَافِقُونَ , وَتَبَرَّءُوا مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأَ الشَّيْطَان مِنْ بِرْصِيصَا الْعَابِد . فَكَانَ الرُّهْبَان بَعْد ذَلِكَ لَا يَمْشُونَ إِلَّا بِالتَّقِيَّةِ وَالْكِتْمَان . وَطَمِعَ أَهْل الْفُسُوق وَالْفُجُور فِي الْأَحْبَار فَرَمَوْهُمْ بِالْبُهْتَانِ وَالْقَبِيح , حَتَّى كَانَ أَمْر جُرَيْج الرَّاهِب , وَبَرَّأَهُ اللَّه فَانْبَسَطَتْ بَعْده الرُّهْبَان وَظَهَرُوا لِلنَّاسِ . وَقِيلَ : الْمَعْنَى مَثَل الْمُنَافِقِينَ فِي غَدْرهمْ لِبَنِي النَّضِير كَمَثَلِ إِبْلِيس إِذْ قَالَ لِكُفَّارِ قُرَيْش : | لَا غَالِب لَكُمْ الْيَوْم مِنْ النَّاس وَإِنِّي جَار لَكُمْ | [ الْأَنْفَال : 48 ] الْآيَة . وَقَالَ مُجَاهِد الْمُرَاد بِالْإِنْسَانِ هَاهُنَا جَمِيع النَّاس فِي غُرُور الشَّيْطَان إِيَّاهُمْ . وَمَعْنَى قَوْله تَعَالَى : | إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اُكْفُرْ | أَيْ أَغْوَاهُ حَتَّى قَالَ : إِنِّي كَافِر .|إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ|وَلَيْسَ قَوْل الشَّيْطَان : حَقِيقَة , إِنَّمَا هُوَ عَلَى وَجْه التَّبَرُّؤ مِنْ الْإِنْسَان , فَهُوَ تَأْكِيد لِقَوْلِهِ تَعَالَى : | إِنِّي بَرِيء مِنْك | وَفَتَحَ الْيَاء مِنْ | إِنِّي | نَافِع وَابْن كَثِير وَأَبُو عَمْرو . وَأَسْكَنَ الْبَاقُونَ .

فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ

أَيْ عَاقِبَة الشَّيْطَان وَذَلِكَ الْإِنْسَان|أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ|نُصِبَ عَلَى الْحَال . وَالتَّثْنِيَة ظَاهِرَة فِيمَنْ جَعَلَ الْآيَة مَخْصُوصَة فِي الرَّاهِب وَالشَّيْطَان . وَمَنْ جَعَلَهَا فِي الْجِنْس فَالْمَعْنَى : وَكَانَ عَاقِبَة الْفَرِيقَيْنِ أَوْ الصِّنْفَيْنِ . وَنُصِبَ | عَاقِبَتهمَا | عَلَى أَنَّهُ خَبَر كَانَ . وَالِاسْم | أَنَّهُمَا فِي النَّار | وَقَرَأَ الْحَسَن | فَكَانَ عَاقِبَتهمَا | بِالرَّفْعِ عَلَى الضِّدّ مِنْ ذَلِكَ . وَقَرَأَ الْأَعْمَش | خَالِدَانِ فِيهَا | بِالرَّفْعِ وَذَلِكَ خِلَاف الْمَرْسُوم . وَرَفَعَهُ عَلَى أَنَّهُ خَبَر | أَنَّ | وَالظَّرْف مُلْغًى .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ

فِي أَوَامِره وَنَوَاهِيه , وَأَدَاء فَرَائِضه وَاجْتِنَاب مَعَاصِيه .|اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ|يَعْنِي يَوْم الْقِيَامَة . وَالْعَرَب تَكُنِّي عَنْ الْمُسْتَقْبَل بِالْغَدِ . وَقِيلَ : ذَكَرَ الْغَد تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ السَّاعَة قَرِيبَة ; كَمَا قَالَ الشَّاعِر : <br>وَإِنَّ غَدًا لِنَاظِرِهِ قَرِيب <br>وَقَالَ الْحَسَن وَقَتَادَة : قَرَّبَ السَّاعَة حَتَّى جَعَلَهَا كَغَدٍ . وَلَا شَكَّ أَنَّ كُلّ آتٍ قَرِيب ; وَالْمَوْت لَا مَحَالَة آتٍ . وَمَعْنَى | مَا قَدَّمَتْ | يَعْنِي مِنْ خَيْر أَوْ شَرّ .|لِغَدٍ وَاتَّقُوا|أَعَادَ هَذَا تَكْرِيرًا , كَقَوْلِك : اِعْجَلْ اِعْجَلْ , اِرْمِ اِرْمِ . وَقِيلَ التَّقْوَى الْأُولَى التَّوْبَة فِيمَا مَضَى مِنْ الذُّنُوب , وَالثَّانِيَة اِتِّقَاء الْمَعَاصِي فِي الْمُسْتَقْبَل .|اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا|قَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر : أَيْ بِمَا يَكُون مِنْكُمْ . وَاَللَّه أَعْلَم .

وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ

أَيْ تَرَكُوا أَمْره|فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ|أَنْ يَعْمَلُوا لَهَا خَيْرًا ; قَالَهُ اِبْن حِبَّان . وَقِيلَ : نَسُوا حَقّ اللَّه فَأَنْسَاهُمْ حَقّ أَنْفُسهمْ ; قَالَهُ سُفْيَان . وَقِيلَ : | نَسُوا اللَّه | بِتَرْكِ شُكْره وَتَعْظِيمه . | فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسهمْ | بِالْعَذَابِ أَنْ يُذَكِّر بَعْضهمْ بَعْضًا ; حَكَاهُ اِبْن عِيسَى . وَقَالَ سَهْل بْن عَبْد اللَّه : | نَسُوا اللَّه | عِنْد الذُّنُوب | فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسهمْ | عِنْد التَّوْبَة . وَنَسَبَ تَعَالَى الْفِعْل إِلَى نَفْسه فِي | أَنْسَاهُمْ | إِذْ كَانَ ذَلِكَ بِسَبَبِ أَمْره وَنَهْيه الَّذِي تَرَكُوهُ . وَقِيلَ : مَعْنَاهُ وَجَدَهُمْ تَارِكِينَ أَمْره وَنَهْيه ; كَقَوْلِك : أَحْمَدْت الرَّجُل إِذَا وَجَدْته مَحْمُودًا . وَقِيلَ : | نَسُوا اللَّه | فِي الرَّخَاء ( فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسهمْ | فِي الشَّدَائِد .|أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ|قَالَ اِبْن جُبَيْر : الْعَاصُونَ . وَقَالَ اِبْن زَيْد : الْكَاذِبُونَ . وَأَصْل الْفِسْق الْخُرُوج ; أَيْ الَّذِينَ خَرَجُوا عَنْ طَاعَة اللَّه .

لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ

أَيْ فِي الْفَضْل وَالرُّتْبَة|أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ|أَيْ الْمُقَرَّبُونَ الْمُكَرَّمُونَ . وَقِيلَ : النَّاجُونَ مِنْ النَّار . وَقَدْ مَضَى الْكَلَام فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَة فِي | الْمَائِدَة | عِنْد قَوْله تَعَالَى : | قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيث وَالطَّيِّب | [ الْمَائِدَة : 100 ] وَفِي سُورَة | السَّجْدَة | عِنْد قَوْله تَعَالَى : | أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ | [ السَّجْدَة : 18 ] . وَفِي سُورَة | ص | | أَمْ نَجْعَل الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْض أَمْ نَجْعَل الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ | [ ص : 28 ] فَلَا مَعْنَى لِلْإِعَادَةِ , وَالْحَمْد لِلَّهِ .

لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ

حَثَّ عَلَى تَأَمُّل مَوَاعِظ الْقُرْآن وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا عُذْر فِي تَرْك التَّدَبُّر ; فَإِنَّهُ لَوْ خُوطِبَ بِهَذَا الْقُرْآن الْجِبَال مَعَ تَرْكِيب الْعَقْل فِيهَا لَانْقَادَتْ لِمَوَاعِظِهِ , وَلَرَأَيْتهَا عَلَى صَلَابَتهَا وَرَزَانَتهَا خَاشِعَة مُتَصَدِّعَة ; أَيْ مُتَشَقِّقَة مِنْ خَشْيَة اللَّه . وَالْخَاشِع : الذَّلِيل . وَالْمُتَصَدِّع : الْمُتَشَقِّق . وَقِيلَ : | خَاشِعًا | لِلَّهِ بِمَا كُلِّفَهُ مِنْ طَاعَته .|مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ|أَنْ يَعْصِيه فَيُعَاقِبهُ . وَقِيلَ : هُوَ عَلَى وَجْه الْمَثَل لِلْكُفَّارِ .|وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ|أَيْ أَنَّهُ لَوْ أَنْزَلَ هَذَا الْقُرْآن عَلَى جَبَل لَخَشَعَ لِوَعْدِهِ وَتَصَدَّعَ لِوَعِيدِهِ وَأَنْتُمْ أَيّهَا الْمَقْهُورُونَ بِإِعْجَازِهِ لَا تَرْغَبُونَ فِي وَعْده , وَلَا تَرْهَبُونَ مِنْ وَعِيده وَقِيلَ : الْخِطَاب لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; أَيْ لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآن يَا مُحَمَّد عَلَى جَبَل لَمَا ثَبَتَ , وَتَصَدَّعَ مِنْ نُزُوله عَلَيْهِ ; وَقَدْ أَنْزَلْنَاهُ عَلَيْك وَثَبَّتْنَاك لَهُ ; فَيَكُون ذَلِكَ اِمْتِنَانًا عَلَيْهِ أَنْ ثَبَّتَهُ لِمَا لَا تَثْبُت لَهُ الْجِبَال . وَقِيلَ : إِنَّهُ خِطَاب لِلْأُمَّةِ , وَأَنَّ اللَّه تَعَالَى لَوْ أَنْذَرَ بِهَذَا الْقُرْآن الْجِبَال لَتَصَدَّعَتْ مِنْ خَشْيَة اللَّه . وَالْإِنْسَان أَقَلّ قُوَّة وَأَكْثَر ثَبَاتًا ; فَهُوَ يَقُوم بِحَقِّهِ إِنْ أَطَاعَ , وَيَقْدِر عَلَى رَدّه إِنْ عَصَى ; لِأَنَّهُ مَوْعُود بِالثَّوَابِ , وَمَزْجُور بِالْعِقَابِ .

هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ

قَالَ اِبْن عَبَّاس : عَالِم السِّرّ وَالْعَلَانِيَة . وَقِيلَ : مَا كَانَ وَمَا يَكُون . وَقَالَ سَهْل . عَالِم بِالْآخِرَةِ وَالدُّنْيَا . وَقِيلَ : | الْغَيْب | مَا لَمْ يَعْلَم الْعِبَاد وَلَا عَايَنُوهُ . | وَالشَّهَادَة | مَا عَلِمُوا وَشَاهَدُوا .

هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ

أَيْ الْمُنَزَّه عَنْ كُلّ نَقْص , وَالطَّاهِر عَنْ كُلّ عَيْب . وَالْقَدَس ( بِالتَّحْرِيكِ ) : السَّطْل بِلُغَةِ أَهْل الْحِجَاز ; لِأَنَّهُ يُتَطَهَّر بِهِ . وَمِنْهُ الْقَادُوس لِوَاحِدِ الْأَوَانِي الَّتِي يُسْتَخْرَج بِهَا الْمَاء مِنْ الْبِئْر بِالسَّانِيَةِ . وَكَانَ سِيبَوَيْهِ يَقُول : قُدُّوس وَسَبُّوح ; بِفَتْحِ أَوَّلهمَا . وَحَكَى أَبُو حَاتِم عَنْ يَعْقُوب أَنَّهُ سَمِعَ عِنْد الْكِسَائِيّ أَعْرَابِيًّا فَصِيحًا يُكْنَى أَبَا الدِّينَار يَقْرَأ | الْقَدُّوس | بِفَتْحِ الْقَاف . قَالَ ثَعْلَب : كُلّ اِسْم عَلَى فَعُّول فَهُوَ مَفْتُوح الْأَوَّل ; مِثْل سَفُّود وَكَلُّوب وَتَنُّور وَسَمُّور وَشَبُّوط , إِلَّا السُّبُّوح وَالْقُدُّوس فَإِنَّ الضَّمّ فِيهِمَا أَكْثَر ; وَقَدْ يُفْتَحَانِ . وَكَذَلِكَ الذُّرُّوح ( بِالضَّمِّ ) وَقَدْ يُفْتَح .|السَّلَامُ|أَيْ ذُو السَّلَامَة مِنْ النَّقَائِص . وَقَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : اِتَّفَقَ الْعُلَمَاء رَحْمَة اللَّه عَلَيْهِمْ عَلَى أَنَّ مَعْنَى قَوْلنَا فِي اللَّه | السَّلَام | : النِّسْبَة , تَقْدِيره ذُو السَّلَامَة . ثُمَّ اِخْتَلَفُوا فِي تَرْجَمَة النِّسْبَة عَلَى ثَلَاثَة أَقْوَال : الْأَوَّل : مَعْنَاهُ الَّذِي سَلِمَ مِنْ كُلّ عَيْب وَبَرِئَ مِنْ كُلّ نَقْص . الثَّانِي : مَعْنَاهُ ذُو السَّلَام ; أَيْ الْمُسَلِّم عَلَى عِبَاده فِي الْجَنَّة ; كَمَا قَالَ : | سَلَام قَوْلًا مِنْ رَبّ رَحِيم | [ يس : 58 ] . الثَّالِث : أَنَّ مَعْنَاهُ الَّذِي سَلِمَ الْخَلْق مِنْ ظُلْمه . قُلْت : وَهَذَا قَوْل الْخَطَّابِيّ ; وَعَلَيْهِ وَاَلَّذِي قَبْله يَكُون صِفَة فَعِلَ . وَعَلَى أَنَّهُ الْبَرِيء مِنْ الْعُيُوب وَالنَّقَائِص يَكُون صِفَة ذَات . وَقِيلَ : السَّلَام مَعْنَاهُ الْمُسَلِّم لِعِبَادِهِ .|الْمُؤْمِنُ|أَيْ الْمُصَدِّق لِرُسُلِهِ بِإِظْهَارِ مُعْجِزَاته عَلَيْهِمْ وَمُصَدِّق الْمُؤْمِنِينَ مَا وَعَدَهُمْ بِهِ مِنْ الثَّوَاب وَمُصَدِّق الْكَافِرِينَ مَا أَوْعَدَهُمْ مِنْ الْعِقَاب . وَقِيلَ : الْمُؤْمِن الَّذِي يُؤْمِن أَوْلِيَاءَهُ مِنْ عَذَابه وَيُؤْمِن عِبَاده مِنْ ظُلْمه ; يُقَال : آمَنَهُ مِنْ الْأَمَان الَّذِي هُوَ ضِدّ الْخَوْف ; كَمَا قَالَ تَعَالَى : | وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْف | [ قُرَيْش : 4 ] فَهُوَ مُؤْمِن ; قَالَ النَّابِغَة : <br>وَالْمُؤْمِن الْعَائِذَات الطَّيْر يَمْسَحهَا .......... رُكْبَان مَكَّة بَيْن الْغِيل وَالسَّنَد <br>وَقَالَ مُجَاهِد : الْمُؤْمِن الَّذِي وَحَّدَ نَفْسه بِقَوْلِهِ : | شَهِدَ اللَّه أَنَّهُ لَا إِلَه إِلَّا هُوَ | [ آل عِمْرَان : 18 ] . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : إِذَا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة أُخْرِجَ أَهْل التَّوْحِيد مِنْ النَّار . وَأَوَّل مَنْ يَخْرُج مَنْ وَافَقَ اِسْمه اِسْم نَبِيّ , حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ فِيهَا مَنْ يُوَافِق اِسْمه اِسْم نَبِيّ قَالَ اللَّه تَعَالَى لِبَاقِيهِمْ : أَنْتُمْ الْمُسْلِمُونَ وَأَنَا السَّلَام , وَأَنْتُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَأَنَا الْمُؤْمِن , فَيُخْرِجهُمْ مِنْ النَّار بِبَرَكَةِ هَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ .|الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ|وَقَالَ قَتَادَة : الْمُهَيْمِن مَعْنَاهُ الْمُشَاهِد . وَقِيلَ : الْحَافِظ . وَقَالَ الْحَسَن : الْمُصَدِّق ;|الْجَبَّارُ|قَالَ اِبْن عَبَّاس : هُوَ الْعَظِيم . وَجَبَرُوت اللَّه عَظَمَته . وَهُوَ عَلَى هَذَا الْقَوْل صِفَة ذَات , مِنْ قَوْلهمْ : نَخْلَة جَبَّارَة . قَالَ اِمْرُؤُ الْقَيْس : <br>سَوَامِق جَبَّار أَثِيث فُرُوعه .......... وَعَالِينَ قِنْوَانًا مِنْ الْبُسْر أَحْمَرَا <br>يَعْنِي النَّخْلَة الَّتِي فَاتَتْ الْيَد . فَكَانَ هَذَا الِاسْم يَدُلّ عَلَى عَظَمَة اللَّه وَتَقْدِيسه عَنْ أَنْ تَنَالهُ النَّقَائِص وَصِفَات الْحَدَث . وَقِيلَ : هُوَ مِنْ الْجَبْر وَهُوَ الْإِصْلَاح , يُقَال : جَبَرْت الْعَظْم فَجَبَرَ , إِذَا أَصْلَحْته بَعْد الْكَسْر , فَهُوَ فَعَّال مِنْ جَبَرَ إِذَا أَصْلَحَ الْكَسِير وَأَغْنَى الْفَقِير . وَقَالَ الْفَرَّاء : هُوَ مِنْ أَجْبَرَهُ عَلَى الْأَمْر أَيْ قَهَرَهُ . قَالَ : وَلَمْ أَسْمَع فَعَّالًا مِنْ أَفْعَلَ إِلَّا فِي جَبَّار وَدَرَّاك مِنْ أَدْرَكَ . وَقِيلَ : الْجَبَّار الَّذِي لَا تُطَاق سَطْوَته .|الْمُتَكَبِّرُ|الَّذِي تَكَبَّرَ بِرُبُوبِيَّتِهِ فَلَا شَيْء مِثْله . وَقِيلَ : الْمُتَكَبِّر عَنْ كُلّ سُوء الْمُتَعَظِّم عَمَّا لَا يَلِيق بِهِ مِنْ صِفَات الْحَدَث وَالذَّمّ . وَأَصْل الْكِبْر وَالْكِبْرِيَاء الِامْتِنَاع وَقِلَّة الِانْقِيَاد . وَقَالَ حُمَيْد بْن ثَوْر : <br>عَفَتْ مِثْل مَا يَعْفُو الْفَصِيل فَأَصْبَحَتْ .......... بِهَا كِبْرِيَاء الصَّعْب وَهِيَ ذَلُول <br>وَالْكِبْرِيَاء فِي صِفَات اللَّه مَدْح , وَفِي صِفَات الْمَخْلُوقِينَ ذَمّ . وَفِي الصَّحِيح عَنْ أَبِي هُرَيْرَة أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِيمَا يَرْوِيه عَنْ رَبّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ : ( الْكِبْرِيَاء رِدَائِي وَالْعَظَمَة إِزَارِي فَمَنْ نَازَعَنِي فِي وَاحِد مِنْهُمَا قَصَمْته ثُمَّ قَذَفْته فِي النَّار ) . وَقِيلَ : الْمُتَكَبِّر مَعْنَاهُ الْعَالِي . وَقِيلَ : مَعْنَاهُ الْكَبِير لِأَنَّهُ أَجَلّ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّف كِبْرًا . وَقَدْ يُقَال : تَظَلَّمَ بِمَعْنَى ظَلَمَ , وَتَشَتَّمَ بِمَعْنَى شَتَمَ , وَاسْتَقَرَّ بِمَعْنَى قَرَّ . كَذَلِكَ الْمُتَكَبِّر بِمَعْنَى الْكَبِير . وَلَيْسَ كَمَا يُوصَف بِهِ الْمَخْلُوق إِذَا وُصِفَ بِتَفَعَّلَ إِذَا نُسِبَ إِلَى مَا لَمْ يَكُنْ مِنْهُ .|سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ|ثُمَّ نَزَّهَ نَفْسه فَقَالَ : | سُبْحَان اللَّه عَمَّا يُشْرِكُونَ | أَيْ تَنْزِيهًا لِجَلَالَتِهِ وَعَظَمَته عَمَّا يُشْرِكُونَ | .

هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ

| الْخَالِق | هُنَا الْمُقَدِّر . و | الْبَارِئ | الْمُنْشِئ الْمُخْتَرِع . و | الْمُصَوِّر | مُصَوِّر الصُّوَر وَمُرَكِّبهَا عَلَى هَيْئَات مُخْتَلِفَة . فَالتَّصْوِير مُرَتَّب عَلَى الْخَلْق وَالْبَرَايَة وَتَابِع لَهُمَا . وَمَعْنَى التَّصْوِير التَّخْطِيط وَالتَّشْكِيل . وَخَلَقَ اللَّه الْإِنْسَان فِي أَرْحَام الْأُمَّهَات ثَلَاث خِلَق : جَعَلَهُ عَلَقَة , ثُمَّ مُضْغَة , ثُمَّ جَعَلَهُ صُورَة وَهُوَ التَّشْكِيل الَّذِي يَكُون بِهِ صُورَة وَهَيْئَة يُعْرَف بِهَا وَيَتَمَيَّز عَنْ غَيْره بِسِمَتِهَا . فَتَبَارَكَ اللَّه أَحْسَن الْخَالِقِينَ . وَقَالَ النَّابِغَة : <br>الْخَالِق الْبَارِئ الْمُصَوِّر فِي .......... الْأَرْحَام مَاء حَتَّى يَصِير دَمًا <br>وَقَدْ جَعَلَ بَعْض النَّاس الْخَلْق بِمَعْنَى التَّصْوِير , وَلَيْسَ كَذَلِكَ , وَإِنَّمَا التَّصْوِير آخِرًا وَالتَّقْدِير أَوَّلًا وَالْبَرَايَة بَيْنهمَا . وَمِنْهُ قَوْله الْحَقّ : | وَإِذْ تَخْلُق مِنْ الطِّين كَهَيْئَةِ الطَّيْر | [ الْمَائِدَة : 110 ] . وَقَالَ زُهَيْر : <br>وَلَأَنْتَ تَفْرِي مَا خَلَقْت وَبَعْض .......... الْقَوْم يَخْلُق ثُمَّ لَا يَفْرِي <br>يَقُول : تُقَدِّر مَا تُقَدِّر ثُمَّ تَفْرِيه , أَيْ تُمْضِيه عَلَى وَفْق تَقْدِيرك , وَغَيْرك يُقَدِّر مَا لَا يَتِمّ لَهُ وَلَا يَقَع فِيهِ مُرَاده , إِمَّا لِقُصُورِهِ فِي تَصَوُّر تَقْدِيره أَوْ لِعَجْزِهِ عَنْ تَمَام مُرَاده . وَقَدْ أَتَيْنَا عَلَى هَذَا كُلّه فِي | الْكِتَاب الْأَسْنَى فِي شَرْح أَسْمَاء اللَّه الْحُسْنَى | وَالْحَمْد لِلَّهِ . وَعَنْ حَاطِب بْن أَبِي بَلْتَعَةَ أَنَّهُ قَرَأَ | الْبَارِئ الْمُصَوِّر | بِفَتْحِ الْوَاو وَنَصْب الرَّاء , أَيْ الَّذِي يَبْرَأ الْمُصَوَّر , أَيْ يُمَيِّز مَا يُصَوِّرهُ بِتَفَاوُتِ الْهَيْئَات . ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِي .|لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ|تَقَدَّمَ الْكَلَام فِيهِ . وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : سَأَلْت خَلِيلِي أَبَا الْقَاسِم رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ اِسْم اللَّه الْأَعْظَم فَقَالَ : ( يَا أَبَا هُرَيْرَة , عَلَيْك بِآخِرِ سُورَة الْحَشْر فَأَكْثَر قِرَاءَتهَا ) فَأَعَدْت عَلَيْهِ فَأَعَادَ عَلَيَّ , فَأَعَدْت عَلَيْهِ فَأَعَادَ عَلَيَّ . وَقَالَ جَابِر بْن زَيْد : إِنَّ اِسْم اللَّه الْأَعْظَم هُوَ اللَّه لِمَكَانِ هَذِهِ الْآيَة . وَعَنْ أَنَس بْن مَالِك : أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ قَرَأَ سُورَة الْحَشْر غَفَرَ اللَّه لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبه وَمَا تَأَخَّرَ ) . وَعَنْ أَبِي أُمَامَة قَالَ : قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ قَرَأَ خَوَاتِيم سُورَة الْحَشْر فِي لَيْل أَوْ نَهَار فَقَبَضَهُ اللَّه فِي تِلْكَ اللَّيْلَة أَوْ ذَلِكَ الْيَوْم فَقَدْ أَوْجَبَ اللَّه لَهُ الْجَنَّة ) .


1-الفاتحة 2-البقرة 3-آل-عمران 4-النساء 5-المائدة 6-الأنعام 7-الأعراف 8-الأنفال 9-التوبة 10-يونس 11-هود 12-يوسف 13-الرعد 14-إبراهيم 15-الحجر 16-النحل 17-الإسراء 18-الكهف 19-مريم 20-طه 21-الأنبياء 22-الحج 23-المؤمنون 24-النور 25-الفرقان 26-الشعراء 27-النمل 28-القصص 29-العنكبوت 30-الروم 31-لقمان 32-السجدة 33-الأحزاب 34-سبأ 35-فاطر 36-يس 37-الصافات 38-ص 39-الزمر 40-غافر 41-فصلت 42-الشورى 43-الزخرف 44-الدخان 45-الجاثية 46-الأحقاف 47-محمد 48-الفتح 49-الحجرات 50-ق 51-الذاريات 52-الطور 53-النجم 54-القمر 55-الرحمن 56-الواقعة 57-الحديد 58-المجادلة 59-الحشر 60-الممتحنة 61-الصف 62-الجمعة 63-المنافقون 64-التغابن 65-الطلاق 66-التحريم 67-الملك 68-القلم 69-الحاقة 70-المعارج 71-نوح 72-الجن 73-المزمل 74-المدثر 75-القيامة 76-الإنسان 77-المرسلات 78-النبأ 79-النازعات 80-عبس 81-التكوير 82-الانفطار 83-المطففين 84-الانشقاق 85-البروج 86-الطارق 87-الأعلى 88-الغاشية 89-الفجر 90-البلد 91-الشمس 92-الليل 93-الضحى 94-الشرح 95-التين 96-العلق 97-القدر 98-البينة 99-الزلزلة 100-العاديات 101-القارعة 102-التكاثر 103-العصر 104-الهمزة 105-الفيل 106-قريش 107-الماعون 108-الكوثر 109-الكافرون 110-النصر 111-المسد 112-الإخلاص 113-الفلق 114-الناس