islamkingdomfaceBook islamkingdomtwitter islamkingdominstagram islamkingdomyoutube islamkingdomnew

تفسير القرطبى
16319

6-الأنعام

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ

سُورَة الْأَنْعَام وَهِيَ مَكِّيَّة فِي قَوْل الْأَكْثَرِينَ قَالَ اِبْن عَبَّاس وَقَتَادَة : هِيَ مَكِّيَّة كُلّهَا إِلَّا آيَتَيْنِ مِنْهَا نَزَلَتَا بِالْمَدِينَةِ , قَوْله تَعَالَى : | وَمَا قَدَرُوا اللَّه حَقّ قَدْره | [ الْأَنْعَام : 91 ] نَزَلَتْ فِي مَالِك بْن الصَّيْف وَكَعْب بْن الْأَشْرَف الْيَهُودِيَّيْنِ وَالْأُخْرَى قَوْله : | وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّات مَعْرُوشَات وَغَيْر مَعْرُوشَات | [ الْأَنْعَام : 141 ] نَزَلَتْ فِي ثَابِت بْن قَيْس بْن شَمَّاس الْأَنْصَارِيّ وَقَالَ اِبْن جُرَيْج : نَزَلَتْ فِي مُعَاذ بْن جَبَل وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ سُورَة | الْأَنْعَام | مَكِّيَّة إِلَّا سِتّ آيَات نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ | وَمَا قَدَرُوا اللَّه حَقّ قَدْره | إِلَى آخِر ثَلَاث آيَات و | قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبّكُمْ عَلَيْكُمْ | [ الْأَنْعَام : 151 ] إِلَى آخِر ثَلَاث آيَات قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهِيَ الْآيَات الْمُحْكَمَات وَذَكَر اِبْن الْعَرَبِيّ : أَنَّ قَوْله تَعَالَى : | قُلْ لَا أَجِد | نَزَلَ بِمَكَّة يَوْم عَرَفَة وَسَيَأْتِي الْقَوْل فِي جَمِيع ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّه وَفِي الْخَبَر أَنَّهَا نَزَلَتْ جُمْلَة وَاحِدَة غَيْر السِّتّ الْآيَات وَشَيَّعَهَا سَبْعُونَ أَلْف مَلَك مَعَ آيَة وَاحِدَة مِنْهَا اِثْنَا عَشَر أَلْف مَلَك وَهِيَ | وَعِنْده مَفَاتِح الْغَيْب لَا يَعْلَمهَا إِلَّا هُوَ | [ الْأَنْعَام : 59 ] نَزَلُوا بِهَا لَيْلًا لَهُمْ زَجَل بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيد فَدَعَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكُتَّاب فَكَتَبُوهَا مِنْ لَيْلَتهمْ وَأَسْنَدَ أَبُو جَعْفَر النَّحَّاس قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يَحْيَى حَدَّثَنَا أَبُو حَاتِم رَوْح بْن الْفَرَج مَوْلَى الْحَضَارِمَة قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن مُحَمَّد أَبُو بَكْر الْعُمَرِيّ حَدَّثَنَا اِبْن أَبِي فُدَيْك حَدَّثَنِي عُمَر بْن طَلْحَة بْن عَلْقَمَة بْن وَقَّاص عَنْ نَافِع أَبِي سَهْل بْن مَالِك عَنْ أَنَس بْن مَالِك قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( نَزَلَتْ سُورَة الْأَنْعَام مَعَهَا مَوْكِب مِنْ الْمَلَائِكَة سَدَّ مَا بَيْن الْخَافِقَيْنِ لَهُمْ زَجَل بِالتَّسْبِيحِ ) وَالْأَرْض لَهُمْ تَرْتَجّ وَرَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( سُبْحَان رَبِّيَ الْعَظِيم ) ثَلَاث مَرَّات وَذَكَرَ الدَّارِمِيّ أَبُو مُحَمَّد فِي مُسْنَده عَنْ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : الْأَنْعَام مِنْ نَجَائِب الْقُرْآن . وَفِيهِ عَنْ كَعْب قَالَ : فَاتِحَة | التَّوْرَاة | فَاتِحَة الْأَنْعَام وَخَاتِمَتهَا خَاتِمَة | هُود | . وَقَالَهُ وَهْب بْن مُنَبِّه أَيْضًا وَذَكَر الْمَهْدَوِيّ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ إِنَّ | التَّوْرَاة | اُفْتُتِحَتْ بِقَوْلِهِ : | الْحَمْد لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَات وَالْأَرْض | [ الْأَنْعَام : 1 ] الْآيَة وَخُتِمَتْ بِقَوْلِهِ | الْحَمْد لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيك فِي الْمُلْك | [ الْإِسْرَاء : 111 ] إِلَى آخِر الْآيَة وَذَكَرَ الثَّعْلَبِيّ عَنْ جَابِر عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ( مَنْ قَرَأَ ثَلَاث آيَات مِنْ أَوَّل سُورَة | الْأَنْعَام | إِلَى قَوْله : | وَيَعْلَم مَا تَكْسِبُونَ | [ الْأَنْعَام : 3 ] وَكَّلَ اللَّه بِهِ أَرْبَعِينَ أَلْف مَلَك يَكْتُبُونَ لَهُ مِثْل عِبَادَتهمْ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَيَنْزِل مَلَك مِنْ السَّمَاء السَّابِعَة وَمَعَهُ مِرْزَبَة مِنْ حَدِيد , فَإِذَا أَرَادَ الشَّيْطَان أَنْ يُوَسْوِس لَهُ أَوْ يُوحِي فِي قَلْبه شَيْئًا ضَرَبَهُ ضَرْبَة فَيَكُون بَيْنه وَبَيْنه سَبْعُونَ حِجَابًا فَإِذَا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة قَالَ اللَّه تَعَالَى : | اِمْشِ فِي ظِلِّي يَوْم لَا ظِلّ إِلَّا ظِلِّي وَكُلْ مِنْ ثِمَار جَنَّتِي وَاشْرَبْ مِنْ مَاء الْكَوْثَر وَاغْتَسِلْ مِنْ مَاء السَّلْسَبِيل فَأَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبّك | . وَفِي الْبُخَارِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : إِذَا سَرَّك أَنْ تَعْلَم جَهْل الْعَرَب فَاقْرَأْ مَا فَوْق الثَّلَاثِينَ وَمِائَة مِنْ سُورَة | الْأَنْعَام | | قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادهمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْم | إِلَى قَوْله : | وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ | [ الْأَنْعَام : 140 ] . تَنْبِيه : قَالَ الْعُلَمَاء : هَذِهِ السُّورَة أَصْل فِي مُحَاجَّة الْمُشْرِكِينَ وَغَيْرهمْ مِنْ الْمُبْتَدِعِينَ وَمَنْ كَذَّبَ بِالْبَعْثِ وَالنُّشُور وَهَذَا يَقْتَضِي إِنْزَالهَا جُمْلَة وَاحِدَة لِأَنَّهَا فِي مَعْنًى وَاحِد مِنْ الْحُجَّة وَإِنْ تَصَرَّفَ ذَلِكَ بِوُجُوهٍ كَثِيرَة وَعَلَيْهَا بَنَى الْمُتَكَلِّمُونَ أُصُول الدِّين لِأَنَّ فِيهَا آيَات بَيِّنَات تَرُدّ عَلَى الْقَدَرِيَّة دُون السُّوَر الَّتِي تَذْكُر وَالْمَذْكُورَات وَسَنَزِيدُ ذَلِكَ بَيَانًا إِنْ شَاءَ اللَّه بِحَوْلِ اللَّه تَعَالَى وَعَوْنه .</p><p>| الْحَمْد لِلَّهِ | بَدَأَ سُبْحَانه فَاتِحَتهَا بِالْحَمْدِ عَلَى نَفْسه وَإِثْبَات الْأُلُوهِيَّة أَيْ أَنَّ الْحَمْد كُلّه لَهُ فَلَا شَرِيك لَهُ فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ اُفْتُتِحَ غَيْرهَا بِالْحَمْدِ لِلَّهِ فَكَانَ الِاجْتِزَاء بِوَاحِدَةٍ يُغْنِي عَنْ سَائِره فَيُقَال : لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدَة مِنْهُ مَعْنًى فِي مَوْضِعه لَا يُؤَدِّي عَنْهُ غَيْره مِنْ أَجْل عَقْده بِالنِّعَمِ الْمُخْتَلِفَة وَأَيْضًا فَلِمَا فِيهِ مِنْ الْحُجَّة فِي هَذَا الْمَوْضِع عَلَى الَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ</p><p>الْحَمْد فِي كَلَام الْعَرَب مَعْنَاهُ الثَّنَاء الْكَامِل ; وَالْأَلِف وَاللَّام لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْس مِنْ الْمَحَامِد ; فَهُوَ سُبْحَانه يَسْتَحِقّ الْحَمْد بِأَجْمَعِهِ إِذْ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى وَالصِّفَات الْعُلَا ; وَقَدْ جُمِعَ لَفْظ الْحَمْد جَمْع الْقِلَّة فِي قَوْل الشَّاعِر : <br>وَأُبْلِجَ مَحْمُود الثَّنَاء خَصَصْته .......... بِأَفْضَل أَقْوَالِي وَأَفْضَل أَحْمُدِي <br>فَالْحَمْد نَقِيض الذَّمّ , تَقُول : حَمِدْت الرَّجُل أَحْمَدهُ حَمْدًا فَهُوَ حَمِيد وَمَحْمُود ; وَالتَّحْمِيد أَبْلَغ مِنْ الْحَمْد . وَالْحَمْد أَعَمّ مِنْ الشُّكْر , وَالْمُحَمَّد : الَّذِي كَثُرَتْ خِصَاله الْمَحْمُودَة . قَالَ الشَّاعِر : <br>إِلَى الْمَاجِد الْقَرْم الْجَوَاد الْمُحَمَّد <br>وَبِذَلِكَ سُمِّيَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَالَ الشَّاعِر : <br>فَشَقَّ لَهُ مِنْ اِسْمه لِيُجِلّهُ .......... فَذُو الْعَرْش مَحْمُود وَهَذَا مُحَمَّد <br>وَالْمَحْمَدَة : خِلَاف الْمَذَمَّة . وَأُحْمِدَ الرَّجُل : صَارَ أَمْره إِلَى الْحَمْد . وَأَحْمَدْته : وَجَدْته مَحْمُودًا , تَقُول : أَتَيْت مَوْضِع كَذَا فَأَحْمَدْته ; أَيْ صَادَفْته مَحْمُودًا مُوَافِقًا , وَذَلِكَ إِذَا رَضِيت سُكْنَاهُ أَوْ مَرْعَاهُ . وَرَجُل حُمَدَة - مِثْل هُمَزَة - يُكْثِر حَمْد الْأَشْيَاء وَيَقُول فِيهَا أَكْثَر مِمَّا فِيهَا . وَحَمَدَة النَّار - بِالتَّحْرِيكِ - : صَوْت اِلْتِهَابهَا .</p><p>ذَهَبَ أَبُو جَعْفَر الطَّبَرِيّ وَأَبُو الْعَبَّاس الْمُبَرِّد إِلَى أَنَّ الْحَمْد وَالشُّكْر بِمَعْنًى وَاحِد سَوَاء , وَلَيْسَ بِمَرْضِيٍّ . وَحَكَاهُ أَبُو عَبْد الرَّحْمَن السُّلَمِيّ فِي كِتَاب | الْحَقَائِق | لَهُ عَنْ جَعْفَر الصَّادِق وَابْن عَطَاء . قَالَ اِبْن عَطَاء : مَعْنَاهُ الشُّكْر لِلَّهِ ; إِذْ كَانَ مِنْهُ الِامْتِنَان عَلَى تَعْلِيمنَا إِيَّاهُ حَتَّى حَمِدْنَاهُ . وَاسْتَدَلَّ الطَّبَرِيّ عَلَى أَنَّهُمَا بِمَعْنًى بِصِحَّة قَوْلك : الْحَمْد لِلَّهِ شُكْرًا . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهُوَ فِي الْحَقِيقَة دَلِيل عَلَى خِلَاف مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ ; لِأَنَّ قَوْلك شُكْرًا , إِنَّمَا خَصَصْت بِهِ الْحَمْد ; لِأَنَّهُ عَلَى نِعْمَة مِنْ النِّعَم . وَقَالَ بَعْض الْعُلَمَاء : إِنَّ الشُّكْر أَعَمّ مِنْ الْحَمْد ; لِأَنَّهُ بِاللِّسَانِ وَبِالْجَوَارِحِ وَالْقَلْب ; وَالْحَمْد إِنَّمَا يَكُون بِاللِّسَانِ خَاصَّة . وَقِيلَ : الْحَمْد أَعَمّ ; لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الشُّكْر وَمَعْنَى الْمَدْح , وَهُوَ أَعَمّ مِنْ الشُّكْر ; لِأَنَّ الْحَمْد يُوضَع مَوْضِع الشُّكْر وَلَا يُوضَع الشُّكْر مَوْضِع الْحَمْد . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ قَالَ : الْحَمْد لِلَّهِ كَلِمَة كُلّ شَاكِر , وَإِنَّ آدَم عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ حِين عَطَسَ : الْحَمْد لِلَّهِ . وَقَالَ اللَّه لِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَام : | فَقُلْ الْحَمْد لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنْ الْقَوْم الظَّالِمِينَ | [ الْمُؤْمِنُونَ : 28 ] وَقَالَ إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام : | الْحَمْد لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَر إِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق | [ إِبْرَاهِيم : 3 ] . وَقَالَ فِي قِصَّة دَاوُد وَسُلَيْمَان : | وَقَالَا الْحَمْد لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِير مِنْ عِبَاده الْمُؤْمِنِينَ | [ النَّمْل : 15 ] . وَقَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : | وَقُلْ الْحَمْد لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذ وَلَدًا | [ الْإِسْرَاء : 111 ] . وَقَالَ أَهْل الْجَنَّة : | الْحَمْد لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَن | [ فَاطِر : 34 ] . | وَآخِر دَعْوَاهُمْ أَنْ الْحَمْد لِلَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ | [ يُونُس : 10 ] . فَهِيَ كَلِمَة كُلّ شَاكِر .</p><p>قُلْت : الصَّحِيح أَنَّ الْحَمْد ثَنَاء عَلَى الْمَمْدُوح بِصِفَاتِهِ مِنْ غَيْر سَبْق إِحْسَان , وَالشُّكْر ثَنَاء عَلَى الْمَشْكُور بِمَا أَوْلَى مِنْ الْإِحْسَان . وَعَلَى هَذَا الْحَدّ قَالَ عُلَمَاؤُنَا : الْحَمْد أَعَمّ مِنْ الشُّكْر ; لِأَنَّ الْحَمْد يَقَع عَلَى الثَّنَاء وَعَلَى التَّحْمِيد وَعَلَى الشُّكْر ; وَالْجَزَاء مَخْصُوص إِنَّمَا يَكُون مُكَافَأَة لِمَنْ أَوْلَاك مَعْرُوفًا ; فَصَارَ الْحَمْد أَعَمّ فِي الْآيَة لِأَنَّهُ يَزِيد عَلَى الشُّكْر . وَيُذْكَر الْحَمْد بِمَعْنَى الرِّضَا ; يُقَال : بَلَوْته فَحَمِدْته , أَيْ رَضِيته . وَمِنْهُ قَوْل تَعَالَى : | مَقَامًا مَحْمُودًا | [ الْإِسْرَاء : 79 ] . وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام : ( أَحْمَد إِلَيْكُمْ غَسْل الْإِحْلِيل ) أَيْ أَرْضَاهُ لَكُمْ . وَيُذْكَر عَنْ جَعْفَر الصَّادِق فِي قَوْله | الْحَمْد لِلَّهِ | : مَنْ حَمِدَهُ بِصِفَاتِهِ كَمَا وَصَفَ نَفْسه فَقَدْ حَمِدَ ; لِأَنَّ الْحَمْد حَاء وَمِيم وَدَال ; فَالْحَاء مِنْ الْوَحْدَانِيَّة , وَالْمِيم مِنْ الْمُلْك , وَالدَّال مِنْ الدَّيْمُومِيَّة ; فَمَنْ عَرَفَهُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَالدَّيْمُومِيَّة وَالْمُلْك فَقَدْ عَرَفَهُ , وَهَذَا هُوَ حَقِيقَة الْحَمْد لِلَّهِ . وَقَالَ شَقِيق بْن إِبْرَاهِيم فِي تَفْسِير | الْحَمْد لِلَّهِ | قَالَ : هُوَ عَلَى ثَلَاثَة أَوْجُه : أَوَّلهَا إِذَا أَعْطَاك اللَّه شَيْئًا تَعْرِف مَنْ أَعْطَاك . وَالثَّانِي أَنْ تَرْضَى بِمَا أَعْطَاكَ . وَالثَّالِث مَا دَامَتْ قُوَّته فِي جَسَدك أَلَّا تَعْصِيه ; فَهَذِهِ شَرَائِط الْحَمْد . أَثْنَى اللَّه سُبْحَانه بِالْحَمْدِ عَلَى نَفْسه , وَافْتَتَحَ كِتَابه بِحَمْدِهِ , وَلَمْ يَأْذَن فِي ذَلِكَ لِغَيْرِهِ ; بَلْ نَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ فِي كِتَابه وَعَلَى لِسَان نَبِيّه عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ : | فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسكُمْ هُوَ أَعْلَم بِمَنْ اِتَّقَى | [ النَّجْم : 32 ] . وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام : ( اُحْثُوا فِي وُجُوه الْمَدَّاحِينَ التُّرَاب ) رَوَاهُ الْمِقْدَاد .|الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ|أَخْبَرَ عَنْ قُدْرَته وَعِلْمه وَإِرَادَته فَقَالَ : الَّذِي خَلَقَ أَيْ اِخْتَرَعَ وَأَوْجَدَ وَأَنْشَأَ وَابْتَدَعَ وَالْخَلْق يَكُون بِمَعْنَى الِاخْتِرَاع وَيَكُون بِمَعْنَى التَّقْدِير , وَقَدْ تَقَدَّمَ وَكِلَاهُمَا مُرَاد هُنَا وَذَلِكَ دَلِيل عَلَى حُدُوثهمَا فَرَفَعَ السَّمَاء بِغَيْرِ عَمَد وَجَعَلَهَا مُسْتَوِيَة مِنْ غَيْر أَوَد وَجَعَلَ فِيهَا الشَّمْس وَالْقَمَر آيَتَيْنِ وَزَيَّنَهَا بِالنُّجُومِ وَأَوْدَعَهَا السَّحَاب وَالْغُيُوم عَلَامَتَيْنِ وَبَسَطَ الْأَرْض وَأَوْدَعَهَا الْأَرْزَاق وَالنَّبَات وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلّ دَابَّة آيَات جَعَلَ فِيهَا الْجِبَال أَوْتَادًا وَسُبُلًا فِجَاجًا وَأَجْرَى فِيهَا الْأَنْهَار وَالْبِحَار وَفَجَّرَ فِيهَا الْعُيُون مِنْ الْأَحْجَار دَلَالَات عَلَى وَحْدَانِيّته , وَعَظِيم قُدْرَته وَأَنَّهُ هُوَ اللَّه الْوَاحِد الْقَهَّار وَبَيَّنَ بِخَلْقِهِ السَّمَوَات وَالْأَرْض أَنَّهُ خَالِق كُلّ شَيْء .</p><p>خَرَّجَ مُسْلِم قَالَ : حَدَّثَنِي سُرَيْج بْن يُونُس وَهَارُون بْن عَبْد اللَّه قَالَا حَدَّثَنَا حَجَّاج بْن مُحَمَّد قَالَ قَالَ اِبْن جُرَيْج أَخْبَرَنِي إِسْمَاعِيل بْن أُمَيَّة عَنْ أَيُّوب بْن خَالِد عَنْ عَبْد اللَّه بْن رَافِع مَوْلَى أُمّ سَلَمَة عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : أَخَذَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدَيْ فَقَالَ : ( خَلَقَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ التُّرْبَة يَوْم السَّبْت وَخَلَقَ فِيهَا الْجِبَال يَوْم الْأَحَد وَخَلَقَ الشَّجَر يَوْم الِاثْنَيْنِ وَخَلَقَ الْمَكْرُوه يَوْم الثُّلَاثَاء وَخَلَقَ النُّور يَوْم الْأَرْبِعَاء وَبَثَّ فِيهَا الدَّوَابّ يَوْم الْخَمِيس وَخَلَقَ آدَم عَلَيْهِ السَّلَام بَعْد الْعَصْر مِنْ يَوْم الْجُمُعَة فِي آخِر الْخَلْق فِي آخِر سَاعَة مِنْ سَاعَات الْجُمُعَة فِيمَا بَيْن الْعَصْر إِلَى اللَّيْل ) . قُلْت : أَدْخَلَ الْعُلَمَاء هَذَا الْحَدِيث تَفْسِيرًا لِفَاتِحَةِ هَذِهِ السُّورَة ; قَالَ الْبَيْهَقِيّ : وَزَعَمَ أَهْل الْعِلْم بِالْحَدِيثِ أَنَّهُ غَيْر مَحْفُوظ لِمُخَالَفَةِ مَا عَلَيْهِ أَهْل التَّفْسِير وَأَهْل التَّوَارِيخ . وَزَعَمَ بَعْضهمْ أَنَّ إِسْمَاعِيل بْن أُمَيَّة إِنَّمَا أَخَذَهُ عَنْ إِبْرَاهِيم بْن أَبِي يَحْيَى عَنْ أَيُّوب بْن خَالِد وَإِبْرَاهِيم غَيْر مُحْتَجّ بِهِ وَذَكَرَ مُحَمَّد بْن يَحْيَى قَالَ : سَأَلْت عَلِيّ بْن الْمَدِينِيّ عَنْ حَدِيث أَبَى هُرَيْرَة ( خَلَقَ اللَّه التُّرْبَة يَوْم السَّبْت ) . فَقَالَ عَلِيّ : هَذَا حَدِيث مَدَنِيّ رَوَاهُ هِشَام بْن يُوسُف عَنْ اِبْن جُرَيْج عَنْ إِسْمَاعِيل بْن أُمَيَّة عَنْ أَيُّوب بْن خَالِد عَنْ أَبِي رَافِع مَوْلَى أُمّ سَلَمَة عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : أَخَذَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدَيْ قَالَ عَلِيّ : وَشَبَّكَ بِيَدِي إِبْرَاهِيم بْن أَبِي يَحْيَى فَقَالَ لِي : شَبَّكَ بِيَدِي أَيُّوب بْن خَالِد وَقَالَ لِي شَبَّكَ بِيَدِي عَبْد اللَّه بْن رَافِع وَقَالَ لِي : شَبَّكَ بِيَدِي أَبُو هُرَيْرَة وَقَالَ لِي : شَبَّكَ بِيَدِي أَبُو الْقَاسِم رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : ( خَلَقَ اللَّه الْأَرْض يَوْم السَّبْت ) فَذَكَرَ الْحَدِيث بِنَحْوِهِ . قَالَ عَلِيّ بْن الْمَدِينِيّ : وَمَا أَرَى إِسْمَاعِيل بْن أُمَيَّة أَخَذَ هَذَا الْأَمْر إِلَّا مِنْ إِبْرَاهِيم بْن أَبِي يَحْيَى قَالَ الْبَيْهَقِيّ : وَقَدْ تَابَعَهُ عَلَى ذَلِكَ مُوسَى بْن عُبَيْدَة الرَّبَذِيّ عَنْ أَيُّوب بْن خَالِد إِلَّا أَنَّ مُوسَى بْن عُبَيْدَة ضَعِيف . وَرُوِيَ عَنْ بَكْر بْن الشَّرُود عَنْ إِبْرَاهِيم بْن أَبِي يَحْيَى عَنْ صَفْوَان بْن سُلَيْم عَنْ أَيُّوب بْن خَالِد وَإِسْنَاده ضَعِيف عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِنَّ فِي الْجُمُعَة سَاعَة لَا يُوَافِقهَا أَحَد يَسْأَل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فِيهَا شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ ) قَالَ فَقَالَ عَبْد اللَّه بْن سَلَّام : إِنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ اِبْتَدَأَ الْخَلْق فَخَلَقَ الْأَرْض يَوْم الْأَحَد وَيَوْم الِاثْنَيْنِ وَخَلَقَ السَّمَوَات يَوْم الثُّلَاثَاء وَيَوْم الْأَرْبِعَاء وَخَلَقَ الْأَقْوَات وَمَا فِي الْأَرْض يَوْم الْخَمِيس وَيَوْم الْجُمُعَة إِلَى صَلَاة الْعَصْر وَمَا بَيْن صَلَاة الْعَصْر إِلَى أَنْ تَغْرُب الشَّمْس خَلَقَ آدَم خَرَّجَهُ الْبَيْهَقِيّ قُلْت : وَفِيهِ أَنَّ اللَّه تَعَالَى بَدَأَ الْخَلْق يَوْم الْأَحَد لَا يَوْم السَّبْت . وَكَذَلِكَ تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَة عَنْ اِبْن مَسْعُود وَغَيْره مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَقَدَّمَ فِيهَا الِاخْتِلَاف أَيّمَا خُلِقَ أَوَّلًا الْأَرْض أَوْ السَّمَاء مُسْتَوْفًى وَالْحَمْد لِلَّهِ .|وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ|ذَكَرَ بَعْد خَلْق الْجَوَاهِر خَلْق الْأَعْرَاض لِكَوْنِ الْجَوْهَر لَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ وَمَا لَا يُسْتَغْنَى عَنْ الْحَوَادِث فَهُوَ حَادِث . وَالْجَوْهَر فِي اِصْطِلَاح الْمُتَكَلِّمِينَ هُوَ الْجُزْء الَّذِي لَا يَتَجَزَّأ الْحَامِل لِلْعَرَضِ وَقَدْ أَتَيْنَا عَلَى ذِكْره فِي الْكِتَاب الْأَسْنَى فِي شَرْح أَسْمَاء اللَّه الْحُسْنَى فِي اِسْمه | الْوَاحِد | وَسُمِّيَ الْعَرَض عَرَضًا لِأَنَّهُ يَعْرِض فِي الْجِسْم وَالْجَوْهَر فَيَتَغَيَّر بِهِ مِنْ حَال إِلَى حَال وَالْجِسْم هُوَ الْمُجْتَمَع وَأَقَلّ مَا يَقَع عَلَيْهِ اِسْم الْجِسْم جَوْهَرَانِ مُجْتَمِعَانِ وَهَذِهِ الِاصْطِلَاحَات وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَة فِي الصَّدْر الْأَوَّل فَقَدْ دَلَّ عَلَيْهَا مَعْنَى الْكِتَاب وَالسُّنَّة فَلَا مَعْنَى لِإِنْكَارِهَا وَقَدْ اِسْتَعْمَلَهَا الْعُلَمَاء وَاصْطَلَحُوا عَلَيْهَا وَبَنَوْا عَلَيْهَا كَلَامهمْ وَقَتَلُوا بِهَا خُصُومهمْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَة</p><p>وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْمَعْنَى الْمُرَاد بِالظُّلُمَاتِ وَالنُّور فَقَالَ السُّدِّيّ وَقَتَادَة وَجُمْهُور الْمُفَسِّرِينَ : الْمُرَاد سَوَاد اللَّيْل وَضِيَاء النَّهَار وَقَالَ الْحَسَن الْكُفْر وَالْإِيمَان قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا خُرُوج عَنْ الظَّاهِر قُلْت : اللَّفْظ يَعُمّهُ وَفِي التَّنْزِيل : | أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاس كَمَنْ مَثَله فِي الظُّلُمَات | [ الْأَنْعَام : 122 ] . وَالْأَرْض هُنَا اِسْم لِلْجِنْسِ فَإِفْرَادهَا فِي اللَّفْظ بِمَنْزِلَةِ جَمْعهَا وَكَذَلِكَ | وَالنُّور | وَمِثْله | ثُمَّ يُخْرِجكُمْ طِفْلًا | [ غَافِر : 67 ] وَقَالَ الشَّاعِر : <br>كُلُوا فِي بَعْض بَطْنكُمْ تَعِفُّوا <br>وَقَدْ تَقَدَّمَ وَجَعَلَ هُنَا بِمَعْنَى خَلَقَ لَا يَجُوز غَيْره قَالَهُ اِبْن عَطِيَّة . قُلْت : وَعَلَيْهِ يَتَّفِق اللَّفْظ وَالْمَعْنَى فِي النَّسَق فَيَكُون الْجَمْع مَعْطُوفًا عَلَى الْجَمْع وَالْمُفْرَد مَعْطُوفًا عَلَى الْمُفْرَد فَيَتَجَانَس اللَّفْظ وَتَظْهَر الْفَصَاحَة وَاَللَّه أَعْلَم وَقِيلَ : جَمَعَ | الظُّلُمَات | وَوَحَّدَ | النُّور | لِأَنَّ الظُّلُمَات لَا تَتَعَدَّى وَالنُّور يَتَعَدَّى وَحَكَى الثَّعْلَبِيّ أَنَّ بَعْض أَهْل الْمَعَانِي قَالَ : | جَعَلَ | هُنَا زَائِدَة وَالْعَرَب تَزِيد | جَعَلَ | فِي الْكَلَام كَقَوْلِ الشَّاعِر : <br>وَقَدْ جَعَلْت أَرَى الِاثْنَيْنِ أَرْبَعَة .......... وَالْوَاحِد اِثْنَيْنِ لَمَّا هَدَّنِي الْكِبَر <br>قَالَ النَّحَّاس : جَعَلَ بِمَعْنَى خَلَقَ وَإِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى خَلَقَ لَمْ تَتَعَدَّ إِلَّا إِلَى مَفْعُول وَاحِد . وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى وَمُحَامِل جَعَلَ فِي | الْبَقَرَة | مُسْتَوْفًى .|ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ|اِبْتِدَاء وَخَبَر وَالْمَعْنَى : ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَجْعَلُونَ لِلَّهِ عَدْلًا وَشَرِيكًا وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ هَذِهِ الْأَشْيَاء وَحْده قَالَ اِبْن عَطِيَّة : ف | ثُمَّ | دَالَّة عَلَى قُبْح فِعْل الْكَافِرِينَ لِأَنَّ الْمَعْنَى : أَنَّ خَلْقه السَّمَوَات وَالْأَرْض قَدْ تَقَرَّرَ وَآيَاته قَدْ سَطَعَتْ وَإِنْعَامه بِذَلِكَ قَدْ تَبَيَّنَ ثُمَّ بَعْد ذَلِكَ كُلّه عَدَلُوا بِرَبِّهِمْ فَهَذَا كَمَا تَقُول : يَا فُلَان أَعْطَيْتُك وَأَكْرَمْتُك وَأَحْسَنْت إِلَيْك ثُمَّ تَشْتُمنِي وَلَوْ وَقَعَ الْعَطْف بِالْوَاوِ فِي هَذَا وَنَحْوه لَمْ يَلْزَم التَّوْبِيخ كَلُزُومِهِ بِثُمَّ وَاَللَّه أَعْلَم .

هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ

الْآيَة خَبَر وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلَانِ : أَحَدهمَا : وَهُوَ الْأَشْهَر وَعَلَيْهِ مِنْ الْخَلْق الْأَكْثَر أَنَّ الْمُرَاد آدَم عَلَيْهِ السَّلَام وَالْخَلْق نَسْله وَالْفَرْع يُضَاف إِلَى أَصْله فَلِذَلِكَ قَالَ : | خَلَقَكُمْ | بِالْجَمْعِ فَأَخْرَجَهُ مَخْرَج الْخِطَاب لَهُمْ إِذْ كَانُوا وَلَده ; هَذَا قَوْل الْحَسَن وَقَتَادَة وَابْن أَبِي نَجِيح وَالسُّدِّيّ وَالضَّحَّاك وَابْن زَيْد وَغَيْرهمْ الثَّانِي : أَنْ تَكُون النُّطْفَة خَلَقَهَا اللَّه مِنْ طِين عَلَى الْحَقِيقَة ثُمَّ قَلَبَهَا حَتَّى كَانَ الْإِنْسَان مِنْهَا ذَكَرَهُ النَّحَّاس قُلْت : وَبِالْجُمْلَةِ فَلَمَّا ذَكَرَ جَلَّ وَعَزَّ خَلْق الْعَالَم الْكَبِير ذَكَرَ بَعْده خَلْق الْعَالَم الصَّغِير وَهُوَ الْإِنْسَان وَجَعَلَ فِيهِ مَا فِي الْعَالَم الْكَبِير عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي | الْبَقَرَة | فِي آيَة التَّوْحِيد وَاَللَّه أَعْلَم وَالْحَمْد لِلَّهِ وَقَدْ رَوَى أَبُو نُعَيْم الْحَافِظ فِي كِتَابه عَنْ مُرَّة عَنْ اِبْن مَسْعُود أَنَّ الْمَلَك الْمُوَكَّل بِالرَّحِمِ يَأْخُذ النُّطْفَة فَيَضَعهَا عَلَى كَفّه ثُمَّ يَقُول : يَا رَبّ مُخَلَّقَة أَوْ غَيْر مُخَلَّقَة ؟ فَإِنْ قَالَ مُخَلَّقَة قَالَ : يَا رَبّ مَا الرِّزْق مَا الْأَثَر مَا الْأَجَل ؟ فَيَقُول : اُنْظُرْ فِي أُمّ الْكِتَاب فَيَنْظُر فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ فَيَجِد فِيهِ رِزْقه وَأَثَره وَأَجَله وَعَمَله وَيَأْخُذ التُّرَاب الَّذِي يُدْفَن فِي بُقْعَته وَيَعْجِن بِهِ نُطْفَته فَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : | مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدكُمْ | [ طَه : 55 ] . وَخَرَّجَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : | مَا مِنْ مَوْلُود إِلَّا وَقَدْ ذُرَّ عَلَيْهِ مِنْ تُرَاب حُفْرَته | . قُلْت : وَعَلَى هَذَا يَكُون كُلّ إِنْسَان مَخْلُوقًا مِنْ طِين وَمَاء مَهِين كَمَا أَخْبَرَ جَلَّ وَعَزَّ فِي سُورَة | الْمُؤْمِنُونَ | فَتَنْتَظِم الْآيَات وَالْأَحَادِيث وَيَرْتَفِع الْإِشْكَال وَالتَّعَارُض وَاَللَّه أَعْلَم وَأَمَّا الْإِخْبَار عَنْ خَلْق آدَم عَلَيْهِ السَّلَام فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي [ الْبَقَرَة ] ذَكَرَهُ وَاشْتِقَاقه وَنَزِيد هُنَا طَرَفًا مِنْ ذَلِكَ وَنَعْته وَسِنّه وَوَفَاته ذَكَرَ اِبْن سَعْد فِي | الطَّبَقَات | عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( النَّاس وَلَد آدَم وَآدَم مِنْ التُّرَاب ) وَعَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر قَالَ : خَلَقَ اللَّه آدَم عَلَيْهِ السَّلَام مِنْ أَرْض يُقَال لَهَا دَجْنَاء قَالَ الْحَسَن : وَخَلَقَ جُؤْجُؤَهُ مِنْ ضَرِيَّة قَالَ الْجَوْهَرِيّ : ضَرِيَّة قَرْيَة لِبَنِي كِلَاب عَلَى طَرِيق الْبَصْرَة وَهِيَ إِلَى مَكَّة أَقْرَب وَعَنْ اِبْن مَسْعُود قَالَ : إِنَّ اللَّه تَعَالَى بَعَثَ إِبْلِيس فَأَخَذَ مِنْ أَدِيم الْأَرْض مِنْ عَذْبهَا وَمَالِحهَا فَخَلَقَ مِنْهُ آدَم عَلَيْهِ السَّلَام فَكُلّ شَيْء خَلَقَهُ مِنْ عَذْبهَا فَهُوَ صَائِر إِلَى الْجَنَّة وَإِنْ كَانَ اِبْن كَافِر وَكُلّ شَيْء خَلَقَهُ مِنْ مَالِحهَا فَهُوَ صَائِر إِلَى النَّار وَإِنْ كَانَ اِبْن تَقِيّ فَمِنْ ثَمَّ قَالَ إِبْلِيس | أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْت طِينًا | [ الْإِسْرَاء : 61 ] لِأَنَّهُ جَاءَ بِالطِّينَةِ فَسُمِّيَ آدَم ; لِأَنَّهُ خُلِقَ مِنْ أَدِيم الْأَرْض وَعَنْ عَبْد اللَّه بْن سَلَّام قَالَ خَلَقَ اللَّه آدَم فِي آخِر يَوْم الْجُمُعَة وَعَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ لَمَّا خَلَقَ اللَّه آدَم كَانَ رَأْسه يَمَسّ السَّمَاء قَالَ فَوَطَّدَهُ إِلَى الْأَرْض حَتَّى صَارَ سِتِّينَ ذِرَاعًا فِي سَبْعَة أَذْرُع عَرْضًا وَعَنْ أُبَيّ بْن كَعْب قَالَ : كَانَ آدَم عَلَيْهِ السَّلَام طُوَالًا جَعْدًا كَأَنَّهُ نَخْلَة سَحُوق وَعَنْ اِبْن عَبَّاس فِي حَدِيث فِيهِ طُول وَحَجّ آدَم عَلَيْهِ السَّلَام مِنْ الْهِنْد إِلَى مَكَّة أَرْبَعِينَ حَجَّة عَلَى رِجْلَيْهِ وَكَانَ آدَم حِين أُهْبِطَ تَمْسَح رَأْسه السَّمَاء فَمِنْ ثَمَّ صَلِعَ وَأَوْرَثَ وَلَده الصَّلَع وَنَفَرَتْ مِنْ طُوله دَوَابّ الْبَرّ فَصَارَتْ وَحْشًا مِنْ يَوْمئِذٍ وَلَمْ يَمُتْ حَتَّى بَلَغَ وَلَده وَوَلَد وَلَده أَرْبَعِينَ أَلْفًا وَتُوُفِّيَ عَلَى ذِرْوَة الْجَبَل الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ فَقَالَ شِيث لِجِبْرِيل عَلَيْهِمَا السَّلَام : | صَلِّ عَلَى آدَم | فَقَالَ لَهُ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام : تَقَدَّمْ أَنْتَ فَصَلِّ عَلَى أَبِيك وَكَبِّرْ عَلَيْهِ ثَلَاثِينَ تَكْبِيرَة فَأَمَّا خَمْس فَهِيَ الصَّلَاة وَخَمْس وَعِشْرُونَ تَفْضِيلًا لِآدَم . وَقِيلَ : كَبِّرْ عَلَيْهِ أَرْبَعًا فَجَعَلَ بَنُو شِيث آدَم فِي مَغَارَة وَجَعَلُوا عَلَيْهَا حَافِظًا لَا يَقْرَبهُ أَحَد مِنْ بَنِي قَابِيل وَكَانَ الَّذِينَ يَأْتُونَهُ وَيَسْتَغْفِرُونَ لَهُ بَنُو شِيث وَكَانَ عُمْر آدَم تِسْعمِائَةِ سَنَة وَسِتًّا وَثَلَاثِينَ سَنَة . وَيُقَال : هَلْ فِي الْآيَة دَلِيل عَلَى أَنَّ الْجَوَاهِر مِنْ جِنْس وَاحِد ؟ الْجَوَاب نَعَمْ لِأَنَّهُ إِذَا جَازَ أَنْ يَنْقَلِب الطِّين إِنْسَانًا حَيًّا قَادِرًا عَلِيمًا جَازَ أَنْ يَنْقَلِب إِلَى كُلّ حَال مِنْ أَحْوَاله الْجَوَاهِر لِتَسْوِيَةِ الْعَقْل بَيْن ذَلِكَ فِي الْحُكْم وَقَدْ صَحَّ اِنْقِلَاب الْجَمَاد إِلَى الْحَيَوَان بِدَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَة .|ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ|قَوْله تَعَالَى : | ثُمَّ قَضَى أَجَلًا | مَفْعُول . | وَأَجَل مُسَمًّى عِنْده | اِبْتِدَاء وَخَبَر قَالَ الضَّحَّاك : | أَجَلًا | فِي الْمَوْت | وَأَجَل مُسَمًّى عِنْده | أَجَل الْقِيَامَة فَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا : حَكَمَ أَجَلًا وَأَعْلَمَكُمْ أَنَّكُمْ تُقِيمُونَ إِلَى الْمَوْت وَلَمْ يُعْلِمكُمْ بِأَجَلِ الْقِيَامَة . وَقَالَ الْحَسَن وَمُجَاهِد وَعِكْرِمَة وَخَصِيف وَقَتَادَة وَهَذَا لَفْظ الْحَسَن : قَضَى أَجَل الدُّنْيَا مِنْ يَوْم خَلَقَك إِلَى أَنْ تَمُوت | وَأَجَل مُسَمًّى عِنْده | يَعْنِي الْآخِرَة . وَقِيلَ : | قَضَى أَجَلًا | مَا أَعْلَمْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْد مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( وَأَجَل مُسَمًّى ) مِنْ الْآخِرَة وَقِيلَ : | قَضَى أَجَلًا | مِمَّا نَعْرِفهُ مِنْ أَوْقَات الْأَهِلَّة وَالزَّرْع وَمَا أَشْبَهَهُمَا | وَأَجَل مُسَمًّى | أَجَل الْمَوْت لَا يَعْلَم الْإِنْسَان مَتَى يَمُوت وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَمُجَاهِد : مَعْنَى الْآيَة | قَضَى أَجَلًا | بِقَضَاءِ الدُّنْيَا , | وَأَجَل مُسَمًّى عِنْده | لِابْتِدَاءِ الْآخِرَة . وَقِيلَ : الْأَوَّل قَبْض الْأَرْوَاح فِي النَّوْم وَالثَّانِي قَبْض الرُّوح عِنْد الْمَوْت عَنْ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا .|ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ|اِبْتِدَاء وَخَبَر أَيْ تَشُكُّونَ فِي أَنَّهُ إِلَه وَاحِد وَقِيلَ : تُمَارُونَ فِي ذَلِكَ أَيْ تُجَادِلُونَ جِدَال الشَّاكِّينَ وَالتَّمَارِي الْمُجَادَلَة عَلَى مَذْهَب الشَّكّ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : | أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى | [ النَّجْم : 12 ] .

وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ

يُقَال مَا عَامِل الْإِعْرَاب فِي الظَّرْف مِنْ | فِي السَّمَوَات وَفِي الْأَرْض | ؟ فَفِيهِ أَجْوِبَة : أَحَدهَا : أَيْ وَهُوَ اللَّه الْمُعَظَّم أَوْ الْمَعْبُود فِي السَّمَوَات وَفِي الْأَرْض ; كَمَا تَقُول : زَيْد الْخَلِيفَة فِي الشَّرْق وَالْغَرْب أَيْ حُكْمه وَيَجُوز أَنْ يَكُون الْمَعْنَى وَهُوَ اللَّه الْمُنْفَرِد بِالتَّدْبِيرِ فِي السَّمَوَات وَفِي الْأَرْض ; كَمَا تَقُول : هُوَ فِي حَاجَات النَّاس وَفِي الصَّلَاة وَيَجُوز أَنْ يَكُون خَبَرًا بَعْد خَبَر وَيَكُون الْمَعْنَى : وَهُوَ اللَّه فِي السَّمَوَات وَهُوَ اللَّه فِي الْأَرْض . وَقِيلَ : الْمَعْنَى وَهُوَ اللَّه يَعْلَم سِرّكُمْ وَجَهْركُمْ فِي السَّمَوَات وَفِي الْأَرْض فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْء ; قَالَ النَّحَّاس : وَهَذَا مِنْ أَحْسَن مَا قِيلَ فِيهِ وَقَالَ مُحَمَّد بْن جَرِير : وَهُوَ اللَّه فِي السَّمَوَات وَيَعْلَم سِرّكُمْ وَجَهْركُمْ فِي الْأَرْض فَيَعْلَم مُقَدَّم فِي الْوَجْهَيْنِ وَالْأَوَّل أَسْلَم وَأَبْعَد مِنْ الْإِشْكَال وَقِيله غَيْر هَذَا وَالْقَاعِدَة تَنْزِيهه جَلَّ وَعَزَّ عَنْ الْحَرَكَة وَالِانْتِقَال وَشَغْل الْأَمْكِنَة .|وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ|أَيْ مِنْ خَيْر وَشَرّ وَالْكَسْب الْفِعْل لِاجْتِلَابِ نَفْع أَوْ دَفْع ضَرَر وَلِهَذَا لَا يُقَال لِفِعْلِ اللَّه كَسْب .

وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ

أَيْ عَلَامَة كَانْشِقَاقِ الْقَمَر وَنَحْوهَا . و | مِنْ | لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْس ; تَقُول : مَا فِي الدَّار مِنْ أَحَد .|مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ|| مِنْ | الثَّانِيَة لِلتَّبْعِيضِ .|إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ|خَبَر | كَانُوا | . وَالْإِعْرَاض تَرْك النَّظَر فِي الْآيَات الَّتِي يَجِب أَنْ يَسْتَدِلُّوا بِهَا عَلَى تَوْحِيد اللَّه جَلَّ وَعَزَّ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَيْنهمَا وَأَنَّهُ يَرْجِع إِلَى قَدِيم حَيّ غَنِيّ عَنْ جَمِيع الْأَشْيَاء قَادِر لَا يَعْجِزهُ شَيْء عَالِم لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْء مِنْ الْمُعْجِزَات الَّتِي أَقَامَهَا لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; لِيُسْتَدَلّ بِهَا عَلَى صِدْقه فِي جَمِيع مَا أَتَى بِهِ .

فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ

يَعْنِي مُشْرِكِي مَكَّة .|بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ|يَعْنِي الْقُرْآن , وَقِيلَ : بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .|فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ|أَيْ يَحِلّ بِهِمْ الْعِقَاب ; وَأَرَادَ بِالْأَنْبَاءِ وَهِيَ الْأَخْبَار الْعَذَاب ; كَقَوْلِك اِصْبِرْ وَسَوْفَ يَأْتِيك الْخَبَر أَيْ الْعَذَاب ; وَالْمُرَاد مَا نَالَهُمْ يَوْم بَدْر وَنَحْوه . وَقِيلَ : يَوْم الْقِيَامَة .

أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا

| كَمْ | فِي مَوْضِع نَصْب بِأَهْلَكْنَا لَا بِقَوْلِهِ | أَلَمْ يَرَوْا | لِأَنَّ لَفْظ الِاسْتِفْهَام لَا يَعْمَل فِيهِ مَا قَبْله , وَإِنَّمَا يَعْمَل فِيهِ مَا بَعْده مِنْ أَجْل أَنَّ لَهُ صَدْر الْكَلَام . وَالْمَعْنَى : أَلَا يَعْتَبِرُونَ بِمَنْ أَهْلَكْنَا مِنْ الْأُمَم قَبْلهمْ لِتَكْذِيبِهِمْ أَنْبِيَاءَهُمْ أَيْ أَلَمْ يَعْرِفُوا ذَلِكَ وَالْقَرْن الْأُمَّة مِنْ النَّاس . وَالْجَمْع الْقُرُون ; قَالَ الشَّاعِر : <br>إِذَا ذَهَبَ الْقَرْن الَّذِي كُنْت فِيهِمْ .......... وَخُلِّفْت فِي قَرْن فَأَنْتَ غَرِيب <br>فَالْقَرْن كُلّه عَالَم فِي عَصْره مَأْخُوذ مِنْ الِاقْتِرَان أَيْ عَالَم مُقْتَرِن بِهِ بَعْضهمْ إِلَى بَعْض ; وَفِي الْحَدِيث عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( خَيْر النَّاس قَرْنِي يَعْنِي أَصْحَابِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ) هَذَا أَصَحّ مَا قِيلَ فِيهِ . وَقِيلَ : الْمَعْنَى مِنْ أَهْل قَرْن فَحُذِفَ كَقَوْلِهِ : | وَاسْأَلْ الْقَرْيَة | [ يُوسُف : 82 ] . فَالْقَرْن عَلَى هَذَا مُدَّة مِنْ الزَّمَان ; قِيلَ : سِتُّونَ عَامًا وَقِيلَ سَبْعُونَ , وَقِيلَ : ثَمَانُونَ ; وَقِيلَ : مِائَة ; وَعَلَيْهِ أَكْثَر أَصْحَاب الْحَدِيث أَنَّ الْقَرْن مِائَة سَنَة ; وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَبْدِ اللَّه بْن بُسْر : | تَعِيش قَرْنًا | فَعَاشَ مِائَة سَنَة ; ذَكَرَهُ النَّحَّاس . وَأَصْل الْقَرْن الشَّيْء الطَّالِع كَقَرْنِ مَا لَهُ قَرْن مِنْ الْحَيَوَان .|مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ|خُرُوج مِنْ الْغَيْبَة إِلَى الْخِطَاب ; عَكْسه | حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْك وَجَرَيْنَ ; بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَة | [ يُونُس : 22 ] . وَقَالَ أَهْل الْبَصْرَة أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ | أَلَمْ يَرَوْا | وَفِيهِمْ مُحَمَّد عَلَيْهِ السَّلَام وَأَصْحَابه ; ثُمَّ خَاطَبَهُمْ مَعَهُمْ ; وَالْعَرَب تَقُول : قُلْت لِعَبْدِ اللَّه مَا أَكْرَمه : وَقُلْت لِعَبْدِ اللَّه مَا أَكْرَمك ; وَلَوْ جَاءَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْغَيْبَة لَقَالَ : مَا لَمْ نُمَكِّن لَهُمْ . وَيَجُوز مَكِّنْهُ وَمَكِّنْ لَهُ ; فَجَاءَ بِاللُّغَتَيْنِ جَمِيعًا ; أَيْ أَعْطَيْنَاهُمْ مَا لَمْ نُعْطِكُمْ مِنْ الدُّنْيَا .|وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا|يُرِيد الْمَطَر الْكَثِير ; عَبَّرَ عَنْهُ بِالسَّمَاءِ لِأَنَّهُ مِنْ السَّمَاء يَنْزِل ; وَمِنْهُ قَوْله الشَّاعِر : <br>إِذَا سَقَطَ السَّمَاء بِأَرْضِ قَوْم <br>و | مِدْرَارًا | بِنَاء دَال عَلَى التَّكْثِير ; كَمِذْكَار لِلْمَرْأَةِ الَّتِي كَثُرَتْ وِلَادَتهَا لِلذُّكُورِ ; وَمِئْنَاث لِلْمَرْأَةِ الَّتِي تَلِد الْإِنَاث ; يُقَال : دَرَّ اللَّبَن يَدِرّ إِذَا أَقْبَلَ عَلَى الْحَالِب بِكَثْرَةٍ . وَانْتَصَبَ | مِدْرَارًا | عَلَى الْحَال|وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ|أَيْ مِنْ تَحْت أَشْجَارهمْ وَمَنَازِلهمْ ; وَمِنْهُ قَوْل فِرْعَوْن : | وَهَذِهِ الْأَنْهَار تَجْرِي مِنْ تَحْتِي | [ الزُّخْرُف : 51 ] وَالْمَعْنَى : وَسَّعْنَا عَلَيْهِمْ النِّعَم فَكَفَرُوهَا|فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ|أَيْ بِكُفْرِهِمْ فَالذُّنُوب سَبَب الِانْتِقَام وَزَوَال النِّعَم .|وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ|أَيْ أَوْجَدْنَا ; فَلْيَحْذَرْ هَؤُلَاءِ مِنْ الْإِهْلَاك أَيْضًا .

وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ

الْآيَة الْمَعْنَى : وَلَوْ نَزَّلْنَا يَا مُحَمَّد بِمَرْأًى مِنْهُمْ كَمَا زَعَمُوا وَطَلَبُوا كَلَامًا مَكْتُوبًا | فِي قِرْطَاس | وَعَنْ اِبْن عَبَّاس : كِتَابًا مُعَلَّقًا بَيْن السَّمَاء وَالْأَرْض وَهَذَا يُبَيِّن لَك أَنَّ التَّنْزِيل عَلَى وَجْهَيْنِ ; أَحَدهمَا : عَلَى مَعْنَى نَزَّلَ عَلَيْك الْكِتَاب بِمَعْنَى نُزُول الْمَلَك بِهِ . وَالْآخَر : وَلَوْ نَزَّلْنَا كِتَابًا فِي قِرْطَاس يُمْسِكهُ اللَّه بَيْن السَّمَاء وَالْأَرْض ; وَقَالَ : | نَزَّلْنَا | عَلَى الْمُبَالَغَة بِطُولِ مُكْث الْكِتَاب بَيْن السَّمَاء وَالْأَرْض وَالْكِتَاب مَصْدَر بِمَعْنَى الْكِتَابَة فَبَيَّنَ أَنَّ الْكِتَابَة فِي قِرْطَاس ; لِأَنَّهُ غَيْر مَعْقُول كِتَابَة إِلَّا فِي قِرْطَاس أَيْ فِي صَحِيفَة وَالْقِرْطَاس الصَّحِيفَة ; وَيُقَال : قِرْطَاس بِالضَّمِّ ; وَقَرْطَسَ فُلَان إِذَا رَمَى فَأَصَابَ الصَّحِيفَة الْمُلْزَقَة بِالْهَدَفِ .|فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ|أَيْ فَعَايَنُوا ذَلِكَ وَمَسُّوهُ بِالْيَدِ كَمَا اِقْتَرَحُوا وَبَالَغُوا فِي مَيْزه وَتَقْلِيبه جَسًّا بِأَيْدِيهِمْ لِيَرْتَفِع كُلّ اِرْتِيَاب وَيَزُول عَنْهُمْ كُلّ إِشْكَال , لَعَانَدُوا فِيهِ وَتَابَعُوا كُفْرهمْ , وَقَالُوا : سِحْر مُبِين إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارنَا وَسُحِرْنَا ; وَهَذِهِ الْآيَة جَوَاب لِقَوْلِهِمْ : | حَتَّى تُنَزِّل عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ | [ الْإِسْرَاء : 93 ] فَأَعْلَمَ اللَّه بِمَا سَبَقَ فِي عِلْمه مِنْ أَنَّهُ لَوْ نَزَّلَ لَكَذَّبُوا بِهِ . قَالَ الْكَلْبِيّ : نَزَلَتْ فِي النَّضْر بْن الْحَارِث وَعَبْد اللَّه بْن أَبِي أُمَيَّة وَنَوْفَل بْن خُوَيْلِد قَالُوا : | لَنْ نُؤْمِن لَك حَتَّى تُفَجِّر لَنَا مِنْ الْأَرْض يَنْبُوعًا | [ الْإِسْرَاء : 90 ] الْآيَة .

وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ

اِقْتَرَحُوا هَذَا أَيْضًا و | لَوْلَا | بِمَعْنَى هَلَّا .|وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ|قَالَ اِبْن عَبَّاس : لَوْ رَأَوْا الْمَلَك عَلَى صُورَته لَمَاتُوا إِذْ لَا يُطِيقُونَ رُؤْيَته . مُجَاهِد وَعِكْرِمَة : لَقَامَتْ السَّاعَة . قَالَ الْحَسَن وَقَتَادَة : لَأُهْلِكُوا بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَال ; لِأَنَّ اللَّه أَجْرَى سُنَّته بِأَنَّ مَنْ طَلَبَ آيَة فَأُظْهِرَتْ لَهُ فَلَمْ يُؤْمِن أَهْلَكَهُ اللَّه فِي الْحَال .|ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ|أَيْ لَا يُمْهَلُونَ وَلَا يُؤَخَّرُونَ .

وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ

أَيْ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَرَوْا الْمَلَك فِي صُورَته إِلَّا بَعْد التَّجَسُّم بِالْأَجْسَامِ الْكَثِيفَة ; لِأَنَّ كُلّ جِنْس يَأْنَس بِجِنْسِهِ وَيَنْفِر مِنْ غَيْر جِنْسه ; فَلَوْ جَعَلَ اللَّه تَعَالَى الرَّسُول إِلَى الْبَشَر مَلَكًا لَنَفَرُوا مِنْ مُقَارَبَته , وَلَمَا أَنِسُوا بِهِ , وَلَدَاخَلَهُمْ مِنْ الرُّعْب مِنْ كَلَامه وَالِاتِّقَاء لَهُ مَا يَكْفِهِمْ عَنْ كَلَامه , وَيَمْنَعهُمْ عَنْ سُؤَاله , فَلَا تَعُمّ الْمَصْلَحَة ; وَلَوْ نَقَلَهُ عَنْ صُورَة الْمَلَائِكَة إِلَى مِثْل صُورَتهمْ لِيَأْنَسُوا بِهِ وَلِيَسْكُنُوا إِلَيْهِ لَقَالُوا : لَسْت مَلَكًا وَإِنَّمَا أَنْتَ بَشَر فَلَا نُؤْمِن بِك وَعَادُوا إِلَى مِثْل حَالهمْ . وَكَانَتْ الْمَلَائِكَة تَأْتِي الْأَنْبِيَاء فِي صُورَة الْبَشَر فَأَتَوْا إِبْرَاهِيم وَلُوطًا فِي صُورَة الْآدَمِيِّينَ , وَأَتَى جِبْرِيل النَّبِيّ عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام فِي صُورَة دِحْيَة الْكَلْبِيّ أَيْ لَوْ أَنْزَلَ مَلَك لَرَأَوْهُ فِي صُورَة رَجُل كَمَا جَرَتْ عَادَة الْأَنْبِيَاء , وَلَوْ نَزَلَ عَلَى عَادَته لَمْ يَرَوْهُ ; فَإِذَا جَعَلْنَاهُ رَجُلًا اِلْتَبَسَ عَلَيْهِمْ فَكَانُوا يَقُولُونَ : هَذَا سَاحِر مِثْلك .|وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ|وَقَالَ الزَّجَّاج : الْمَعْنَى أَيْ عَلَى رُؤَسَائِهِمْ كَمَا يَلْبِسُونَ عَلَى ضَعَفَتهمْ وَكَانُوا يَقُولُونَ لَهُمْ إِنَّمَا مُحَمَّد بَشَر وَلَيْسَ بَيْنه وَبَيْنكُمْ فَرْق فَيَلْبِسُونَ عَلَيْهِمْ بِهَذَا وَيُشَكِّكُونَهُمْ ; فَأَعْلَمَهُمْ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ لَوْ أَنْزَلَ مَلَكًا فِي صُورَة رَجُل لَوَجَدُوا سَبِيلًا إِلَى اللَّبْس كَمَا يَفْعَلُونَ . وَاللَّبْس الْخَلْط ; يُقَال : لَبَسْت عَلَيْهِ الْأَمْر أُلْبِسَهُ لَبْسًا أَيْ خَلَطْته ; وَأَصْله التَّسَتُّر بِالثَّوْبِ وَنَحْوه وَقَالَ : | لَبَسْنَا | بِالْإِضَافَةِ إِلَى نَفْسه عَلَى جِهَة الْخَلْق , وَقَالَ | مَا يَلْبِسُونَ | فَأَضَافَ إِلَيْهِمْ عَلَى جِهَة الِاكْتِسَاب .

وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ

ثُمَّ قَالَ مُؤْنِسًا لِنَبِيِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَمُعَزِّيًا : | وَلَقَدْ اُسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلك فَحَاقَ | أَيْ نَزَلَ بِأُمَمِهِمْ مِنْ الْعَذَاب مَا أُهْلِكُوا بِهِ جَزَاء اِسْتِهْزَائِهِمْ بِأَنْبِيَائِهِمْ . حَاقَ بِالشَّيْءِ يَحِيق حَيْقًا وَحُيُوقًا وَحَيْقَانًا نَزَلَ ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : | وَلَا يَحِيق الْمَكْر السَّيِّئ إِلَّا بِأَهْلِهِ | [ فَاطِر : 43 ] .</p><p>و | مَا | فِي قَوْله : | مَا كَانُوا | بِمَعْنَى الَّذِي وَقِيلَ : بِمَعْنَى الْمَصْدَر أَيْ حَاقَ بِهِمْ عَاقِبَة اِسْتِهْزَائِهِمْ .

قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ

أَيْ قُلْ يَا مُحَمَّد لِهَؤُلَاءِ الْمُسْتَهْزِئِينَ الْمُسْتَسْخِرِينَ الْمُكَذِّبِينَ : سَافِرُوا فِي الْأَرْض فَانْظُرُوا وَاسْتَخْبِرُوا لِتَعْرِفُوا مَا حَلَّ بِالْكَفَرَةِ قَبْلكُمْ مِنْ الْعِقَاب وَأَلِيم الْعَذَاب وَهَذَا السَّفَر مَنْدُوب إِلَيْهِ إِذَا كَانَ عَلَى سَبِيل الِاعْتِبَار بِآثَارِ مَنْ خَلَا مِنْ الْأُمَم وَأَهْل الدِّيَار , وَالْعَاقِبَة آخِر الْأَمْر . وَالْمُكَذِّبُونَ هُنَا مَنْ كَذَّبَ الْحَقّ وَأَهْله لَا مَنْ كَذَّبَ بِالْبَاطِلِ .

قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ

هَذَا أَيْضًا اِحْتِجَاج عَلَيْهِمْ ; الْمَعْنَى قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّد : | لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض | فَإِنْ قَالُوا لِمَنْ هُوَ ؟ فَقُلْ هُوَ | لِلَّهِ | الْمَعْنَى : إِذَا ثَبَتَ أَنَّ لَهُ مَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض وَأَنَّهُ خَالِق الْكُلّ إِمَّا بِاعْتِرَافِهِمْ أَوْ بِقِيَامِ الْحُجَّة عَلَيْهِمْ , فَاَللَّه قَادِر عَلَى أَنْ يُعَاجِلهُمْ بِالْعِقَابِ وَيَبْعَثهُمْ بَعْد الْمَوْت .|كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ|الْمَعْنَى : إِذَا ثَبَتَ أَنَّ لَهُ مَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض وَأَنَّهُ خَالِق الْكُلّ إِمَّا بِاعْتِرَافِهِمْ أَوْ بِقِيَامِ الْحُجَّة عَلَيْهِمْ , فَاَللَّه قَادِر عَلَى أَنْ يُعَاجِلهُمْ بِالْعِقَابِ وَيَبْعَثهُمْ بَعْد الْمَوْت وَلَكِنَّهُ | كَتَبَ عَلَى نَفْسه الرَّحْمَة | أَيْ وَعَدَ بِهَا فَضْلًا مِنْهُ وَكَرَمًا فَلِذَلِكَ أُمْهِلَ وَذِكْر النَّفْس هُنَا عِبَارَة عَنْ وُجُوده وَتَأْكِيد وَعْده , وَارْتِفَاع الْوَسَائِط دُونه ; وَمَعْنَى الْكَلَام الِاسْتِعْطَاف مِنْهُ تَعَالَى لِلْمُتَوَلِّينَ عَنْهُ إِلَى الْإِقْبَال إِلَيْهِ , وَإِخْبَار مِنْهُ سُبْحَانه بِأَنَّهُ رَحِيم بِعِبَادِهِ لَا يَعْجَل عَلَيْهِمْ بِالْعُقُوبَةِ , وَيَقْبَل مِنْهُمْ الْإِنَابَة وَالتَّوْبَة . وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : قَالَ رَسُوله اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَمَّا قَضَى اللَّه الْخَلْق كَتَبَ فِي كِتَاب عَلَى نَفْسه فَهُوَ مَوْضُوع عِنْده إِنَّ رَحْمَتِي تَغْلِب غَضَبِي ) أَيْ لَمَّا أَظْهَرَ قَضَاءَهُ وَأَبْرَزَهُ لِمَنْ شَاءَ أَظْهَرَ كِتَابًا فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ أَوْ فِيمَا شَاءَهُ مُقْتَضَاهُ خَبَر حَقّ وَوَعْد صِدْق | إِنَّ رَحْمَتِي تَغْلِب غَضَبِي | أَيْ تَسْبِقهُ وَتَزِيد عَلَيْهِ .|لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ|اللَّام لَام الْقَسَم , وَالنُّون نُون التَّأْكِيد . وَقَالَ الْفَرَّاء وَغَيْره : يَجُوز أَنْ يَكُون تَمَام الْكَلَام عِنْد قَوْله : | الرَّحْمَة | وَيَكُون مَا بَعْده مُسْتَأْنَفًا عَلَى جِهَة التَّبْيِين ; فَيَكُون مَعْنَى | لَيَجْمَعَنكُمْ | لَيُمْهِلَنكُمْ وَلَيُؤَخِّرْنَ جَمْعكُمْ . وَقِيلَ : الْمَعْنَى لَيَجْمَعَنكُمْ أَيْ فِي الْقُبُور إِلَى الْيَوْم الَّذِي أَنْكَرْتُمُوهُ . وَقِيلَ : ( إِلَى ) بِمَعْنَى فِي , أَيْ لَيَجْمَعَنكُمْ فِي يَوْم الْقِيَامَة . وَقِيلَ : يَجُوز أَنْ يَكُون مَوْضِع | لَيَجْمَعَنكُمْ | نَصْبًا عَلَى الْبَدَل مِنْ الرَّحْمَة ; فَتَكُون اللَّام بِمَعْنَى ( أَنْ ) الْمَعْنَى : كَتَبَ رَبّكُمْ عَلَى نَفْسه لَيَجْمَعَنكُمْ , أَيْ أَنْ يَجْمَعكُمْ ; وَكَذَلِكَ قَالَ كَثِير مِنْ النَّحْوِيِّينَ فِي قَوْله تَعَالَى : | ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْد مَا رَأَوْا الْآيَات لَيَسْجُنُنَّهُ | [ يُوسُف : 35 ] أَيْ أَنْ يَسْجُنُوهُ . وَقِيلَ : مَوْضِعه نَصْب ب ( كَتَبَ ) ; كَمَا تَكُون ( أَنَّ ) فِي قَوْله عَزَّ وَجَلَّ | كَتَبَ رَبّكُمْ عَلَى نَفْسه الرَّحْمَة أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ | [ الْأَنْعَام : 54 ] وَذَلِكَ أَنَّهُ مُفَسِّر لِلرَّحْمَةِ بِالْإِمْهَالِ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ; عَنْ الزَّجَّاج .|لَا رَيْبَ فِيهِ|لَا شَكّ فِيهِ .|الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ|اِبْتِدَاء وَخَبَر , قَالَهُ الزَّجَّاج , وَهُوَ أَجْوَد مَا قِيلَ فِيهِ ; تَقُول : الَّذِي يُكْرِمنِي فَلَهُ دِرْهَم , فَالْفَاء تَتَضَمَّن مَعْنَى الشَّرْط وَالْجَزَاء . وَقَالَ الْأَخْفَش : إِنْ شِئْت كَانَ ( الَّذِينَ ) فِي مَوْضِع نَصْب عَلَى الْبَدَل مِنْ الْكَاف وَالْمِيم فِي ( لَيَجْمَعَنكُمْ ) أَيْ لَيَجْمَعَنَّ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسهمْ ; وَأَنْكَرَهُ الْمُبَرِّد وَزَعَمَ أَنَّهُ خَطَأ ; لِأَنَّهُ لَا يُبَدَّل مِنْ الْمُخَاطَب وَلَا مِنْ الْمُخَاطِب , لَا يُقَال : مَرَرْت بِك زَيْد وَلَا مَرَرْت بِي زَيْد لِأَنَّ هَذَا لَا يُشْكِل فَيُبَيَّن . قَالَ الْقُتَبِيّ : يَجُوز أَنْ يَكُون ( الَّذِينَ ) جَزَاء عَلَى الْبَدَل مِنْ ( الْمُكَذِّبِينَ ) الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرهمْ . أَوْ عَلَى النَّعْت لَهُمْ . وَقِيلَ : ( الَّذِينَ ) نِدَاء مُفْرَد .

وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ

أَيْ ثَبَتَ , وَهَذَا اِحْتِجَاج عَلَيْهِمْ أَيْضًا . وَقِيلَ : نَزَلَتْ الْآيَة لِأَنَّهُمْ قَالُوا : عَلِمْنَا أَنَّهُ مَا يَحْمِلك عَلَى مَا تَفْعَل إِلَّا الْحَاجَة , فَنَحْنُ نَجْمَع لَك مِنْ أَمْوَالنَا حَتَّى تَصِير أَغْنَانَا ; فَقَالَ اللَّه تَعَالَى : أَخْبِرْهُمْ أَنَّ جَمِيع الْأَشْيَاء لِلَّهِ , فَهُوَ قَادِر عَلَى أَنْ يُغْنِينِي . و ( سَكَنَ ) مَعْنَاهُ هَدَأَ وَاسْتَقَرَّ ; وَالْمُرَاد مَا سَكَنَ وَمَا تَحَرَّكَ , فَحُذِفَ لِعِلْمِ السَّامِع . وَقِيلَ : خَصَّ السَّاكِن بِالذِّكْرِ لِأَنَّ مَا يَعُمّهُ السُّكُون أَكْثَر مِمَّا تَعُمّهُ الْحَرَكَة . وَقِيلَ الْمَعْنَى مَا خَلَقَ , فَهُوَ عَام فِي جَمِيع الْمَخْلُوقَات مُتَحَرِّكهَا وَسَاكِنهَا , فَإِنَّهُ يَجْرِي عَلَيْهِ اللَّيْل وَالنَّهَار ; وَعَلَى هَذَا فَلَيْسَ الْمُرَاد بِالسُّكُونِ ضِدّ الْحَرَكَة بَلْ الْمُرَاد الْخَلْق , وَهَذَا أَحْسَن مَا قِيلَ ; لِأَنَّهُ يَجْمَع شَتَات الْأَقْوَال .|وَهُوَ السَّمِيعُ|لِأَصْوَاتِهِمْ|الْعَلِيمُ|بِأَسْرَارِهِمْ .

قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ

مَفْعُولَانِ ; لَمَّا دَعَوْهُ إِلَى عِبَادَة الْأَصْنَام دِين آبَائِهِ أَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى | قُلْ | يَا مُحَمَّد : | أَغْيَر اللَّه أَتَّخِذ وَلِيًّا | أَيْ رَبًّا وَمَعْبُودًا وَنَاصِرًا دُون اللَّه .|فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ|بِالْخَفْضِ عَلَى النَّعْت لِاسْمِ اللَّه ; وَأَجَازَ الْأَخْفَش الرَّفْع عَلَى إِضْمَار مُبْتَدَإٍ . وَقَالَ الزَّجَّاج : وَيَجُوز النَّصْب عَلَى الْمَدْح . أَبُو عَلِيّ الْفَارِسِيّ : وَيَجُوز نَصْبه عَلَى فِعْل مُضْمَر كَأَنَّهُ قَالَ : أَتْرُك فَاطِر السَّمَوَات وَالْأَرْض ؟ لِأَنَّ قَوْله : | أَغْيَر اللَّه أَتَّخِذ وَلِيًّا | يَدُلّ عَلَى تَرْك الْوِلَايَة لَهُ , وَحُسْن إِضْمَاره لِقُوَّةِ هَذِهِ الدَّلَالَة .|وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ|كَذَا قِرَاءَة الْعَامَّة , أَيْ يَرْزُق وَلَا يُرْزَق ; دَلِيله عَلَى قَوْله تَعَالَى : | مَا أُرِيد مِنْهُمْ مِنْ رِزْق وَمَا أُرِيد أَنْ يُطْعِمُونَ | [ الذَّارِيَات : 57 ] وَقَرَأَ سَعِيد بْن جُبَيْر وَمُجَاهِد وَالْأَعْمَش : وَهُوَ يُطْعِم وَلَا يُطْعَم , وَهِيَ قِرَاءَة حَسَنَة ; أَيْ أَنَّهُ يَرْزُق عِبَاده , وَهُوَ سُبْحَانه غَيْر مُحْتَاج إِلَى مَا يَحْتَاج إِلَيْهِ الْمَخْلُوقُونَ مِنْ الْغِذَاء . وَقُرِئَ بِضَمِّ الْيَاء وَكَسْر الْعَيْن فِي الْفِعْلَيْنِ , أَيْ إِنَّ اللَّه يُطْعِم عِبَاده وَيَرْزُقهُمْ وَالْوَلِيّ لَا يُطْعِم نَفْسه وَلَا مَنْ يَتَّخِذهُ . وَقُرِئَ بِفَتْحِ الْيَاء وَالْعَيْن فِي الْأَوَّل أَيْ الْوَلِيّ ( وَلَا يُطْعِم ) بِضَمِّ الْيَاء وَكَسْر الْعَيْن . وَخَصَّ الْإِطْعَام بِالذِّكْرِ دُون غَيْره مِنْ ضُرُوب الْإِنْعَام ; لِأَنَّ الْحَاجَة إِلَيْهِ أَمَسّ لِجَمِيعِ الْأَنَام .|قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ|أَيْ اِسْتَسْلَمَ لِأَمْرِ اللَّه تَعَالَى . وَقِيلَ : أَوَّل مَنْ أَخْلَصَ أَيْ مِنْ قَوْمِي وَأُمَّتِي ; عَنْ الْحَسَن وَغَيْره .|وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ|أَيْ وَقِيلَ لِي : | وَلَا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ | .

قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ

أَيْ بِعِبَادَةِ غَيْره أَنْ يُعَذِّبنِي , وَالْخَوْف تَوَقُّع الْمَكْرُوه . قَالَ اِبْن عَبَّاس : | أَخَاف | هُنَا بِمَعْنَى أَعْلَم .

مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ

أَيْ الْعَذَاب | يَوْمئِذٍ | يَوْم الْقِيَامَة | فَقَدْ رَحِمَهُ | أَيْ فَازَ وَنَجَا وَرَحِمَ .</p><p>وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ | مَنْ يَصْرِف | بِفَتْحِ الْيَاء وَكَسْر الرَّاء , وَهُوَ اِخْتِيَار أَبِي حَاتِم وَأَبِي عُبَيْد ; لِقَوْلِهِ : | قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض قُلْ لِلَّهِ | وَلِقَوْلِهِ : | فَقَدْ رَحِمَهُ | وَلَمْ يَقُلْ رُحِمَ عَلَى الْمَجْهُول , وَلِقِرَاءَةِ أُبَيّ | مَنْ يَصْرِفهُ اللَّه عَنْهُ | وَاخْتَارَ سِيبَوَيْهِ الْقِرَاءَة الْأُولَى - قِرَاءَة أَهْل الْمَدِينَة وَأَبِي عَمْرو - قَالَ سِيبَوَيْهِ : وَكُلَّمَا قَلَّ الْإِضْمَار فِي الْكَلَام كَانَ أَوْلَى ; فَأَمَّا قِرَاءَة مَنْ قَرَأَ | مَنْ يَصْرِف | بِفَتْحِ الْيَاء فَتَقْدِيره : مَنْ يَصْرِف اللَّه عَنْهُ الْعَذَاب , وَإِذَا قُرِئَ ( مَنْ يُصْرَف عَنْهُ ) فَتَقْدِيره : مَنْ يُصْرَف عَنْهُ الْعَذَاب .|وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ|أَيْ النَّجَاة الْبَيِّنَة .

وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ

الْمَسّ وَالْكَشْف مِنْ صِفَات الْأَجْسَام , وَهُوَ هُنَا مَجَاز وَتَوَسُّع ; وَالْمَعْنَى : إِنْ تَنْزِل بِك يَا مُحَمَّد شِدَّة مِنْ فَقْر أَوْ مَرَض فَلَا رَافِع وَصَارِف لَهُ إِلَّا هُوَ , وَإِنْ يُصِبْك بِعَافِيَةٍ وَرَخَاء وَنِعْمَة|وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ|مِنْ الْخَيْر وَالضُّرّ رَوَى اِبْن عَبَّاس قَالَ : كُنْت رَدِيف رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِي : ( يَا غُلَام - أَوْ يَا بُنَيّ - أَلَا أُعَلِّمك كَلِمَات يَنْفَعك اللَّه بِهِنَّ ) ؟ فَقُلْت : بَلَى ; فَقَالَ : ( اِحْفَظْ اللَّه يَحْفَظك اِحْفَظْ اللَّه تَجِدهُ أَمَامك تَعَرَّفْ إِلَى اللَّه فِي الرَّخَاء يَعْرِفك فِي الشِّدَّة إِذَا سَأَلْت فَاسْأَلْ اللَّه وَإِذَا اِسْتَعَنْت فَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ فَقَدْ جَفَّ الْقَلَم بِمَا هُوَ كَائِن فَلَوْ أَنَّ الْخَلْق كُلّهمْ جَمِيعًا أَرَادُوا أَنْ يَضُرُّوك بِشَيْءٍ لَمْ يَقْضِهِ اللَّه لَك لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ وَاعْمَلْ لِلَّهِ بِالشُّكْرِ وَالْيَقِين وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الصَّبْر عَلَى مَا تَكْرَه خَيْرًا كَثِيرًا وَأَنَّ النَّصْر مَعَ الصَّبْر وَأَنَّ الْفَرَج مَعَ الْكَرْب وَأَنَّ مَعَ الْعُسْر يُسْرًا ) أَخْرَجَهُ أَبُو بَكْر بْن ثَابِت الْخَطِيب فِي كِتَاب ( الْفَصْل وَالْوَصْل ) وَهُوَ حَدِيث صَحِيح ; وَقَدْ خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيّ , وَهَذَا أَتَمّ .

وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ

الْقَهْر الْغَلَبَة , وَالْقَاهِر الْغَالِب , وَأُقْهِرَ الرَّجُل إِذَا صُيِّرَ بِحَالِ الْمَقْهُور الذَّلِيل ; قَالَ الشَّاعِر : <br>تَمَنَّى حُصَيْن أَنْ يَسُود جِذَاعه .......... فَأَمْسَى حُصَيْن قَدْ أَذَلَّ وَأَقْهَرَا <br>وَقُهِرَ غُلِبَ . وَمَعْنَى ( فَوْق عِبَاده ) فَوْقِيَّة الِاسْتِعْلَاء بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَة عَلَيْهِمْ ; أَيْ هُمْ تَحْت تَسْخِيره لَا فَوْقِيَّة مَكَان ; كَمَا تَقُول : السُّلْطَان فَوْق رَعِيَّته أَيْ بِالْمَنْزِلَةِ وَالرِّفْعَة . وَفِي الْقَهْر مَعْنَى زَائِد لَيْسَ فِي الْقُدْرَة , وَهُوَ مَنْع غَيْره عَنْ بُلُوغ الْمُرَاد .|وَهُوَ الْحَكِيمُ|فِي أَمْره|الْخَبِيرُ|بِأَعْمَالِ عِبَاده , أَيْ مَنْ اِتَّصَفَ بِهَذِهِ الصِّفَات يَجِب أَلَّا يُشْرَك بِهِ .

قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآَنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آَلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ

وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ يَشْهَد لَك بِأَنَّك رَسُول اللَّه فَنَزَلَتْ الْآيَة ; عَنْ الْحَسَن وَغَيْره . وَلَفْظ ( شَيْء ) هُنَا وَاقِع مَوْقِع اِسْم اللَّه تَعَالَى ; الْمَعْنَى اللَّه أَكْبَر شَهَادَة أَيْ اِنْفِرَاده بِالرُّبُوبِيَّةِ , وَقِيَام الْبَرَاهِين عَلَى تَوْحِيده أَكْبَر شَهَادَة وَأَعْظَم ; فَهُوَ شَهِيد بَيْنِي وَبَيْنكُمْ عَلَى أَنِّي قَدْ بَلَّغْتُكُمْ وَصَدَقْت فِيمَا قُلْته وَادَّعَيْته مِنْ الرِّسَالَة .|وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ|أَيْ وَالْقُرْآن شَاهِد بِنُبُوَّتِي .|لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ|يَا أَهْل مَكَّة .|وَمَنْ بَلَغَ|أَيْ وَمَنْ بَلَغَهُ الْقُرْآن . فَحَذَفَ ( الْهَاء ) لِطُولِ الْكَلَام . وَقِيلَ : وَمَنْ بَلَغَ الْحُلُم . وَدَلَّ بِهَذَا عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَبْلُغ الْحُلُم لَيْسَ بِمُخَاطَبٍ وَلَا مُتَعَبَّد . وَتَبْلِيغ الْقُرْآن وَالسُّنَّة مَأْمُور بِهِمَا , كَمَا أَمَرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَبْلِيغِهِمَا ; فَقَالَ : | يَا أَيّهَا الرَّسُول بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْك مِنْ رَبّك | [ الْمَائِدَة : 67 ] . وَفِي صَحِيح الْبُخَارِيّ عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَة وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيل وَلَا حَرَج وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَده مِنْ النَّار ) . وَفِي الْخَبَر أَيْضًا ; مَنْ بَلَّغْته آيَة مِنْ كِتَاب اللَّه فَقَدْ بَلَغَهُ أَمْر اللَّه أَخَذَ بِهِ أَوْ تَرَكَهُ . وَقَالَ مُقَاتِل : مَنْ بَلَغَهُ الْقُرْآن مِنْ الْجِنّ وَالْإِنْس فَهُوَ نَذِير لَهُ . وَقَالَ الْقُرَظِيّ : مَنْ بَلَغَهُ الْقُرْآن فَكَأَنَّمَا قَدْ رَأَى مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَمِعَ مِنْهُ . وَقَرَأَ أَبُو نُهَيْك : ( وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآن ) مُسَمَّى الْفَاعِل ; وَهُوَ مَعْنَى قِرَاءَة الْجَمَاعَة .|أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى|اِسْتِفْهَام تَوْبِيخ وَتَقْرِيع . وَقُرِئَ ( أَئِنَّكُمْ ) بِهَمْزَتَيْنِ عَلَى الْأَصْل . وَإِنْ خُفِّفَتْ الثَّانِيَة قُلْت : ( أَيِنَّكُمْ ) . وَرَوَى الْأَصْمَعِيّ عَنْ أَبِي عَمْرو وَنَافِع ( آئِنكُمْ ) ; وَهَذِهِ لُغَة مَعْرُوفَة , تَجْعَل بَيْن الْهَمْزَتَيْنِ أَلِف كَرَاهَة لِالْتِقَائِهِمَا ; قَالَ الشَّاعِر : <br>أَيَا ظَبْيَة الْوَعْسَاء بَيْن جَلَاجِل .......... وَبَيْن النَّقَا آأَنْت أَمْ أُمّ سَالِم <br>وَمَنْ قَرَأَ | إِنَّكُمْ | عَلَى الْخَبَر فَعَلَى أَنَّهُ قَدْ حُقِّقَ عَلَيْهِمْ شِرْكهمْ . وَقَالَ : | آلِهَة أُخْرَى | وَلَمْ يَقُلْ : ( أُخَر ) ; قَالَ الْفَرَّاء : لِأَنَّ الْآلِهَة جَمْع وَالْجَمْع يَقَع عَلَيْهِ التَّأْنِيث ; وَمِنْهُ قَوْله : | وَلِلَّهِ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا | [ الْأَعْرَاف : 181 ] , وَقَوْله : | فَمَا بَال الْقُرُون الْأُولَى | [ طه : 51 ] وَلَوْ قَالَ : الْأَوَّل وَالْآخِر صَحَّ أَيْضًا .|قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ|أَيْ فَأَنَا لَا أَشْهَد مَعَكُمْ فَحُذِفَ لِدَلَالَةِ الْكَلَام عَلَيْهِ وَنَظِيره | فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَد مَعَهُمْ | [ الْأَنْعَام : 150 ] .

الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ

يُرِيد الْيَهُود وَالنَّصَارَى الَّذِينَ عَرَفُوا وَعَانَدُوا وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ فِي الْبَقَرَة و ( الَّذِينَ ) فِي مَوْضِع رَفْع بِالِابْتِدَاءِ . | يَعْرِفُونَهُ | فِي مَوْضِع الْخَبَر ; أَيْ يَعْرِفُونَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; عَنْ الْحَسَن وَقَتَادَة , وَهُوَ قَوْل الزَّجَّاج . وَقِيلَ : يَعُود عَلَى الْكِتَاب , أَيْ يَعْرِفُونَهُ عَلَى مَا يَدُلّ عَلَيْهِ , أَيْ عَلَى الصِّفَة الَّتِي هُوَ بِهَا مِنْ دَلَالَته عَلَى صِحَّة أَمْر النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآله .|الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ|| الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسهمْ | فِي مَوْضِع النَّعْت ; وَيَجُوز أَنْ يَكُون مُبْتَدَأ وَخَبَره | فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ | .

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ

اِبْتِدَاء وَخَبَر أَيْ لَا أَحَد أَظْلَم|مِمَّنِ افْتَرَى|أَيْ اِخْتَلَقَ|عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ|يُرِيد الْقُرْآن وَالْمُعْجِزَات .|إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ|قِيلَ : مَعْنَاهُ فِي الدُّنْيَا .

وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ

ثُمَّ اِسْتَأْنَفَ فَقَالَ | وَيَوْم نَحْشُرهُمْ جَمِيعًا | عَلَى مَعْنَى وَاذْكُرْ | يَوْم نَحْشُرهُمْ | وَقِيلَ : مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يُفْلِح الظَّالِمُونَ فِي الدُّنْيَا وَلَا يَوْم نَحْشُرهُمْ ; فَلَا يُوقَف عَلَى هَذَا التَّقْدِير عَلَى قَوْله : ( الظَّالِمُونَ ) لِأَنَّهُ مُتَّصِل . وَقِيلَ : هُوَ مُتَعَلِّق بِمَا بَعْده وَهُوَ ( اُنْظُرْ ) أَيْ اُنْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا يَوْم نَحْشُرهُمْ ; أَيْ كَيْفَ يَكْذِبُونَ يَوْم نَحْشُرهُمْ ؟ .|ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ|سُؤَال إِفْضَاح لَا إِفْصَاح .|الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ|أَيْ فِي أَنَّهُمْ شُفَعَاء لَكُمْ عِنْد اللَّه بِزَعْمِكُمْ , وَأَنَّهَا تُقَرِّبكُمْ مِنْهُ زُلْفَى ; وَهَذَا تَوْبِيخ لَهُمْ . قَالَ اِبْن عَبَّاس : كُلّ زَعْم فِي الْقُرْآن فَهُوَ كَذِب .

ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ

الْفِتْنَة الِاخْتِبَار أَيْ لَمْ يَكُنْ جَوَابهمْ حِين اُخْتُبِرُوا بِهَذَا السُّؤَال , وَرَأَوْا الْحَقَائِق , وَارْتَفَعَتْ الدَّوَاعِي .|إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ|تَبْرَءُوا مِنْ الشِّرْك وَانْتَفَوْا مِنْهُ لِمَا رَأَوْا مِنْ تَجَاوُزِهِ وَمَغْفِرَته لِلْمُؤْمِنِينَ . قَالَ اِبْن عَبَّاس : يَغْفِر اللَّه تَعَالَى لِأَهْلِ الْإِخْلَاص ذُنُوبهمْ , وَلَا يَتَعَاظَم عَلَيْهِ ذَنْب أَنْ يَغْفِرهُ , فَإِذَا رَأَى الْمُشْرِكُونَ ذَلِكَ ; قَالُوا إِنَّ رَبّنَا يَغْفِر الذُّنُوب وَلَا يَغْفِر الشِّرْك فَتَعَالَوْا نَقُول إِنَّا كُنَّا أَهْل ذُنُوب وَلَمْ نَكُنْ مُشْرِكِينَ ; فَقَالَ اللَّه تَعَالَى : أَمَا إِذْ كَتَمُوا الشِّرْك فَاخْتِمُوا عَلَى أَفْوَاههمْ , فَيُخْتَم عَلَى أَفْوَاههمْ , فَتَنْطِق أَيْدِيهمْ وَتَشْهَد أَرْجُلهمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ , فَعِنْد ذَلِكَ يَعْرِف الْمُشْرِكُونَ أَنَّ اللَّه لَا يَكْتُم حَدِيثًا ; فَذَلِكَ قَوْله : | يَوْمئِذٍ يَوَدّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوْا الرَّسُول لَوْ تُسَوَّى بِهِمْ الْأَرْض وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّه حَدِيثًا | [ النِّسَاء : 42 ] . وَقَالَ أَبُو إِسْحَاق الزَّجَّاج : تَأْوِيل هَذِهِ الْآيَة لَطِيف جِدًّا , أَخْبَرَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بِقَصَصِ الْمُشْرِكِينَ وَافْتِتَانهمْ بِشِرْكِهِمْ , ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ فِتْنَتهمْ لَمْ تَكُنْ حِين رَأَوْا الْحَقَائِق إِلَّا أَنْ اِنْتَفَوْا مِنْ الشِّرْك , وَنَظِير هَذَا فِي اللُّغَة أَنْ تَرَى إِنْسَانًا يُحِبّ غَاوِيًا فَإِذَا وَقَعَ فِي هَلَكَة تَبَرَّأَ مِنْهُ , فَيُقَال : مَا كَانَتْ مَحَبَّتك إِيَّاهُ إِلَّا أَنْ تَبَرَّأْت مِنْهُ . وَقَالَ الْحَسَن : هَذَا خَاصّ بِالْمُنَافِقِينَ جَرَوْا عَلَى عَادَتهمْ فِي الدُّنْيَا , وَمَعْنَى ( فِتْنَتهمْ ) عَاقِبَة فِتْنَتهمْ أَيْ كُفْرهمْ . وَقَالَ قَتَادَة : مَعْنَاهُ مَعْذِرَتهمْ . وَفِي صَحِيح مُسْلِم مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : ( فَيَلْقَى الْعَبْد فَيَقُول أَيْ قُلْ أَلَمْ أُكْرِمك وَأُسَوِّدك ( وَأُزَوِّجك ) وَأُسَخِّر لَك الْخَيْل وَالْإِبِل وَأَذَرك تَرْأَس وَتَرْبَع فَيَقُول بَلَى أَيْ رَبّ : فَيَقُول أَفَظَنَنْت أَنَّك مُلَاقِيَّ فَيَقُول لَا , فَيَقُول إِنِّي أَنْسَاك كَمَا نَسِيتنِي . ثُمَّ يَلْقَى الثَّانِي فَيَقُول لَهُ وَيَقُول هُوَ مِثْل ذَلِكَ بِعَيْنِهِ , ثُمَّ يَلْقَى الثَّالِث فَيَقُول لَهُ مِثْل ذَلِكَ فَيَقُول يَا رَبّ آمَنْت بِك وَبِكِتَابِك وَبِرَسُولِك وَصَلَّيْت وَصُمْت وَتَصَدَّقْت وَيُثْنِي بِخَيْرٍ مَا اِسْتَطَاعَ قَالَ : فَيُقَال هَاهُنَا إِذًا ثُمَّ يُقَال لَهُ الْآن نَبْعَث شَاهِدًا عَلَيْك وَيَتَفَكَّر فِي نَفْسه مَنْ ذَا الَّذِي يَشْهَد عَلَيَّ فَيُخْتَم عَلَى فِيهِ وَيُقَال لِفَخِذِهِ وَلَحْمه وَعِظَامه اِنْطِقِي فَتَنْطِق فَخِذه وَلَحْمه وَعِظَامه بِعَمَلِهِ وَذَلِكَ لِيُعْذَر مِنْ نَفْسه وَذَلِكَ الْمُنَافِق وَذَلِكَ الَّذِي سَخِطَ اللَّه عَلَيْهِ ) .

انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ

كَذَّبَ الْمُشْرِكِينَ قَوْلهمْ : إِنَّ عِبَادَة الْأَصْنَام تُقَرِّبنَا إِلَى اللَّه زُلْفَى , بَلْ ظَنُّوا ذَلِكَ وَظَنّهمْ الْخَطَأ لَا يُعْذِرهُمْ وَلَا يُزِيل اِسْم الْكَذِب عَنْهُمْ , وَكَذَّبَ الْمُنَافِقِينَ بِاعْتِذَارِهِمْ بِالْبَاطِلِ , وَجَحْدهمْ نِفَاقهمْ .|وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ|أَيْ فَانْظُرْ كَيْفَ ضَلَّ عَنْهُمْ اِفْتِرَاؤُهُمْ أَيْ تَلَاشَى وَبَطَل مَا كَانُوا يَظُنُّونَهُ مِنْ شَفَاعَة آلِهَتهمْ . وَقِيلَ : ( وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ) أَيْ فَارَقَهُمْ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُون اللَّه فَلَمْ يُغْنِ عَنْهُمْ شَيْئًا ; عَنْ الْحَسَن . وَقِيلَ : الْمَعْنَى عَزَبَ عَنْهُمْ اِفْتِرَاؤُهُمْ لِدَهْشِهِمْ , وَذُهُول عُقُولهمْ . وَالنَّظَر فِي قَوْله : ( اُنْظُرْ ) يُرَاد بِهِ نَظَر الِاعْتِبَار ; ثُمَّ قِيلَ : | كَذَبُوا | بِمَعْنَى يَكْذِبُونَ , فَعَبَّرَ عَنْ الْمُسْتَقْبَل بِالْمَاضِي ; وَجَازَ أَنْ يَكْذِبُوا فِي الْآخِرَة لِأَنَّهُ مَوْضِع دَهَش وَحِيرَة وَذُهُول عَقْل . وَقِيلَ : لَا يَجُوز أَنْ يَقَع مِنْهُمْ كَذِب فِي الْآخِرَة ; لِأَنَّهَا دَار جَزَاء عَلَى مَا كَانَ فِي الدُّنْيَا - وَعَلَى ذَلِكَ أَكْثَر أَهْل النَّظَر - وَإِنَّمَا ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا ; فَمَعْنَى | وَاَللَّه رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ | عَلَى هَذَا : مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ عِنْد أَنْفُسنَا ; وَعَلَى جَوَاز أَنْ يَكْذِبُوا فِي الْآخِرَة يُعَارِضهُ قَوْله : ( وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّه حَدِيثًا ) ; وَلَا مُعَارَضَة وَلَا تَنَاقُض ; لَا يَكْتُمُونَ اللَّه حَدِيثًا فِي بَعْض الْمَوَاطِن إِذَا شَهِدَتْ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتهمْ وَأَيْدِيهمْ وَأَرْجُلهمْ بِعَمَلِهِمْ , وَيَكْذِبُونَ عَلَى أَنْفُسهمْ فِي بَعْض الْمَوَاطِن قَبْل شَهَادَة الْجَوَارِح عَلَى مَا تَقَدَّمَ . وَاَللَّه أَعْلَم . وَقَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر فِي قَوْله تَعَالَى : | وَاَللَّه رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ | قَالَ : اِعْتَذَرُوا وَحَلَفُوا ; وَكَذَلِكَ قَالَ اِبْن أَبِي نَجِيح وَقَتَادَة : وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِد أَنَّهُ قَالَ : لَمَّا رَأَوْا أَنَّ الذُّنُوب تُغْفَر إِلَّا الشِّرْك بِاَللَّهِ وَالنَّاس يَخْرُجُونَ مِنْ النَّار قَالُوا : | وَاَللَّه رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ | وَقِيلَ : | وَاَللَّه رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ | أَيْ عَلِمْنَا أَنَّ الْأَحْجَار لَا تَضُرّ وَلَا تَنْفَع , وَهَذَا وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا مِنْ الْقَوْل فَقَدْ صَدَقُوا وَلَمْ يَكْتُمُوا , وَلَكِنْ لَا يُعْذَرُونَ بِهَذَا ; فَإِنَّ الْمُعَانِد كَافِر غَيْر مَعْذُور . ثُمَّ قِيلَ فِي قَوْله : | ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتهمْ | خَمْس قِرَاءَات : قَرَأَ حَمْزَة وَالْكِسَائِيّ | يَكُنْ | بِالْيَاءِ | فِتْنَتَهُمْ | بِالنَّصْبِ خَبَر | يَكُنْ | | إِلَّا أَنْ قَالُوا | اِسْمهَا أَيْ إِلَّا قَوْلهمْ ; فَهَذِهِ قِرَاءَة بَيِّنَة . وَقَرَأَ أَهْل الْمَدِينَة وَأَبُو عَمْرو | تَكُنْ | بِالتَّاءِ | فِتْنَتَهُمْ | بِالنَّصْبِ ( إِلَّا أَنْ قَالُوا ) أَيْ إِلَّا مَقَالَتهمْ . وَقَرَأَ أُبَيّ وَابْن مَسْعُود وَمَا كَانَ - بَدَل قَوْله ( ثُمَّ لَمْ تَكُنْ ) - فِتْنَتهمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ) . وَقَرَأَ اِبْن عَامِر وَعَاصِم مِنْ رِوَايَة حَفْص , وَالْأَعْمَش مِنْ رِوَايَة الْمُفَضَّل , وَالْحَسَن وَقَتَادَة وَغَيْرهمْ ( ثُمَّ لَمْ تَكُنْ | بِالتَّاءِ | فِتْنَتُهُمْ | بِالرَّفْعِ اِسْم | تَكُنْ | وَالْخَبَر | إِلَّا أَنْ قَالُوا | فَهَذِهِ أَرْبَع قِرَاءَات . الْخَامِسَة : ( ثُمَّ لَمْ يَكُنْ | بِالْيَاءِ ( فِتْنَتُهُمْ ) ; رَفْع وَيُذَكَّر الْفِتْنَة لِأَنَّهَا بِمَعْنَى الْفُتُون , وَمِثْله | فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَة مِنْ رَبّه فَانْتَهَى | [ الْبَقَرَة : 275 ] . | وَاَللَّهِ | الْوَاو وَاو الْقَسَم | رَبّنَا | نَعْت لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ , أَوْ بَدَل . وَمَنْ نَصَبَ فَعَلَى النِّدَاء أَيْ يَا رَبّنَا وَهِيَ قِرَاءَة حَسَنَة ; لِأَنَّ فِيهَا مَعْنَى الِاسْتِكَانَة وَالتَّضَرُّع , إِلَّا أَنَّهُ فَصَلَ بَيْن الْقَسَم وَجَوَابه بِالْمُنَادَى .

وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَا

أُفْرِدَ عَلَى اللَّفْظ يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ كُفَّار مَكَّة .|وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً|أَيْ فَعَلْنَا ذَلِكَ بِهِمْ مُجَازَاة عَلَى كُفْرهمْ . وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَا يَسْمَعُونَ وَلَا يَفْقَهُونَ , وَلَكِنْ لَمَّا كَانُوا لَا يَنْتَفِعُونَ بِمَا يَسْمَعُونَ , وَلَا يَنْقَادُونَ إِلَى الْحَقّ كَانُوا بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَا يَسْمَع وَلَا يَفْهَم . وَالْأَكِنَّة الْأَغْطِيَة جَمْع كِنَان مِثْل الْأَسِنَّة وَالسِّنَان , وَالْأَعِنَّة وَالْعِنَان . كَنَنْت الشَّيْء فِي كِنِّهِ إِذَا صُنْته فِيهِ . وَأَكْنَنْت الشَّيْء أَخْفَيْته . وَالْكِنَانَة مَعْرُوفَة . وَالْكَنَّة ( بِفَتْحِ الْكَاف وَالنُّون ) اِمْرَأَة أَبِيك ; وَيُقَال : اِمْرَأَة الِابْن أَوْ الْأَخ ; لِأَنَّهَا فِي كِنِّهِ .|أَنْ يَفْقَهُوهُ|أَيْ يَفْهَمُوهُ وَهُوَ فِي مَوْضِع نَصْب ; الْمَعْنَى كَرَاهِيَة أَنْ يَفْهَمُوهُ , أَوْ لِئَلَّا يَفْهَمُوهُ .|وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا|عُطِفَ عَلَيْهِ أَيْ ثِقَلًا ; يُقَال مِنْهُ : وَقِرَتْ أُذُنه ( بِفَتْحِ الْوَاو ) تَوْقَر وَقْرًا أَيْ صَمَّتْ , وَقِيَاس مَصْدَره التَّحْرِيك إِلَّا أَنَّهُ جَاءَ بِالتَّسْكِينِ . وَقَدْ وَقَرَ اللَّه أُذُنه يَقِرهَا وَقْرًا ; يُقَال : اللَّهُمَّ قِرْ أُذُنه . وَحَكَى أَبُو زَيْد عَنْ الْعَرَب : أُذُن مَوْقُورَة عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِله ; فَعَلَى هَذَا وُقِرَتْ ( بِضَمِّ الْوَاو ) . وَقَرَأَ طَلْحَة بْن مُصَرِّف ( وِقْرًا ) بِكَسْرِ الْوَاو ; أَيْ جَعَلَ فِي آذَانهمْ مَا سَدَّهَا عَنْ اِسْتِمَاع الْقَوْل عَلَى التَّشْبِيه بِوَقْرِ الْبَعِير , وَهُوَ مِقْدَار مَا يُطِيق أَنْ يَحْمِل , وَالْوَقْر الْحِمْل ; يُقَال مِنْهُ : نَخْلَة مُوقِر وَمُوقِرَة إِذَا كَانَتْ ذَات ثَمَر كَثِير . وَرَجُل ذُو قِرَة إِذَا كَانَ وَقُورًا بِفَتْحِ الْوَاو ; وَيُقَال مِنْهُ : وَقُرَ الرَّجُل ( بِضَمِّ الْقَاف ) وَقَارًا , وَوَقَرَ ( بِفَتْحِ الْقَاف ) أَيْضًا .|وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا|أَخْبَرَ اللَّه تَعَالَى بِعِنَادِهِمْ لِأَنَّهُمْ لَمَّا رَأَوْا الْقَمَر مُنْشَقًّا قَالُوا : سِحْر ; فَأَخْبَرَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بِرَدِّهِمْ الْآيَات بِغَيْرِ حُجَّة .|حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ|مُجَادَلَتهمْ قَوْلهمْ : تَأْكُلُونَ مَا قَتَلْتُمْ , وَلَا تَأْكُلُونَ مَا قَتَلَ اللَّه ; عَنْ اِبْن عَبَّاس .|يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ|| يَقُول الَّذِينَ كَفَرُوا | يَعْنِي قُرَيْشًا ; قَالَ اِبْن عَبَّاس : قَالُوا لِلنَّضْرِ بْن الْحَارِث : مَا يَقُول مُحَمَّد ؟ قَالَ : أَرَى تَحْرِيك شَفَتَيْهِ وَمَا يَقُول إِلَّا أَسَاطِير الْأَوَّلِينَ مِثْل مَا أُحَدِّثكُمْ عَنْ الْقُرُون الْمَاضِيَة , وَكَانَ النَّضْر صَاحِب قَصَص وَأَسْفَار , فَسَمِعَ أَقَاصِيص فِي دِيَار الْعَجَم مِثْل قِصَّة رُسْتُم واسفنديار فَكَانَ يُحَدِّثهُمْ . وَوَاحِد الْأَسَاطِير أَسْطَار كَأَبْيَاتٍ وَأَبَايِيت ; عَنْ الزَّجَّاج . قَالَ الْأَخْفَش : وَاحِدهَا أُسْطُورَة كَأُحْدُوثَةٍ وَأَحَادِيث . أَبُو عُبَيْدَة : وَاحِدهَا إِسْطَارَة . النَّحَّاس : وَاحِدهَا أُسْطُور مِثْل عُثْكُول . وَيُقَال : هُوَ جَمْع أَسْطَار , وَأَسْطَار جَمْع سَطْر ; يُقَال : سَطْر وَسَطَر . وَالسَّطْر الشَّيْء الْمُمْتَدّ الْمُؤَلَّف كَسَطْرِ الْكِتَاب . الْقُشَيْرِيّ : وَاحِدهَا أَسْطِير . وَقِيلَ : هُوَ جَمْع لَا وَاحِد لَهُ كَمَذَاكِير وَعَبَادِيد وَأَبَابِيل أَيْ مَا سَطَّرَهُ الْأَوَّلُونَ فِي الْكُتُب . قَالَ الْجَوْهَرِيّ وَغَيْره : الْأَسَاطِير الْأَبَاطِيل وَالتُّرَّهَات . قُلْت : أَنْشَدَنِي بَعْض أَشْيَاخِي : <br>تَطَاوَلَ لَيْلِي وَاعْتَرَتْنِي وَسَاوِسِي .......... لِآتٍ أَتَى بِالتُّرَّهَاتِ الْأَبَاطِيل<br>

وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ

النَّهْي الزَّجْر , وَالنَّأْي الْبُعْد , وَهُوَ عَام فِي جَمِيع الْكُفَّار أَيْ يَنْهَوْنَ عَنْ اِتِّبَاع مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ ; عَنْ اِبْن عَبَّاس وَالْحَسَن . وَقِيلَ : هُوَ خَاصّ بِأَبِي طَالِب يَنْهَى الْكُفَّار عَنْ إِذَايَة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَيَتَبَاعَد عَنْ الْإِيمَان بِهِ ; عَنْ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا . وَرَوَى أَهْل السِّيَر قَالَ : كَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ خَرَجَ إِلَى الْكَعْبَة يَوْمًا وَأَرَادَ أَنْ يُصَلِّي , فَلَمَّا دَخَلَ فِي الصَّلَاة قَالَ أَبُو جَهْل - لَعَنَهُ اللَّه - : مَنْ يَقُوم إِلَى هَذَا الرَّجُل فَيُفْسِد عَلَيْهِ صَلَاته . فَقَامَ اِبْن الزِّبَعْرَى فَأَخَذَ فَرْثًا وَدَمًا فَلَطَّخَ بِهِ وَجْه النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَانْفَتَلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ صَلَاته , ثُمَّ أَتَى أَبَا طَالِب عَمّه فَقَالَ : ( يَا عَمّ أَلَا تَرَى إِلَى مَا فُعِلَ بِي ) فَقَالَ أَبُو طَالِب : مَنْ فَعَلَ هَذَا بِك ؟ فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : عَبْد اللَّه بْن الزِّبَعْرَى ; فَقَامَ أَبُو طَالِب وَوَضَعَ سَيْفه عَلَى عَاتِقه وَمَشَى مَعَهُ حَتَّى أَتَى الْقَوْم ; فَلَمَّا رَأَوْا أَبَا طَالِب قَدْ أَقْبَلَ جَعَلَ الْقَوْم يَنْهَضُونَ ; فَقَالَ أَبُو طَالِب : وَاَللَّه لَئِنْ قَامَ رَجُل جَلَّلْته بِسَيْفِي فَقَعَدُوا حَتَّى دَنَا إِلَيْهِمْ , فَقَالَ : يَا بُنَيّ مِنْ الْفَاعِل بِك هَذَا ؟ فَقَالَ : ( عَبْد اللَّه بْن الزِّبَعْرَى ) ; فَأَخَذَ أَبُو طَالِب فَرْثًا وَدَمًا فَلَطَّخَ بِهِ وُجُوههمْ وَلِحَاهُمْ وَثِيَابهمْ وَأَسَاءَ لَهُمْ الْقَوْل ; فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة ( وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ ) فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يَا عَمّ نَزَلَتْ فِيك آيَة ) قَالَ : وَمَا هِيَ ؟ قَالَ : ( تَمْنَع قُرَيْشًا أَنْ تُؤْذِينِي وَتَأْبَى أَنْ تُؤْمِن بِي ) فَقَالَ أَبُو طَالِب : <br>وَاَللَّه لَنْ يَصِلُوا إِلَيْك بِجَمْعِهِمْ .......... حَتَّى أُوَسَّد فِي التُّرَاب دَفِينَا <br><br>فَاصْدَعْ بِأَمْرِك مَا عَلَيْك غَضَاضَة .......... وَأَبْشِرْ بِذَاكَ وَقَرَّ مِنْك عُيُونَا <br><br>وَدَعَوْتنِي وَزَعَمْت أَنَّك نَاصِحِي .......... فَلَقَدْ صَدَقْت وَكُنْت قَبْل أَمِينَا <br><br>وَعَرَضْت دِينًا قَدْ عَرَفْت بِأَنَّهُ .......... مِنْ خَيْر أَدْيَان الْبَرِيَّة دِينَا <br><br>لَوْلَا الْمَلَامَة أَوْ حِذَار مَسَبَّة .......... لَوَجَدْتنِي سَمْحًا بِذَاكَ يَقِينَا <br>فَقَالُوا : يَا رَسُول اللَّه هَلْ تَنْفَع أَبَا طَالِب نُصْرَته ؟ قَالَ : ( نَعَمْ دَفَعَ عَنْهُ بِذَاكَ الْغُلّ وَلَمْ يُقْرَن مَعَ الشَّيَاطِين وَلَمْ يَدْخُل فِي جُبّ الْحَيَّات وَالْعَقَارِب إِنَّمَا عَذَابه فِي نَعْلَيْنِ مِنْ نَار فِي رِجْلَيْهِ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغه فِي رَأْسه وَذَلِكَ أَهْوَن أَهْل النَّار عَذَابًا ) . وَأَنْزَلَ اللَّه عَلَى رَسُوله | فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْم مِنْ الرُّسُل | [ الْأَحْقَاف : 35 ] . وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمِّهِ : ( قُلْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه أَشْهَد لَك بِهَا يَوْم الْقِيَامَة ) قَالَ : لَوْلَا تُعَيِّرنِي قُرَيْش يَقُولُونَ : إِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ الْجَزَع لَأَقْرَرْت بِهَا عَيْنك ; فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى : | إِنَّك لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْت وَلَكِنَّ اللَّه يَهْدِي مَنْ يَشَاء | [ الْقَصَص : 56 ] كَذَا الرِّوَايَة الْمَشْهُورَة ( الْجَزَع ) بِالْجِيمِ وَالزَّاي وَمَعْنَاهُ الْخَوْف . وَقَالَ أَبُو عُبَيْد : ( الْخَرْع ) بِالْخَاءِ الْمَنْقُوطَة وَالرَّاء الْمُهْمَلَة . قَالَ يَعْنِي الضَّعْف وَالْخَوَر , وَفِي صَحِيح مُسْلِم أَيْضًا عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَهْوَن أَهْل النَّار عَذَابًا أَبُو طَالِب وَهُوَ مُنْتَعِل بِنَعْلَيْنِ مِنْ نَار يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغه ) . وَأَمَّا عَبْد اللَّه بْن الزِّبَعْرَى فَإِنَّهُ أَسْلَمَ عَام الْفَتْح وَحَسُنَ إِسْلَامه , وَاعْتَذَرَ إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَبِلَ عُذْره ; وَكَانَ شَاعِرًا مَجِيدًا ; فَقَالَ يَمْدَح النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَلَهُ فِي مَدْحه أَشْعَار كَثِيرَة يَنْسَخ بِهَا مَا قَدْ مَضَى فِي كُفْره ; مِنْهَا قَوْله : <br>مَنَعَ الرُّقَاد بَلَابِل وَهُمُوم .......... وَاللَّيْل مُعْتَلِج الرِّوَاق بَهِيم <br><br>مِمَّا أَتَانِي أَنَّ أَحْمَد لَامَنِي .......... فِيهِ فَبِتّ كَأَنَّنِي مَحْمُوم <br><br>يَا خَيْر مَنْ حَمَلَتْ عَلَى أَوْصَالهَا .......... عَيْرَانَة سُرُح الْيَدَيْنِ غَشُوم <br><br>إِنِّي لَمُعْتَذِر إِلَيْك مِنْ الَّذِي .......... أَسْدَيْت إِذْ أَنَا فِي الضَّلَال أَهِيم <br><br>أَيَّام تَأْمُرنِي بِأَغْوَى خُطَّة .......... سَهْم وَتَأْمُرنِي بِهَا مَخْزُوم <br><br>وَأَمُدّ أَسْبَاب الرَّدَى وَيَقُودنِي .......... أَمْر الْغُوَاة وَأَمْرهمْ مَشْئُوم <br><br>فَالْيَوْم آمَنَ بِالنَّبِيِّ مُحَمَّد .......... قَلْبِي وَمُخْطِئ هَذِهِ مَحْرُوم <br><br>مَضَتْ الْعَدَاوَة فَانْقَضَتْ أَسْبَابهَا .......... وَأَتَتْ أَوَاصِر بَيْننَا وَحُلُوم <br><br>فَاغْفِرْ فَدَى لَك وَالِدَايَ كِلَاهُمَا .......... زَلَلِي فَإِنَّك رَاحِم مَرْحُوم <br><br>وَعَلَيْك مِنْ سِمَة الْمَلِيك عَلَامَة .......... نُور أَغَرّ وَخَاتَم مَخْتُوم <br><br>أَعْطَاك بَعْد مَحَبَّة بُرْهَانه .......... شَرَفًا وَبُرْهَان الْإِلَه عَظِيم <br><br>وَلَقَدْ شَهِدْت بِأَنَّ دِينك صَادِق .......... حَقًّا وَأَنَّك فِي الْعِبَاد جَسِيم <br><br>وَاَللَّه يَشْهَد أَنَّ أَحْمَد مُصْطَفًى .......... مُسْتَقْبَل فِي الصَّالِحِينَ كَرِيم <br><br>قَرْم عَلَا بُنْيَانه مِنْ هَاشِم .......... فَرْع تَمَكَّنَ فِي الذُّرَى وَأَرُوم <br>وَقِيلَ : الْمَعْنَى ( يَنْهَوْنَ عَنْهُ ) أَيْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ يَنْهَوْنَ عَنْ الْقُرْآن ( وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ ) . عَنْ قَتَادَة ; فَالْهَاء عَلَى الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ فِي ( عَنْهُ ) لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَعَلَى قَوْل قَتَادَة لِلْقُرْآنِ .|وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ|( إِنْ ) نَافِيَة أَيْ وَمَا يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسهمْ بِإِصْرَارِهِمْ عَلَى الْكُفْر , وَحَمْلهمْ أَوْزَار الَّذِينَ يَصُدُّونَهُمْ .

وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآَيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ

أَيْ إِذْ وُقِفُوا غَدًا و ( إِذْ ) قَدْ تُسْتَعْمَل فِي مَوْضِع ( إِذَا ) و ( إِذَا ) فِي مَوْضِع ( إِذْ ) وَمَا سَيَكُونُ فَكَأَنَّهُ كَانَ ; لِأَنَّ خَبَر اللَّه تَعَالَى حَقّ وَصِدْق , فَلِهَذَا عَبَّرَ بِالْمَاضِي . وَمَعْنَى ( إِذْ وُقِفُوا ) حُبِسُوا يُقَال : وَقَفْته وَقْفًا فَوَقَفَ وُقُوفًا . وَقَرَأَ اِبْن السَّمَيْقَع ( إِذْ وَقَفُوا ) بِفَتْحِ الْوَاو وَالْقَاف مِنْ الْوُقُوف . | عَلَى النَّار | أَيْ هُمْ فَوْقهَا عَلَى الصِّرَاط وَهِيَ تَحْتهمْ . وَقِيلَ : ( عَلَى ) بِمَعْنَى الْبَاء ; أَيْ وَقَفُوا بِقُرْبِهَا وَهُمْ يُعَايِنُونَهَا . وَقَالَ الضَّحَّاك : جَمَعُوا , يَعْنِي عَلَى أَبْوَابهَا . وَيُقَال : وَقَفُوا عَلَى مَتْن جَهَنَّم وَالنَّار تَحْتهمْ . وَفِي الْخَبَر : أَنَّ النَّاس كُلّهمْ يُوقَفُونَ عَلَى مَتْن جَهَنَّم كَأَنَّهَا مَتْن إِهَالَة , ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ خُذِي أَصْحَابك وَدَعِي أَصْحَابِي . وَقِيلَ : ( وُقِفُوا ) دَخَلُوهَا - أَعَاذَنَا اللَّه مِنْهَا - فَعَلَى بِمَعْنَى ( فِي ) أَيْ وُقِفُوا فِي النَّار . وَجَوَاب ( لَوْ ) مَحْذُوف لِيَذْهَب الْوَهْم إِلَى كُلّ شَيْء فَيَكُون أَبْلَغ فِي التَّخْوِيف ; وَالْمَعْنَى : لَوْ تَرَاهُمْ فِي تِلْكَ الْحَال لَرَأَيْت أَسْوَأ حَال , أَوْ لَرَأَيْت مَنْظَرًا هَائِلًا , أَوْ لَرَأَيْت أَمْرًا عَجَبًا وَمَا كَانَ مِثْل هَذَا التَّقْدِير .|فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ|بِالرَّفْعِ فِي الْأَفْعَال الثَّلَاثَة عَطْفًا قِرَاءَة أَهْل الْمَدِينَة وَالْكِسَائِيّ ; وَأَبُو عَمْرو وَأَبُو بَكْر عَنْ عَاصِم بِالضَّمِّ . اِبْن عَامِر عَلَى رَفْع ( نُكَذِّب ) وَنَصْب ( وَنَكُون ) وَكُلّه دَاخِل فِي مَعْنَى التَّمَنِّي ; أَيْ لَا تَمَنَّوْا الرَّدّ وَأَلَّا يُكَذِّبُوا وَأَنْ يَكُونُوا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ . وَاخْتَارَ سِيبَوَيْهِ الْقَطْع فِي ( وَلَا نُكَذِّب ) فَيَكُون غَيْر دَاخِل فِي التَّمَنِّي ; الْمَعْنَى : وَنَحْنُ لَا نُكَذِّب عَلَى مَعْنَى الثَّبَات عَلَى تَرْك التَّكْذِيب ; أَيْ لَا نُكَذِّب رَدَدْنَا أَوْ لَمْ نَرُدّ ; قَالَ سِيبَوَيْهِ : وَهُوَ مِثْل قَوْله دَعْنِي وَلَا أَعُود أَيْ لَا أَعُود عَلَى كُلّ حَال تَرَكْتنِي أَوْ لَمْ تَتْرُكنِي . وَاسْتَدَلَّ أَبُو عَمْرو عَلَى خُرُوجه مِنْ التَّمَنِّي بِقَوْلِهِ : | وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ | لِأَنَّ الْكَذِب لَا يَكُون فِي التَّمَنِّي إِنَّمَا يَكُون فِي الْخَبَر . وَقَالَ مَنْ جَعَلَهُ دَاخِلًا فِي التَّمَنِّي : الْمَعْنَى وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ فِي الدُّنْيَا فِي إِنْكَارهمْ الْبَعْث وَتَكْذِيبهمْ الرُّسُل . وَقَرَأَ حَمْزَة وَحَفْص بِنَصْبِ ( نُكَذِّب ) و ( نَكُون ) جَوَابًا لِلتَّمَنِّي ; لِأَنَّهُ غَيْر وَاجِب , وَهُمَا دَاخِلَانِ فِي التَّمَنِّي عَلَى مَعْنَى أَنَّهُمْ تَمَنَّوْا الرَّدّ وَتَرْك التَّكْذِيب وَالْكَوْن مَعَ الْمُؤْمِنِينَ . قَالَ أَبُو إِسْحَاق : مَعْنَى ( وَلَا نُكَذِّب ) أَيْ إِنْ رَدَدْنَا لَمْ نُكَذِّب . وَالنَّصْب فِي ( نُكَذِّبَ ) و ( نَكُونَ ) بِإِضْمَارِ ( أَنْ ) كَمَا يُنْصَب فِي جَوَاب الِاسْتِفْهَام وَالْأَمْر وَالنَّهْي وَالْعَرْض ; لِأَنَّ جَمِيعه غَيْر وَاجِب وَلَا وَاقِع بَعْد , فَيُنْصَب , الْجَوَاب مَعَ الْوَاو كَأَنَّهُ عَطْف عَلَى مَصْدَر الْأَوَّل ; كَأَنَّهُمْ قَالُوا : يَا لَيْتَنَا يَكُون لَنَا رَدّ وَانْتِفَاء مِنْ الْكَذِب , وَكَوْن مِنْ الْمُؤْمِنِينَ ; فَحُمِلَا عَلَى مَصْدَر ( نُرَدّ ) لِانْقِلَابِ الْمَعْنَى إِلَى الرَّفْع , وَلَمْ يَكُنْ بُدّ مِنْ إِضْمَار ( أَنْ ) فِيهِ يُتِمّ النَّصْب فِي الْفِعْلَيْنِ . وَقَرَأَ اِبْن عَامِر ( وَنَكُونَ ) بِالنَّصْبِ عَلَى جَوَاب التَّمَنِّي كَقَوْلِك : لَيْتك تَصِير إِلَيْنَا وَنُكْرِمك , أَيْ لَيْتَ مَصِيرك يَقَع وَإِكْرَامنَا يَقَع , وَأُدْخِلَ الْفِعْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ فِي التَّمَنِّي , أَوْ أَرَادَ : وَنَحْنُ لَا نُكْرِمك عَلَى الْقَطْع عَلَى مَا تَقَدَّمَ ; يَحْتَمِل . وَقَرَأَ أُبَيّ ( وَلَا نُكَذِّب بِآيَاتِ رَبّنَا أَبَدًا ) . وَعَنْهُ وَابْن مَسْعُود ( يَا لَيْتَنَا نُرَدّ فَلَا نُكَذِّبَ ) بِالْفَاءِ وَالنَّصْب , وَالْفَاء يُنْصَب بِهَا فِي الْجَوَاب كَمَا يُنْصَب بِالْوَاوِ ; عَنْ الزَّجَّاج . وَأَكْثَر الْبَصْرِيِّينَ لَا يُجِيزُونَ الْجَوَاب إِلَّا بِالْفَاءِ .

بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ

بَلْ إِضْرَاب عَنْ تَمَنِّيهمْ وَادِّعَائِهِمْ الْإِيمَان لَوْ رُدُّوا</p><p>وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى ( بَدَا لَهُمْ ) عَلَى أَقْوَال بَعْد تَعْيِين مَنْ الْمُرَاد ; فَقِيلَ : الْمُرَاد الْمُنَافِقُونَ لِأَنَّ اِسْم الْكُفْر مُشْتَمِل عَلَيْهِمْ , فَعَادَ الضَّمِير عَلَى بَعْض الْمَذْكُورِينَ ; قَالَ النَّحَّاس : وَهَذَا مِنْ الْكَلَام الْعَذْب الْفَصِيح . وَقِيلَ : الْمُرَاد الْكُفَّار وَكَانُوا إِذَا وَعَظَهُمْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَافُوا وَأَخْفَوْا ذَلِكَ الْخَوْف لِئَلَّا يَفْطِن بِهِمْ ضُعَفَاؤُهُمْ , فَيَظْهَر يَوْم الْقِيَامَة ; وَلِهَذَا قَالَ الْحَسَن : ( بَدَا لَهُمْ ) أَيْ بَدَا لِبَعْضِهِمْ مَا كَانَ يُخْفِيه عَنْ بَعْض . وَقِيلَ : بَلْ ظَهَرَ لَهُمْ مَا كَانُوا يَجْحَدُونَهُ مِنْ الشِّرْك فَيَقُولُونَ : ( وَاَللَّه رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ) فَيُنْطِق اللَّه جَوَارِحهمْ فَتَشْهَد عَلَيْهِمْ بِالْكُفْرِ فَذَلِكَ حِين ( بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْل ) . قَالَ أَبُو رَوْق . وَقِيلَ : ( بَدَا لَهُمْ ) مَا كَانُوا يَكْتُمُونَهُ مِنْ الْكُفْر ; أَيْ بَدَتْ أَعْمَالهمْ السَّيِّئَة كَمَا قَالَ : | وَبَدَا لَهُمْ مِنْ اللَّه مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ | [ الزُّمَر : 47 ] . قَالَ الْمُبَرِّد : بَدَا لَهُمْ جَزَاء كُفْرهمْ الَّذِي كَانُوا يُخْفُونَهُ . وَقِيلَ : الْمَعْنَى بَلْ ظَهَرَ لِلَّذِينَ اِتَّبَعُوا الْغُوَاة مَا كَانَ الْغُوَاة يُخْفُونَ عَنْهُمْ مِنْ أَمْر الْبَعْث وَالْقِيَامَة ; لِأَنَّ بَعْده | وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ | .|وَلَوْ رُدُّوا|قِيلَ : بَعْد مُعَايَنَة الْعَذَاب . وَقِيلَ : قَبْل مُعَايَنَته .|لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ|أَيْ لَصَارُوا وَرَجَعُوا إِلَى مَا نُهُوا عَنْهُ مِنْ الشِّرْك لِعِلْمِ اللَّه تَعَالَى فِيهِمْ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ , وَقَدْ عَايَنَ إِبْلِيس مَا عَايَنَ مِنْ آيَات اللَّه ثُمَّ عَانَدَ|وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ|إِخْبَار عَنْهُمْ , وَحِكَايَة عَنْ الْحَال الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا فِي الدُّنْيَا مِنْ تَكْذِيبهمْ الرُّسُل , وَإِنْكَارهمْ الْبَعْث ; كَمَا قَالَ : | وَإِنَّ رَبّك لَيَحْكُم بَيْنهمْ | [ النَّحْل : 124 ] فَجَعَلَهُ حِكَايَة عَنْ الْحَال الْآتِيَة . وَقِيلَ : الْمَعْنَى وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ فِيمَا أَخْبَرُوا بِهِ عَنْ أَنْفُسهمْ مِنْ أَنَّهُمْ لَا يَكْذِبُونَ وَيَكُونُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ . وَقَرَأَ يَحْيَى بْن وَثَّاب ( وَلَوْ رِدُّوا ) بِكَسْرِ الرَّاء ; لِأَنَّ الْأَصْل رُدِدُوا فَنُقِلَتْ كَسْرَة الدَّال عَلَى الرَّاء .

وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ

اِبْتِدَاء وَخَبَر و ( إِنْ ) نَافِيَة . ( وَمَا نَحْنُ ) ( نَحْنُ ) اِسْم ( مَا ) و | بِمَبْعُوثِينَ | خَبَرهَا ; وَهَذَا اِبْتِدَاء إِخْبَار عَنْهُمْ عَمَّا قَالُوهُ فِي الدُّنْيَا . قَالَ اِبْن زَيْد : هُوَ دَاخِل فِي قَوْله : | وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ | | وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتنَا الدُّنْيَا | أَيْ لَعَادُوا إِلَى الْكُفْر , وَاشْتَغَلُوا بِلَذَّةِ الْحَال . وَهَذَا يُحْمَل عَلَى الْمُعَانِد كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي حَال إِبْلِيس , أَوْ عَلَى أَنَّ اللَّه يُلَبِّس عَلَيْهِمْ بَعْد مَا عَرَفُوا , وَهَذَا شَائِع فِي الْعَقْل .

وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ

( وُقِفُوا ) أَيْ حُبِسُوا ( عَلَى رَبّهمْ ) أَيْ عَلَى مَا يَكُون مِنْ أَمْر اللَّه فِيهِمْ . وَقِيلَ : ( عَلَى ) بِمَعْنَى ( عِنْد ) أَيْ عِنْد مَلَائِكَته وَجَزَائِهِ ; وَحَيْثُ لَا سُلْطَان فِيهِ لِغَيْرِ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ ; تَقُول : وَقَفْت عَلَى فُلَان أَيْ عِنْده ; وَجَوَاب | لَوْ | مَحْذُوف لِعِظَمِ شَأْن الْوُقُوف .|قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ|تَقْرِير وَتَوْبِيخ أَيْ أَلَيْسَ هَذَا الْبَعْث كَائِنًا مَوْجُودًا ؟|قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ|| قَالُوا بَلَى | وَيُؤَكِّدُونَ اِعْتِرَافهمْ بِالْقَسَمِ بِقَوْلِهِمْ : | وَرَبّنَا | . وَقِيلَ : إِنَّ الْمَلَائِكَة تَقُول لَهُمْ بِأَمْرِ اللَّه أَلَيْسَ هَذَا الْبَعْث وَهَذَا الْعَذَاب حَقًّا ؟ فَيَقُولُونَ : ( بَلَى وَرَبّنَا ) إِنَّهُ حَقّ . | قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَاب بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ | .

قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ

قِيل: بِالْبَعْثِ بَعْد الْمَوْت وَبِالْجَزَاءِ ; دَلِيله قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِين كَاذِبَة لِيَقْتَطِع بِهَا مَال اِمْرِئٍ مُسْلِم لَقِيَ اللَّه وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَان ) أَيْ لَقِيَ جَزَاءَهُ ; لِأَنَّ مَنْ غَضِبَ عَلَيْهِ لَا يَرَى اللَّه عِنْد مُثْبِتِي الرُّؤْيَة , ذَهَبَ إِلَى هَذَا الْقَفَّال وَغَيْره ; قَالَ الْقُشَيْرِيّ : وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ ; لِأَنَّ حَمْلَ اللِّقَاء فِي مَوْضِع عَلَى الْجَزَاء لِدَلِيلٍ قَائِم لَا يُوجِب هَذَا التَّأْوِيل فِي كُلّ مَوْضِع , فَلْيُحْمَلْ اللِّقَاء عَلَى ظَاهِره فِي هَذِهِ الْآيَة ; وَالْكُفَّار كَانُوا يُنْكِرُونَ الصَّانِع , وَمُنْكِر الرُّؤْيَة مُنْكِر لِلْوُجُودِ !|حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً|سُمِّيَتْ الْقِيَامَة بِالسَّاعَةِ لِسُرْعَةِ الْحِسَاب فِيهَا . وَمَعْنَى ( بَغْتَة ) فَجْأَة ; يُقَال : بَغَتَهُمْ الْأَمْر يَبْغَتهُمْ بَغْتًا وَبَغْتَة . وَهِيَ نَصْب عَلَى الْحَال , وَهِيَ عِنْد سِيبَوَيْهِ مَصْدَر فِي مَوْضِع الْحَال , كَمَا تَقُول : قَتَلْته صَبْرًا , وَأَنْشَدَ : <br>فَلَأْيًا بِلَأْيٍ مَا حَمَلْنَا وَلِيدنَا .......... عَلَى ظَهْر مُحِبُّوك ظِمَاء مَفَاصِله <br>وَلَا يُجِيز سِيبَوَيْهِ أَنْ يُقَاسَ عَلَيْهِ ; لَا يُقَال : جَاءَ فُلَان سُرْعَة .|قَالُوا يَا|وَقَعَ النِّدَاء عَلَى الْحَسْرَة وَلَيْسَتْ بِمُنَادَى فِي الْحَقِيقَة , وَلَكِنَّهُ يَدُلّ عَلَى كَثْرَة التَّحَسُّر , وَمِثْله يَا لَلْعَجَب وَيَا لَلرَّخَاء وَلَيْسَا بِمُنَادِيَيْنِ فِي الْحَقِيقَة , وَلَكِنَّهُ يَدُلّ عَلَى كَثْرَة التَّعَجُّب وَالرَّخَاء . قَالَ سِيبَوَيْهِ : كَأَنَّهُ قَالَ يَا عَجَب تَعَالَ فَهَذَا زَمَن إِتْيَانك , وَكَذَلِكَ قَوْلك يَا حَسْرَتِي أَيْ يَا حَسْرَتَا تَعَالَيْ فَهَذَا وَقْتك , وَكَذَلِكَ مَا لَا يَصِحّ نِدَاؤُهُ يَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى , فَهَذَا أَبْلَغ مِنْ قَوْلك تَعَجَّبْت . وَمِنْهُ قَوْل الشَّاعِر : <br>فَيَا عَجَبًا مِنْ رَحْلهَا الْمُتَحَمَّل <br>وَقِيلَ : هُوَ تَنْبِيه لِلنَّاسِ عَلَى عَظِيم مَا يَحِلّ بِهِمْ مِنْ الْحَسْرَة ; أَيْ يَا أَيّهَا النَّاس تَنَبَّهُوا عَلَى عَظِيم مَا بِي مِنْ الْحَسْرَة , فَوَقَعَ النِّدَاء عَلَى غَيْر الْمُنَادَى حَقِيقَة , كَقَوْلِك : لَا أَرَيْنَك هَاهُنَا . فَيَقَع النَّهْي عَلَى غَيْر الْمَنْهِيّ فِي الْحَقِيقَة .|حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا|أَيْ فِي السَّاعَة , أَيْ فِي التَّقْدِمَة لَهَا ; عَنْ الْحَسَن . و ( فَرَّطْنَا ) مَعْنَاهُ ضَيَّعْنَا وَأَصْله التَّقَدُّم ; يُقَال : فَرَّطَ فُلَان أَيْ تَقَدَّمَ وَسَبَقَ إِلَى الْمَاء , وَمِنْهُ ( أَنَا فَرَطكُمْ عَلَى الْحَوْض ) . وَمِنْهُ الْفَارِط أَيْ الْمُتَقَدِّم لِلْمَاءِ , وَمِنْهُ - فِي الدُّعَاء لِلصَّبِيِّ - اللَّهُمَّ اِجْعَلْهُ فَرَطًا لِأَبَوَيْهِ ; فَقَوْلهمْ : ( فَرَّطْنَا ) أَيْ قَدَّمْنَا الْعَجْز . وَقِيلَ : ( فَرَّطْنَا ) أَيْ جَعَلْنَا غَيْرنَا الْفَارِط السَّابِق لَنَا إِلَى طَاعَة اللَّه وَتَخَلَّفْنَا . ( فِيهَا ) أَيْ فِي الدُّنْيَا بِتَرْكِ الْعَمَل لِلسَّاعَةِ . وَقَالَ الطَّبَرِيّ : ( الْهَاء ) رَاجِعَة إِلَى الصَّفْقَة , وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمْ خُسْرَان صَفْقَتهمْ بِبَيْعِهِمْ الْإِيمَان بِالْكُفْرِ , وَالْآخِرَة بِالدُّنْيَا , | قَالُوا يَا حَسْرَتنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا | أَيْ فِي الصَّفْقَة , وَتَرَكَ ذِكْرهَا لِدَلَالَةِ الْكَلَام عَلَيْهَا ; لِأَنَّ الْخُسْرَان لَا يَكُون إِلَّا فِي صَفْقَة بَيْع ; دَلِيله قَوْله : | فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتهمْ | [ الْبَقَرَة : 16 ] . وَقَالَ السُّدِّيّ : عَلَى مَا ضَيَّعْنَا أَيْ مِنْ عَمَل الْجَنَّة . وَفِي الْخَبَر عَنْ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَة قَالَ : ( يَرَى أَهْل النَّار مَنَازِلهمْ فِي الْجَنَّة فَيَقُولُونَ : ( يَا حَسْرَتنَا ) .|فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ|أَيْ ذُنُوبهمْ جَمْع وِزْر|أَوْزَارَهُمْ عَلَى|مَجَاز وَتَوَسُّع وَتَشْبِيه بِمَنْ يَحْمِل ثِقَلًا ; يُقَال مِنْهُ : وَزَرَ يَزِر , وَوَزِرَ يُوزَر فَهُوَ وَازِر وَمَوْزُور ; وَأَصْله مِنْ الْوَزَر وَهُوَ الْجَبَل . وَمِنْهُ الْحَدِيث فِي النِّسَاء اللَّوَاتِي خَرَجْنَ فِي جِنَازَة ( اِرْجِعْنَ مَوْزُورَات غَيْر مَأْجُورَات ) قَالَ أَبُو عُبَيْد : وَالْعَامَّة تَقُول : ( مَأْزُورَات ) كَأَنَّهُ لَا وَجْه لَهُ عِنْده ; لِأَنَّهُ مِنْ الْوِزْر . قَالَ أَبُو عُبَيْد : وَيُقَال لِلرَّجُلِ إِذَا بَسَطَ ثَوْبه فَجَعَلَ فِيهِ الْمَتَاع اِحْمِلْ وِزْرك أَيْ ثِقَلك . وَمِنْهُ الْوَزِير لِأَنَّهُ يَحْمِل أَثْقَال مَا يُسْنَد إِلَيْهِ مِنْ تَدْبِير الْوِلَايَة : وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَزِمَتْهُمْ الْآثَام فَصَارُوا مُثْقَلِينَ بِهَا .|ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا|أَيْ مَا أَسْوَأ الشَّيْء الَّذِي يَحْمِلُونَهُ .

وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ

أَيْ لِقِصَرِ مُدَّتهَا كَمَا قَالَ : <br>أَلَا إِنَّمَا الدُّنْيَا كَأَحْلَامِ نَائِم .......... وَمَا خَيْر عَيْش لَا يَكُون بِدَائِمٍ <br><br>تَأَمَّلْ إِذَا مَا نِلْت بِالْأَمْسِ لَذَّة .......... فَأَفْنَيْتهَا هَلْ أَنْتَ إِلَّا كَحَالِمِ <br>وَقَالَ آخَر : <br>فَاعْمَلْ عَلَى مَهَل فَإِنَّك مَيِّت .......... وَاكْدَحْ لِنَفْسِك أَيّهَا الْإِنْسَان <br><br>فَكَأَنَّ مَا قَدْ كَانَ لَمْ يَكُ إِذْ مَضَى .......... وَكَأَنَّ مَا هُوَ كَائِن قَدْ كَانَا <br>وَقِيلَ : الْمَعْنَى مَتَاع الْحَيَاة الدُّنْيَا لَعِب وَلَهْو ; أَيْ الَّذِي يَشْتَهُوهُ فِي الدُّنْيَا لَا عَاقِبَة لَهُ , فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ اللَّعِب وَاللَّهْو . وَنَظَرَ سُلَيْمَان بْن عَبْد اللَّه فِي الْمِرْآة فَقَالَ : أَنَا الْمَلِك الشَّابّ ; فَقَالَتْ لَهُ جَارِيَة لَهُ : <br>أَنْتَ نِعْمَ الْمَتَاع لَوْ كُنْت تَبْقَى .......... غَيْر أَنْ لَا بَقَاء لِلْإِنْسَانِ <br><br>لَيْسَ فِيمَا بَدَا لَنَا مِنْك عَيْب .......... كَانَ فِي النَّاس غَيْر أَنَّك فَانِي <br>وَقِيلَ : مَعْنَى ( لَعِب وَلَهْو ) بَاطِل وَغُرُور , كَمَا قَالَ : ( وَمَا الْحَيَاة الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاع الْغُرُور ) [ آل عِمْرَان : 185 ] فَالْمَقْصِد بِالْآيَةِ تَكْذِيب الْكُفَّار فِي قَوْلهمْ : | إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتنَا الدُّنْيَا | وَاللَّعِب مَعْرُوف , وَالتَّلْعَابَة الْكَثِير اللَّعِب , وَالْمَلْعَب مَكَان اللَّعِب ; يُقَال : لَعِبَ يَلْعَب . وَاللَّهْو أَيْضًا مَعْرُوف , وَكُلّ مَا شَغَلَك فَقَدْ أَلْهَاك , وَلَهَوْت مِنْ اللَّهْو , وَقِيلَ : أَصْله الصَّرْف عَنْ الشَّيْء ; مِنْ قَوْلهمْ : لَهَيْت عَنْهُ ; قَالَ الْمَهْدَوِيّ : وَفِيهِ بُعْد ; لِأَنَّ الَّذِي مَعْنَاهُ الصَّرْف لَامه يَاء بِدَلِيلِ قَوْلهمْ : لِهْيَان , وَلَام الْأَوَّل وَاو .</p><p>لَيْسَ مِنْ اللَّهْو وَاللَّعِب مَا كَانَ مِنْ أُمُور الْآخِرَة , فَإِنَّ حَقِيقَة اللَّعِب مَا لَا يُنْتَفَع بِهِ وَاللَّهْو مَا يُلْتَهَى بِهِ , وَمَا كَانَ مُرَادًا لِلْآخِرَةِ خَارِج عَنْهُمَا ; وَذَمَّ رَجُل الدُّنْيَا عِنْد عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فَقَالَ عَلِيّ : الدُّنْيَا دَار صِدْق لِمَنْ صَدَقَهَا , وَدَار نَجَاة لِمَنْ فَهِمَ عَنْهَا , وَدَار غِنًى لِمَنْ تَزَوَّدَ مِنْهَا . وَقَالَ مَحْمُود الْوَرَّاق : <br>لَا تُتْبِع الدُّنْيَا وَأَيَّامهَا .......... ذَمًّا وَإِنْ دَارَتْ بِك الدَّائِرَة <br><br>مِنْ شَرَف الدُّنْيَا وَمِنْ فَضْلهَا .......... أَنْ بِهَا تُسْتَدْرَك الْآخِرَة <br>وَرَوَى أَبُو عُمَر بْن عَبْد الْبَرّ عَنْ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ , قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( الدُّنْيَا مَلْعُونَة مَلْعُون مَا فِيهَا إِلَّا مَا كَانَ فِيهَا مِنْ ذِكْر اللَّه أَوْ أَدَّى إِلَى ذِكْر اللَّه وَالْعَالِم وَالْمُتَعَلِّم شَرِيكَانِ فِي الْأَجْر وَسَائِر النَّاس هَمَج لَا خَيْر فِيهِ ) وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة وَقَالَ : حَدِيث حَسَن غَرِيب . وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ ( مِنْ هَوَان الدُّنْيَا عَلَى اللَّه أَلَّا يُعْصَى إِلَّا فِيهَا وَلَا يُنَال مَا عِنْده إِلَّا بِتَرْكِهَا ) . وَرَوَى التِّرْمِذِيّ عَنْ سَهْل بْن سَعْد قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا تَعْدِل عِنْد اللَّه جَنَاح بَعُوضَة مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَة مَاء ) . وَقَالَ الشَّاعِر : <br>تَسَمَّعْ مِنْ الْأَيَّام إِنْ كُنْت حَازِمًا .......... فَإِنَّك مِنْهَا بَيْن نَاهٍ وَآمِر <br><br>إِذَا أَبْقَتْ الدُّنْيَا عَلَى الْمَرْء دِينه .......... فَمَا فَاتَ مِنْ شَيْء فَلَيْسَ بِضَائِرِ <br><br>وَلَنْ تَعْدِل الدُّنْيَا جَنَاح بَعُوضَة .......... وَلَا وَزْن زِفّ مِنْ جَنَاح لِطَائِرِ <br><br>فَمَا رَضِيَ الدُّنْيَا ثَوَابًا لِمُؤْمِنٍ .......... وَلَا رَضِيَ الدُّنْيَا جَزَاء لِكَافِرِ <br>وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : هَذِهِ حَيَاة الْكَافِر لِأَنَّهُ يُزْجِيهَا فِي غُرُور وَبَاطِل , فَأَمَّا حَيَاة الْمُؤْمِن فَتَنْطَوِي عَلَى أَعْمَال صَالِحَة , فَلَا تَكُون لَهْوًا وَلَعِبًا .|وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ|أَيْ الْجَنَّة لِبَقَائِهَا ; وَسُمِّيَتْ آخِرَة لِتَأَخُّرِهَا عَنَّا , وَالدُّنْيَا لِدُنُوِّهَا مِنَّا . وَقَرَأَ اِبْن عَامِر ( وَلَدَار الْآخِرَة ) بِلَامٍ وَاحِدَة ; وَالْإِضَافَة عَلَى تَقْدِير حَذْف الْمُضَاف وَإِقَامَة الصِّفَة مَقَامه , التَّقْدِير : وَلَدَار الْحَيَاة الْآخِرَة . وَعَلَى قِرَاءَة الْجُمْهُور ( وَلَلدَّار الْآخِرَة ) اللَّام لَام الِابْتِدَاء , وَرَفَعَ الدَّار بِالِابْتِدَاءِ , وَجَعَلَ الْآخِرَة نَعْتًا لَهَا وَالْخَبَر ( خَيْر لِلَّذِينَ ) يُقَوِّيه | تِلْكَ الدَّار الْآخِرَة | [ الْقَصَص : 83 ] | وَإِنَّ الدَّار الْآخِرَة لَهِيَ الْحَيَوَان | [ الْعَنْكَبُوت : 64 ] . فَأَتَتْ الْآخِرَة صِفَة لِلدَّارِ فِيهِمَا|لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ|أَيْ الشِّرْك .|أَفَلَا تَعْقِلُونَ|قُرِئَ بِالْيَاءِ وَالتَّاء ; أَيْ أَفَلَا يَعْقِلُونَ أَنَّ الْأَمْر هَكَذَا فَيَزْهَدُوا فِي الدُّنْيَا . وَاَللَّه أَعْلَم .

قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ

كُسِرَتْ ( إِنَّ ) لِدُخُولِ اللَّام . قَالَ أَبُو مَيْسَرَة : إِنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِأَبِي جَهْل وَأَصْحَابه فَقَالُوا : يَا مُحَمَّد وَاَللَّه مَا نُكَذِّبك وَإِنَّك عِنْدنَا لَصَادِق , وَلَكِنْ نُكَذِّب مَا جِئْت بِهِ ; فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة | فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَك وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّه يَجْحَدُونَ | ثُمَّ آنَسَهُ بِقَوْلِهِ : | وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُل مِنْ قَبْلك | الْآيَة . وَقُرِئَ | يُكَذِّبُونَك | مُخَفَّفًا وَمُشَدَّدًا ; وَقِيلَ : هُمَا بِمَعْنًى وَاحِد كَحَزَنْته وَأَحْزَنْته ; وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْد قِرَاءَة التَّخْفِيف , وَهِيَ قِرَاءَة عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ ; وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّ أَبَا جَهْل قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّا لَا نُكَذِّبك وَلَكِنْ نُكَذِّب مَا جِئْت بِهِ ; فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ | فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَك |</p><p>قَالَ النَّحَّاس : وَقَدْ خُولِفَ أَبُو عُبَيْد فِي هَذَا . وَرُوِيَ : لَا نُكَذِّبك . فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : | لَا يُكَذِّبُونَك | . وَيُقَوِّي هَذَا أَنَّ رَجُلًا قَرَأَ عَلَى اِبْن عَبَّاس | فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَك | مُخَفَّفًا فَقَالَ لَهُ اِبْن عَبَّاس : | فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَك | لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَمِين . وَمَعْنَى | يُكَذِّبُونَك | عِنْد أَهْل اللُّغَة يَنْسُبُونَك إِلَى الْكَذِب , وَيَرُدُّونَ عَلَيْك مَا قُلْت . وَمَعْنَى | لَا يُكَذِّبُونَك | أَيْ لَا يَجِدُونَك تَأْتِي بِالْكَذِبِ ; كَمَا تَقُول : أَكَذَبْته وَجَدْته كَذَّابًا ; وَأَبْخَلْته وَجَدْته بَخِيلًا , أَيْ لَا يَجِدُونَك كَذَّابًا إِنْ تَدَبَّرُوا مَا جِئْت بِهِ . وَيَجُوز أَنْ يَكُون الْمَعْنَى : لَا يُثْبِتُونَ عَلَيْك أَنَّك كَاذِب ; لِأَنَّهُ يُقَال : أَكَذَبْته إِذَا اِحْتَجَجْت عَلَيْهِ وَبَيَّنْت أَنَّهُ كَاذِب . وَعَلَى التَّشْدِيد : لَا يُكَذِّبُونَك بِحُجَّةٍ وَلَا بُرْهَان ; وَدَلَّ عَلَى هَذَا | وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّه يَجْحَدُونَ |</p><p>قَالَ النَّحَّاس : وَالْقَوْل فِي هَذَا مَذْهَب أَبِي عُبَيْد , وَاحْتِجَاجه لَازِم ; لِأَنَّ عَلِيًّا كَرَّمَ اللَّه وَجْهه هُوَ الَّذِي رَوَى الْحَدِيث , وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ قَرَأَ بِالتَّخْفِيفِ ; وَحَكَى الْكِسَائِيّ عَنْ الْعَرَب : أَكَذَبْت الرَّجُل إِذَا أَخْبَرْت أَنَّهُ جَاءَ بِالْكَذِبِ وَرَوَاهُ , وَكَذَّبْته إِذَا أَخْبَرْته أَنَّهُ كَاذِب ; وَكَذَلِكَ قَالَ الزَّجَّاج : كَذَّبْته إِذَا قُلْت لَهُ كَذَبْت , وَأَكْذَبْته إِذَا أَرَدْت أَنَّ مَا أَتَى بِهِ كَذِب .

وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ

أَيْ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرُوا .|وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا|أَيْ عَوْننَا , أَيْ فَسَيَأْتِيك مَا وُعِدْت بِهِ .|وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ|مُبِين لِذَلِكَ النَّصْر ; أَيْ مَا وَعَدَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بِهِ فَلَا يَقْدِر أَحَد أَنْ يَدْفَعهُ ; لَا نَاقِض لِحُكْمِهِ , وَلَا خُلْف لِوَعْدِهِ ; و | لِكُلِّ أَجَل كِتَاب | [ الرَّعْد : 38 ] , | إِنَّا لَنَنْصُر رُسُلنَا وَاَلَّذِينَ آمَنُوا | [ غَافِر : 51 ] | وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ . إِنَّهُمْ لَهُمْ الْمَنْصُورُونَ . وَإِنَّ جُنْدنَا لَهُمْ الْغَالِبُونَ | [ الصَّافَّات : 171 - 172 - 173 ] , | كَتَبَ اللَّه لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي | [ الْمُجَادَلَة : 21 ] .|وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ|فَاعِل ( جَاءَك ) مُضْمَر ; الْمَعْنَى : جَاءَك مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ نَبَأ .

وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآَيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ

أَيْ عَظُمَ عَلَيْك إِعْرَاضهمْ وَتَوَلِّيهمْ عَنْ الْإِيمَان .|فَإِنِ اسْتَطَعْتَ|قَدَرْتَ|أَنْ تَبْتَغِيَ|تَطْلُب|نَفَقًا فِي الْأَرْضِ|أَيْ سَر بًا تَخْلُص مِنْهُ إِلَى مَكَان آخَر , وَمِنْهُ النَّافِقَاء لِجُحْرِ الْيَرْبُوع , وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي | الْبَقَرَة | بَيَانه وَمِنْهُ الْمُنَافِق . وَقَدْ تَقَدَّمَ|أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ|مَعْطُوف عَلَيْهِ , أَيْ سَبَبًا إِلَى السَّمَاء ; وَهَذَا تَمْثِيل ; لِأَنَّ السُّلَّم الَّذِي يُرْتَقَى عَلَيْهِ سَبَب إِلَى الْمَوْضِع , وَهُوَ مُذَكَّر , وَلَا يُعْرَف مَا حَكَاهُ الْفَرَّاء مِنْ تَأْنِيث الْعِلْم . قَالَ قَتَادَة : السُّلَّم الدَّرَج . الزَّجَّاج : وَهُوَ مُشْتَقّ مِنْ السَّلَامَة كَأَنَّهُ يُسَلِّمك إِلَى الْمَوْضِع الَّذِي تُرِيد .|فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ|عَطْف عَلَيْهِ أَيْ لِيُؤْمِنُوا فَافْعَلْ ; فَأُضْمِرَ الْجَوَاب لِعِلْمِ السَّامِع . أَمْر اللَّه نَبِيّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَّا يَشْتَدّ حُزْنه عَلَيْهِمْ إِذَا كَانُوا لَا يُؤْمِنُونَ ; كَمَا أَنَّهُ لَا يَسْتَطِيع هُدَاهُمْ .|وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى|أَيْ لَخَلَقَهُمْ مُؤْمِنِينَ وَطَبَعَهُمْ عَلَيْهِ ; بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ كُفْرهمْ بِمَشِيئَةِ اللَّه رَدًّا عَلَى الْقَدَرِيَّة . وَقِيلَ الْمَعْنَى : أَيْ لَأَرَاهُمْ آيَة تَضْطَرّهُمْ إِلَى الْإِيمَان , وَلَكِنَّهُ أَرَادَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُثِيب مِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمَنْ أَحْسَنَ .|فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ|أَيْ مِنْ الَّذِينَ أَشْتَدّ حُزْنهمْ وَتَحَسَّرُوا حَتَّى أَخْرَجَهُمْ ذَلِكَ إِلَى الْجَزَع الشَّدِيد , وَإِلَى مَا لَا يَحِلّ ; أَيْ لَا تَحْزَن عَلَى كُفْرهمْ فَتُقَارِب حَال الْجَاهِلِينَ . وَقِيلَ : الْخِطَاب لَهُ وَالْمُرَاد الْأُمَّة ; فَإِنَّ قُلُوب الْمُسْلِمِينَ كَانَتْ تَضِيق مِنْ كُفْرهمْ وَإِذَايَتهمْ .

إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ

أَيْ سَمَاع إِصْغَاء وَتَفَهُّم وَإِرَادَة الْحَقّ , وَهُمْ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَقْبَلُونَ مَا يَسْمَعُونَ فَيَنْتَفِعُونَ بِهِ وَيَعْمَلُونَ ; قَالَ مَعْنَاهُ الْحَسَن وَمُجَاهِد , وَتَمَّ الْكَلَام .|وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ|وَهُمْ الْكُفَّار ; عَنْ الْحَسَن وَمُجَاهِد ; أَيْ هُمْ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتَى فِي أَنَّهُمْ لَا يَقْبَلُونَ وَلَا يَصْغُونَ إِلَى حُجَّة . وَقِيلَ : الْمَوْتَى كُلّ مَنْ مَاتَ . | يَبْعَثهُمْ اللَّه | أَيْ لِلْحِسَابِ ; وَعَلَى الْأَوَّل بَعَثَهُمْ هِدَايَتهمْ إِلَى الْإِيمَان بِاَللَّهِ وَبِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَعَنْ الْحَسَن : هُوَ بَعَثَهُمْ مِنْ شِرْكهمْ حَتَّى يُؤْمِنُوا بِك يَا مُحَمَّد - يَعْنِي عِنْد حُضُور الْمَوْت - فِي حَال الْإِلْجَاء فِي الدُّنْيَا .

وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آَيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ

قَالَ الْحَسَن : ( لَوْلَا ) هَاهُنَا بِمَعْنَى هَلَّا ; وَقَالَ الشَّاعِر : <br>تَعُدُّونَ عَقْر النَّيْب أَفْضَل مَجْدكُمْ .......... بَنِي ضَوْطَرَى لَوْلَا الْكَمِيّ الْمُقَنَّع <br>وَكَانَ هَذَا مِنْهُمْ تَعَنُّتًا بَعْد ظُهُور الْبَرَاهِين ; وَإِقَامَة الْحُجَّة بِالْقُرْآنِ الَّذِي عَجَزُوا أَنْ يَأْتُوا بِسُورَةِ مِثْله , لِمَا فِيهِ مِنْ الْوَصْف وَعِلْم الْغُيُوب .|قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ|أَيْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ إِنَّمَا يُنَزِّل مِنْ الْآيَات مَا فِيهِ مَصْلَحَة لِعِبَادِهِ ; وَكَانَ فِي عِلْم اللَّه أَنْ يُخْرِج مِنْ أَصْلَابهمْ أَقْوَامًا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَلَمْ يُرِدْ اِسْتِئْصَالهمْ . وَقِيلَ : ( وَلَكِنَّ أَكْثَرهمْ لَا يَعْلَمُونَ ) أَنَّ اللَّه قَادِر عَلَى إِنْزَالهَا . الزَّجَّاج : طَلَبُوا أَنْ يَجْمَعهُمْ عَلَى الْهُدَى أَيْ جَمْع إِلْجَاء .

وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ

تَقَدَّمَ مَعْنَى الدَّابَّة وَالْقَوْل فِيهِ فِي | الْبَقَرَة | وَأَصْله الصِّفَة ; مِنْ دَبَّ يَدِبّ فَهُوَ دَابّ إِذَا مَشَى مَشْيًا فِيهِ تَقَارُب خَطْو .|وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ|بِخَفْضِ | طَائِر | عَطْفًا عَلَى اللَّفْظ . وَقَرَأَ الْحَسَن وَعَبْد اللَّه بْن أَبِي إِسْحَاق ( وَلَا طَائِرٌ ) بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى الْمَوْضِع , و ( مِنْ ) زَائِدَة , التَّقْدِير : وَمَا مِنْ دَابَّة . | بِجَنَاحَيْهِ | تَأْكِيدًا وَإِزَالَة لِلْإِبْهَامِ ; فَإِنَّ الْعَرَب تَسْتَعْمِل الطَّيَرَان لِغَيْرِ الطَّائِر ; تَقُول لِلرَّجُلِ : طِرْ فِي حَاجَتِي ; أَيْ أَسْرِعْ ; فَذَكَرَ ( بِجَنَاحَيْهِ ) لِيَتَمَحَّضَ الْقَوْل فِي الطَّيْر , وَهُوَ فِي غَيْره مَجَاز . وَقِيلَ : إِنَّ اِعْتِدَال جَسَد الطَّائِر بَيْن الْجَنَاحَيْنِ يُعِينهُ عَلَى الطَّيَرَان , وَلَوْ كَانَ غَيْر مُعْتَدِل لَكَانَ يَمِيل ; فَأَعْلَمَنَا أَنَّ الطَّيَرَان بِالْجَنَاحَيْنِ و | مَا يُمْسِكهُنَّ إِلَّا اللَّه | [ النَّحْل : 79 ] . وَالْجَنَاح أَحَد نَاحِيَتَيْ الطَّيْر الَّذِي يَتَمَكَّن بِهِ مِنْ الطَّيَرَان فِي الْهَوَاء , وَأَصْله الْمَيْل إِلَى نَاحِيَة مِنْ النَّوَاحِي ; وَمِنْهُ جَنَحَتْ السَّفِينَة إِذَا مَالَتْ إِلَى نَاحِيَة الْأَرْض لَاصِقَة بِهَا فَوَقَفَتْ . وَطَائِر الْإِنْسَان عَمَله ; وَفِي التَّنْزِيل | وَكُلّ إِنْسَان أَلْزَمْنَاهُ طَائِره فِي عُنُقه | [ الْإِسْرَاء : 13 ] .|إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ|أَيْ هُمْ جَمَاعَات مِثْلكُمْ فِي أَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَهُمْ , وَتَكَفَّلَ بِأَرْزَاقِهِمْ , وَعَدَلَ عَلَيْهِمْ , فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تَظْلِمُوهُمْ , وَلَا تُجَاوِزُوا فِيهِمْ مَا أُمِرْتُمْ بِهِ . و ( دَابَّة ) تَقَع عَلَى جَمِيع مَا دَبَّ ; وَخَصَّ بِالذِّكْرِ مَا فِي الْأَرْض دُون السَّمَاء لِأَنَّهُ الَّذِي يَعْرِفُونَهُ وَيُعَايِنُونَهُ . وَقِيلَ : هِيَ أَمْثَال لَنَا فِي التَّسْبِيح وَالدَّلَالَة ; وَالْمَعْنَى : وَمَا مِنْ دَابَّة وَلَا طَائِر إِلَّا وَهُوَ يُسَبِّح اللَّه تَعَالَى , وَيَدُلّ عَلَى وَحْدَانِيّته لَوْ تَأَمَّلَ الْكُفَّار . وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة : هِيَ أَمْثَال لَنَا عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ يَحْشُر الْبَهَائِم غَدًا وَيَقْتَصّ لِلْجَمَّاءِ مِنْ الْقَرْنَاء ثُمَّ يَقُول اللَّه لَهَا : كُونِي تُرَابًا . وَهَذَا اِخْتِيَار الزَّجَّاج فَإِنَّهُ قَالَ : ( إِلَّا أُمَم أَمْثَالكُمْ ) فِي الْخَلْق وَالرِّزْق وَالْمَوْت وَالْبَعْث وَالِاقْتِصَاص , وَقَدْ دَخَلَ فِيهِ مَعْنَى الْقَوْل الْأَوَّل أَيْضًا . وَقَالَ سُفْيَان بْن عُيَيْنَة : أَيْ مَا مِنْ صِنْف مِنْ الدَّوَابّ وَالطَّيْر إِلَّا فِي النَّاس شِبْه مِنْهُ ; فَمِنْهُمْ مَنْ يَعْدُو كَالْأَسَدِ , وَمِنْهُمْ مَنْ يَشْرَه كَالْخِنْزِيرِ , وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْوِي كَالْكَلْبِ , وَمِنْهُمْ مِنْ يَزْهُو كَالطَّاوُس ; فَهَذَا مَعْنَى الْمُمَاثَلَة . وَاسْتَحْسَنَ الْخَطَّابِيّ هَذَا وَقَالَ : فَإِنَّك تُعَاشِر الْبَهَائِم وَالسِّبَاع فَخُذْ حَذَرك . وَقَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله عَزَّ وَجَلَّ : | إِلَّا أُمَم أَمْثَالكُمْ | قَالَ أَصْنَاف لَهُنَّ أَسْمَاء تُعْرَف بِهَا كَمَا تُعْرَفُونَ . وَقِيلَ غَيْر هَذَا مِمَّا لَا يَصِحّ مِنْ أَنَّهَا مِثْلنَا فِي الْمَعْرِفَة , وَأَنَّهَا تُحْشَر وَتُنَعَّم فِي الْجَنَّة , وَتُعَوَّض مِنْ الْآلَام الَّتِي حَلَّتْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَأَنَّ أَهْل الْجَنَّة يَسْتَأْنِسُونَ بِصُوَرِهِمْ ; وَالصَّحِيح | إِلَّا أُمَم أَمْثَالكُمْ | فِي كَوْنهَا مَخْلُوقَة دَالَّة عَلَى الصَّانِع مُحْتَاجَة إِلَيْهِ مَرْزُوقَة مِنْ جِهَته , كَمَا أَنَّ رِزْقكُمْ عَلَى اللَّه . وَقَوْل سُفْيَان أَيْضًا حَسَن ; فَإِنَّهُ تَشْبِيه وَاقِع فِي الْوُجُود .|مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ|أَيْ فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ فَإِنَّهُ أَثْبَتَ فِيهِ مَا يَقَع مِنْ الْحَوَادِث . وَقِيلَ : أَيْ فِي الْقُرْآن أَيْ مَا تَرَكْنَا شَيْئًا مِنْ أَمْر الدِّين إِلَّا وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَيْهِ فِي الْقُرْآن ; إِمَّا دَلَالَة مُبَيَّنَة مَشْرُوحَة , وَإِمَّا مُجْمَلَة يُتَلَقَّى بَيَانهَا مِنْ الرَّسُول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام , أَوْ مِنْ الْإِجْمَاع , أَوْ مِنْ الْقِيَاس الَّذِي ثَبَتَ بِنَصِّ الْكِتَاب ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : | وَنَزَّلْنَا عَلَيْك الْكِتَاب تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْء | [ النَّحْل : 89 ] وَقَالَ : | وَأَنْزَلْنَا إِلَيْك الذِّكْر لِتُبَيِّن لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ | [ النَّحْل : 44 ] وَقَالَ : | وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا | [ الْحَشْر : 7 ] فَأَجْمَلَ فِي هَذِهِ الْآيَة وَآيَة ( النَّحْل ) مَا لَمْ يَنُصّ عَلَيْهِ مِمَّا لَمْ يَذْكُرهُ , فَصَدَقَ خَبَر اللَّه بِأَنَّهُ مَا فَرَّطَ فِي الْكِتَاب مِنْ شَيْء إِلَّا ذَكَرَهُ , إِمَّا تَفْصِيلًا وَإِمَّا تَأْصِيلًا ; وَقَالَ : | الْيَوْم أَكْمَلْت لَكُمْ دِينكُمْ | [ الْمَائِدَة : 3 ] .|ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ|أَيْ لِلْجَزَاءِ , كَمَا سَبَقَ فِي خَبَر أَبِي هُرَيْرَة , وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوق إِلَى أَهْلهَا يَوْم الْقِيَامَة حَتَّى يُقَاد لِلشَّاةِ الْجَلْحَاء مِنْ الشَّاة الْقَرْنَاء ) . وَدَلَّ بِهَذَا عَلَى أَنَّ الْبَهَائِم تُحْشَر يَوْم الْقِيَامَة ; وَهَذَا قَوْل أَبِي ذَرّ وَأَبِي هُرَيْرَة وَالْحَسَن وَغَيْرهمْ ; وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس ; قَالَ اِبْن عَبَّاس فِي رِوَايَة : حَشْر الدَّوَابّ وَالطَّيْر مَوْتهَا ; وَقَالَ الضَّحَّاك ; وَالْأَوَّل أَصَحّ لِظَاهِرِ الْآيَة وَالْخَبَر الصَّحِيح ; وَفِي التَّنْزِيل | وَإِذَا الْوُحُوش حُشِرَتْ | [ التَّكْوِير : 5 ] وَقَوْل أَبِي هُرَيْرَة فِيمَا رَوَى جَعْفَر بْن بُرْقَان عَنْ يَزِيد بْن الْأَصَمّ عَنْهُ : يَحْشُر اللَّه الْخَلْق كُلّهمْ يَوْم الْقِيَامَة , الْبَهَائِم وَالدَّوَابّ وَالطَّيْر وَكُلّ شَيْء ; فَيَبْلُغ مِنْ عَدْل اللَّه تَعَالَى يَوْمئِذٍ أَنْ يَأْخُذ لِلْجَمَّاءِ مِنْ الْقَرْنَاء ثُمَّ يَقُول : ( كُونِي تُرَابًا ) فَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : | وَيَقُول الْكَافِر يَا لَيْتَنِي كُنْت تُرَابًا | [ النَّبَأ : 40 ] . وَقَالَ عَطَاء : فَإِذَا رَأَوْا بَنِي آدَم وَمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْجَزَع قُلْنَ : الْحَمْد لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَجْعَلنَا مِثْلكُمْ , فَلَا جَنَّة نَرْجُو وَلَا نَار نَخَاف ; فَيَقُول اللَّه تَعَالَى لَهُنَّ : ( كُنَّ تُرَابًا ) فَحِينَئِذٍ يَتَمَنَّى الْكَافِر أَنْ يَكُون تُرَابًا . وَقَالَتْ جَمَاعَة : هَذَا الْحَشْر الَّذِي فِي الْآيَة يَرْجِع إِلَى الْكُفَّار وَمَا تَخَلَّلَ كَلَامٌ مُعْتَرِضٌ وَإِقَامَة حُجَج ; وَأَمَّا الْحَدِيث فَالْمَقْصُود مِنْهُ التَّمْثِيل عَلَى جِهَة تَعْظِيم أَمْر الْحِسَاب وَالْقِصَاص وَالِاعْتِنَاء فِيهِ حَتَّى يُفْهَم مِنْهُ أَنَّهُ لَا بُدّ لِكُلِّ أَحَد مِنْهُ , وَأَنَّهُ لَا مَحِيص لَهُ عَنْهُ ; وَعَضَّدُوا هَذَا بِمَا فِي الْحَدِيث فِي غَيْر الصَّحِيح عَنْ بَعْض رُوَاته مِنْ الزِّيَادَة فَقَالَ : حَتَّى يُقَاد لِلشَّاةِ الْجَلْحَاء مِنْ الْقَرْنَاء , وَلِلْحَجَرِ لِمَا رَكِبَ عَلَى الْحَجَر , وَلِلْعُودِ لِمَا خَدَشَ الْعُود ; قَالُوا : فَظَهَرَ مِنْ هَذَا أَنَّ الْمَقْصُود مِنْهُ التَّمْثِيل الْمُفِيد لِلِاعْتِبَارِ وَالتَّهْوِيل , لِأَنَّ الْجَمَادَات لَا يُعْقَل خِطَابهَا وَلَا ثَوَابهَا وَلَا عِقَابهَا , وَلَمْ يَصِرْ إِلَيْهِ أَحَد مِنْ الْعُقَلَاء , وَمُتَخَيِّله مِنْ جُمْلَة الْمَعْتُوهِينَ الْأَغْبِيَاء ; قَالُوا : وَلِأَنَّ الْقَلَم لَا يَجْرِي عَلَيْهِمْ فَلَا يَجُوز أَنْ يُؤَاخَذُوا . قُلْت : الصَّحِيح الْقَوْل الْأَوَّل لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة , وَإِنْ كَانَ الْقَلَم لَا يَجْرِي عَلَيْهِمْ فِي الْأَحْكَام وَلَكِنْ فِيمَا بَيْنهمْ يُؤَاخَذُونَ بِهِ ; وَرُوِيَ عَنْ أَبِي ذَرّ قَالَ : اِنْتَطَحَتْ شَاتَانِ عِنْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : ( يَا أَبَا ذَرّ هَلْ تَدْرِي فِيمَا اِنْتَطَحَتَا ؟ ) قُلْت : لَا . قَالَ : ( لَكِنَّ اللَّه تَعَالَى يَدْرِي وَسَيَقْضِي بَيْنهمَا ) وَهَذَا نَصّ , وَقَدْ زِدْنَاهُ بَيَانًا فِي كِتَاب ( التَّذْكِرَة بِأَحْوَالِ الْمَوْتَى وَأُمُور الْآخِرَة ) . وَاَللَّه أَعْلَم .

وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ

اِبْتِدَاء وَخَبَر , أَيْ عَدِمُوا الِانْتِفَاع بِأَسْمَاعِهِمْ وَأَبْصَارهمْ ; فَكُلّ أُمَّة مِنْ الدَّوَابّ وَغَيْرهَا تَهْتَدِي لِمَصَالِحِهَا وَالْكُفَّار لَا يَهْتَدُونَ . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَة|فِي الظُّلُمَاتِ|أَيْ ظُلُمَات الْكُفْر . وَقَالَ أَبُو عَلِيّ : يَجُوز أَنْ يَكُون الْمَعْنَى ( صُمّ وَبُكْم ) فِي الْآخِرَة ; فَيَكُون حَقِيقَة دُون مَجَاز اللُّغَة .|مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ|دَلَّ عَلَى أَنَّهُ شَاءَ ضَلَال الْكَافِر وَأَرَادَهُ لِيُنَفِّذ فِيهِ عَدْله .|وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ|أَيْ عَلَى دِين الْإِسْلَام لِيُنَفِّذ فِيهِ فَضْله . وَفِيهِ إِبْطَال لِمَذْهَبِ الْقَدَرِيَّة . وَالْمَشِيئَة رَاجِعَة إِلَى الَّذِينَ كَذَّبُوا , فَمِنْهُمْ مَنْ يُضِلّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَهْدِيه .

قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ

| قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ | وَقَرَأَ نَافِع بِتَخْفِيفِ الْهَمْزَتَيْنِ , يُلْقِي حَرَكَة الْأُولَى عَلَى مَا قَبْلهَا , وَيَأْتِي بِالثَّانِيَةِ بَيْن بَيْن . وَحَكَى أَبُو عُبَيْد عَنْهُ أَنَّهُ يُسْقِط الْهَمْزَة وَيُعَوِّض مِنْهَا أَلِفًا . قَالَ النَّحَّاس : وَهَذَا عِنْد أَهْل الْعَرَبِيَّة غَلَط عَلَيْهِ ; لِأَنَّ الْيَاء سَاكِنَة وَالْأَلِف سَاكِنَة وَلَا يَجْتَمِع سَاكِنَانِ . قَالَ مَكِّيّ : وَقَدْ رُوِيَ عَنْ وَرْش أَنَّهُ أَبْدَلَ مِنْ الْهَمْزَة أَلِفًا ; لِأَنَّ الرِّوَايَة عَنْهُ أَنَّهُ يَمُدّ الثَّانِيَة , وَالْمَدّ لَا يَتَمَكَّن إِلَّا مَعَ الْبَدَل , وَالْبَدَل فَرْع مِنْ الْأُصُول , وَالْأَصْل أَنْ تُجْعَل الْهَمْزَة بَيْن الْهَمْزَة الْمَفْتُوحَة وَالْأَلِف ; وَعَلَيْهِ كُلّ مَنْ خَفَّفَ الثَّانِيَة غَيْر وَرْش ; وَحَسُنَ جَوَاز الْبَدَل فِي الْهَمْزَة وَبَعْدهَا سَاكِن لِأَنَّ الْأَوَّل حَرْف مَدّ وَلِين , فَالْمَدّ الَّذِي يَحْدُث مَعَ السَّاكِن يَقُوم مَقَام حَرَكَة يُوصَل بِهَا إِلَى النُّطْق بِالسَّاكِنِ الثَّانِي . وَقَرَأَ أَبُو عَمْرو وَعَاصِم وَحَمْزَة ( أَرَأَيْتَكُمْ ) بِتَحْقِيقِ الْهَمْزَتَيْنِ وَأَتَوْا بِالْكَلِمَةِ عَلَى أَصْلهَا , وَالْأَصْل الْهَمْز ; لِأَنَّ هَمْزَة الِاسْتِفْهَام دَخَلَتْ عَلَى ( رَأَيْت ) فَالْهَمْزَة عَيْن الْفِعْل , وَالْيَاء سَاكِنَة لِاتِّصَالِ الْمُضْمَر الْمَرْفُوع بِهَا . وَقَرَأَ عِيسَى بْن عُمَر وَالْكِسَائِيّ ( أَرَيْتَكُمْ ) بِحَذْفِ الْهَمْزَة الثَّانِيَة . قَالَ النَّحَّاس : وَهَذَا بَعِيد فِي الْعَرَبِيَّة , وَإِنَّمَا يَجُوز فِي الشِّعْر ; وَالْعَرَب تَقُول : أَرَأَيْتَكَ زَيْدًا مَا شَأْنه . وَمَذْهَب الْبَصْرِيِّينَ أَنَّ الْكَاف وَالْمِيم لِلْخِطَابِ , لَا حَظّ لَهُمَا فِي الْإِعْرَاب ; وَهُوَ اِخْتِبَار الزَّجَّاج . وَمَذْهَب الْكِسَائِيّ وَالْفَرَّاء وَغَيْرهمَا أَنَّ الْكَاف وَالْمِيم نَصْب بِوُقُوعِ الرُّؤْيَة عَلَيْهِمَا , وَالْمَعْنَى أَرَأَيْتُمْ أَنْفُسكُمْ ; فَإِذَا كَانَتْ لِلْخِطَابِ - زَائِدَة لِلتَّأْكِيدِ - كَانَ ( إِنْ ) مِنْ قَوْله | إِنْ أَتَاكُمْ | فِي مَوْضِع نَصْب عَلَى الْمَفْعُول لَرَأَيْت , وَإِذَا كَانَ اِسْمًا فِي مَوْضِع نَصْب ف ( إِنَّ ) فِي مَوْضِع الْمَفْعُول الثَّانِي ; فَالْأَوَّل مِنْ رُؤْيَة الْعَيْن لِتَعَدِّيهَا لِمَفْعُولٍ وَاحِد , وَبِمَعْنَى الْعِلْم تَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ .|أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ|الْمَعْنَى : أَوْ أَتَتْكُمْ السَّاعَة الَّتِي تُبْعَثُونَ فِيهَا .|أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ|وَالْآيَة فِي مُحَاجَّة الْمُشْرِكِينَ مِمَّنْ اِعْتَرَفَ أَنَّ لَهُ صَانِعًا ; أَيْ أَنْتُمْ عِنْد الشَّدَائِد تَرْجِعُونَ إِلَى اللَّه , وَسَتَرْجِعُونَ إِلَيْهِ يَوْم الْقِيَامَة أَيْضًا فَلِمَ تُصِرُّونَ عَلَى الشِّرْك فِي حَال الرَّفَاهِيَة ؟ ! وَكَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَصْنَام وَيَدْعُونَ اللَّه فِي صَرْف الْعَذَاب .

بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ

| بَلْ | إِضْرَاب عَنْ الْأَوَّل وَإِيجَاب لِلثَّانِي . | إِيَّاهُ | نُصِبَ . ب | تَدْعُونَ ||فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ|أَيْ يَكْشِف الضُّرّ الَّذِي تَدْعُونَ إِلَى كَشْفه إِنْ شَاءَ كَشْفه .|وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ|قِيلَ : عِنْد نُزُول الْعَذَاب . وَقَالَ الْحَسَن : أَيْ تُعْرِضُونَ عَنْهُ إِعْرَاض النَّاسِي , وَذَلِكَ لِلْيَأْسِ مِنْ النَّجَاة مِنْ قَبْله إِذْ لَا ضَرَر فِيهِ وَلَا نَفْع . وَقَالَ الزَّجَّاج : يَجُوز أَنْ يَكُون الْمَعْنَى وَتَتْرُكُونَ . قَالَ النَّحَّاس : مِثْل قَوْله : | وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَم مِنْ قَبْل فَنَسِيَ | [ طَه : 115 ] .

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ

الْآيَة تَسْلِيَة لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَفِيهِ إِضْمَار ; أَيْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَم مِنْ قَبْلك رُسُلًا وَفِيهِ إِضْمَار آخَر يَدُلّ عَلَيْهِ الظَّاهِر ; تَقْدِيره : فَكَذَّبُوا|فَأَخَذْنَاهُمْ|وَهَذِهِ الْآيَة مُتَّصِلَة بِمَا قَبْل اِتِّصَال الْحَال بِحَالِ قَرِيبَة مِنْهَا ; وَذَلِكَ أَنَّ هَؤُلَاءِ سَلَكُوا فِي مُخَالَفَة نَبِيّهمْ مَسْلَك مَنْ كَانَ قَبْلهمْ فِي مُخَالَفَة أَنْبِيَائِهِمْ , فَكَانُوا بِعَرَضِ أَنْ يَنْزِل بِهِمْ مِنْ الْبَلَاء مَا نَزَلَ بِمَنْ كَانَ قَبْلهمْ .|بِالْبَأْسَاءِ|بِالْمَصَائِبِ فِي الْأَمْوَال|وَالضَّرَّاءِ|فِي الْأَبَدَانِ ; هَذَا قَوْل الْأَكْثَر , وَقَدْ يُوضَع كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا مَوْضِع الْآخَر ; وَيُؤَدِّب اللَّه عِبَاده بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاء وَبِمَا شَاءَ | لَا يُسْأَل عَمَّا يَفْعَل | [ الْأَنْبِيَاء : 23 ] . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : اِسْتَدَلَّ الْعِبَاد فِي تَأْدِيب أَنْفُسهمْ بِالْبَأْسَاءِ فِي تَفْرِيق الْأَمْوَال , وَالضَّرَّاء فِي الْحَمْل عَلَى الْأَبَدَانِ بِالْجُوعِ وَالْعُرْي بِهَذِهِ الْآيَة . قُلْت : هَذِهِ جَهَالَة مِمَّنْ فَعَلَهَا وَجَعَلَ هَذِهِ الْآيَة أَصْلًا لَهَا ; هَذِهِ عُقُوبَة مِنْ اللَّه لِمَنْ شَاءَ مِنْ عِبَاده يَمْتَحِنهُمْ بِهَا , وَلَا يَجُوز لَنَا أَنْ نَمْتَحِن أَنْفُسنَا وَنُكَافِئهَا قِيَاسًا عَلَيْهَا ; فَإِنَّهَا الْمَطِيَّة الَّتِي نَبْلُغ عَلَيْهَا دَار الْكَرَامَة , وَنَفُوز بِهَا مِنْ أَهْوَال يَوْم الْقِيَامَة ; وَفِي التَّنْزِيل : | يَا أَيّهَا الرُّسُل كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَات وَاعْمَلُوا صَالِحًا | [ الْمُؤْمِنُونَ : 51 ] وَقَالَ : | يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَات مَا كَسَبْتُمْ | [ الْبَقَرَة : 267 ] . | يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَات مَا رَزَقْنَاكُمْ | [ الْبَقَرَة : 172 ] فَأَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا خَاطَبَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ ; وَكَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابه يَأْكُلُونَ الطَّيِّبَات وَيَلْبَسُونَ أَحْسَن الثِّيَاب وَيَتَجَمَّلُونَ بِهَا ; وَكَذَلِكَ التَّابِعُونَ بَعْدهمْ إِلَى هَلُمَّ جَرَّا , عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانه فِي | الْمَائِدَة | وَسَيَأْتِي فِي | الْأَعْرَاف | مِنْ حُكْم اللِّبَاس وَغَيْره وَلَوْ كَانَ كَمَا زَعَمُوا وَاسْتَدَلُّوا لَمَّا كَانَ فِي اِمْتِنَان اللَّه تَعَالَى بِالزُّرُوعِ وَالْجَنَّات وَجَمِيع الثِّمَار وَالنَّبَات وَالْأَنْعَام الَّتِي سَخَّرَهَا وَأَبَاحَ لَنَا أَكْلهَا وَشُرْبهَا أَلْبَانهَا وَالدِّفْء بِأَصْوَافِهَا - إِلَى غَيْر ذَلِكَ مِمَّا اِمْتَنَّ بِهِ - كَبِير فَائِدَة , فَلَوْ كَانَ مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ فِيهِ الْفَضْل لَكَانَ أَوْلَى بِهِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابه وَمَنْ بَعْدهمْ مِنْ التَّابِعِينَ وَالْعُلَمَاء , وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي آخِر | الْبَقَرَة | بَيَان فَضْل الْمَال وَمَنْفَعَته وَالرَّدّ عَلَى مَنْ أَبَى مِنْ جَمْعه وَقَدْ نَهَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْوِصَال مَخَافَة الضَّعْف عَلَى الْأَبَدَانِ , وَنَهَى عَنْ إِضَاعَة الْمَال رَدًّا عَلَى الْأَغْنِيَاء الْجُهَّال .|لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ|أَيْ يَدْعُونَ وَيُذِلُّونَ , مَأْخُوذ مِنْ الضَّرَاعَة وَهِيَ الذِّلَّة ; يُقَال : ضَرَعَ فَهُوَ ضَارِع .

فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ

( لَوْلَا ) تَحْضِيض , وَهِيَ الَّتِي تَلَّى الْفِعْل بِمَعْنَى هَلَّا ; وَهَذَا عِتَاب عَلَى تَرْك الدُّعَاء , وَإِخْبَار عَنْهُمْ أَنَّهُمْ لَمْ يَتَضَرَّعُوا حِين نُزُول الْعَذَاب . وَيَجُوز أَنْ يَكُونُوا تَضَرَّعُوا تَضَرُّع مَنْ لَمْ يُخْلِص , أَوْ تَضَرَّعُوا حِين لَابَسَهُمْ الْعَذَاب , وَالتَّضَرُّع عَلَى هَذِهِ الْوُجُوه غَيْر نَافِع . وَالدُّعَاء مَأْمُور بِهِ حَال الرَّخَاء وَالشِّدَّة ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : | اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ | [ غَافِر : 60 ] وَقَالَ : | إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي | [ غَافِر : 60 ] أَيْ دُعَائِي | سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّم دَاخِرِينَ | [ غَافِر : 60 ] وَهَذَا وَعِيد شَدِيد .|وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ|أَيْ صَلُبَتْ وَغَلُظَتْ , وَهِيَ عِبَارَة عَنْ الْكُفْر وَالْإِصْرَار عَلَى الْمَعْصِيَة , نَسْأَل اللَّه الْعَافِيَة .|وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ|أَيْ أَغْوَاهُمْ بِالْمَعَاصِي وَحَمَلَهُمْ عَلَيْهَا .

فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ

يُقَال : لِمَ ذُمُّوا عَلَى النِّسْيَان وَلَيْسَ مِنْ فِعْلهمْ ؟ فَالْجَوَاب : أَنَّ ( نَسُوا ) بِمَعْنَى تَرَكُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ , عَنْ اِبْن عَبَّاس وَابْن جُرَيْج , وَهُوَ قَوْل أَبِي عَلِيّ ; وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّارِك لِلشَّيْءِ إِعْرَاضًا عَنْهُ قَدْ صَيَّرَهُ بِمَنْزِلَةِ مَا قَدْ نَسِيَ , كَمَا يُقَال : تَرَكَهُ . فِي النَّسْي . جَوَاب آخَر : وَهُوَ أَنَّهُمْ تَعَرَّضُوا لِلنِّسْيَانِ فَجَازَ الذَّمّ لِذَلِكَ ; كَمَا جَازَ الذَّمّ عَلَى التَّعَرُّض لِسَخَطِ اللَّه عَزَّ وَجَلّ وَعِقَابه .|فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ|أَيْ مِنْ النِّعَم وَالْخَيْرَات , أَيْ كَثَّرْنَا لَهُمْ ذَلِكَ . وَالتَّقْدِير عِنْد أَهْل الْعَرَبِيَّة : فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَاب كُلّ شَيْء كَانَ مُغْلَقًا عَنْهُمْ .|حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا|مَعْنَاهُ بَطِرُوا وَأَشِرُوا وَأُعْجِبُوا وَظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ الْعَطَاء لَا يَبِيد , وَأَنَّهُ دَالّ عَلَى رِضَاء اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُمْ|أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً|أَيْ اِسْتَأْصَلْنَاهُمْ وَسَطَوْنَا بِهِمْ . و ( بَغْتَة ) مَعْنَاهُ فَجْأَة , وَهِيَ الْأَخْذ عَلَى غِرَّة وَمِنْ غَيْر تَقَدُّم أَمَارَة ; فَإِذَا أَخَذَ الْإِنْسَان وَهُوَ غَار غَافِل فَقَدْ أَخَذَ بَغْتَة , وَأَنْكَى شَيْء مَا يَفْجَأ مِنْ الْبَغْت . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ التَّذْكِير الَّذِي سَلَفَ - فَأَعْرَضُوا عَنْهُ - قَامَ مَقَام الْإِمَارَة . وَاَللَّه أَعْلَم . و ( بَغْتَة ) مَصْدَر فِي مَوْضِع الْحَال لَا يُقَاسَ عَلَيْهِ عِنْد سِيبَوَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ ; فَكَانَ ذَلِكَ اِسْتِدْرَاجًا مِنْ اللَّه تَعَالَى كَمَا قَالَ : | وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِين | [ الْأَعْرَاف : 183 ] نَعُوذ بِاَللَّهِ مِنْ سَخَطه وَمَكْره . قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء : رَحِمَ اللَّه عَبْدًا تَدَبَّرَ هَذِهِ الْآيَة | حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَة | . وَقَالَ مُحَمَّد بْن النَّضْر الْحَارِثِيّ : أُمْهِلَ هَؤُلَاءِ الْقَوْم عِشْرِينَ سَنَة . وَرَوَى عُقْبَة بْن عَامِر أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِذَا رَأَيْتُمْ اللَّه تَعَالَى يُعْطِي الْعِبَاد مَا يَشَاءُونَ عَلَى مَعَاصِيهمْ فَإِنَّمَا ذَلِكَ اِسْتِدْرَاج مِنْهُ لَهُمْ ) ثُمَّ تَلَا | فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ | الْآيَة كُلّهَا . وَقَالَ الْحَسَن : وَاَللَّه مَا أَحَد مِنْ النَّاس بَسَطَ اللَّه لَهُ فِي الدُّنْيَا فَلَمْ يَخَفْ أَنْ يَكُون قَدْ مُكِرَ لَهُ فِيهَا إِلَّا كَانَ قَدْ نَقَصَ عَمَله , وَعَجَزَ رَأْيه . وَمَا أَمْسَكَهَا اللَّه عَنْ عَبْد فَلَمْ يَظُنّ أَنَّهُ خَيْر لَهُ فِيهَا إِلَّا كَانَ قَدْ نَقَصَ عَمَله , وَعَجَزَ رَأْيه . وَفِي الْخَبَر أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَوْحَى إِلَى مُوسَى صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِذَا رَأَيْت الْفَقْر مُقْبِلًا إِلَيْك فَقُلْ مَرْحَبًا بِشِعَارِ الصَّالِحِينَ وَإِذَا رَأَيْت الْغِنَى مُقْبِلًا إِلَيْك فَقُلْ ذَنْب عُجِّلَتْ عُقُوبَته ) .|فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ|الْمُبْلِس الْبَاهِت الْحَزِين الْآيِس مِنْ الْخَيْر الَّذِي لَا يُحَيِّر جَوَابًا لِشِدَّةِ مَا نَزَلَ بِهِ مِنْ سُوء الْحَال ; قَالَ الْعَجَّاج : <br>يَا صَاح هَلْ تَعْرِف رَسْمًا مُكْرَسًا .......... قَالَ نَعَمْ أَعْرِفهُ وَأَبْلَسَا <br>أَيْ تَحَيَّرَ لِهَوْلِ مَا رَأَى , وَمِنْ ذَلِكَ اُشْتُقَّ اِسْم إِبْلِيس ; أَبْلَسَ الرَّجُل سَكَتَ , وَأَبْلَسَتْ النَّاقَة وَهِيَ مِبْلَاس إِذَا لَمْ تَرْغُ مِنْ شِدَّة الضَّبَعَة ; ضَبَعَتْ النَّاقَة تَضْبَع ضَبَعَة وَضَبْعًا إِذَا أَرَادَتْ الْفَحْل .

فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ

الدَّابِر الْآخِر ; يُقَال : دَبَرَ الْقَوْم يَدْبِرُهُمْ دَبْرًا إِذَا كَانَ آخِرهمْ فِي الْمَجِيء . وَفِي الْحَدِيث عَنْ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود ( مِنْ النَّاس مَنْ لَا يَأْتِي الصَّلَاة إِلَّا دَبَرِيًّا ) أَيْ فِي آخِر الْوَقْت ; وَالْمَعْنَى هُنَا قَطَعَ خَلَفَهُمْ مِنْ نَسْلهمْ وَغَيَّرَهُمْ فَلَمْ تَبْقَ لَهُمْ بَاقِيَة . قَالَ قُطْرُب : يَعْنِي أَنَّهُمْ اُسْتُؤْصِلُوا وَأُهْلِكُوا . قَالَ أُمَيَّة بْن أَبِي الصَّلْت : <br>فَأُهْلِكُوا بِعَذَابِ حَصَّ دَابِرهمْ .......... فَمَا اِسْتَطَاعُوا لَهُ صَرْفًا وَلَا اِنْتَصَرُوا <br>وَمِنْهُ التَّدْبِير لِأَنَّهُ إِحْكَام عَوَاقِب الْأُمُور .|وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ|قِيلَ : عَلَى إِهْلَاكهمْ وَقِيلَ : تَعْلِيم لِلْمُؤْمِنِينَ كَيْفَ يَحْمَدُونَهُ . وَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَة الْحُجَّة عَلَى وُجُوب تَرْك الظُّلْم ; لِمَا يَعْقُب مِنْ قَطْع الدَّابِر , إِلَى الْعَذَاب الدَّائِم , مَعَ اِسْتِحْقَاق الْقَاطِع الْحَمْد مِنْ كُلّ حَامِد .

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ

أَيْ أَذْهَبَ وَانْتَزَعَ . وَوَحَّدَ | سَمْعكُمْ | لِأَنَّهُ مَصْدَر يَدُلّ عَلَى الْجَمْع .|وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ|أَيْ طَبَعَ . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَة وَجَوَاب ( إِنْ ) مَحْذُوف تَقْدِيره : فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِهِ , وَمَوْضِعه نَصْب ; لِأَنَّهَا فِي مَوْضِع الْحَال , كَقَوْلِك : اِضْرِبْهُ إِنْ خَرَجَ أَيْ خَارِجًا . ثُمَّ قِيلَ : الْمُرَاد الْمَعَانِي الْقَائِمَة بِهَذِهِ الْجَوَارِح , وَقَدْ يُذْهِب اللَّه الْجَوَارِح وَالْأَعْرَاض جَمِيعًا فَلَا يُبْقِي شَيْئًا , قَالَ اللَّه تَعَالَى : | مِنْ قَبْل أَنْ نَطْمِس وُجُوهًا | [ النِّسَاء : 47 ] وَالْآيَة اِحْتِجَاج عَلَى الْكُفَّار .|مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ|| مَنْ | رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ وَخَبَرهَا | إِلَه | و | غَيْره | صِفَة لَهُ , وَكَذَلِكَ | يَأْتِيكُمْ | مَوْضِعه رُفِعَ بِأَنَّهُ صِفَة | إِلَه | وَمَخْرَجهَا مَخْرَج الِاسْتِفْهَام , وَالْجُمْلَة الَّتِي هِيَ مِنْهَا فِي مَوْضِع مَفْعُولَيْ رَأَيْتُمْ . وَمَعْنَى | أَرَأَيْتُمْ | عَلِمْتُمْ ; وَوُحِّدَ الضَّمِير فِي ( بِهِ ) - وَقَدْ تَقَدَّمَ الذِّكْر بِالْجَمْعِ - لِأَنَّ الْمَعْنَى أَيْ بِالْمَأْخُوذِ , فَالْهَاء رَاجِعَة إِلَى الْمَذْكُور . وَقِيلَ : عَلَى السَّمْع بِالتَّصْرِيحِ ; مِثْل قَوْله : | وَاَللَّه وَرَسُوله أَحَقّ أَنْ يَرْضَوْهُ | [ التَّوْبَة : 62 ] . وَدَخَلَتْ الْأَبْصَار وَالْقُلُوب بِدَلَالَةِ التَّضْمِين . وَقِيلَ : | مَنْ إِلَه غَيْر اللَّه يَأْتِيكُمْ | . بِأَحَدِ هَذِهِ الْمَذْكُورَات . وَقِيلَ : عَلَى الْهُدَى الَّذِي تَضَمَّنَهُ الْمَعْنَى .|انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ|وَقَرَأَ عَبْد الرَّحْمَن الْأَعْرَج ( بِهِ اُنْظُرْ ) بِضَمِّ الْهَاء عَلَى الْأَصْل ; لِأَنَّ الْأَصْل أَنْ تَكُون الْهَاء مَضْمُومَة كَمَا تَقُول : جِئْت مَعَهُ . قَالَ النَّقَّاش : فِي هَذِهِ الْآيَة دَلِيل عَلَى تَفْضِيل السَّمْع عَلَى الْبَصَر لِتَقْدِمَتِهِ هُنَا وَفِي غَيْر آيَة , وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي أَوَّل | الْبَقَرَة | مُسْتَوْفًى . وَتَصْرِيف الْآيَات الْإِتْيَان بِهَا مِنْ جِهَات ; مِنْ إِعْذَار وَإِنْذَار وَتَرْغِيب وَتَرْهِيب وَنَحْو ذَلِكَ .|ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ|أَيْ يُعْرِضُونَ . عَنْ اِبْن عَبَّاس وَالْحَسَن وَمُجَاهِد وَقَتَادَة وَالسُّدِّيّ ; يُقَال : صَدَفَ عَنْ الشَّيْء إِذَا أَعْرَضَ عَنْهُ صَدْفًا وَصُدُوفًا فَهُوَ صَادِف . وَصَادَفْته مُصَادَفَة أَيْ لَقِيته عَنْ إِعْرَاض عَنْ جِهَته ; قَالَ اِبْن الرِّقَاع : <br>إِذَا ذَكَرْنَ حَدِيثًا قُلْنَ أَحْسَنه .......... وَهُنَّ عَنْ كُلّ سُوء يُتَّقَى صُدُف <br>وَالصُّدَف فِي الْبَعِير أَنْ يَمِيل خُفّه مِنْ الْيَد أَوْ الرِّجْل إِلَى الْجَانِب الْوَحْشِيّ ; فَهُمْ يَصْدِفُونَ أَيْ مَائِلُونَ مُعْرِضُونَ عَنْ الْحُجَج وَالدَّلَالَات .

قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ

قَالَ الْحَسَن : | بَغْتَة | لَيْلًا | أَوْ جَهْرَة | نَهَارًا . وَقِيلَ : بَغْتَة فَجْأَة . وَقَالَ الْكِسَائِيّ : يُقَال بَغَتَهُمْ الْأَمْر يَبْغَتهُمْ بَغْتًا وَبَغْتَة إِذَا أَتَاهُمْ فَجْأَة .|هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ|نَظِيره | فَهَلْ يُهْلَك إِلَّا الْقَوْم الْفَاسِقُونَ | [ الْأَحْقَاف : 35 ] أَيْ هَلْ يُهْلَك إِلَّا أَنْتُمْ لِشِرْكِكُمْ</p><p>وَالظُّلْم هُنَا بِمَعْنَى الشِّرْك , كَمَا قَالَ لُقْمَان لِابْنِهِ : | يَا بُنَيّ لَا تُشْرِك بِاَللَّهِ إِنَّ الشِّرْك لَظُلْم عَظِيم | [ لُقْمَان : 13 ] .

وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آَمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ

أَيْ بِالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيب . قَالَ الْحَسَن : مُبَشِّرِينَ بِسَعَةِ الرِّزْق فِي الدُّنْيَا وَالثَّوَاب فِي الْآخِرَة ; يَدُلّ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : | وَلَوْ أَنَّ أَهْل الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقُوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَات مِنْ السَّمَاء وَالْأَرْض | [ الْأَعْرَاف : 96 ] . وَمَعْنَى ( مُنْذِرِينَ ) مُخَوِّفِينَ عِقَاب اللَّه ; فَالْمَعْنَى : إِنَّمَا أَرْسَلْنَا الْمُرْسَلِينَ لِهَذَا لَا لِمَا يُقْتَرَح عَلَيْهِمْ مِنْ الْآيَات , وَإِنَّمَا يَأْتُونَ مِنْ الْآيَات بِمَا تَظْهَر مَعَهُ بَرَاهِينهمْ وَصِدْقهمْ .|فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ|دَلِيل عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَوْم الْقِيَامَة لَا يَخَافُونَ وَلَا يَحْزَنُونَ , وَلَا يَلْحَقهُمْ رُعْب وَلَا فَزَع . وَقِيلَ : قَدْ يَلْحَقهُمْ أَهْوَال يَوْم الْقِيَامَة , وَلَكِنَّ مَآلهمْ الْأَمْن .</p><p>| وَأَصْلَحَ | أَيْ وَأَصْلَحَ مِنْكُمْ مَا بَيْنِي وَبَيْنه .

وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ

أَيْ بِالْقُرْآنِ وَالْمُعْجِزَات . وَقِيلَ : بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام .|يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ|أَيْ يُصِيبهُمْ|بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ|أَيْ يَكْفُرُونَ .

قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ

هَذَا جَوَاب لِقَوْلِهِمْ : | لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَة مِنْ رَبّه | [ الْأَنْعَام : 37 ] , فَالْمَعْنَى لَيْسَ عِنْدِي خَزَائِن قُدْرَته فَأَنْزَلَ مَا اِقْتَرَحْتُمُوهُ مِنْ الْآيَات , وَلَا أَعْلَم الْغَيْب فَأُخْبِركُمْ بِهِ . وَالْخِزَانَة مَا يُخَزَّن فِيهِ الشَّيْء ; وَمِنْهُ الْحَدِيث ( فَإِنَّمَا تَخْزُن لَهُمْ ضُرُوع مَوَاشِيهمْ أَطَعِمَاتهمْ أَيُحِبُّ أَحَدكُمْ أَنْ تُؤْتَى مَشْرَبَته فَتُكْسَر خِزَانَته ) . وَخَزَائِن اللَّه مَقْدُورَاته ; أَيْ لَا أَمْلِك أَنْ أَفْعَل كُلّ مَا أُرِيد مِمَّا تَقْتَرِحُونَ|وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ|أَيْضًا|وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ|وَكَانَ الْقَوْم يَتَوَهَّمُونَ أَنَّ الْمَلَائِكَة أَفْضَل , أَيْ لَسْت بِمَلَكٍ فَأُشَاهِد مِنْ أُمُور اللَّه مَا لَا يَشْهَدهُ الْبَشَر . وَاسْتَدَلَّ بِهَذَا الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْمَلَائِكَة أَفْضَل مِنْ الْأَنْبِيَاء . وَقَدْ مَضَى فِي | الْبَقَرَة | الْقَوْل فِيهِ فَتَأَمَّلْهُ هُنَاكَ .|إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ|ظَاهِره أَنَّهُ لَا يَقْطَع أَمْرًا إِلَّا إِذَا كَانَ فِيهِ وَحْي . وَالصَّحِيح أَنَّ الْأَنْبِيَاء يَجُوز مِنْهُمْ الِاجْتِهَاد , وَالْقِيَاس عَلَى الْمَنْصُوص , وَالْقِيَاس أَحَد أَدِلَّة الشَّرْع . وَسَيَأْتِي بَيَان هَذَا فِي | الْأَعْرَاف | وَجَوَاز اِجْتِهَاد الْأَنْبِيَاء فِي ( الْأَنْبِيَاء ) إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .|قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ|أَيْ الْكَافِر وَالْمُؤْمِن ; عَنْ مُجَاهِد وَغَيْره . وَقِيلَ : الْجَاهِل وَالْعَالِم .|أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ|أَنَّهُمَا لَا يَسْتَوِيَانِ .

وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ

أَيْ بِالْقُرْآنِ . وَالْإِنْذَار الْإِعْلَام وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَة وَقِيلَ : | بِهِ | أَيْ بِاَللَّهِ . وَقِيلَ : بِالْيَوْمِ الْآخِر .|الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ|وَخَصَّ | الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبّهمْ | لِأَنَّ الْحُجَّة عَلَيْهِمْ أَوْجَب , فَهُمْ خَائِفُونَ مِنْ عَذَابه , لَا أَنَّهُمْ يَتَرَدَّدُونَ فِي الْحَشْر ; فَالْمَعْنَى | يَخَافُونَ | يَتَوَقَّعُونَ عَذَاب الْحَشْر . وَقِيلَ : | يَخَافُونَ | يَعْلَمُونَ , فَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا أُنْذِرَ لِيَتْرُك الْمَعَاصِي , وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْل الْكِتَاب أُنْذِرَ لِيَتَّبِع الْحَقّ . وَقَالَ الْحَسَن : الْمُرَاد الْمُؤْمِنُونَ . قَالَ الزَّجَّاج : كُلّ مَنْ أَقَرَّ بِالْبَعْثِ مِنْ مُؤْمِن وَكَافِر . وَقِيلَ : الْآيَة فِي الْمُشْرِكِينَ أَيْ أَنْذِرْهُمْ بِيَوْمِ الْقِيَامَة . وَالْأَوَّل أَظْهَر .|لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ|أَيْ مِنْ غَيْر اللَّه|وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ|هَذَا رَدّ عَلَى الْيَهُود وَالنَّصَارَى فِي زَعْمهمَا أَنَّ أَبَاهُمَا يَشْفَع لَهُمَا حَيْثُ قَالُوا : | نَحْنُ أَبْنَاء اللَّه وَأَحِبَّاؤُهُ | [ الْمَائِدَة : 18 ] وَالْمُشْرِكُونَ حَيْثُ جَعَلُوا أَصْنَامهمْ شُفَعَاء لَهُمْ عِنْد اللَّه , فَأَعْلَمَ اللَّه أَنَّ الشَّفَاعَة لَا تَكُون لِلْكُفَّارِ . وَمَنْ قَالَ الْآيَة فِي الْمُؤْمِنِينَ قَالَ : شَفَاعَة الرَّسُول لَهُمْ تَكُون بِإِذْنِ اللَّه فَهُوَ الشَّفِيع حَقِيقَة إِذَنْ ; وَفِي التَّنْزِيل : | وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنْ اِرْتَضَى | [ الْأَنْبِيَاء : 28 ] . | وَلَا تَنْفَع الشَّفَاعَة عِنْده إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ | [ سَبَأ : 23 ] . | مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَع عِنْده إِلَّا بِإِذْنِهِ | [ الْبَقَرَة : 255 ] .|لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ|أَيْ فِي الْمُسْتَقْبَل وَهُوَ الثَّبَات عَلَى الْإِيمَان .

وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ

قَوْله تَعَالَى : | وَلَا تَطْرُد الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهمْ | الْآيَة . قَالَ الْمُشْرِكُونَ : وَلَا نَرْضَى بِمُجَالَسَةِ أَمْثَال هَؤُلَاءِ - يَعْنُونَ سَلْمَان وَصُهَيْبًا وَبِلَالًا وَخَبَّابًا - فَاطْرُدْهُمْ عَنْك ; وَطَلَبُوا أَنْ يَكْتُب لَهُمْ بِذَلِكَ , فَهَمَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ , وَدَعَا عَلِيًّا لِيَكْتُب ; فَقَامَ الْفُقَرَاء وَجَلَسُوا نَاحِيَة ; فَأَنْزَلَ اللَّه الْآيَة . وَلِهَذَا أَشَارَ سَعْد بِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيث الصَّحِيح : فَوَقَعَ فِي نَفْس رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا شَاءَ اللَّه أَنْ يَقَع ; وَسَيَأْتِي ذِكْره . وَكَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا مَالَ إِلَى ذَلِكَ طَمَعًا فِي إِسْلَامهمْ , وَإِسْلَام قَوْمهمْ , وَرَأَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يُفَوِّت أَصْحَابه شَيْئًا , وَلَا يُنْقِص لَهُمْ قَدْرًا , فَمَالَ إِلَيْهِ فَأَنْزَلَ اللَّه الْآيَة , فَنَهَاهُ عَمَّا هُمْ بِهِ مِنْ الطَّرْد لَا أَنَّهُ أَوْقَعَ الطَّرْد . رَوَى مُسْلِم عَنْ سَعْد بْن أَبِي وَقَّاص قَالَ : كُنَّا مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِتَّة نَفَر , فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اُطْرُدْ هَؤُلَاءِ عَنْك لَا يَجْتَرِئُونَ عَلَيْنَا ; قَالَ : وَكُنْت أَنَا وَابْن مَسْعُود وَرَجُل مِنْ هُذَيْل وَبِلَال وَرَجُلَانِ لَسْت أُسَمِّيهِمَا , فَوَقَعَ فِي نَفْس رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا شَاءَ اللَّه أَنْ يَقَع , فَحَدَّثَ نَفْسه , فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ | وَلَا تَطْرُد الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيّ يُرِيدُونَ وَجْهه | . قِيلَ : الْمُرَاد بِالدُّعَاءِ الْمُحَافَظَة عَلَى الصَّلَاة الْمَكْتُوبَة فِي الْجَمَاعَة ; قَالَهُ اِبْن عَبَّاس وَمُجَاهِد وَالْحَسَن . وَقِيلَ : الذِّكْر وَقِرَاءَة الْقُرْآن . وَيَحْتَمِل أَنْ يُرِيد الدُّعَاء فِي أَوَّل النَّهَار وَآخِره ; لِيَسْتَفْتِحُوا يَوْمهمْ بِالدُّعَاءِ رَغْبَة فِي التَّوْفِيق . وَيَخْتِمُوهُ بِالدُّعَاءِ طَلَبًا لِلْمَغْفِرَةِ . | يُرِيدُونَ وَجْهه | أَيْ طَاعَته , وَالْإِخْلَاص فِيهَا , أَيْ يُخْلِصُونَ فِي عِبَادَتهمْ وَأَعْمَالهمْ لِلَّهِ , وَيَتَوَجَّهُونَ بِذَلِكَ إِلَيْهِ لَا لِغَيْرِهِ . وَقِيلَ : يُرِيدُونَ اللَّه الْمَوْصُوف بِأَنَّ لَهُ الْوَجْه كَمَا قَالَ : | وَيَبْقَى وَجْه رَبّك ذُو الْجَلَال وَالْإِكْرَام | [ الرَّحْمَن : 27 ] وَهُوَ كَقَوْلِهِ : | وَاَلَّذِينَ صَبَرُوا اِبْتِغَاء وَجْه رَبّهمْ | [ الرَّعْد : 22 ] . وَخَصَّ الْغَدَاة وَالْعَشِيّ بِالذِّكْرِ ; لِأَنَّ الشُّغْل غَالِب فِيهِمَا عَلَى النَّاس , وَمَنْ كَانَ فِي وَقْت الشُّغْل مُقْبِلًا عَلَى الْعِبَادَة كَانَ فِي وَقْت الْفَرَاغ مِنْ الشُّغْل أَعْمَل . وَكَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْد ذَلِكَ يَصْبِر نَفْسه مَعَهُمْ كَمَا أَمَرَهُ اللَّه فِي قَوْله : | وَاصْبِرْ نَفْسك مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيّ يُرِيدُونَ وَجْهه وَلَا تَعْدُ عَيْنَاك عَنْهُمْ | [ الْكَهْف : 28 ] , فَكَانَ لَا يَقُوم حَتَّى يَكُونُوا هُمْ الَّذِينَ يَبْتَدِئُونَ الْقِيَام , وَقَدْ أَخْرَجَ هَذَا الْمَعْنَى مُبَيَّنًا مُكَمَّلًا اِبْن مَاجَهْ فِي سُنَنه عَنْ خَبَّاب فِي قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : | وَلَا تَطْرُد الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيّ | إِلَى قَوْله : | فَتَكُون مِنْ الظَّالِمِينَ | قَالَ : جَاءَ الْأَقْرَع بْن حَابِس التَّمِيمِيّ وَعُيَيْنَة بْن حِصْن الْفَزَارِيّ فَوَجَدَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ صُهَيْب وَبِلَال وَعَمَّار وَخَبَّاب , قَاعِدًا فِي نَاس مِنْ الضُّعَفَاء مِنْ الْمُؤْمِنِينَ ; فَلَمَّا رَأَوْهُمْ حَوْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقَّرُوهُمْ ; فَأَتَوْهُ فَخَلَوَا بِهِ وَقَالُوا : إِنَّا نُرِيد أَنْ تَجْعَل لَنَا مِنْك مَجْلِسًا تَعْرِف لَنَا بِهِ الْعَرَب فَضْلنَا , فَإِنَّ وُفُود الْعَرَب تَأْتِيك فَنَسْتَحِي أَنْ تَرَانَا الْعَرَب مَعَ هَذِهِ الْأَعْبُد , فَإِذَا نَحْنُ جِئْنَاك فَأَقِمْهُمْ عَنْك , فَإِذَا نَحْنُ فَرَغْنَا فَاقْعُدْ مَعَهُمْ إِنْ شِئْت ; قَالَ : ( نَعَمْ ) قَالُوا : فَاكْتُبْ لَنَا عَلَيْك كِتَابًا ; قَالَ : فَدَعَا بِصَحِيفَةٍ وَدَعَا عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّه عَنْهُ - لِيَكْتُب وَنَحْنُ قُعُود فِي نَاحِيَة ; فَنَزَلَ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ : | وَلَا تَطْرُد الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيّ يُرِيدُونَ وَجْهه مَا عَلَيْك مِنْ حِسَابهمْ مِنْ شَيْء وَمَا مِنْ حِسَابك عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْء فَتَطْرُدهُمْ فَتَكُون مِنْ الظَّالِمِينَ | ثُمَّ ذَكَرَ الْأَقْرَع بْن حَابِس وَعُيَيْنَة بْن حِصْن ; فَقَالَ : | وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضهمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّه عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْننَا أَلَيْسَ اللَّه بِأَعْلَم بِالشَّاكِرِينَ | [ الْأَنْعَام : 53 ] ثُمَّ قَالَ : | وَإِذَا جَاءَك الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَام عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبّكُمْ عَلَى نَفْسه الرَّحْمَة | [ الْأَنْعَام : 54 ] قَالَ : فَدَنَوْنَا مِنْهُ حَتَّى وَضَعْنَا رُكَبَنَا عَلَى رُكْبَته ; وَكَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْلِس مَعَنَا فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَقُوم قَامَ وَتَرَكَنَا ; فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ | وَاصْبِرْ نَفْسك مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيّ يُرِيدُونَ وَجْهه وَلَا تَعْدُ عَيْنَاك عَنْهُمْ تُرِيد زِينَة الْحَيَاة الدُّنْيَا | [ الْكَهْف : 28 ] وَلَا تُجَالِس الْأَشْرَاف | وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبه عَنْ ذِكْرنَا | [ الْكَهْف : 28 ] يَعْنِي عُيَيْنَة وَالْأَقْرَع , | وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْره فُرُطًا | [ الْكَهْف : 28 ] , أَيْ هَلَاكًا . قَالَ : أَمَرَ عُيَيْنَة وَالْأَقْرَع ; ثُمَّ ضَرَبَ لَهُمْ مَثَل الرَّجُلَيْنِ وَمَثَل الْحَيَاة الدُّنْيَا . قَالَ خَبَّاب : فَكُنَّا نَقْعُد مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا بَلَغْنَا السَّاعَة الَّتِي يَقُوم فِيهَا قُمْنَا وَتَرَكْنَاهُ حَتَّى يَقُوم ; رَوَاهُ عَنْ أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن يَحْيَى بْن سَعِيد الْقَطَّان حَدَّثَنَا عَمْرو بْن مُحَمَّد الْعَنْقَزِيّ حَدَّثَنَا أَسْبَاط عَنْ السُّدِّيّ عَنْ أَبِي سَعِيد الْأَزْدِيّ وَكَانَ قَارِئ الْأَزْد عَنْ أَبِي الْكَنُود عَنْ خَبَّاب ; وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا عَنْ سَعْد قَالَ : نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة فِينَا سِتَّة , فِي وَفِي اِبْن مَسْعُود وَصُهَيْب وَعَمَّار وَالْمِقْدَاد وَبِلَال ; قَالَ : قَالَتْ قُرَيْش لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّا لَا نَرْضَى أَنْ نَكُون أَتْبَاعًا لَهُمْ فَاطْرُدْهُمْ , قَالَ : فَدَخَلَ قَلْب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّه أَنْ يَدْخُل ; فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : | وَلَا تَطْرُد الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيّ | الْآيَة . وَقُرِئَ ( بِالْغُدْوَةِ ) وَسَيَأْتِي بَيَانه فِي ( الْكَهْف ) إِنْ شَاءَ اللَّه . قَوْله تَعَالَى : | مَا عَلَيْك مِنْ حِسَابهمْ مِنْ شَيْء | أَيْ مِنْ جَزَائِهِمْ وَلَا كِفَايَة أَرْزَاقهمْ , أَيْ جَزَاؤُهُمْ وَرِزْقهمْ عَلَى اللَّه , وَجَزَاؤُك وَرِزْقك عَلَى اللَّه لَا عَلَى غَيْره . ( مِنْ ) الْأُولَى لِلتَّبْعِيضِ , وَالثَّانِيَة زَائِدَة لِلتَّوْكِيدِ . وَكَذَا | وَمَا مِنْ حِسَابك عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْء | الْمَعْنَى وَإِذَا كَانَ الْأَمْر كَذَلِكَ فَأَقْبِلْ عَلَيْهِمْ وَجَالِسهمْ وَلَا تَطْرُدهُمْ مُرَاعَاة لِحَقِّ مَنْ لَيْسَ عَلَى مِثْل حَالهمْ فِي الدِّين وَالْفَضْل ; فَإِنْ فَعَلْت كُنْت ظَالِمًا . وَحَاشَاهُ مِنْ وُقُوع ذَلِكَ مِنْهُ , وَإِنَّمَا هَذَا بَيَان لِلْأَحْكَامِ , وَلِئَلَّا يَقَع مِثْل ذَلِكَ مِنْ غَيْره مِنْ أَهْل السَّلَام ; وَهَذَا مِثْل قَوْله : | لَئِنْ أَشْرَكْت لَيَحْبَطَنَّ عَمَلك | [ الزُّمَر : 65 ] وَقَدْ عَلِمَ اللَّه مِنْهُ أَنَّهُ لَا يُشْرِك وَلَا يَحْبَط عَمَله . | فَتَطْرُدهُمْ | جَوَاب النَّفْي . | فَتَكُونَ مِنْ الظَّالِمِينَ | نُصِبَ بِالْفَاءِ فِي جَوَاب النَّهْي ; الْمَعْنَى : وَلَا تَطْرُد الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهمْ فَتَكُونَ مِنْ الظَّالِمِينَ , وَمَا مِنْ حِسَابك , عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْء فَتَطْرُدهُمْ , عَلَى التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير . وَالظُّلْم أَصْله وَضْع الشَّيْء فِي غَيْر مَوْضِعه . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَة مُسْتَوْفًى وَقَدْ حَصَلَ مِنْ قُوَّة الْآيَة وَالْحَدِيث النَّهْي عَنْ أَنْ يُعَظِّم أَحَد لِجَاهِهِ وَلِثَوْبِهِ , وَعَنْ أَنْ يُحْتَقَر أَحَد لِخُمُولِهِ وَلِرَثَاثَةِ ثَوْبَيْهِ .

وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ

أَيْ كَمَا فَتَنَّا مَنْ قَبْلك كَذَلِكَ فَتَنَّا هَؤُلَاءِ . وَالْفِتْنَة الِاخْتِبَار ; أَيْ عَامَلْنَاهُمْ مُعَامَلَة الْمُخْتَبِرِينَ .|لِيَقُولُوا|نُصِبَ بِلَامِ كَيْ , يَعْنِي الْأَشْرَاف وَالْأَغْنِيَاء .|أَهَؤُلَاءِ|يَعْنِي الضُّعَفَاء وَالْفُقَرَاء .|مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا|قَالَ النَّحَّاس : وَهَذَا مِنْ الْمُشْكِل ; لِأَنَّهُ يُقَال : كَيْفَ فُتِنُوا لِيَقُولُوا هَذِهِ الْآيَة ؟ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ إِنْكَارًا فَهُوَ كُفْر مِنْهُمْ . وَفِي هَذَا جَوَابَانِ : أَحَدهمَا : أَنَّ الْمَعْنَى اُخْتُبِرَ الْأَغْنِيَاء بِالْفُقَرَاءِ أَنْ تَكُون مَرْتَبَتهمْ وَاحِدَة عِنْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , لِيَقُولُوا عَلَى سَبِيل الِاسْتِفْهَام لَا عَلَى سَبِيل الْإِنْكَار | أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّه عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْننَا | وَالْجَوَاب الْآخَر : أَنَّهُمْ لَمَّا اُخْتُبِرُوا بِهَذَا فَآلَ عَاقِبَته إِلَى أَنْ قَالُوا هَذَا عَلَى سَبِيل الْإِنْكَار , وَصَارَ مِثْل قَوْله : | فَالْتَقَطَهُ آل فِرْعَوْن لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا | [ الْقَصَص : 8 ] .|أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ|فِيمَنْ عَلَيْهِمْ بِالْإِيمَانِ دُون الرُّؤَسَاء الَّذِينَ عَلِمَ اللَّه مِنْهُمْ الْكُفْر , وَهَذَا اِسْتِفْهَام تَقْرِير , وَهُوَ جَوَاب لِقَوْلِهِمْ : | أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّه عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْننَا | وَقِيلَ : الْمَعْنَى أَلَيْسَ اللَّه بِأَعْلَم مَنْ يَشْكُر الْإِسْلَام إِذَا هَدَيْته إِلَيْهِ .

وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ

السَّلَام وَالسَّلَامَة بِمَعْنًى وَاحِد . وَمَعْنَى | سَلَام عَلَيْكُمْ | سَلَّمَكُمْ اللَّه فِي دِينكُمْ وَأَنْفُسكُمْ ; نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ نَهَى اللَّه نَبِيّه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام عَنْ طَرْدهمْ , فَكَانَ إِذَا رَآهُمْ بَدَأَهُمْ بِالسَّلَامِ وَقَالَ : ( الْحَمْد لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي أُمَّتِي مَنْ أَمَرَنِي أَنْ أَبْدَأَهُمْ بِالسَّلَامِ ) فَعَلَى هَذَا كَانَ السَّلَام مِنْ جِهَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقِيلَ : إِنَّهُ كَانَ مِنْ جِهَة اللَّه تَعَالَى , أَيْ أَبْلِغْهُمْ مِنَّا السَّلَام ; وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فَفِيهِ دَلِيل عَلَى فَضْلهمْ وَمَكَانَتهمْ عِنْد اللَّه تَعَالَى . وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ عَائِذ بْن عَمْرو أَنَّ أَبَا سُفْيَان أَتَى عَلَى سَلْمَان وَصُهَيْب وَبِلَال وَنَفَر فَقَالُوا : وَاَللَّه مَا أَخَذَتْ سُيُوفُ اللَّه مِنْ عُنُق عَدُوّ اللَّه مَأْخَذَهَا ; قَالَ : فَقَالَ أَبُو بَكْر : أَتَقُولُونَ هَذَا لِشَيْخِ قُرَيْش وَسَيِّدهمْ ؟ ! فَأَتَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ : ( يَا أَبَا بَكْر لَعَلَّك أَغْضَبْتهمْ لَئِنْ كُنْت أَغْضَبْتهمْ لَقَدْ أَغْضَبْت رَبّك ) فَأَتَاهُمْ أَبُو بَكْر فَقَالَ : يَا إِخْوَتَاهُ أَغْضَبْتُكُمْ ؟ قَالُوا : لَا ; يَغْفِر اللَّه لَك يَا أَخِي ; فَهَذَا دَلِيل عَلَى رِفْعَة مَنَازِلهمْ وَحُرْمَتُهُمْ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَعْنَى الْآيَة . وَيُسْتَفَاد مِنْ هَذَا اِحْتِرَام الصَّالِحِينَ وَاجْتِنَاب مَا يُغْضِبهُمْ أَوْ يُؤْذِيهِمْ ; فَإِنَّ فِي ذَلِكَ غَضَب اللَّه , أَيْ حُلُول عِقَابه بِمَنْ آذَى أَحَدًا مِنْ أَوْلِيَائِهِ . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : نَزَلَتْ الْآيَة فِي أَبِي بَكْر وَعُمَر وَعُثْمَان وَعَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ . وَقَالَ الْفُضَيْل بْن عِيَاض : جَاءَ قَوْم مِنْ الْمُسْلِمِينَ إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا : إِنَّا قَدْ أَصَبْنَا مِنْ الذُّنُوب فَاسْتَغْفِرْ لَنَا فَأَعْرِض عَنْهُمْ ; فَنَزَلَتْ الْآيَة . وَرُوِيَ عَنْ أَنَس بْن مَالِك مِثْله سَوَاء .|كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ|أَيْ أَوْجَبَ ذَلِكَ بِخَبَرِهِ الصِّدْق , وَوَعْده الْحَقّ , فَخُوطِبَ الْعِبَاد عَلَى مَا يَعْرِفُونَهُ مِنْ أَنَّهُ مَنْ كَتَبَ شَيْئًا فَقَدْ أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسه . وَقِيلَ : كَتَبَ ذَلِكَ فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ .|أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ|أَيْ خَطِيئَة مِنْ غَيْر قَصْد ; قَالَ مُجَاهِد : لَا يَعْلَم حَلَالًا مِنْ حَرَام وَمِنْ جَهَالَته رَكِبَ الْأَمْر , فَكُلّ مَنْ عَمِلَ خَطِيئَة فَهُوَ بِهَا جَاهِل ; وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي | النِّسَاء | وَقِيلَ : مَنْ آثَرَ الْعَاجِل عَلَى الْآخِرَة فَهُوَ الْجَاهِل .|ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ|قَرَأَ بِفَتْحِ | أَنَّ | مِنْ | فَأَنَّهُ | اِبْن عَامِر وَعَاصِم , وَكَذَلِكَ | أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ | وَوَافَقَهُمَا نَافِع فِي | أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ | . وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْكَسْرِ فِيهِمَا ; فَمَنْ كَسَرَ فَعَلَى الِاسْتِئْنَاف , وَالْجُمْلَة مُفَسِّرَة لِلرَّحْمَةِ ; و ( إِنْ ) إِذَا دَخَلَتْ عَلَى الْجُمَل كُسِرَتْ وَحُكْم مَا بَعْد الْفَاء الِابْتِدَاء وَالِاسْتِئْنَاف فَكُسِرَتْ لِذَلِكَ . وَمَنْ فَتَحَهُمَا فَالْأَوْلَى فِي مَوْضِع نَصْب عَلَى الْبَدَل مِنْ الرَّحْمَة , بَدَل الشَّيْء مِنْ الشَّيْء وَهُوَ هُوَ فَأَعْمَلَ فِيهَا ( كَتَبَ ) كَأَنَّهُ قَالَ : كَتَبَ رَبّكُمْ عَلَى نَفْسه أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ ; وَأَمَّا ( فَأَنَّهُ غَفُور ) بِالْفَتْحِ فَفِيهِ وَجْهَانِ ; أَحَدهمَا : أَنْ يَكُون فِي مَوْضِع رَفْع بِالِابْتِدَاءِ وَالْخَبَر مُضْمَر , كَأَنَّهُ قَالَ : فَلَهُ أَنَّهُ غَفُور رَحِيم ; لِأَنَّ مَا بَعْد الْفَاء مُبْتَدَأ , أَيْ فَلَهُ غُفْرَان اللَّه . الْوَجْه الثَّانِي : أَنْ يُضْمَر مُبْتَدَأ تَكُون ( أَنَّ ) وَمَا عَمِلَتْ فِيهِ خَبَره ; تَقْدِيره : فَأَمْره غُفْرَان اللَّه لَهُ , وَهَذَا اِخْتِيَار سِيبَوَيْهِ , وَلَمْ يُجِزْ الْأَوَّل , وَأَجَازَهُ أَبُو حَاتِم . وَقِيلَ : إِنَّ ( كَتَبَ ) عَمِلَ فِيهَا ; أَيْ كَتَبَ رَبّكُمْ أَنَّهُ غَفُور رَحِيم . وَرُوِيَ عَنْ عَلِيّ بْن صَالِح وَابْن هُرْمُز كَسْر الْأُولَى عَلَى الِاسْتِئْنَاف , وَفَتْح الثَّانِيَة عَلَى أَنْ تَكُون مُبْتَدَأَة أَوْ خَبَر مُبْتَدَأ أَوْ مَعْمُولَة لِكَتَبَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ . وَمَنْ فَتَحَ الْأُولَى - وَهُوَ نَافِع - جَعَلَهَا بَدَلًا مِنْ الرَّحْمَة , وَاسْتَأْنَفَ الثَّانِيَة لِأَنَّهَا بَعْد الْفَاء , وَهِيَ قِرَاءَة بَيِّنَة .

وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ

التَّفْصِيل التَّبْيِين الَّذِي تَظْهَر بِهِ الْمَعَانِي ; وَالْمَعْنَى : وَكَمَا فَصَّلْنَا لَك فِي هَذِهِ السُّورَة دَلَائِلنَا وَمُحَاجَّتنَا مَعَ الْمُشْرِكِينَ كَذَلِكَ نُفَصِّل لَكُمْ الْآيَات فِي كُلّ مَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنْ أَمْر الدِّين , وَنُبَيِّن لَكُمْ أَدِلَّتنَا وَحُجَجنَا فِي كُلّ حَقّ يُنْكِرهُ أَهْل الْبَاطِل . وَقَالَ الْقُتَبِيّ : | نُفَصِّل الْآيَات | نَأْتِي بِهَا شَيْئًا بَعْد شَيْء , وَلَا نُنَزِّلهَا جُمْلَة مُتَّصِلَة .|وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ|يُقَال : هَذِهِ اللَّام تَتَعَلَّق بِالْفِعْلِ فَأَيْنَ الْفِعْل الَّذِي تَتَعَلَّق بِهِ ؟ فَقَالَ الْكُوفِيُّونَ : هُوَ مُقَدَّر ; أَيْ وَكَذَلِكَ نُفَصِّل الْآيَات لِنُبَيِّن لَكُمْ وَلِتَسْتَبِينَ ; قَالَ النَّحَّاس : وَهَذَا الْحَذْف كُلّه لَا يَحْتَاج إِلَيْهِ , وَالتَّقْدِير : وَكَذَلِكَ نُفَصِّل الْآيَات فَصَّلْنَاهَا . وَقِيلَ : إِنَّ دُخُول الْوَاو لِلْعَطْفِ عَلَى الْمَعْنَى ; أَيْ لِيَظْهَر الْحَقّ وَلِيَسْتَبِينَ , قُرِئَ بِالْيَاءِ وَالتَّاء . ( سَبِيل ) بِرَفْعِ اللَّام وَنَصْبهَا , وَقِرَاءَة التَّاء خِطَاب لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , أَيْ وَلِتَسْتَبِينَ يَا مُحَمَّد سَبِيل الْمُجْرِمِينَ . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ كَانَ النَّبِيّ عَلَيْهِ السَّلَام يَسْتَبِينهَا ؟ فَالْجَوَاب عِنْد الزَّجَّاج - أَنَّ الْخِطَاب لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَام خِطَاب لِأُمَّتِهِ ; فَالْمَعْنَى : وَلِتَسْتَبِينُوا سَبِيل الْمُجْرِمِينَ . فَإِنْ قِيلَ : فَلِمَ لَمْ يَذْكُر سَبِيل الْمُؤْمِنِينَ ؟ فَفِي هَذَا جَوَابَانِ ; أَحَدهمَا : أَنْ يَكُون مِثْل قَوْله : | سَرَابِيل تَقِيكُمْ الْحَرّ | [ النَّحْل : 81 ] فَالْمَعْنَى ; وَتَقِيكُمْ الْبَرْد ثُمَّ حُذِفَ ; وَكَذَلِكَ يَكُون هَذَا الْمَعْنَى وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيل الْمُؤْمِنِينَ ثُمَّ حُذِفَ . وَالْجَوَاب الْآخَر : أَنْ يُقَال : اِسْتَبَانَ الشَّيْء وَاسْتَبَنْته ; وَإِذَا بَانَ سَبِيل الْمُجْرِمِينَ فَقَدْ بَانَ سَبِيل الْمُؤْمِنِينَ . وَالسَّبِيل يُذَكَّر وَيُؤَنَّث ; فَتَمِيم تُذَكِّرهُ , وَأَهْل الْحِجَاز تُؤَنِّثهُ ; وَفِي التَّنْزِيل | وَإِنْ يَرَوْا سَبِيل الرُّشْد | [ الْأَعْرَاف : 146 ] مُذَكَّر | لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيل اللَّه | [ آل عِمْرَان : 99 ] مُؤَنَّث ; وَكَذَلِكَ قُرِئَ ( وَلِتَسْتَبِينَ ) بِالْيَاءِ وَالتَّاء ; فَالتَّاء خِطَاب لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَاد أُمَّته .

قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ

قِيلَ : | تَدْعُونَ | بِمَعْنَى تَعْبُدُونَ . وَقِيلَ : تَدْعُونَهُمْ فِي مُهِمَّات أُمُوركُمْ عَلَى جِهَة الْعِبَادَة ; أَرَادَ بِذَلِكَ الْأَصْنَام .|قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ|فِيمَا طَلَبْتُمُوهُ مِنْ عِبَادَة هَذِهِ الْأَشْيَاء , وَمِنْ طَرْد مَنْ أَرَدْتُمْ طَرْده .|قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا|أَيْ قَدْ ضَلَلْت إِنْ اِتَّبَعْت أَهْوَاءَكُمْ .|وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ|أَيْ عَلَى طَرِيق رُشْد وَهُدًى . وَقُرِئَ | ضَلَلْت | بِفَتْحِ اللَّام وَكَسْرهَا وَهُمَا لُغَتَانِ . قَالَ أَبُو عَمْرو بْن الْعَلَاء : ضَلِلْت بِكَسْرِ اللَّام لُغَة تَمِيم , وَهِيَ قِرَاءَة يَحْيَى بْن وَثَّاب وَطَلْحَة بْن مُصَرِّف , وَالْأُولَى هِيَ الْأَصَحّ وَالْأَفْصَح ; لِأَنَّهَا لُغَة أَهْل الْحِجَاز , وَهِيَ قِرَاءَة الْجُمْهُور . وَقَالَ الْجَوْهَرِيّ : وَالضَّلَال وَالضَّلَالَة ضِدّ الرَّشَاد , وَقَدْ ضَلَلْت أَضِلّ , قَالَ اللَّه تَعَالَى : | قُلْ إِنْ ضَلَلْت فَإِنَّمَا أَضِلّ عَلَى نَفْسِي | [ سَبَأ : 50 ] فَهَذِهِ لُغَة نَجْد , وَهِيَ الْفَصِيحَة , وَأَهْل الْعَالِيَة يَقُولُونَ : ضَلِلْت بِالْكَسْرِ أَضَلّ .

قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ

أَيْ دَلَالَة وَيَقِين وَحُجَّة وَبُرْهَان , لَا عَلَى هَوًى ; وَمِنْهُ الْبَيِّنَة لِأَنَّهَا تُبَيِّن الْحَقّ وَتُظْهِرهُ .|وَكَذَّبْتُمْ بِهِ|أَيْ بِالْبَيِّنَةِ لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الْبَيَان , كَمَا قَالَ : | وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَة أَوْلُوا الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِين فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ | [ النِّسَاء : 8 ] عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ هُنَاكَ . وَقِيلَ يَعُود عَلَى الرَّبّ , أَيْ كَذَّبْتُمْ بِرَبِّي لِأَنَّهُ جَرَى ذِكْره . وَقِيلَ : بِالْعَذَابِ . وَقِيلَ : بِالْقُرْآنِ . وَفِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَة وَاَلَّتِي قَبْلهَا مَا أَنْشَدَهُ مُصْعَب بْن عَبْد اللَّه بْن الزُّبَيْر لِنَفْسِهِ , وَكَانَ شَاعِرًا مُحْسِنًا رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : <br>أَأَقْعُدُ بَعْدَمَا رَجَفَتْ عِظَامِي .......... وَكَانَ الْمَوْت أَقْرَب مَا يَلِينِي <br><br>أُجَادِل كُلّ مُعْتَرِض خَصِيم .......... وَأَجْعَل دِينه غَرَضًا لِدِينِي <br><br>فَأَتْرُك مَا عَلِمْت لِرَأْيِ غَيْرِي .......... وَلَيْسَ الرَّأْي كَالْعِلْمِ الْيَقِين <br><br>وَمَا أَنَا وَالْخُصُومَة وَهِيَ شَيْء .......... يُصَرَّف فِي الشَّمَال وَفِي الْيَمِين <br><br>وَقَدْ سُنَّتْ لَنَا سُنَن قِوَام .......... يَلُحْنَ بِكُلِّ فَجّ أَوْ وَجِين <br><br>وَكَانَ الْحَقّ لَيْسَ بِهِ خَفَاء .......... أَغَرّ كَغُرَّةِ الْفَلَق الْمُبِين <br><br>وَمَا عِوَض لَنَا مِنْهَاج جَهْم .......... بِمِنْهَاجِ اِبْن آمِنَة الْأَمِين <br><br>فَأَمَّا مَا عَلِمْت فَقَدْ كَفَانِي .......... وَأَمَّا مَا جَهِلْت فَجَنِّبُونِي<br>|مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ|أَيْ الْعَذَاب ; فَإِنَّهُمْ كَانُوا لِفَرْطِ تَكْذِيبهمْ يَسْتَعْجِلُونَ نُزُوله اِسْتِهْزَاء نَحْو قَوْلهمْ : | أَوْ تُسْقِط السَّمَاء كَمَا زَعَمْت عَلَيْنَا كِسَفًا | [ الْإِسْرَاء : 92 ] | وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقّ مِنْ عِنْدك فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَة مِنْ السَّمَاء | [ الْأَنْفَال : 32 ] . وَقِيلَ : مَا عِنْدِي مِنْ الْآيَات الَّتِي تَقْتَرِحُونَهَا .|إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ|أَيْ مَا الْحُكْم إِلَّا لِلَّهِ فِي تَأْخِير الْعَذَاب وَتَعْجِيله . وَقِيلَ : الْحُكْم الْفَاصِل بَيْن الْحَقّ وَالْبَاطِل لِلَّهِ .|يَقُصُّ الْحَقَّ|أَيْ يَقُصّ الْقَصَص الْحَقّ ; وَبِهِ اِسْتَدَلَّ مَنْ مَنَعَ الْمَجَاز فِي الْقُرْآن , وَهِيَ قِرَاءَة نَافِع وَابْن كَثِير وَعَاصِم وَمُجَاهِد وَالْأَعْرَج وَابْن عَبَّاس ; قَالَ اِبْن عَبَّاس : قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : | نَحْنُ نَقُصّ عَلَيْك أَحْسَن الْقَصَص | [ يُوسُف : 3 ] . وَالْبَاقُونَ | يَقْضِ الْحَقّ | بِالضَّادِ الْمُعْجَمَة , وَكَذَلِكَ قَرَأَ عَلِيّ - رَضِيَ اللَّه عَنْهُ - وَأَبُو عَبْد الرَّحْمَن السُّلَمِيّ وَسَعِيد بْن الْمُسَيِّب , وَهُوَ مَكْتُوب فِي الْمُصْحَف بِغَيْرِ يَاء , وَلَا يَنْبَغِي الْوَقْف عَلَيْهِ , وَهُوَ مِنْ الْقَضَاء ; وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ بَعْده|وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ|وَالْفَصْل لَا يَكُون إِلَّا قَضَاء دُون قَصَص , وَيُقَوِّي ذَلِكَ قَوْله قَبْله : | إِنْ الْحُكْم إِلَّا لِلَّهِ | وَيُقَوِّي ذَلِكَ أَيْضًا قِرَاءَة اِبْن مَسْعُود ( إِنْ الْحُكْم إِلَّا لِلَّهِ يَقْضِي بِالْحَقِّ ) فَدُخُول الْبَاء يُؤَكِّد مَعْنَى الْقَضَاء . قَالَ النَّحَّاس : هَذَا لَا يَلْزَم ; لِأَنَّ مَعْنَى | يَقْضِي | يَأْتِي وَيَصْنَع فَالْمَعْنَى : يَأْتِي الْحَقّ , وَيَجُوز أَنْ يَكُون الْمَعْنَى : يَقْضِي الْقَضَاء الْحَقّ . قَالَ مَكِّيّ : وَقِرَاءَة الصَّاد أَحَبّ إِلَيَّ ; لِاتِّفَاقِ الْحَرَمِيِّينَ وَعَاصِم عَلَى ذَلِكَ , وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنْ الْقَضَاء لَلَزِمَتْ الْبَاء فِيهِ كَمَا أَتَتْ فِي قِرَاءَة اِبْن مَسْعُود . قَالَ النَّحَّاس : وَهَذَا الِاحْتِجَاج لَا يَلْزَم ; لِأَنَّ مِثْل هَذِهِ الْبَاء تُحْذَف كَثِيرًا .

قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ

| قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ | أَيْ مِنْ الْعَذَاب لَأَنْزَلْته بِكُمْ حَتَّى يَنْقَضِي الْأَمْر إِلَى آخِره . وَالِاسْتِعْجَال : تَعْجِيل طَلَب الشَّيْء قَبْل وَقْته . | وَاَللَّه أَعْلَم بِالظَّالِمِينَ | أَيْ بِالْمُشْرِكِينَ وَبِوَقْتِ عُقُوبَتهمْ .

وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ

جَاءَ فِي الْخَبَر أَنَّ هَذِهِ الْآيَة لَمَّا نَزَلَتْ نَزَلَ مَعَهَا اِثْنَا عَشَر أَلْف مَلَك . وَرَوَى الْبُخَارِيّ عَنْ اِبْن عُمَر عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عِيهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَفَاتِح الْغَيْب خَمْس لَا يَعْلَم مَا تَغِيض الْأَرْحَام إِلَّا اللَّه وَلَا يَعْلَم مَا فِي غَد إِلَّا اللَّه وَلَا يَعْلَم مَتَى يَأْتِي الْمَطَر إِلَّا اللَّه وَلَا تَدْرِي نَفْس بِأَيِّ أَرْض تَمُوت إِلَّا اللَّه وَلَا يَعْلَم مَتَى تَقُوم السَّاعَة إِلَّا اللَّه ) . وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ عَائِشَة قَالَتْ : مَنْ زَعَمَ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخْبِر بِمَا يَكُون فِي غَد فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّه الْفِرْيَة ; وَاَللَّه تَعَالَى يَقُول : | قُلْ لَا يَعْلَم مَنْ فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض الْغَيْب إِلَّا اللَّه | [ النَّمْل : 65 ] . وَمَفَاتِح جَمْع مَفْتَح , هَذِهِ اللُّغَة الْفَصِيحَة . و يُقَال : مِفْتَاح وَيُجْمَع مَفَاتِيح . وَهِيَ قِرَاءَة اِبْن السَّمَيْقَع | مَفَاتِيح | . وَالْمِفْتَح عِبَارَة عَنْ كُلّ مَا يَحُلّ غَلْقًا , مَحْسُوسًا كَانَ كَالْقُفْلِ عَلَى الْبَيْت أَوْ مَعْقُول كَالنَّظَرِ وَرَوَى اِبْن مَاجَهْ فِي سُنَنه وَأَبُو حَاتِم الْبُسْتِيّ فِي صَحِيحه عَنْ أَنَس بْن مَالِك قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ مِنْ النَّاس مَفَاتِيح لِلْخَيْرِ مَغَالِيق لِلشَّرِّ وَإِنَّ مِنْ النَّاس مَفَاتِيح لِلشَّرِّ مَغَالِيق لِلْخَيْرِ فَطُوبَى لِمَنْ جَعَلَ اللَّه مَفَاتِيح الْخَيْر عَلَى يَدَيْهِ وَوَيْل لِمَنْ جَعَلَ اللَّه مَفَاتِيح الشَّرّ عَلَى يَدَيْهِ ) . وَهُوَ فِي الْآيَة اِسْتِعَارَة عَنْ التَّوَصُّل إِلَى الْغُيُوب كَمَا يُتَوَصَّل فِي الشَّاهِد بِالْمِفْتَاحِ إِلَى الْمُغَيَّب عَنْ الْإِنْسَان ; وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضهمْ : هُوَ مَأْخُوذ مِنْ قَوْل النَّاس اِفْتَحْ عَلَيَّ كَذَا ; أَيْ أَعْطِنِي أَوْ عَلِّمْنِي مَا أَتَوَصَّل إِلَيْهِ بِهِ . فَاَللَّه تَعَالَى عِنْده عِلْم الْغَيْب , وَبِيَدِهِ الطُّرُق الْمُوَصِّلَة إِلَيْهِ , لَا يَمْلِكهَا إِلَّا هُوَ , فَمَنْ شَاءَ إِطْلَاعه عَلَيْهَا أَطْلَعَهُ , وَمَنْ شَاءَ حَجَبَهُ عَنْهَا حَجَبَهُ . وَلَا يَكُون ذَلِكَ مِنْ إِفَاضَته إِلَّا عَلَى رُسُله ; بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى : | وَمَا كَانَ اللَّه لِيُطْلِعكُمْ عَلَى الْغَيْب وَلَكِنَّ اللَّه يَجْتَبِي مِنْ رُسُله مَنْ يَشَاء | [ آل عِمْرَان : 179 ] وَقَالَ : | عَالِم الْغَيْب فَلَا يُظْهِر عَلَى غَيْبه أَحَدًا إِلَّا مَنْ اِرْتَضَى مِنْ رَسُول | [ الْجِنّ : 26 - 27 ] . الْآيَة وَقِيلَ : الْمُرَاد بِالْمَفَاتِحِ خَزَائِن الرِّزْق ; عَنْ السُّدِّيّ وَالْحَسَن . مُقَاتِل وَالضَّحَّاك : خَزَائِن الْأَرْض . وَهَذَا مَجَاز , عُبِّرَ عَنْهَا بِمَا يُتَوَصَّل إِلَيْهَا بِهِ . وَقِيلَ : غَيْر هَذَا مِمَّا يَتَضَمَّنهُ مَعْنَى الْحَدِيث أَيْ عِنْده الْآجَال وَوَقْت اِنْقِضَائِهَا . وَقِيلَ : عَوَاقِب الْأَعْمَار وَخَوَاتِم الْأَعْمَال ; إِلَى غَيْر هَذَا مِنْ الْأَقْوَال . وَالْأَوَّل الْمُخْتَار . وَاَللَّه أَعْلَم .</p><p>قَالَ عُلَمَاؤُنَا : أَضَافَ سُبْحَانه عِلْم الْغَيْب إِلَى نَفْسه فِي غَيْر مَا آيَة مِنْ كِتَابه إِلَّا مَنْ اِصْطَفَى مِنْ عِبَاده . فَمَنْ قَالَ : إِنَّهُ يَنْزِل الْغَيْث غَدًا وَجَزَمَ فَهُوَ كَافِر , أَخْبَرَ عَنْهُ بِأَمَارَةٍ اِدَّعَاهَا أَمْ لَا . وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ : إِنَّهُ يَعْلَم مَا فِي الرَّحِم فَهُوَ كَافِر ; فَإِنْ لَمْ يَجْزِم وَقَالَ : إِنَّ النَّوْء يُنْزِل اللَّه بِهِ الْمَاء عَادَة , وَأَنَّهُ سَبَب الْمَاء عَادَة , وَأَنَّهُ سَبَب الْمَاء عَلَى مَا قَدَّرَهُ وَسَبَقَ فِي عِلْمه لَمْ يَكْفُر ; إِلَّا أَنَّهُ يُسْتَحَبّ لَهُ أَلَّا يَتَكَلَّم بِهِ , فَإِنَّ فِيهِ تَشْبِيهًا بِكَلِمَةِ أَهْل الْكُفْر , وَجَهْلًا بِلَطِيفِ حِكْمَته ; لِأَنَّهُ يَنْزِل مَتَى شَاءَ , مَرَّة بِنَوْءِ كَذَا , وَمَرَّة دُون النَّوْء ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : ( أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِن بِي وَكَافِر بِالْكَوْكَبِ ) عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه فِي | الْوَاقِعَة | إِنْ شَاءَ اللَّه . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَكَذَلِكَ قَوْل الطَّبِيب : إِذَا كَانَ الثَّدْي الْأَيْمَن مُسْوَدّ الْحَلَمَة فَهُوَ ذَكَر , وَإِنْ كَانَ فِي الثَّدْي الْأَيْسَر فَهُوَ أُنْثَى , وَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَة تَجِد الْجَنْب الْأَيْمَن أَثْقَل فَالْوَلَد أُنْثَى ; وَادَّعَى ذَلِكَ عَادَة لَا وَاجِبًا فِي الْخِلْقَة لَمْ يَكْفُر وَلَمْ يَفْسُق . وَأَمَّا مَنْ اِدَّعَى الْكَسْب فِي مُسْتَقْبَل الْعُمُر فَهُوَ كَافِر . أَوْ أَخْبَرَ عَنْ الْكَوَائِن الْمُجَمَّلَة أَوْ الْمُفَصَّلَة فِي أَنْ تَكُون قَبْل أَنْ تَكُون فَلَا رِيبَة فِي كُفْره أَيْضًا . فَأَمَّا مَنْ أَخْبَرَ عَنْ كُسُوف الشَّمْس وَالْقَمَر فَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا : يُؤَدَّب وَلَا يُسْجَن . أَمَّا عَدَم تَكْفِيره فَلِأَنَّ جَمَاعَة قَالُوا : إِنَّهُ أَمْر يُدْرَك بِالْحِسَابِ وَتَقْدِير الْمَنَازِل حَسْب مَا أَخْبَرَ اللَّه عَنْهُ مِنْ قَوْله : | وَالْقَمَر قَدَّرْنَاهُ مَنَازِل | [ يس : 39 ] . وَأَمَّا أَدَبهمْ فَلِأَنَّهُمْ يُدْخِلُونَ الشَّكّ عَلَى الْعَامَّة , إِذْ لَا يُدْرِكُونَ الْفَرْق بَيْن هَذَا وَغَيْره ; فَيُشَوِّشُونَ عَقَائِدهمْ وَيَتْرُكُونَ قَوَاعِدهمْ فِي الْيَقِين فَأُدِّبُوا حَتَّى يُسِرُّوا ذَلِكَ إِذَا عَرَفُوهُ وَلَا يُعْلِنُوا بِهِ . قُلْت : وَمِنْ هَذَا الْبَاب أَيْضًا مَا جَاءَ فِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ بَعْض أَزْوَاج النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَ عَنْ شَيْء لَمْ تُقْبَل لَهُ صَلَاة أَرْبَعِينَ لَيْلَة ) . وَالْعَرَّاف هُوَ الْحَازِر وَالْمُنَجِّم الَّذِي يَدَّعِي عِلْم الْغَيْب . وَهِيَ مِنْ الْعَرَّافَة وَصَاحِبهَا عَرَّاف , وَهُوَ الَّذِي يَسْتَدِلّ عَلَى الْأُمُور بِأَسْبَابٍ وَمُقَدِّمَات يَدَّعِي مَعْرِفَتهَا . وَقَدْ يَعْتَضِد بَعْض أَهْل هَذَا الْفَنّ فِي ذَلِكَ بِالزَّجْرِ وَالطُّرُق وَالنُّجُوم , وَأَسْبَاب مُعْتَادَة فِي ذَلِكَ . وَهَذَا الْفَنّ هُوَ الْعِيَافَة ( بِالْيَاءِ ) . وَكُلّهَا يَنْطَلِق عَلَيْهَا اِسْم الْكِهَانَة ; قَالَهُ الْقَاضِي عِيَاض . وَالْكِهَانَة : اِدِّعَاء عِلْم الْغَيْب . قَالَ أَبُو عُمَر بْن عَبْد الْبَرّ فِي كِتَاب ( الْكَافِي ) : مِنْ الْمَكَاسِب الْمُجْتَمَع عَلَى تَحْرِيمهَا الرِّبَا وَمُهُور الْبَغَايَا وَالسُّحْت وَالرِّشَا وَأَخْذ الْأُجْرَة عَلَى النِّيَاحَة وَالْغِنَاء , وَعَلَى الْكِهَانَة وَادِّعَاء الْغَيْب وَأَخْبَار السَّمَاء , وَعَلَى الزَّمْر وَاللَّعِب وَالْبَاطِل كُلّه . قَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَقَدْ اِنْقَلَبَتْ الْأَحْوَال فِي هَذِهِ الْأَزْمَان بِإِتْيَانِ الْمُنَجِّمِينَ , وَالْكُهَّان لَا سِيَّمَا بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّة ; فَقَدْ شَاعَ فِي رُؤَسَائِهِمْ وَأَتْبَاعهمْ وَأُمَرَائِهِمْ اِتِّخَاذ الْمُنَجِّمِينَ , بَلْ وَلَقَدْ اِنْخَدَعَ كَثِير مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ لِلْفِقْهِ وَالدِّين فَجَاءُوا إِلَى هَؤُلَاءِ الْكَهَنَة وَالْعَرَّافِينَ فَبَهْرَجُوا عَلَيْهِمْ بِالْمُحَالِ , وَاسْتَخْرَجُوا مِنْهُمْ الْأَمْوَال فَحَصَلُوا مِنْ أَقْوَالهمْ عَلَى السَّرَاب وَالْآل , وَمِنْ أَدْيَانهمْ عَلَى الْفَسَاد وَالضَّلَال . وَكُلّ ذَلِكَ مِنْ الْكَبَائِر ; لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( لَمْ تُقْبَل لَهُ صَلَاة أَرْبَعِينَ لَيْلَة ) . فَكَيْفَ بِمَنْ اِتَّخَذَهُمْ وَأَنْفَقَ عَلَيْهِمْ مُعْتَمِدًا عَلَى أَقْوَالهمْ . رَوَى مُسْلِم رَحِمَهُ اللَّه عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا قَالَتْ : سَأَلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُنَاس عَنْ الْكُهَّان فَقَالَ : ( إِنَّهُمْ لَيْسُوا بِشَيْءٍ ) فَقَالُوا : يَا رَسُول اللَّه , إِنَّهُمْ يُحَدِّثُونَا أَحْيَانًا بِشَيْءٍ فَيَكُون حَقًّا ! فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( تِلْكَ الْكَلِمَة مِنْ الْحَقّ يَخْطَفهَا الْجِنِّيّ فَيُقِرّهَا فِي أُذُن وَلِيّه قَرَّ الدَّجَاجَة فَيَخْلِطُونَ مَعَهَا مِائَة كَذْبَة ) . قَالَ الْحُمَيْدِيّ : لَيْسَ لِيَحْيَى بْن عُرْوَة عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَة فِي الصَّحِيح غَيْر هَذَا وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ أَيْضًا مِنْ حَدِيث أَبِي الْأَسْوَد مُحَمَّد بْن عَبْد الرَّحْمَن عَنْ عُرْوَة عَنْ عَائِشَة أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( إِنَّ الْمَلَائِكَة تَنْزِل فِي الْعَنَان وَهُوَ السَّحَاب فَتَذْكُر الْأَمْر قُضِيَ فِي السَّمَاء فَتَسْتَرِق الشَّيَاطِين السَّمْع فَتَسْمَعهُ فَتُوحِيه إِلَى الْكُهَّان فَيَكْذِبُونَ مَعَهَا مِائَة كَذْبَة مِنْ عِنْد أَنْفُسهمْ ) . وَسَيَأْتِي هَذَا الْمَعْنَى فِي | سَبَأ | إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .|وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ|خَصَّهُمَا بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُمَا أَعْظَم الْمَخْلُوقَات الْمُجَاوِرَة لِلْبَشَرِ , أَيْ يَعْلَم مَا يَهْلِك فِي الْبَرّ وَالْبَحْر . وَيُقَال : يَعْلَم مَا فِي الْبَرّ مِنْ النَّبَات وَالْحَبّ وَالنَّوَى , وَمَا فِي الْبَحْر مِنْ الدَّوَابّ وَرِزْق مَا فِيهَا | وَمَا تَسْقُط مِنْ وَرَقَة إِلَّا يَعْلَمهَا | رَوَى يَزِيد بْن هَارُون عَنْ مُحَمَّد بْن إِسْحَاق عَنْ نَافِع عَنْ اِبْن عُمَر عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَا مِنْ زَرْع عَلَى الْأَرْض وَلَا ثِمَار عَلَى الْأَشْجَار وَلَا حَبَّة فِي ظُلُمَات الْأَرْض إِلَّا عَلَيْهَا مَكْتُوب بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَن الرَّحِيم رِزْق فُلَان بْن فُلَان ) وَذَلِكَ قَوْله فِي مُحْكَم كِتَابه|وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ|وَحَكَى النَّقَّاش عَنْ جَعْفَر بْن مُحَمَّد أَنَّ الْوَرَقَة يُرَاد بِهَا السِّقْط مِنْ أَوْلَاد بَنِي آدَم , وَالْحَبَّة يُرَاد بِهَا الَّذِي لَيْسَ بِسِقْطٍ , وَالرَّطْب يُرَاد بِهِ الْحَيّ , وَالْيَابِس يُرَاد بِهِ الْمَيِّت . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا قَوْل جَارٍ عَلَى طَرِيقَة الرُّمُوز , وَلَا يَصِحّ عَنْ جَعْفَر بْن مُحَمَّد وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُلْتَفَت إِلَيْهِ . وَقِيلَ : الْمَعْنَى | وَمَا تَسْقُط مِنْ وَرَقَة | أَيْ مِنْ وَرَقَة الشَّجَر إِلَّا يَعْلَم مَتَى تَسْقُط وَأَيْنَ تَسْقُط وَكَمْ تَدُور فِي الْهَوَاء , وَلَا حَبَّة إِلَّا يَعْلَم مَتَى تَنْبُت وَكَمْ تَنْبُت وَمَنْ يَأْكُلهَا , | وَظُلُمَات الْأَرْض | بُطُونهَا وَهَذَا أَصَحّ ; فَإِنَّهُ مُوَافِق لِلْحَدِيثِ وَهُوَ مُقْتَضَى الْآيَة . وَاَللَّه الْمُوَفِّق لِلْهِدَايَةِ . وَقِيلَ : | فِي ظُلُمَات الْأَرْض | يَعْنِي الصَّخْرَة الَّتِي هِيَ أَسْفَل الْأَرَضِينَ السَّابِعَة . | وَلَا رُطَب وَلَا يَابِس | بِالْخَفْضِ عَطْفًا عَلَى اللَّفْظ . وَقَرَأَ اِبْن السَّمَيْقَع وَالْحَسَن وَغَيْرهمَا بِالرَّفْعِ فِيهِمَا عَطْفًا عَلَى مَوْضِع | مِنْ وَرَقَة | ; ف | - مِنْ | عَلَى هَذَا لِلتَّوْكِيدِ|إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ|أَيْ فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ لِتَعْتَبِر الْمَلَائِكَة بِذَلِكَ , لَا أَنَّهُ سُبْحَانه كَتَبَ ذَلِكَ لِنِسْيَانٍ يَلْحَقهُ , تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ . وَقِيلَ : كَتَبَهُ وَهُوَ يَعْلَمهُ لِتَعْظِيمِ الْأَمْر , أَيْ اِعْلَمُوا أَنَّ هَذَا الَّذِي لَيْسَ فِيهِ ثَوَاب وَلَا عِقَاب مَكْتُوب , فَكَيْفَ بِمَا فِيهِ ثَوَاب وَعِقَاب .

وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ

أَيْ يُنِيمكُمْ فَيَقْبِض نُفُوسكُمْ الَّتِي بِهَا تُمَيَّزُونَ , وَلَيْسَ ذَلِكَ مَوْتًا حَقِيقَة بَلْ هُوَ قَبْضَ الْأَرْوَاح عَنْ التَّصَرُّف بِالنَّوْمِ كَمَا يَقْبِضهَا بِالْمَوْتِ . وَالتَّوَفِّي اِسْتِيفَاء الشَّيْء . وَتُوُفِّيَ الْمَيِّت اِسْتَوْفَى عَدَد أَيَّام عُمُره , وَاَلَّذِي يَنَام كَأَنَّهُ اِسْتَوْفَى حَرَكَاته فِي الْيَقَظَة . وَالْوَفَاة الْمَوْت . وَأَوْفَيْتُك الْمَال , وَتَوَفَّيْته , وَاسْتَوْفَيْته إِذَا أَخَذْته أَجْمَع . وَقَالَ الشَّاعِر : <br>إِنَّ بَنِي الْأَدْرَد لَيْسُوا مِنْ أَحَد .......... وَلَا تَوَفَّاهُمْ قُرَيْش فِي الْعَدَد <br>وَيُقَال : إِنَّ الرُّوح إِذَا خَرَجَ مِنْ الْبَدَن فِي الْمَنَام تَبْقَى فِيهِ الْحَيَاة ; وَلِهَذَا تَكُون فِيهِ الْحَرَكَة وَالتَّنَفُّس , فَإِذَا اِنْقَضَى عُمُره خَرَجَ رُوحه وَتَنْقَطِع حَيَاته , وَصَارَ مَيِّتًا لَا يَتَحَرَّك وَلَا يَتَنَفَّس . وَقَالَ بَعْضهمْ . لَا تَخْرُج مِنْهُ الرُّوح , وَلَكِنْ يَخْرُج مِنْهُ الذِّهْن . وَيُقَال : هَذَا أَمْر لَا يَعْرِف حَقِيقَته إِلَّا اللَّه تَعَالَى . وَهَذَا أَصَحّ الْأَقَاوِيل , وَاَللَّه أَعْلَم .|وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ|كَسَبْتُمْ .|ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ|| ثُمَّ يَبْعَثكُمْ فِيهِ | أَيْ فِي النَّهَار ; وَيَعْنِي الْيَقَظَة .</p><p>| لِيُقْضَى أَجَل مُسَمًّى | أَيْ لِيَسْتَوْفِيَ كُلّ إِنْسَان أَجَلًا ضُرِبَ لَهُ . وَقَرَأَ أَبُو رَجَاء وَطَلْحَة بْن مُصَرِّف | ثُمَّ يَبْعَثكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَل مُسَمًّى | أَيْ عِنْده . | وَجَرَحْتُمْ | كَسَبْتُمْ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْمَائِدَة</p><p>وَفِي الْآيَة تَقْدِيم وَتَأْخِير , وَالتَّقْدِير وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ ثُمَّ يَبْعَثكُمْ بِالنَّهَارِ وَيَعْلَم مَا جَرَحْتُمْ فِيهِ ; فَقَدَّمَ الْأَهَمّ الَّذِي مِنْ أَجْله وَقَعَ الْبَعْث فِي النَّهَار . وَقَالَ اِبْن جُرَيْج | ثُمَّ يَبْعَثكُمْ فِيهِ | أَيْ فِي الْمَنَام . وَمَعْنَى الْآيَة : إِنَّ إِمْهَاله تَعَالَى لِلْكُفَّارِ لَيْسَ لِغَفْلَةٍ عَنْ كُفْرهمْ فَإِنَّهُ أَحْصَى كُلّ شَيْء عَدَدًا وَعَلِمَهُ وَأَثْبَتَهُ , وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ أَجَلًا مُسَمًّى مِنْ رِزْق وَحَيَاة , ثُمَّ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُجَازِيهِمْ . وَقَدْ دَلَّ عَلَى الْحَشْر وَالنَّشْر بِالْبَعْثِ ; لِأَنَّ النَّشْأَة الثَّانِيَة مَنْزِلَتهَا بَعْد الْأُولَى كَمَنْزِلَةِ الْيَقَظَة بَعْد النَّوْم فِي أَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى أَحَدهمَا فَهُوَ قَادِر عَلَى الْآخَر .

وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ

يَعْنِي فَوْقِيَّة الْمَكَانَة وَالرُّتْبَة لَا فَوْقِيَّة الْمَكَان وَالْجِهَة . عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانه أَوَّل السُّورَة|وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً|أَيْ مِنْ الْمَلَائِكَة . وَالْإِرْسَال حَقِيقَته إِطْلَاق الشَّيْء بِمَا حُمِلَ مِنْ الرِّسَالَة ; فَإِرْسَال الْمَلَائِكَة بِمَا حَمَلُوا مِنْ الْحِفْظ الَّذِي أُمِرُوا بِهِ , كَمَا قَالَ : | وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ | [ الِانْفِطَار : 10 ] أَيْ مَلَائِكَة تَحْفَظ أَعْمَال الْعِبَاد وَتَحْفَظهُمْ مِنْ الْآفَات . وَالْحَفَظَة جَمْع حَافِظ , مِثْل الْكَتَبَة وَالْكَاتِب . وَيُقَال : إِنَّهُمَا مَلَكَانِ بِاللَّيْلِ وَمَلَكَانِ بِالنَّهَارِ , يَكْتُب أَحَدهمَا الْخَيْر وَالْآخَر الشَّرّ , إِذَا مَشَى الْإِنْسَان يَكُون أَحَدهمَا بَيْن يَدَيْهِ وَالْآخَر وَرَاءَهُ , وَإِذَا جَلَسَ يَكُون أَحَدهمَا عَنْ يَمِينه وَالْآخَر عَنْ شِمَاله ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى : | عَنْ الْيَمِين وَعَنْ الشِّمَال قَعِيد | [ قِ : 17 ] . وَيُقَال : لِكُلِّ إِنْسَان خَمْسَة مِنْ الْمَلَائِكَة : اِثْنَانِ بِاللَّيْلِ , وَاثْنَانِ بِالنَّهَارِ , وَالْخَامِس لَا يُفَارِقهُ لَيْلًا وَلَا نَهَارًا . وَاَللَّه أَعْلَم . وَقَالَ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : <br>وَمِنْ النَّاس مَنْ يَعِيش شَقِيًّا .......... جَاهِل الْقَلْب غَافِل الْيَقَظَهْ <br><br>فَإِذَا كَانَ ذَا وَفَاء وَرَأْي .......... حَذِرَ الْمَوْت وَاتَّقَى الْحَفَظَهْ <br><br>إِنَّمَا النَّاس رَاحِل وَمُقِيم .......... فَاَلَّذِي بَانَ لِلْمُقِيمِ عِظَهْ<br>|حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ|يُرِيد أَسْبَابه . كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَة|تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا|عَلَى تَأْنِيث الْجَمَاعَة ; كَمَا قَالَ : | وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلنَا بِالْبَيِّنَاتِ | [ الْمَائِدَة : 32 ] و | كُذِّبَتْ رُسُل | [ فَاطِر : 4 ] . وَقَرَأَ حَمْزَة | تَوَفَّاهُ رُسُلنَا | عَلَى تَذْكِير الْجَمْع . وَقَرَأَ الْأَعْمَش | تَتَوَفَّاهُ رُسُلنَا | بِزِيَادَةِ تَاء وَالتَّذْكِير . وَالْمُرَاد أَعْوَان مَلَك الْمَوْت ; قَالَهُ اِبْن عَبَّاس وَغَيْره . وَيُرْوَى أَنَّهُمْ يَسُلُّونَ الرُّوح مِنْ الْجَسَد حَتَّى إِذَا كَانَ عِنْد قَبْضهَا قَبَضَهَا مَلَك الْمَوْت . وَقَالَ الْكَلْبِيّ : يَقْبِض مَلَك الْمَوْت الرُّوح مِنْ الْجَسَد ثُمَّ يُسَلِّمهَا إِلَى مَلَائِكَة الرَّحْمَة إِنْ كَانَ مُؤْمِنًا أَوْ إِلَى مَلَائِكَة الْعَذَاب إِنْ كَانَ كَافِرًا . وَيُقَال : مَعَهُ سَبْعَة مِنْ مَلَائِكَة الرَّحْمَة وَسَبْعَة مِنْ مَلَائِكَة الْعَذَاب ; فَإِذَا قَبَضَ نَفْسًا مُؤْمِنَة دَفَعَهَا إِلَى مَلَائِكَة الرَّحْمَة فَيُبَشِّرُونَهَا بِالثَّوَابِ وَيَصْعَدُونَ بِهَا إِلَى السَّمَاء , إِذَا قَبَضَ نَفْسًا كَافِرَة دَفَعَهَا إِلَى مَلَائِكَة الْعَذَاب فَيُبَشِّرُونَهَا بِالْعَذَابِ وَيَفْزَعُونَهَا , ثُمَّ يَصْعَدُونَ بِهَا إِلَى السَّمَاء ثُمَّ تُرَدّ إِلَى سِجِّين , وَرُوح الْمُؤْمِن إِلَى عِلِّيِّينَ . وَالتَّوَفِّي تَارَة يُضَاف إِلَى مَلَك الْمَوْت ; كَمَا قَالَ : | قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَك الْمَوْت | [ السَّجْدَة : 11 ] وَتَارَة إِلَى الْمَلَائِكَة لِأَنَّهُمْ يَتَوَلَّوْنَ ذَلِكَ ; كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَة وَغَيْرهَا . وَتَارَة إِلَى اللَّه وَهُوَ الْمُتَوَفِّي عَلَى الْحَقِيقَة ; كَمَا قَالَ : | اللَّه يَتَوَفَّى الْأَنْفُس حِين مَوْتهَا | [ الزُّمَر : 42 ] | قُلْ اللَّه يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتكُمْ | [ الْجَاثِيَة : 26 ] | الَّذِي خَلَقَ الْمَوْت وَالْحَيَاة | [ الْمُلْك : 2 ] فَكُلّ مَأْمُور مِنْ الْمَلَائِكَة فَإِنَّمَا يَفْعَل مَا أُمِرَ بِهِ .|وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ|أَيْ لَا يُضَيِّعُونَ وَلَا يُقَصِّرُونَ , أَيْ يُطِيعُونَ أَمْر اللَّه . وَأَصْله مِنْ التَّقَدُّم , كَمَا تَقَدَّمَ . فَمَعْنَى فَرَّطَ قَدَّمَ الْعَجْز . وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة : لَا يَتَوَانَوْنَ . وَقَرَأَ عُبَيْد بْن عُمَيْر | لَا يُفْرِطُونَ | بِالتَّخْفِيفِ , أَيْ لَا يُجَاوِزُونَ الْحَدّ فِيمَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ الْإِكْرَام وَالْإِهَانَة .

ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ

أَيْ رَدَّهُمْ اللَّه بِالْبَعْثِ لِلْحِسَابِ .|مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ|أَيْ خَالِقهمْ وَرَازِقهمْ وَبَاعِثهمْ وَمَالِكهمْ . | الْحَقّ | بِالْخَفْضِ قِرَاءَة الْجُمْهُور , عَلَى النَّعْت وَالصِّفَة لِاسْمِ اللَّه تَعَالَى . وَقَرَأَ الْحَسَن | الْحَقّ | بِالنَّصْبِ عَلَى إِضْمَار أَعْنِي , أَوْ عَلَى الْمَصْدَر , أَيْ حَقًّا .|أَلَا لَهُ الْحُكْمُ|أَيْ اِعْلَمُوا وَقُولُوا لَهُ الْحُكْم وَحْده يَوْم الْقِيَامَة , أَيْ الْقَضَاء وَالْفَصْل .|وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ|أَيْ لَا يَحْتَاج إِلَى فِكْرَة وَرَوِيَّة وَلَا عَقْد يَد . وَقَدْ تَقَدَّمَ

قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ

أَيْ شَدَائِدهمَا ; يُقَال : يَوْم مُظْلِم أَيْ شَدِيد . قَالَ النَّحَّاس : وَالْعَرَب تَقُول : يَوْم مُظْلِم إِذَا كَانَ شَدِيدًا , فَإِنْ عَظَّمَتْ ذَلِكَ قَالَتْ : يَوْم ذُو كَوَاكِب ; وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ : <br>بَنِي أَسَد هَلْ تَعْلَمُونَ بَلَاءَنَا .......... إِذَا كَانَ يَوْم ذُو كَوَاكِب أَشْنَعَا <br>وَجَمَعَ | الظُّلُمَات | عَلَى أَنَّهُ يَعْنِي ظُلْمَة الْبَرّ وَظُلْمَة الْبَحْر وَظُلْمَة اللَّيْل وَظُلْمَة الْغَيْم , أَيْ إِذَا أَخْطَأْتُمْ الطَّرِيق وَخِفْتُمْ الْهَلَاك دَعَوْتُمُوهُ|لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ|أَيْ مِنْ هَذِهِ الشَّدَائِد|لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ|أَيْ مِنْ الطَّائِعِينَ . فَوَبَّخَهُمْ اللَّه فِي دُعَائِهِمْ إِيَّاهُ عِنْد الشَّدَائِد , وَهُمْ يَدْعُونَ مَعَهُ فِي حَالَة الرَّخَاء غَيْره بِقَوْلِهِ : | ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ | . وَقَرَأَ الْأَعْمَش | وَخِيفَة | مِنْ الْخَوْف , وَقَرَأَ أَبُو بَكْر عَنْ عَاصِم | خِفْيَة | بِكَسْرِ الْخَاء , وَالْبَاقُونَ بِضَمِّهَا , لُغَتَانِ . وَزَادَ الْفَرَّاء خُفْوَة وَخِفْوَة . قَالَ : وَنَظِيره حُبْيَة وَحِبْيَة وَحُبْوَة وَحِبْوَة . وَقِرَاءَة الْأَعْمَش بَعِيدَة ; لِأَنَّ مَعْنَى | تَضَرُّعًا | أَنْ تُظْهِرُوا التَّذَلُّل و | خُفْيَة | أَنْ تُبْطِنُوا مِثْل ذَلِكَ . وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ | لَئِنْ أَنْجَانَا | وَاتِّسَاق الْمَعْنَى بِالتَّاءِ ; كَمَا قَرَأَ أَهْل الْمَدِينَة وَأَهْل الشَّام .

قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ

وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ | يُنْجِيكُمْ | بِالتَّشْدِيدِ , الْبَاقُونَ بِالتَّخْفِيفِ . قِيلَ : مَعْنَاهُمَا وَاحِد مِثْل نَجَا وَأَنْجَيْته وَنَجَّيْته . وَقِيلَ : التَّشْدِيد لِلتَّكْثِيرِ . وَالْكَرْب : الْغَمّ يَأْخُذ بِالنَّفْسِ ; يُقَال مِنْهُ : رَجُل مَكْرُوب . قَالَ عَنْتَرَة : <br>وَمَكْرُوب كَشَفْت الْكَرْب عَنْهُ .......... بِطَعْنَةِ فَيْصَلٍ لَمَّا دَعَانِي <br>وَالْكُرْبَة مُشْتَقَّة مِنْ ذَلِكَ .|ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ|تَقْرِيع وَتَوْبِيخ ; مِثْل قَوْله فِي أَوَّل السُّورَة | ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ | . لِأَنَّ الْحُجَّة إِذَا قَامَتْ بَعْد الْمَعْرِفَة وَجَبَ الْإِخْلَاص , وَهُمْ قَدْ جَعَلُوا بَدَلًا مِنْهُ وَهُوَ الْإِشْرَاك ; فَحَسُنَ أَنْ يُقَرَّعُوا وَيُوَبَّخُوا عَلَى هَذِهِ الْجِهَة وَإِنْ كَانُوا مُشْرِكِينَ قَبْل النَّجَاة .

قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ

أَيْ الْقَادِر عَلَى إِنْجَائِكُمْ مِنْ الْكَرْب , قَادِر عَلَى تَعْذِيبكُمْ .|مِنْ فَوْقِكُمْ|الرَّجْم بِالْحِجَارَةِ وَالطُّوفَان وَالصَّيْحَة وَالرِّيح ; كَمَا فُعِلَ بِعَادٍ وَثَمُود وَقَوْم شُعَيْب وَقَوْم لُوط وَقَوْم نُوح ; عَنْ مُجَاهِد وَابْن جُبَيْر وَغَيْرهمَا .|أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ|الْخَسْف وَالرَّجْفَة ; كَمَا فُعِلَ بِقَارُون وَأَصْحَاب مَدْيَن . وَقِيلَ : | مِنْ فَوْقكُمْ | يَعْنِي الْأُمَرَاء الظَّلَمَة , | وَمِنْ تَحْت أَرْجُلكُمْ | يَعْنِي السَّفَلَة وَعَبِيد السُّوء ; عَنْ اِبْن عَبَّاس وَمُجَاهِد أَيْضًا .|أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا|وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عَبْد اللَّه الْمَدَنِيّ | أَوْ يُلْبِسكُمْ | بِضَمِّ الْيَاء , أَيْ يُجَلِّلكُمْ الْعَذَاب وَيَعُمّكُمْ بِهِ , وَهَذَا مِنْ اللُّبْس بِضَمِّ الْأَوَّل , وَقِرَاءَة الْفَتْح مِنْ اللَّبْس . وَهُوَ مَوْضِع مُشْكِل وَالْأَعْرَاب يُبَيِّنهُ . أَيْ يَلْبِس عَلَيْكُمْ أَمْركُمْ , فَحُذِفَ أَحَد الْمَفْعُولَيْنِ وَحَرْف الْجَرّ ; كَمَا قَالَ : | وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ | [ الْمُطَفِّفِينَ : 3 ] وَهَذَا اللَّبْس بِأَنْ يَخْلِط أَمْرهمْ فَيَجْعَلهُمْ مُخْتَلِفِي الْأَهْوَاء ; عَنْ اِبْن عَبَّاس . وَقِيلَ : مَعْنَى | يَلْبِسكُمْ شِيَعًا | يُقَوِّي عَدُوّكُمْ حَتَّى يُخَالِطكُمْ وَإِذَا خَالَطَكُمْ فَقَدْ لَبِسَكُمْ . | شِيَعًا | مَعْنَاهُ فِرَقًا . وَقِيلَ يَجْعَلكُمْ فِرَقًا يُقَاتِل بَعْضكُمْ بَعْضًا ; وَذَلِكَ بِتَخْلِيطِ أَمْرهمْ وَافْتِرَاق أُمَرَائِهِمْ عَلَى طَلَب الدُّنْيَا .|وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ|أَيْ بِالْحَرْبِ وَالْقَتْل فِي الْفِتْنَة ; عَنْ مُجَاهِد . وَالْآيَة عَامَّة فِي الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّار . وَقِيلَ هِيَ فِي الْكُفَّار خَاصَّة . وَقَالَ الْحَسَن : هِيَ فِي أَهْل الصَّلَاة . قُلْت : وَهُوَ الصَّحِيح ; فَإِنَّهُ الْمُشَاهَد فِي الْوُجُود , فَقَدْ لَبِسَنَا الْعَدُوّ فِي دِيَارنَا وَاسْتَوْلَى عَلَى أَنْفُسنَا وَأَمْوَالنَا , مَعَ الْفِتْنَة الْمُسْتَوْلِيَة عَلَيْنَا بِقَتْلِ بَعْضنَا بَعْضًا وَاسْتِبَاحَة بَعْضنَا أَمْوَال بَعْض . نَعُوذ بِاَللَّهِ مِنْ الْفِتَن مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ . وَعَنْ الْحَسَن أَيْضًا أَنَّهُ تَأَوَّلَ ذَلِكَ فِيمَا جَرَى بَيْن الصَّحَابَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ . رَوَى مُسْلِم عَنْ ثَوْبَان قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ اللَّه زَوَى لِيَ الْأَرْض فَرَأَيْت مَشَارِقهَا وَمَغَارِبهَا وَأَنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا وَأُعْطِيت الْكَنْزَيْنِ الْأَحْمَر وَالْأَبْيَض وَإِنِّي سَأَلْت رَبِّي لِأُمَّتِي أَلَّا يُهْلِكهَا بِسَنَةٍ عَامَّة وَأَلَّا يُسَلِّط عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسهمْ فَيَسْتَبِيح بَيْضَتهمْ وَإِنَّ رَبِّي قَالَ : يَا مُحَمَّد إِنِّي إِذَا قَضَيْت قَضَاء فَإِنَّهُ لَا يُرَدّ وَإِنِّي قَدْ أَعْطَيْتُك لِأُمَّتِك أَلَّا أُهْلِكهُمْ بِسَنَةٍ عَامَّة وَأَلَّا أُسَلِّط عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسهمْ يَسْتَبِيح بَيْضَتهمْ وَلَوْ اِجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ مَنْ بِإِقْطَارِهَا أَوْ قَالَ مِنْ بَيْن أَقْطَارهَا حَتَّى يَكُون بَعْضهمْ يُهْلِك بَعْضًا وَيَسْبِي بَعْضهمْ بَعْضًا ) . وَرَوَى النَّسَائِيّ عَنْ خَبَّاب بْن الْأَرَتّ , وَكَانَ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , أَنَّهُ رَاقَبَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّيْلَة كُلّهَا حَتَّى كَانَ مَعَ الْفَجْر , فَلَمَّا سَلَّمَ رَسُول اللَّه مِنْ صَلَاته جَاءَهُ خَبَّاب فَقَالَ : يَا رَسُول اللَّه , بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي ! لَقَدْ صَلَّيْت اللَّيْلَة صَلَاة مَا رَأَيْتُك صَلَّيْت نَحْوهَا ؟ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَجَل إِنَّهَا صَلَاة رَغَب وَرَهَب سَأَلْت اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فِيهَا ثَلَاث خِصَال فَأَعْطَانِي ثِنْتَيْنِ وَمَنَعَنِي وَاحِدَة سَأَلْت رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ أَلَّا يُهْلِكنَا بِمَا أَهْلَكَ بِهِ الْأُمَم فَأَعْطَانِيهَا وَسَأَلْت رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ أَلَّا يُظْهِر عَلَيْنَا عَدُوًّا مِنْ غَيْرنَا فَأَعْطَانِيهَا وَسَأَلْت رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ أَلَّا يُلْبِسنَا شِيَعًا فَمَنَعَنِيهَا ) . وَقَدْ أَتَيْنَا عَلَى هَذِهِ الْأَخْبَار فِي كِتَاب ( التَّذْكِرَة ) وَالْحَمْد لِلَّهِ . وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِجِبْرِيل : ( يَا جِبْرِيل مَا بَقَاء أُمَّتِي عَلَى ذَلِكَ ) ؟ فَقَالَ لَهُ جِبْرِيل : ( إِنَّمَا أَنَا عَبْد مِثْلك فَادْعُ رَبّك وَسَلْهُ لِأُمَّتِك ) فَقَامَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَوَضَّأَ وَأَسْبَغَ الْوُضُوء وَصَلَّى وَأَحْسَن الصَّلَاة , ثُمَّ دَعَا فَنَزَلَ جِبْرِيل وَقَالَ : ( يَا مُحَمَّد إِنَّ اللَّه تَعَالَى سَمِعَ مَقَالَتك وَأَجَارَهُمْ مِنْ خَصْلَتَيْنِ وَهُوَ الْعَذَاب مِنْ فَوْقهمْ وَمِنْ تَحْت أَرْجُلهمْ ) . فَقَالَ : ( يَا جِبْرِيل مَا بَقَاء أُمَّتِي إِذَا كَانَ فِيهِمْ أَهْوَاء مُخْتَلِفَة وَيُذِيق بَعْضهمْ بَأْس بَعْض ) ؟ فَنَزَلَ جِبْرِيل بِهَذِهِ الْآيَة : | الم . أَحَسِبَ النَّاس أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا | [ الْعَنْكَبُوت : 1 - 2 ] الْآيَة . وَرَوَى عَمْرو بْن دِينَار عَنْ جَابِر بْن عَبْد اللَّه قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة | قُلْ هُوَ الْقَادِر عَلَى أَنْ يَبْعَث عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقكُمْ أَوْ مِنْ تَحْت أَرْجُلكُمْ | قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَعُوذ بِوَجْهِ اللَّه | فَلَمَّا نَزَلَتْ | أَوْ يَلْبِسكُمْ شِيَعًا وَيُذِيق بَعْضكُمْ بَأْس بَعْض | قَالَ : ( هَاتَانِ أَهْوَن ) . وَفِي سُنَن اِبْن مَاجَهْ عَنْ اِبْن عُمَر قَالَ : ( لَمْ يَكُنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَع هَؤُلَاءِ الْكَلِمَات حِين يُمْسِي وَحِين يُصْبِح اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلك الْعَافِيَة فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة . اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلك الْعَفْو وَالْعَافِيَة فِي دِينِي وَدُنْيَايَ وَأَهْلِي وَمَالِي . اللَّهُمَّ اُسْتُرْ عَوْرَاتِي وَآمِنْ رَوْعَاتِي وَاحْفَظْنِي مِنْ بَيْن يَدَيَّ وَمِنْ خَلْفِي وَعَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي وَمِنْ فَوْقِي وَأَعُوذ بِك أَنْ أُغْتَال مِنْ تَحْتِي ) . قَالَ وَكِيع : يَعْنِي الْخَسْف .|انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ|أَيْ نُبَيِّن لَهُمْ الْحُجَج وَالدَّلَالَات .|لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ|يُرِيد بُطْلَان مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الشِّرْك وَالْمَعَاصِي .

وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ

أَيْ بِالْقُرْآنِ . وَقَرَأَ اِبْن أَبِي عَبْلَة | وَكَذَّبَتْ | . بِالتَّاءِ .|وَهُوَ الْحَقُّ|أَيْ الْقَصَص الْحَقّ .|قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ|قَالَ الْحَسَن : لَسْت بِحَافِظٍ أَعْمَالكُمْ حَتَّى أُجَازِيكُمْ عَلَيْهَا , إِنَّمَا أَنَا مُنْذِر وَقَدْ بَلَغَتْ ; نَظِيره | وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ | [ هُود : 86 ] أَيْ أَحْفَظ عَلَيْكُمْ أَعْمَالكُمْ . ثُمَّ قِيلَ : هَذَا مَنْسُوخ بِآيَةِ الْقِتَال . وَقِيلَ : لَيْسَ بِمَنْسُوخٍ , إِذْ لَمْ يَكُنْ فِي وُسْعه إِيمَانهمْ

لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ

لِكُلِّ خَبَر حَقِيقَة , أَيْ لِكُلِّ شَيْء وَقْت يَقَع فِيهِ مِنْ غَيْر تَقَدُّم وَتَأَخُّر . وَقِيلَ : أَيْ لِكُلِّ عَمَل جَزَاء . قَالَ الْحَسَن : هَذَا وَعِيد مِنْ اللَّه تَعَالَى لِلْكُفَّارِ ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا لَا يُقِرُّونَ بِالْبَعْثِ . الزَّجَّاج : يَجُوز أَنْ يَكُون وَعِيدًا بِمَا يَنْزِل بِهِمْ فِي الدُّنْيَا . قَالَ السُّدِّيّ : اِسْتَقَرَّ يَوْم بَدْر مَا كَانَ يَعِدهُمْ بِهِ مِنْ الْعَذَاب . وَذَكَرَ الثَّعْلَبِيّ أَنَّهُ رَأَى فِي بَعْض التَّفَاسِير أَنَّ هَذِهِ الْآيَة نَافِعَة مِنْ وَجَع الضِّرْس إِذَا كُتِبَتْ عَلَى كَاغَد وَوُضِعَ عَلَى السِّنّ .

وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ

قَوْله تَعَالَى | وَإِذَا رَأَيْت الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ | فِيهِ مَسْأَلَتَانِ : الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : | وَإِذَا رَأَيْت الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتنَا | بِالتَّكْذِيبِ وَالرَّدّ وَالِاسْتِهْزَاء | فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ | وَالْخِطَاب مُجَرَّد لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقِيلَ : إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ دَاخِلُونَ فِي الْخِطَاب مَعَهُ . وَهُوَ صَحِيح ; فَإِنَّ الْعِلَّة سَمَاع الْخَوْض فِي آيَات اللَّه , وَذَلِكَ يَشْمَلهُمْ وَإِيَّاهُ . وَقِيلَ : الْمُرَاد بِهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحْدَهُ ; لِأَنَّ قِيَامه عَنْ الْمُشْرِكِينَ كَانَ يَشُقّ عَلَيْهِمْ , وَلَمْ يَكُنْ الْمُؤْمِنُونَ عِنْدهمْ كَذَلِكَ ; فَأَمَرَ أَنْ يُنَابِذهُمْ بِالْقِيَامِ عَنْهُمْ إِذَا اِسْتَهْزَءُوا وَخَاضُوا لِيَتَأَدَّبُوا بِذَلِكَ وَيَدَعُوا الْخَوْض وَالِاسْتِهْزَاء . وَالْخَوْض أَصْله فِي الْمَاء , ثُمَّ اُسْتُعْمِلَ بَعْد فِي غَمَرَات الْأَشْيَاء الَّتِي هِيَ مَجَاهِل , تَشْبِيهًا بِغَمَرَاتِ الْمَاء فَاسْتُعِيرَ مِنْ الْمَحْسُوس لِلْمَعْقُولِ . وَقِيلَ : هُوَ مَأْخُوذ مِنْ الْخَلْط . وَكُلّ شَيْء خُضْته فَقَدْ خَلَطْته ; وَمِنْهُ خَاضَ الْمَاء بِالْعَسَلِ خَلَطَهُ فَأَدَّبَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ نَبِيّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذِهِ الْآيَة ; لِأَنَّهُ كَانَ يَقْعُد إِلَى قَوْم مِنْ الْمُشْرِكِينَ يَعِظهُمْ وَيَدْعُوهُمْ فَيَسْتَهْزِئُونَ بِالْقُرْآنِ ; فَأَمَرَهُ اللَّه أَنْ يُعْرِض عَنْهُمْ إِعْرَاض مُنْكِرٍ . وَدَلَّ بِهَذَا عَلَى أَنَّ الرَّجُل إِذَا عَلِمَ مِنْ الْآخَر مُنْكَرًا وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا يَقْبَل مِنْهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يُعْرِض عَنْهُ إِعْرَاض مُنْكِرٍ وَلَا يَقْبَل عَلَيْهِ . وَرَوَى شِبْل عَنْ اِبْن أَبِي نَجِيح عَنْ مُجَاهِد فِي قَوْلِهِ : | وَإِذَا رَأَيْت الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتنَا | قَالَ : هُمْ الَّذِينَ يَسْتَهْزِئُونَ بِكِتَابِ اللَّه , نَهَاهُ اللَّه عَنْ أَنْ يَجْلِس مَعَهُمْ إِلَّا أَنْ يَنْسَى فَإِذَا ذَكَرَ قَامَ . وَرَوَى وَرْقَاء عَنْ اِبْن أَبِي نَجِيح عَنْ مُجَاهِد قَالَ : هُمْ الَّذِينَ يَقُولُونَ فِي الْقُرْآن غَيْر الْحَقّ . الثَّانِيَة</p><p>فِي هَذِهِ الْآيَة رَدّ مِنْ كِتَاب اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْأَئِمَّة الَّذِينَ هُمْ حُجَج وَأَتْبَاعهمْ لَهُمْ أَنْ يُخَالِطُوا الْفَاسِقِينَ وَيُصَوِّبُوا آرَاءَهُمْ تَقِيَّة . وَذَكَرَ الطَّبَرِيّ عَنْ أَبِي جَعْفَر مُحَمَّد بْن عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : لَا تُجَالِسُوا أَهْل الْخُصُومَات , فَإِنَّهُمْ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَات اللَّه . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهَذَا دَلِيل عَلَى أَنَّ مُجَالَسَة أَهْل الْكَبَائِر لَا تَحِلّ . قَالَ اِبْن خُوَيْز مِنْدَاد : مَنْ خَاضَ فِي آيَات اللَّه تُرِكَتْ مُجَالَسَته وَهُجِرَ , مُؤْمِنًا كَانَ أَوْ كَافِرًا . قَالَ : وَكَذَلِكَ مَنَعَ أَصْحَابنَا الدُّخُول إِلَى أَرْض الْعَدُوّ وَدُخُول كَنَائِسهمْ وَالْبِيَع , وَمَجَالِس الْكُفَّار وَأَهْل الْبِدَع , وَأَلَّا تُعْتَقَد مَوَدَّتهمْ وَلَا يُسْمَع كَلَامهمْ وَلَا مُنَاظَرَتهمْ . وَقَدْ قَالَ بَعْض أَهْل الْبِدَع لِأَبِي عِمْرَان النَّخَعِيّ : اِسْمَعْ مِنِّي كَلِمَة , فَأَعْرَضَ عَنْهُ وَقَالَ : وَلَا نِصْف كَلِمَة . وَمِثْله عَنْ أَيُّوب السِّخْتِيَانِيّ . وَقَالَ الْفُضَيْل بْن عِيَاض : مَنْ أَحَبَّ صَاحِب بِدْعَة أَحْبَطَ اللَّه عَمَله وَأَخْرَجَ نُور الْإِسْلَام مِنْ قَلْبه , وَمَنْ زَوَّجَ كَرِيمَته مِنْ مُبْتَدِع فَقَدْ قَطَعَ رَحِمهَا , وَمَنْ جَلَسَ مَعَ صَاحِب بِدْعَة لَمْ يُعْطَ الْحِكْمَة , وَإِذَا عَلِمَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ مِنْ رَجُل أَنَّهُ مُبْغِض لِصَاحِبِ بِدْعَة رَجَوْت أَنْ يَغْفِر اللَّه لَهُ . وَرَوَى أَبُو عَبْد اللَّه الْحَاكِم عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا قَالَتْ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ وَقَّرَ صَاحِب بِدْعَة فَقَدْ أَعَانَ عَلَى هَدْم الْإِسْلَام ) . فَبَطَلَ بِهَذَا كُلّه قَوْل مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُجَالَسَتهمْ جَائِزَة إِذَا صَانُوا أَسْمَاعهمْ .|وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ|فِيهِ مَسْأَلَتَانِ : الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : | وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ | | إِمَّا | شَرْط , فَيَلْزَمهَا النُّون الثَّقِيلَة فِي الْأَغْلَب وَقَدْ لَا تَلْزَم ; كَمَا قَالَ : <br>إِمَّا يُصِبْك عَدُوّ فِي مُنَاوَأَة .......... يَوْمًا فَقَدْ كُنْت تَسْتَعْلِي وَتَنْتَصِر <br>وَقَرَأَ اِبْن عَبَّاس وَابْن عَامِر | يُنَسِّيَنَّك | بِتَشْدِيدِ السِّين عَلَى التَّكْثِير ; يُقَال : نَسَّى وَأَنْسَى بِمَعْنًى وَاحِد لُغَتَانِ ; قَالَ الشَّاعِر : <br>قَالَتْ سُلَيْمَى أَتَسْرِي الْيَوْم أَمْ تَقِل .......... وَقَدْ يُنَسِّيك بَعْض الْحَاجَة الْكَسَلُ <br>وَقَالَ اِمْرُؤُ الْقَيْس : <br>تُنَسِّينِي إِذَا قُمْت سِرْبَالِي <br>الْمَعْنَى : يَا مُحَمَّد إِنْ أَنْسَاك الشَّيْطَان أَنْ تَقُوم عَنْهُمْ فَجَالَسْتهمْ بَعْد النَّهْي | فَلَا تَقْعُد بَعْد الذِّكْرَى | أَيْ إِذَا ذَكَرْت فَلَا تَقْعُد | مَعَ الْقَوْم الظَّالِمِينَ | يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ . وَالذِّكْرَى اِسْم لِلتَّذْكِيرِ .</p><p>قِيلَ : هَذَا خِطَاب لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَاد أُمَّته ; ذَهَبُوا إِلَى تَبْرِئَته عَلَيْهِ السَّلَام مِنْ النِّسْيَان . وَقِيلَ : هُوَ خَاصّ بِهِ , وَالنِّسْيَان جَائِز عَلَيْهِ . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَإِنْ عَذَرْنَا أَصْحَابنَا فِي قَوْلهمْ إِنَّ قَوْله تَعَالَى : | لَإِنْ أَشْرَكْت لَيَحْبَطَنَّ عَمَلك | [ الزُّمَر : 65 ] خِطَاب لِلْأُمَّةِ بِاسْمِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِاسْتِحَالَةِ الشِّرْك عَلَيْهِ , فَلَا عُذْر لَهُمْ فِي هَذَا لِجَوَازِ النِّسْيَان عَلَيْهِ . قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام ; ( نَسِيَ آدَم فَنَسِيَتْ ذُرِّيَّته ) خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيّ وَصَحَّحَهُ . وَقَالَ مُخْبِرًا عَنْ نَفْسه : ( إِنَّمَا أَنَا بَشَر مِثْلكُمْ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ فَإِذَا نَسِيت فَذَكِّرُونِي ) . خَرَّجَهُ فِي الصَّحِيح , فَأَضَافَ النِّسْيَان إِلَيْهِ . وَقَالَ وَقَدْ سَمِعَ قِرَاءَة رَجُل : ( لَقَدْ أَذَكَرَنِي آيَة كَذَا وَكَذَا كُنْت أُنْسِيتهَا ) . وَاخْتَلَفُوا بَعْد جَوَاز النِّسْيَان عَلَيْهِ ; هَلْ يَكُون فِيمَا طَرِيقه الْبَلَاغ مِنْ الْأَفْعَال وَأَحْكَام الشَّرْع أَمْ لَا ؟ فَذَهَبَ إِلَى الْأَوَّل فِيمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي عِيَاض عَامَّة الْعُلَمَاء وَالْأَئِمَّة النُّظَّار ; كَمَا هُوَ ظَاهِر الْقُرْآن وَالْأَحَادِيث , لَكِنْ شَرْط الْأَئِمَّة أَنَّ اللَّه تَعَالَى يُنَبِّههُ عَلَى ذَلِكَ وَلَا يُقِرّهُ عَلَيْهِ . ثُمَّ اِخْتَلَفُوا هَلْ مِنْ شَرْط التَّنْبِيه اِتِّصَاله بِالْحَادِثَةِ عَلَى الْفَوْر , وَهُوَ مَذْهَب الْقَاضِي أَبِي بَكْر وَالْأَكْثَر مِنْ الْعُلَمَاء , أَوْ يَجُوز فِي ذَلِكَ التَّرَاخِي مَا لَمْ يَنْخَرِم عُمُره وَيَنْقَطِع تَبْلِيغه , وَإِلَيْهِ نَحَا أَبُو الْمَعَالِي . وَمَنَعَتْ طَائِفَة مِنْ الْعُلَمَاء السَّهْو عَلَيْهِ فِي الْأَفْعَال الْبَلَاغِيَّة وَالْعِبَادَات الشَّرْعِيَّة ; كَمَا مَنَعُوهُ اِتِّفَاقًا فِي الْأَقْوَال الْبَلَاغِيَّة , وَاعْتَذَرُوا عَنْ الظَّوَاهِر الْوَارِدَة فِي ذَلِكَ ; وَإِلَيْهِ مَالَ الْأُسْتَاذ أَبُو إِسْحَاق . وَشَذَّتْ الْبَاطِنِيَّة وَطَائِفَة مِنْ أَرْبَاب عِلْم الْقُلُوب فَقَالُوا : لَا يَجُوز النِّسْيَان عَلَيْهِ , وَإِنَّمَا يَنْسَى قَصْدًا وَيَتَعَمَّد صُورَة النِّسْيَان لِيَسُنّ . وَنَحَا إِلَى هَذَا عَظِيم مِنْ أَئِمَّة التَّحْقِيق وَهُوَ أَبُو الْمُظَفَّر الْإِسْفِرَايِينِي فِي كِتَابه ( الْأَوْسَط ) وَهُوَ مَنْحًى غَيْر سَدِيد , وَجَمْع الضِّدّ مَعَ الضِّدّ مُسْتَحِيل بَعِيد .

وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ

قَالَ اِبْن عَبَّاس : لَمَّا نَزَلَ لَا تَقْعُدُوا مَعَ الْمُشْرِكِينَ وَهُوَ الْمُرَاد بِقَوْلِهِ : | فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ | قَالَ الْمُسْلِمُونَ : لَا يُمْكِننَا دُخُول الْمَسْجِد وَالطَّوَاف ; فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة . | وَلَكِنْ ذِكْرَى | أَيْ فَإِنْ قَعَدُوا يَعْنِي الْمُؤْمِنِينَ فَلْيُذَكِّرُوهُمْ . | لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ | اللَّه فِي تَرْك مَا هُمْ فِيهِ . ثُمَّ قِيلَ : نُسِخَ هَذَا بِقَوْلِهِ : | وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَاب أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَات اللَّه يُكْفَر بِهَا وَيُسْتَهْزَأ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيث غَيْره | [ النِّسَاء : 140 ] . وَإِنَّمَا كَانَتْ الرُّخْصَة قَبْل الْفَتْح وَكَانَ الْوَقْت وَقْت تَقِيَّة . وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ : | وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَاب | [ النِّسَاء : 140 ] إِلَى قَوْله : | وَذَرِ الَّذِينَ اِتَّخَذُوا دِينهمْ لَعِبًا وَلَهْوًا | [ الْأَنْعَام : 70 ] . قَالَ الْقُشَيْرِيّ : وَالْأَظْهَر أَنَّ الْآيَة لَيْسَتْ مَنْسُوخَة . وَالْمَعْنَى : مَا عَلَيْكُمْ شَيْء مِنْ حِسَاب الْمُشْرِكِينَ , فَعَلَيْكُمْ بِتَذْكِيرِهِمْ وَزَجْرهمْ فَإِنْ أَبَوْا فَحِسَابهمْ عَلَى اللَّه . و | ذِكْرَى | فِي مَوْضِع نَصْب عَلَى الْمَصْدَر , وَيَجُوز أَنْ تَكُون فِي مَوْضِع رَفْع ; أَيْ وَلَكِنْ الَّذِي يَفْعَلُونَهُ ذِكْرَى , أَيْ وَلَكِنْ عَلَيْهِمْ ذِكْرَى . وَقَالَ الْكِسَائِيّ : الْمَعْنَى وَلَكِنْ هَذِهِ ذِكْرَى .

وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِك

قَالَ الْقُشَيْرِيّ : وَالْأَظْهَر أَنَّ الْآيَة لَيْسَتْ مَنْسُوخَة . وَالْمَعْنَى : مَا عَلَيْكُمْ شَيْء مِنْ حِسَاب الْمُشْرِكِينَ , فَعَلَيْكُمْ بِتَذْكِيرِهِمْ وَزَجْرهمْ فَإِنْ أَبَوْا فَحِسَابهمْ عَلَى اللَّه . و | ذِكْرَى | فِي مَوْضِع نَصْب عَلَى الْمَصْدَر , وَيَجُوز أَنْ تَكُون فِي مَوْضِع رَفْع ; أَيْ وَلَكِنَّ الَّذِي يَفْعَلُونَهُ ذِكْرَى , أَيْ وَلَكِنَّ عَلَيْهِمْ ذِكْرَى . وَقَالَ الْكِسَائِيّ : الْمَعْنَى وَلَكِنْ هَذِهِ ذِكْرَى . أَيْ لَا تُعَلِّق قَلْبك بِهِمْ فَإِنَّهُمْ أَهْل تَعَنُّت إِنْ كُنْت مَأْمُورًا بِوَعْظِهِمْ . قَالَ قَتَادَة : هَذَا مَنْسُوخ , نَسَخَهُ | فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ | [ التَّوْبَة : 5 ] . وَمَعْنَى | لَعِبًا وَلَهْوًا | أَيْ اِسْتِهْزَاء بِالدِّينِ الَّذِي دَعَوْتهمْ إِلَيْهِ . وَقِيلَ : اِسْتَهْزَءُوا بِالدِّينِ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ فَلَمْ يَعْمَلُوا بِهِ . وَالِاسْتِهْزَاء لَيْسَ مُسَوِّغًا فِي دِين . وَقِيلَ : | لَعِبًا وَلَهْوًا | بَاطِلًا وَفَرَحًا , وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا . وَجَاءَ اللَّعِب مُقَدَّمًا فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع , وَقَدْ نُظِمَتْ . <br>إِذَا أَتَى لَعِب وَلَهْو .......... وَكَمْ مِنْ مَوْضِع هُوَ فِي الْقُرْآن <br><br>فَحَرْف فِي الْحَدِيد وَفِي الْقِتَال .......... وَفِي الْأَنْعَام مِنْهَا مَوْضِعَانِ <br>وَقِيلَ : الْمُرَاد بِالدِّينِ هُنَا الْعِيد . قَالَ الْكَلْبِيّ : إِنَّ اللَّه تَعَالَى جَعَلَ لِكُلِّ قَوْم عِيدًا يُعَظِّمُونَهُ وَيُصَلُّونَ فِيهِ لِلَّهِ تَعَالَى , وَكُلّ قَوْم اِتَّخَذُوا عِيدهمْ لَعِبًا وَلَهْوًا إِلَّا أُمَّة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُمْ اِتَّخَذُوهُ صَلَاة وَذِكْرًا وَحُضُورًا بِالصَّدَقَةِ , مِثْل الْجُمُعَة وَالْفِطْر وَالنَّحْر .|وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا|أَيْ لَمْ يَعْلَمُوا إِلَّا ظَاهِرًا مِنْ الْحَيَاة الدُّنْيَا .|وَذَكِّرْ بِهِ|أَيْ بِالْقُرْآنِ أَوْ بِالْحِسَابِ .|أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ|أَيْ تَرْتَهِن وَتُسْلِم لِلْهَلَكَةِ ; عَنْ مُجَاهِد وَقَتَادَة وَالْحَسَن وَعِكْرِمَة وَالسُّدِّيّ . وَالْإِبْسَال : تَسْلِيم الْمَرْء لِلْهَلَاكِ ; هَذَا هُوَ الْمَعْرُوف فِي اللُّغَة . أَبْسَلْت وَلَدِي أَرْهَنْته ; قَالَ عَوْف بْن الْأَحْوَص بْن جَعْفَر : <br>وَإِبْسَالِي بَنِيَّ بِغَيْرِ جُرْم .......... بَعَوْنَاهُ وَلَا بِدَمٍ مُرَاق <br>| بَعَوْنَاهُ | بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَة مَعْنَاهُ جَنَيْنَاهُ . وَالْبَعْو الْجِنَايَة . وَكَانَ حَمَلَ عَنْ غَنِيّ لِبَنِي قُشَيْر دَم اِبْنَيْ السُّجَيْفَة فَقَالُوا : لَا نَرْضَى بِك ; فَرَهَنَهُمْ بَنِيهِ طَلَبًا لِلصُّلْحِ . وَأَنْشَدَ النَّابِغَة الْجَعْدِيّ : <br>وَنَحْنُ رَهْنًا بِالْأُفَاقَة عَامِرًا .......... بِمَا كَانَ فِي الدَّرْدَاء رَهْنًا فَأُبْسِلَا <br>الدَّرْدَاء : كَتِيبَة كَانَتْ لَهُمْ .|لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ|أَيْ لَيْسَ لِلْكَافِرِينَ مِنْ وَلِيّ يَمْنَع مِنْ عَذَابهمْ وَلَا شَفِيع . وَيَجُوز الرَّفْع عَلَى الْمَوْضِع .|وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ|الْعَدْل الْفِدْيَة , وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي [ الْبَقَرَة ] . وَالْحَمِيم الْمَاء الْحَارّ ; وَفِي التَّنْزِيل | يُصَبّ مِنْ فَوْق رُءُوسهمْ الْحَمِيم | [ الْحَجّ : 19 ] الْآيَة . | يَطُوفُونَ بَيْنهَا وَبَيْن حَمِيم آنٍ | [ الرَّحْمَن : 44 ] . وَالْآيَة مَنْسُوخَة بِآيَةِ الْقِتَال . وَقِيلَ : لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ ; لِأَنَّ قَوْل : | وَذَرِ الَّذِينَ اِتَّخَذُوا دِينهمْ | تَهْدِيد ; كَقَوْلِ : | ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا | [ الْحِجْر : 3 ] . وَمَعْنَاهُ لَا تَحْزَن عَلَيْهِمْ ; فَإِنَّمَا عَلَيْك التَّبْلِيغ وَالتَّذْكِير بِإِبْسَالِ النُّفُوس . فَمَنْ أَبْسَلَ فَقَدْ أَسْلَمَ وَارْتَهَنَ . وَقِيلَ : أَصْله التَّحْرِيم , مِنْ قَوْلهمْ : هَذَا بَسْل عَلَيْك أَيْ حَرَام ; فَكَأَنَّهُمْ حَرَّمُوا الْجَنَّة وَحُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الْجَنَّة . قَالَ الشَّاعِر : <br>أَجَارَتكُمْ بَسْل عَلَيْنَا مُحَرَّم .......... وَجَارَتنَا حِلّ لَكُمْ وَحَلِيلهَا <br>وَالْإِبْسَال : التَّحْرِيم .

قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُ

أَيْ مَا لَا يَنْفَعنَا إِنْ دَعَوْنَاهُ .|وَلَا يَضُرُّنَا|إِنْ تَرَكْنَاهُ ; يُرِيد الْأَصْنَام .|وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ|أَيْ نَرْجِع إِلَى الضَّلَالَة بَعْد الْهُدَى . وَوَاحِد الْأَعْقَاب عَقِب وَهُوَ مُؤَنَّث , وَتَصْغِيره عُقَيْبَة . يُقَال : رَجَعَ فُلَان عَلَى عَقِبَيْهِ , إِذَا أَدْبَرَ . قَالَ أَبُو عُبَيْدَة : يُقَال لِمَنْ رُدَّ عَنْ حَاجَته وَلَمْ يَظْفَر بِهَا : قَدْ رُدَّ عَلَى عَقِبَيْهِ . وَقَالَ الْمُبَرِّد : مَعْنَاهُ تُعُقِّبَ بِالشَّرِّ بَعْد الْخَيْر . وَأَصْله مِنْ الْعَاقِبَة وَالْعُقْبَى وَهُمَا مَا كَانَ تَالِيًا لِلشَّيْءِ وَاجِبًا أَنْ يَتَّبِعهُ ; وَمِنْهُ | وَالْعَاقِبَة لِلْمُتَّقِينَ | [ الْأَعْرَاف : 128 ] . وَمِنْهُ عَقِب الرَّجُل . وَمِنْهُ الْعُقُوبَة , لِأَنَّهَا تَالِيَة لِلذَّنْبِ , وَعَنْهُ تَكُون .|كَالَّذِي|الْكَاف فِي مَوْضِع نَصْب نَعْت لِمَصْدَرٍ مَحْذُوف .|اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ|أَيْ اِسْتَغْوَتْهُ وَزَيَّنَتْ لَهُ هَوَاهُ وَدَعَتْهُ إِلَيْهِ . يُقَال : هَوَى يَهْوِي إِلَى الشَّيْء أَسْرَعَ إِلَيْهِ . وَقَالَ الزَّجَّاج : هُوَ مِنْ هَوَى يَهْوَى , مِنْ هَوَى النَّفْس ; أَيْ زَيَّنَ لَهُ الشَّيْطَان هَوَاهُ . وَقِرَاءَة الْجَمَاعَة | اِسْتَهْوَتْهُ | أَيْ هَوَتْ بِهِ , عَلَى تَأْنِيث الْجَمَاعَة . وَقَرَأَ حَمْزَة | اِسْتَهْوَاهُ الشَّيَاطِين | عَلَى تَذْكِير الْجَمْع . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن مَسْعُود | اِسْتَهْوَاهُ الشَّيْطَان | , وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَن , وَهُوَ كَذَلِكَ فِي حَرْف أُبَيّ . وَمَعْنَى | اِئْتِنَا | تَابِعْنَا . وَفِي قِرَاءَة عَبْد اللَّه أَيْضًا | يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى بَيِّنًا | . وَعَنْ الْحَسَن أَيْضًا | اِسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطُونَ | . | حَيْرَانَ | نُصِبَ عَلَى الْحَال , وَلَمْ يَنْصَرِف لِأَنَّ أُنْثَاهُ حَيْرَى كَسَكْرَان وَسَكْرَى وَغَضْبَان وَغَضْبَى . وَالْحَيْرَان هُوَ الَّذِي لَا يَهْتَدِي لِجِهَةِ أَمْره . وَقَدْ حَارَ يَحَار حَيْرًا وَحِيرَة وَحَيْرُورَة , أَيْ تَرَدَّدَ . وَبِهِ سُمِّيَ الْمَاء الْمُسْتَنْقَع الَّذِي لَا مَنْفَذ لَهُ حَائِرًا , وَالْجَمْع حُورَان . وَالْحَائِر الْمَوْضِع الَّذِي يَتَحَيَّر فِيهِ الْمَاء . قَالَ الشَّاعِر : <br>تَخْطُو عَلَى بَرْدِيَّتَيْنِ غَذَاهُمَا .......... غَدِق بِسَاحَةِ حَائِر يَعْبُوب <br>قَالَ اِبْن عَبَّاس : أَيْ مِثْل عَابِد الصَّنَم مِثْل مَنْ دَعَاهُ الْغُول فَيَتَّبِعهُ فَيُصْبِح وَقَدْ أَلْقَتْهُ فِي مَضَلَّة وَمَهْلَكَة ; فَهُوَ حَائِر فِي تِلْكَ الْمَهَامِه . وَقَالَ فِي رِوَايَة أَبِي صَالِح : نَزَلَتْ فِي عَبْد الرَّحْمَن بْن أَبِي بَكْر الصِّدِّيق , كَانَ يَدْعُو أَبَاهُ إِلَى الْكُفْر وَأَبَوَاهُ يَدْعُوَانِهِ إِلَى الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمُونَ ;|لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى|فَيَأْبَى . قَالَ أَبُو عُمَر : أُمّه أُمّ رُومَان بِنْت الْحَارِث بْن غَنْم الْكِنَانِيَّة ; فَهُوَ شَقِيق عَائِشَة . وَشَهِدَ عَبْد الرَّحْمَن بْن أَبِي بَكْر بَدْرًا وَأَحَدًا مَعَ قَوْمه وَهُوَ كَافِر , وَدَعَا إِلَى الْبِرَاز فَقَامَ إِلَيْهِ أَبُوهُ لِيُبَارِزهُ فَذَكَرَ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ ( مَتِّعْنِي بِنَفْسِك ) . ثُمَّ أَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامه , وَصَحِبَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هُدْنَة الْحُدَيْبِيَة . هَذَا قَوْل أَهْل السِّيَر . قَالُوا : كَانَ اِسْمه عَبْد الْكَعْبَة فَغَيَّرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِسْمه عَبْد الرَّحْمَن , وَكَانَ أَسَنّ وَلَد أَبِي بَكْر . وَيُقَال : إِنَّهُ لَمْ يُدْرِك النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَة وِلَاء : أَب وَبَنُوهُ إِلَّا أَبَا قُحَافَة وَابْنه أَبَا بَكْر وَابْنه عَبْد الرَّحْمَن بْن أَبِي بَكْر وَابْنه أَبَا عَتِيق مُحَمَّد بْن عَبْد الرَّحْمَن . وَاَللَّه أَعْلَم .|وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ|اللَّام لَام كَيْ , أَيْ أَمَرَنَا كَيْ نُسْلِم وَبِأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاة ; لِأَنَّ حُرُوف الْإِضَافَة يُعْطَف بَعْضهَا عَلَى بَعْض . قَالَ الْفَرَّاء : الْمَعْنَى أُمِرْنَا بِأَنْ نُسْلِم ; لِأَنَّ الْعَرَب تَقُول : أَمَرْتُك لِتَذْهَب , وَبِأَنْ تَذْهَب بِمَعْنًى . قَالَ النَّحَّاس : سَمِعْت أَبَا الْحَسَن بْن كَيْسَان يَقُول هِيَ لَام الْخَفْض , وَاللَّامَات كُلّهَا ثَلَاث : لَام خَفْض وَلَام أَمْر وَلَام تَوْكِيد , لَا يَخْرُج شَيْء عَنْهَا . وَالْإِسْلَام الْإِخْلَاص .

وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ

وَإِقَامَة الصَّلَاة الْإِتْيَان بِهَا وَالدَّوَام عَلَيْهَا . وَيَجُوز أَنْ يَكُون | وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاة | عَطْفًا عَلَى الْمَعْنَى , أَيْ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى وَيَدْعُونَهُ أَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاة ; لِأَنَّ مَعْنَى اِئْتِنَا أَنْ اِئْتِنَا .|وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ|اِبْتِدَاء وَخَبَر .

وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ

أَيْ فَهُوَ الَّذِي يَجِب أَنْ يُعْبَد لَا الْأَصْنَام .|بِالْحَقِّ|أَيْ بِكَلِمَةِ الْحَقّ . يَعْنِي قَوْله | كُنْ | .|وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ|أَيْ وَاذْكُرْ يَوْم يَقُول كُنْ . أَوْ اِتَّقُوا يَوْم يَقُول كُنْ . أَوْ قَدْر يَوْم يَقُول كُنْ . وَقِيلَ : هُوَ عَطْف عَلَى الْهَاء فِي قَوْله : | وَاتَّقُوهُ | قَالَ الْفَرَّاء : | كُنْ فَيَكُون | يُقَال : إِنَّهُ لِلصُّورِ خَاصَّة ; أَيْ وَيَوْم يَقُول لِلصُّورِ كُنْ فَيَكُون . وَقِيلَ : الْمَعْنَى فَيَكُون جَمِيع مَا أَرَادَ مِنْ مَوْت النَّاس وَحَيَاتهمْ وَعَلَى هَذَيْنِ التَّأْوِيلَيْنِ يَكُون|قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ|اِبْتِدَاء وَخَبَرًا . وَقِيلَ : إِنَّ قَوْله تَعَالَى : | قَوْله | رُفِعَ بِيَكُونُ ; أَيْ فَيَكُون مَا يَأْمُر بِهِ . | الْحَقّ | مِنْ نَعْته . وَيَكُون التَّمَام عَلَى هَذَا | فَيَكُون قَوْله الْحَقّ | . وَقَرَأَ اِبْن عَامِر | فَيَكُون | بِالنَّصْبِ , وَهُوَ إِشَارَة إِلَى سُرْعَة الْحِسَاب وَالْبَعْث . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي [ الْبَقَرَة ] الْقَوْل فِيهِ مُسْتَوْفًى .|يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ|أَيْ وَلَهُ الْمُلْك يَوْم يُنْفَخ فِي الصُّور . أَوْ وَلَهُ الْحَقّ يَوْم يُنْفَخ فِي الصُّور . وَقِيلَ : هُوَ بَدَل مِنْ | يَوْم يَقُول | . وَالصُّور قَرْن مِنْ نُور يُنْفَخ فِيهِ , النَّفْخَة الْأُولَى لِلْفَنَاءِ وَالثَّانِيَة لِلْإِنْشَاءِ . وَلَيْسَ جَمْع صُورَة كَمَا زَعَمَ بَعْضهمْ ; أَيْ يُنْفَخ فِي صُوَر الْمَوْتَى عَلَى مَا نُبَيِّنهُ . رَوَى مُسْلِم مِنْ حَدِيث عَبْد اللَّه بْن عَمْرو ( . . . ثُمَّ يُنْفَخ فِي الصُّور فَلَا يَسْمَعهُ أَحَد إِلَّا أَصْغَى لِيتًا وَرَفَعَ لِيتًا - قَالَ - وَأَوَّل مَنْ يَسْمَعهُ رَجُل يَلُوط حَوْض إِبِله - قَالَ - فَيَصْعَق وَيَصْعَق النَّاس ثُمَّ يُرْسِل اللَّه - أَوْ قَالَ يُنْزِل اللَّه - مَطَرًا كَأَنَّهُ الطَّلّ فَتَنْبُت مِنْهُ أَجْسَاد النَّاس ثُمَّ يُنْفَخ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَام يَنْظُرُونَ ) وَذُكِرَ الْحَدِيث . وَكَذَا فِي التَّنْزِيل | ثُمَّ نَفَخَ فِيهِ أُخْرَى | [ الزُّمَر : 68 ] وَلَمْ يَقُلْ فِيهَا ; فَعُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ جَمْع الصُّورَة . وَالْأُمَم مُجْمِعَة عَلَى أَنَّ الَّذِي يَنْفُخ فِي الصُّور إِسْرَافِيل عَلَيْهِ السَّلَام . قَالَ أَبُو الْهَيْثَم : مَنْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُون الصُّور قَرْنًا فَهُوَ كَمَنْ يُنْكِر الْعَرْش وَالْمِيزَان وَالصِّرَاط , وَطَلَبَ لَهَا تَأْوِيلَات . قَالَ اِبْن فَارِس : الصُّور الَّذِي فِي الْحَدِيث كَالْقَرْنِ يُنْفَخ فِيهِ , وَالصُّور جَمْع صُورَة . وَقَالَ الْجَوْهَرِيّ : الصُّور الْقَرْن . قَالَ الرَّاجِز : <br>لَقَدْ نَطَحْنَاهُمْ غَدَاة الْجَمْعَيْن .......... نَطْحًا شَدِيدًا لَا كَنَطْحِ الصُّورَيْنِ <br>وَمِنْهُ قَوْله : | وَيَوْم يُنْفَخ فِي الصُّور | . قَالَ الْكَلْبِيّ : لَا أَدْرِي مَا هُوَ الصُّور . وَيُقَال : هُوَ جَمْع صُورَة مِثْل بُسْرَة وَبُسْر ; أَيْ يُنْفَخ فِي صُوَر الْمَوْتَى وَالْأَرْوَاح . وَقَرَأَ الْحَسَن | يَوْم يُنْفَخ فِي الصُّوَر | . وَالصِّوَر ( بِكَسْرِ الصَّاد ) لُغَة فِي الصُّور جَمْع صُورَة وَالْجَمْع صِوَار , وَصِيَّار ( بِالْيَاءِ ) لُغَة فِيهِ . وَقَالَ عَمْرو بْن عُبَيْد : قَرَأَ عِيَاض | يَوْم يُنْفَخ فِي الصُّور | فَهَذَا يَعْنِي بِهِ الْخَلْق . وَاَللَّه أَعْلَم . قُلْت : وَمِمَّنْ قَالَ إِنَّ الْمُرَاد بِالصُّورِ فِي هَذِهِ الْآيَة جَمْع صُورَة أَبُو عُبَيْدَة . وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مُحْتَمِلًا فَهُوَ مَرْدُود بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْكِتَاب وَالسُّنَّة . وَأَيْضًا لَا يُنْفَخ فِي الصُّور لِلْبَعْثِ مَرَّتَيْنِ ; بَلْ يُنْفَخ فِيهِ مَرَّة وَاحِدَة ; فَإِسْرَافِيل عَلَيْهِ السَّلَام يَنْفُخ فِي الصُّور الَّذِي هُوَ الْقَرْن وَاَللَّه عَزَّ وَجَلَّ يُحْيِي الصُّور . وَفِي التَّنْزِيل | فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحنَا | [ التَّحْرِيم : 12 ] .|عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ|بِرَفْعِ | عَالِم | صِفَة ل | الَّذِي | ; أَيْ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَات وَالْأَرْض عَالِم الْغَيْب . وَيَجُوز أَنْ يَرْتَفِع عَلَى إِضْمَار الْمُبْتَدَإِ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضهمْ أَنَّهُ قَرَأَ | يَنْفُخ | فَيَجُوز أَنْ يَكُون الْفَاعِل | عَالِم الْغَيْب | ; لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ النَّفْخ فِيهِ بِأَمْرِ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ كَانَ مَنْسُوبًا إِلَى اللَّه تَعَالَى . وَيَجُوز أَنْ يَكُون اِرْتَفَعَ | عَالِم | حَمْلًا عَلَى الْمَعْنَى ; كَمَا أَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ : <br>لِيُبْكَ يَزِيد ضَارِع لِخُصُومَةٍ <br>وَقَرَأَ الْحَسَن وَالْأَعْمَش | عَالِم | بِالْخَفْضِ عَلَى الْبَدَل مِنْ الْهَاء الَّتِي فِي | لَهُ | .

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آَزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آَلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ

تَكَلَّمَ الْعُلَمَاء فِي هَذَا ; فَقَالَ أَبُو بَكْر مُحَمَّد بْن مُحَمَّد بْن الْحَسَن الْجُوَيْنِيّ الشَّافِعِيّ الْأَشْعَرِيّ فِي النُّكَت مِنْ التَّفْسِير لَهُ : وَلَيْسَ بَيْن النَّاس اِخْتِلَاف فِي أَنَّ اِسْم وَالِد إِبْرَاهِيم تَارَح . وَاَلَّذِي فِي الْقُرْآن يَدُلّ عَلَى أَنَّ اِسْمه آزَر . وَقِيلَ : آزَر عِنْدهمْ ذَمّ فِي لُغَتهمْ ; كَأَنَّهُ قَالَ : وَإِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا مُخْطِئ | أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَة | وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالِاخْتِيَار الرَّفْع . وَقِيلَ : آزَر اِسْم صَنَم . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَوْضِعه نَصْب عَلَى إِضْمَار الْفِعْل ; كَأَنَّهُ قَالَ : وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيم لِأَبِيهِ أَتَتَّخِذُ آزَر إِلَهًا , أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَة . قُلْت : مَا اِدَّعَاهُ مِنْ الِاتِّفَاق لَيْسَ عَلَيْهِ وِفَاق ; فَقَدْ قَالَ مُحَمَّد بْن إِسْحَاق وَالْكَلْبِيّ وَالضَّحَّاك : إِنَّ آزَر أَبُو إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام وَهُوَ تَارَخ , مِثْل إِسْرَائِيل وَيَعْقُوب ; قُلْت فَيَكُون لَهُ اِسْمَانِ كَمَا تَقَدَّمَ . وَقَالَ مُقَاتِل : آزَر لَقَب , وَتَارَخ اِسْم : وَحَكَاهُ الثَّعْلَبِيّ عَنْ اِبْن إِسْحَاق الْقُشَيْرِيّ . وَيَجُوز أَنْ يَكُون عَلَى الْعَكْس . قَالَ الْحَسَن : كَانَ اِسْم أَبِيهِ آزَر . وَقَالَ سُلَيْمَان التَّيْمِيّ : هُوَ سَبّ وَعَيْب , وَمَعْنَاهُ فِي كَلَامهمْ : الْمُعْوَجّ . وَرَوَى الْمُعْتَمِر بْن سُلَيْمَان عَنْ أَبِيهِ قَالَ : بَلَغَنِي أَنَّهَا أَعْوَج , وَهِيَ أَشَدّ كَلِمَة قَالَهَا إِبْرَاهِيم لِأَبِيهِ . وَقَالَ الضَّحَّاك : مَعْنَى آزَر الشَّيْخ الْهِمّ بِالْفَارِسِيَّةِ . وَقَالَ الْفَرَّاء : هِيَ صِفَة ذَمّ بِلُغَتِهِمْ ; كَأَنَّهُ قَالَ يَا مُخْطِئ ; فِيمَنْ رَفَعَهُ . أَوْ كَأَنَّهُ قَالَ : وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيم لِأَبِيهِ الْمُخْطِئ ; فِيمَنْ خَفَضَ . وَلَا يَنْصَرِف لِأَنَّهُ عَلَى أَفْعَل ; قَالَهُ النَّحَّاس . وَقَالَ الْجَوْهَرِيّ : آزَر اِسْم أَعْجَمِيّ , وَهُوَ مُشْتَقّ مِنْ آزَرَ فُلَان فُلَانًا إِذَا عَاوَنَهُ ; فَهُوَ مُؤَازِر قَوْمه عَلَى عِبَادَة الْأَصْنَام وَقِيلَ : هُوَ مُشْتَقّ مِنْ الْقُوَّة , وَالْأَزْر الْقُوَّة ; عَنْ اِبْن فَارِس . وَقَالَ مُجَاهِد وَيَمَان : آزَر اِسْم صَنَم . وَهُوَ فِي هَذَا التَّأْوِيل فِي مَوْضِع نَصْب , التَّقْدِير : أَتَتَّخِذُ آزَر إِلَهًا , أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا . وَقِيلَ : فِي الْكَلَام تَقْدِيم وَتَأْخِير , التَّقْدِير : أَتَتَّخِذُ آزَر أَصْنَامًا . قُلْت : فَعَلَى هَذَا آزَر اِسْم جِنْس . وَاَللَّه أَعْلَم . وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ فِي كِتَاب الْعَرَائِس : إِنَّ اِسْم أَبِي إِبْرَاهِيم الَّذِي سَمَّاهُ بِهِ أَبُوهُ تَارَح , فَلَمَّا صَارَ مَعَ النُّمْرُوذ قَيِّمًا عَلَى خِزَانَة آلِهَته سَمَّاهُ آزَر . وَقَالَ مُجَاهِد : إِنَّ آزَر لَيْسَ بِاسْمِ أَبِيهِ وَإِنَّمَا هُوَ اِسْم صَنَم . وَهُوَ إِبْرَاهِيم بْن تَارَح بْن نَاخُور بْن سَارُوع بْن أَرْغُو بْن فَالِغ بْن عَابِر بْن شالخ بْن أرفخشد بْن سَام بْن نُوح عَلَيْهِ السَّلَام . و | آزَر | فِيهِ قِرَاءَات : | أَإِزْرًا | بِهَمْزَتَيْنِ , الْأُولَى مَفْتُوحَة وَالثَّانِيَة مَكْسُورَة ; عَنْ اِبْن عَبَّاس . وَعَنْهُ | أَأَزْرًا | بِهَمْزَتَيْنِ مَفْتُوحَتَيْنِ . وَقُرِئَ بِالرَّفْعِ , وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ اِبْن عَبَّاس . وَعَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ عَنْهُ | تَتَّخِذ | بِغَيْرِ هَمْزَة . قَالَ الْمَهْدَوِيّ : أَإِزْرًا ؟ فَقِيلَ : إِنَّهُ اِسْم صَنَم ; فَهُوَ مَنْصُوب عَلَى تَقْدِير أَتَتَّخِذُ إِزْرًا , وَكَذَلِكَ أَأَزْرًا . وَيَجُوز أَنْ يَجْعَل أَإِزْرًا عَلَى أَنَّهُ مُشْتَقّ مِنْ الْأَزْر وَهُوَ الظَّهْر فَيَكُون مَفْعُولًا مِنْ أَجْله ; كَأَنَّهُ قَالَ : أَلِلْقُوَّةِ تَتَّخِذ أَصْنَامًا . وَيَجُوز أَنْ يَكُون إِزْر بِمَعْنَى وِزْر , أُبْدِلَتْ الْوَاو هَمْزَة . قَالَ الْقُشَيْرِيّ : ذُكِرَ فِي الِاحْتِجَاج عَلَى الْمُشْرِكِينَ قِصَّة إِبْرَاهِيم وَرَدّه عَلَى أَبِيهِ فِي عِبَادَة الْأَصْنَام . وَأَوْلَى النَّاس بِاتِّبَاعِ إِبْرَاهِيم الْعَرَب ; فَإِنَّهُمْ ذُرِّيَّته . أَيْ وَاذْكُرْ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيم . أَوْ | وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَل نَفْس بِمَا كَسَبَتْ | [ الْأَنْعَام : 70 ] وَذَكِّرْ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيم . وَقُرِئَ | آزَر | أَيْ يَا آزَر , عَلَى النِّدَاء الْمُفْرَد , وَهِيَ قِرَاءَة أُبَيّ وَيَعْقُوب وَغَيْرهمَا . وَهُوَ يُقَوِّي قَوْل مَنْ يَقُول : إِنَّ آزَرَ اِسْم أَب إِبْرَاهِيم . | أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَة | مَفْعُولَانِ لِتَتَّخِذ وَهُوَ اِسْتِفْهَام فِيهِ مَعْنَى الْإِنْكَار .

وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ

أَيْ مُلْك , وَزِيدَتْ الْوَاو وَالتَّاء لِلْمُبَالَغَةِ فِي الصِّفَة . وَمِثْله الرَّغَبُوت وَالرَّهَبُوت وَالْجَبَرُوت . وَقَرَأَ أَبُو السِّمَال الْعَدَوِيّ | مَلْكُوت | بِإِسْكَانِ اللَّام . وَلَا يَجُوز عِنْد سِيبَوَيْهِ حَذْف الْفَتْحَة لِخِفَّتِهَا , وَلَعَلَّهَا لُغَة . و | نُرِي | بِمَعْنَى أَرَيْنَا ; فَهُوَ بِمَعْنَى الْمُضِيّ . فَقِيلَ : أَرَادَ بِهِ مَا فِي السَّمَوَات مِنْ عِبَادَة الْمَلَائِكَة وَالْعَجَائِب وَمَا فِي الْأَرْض مِنْ عِصْيَان بَنِي آدَم ; فَكَانَ يَدْعُو عَلَى مَنْ يَرَاهُ يَعْصِي فَيُهْلِكهُ اللَّه , فَأَوْحَى اللَّه إِلَيْهِ يَا إِبْرَاهِيم أَمْسِكْ عَنْ عِبَادِي , أَمَا عَلِمْت أَنَّ مِنْ أَسْمَائِي الصَّبُور . رَوَى مَعْنَاهُ عَلِيّ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقِيلَ : كَشَفَ اللَّه لَهُ عَنْ السَّمَوَات وَالْأَرْض حَتَّى الْعَرْش وَأَسْفَل الْأَرَضِينَ . وَرَوَى اِبْن جُرَيْج عَنْ الْقَاسِم عَنْ إِبْرَاهِيم النَّخَعِيّ قَالَ : فُرِّجَتْ لَهُ السَّمَوَات السَّبْع فَنَظَرَ إِلَيْهِنَّ حَتَّى اِنْتَهَى إِلَى الْعَرْش , وَفُرِّجَتْ لَهُ الْأَرَضُونَ فَنَظَرَ إِلَيْهِنَّ , وَرَأَى مَكَانه فِي الْجَنَّة ; فَذَلِكَ قَوْله : | وَآتَيْنَاهُ أَجْره فِي الدُّنْيَا | [ الْعَنْكَبُوت : 27 ] عَنْ السُّدِّيّ . وَقَالَ الضَّحَّاك : أَرَاهُ مِنْ مَلَكُوت السَّمَاء مَا قَصَّهُ مِنْ الْكَوَاكِب , وَمِنْ مَلَكُوت الْأَرْض الْبِحَار وَالْجِبَال وَالْأَشْجَار , وَنَحْو ذَلِكَ مِمَّا اِسْتَدَلَّ بِهِ . وَقَالَ بِنَحْوِهِ اِبْن عَبَّاس . وَقَالَ : جُعِلَ حِين وُلِدَ فِي سَرَب وَجُعِلَ رِزْقه فِي أَطْرَاف أَصَابِعه فَكَانَ يَمُصّهَا , وَكَانَ نُمْرُوذ اللَّعِين رَأَى رُؤْيَا فَعَبَّرَتْ لَهُ أَنَّهُ يَذْهَب مُلْكه عَلَى يَدَيْ مَوْلُود يُولَد ; فَأُمِرَ بِعَزْلِ الرِّجَال عَنْ النِّسَاء . وَقِيلَ : أُمِرَ بِقَتْلِ كُلّ مَوْلُود ذَكَر . وَكَانَ آزَر مِنْ الْمُقَرَّبِينَ عِنْد الْمَلِك نُمْرُوذ فَأَرْسَلَهُ يَوْمًا فِي بَعْض حَوَائِجه فَوَاقَعَ اِمْرَأَته فَحَمَلَتْ بِإِبْرَاهِيم . وَقِيلَ : بَلْ وَاقَعَهَا فِي بَيْت الْأَصْنَام فَحَمَلَتْ وَخَرَّتْ الْأَصْنَام عَلَى وُجُوههَا حِينَئِذٍ ; فَحَمَلَهَا إِلَى بَعْض الشِّعَاب حَتَّى وَلَدَتْ إِبْرَاهِيم , وَحَفَرَ لِإِبْرَاهِيم سَرَبًا فِي الْأَرْض وَوَضَعَ عَلَى بَابه صَخْرَة لِئَلَّا تَفْتَرِسهُ السِّبَاع ; وَكَانَتْ أُمّه تَخْتَلِف إِلَيْهِ فَتُرْضِعهُ , وَكَانَتْ تَجِدهُ يَمُصّ أَصَابِعه , مِنْ أَحَدهَا عَسَل وَمِنْ الْآخَر مَاء وَمِنْ الْآخَر لَبَن , وَشَبَّ فَكَانَ عَلَى سَنَة مِثْل اِبْن ثَلَاث سِنِينَ . فَلَمَّا أَخْرَجَهُ مِنْ السَّرَب تَوَهَّمَهُ النَّاس أَنَّهُ وُلِدَ مُنْذُ سِنِينَ ; فَقَالَ لِأُمِّهِ : مَنْ رَبِّي ؟ فَقَالَتْ أَنَا . فَقَالَ : وَمَنْ رَبّك ؟ قَالَتْ أَبُوك . قَالَ : وَمَنْ رَبّه ؟ قَالَتْ نُمْرُوذ . قَالَ : وَمَنْ رَبّه ؟ فَلَطَمَتْهُ , وَعَلِمَتْ أَنَّهُ الَّذِي يَذْهَب مُلْكهمْ عَلَى يَدَيْهِ . وَالْقَصَص فِي هَذَا تَامّ فِي قَصَص الْأَنْبِيَاء لِلْكِسَائِيِّ , وَهُوَ كِتَاب مِمَّا يُقْتَدَى بِهِ . وَقَالَ بَعْضهمْ : كَانَ مَوْلِده بِحَرَّان وَلَكِنْ أَبُوهُ نَقَلَهُ إِلَى أَرْض بَابِل . وَقَالَ عَامَّة السَّلَف مِنْ أَهْل الْعِلْم : وُلِدَ إِبْرَاهِيم فِي زَمَن النُّمْرُوذ بْن كَنْعَان بْن سنجاريب بْن كوش بْن سَام بْن نُوح . وَقَدْ مَضَى ذِكْره فِي | الْبَقَرَة | . وَكَانَ بَيْن الطُّوفَان وَبَيْن مَوْلِد إِبْرَاهِيم أَلْف وَمِائَتَا سَنَة وَثَلَاث وَسِتُّونَ سَنَة ; وَذَلِكَ بَعْد خَلْق آدَم بِثَلَاثِ آلَاف سَنَة وَثَلَاثمِائَةِ سَنَة وَثَلَاثِينَ سَنَة .|وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ|أَيْ وَلِيَكُونَ مِنْ الْمُوقِنِينَ أَرَيْنَاهُ ذَلِكَ ; أَيْ الْمَلَكُوت .

فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ

أَيْ سَتَرَهُ بِظُلْمَتِهِ , وَمِنْهُ الْجَنَّة وَالْجِنَّة وَالْجُنَّة وَالْجَنِين وَالْمِجَنّ وَالْجِنّ كُلّه بِمَعْنَى السِّتْر . وَجَنَان اللَّيْل اِدْلِهْمَامه وَسِتْره . قَالَ الشَّاعِر : <br>وَلَوْلَا جَنَان اللَّيْل أَدْرَكَ رَكْضنَا .......... بِذِي الرَّمْث وَالْأَرْطَى عِيَاض بْن نَاشِب <br>وَيُقَال : جُنُون اللَّيْل أَيْضًا . وَيُقَال : جَنَّهُ اللَّيْل وَأَجَنَّهُ اللَّيْل لُغَتَانِ .|رَأَى كَوْكَبًا|هَذِهِ قِصَّة أُخْرَى غَيْر قِصَّة عَرْض الْمَلَكُوت عَلَيْهِ . فَقِيلَ : رَأَى ذَلِكَ مِنْ شَقّ الصَّخْرَة الْمَوْضُوعَة عَلَى رَأْس السَّرَب . وَقِيلَ : لَمَّا أَخْرَجَهُ أَبُوهُ مِنْ السَّرَب وَكَانَ وَقْت غَيْبُوبَة الشَّمْس فَرَأَى الْإِبِل وَالْخَيْل وَالْغَنَم فَقَالَ : لَا بُدّ لَهَا مِنْ رَبّ . وَرَأَى الْمُشْتَرِي أَوْ الزُّهْرَة ثُمَّ الْقَمَر ثُمَّ الشَّمْس , وَكَانَ هَذَا فِي آخِر الشَّهْر . قَالَ مُحَمَّد بْن إِسْحَاق : وَكَانَ اِبْن خَمْس عَشْرَة سَنَة . وَقِيلَ : اِبْن سَبْع سِنِينَ . وَقِيلَ : لَمَّا حَاجّ نُمْرُوذًا كَانَ اِبْن سَبْع عَشْرَة سَنَة .|قَالَ هَذَا رَبِّي|اُخْتُلِفَ فِي مَعْنَاهُ عَلَى أَقْوَال ; فَقِيلَ : كَانَ هَذَا مِنْهُ فِي مُهْلَة النَّظَر وَحَال الطُّفُولِيَّة وَقَبْل قِيَام الْحُجَّة ; وَفِي تِلْكَ الْحَال لَا يَكُون كُفْر وَلَا إِيمَان . فَاسْتَدَلَّ قَائِلُو هَذِهِ الْمَقَالَة بِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَلْحَة عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : | فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْل رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي | فَعَبَدَهُ حَتَّى غَابَ عَنْهُ , وَكَذَلِكَ الشَّمْس وَالْقَمَر ; فَلَمَّا تَمَّ نَظَره قَالَ : | إِنِّي بَرِيء مِمَّا تُشْرِكُونَ | [ الْأَنْعَام : 78 ] . وَاسْتَدَلَّ بِالْأُفُولِ ; لِأَنَّهُ أَظْهَر الْآيَات عَلَى الْحُدُوث . وَقَالَ قَوْم : هَذَا لَا يَصِحّ ; وَقَالُوا : غَيْر جَائِز أَنْ يَكُون لِلَّهِ تَعَالَى رَسُول يَأْتِي عَلَيْهِ وَقْت مِنْ الْأَوْقَات إِلَّا وَهُوَ لِلَّهِ تَعَالَى مُوَحِّد وَبِهِ عَارِف , وَمِنْ كُلّ مَعْبُود سِوَاهُ بَرِيء . قَالُوا : وَكَيْفَ يَصِحّ أَنْ يُتَوَهَّم هَذَا عَلَى مَنْ عَصَمَهُ اللَّه وَآتَاهُ رُشْده مِنْ قَبْل , وَأَرَاهُ مَلَكُوته لِيَكُونَ مِنْ الْمُوقِنِينَ , وَلَا يَجُوز أَنْ يُوصَف بِالْخُلُوِّ عَنْ الْمَعْرِفَة , بَلْ عَرَفَ الرَّبّ أَوَّل النَّظَر . قَالَ الزَّجَّاج : هَذَا الْجَوَاب عِنْدِي خَطَأ وَغَلَط مِمَّنْ قَالَهُ ; وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّه تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيم أَنَّهُ قَالَ : | وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُد الْأَصْنَام | [ إِبْرَاهِيم : 35 ] وَقَالَ جَلَّ وَعَزَّ : | إِذْ جَاءَ رَبّه بِقَلْبٍ سَلِيم | [ الصَّافَّات : 84 ] أَيْ لَمْ يُشْرِك بِهِ قَطُّ . قَالَ : وَالْجَوَاب عِنْدِي أَنَّهُ قَالَ | هَذَا رَبِّي | عَلَى قَوْلكُمْ ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَصْنَام وَالشَّمْس وَالْقَمَر ; وَنَظِير هَذَا قَوْله تَعَالَى : | أَيْنَ شُرَكَائِي | [ النَّحْل : 27 ] وَهُوَ جَلَّ وَعَلَا وَاحِد لَا شَرِيك لَهُ . وَالْمَعْنَى : أَيْنَ شُرَكَائِي عَلَى قَوْلكُمْ . وَقِيلَ : لَمَّا خَرَجَ إِبْرَاهِيم مِنْ السَّرَب رَأَى ضَوْء الْكَوْكَب وَهُوَ طَالِب لِرَبِّهِ ; فَظَنَّ أَنَّهُ ضَوْءُهُ قَالَ : | هَذَا رَبِّي | أَيْ بِأَنَّهُ يَتَرَاءَى لِي نُوره .|فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ|عَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِرَبِّهِ . | فَلَمَّا رَأَى الْقَمَر بَازِغًا | [ الْأَنْعَام : 77 ] وَنَظَرَ إِلَى ضَوْئِهِ | قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنْ الْقَوْم الضَّالِّينَ | [ الْأَنْعَام : 77 ] . فَلَمَّا رَأَى الشَّمْس بَازِغَة قَالَ هَذَا رَبِّي | [ الْأَنْعَام : 78 ] وَلَيْسَ هَذَا شِرْكًا . إِنَّمَا نَسَبَ ذَلِكَ الضَّوْء إِلَى رَبّه فَلَمَّا رَآهُ زَائِلًا دَلَّهُ الْعِلْم عَلَى أَنَّهُ غَيْر مُسْتَحِقّ لِذَلِكَ ; فَنَفَاهُ بِقَلْبِهِ وَعَلِمَ أَنَّهُ مَرْبُوب وَلَيْسَ بِرَبٍّ . وَقِيلَ : إِنَّمَا قَالَ | هَذَا رَبِّي | لِتَقْرِيرِ الْحُجَّة عَلَى قَوْمه فَأَظْهَرَ مُوَافَقَتهمْ ; فَلَمَّا أَفَلَ النَّجْم قَرَّرَ الْحُجَّة وَقَالَ : مَا تَغَيَّرَ لَا يَجُوز أَنْ يَكُون رَبًّا . وَكَانُوا يُعَظِّمُونَ النُّجُوم وَيَعْبُدُونَهَا وَيَحْكُمُونَ بِهَا . وَقَالَ النَّحَّاس : وَمَنْ أَحْسَن مَا قِيلَ فِي هَذَا مَا صَحَّ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : | نُور عَلَى نُور | [ النُّور : 35 ] قَالَ : كَذَلِكَ قَلْب الْمُؤْمِن يَعْرِف اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وَيَسْتَدِلّ عَلَيْهِ بِقَلْبِهِ , فَإِذَا عَرَفَهُ اِزْدَادَ نُورًا عَلَى نُور ; وَكَذَا إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام عَرَفَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بِقَلْبِهِ وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِدَلَائِلِهِ , فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا وَخَالِقًا . فَلَمَّا عَرَّفَهُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بِنَفْسِهِ اِزْدَادَ مَعْرِفَة فَقَالَ : | أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّه وَقَدْ هَدَانِ | [ الْأَنْعَام : 80 ] . وَقِيلَ : هُوَ عَلَى مَعْنَى الِاسْتِفْهَام وَالتَّوْبِيخ , مُنْكِرًا لِفِعْلِهِمْ . وَالْمَعْنَى : أَهَذَا رَبِّي , أَوَمِثْل هَذَا يَكُون رَبًّا ؟ فَحَذَفَ الْهَمْزَة . وَفِي التَّنْزِيل | أَفَإِنْ مِتّ فَهُمْ الْخَالِدُونَ | [ الْأَنْبِيَاء : 34 ] أَيْ أَفَهُمْ الْخَالِدُونَ . وَقَالَ الْهُذَلِيّ : <br>رَفَوْنِي وَقَالُوا يَا خُوَيْلِد لَا تُرَع .......... فَقُلْت وَأَنْكَرْت الْوُجُوه هُمُ هُمُ <br>آخَر : <br>لَعَمْرك مَا أَدْرِي وَإِنْ كُنْت دَارِيًا .......... بِسَبْعٍ رَمَيْنَ الْجَمْر أَمْ بِثَمَانِ <br>وَقِيلَ : الْمَعْنَى هَذَا رَبِّي عَلَى زَعْمكُمْ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى : | أَيْنَ شُرَكَائِي الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ | [ الْقَصَص : 74 ] . وَقَالَ : | ذُقْ إِنَّك أَنْتَ الْعَزِيز الْكَرِيم | [ الدُّخَان : 49 ] أَيْ عِنْد نَفْسك . وَقِيلَ : الْمَعْنَى أَيْ وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ هَذَا رَبِّي ; فَأُضْمِرَ الْقَوْل , وَإِضْمَاره فِي الْقُرْآن كَثِير . وَقِيلَ : الْمَعْنَى فِي هَذَا رَبِّي ; أَيْ هَذَا دَلِيل عَلَى رَبِّي .

فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ

أَيْ طَالِعًا . يُقَال : بَزَغَ الْقَمَر إِذَا اِبْتَدَأَ فِي الطُّلُوع , وَالْبَزْغ الشَّقّ ; كَأَنَّهُ يَشُقّ بِنُورِهِ الظُّلْمَة ; وَمِنْهُ بَزَغَ الْبَيْطَار الدَّابَّة إِذَا أَسَالَ دَمهَا .|قَالَ هَذَا رَبِّي|اُخْتُلِفَ فِي مَعْنَاهُ عَلَى أَقْوَال ; فَقِيلَ : كَانَ هَذَا مِنْهُ فِي مُهْلَة النَّظَر وَحَال الطُّفُولِيَّة وَقَبْل قِيَام الْحُجَّة ; وَفِي تِلْكَ الْحَال لَا يَكُون كُفْر وَلَا إِيمَان . فَاسْتَدَلَّ قَائِلُو هَذِهِ الْمَقَالَة بِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَلْحَة عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : | فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْل رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي | فَعَبَدَهُ حَتَّى غَابَ عَنْهُ , وَكَذَلِكَ الشَّمْس وَالْقَمَر ; فَلَمَّا تَمَّ نَظَره قَالَ : | إِنِّي بَرِيء مِمَّا تُشْرِكُونَ | [ الْأَنْعَام : 78 ] . وَاسْتَدَلَّ بِالْأُفُولِ ; لِأَنَّهُ أَظْهَر الْآيَات عَلَى الْحُدُوث . وَقَالَ قَوْم : هَذَا لَا يَصِحّ ; وَقَالُوا : غَيْر جَائِز أَنْ يَكُون لِلَّهِ تَعَالَى رَسُول يَأْتِي عَلَيْهِ وَقْت مِنْ الْأَوْقَات إِلَّا وَهُوَ لِلَّهِ تَعَالَى مُوَحِّد وَبِهِ عَارِف , وَمِنْ كُلّ مَعْبُود سِوَاهُ بَرِيء . قَالُوا : وَكَيْفَ يَصِحّ أَنْ يُتَوَهَّم هَذَا عَلَى مَنْ عَصَمَهُ اللَّه وَآتَاهُ رُشْده مِنْ قَبْل , وَأَرَاهُ مَلَكُوته لِيَكُونَ مِنْ الْمُوقِنِينَ , وَلَا يَجُوز أَنْ يُوصَف بِالْخُلُوِّ عَنْ الْمَعْرِفَة , بَلْ عَرَفَ الرَّبّ أَوَّل النَّظَر . قَالَ الزَّجَّاج : هَذَا الْجَوَاب عِنْدِي خَطَأ وَغَلَط مِمَّنْ قَالَهُ ; وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّه تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيم أَنَّهُ قَالَ : | وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُد الْأَصْنَام | [ إِبْرَاهِيم : 35 ] وَقَالَ جَلَّ وَعَزَّ : | إِذْ جَاءَ رَبّه بِقَلْبٍ سَلِيم | [ الصَّافَّات : 84 ] أَيْ لَمْ يُشْرِك بِهِ قَطُّ . قَالَ : وَالْجَوَاب عِنْدِي أَنَّهُ قَالَ | هَذَا رَبِّي | عَلَى قَوْلكُمْ ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَصْنَام وَالشَّمْس وَالْقَمَر ; وَنَظِير هَذَا قَوْله تَعَالَى : | أَيْنَ شُرَكَائِيَ | [ النَّحْل : 27 ] وَهُوَ جَلَّ وَعَلَا وَاحِد لَا شَرِيك لَهُ . وَالْمَعْنَى : أَيْنَ شُرَكَائِيَ عَلَى قَوْلكُمْ . وَقِيلَ : لَمَّا خَرَجَ إِبْرَاهِيم مِنْ السَّرَب رَأَى ضَوْء الْكَوْكَب وَهُوَ طَالِب لِرَبِّهِ ; فَظَنَّ أَنَّهُ ضَوْءُهُ قَالَ : | هَذَا رَبِّي | أَيْ بِأَنَّهُ يَتَرَاءَى لِي نُوره .|فَلَمَّا أَفَلَ|عَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِرَبِّهِ . | فَلَمَّا رَأَى الْقَمَر بَازِغًا | [ الْأَنْعَام : 77 ] وَنَظَرَ إِلَى ضَوْئِهِ | قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنْ الْقَوْم الضَّالِّينَ | [ الْأَنْعَام : 77 ] . فَلَمَّا رَأَى الشَّمْس بَازِغَة قَالَ هَذَا رَبِّي | [ الْأَنْعَام : 78 ] وَلَيْسَ هَذَا شِرْكًا . إِنَّمَا نَسَبَ ذَلِكَ الضَّوْء إِلَى رَبّه فَلَمَّا رَآهُ زَائِلًا دَلَّهُ الْعِلْم عَلَى أَنَّهُ غَيْر مُسْتَحِقّ لِذَلِكَ ; فَنَفَاهُ بِقَلْبِهِ وَعَلِمَ أَنَّهُ مَرْبُوب وَلَيْسَ بِرَبٍّ . وَقِيلَ : إِنَّمَا قَالَ | هَذَا رَبِّي | لِتَقْرِيرِ الْحُجَّة عَلَى قَوْمه فَأَظْهَرَ مُوَافَقَتهمْ ; فَلَمَّا أَفَلَ النَّجْم قَرَّرَ الْحُجَّة وَقَالَ : مَا تَغَيَّرَ لَا يَجُوز أَنْ يَكُون رَبًّا . وَكَانُوا يُعَظِّمُونَ النُّجُوم وَيَعْبُدُونَهَا وَيَحْكُمُونَ بِهَا . وَقَالَ النَّحَّاس : وَمَنْ أَحْسَن مَا قِيلَ فِي هَذَا مَا صَحَّ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : | نُور عَلَى نُور | [ النُّور : 35 ] قَالَ : كَذَلِكَ قَلْب الْمُؤْمِن يَعْرِف اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وَيُسْتَدَلّ عَلَيْهِ بِقَلْبِهِ , فَإِذَا عَرَفَهُ اِزْدَادَ نُورًا عَلَى نُور ; وَكَذَا إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام عَرَفَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بِقَلْبِهِ وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِدَلَائِلِهِ , فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا وَخَالِقًا .|قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ|أَيْ لَمْ يُثَبِّتنِي عَلَى الْهِدَايَة . وَقَدْ كَانَ مُهْتَدِيًا ; فَيَكُون جَرَى هَذَا فِي مُهْلَة النَّظَر , أَوْ سَأَلَ التَّثْبِيت لِإِمْكَانِ الْجَوَاز الْعَقْلِيّ ; كَمَا قَالَ شُعَيْب : | وَمَا يَكُون لَنَا أَنْ نَعُود فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاء اللَّه | [ الْأَعْرَاف : 89 ] . وَفِي التَّنْزِيل | اِهْدِنَا الصِّرَاط الْمُسْتَقِيم | [ الْفَاتِحَة : 4 ] أَيْ ثَبِّتْنَا عَلَى الْهِدَايَة . وَقَدْ تَقَدَّمَ .

فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ

نُصِبَ عَلَى الْحَال ; لِأَنَّ هَذَا مِنْ رُؤْيَة الْعَيْن . بَزَغَ يَبْزُغ إِذَا طَلَعَ . وَأَفَلَ يَأْفِل أُفُولًا إِذَا غَابَ . وَقَالَ : | هَذَا | وَالشَّمْس مُؤَنَّثَة ; لِقَوْلِهِ | فَلَمَّا أَفَلَتْ | فَقِيلَ : إِنَّ تَأْنِيث الشَّمْس لِتَفْخِيمِهَا وَعِظَمهَا ; فَهُوَ كَقَوْلِهِمْ : رَجُل نَسَّابَة وَعَلَّامَة . وَإِنَّمَا قَالَ : | هَذَا رَبِّي | عَلَى مَعْنَى : هَذَا الطَّالِع رَبِّي ; قَالَهُ الْكِسَائِيّ وَالْأَخْفَش . وَقَالَ غَيْرهمَا : أَيْ هَذَا الضَّوْء . قَالَ أَبُو الْحَسَن عَلِيّ بْن سُلَيْمَان : أَيْ هَذَا الشَّخْص ; كَمَا قَالَ الْأَعْشَى : <br>قَامَتْ تُبَكِّيه عَلَى قَبْره .......... مَنْ لِي مِنْ بَعْدك يَا عَامِر <br><br>تَرَكْتنِي فِي الدَّار ذَا غُرْبَة .......... قَدْ ذُلَّ مَنْ لَيْسَ لَهُ نَاصِر<br>

إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ

أَيْ قَصَدْت بِعِبَادَتِي وَتَوْحِيدِي لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَحْده . وَذَكَرَ الْوَجْه لِأَنَّهُ أَظْهَر مَا يَعْرِف بِهِ الْإِنْسَان صَاحِبه . | حَنِيفًا | مَائِلًا إِلَى الْحَقّ .|وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ|اِسْم | مَا | وَخَبَرهَا . وَإِذَا وَقَفْت قُلْت : | أَنَا | زِدْت الْأَلِف لِبَيَانِ الْحَرَكَة , وَهِيَ اللُّغَة الْفَصِيحَة . وَقَالَ الْأَخْفَش : وَمِنْ الْعَرَب مَنْ يَقُول : | أَنَ | . وَقَالَ الْكِسَائِيّ : وَمِنْ الْعَرَب مَنْ يَقُول : | أَنَهْ | . ثَلَاث لُغَات . وَفِي الْوَصْل أَيْضًا ثَلَاث لُغَات : أَنْ تُحْذَف الْأَلِف فِي الْإِدْرَاج ; لِأَنَّهَا زَائِدَة لِبَيَانِ الْحَرَكَة فِي الْوَقْف . وَمِنْ الْعَرَب مَنْ يُثْبِت الْأَلِف فِي الْوَصْل ; كَمَا قَالَ الشَّاعِر : <br>أَنَا سَيْف الْعَشِيرَة فَاعْرِفُونِي <br>وَهِيَ لُغَة بَعْض بَنِي قَيْس وَرَبِيعَة ; عَنْ الْفَرَّاء . وَمِنْ الْعَرَب مَنْ يَقُول فِي الْوَصْل : آن فَعَلْت , مِثْل عَان فَعَلْت ; حَكَاهُ الْكِسَائِيّ عَنْ بَعْض قُضَاعَة .

وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ

دَلِيل عَلَى الْحِجَاج وَالْجِدَال ؟ حَاجُّوهُ فِي تَوْحِيد اللَّه .|قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِي|قَرَأَ نَافِع بِتَخْفِيفِ النُّون , وَشَدَّدَ النُّون الْبَاقُونَ . وَفِيهِ عَنْ اِبْن عَامِر مِنْ رِوَايَة هِشَام عَنْهُ خِلَاف ; فَمَنْ شَدَّدَ قَالَ : الْأَصْل فِيهِ نُونَانِ , الْأُولَى عَلَامَة الرَّفْع وَالثَّانِيَة فَاصِلَة بَيْن الْفِعْل وَالْيَاء ; فَلَمَّا اِجْتَمَعَ مِثْلَانِ فِي فِعْل وَذَلِكَ ثَقِيل أَدْغَمَ النُّون فِي الْأُخْرَى فَوَقَعَ التَّشْدِيد وَلَا بُدّ مِنْ مَدّ الْوَاو لِئَلَّا يَلْتَقِي السَّاكِنَانِ , الْوَاو وَأَوَّل الْمُشَدَّد ; فَصَارَتْ الْمَدَّة فَاصِلَة بَيْن السَّاكِنَيْنِ . وَمَنْ خَفَّفَ حَذَفَ النُّون الثَّانِيَة اِسْتِخْفَافًا لِاجْتِمَاعِ الْمِثْلَيْنِ , وَلَمْ تُحْذَف الْأُولَى لِأَنَّهَا عَلَامَة الرَّفْع ; فَلَوْ حُذِفَتْ لَاشْتَبَهَ الْمَرْفُوع بِالْمَجْزُومِ وَالْمَنْصُوب . وَحُكِيَ عَنْ أَبِي عَمْرو بْن الْعَلَاء أَنَّ هَذِهِ الْقِرَاءَة لَحْن . وَأَجَازَ سِيبَوَيْهِ ذَلِكَ فَقَالَ : اِسْتَثْقَلُوا التَّضْعِيف . وَأَنْشَدَ : <br>تَرَاهُ كَالثَّغَامِ يُعَلّ مِسْكًا .......... يَسُوء الْفَالِيَات إِذَا فَلِينِي<br>|وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ|أَيْ لِأَنَّهُ لَا يَنْفَع وَلَا يَضُرّ وَكَانُوا خَوَّفُوهُ بِكَثْرَةِ آلِهَتهمْ إِلَّا أَنْ يُحْيِيه اللَّه وَيُقْدِرهُ فَيَخَاف ضَرَره حِينَئِذٍ .|إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا|أَيْ إِلَّا أَنْ يَشَاء أَنْ يَلْحَقنِي شَيْء مِنْ الْمَكْرُوه بِذَنْبٍ عَمِلْته فَتَتِمّ مَشِيئَته . وَهَذَا اِسْتِثْنَاء لَيْسَ مِنْ الْأَوَّل . وَالْهَاء فِي | بِهِ | يَحْتَمِل أَنْ تَكُون لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ , وَيَجُوز أَنْ تَكُون لِلْمَعْبُودِ . وَقَالَ : | إِلَّا أَنْ يَشَاء رَبِّي | يَعْنِي أَنَّ اللَّه تَعَالَى لَا يَشَاء أَنْ أَخَافهُمْ .|وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ|أَيْ وَسِعَ عِلْمه كُلّ شَيْء . وَقَدْ تَقَدَّمَ .

وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ

فَفِي | كَيْفَ | مَعْنَى الْإِنْكَار ; أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ تَخْوِيفهمْ إِيَّاهُ بِالْأَصْنَامِ وَهُمْ لَا يَخَافُونَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ ; أَيْ كَيْفَ أَخَاف مَوَاتًا وَأَنْتُمْ لَا تَخَافُونَ اللَّه الْقَادِر عَلَى كُلّ شَيْء | مَا لَمْ يُنَزِّل بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا | أَيْ حُجَّة ; وَقَدْ تَقَدَّمَ . | فَأَيّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقّ بِالْأَمْنِ | أَيْ مِنْ عَذَاب اللَّه : الْمُوَحِّد أَمْ الْمُشْرِك ; فَقَالَ اللَّه قَاضِيًا بَيْنهمْ

الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ

أَيْ بِشِرْكٍ ; قَالَهُ أَبُو بَكْر الصِّدِّيق وَعَلِيّ وَسَلْمَان وَحُذَيْفَة , رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : هُوَ مِنْ قَوْل إِبْرَاهِيم ; كَمَا يَسْأَل الْعَالِم وَيُجِيب نَفْسه . وَقِيلَ : هُوَ مِنْ قَوْل قَوْم إِبْرَاهِيم ; أَيْ أَجَابُوا بِمَا هُوَ حُجَّة عَلَيْهِمْ ; قَالَهُ اِبْن جُرَيْج . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ اِبْن مَسْعُود لَمَّا نَزَلَتْ | الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبَسُوا إِيمَانهمْ بِظُلْمٍ | شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا : أَيّنَا لَمْ يَظْلِم نَفْسه ؟ فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَيْسَ هُوَ كَمَا تَظُنُّونَ إِنَّمَا هُوَ كَمَا قَالَ لُقْمَان لِابْنِهِ | يَا بُنَيّ لَا تُشْرِك بِاَللَّهِ إِنَّ الشِّرْك لَظُلْم عَظِيم | [ لُقْمَان : 13 ] . | وَهُمْ مُهْتَدُونَ | أَيْ فِي الدُّنْيَا .

وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ

تِلْكَ إِشَارَة إِلَى جَمِيع اِحْتِجَاجَاته حَتَّى خَاصَمَهُمْ وَغَلَبَهُمْ بِالْحُجَّةِ . وَقَالَ مُجَاهِد : هِيَ قَوْله : | الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانهمْ بِظُلْمٍ | . وَقِيلَ : حُجَّته عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا لَهُ : أَمَا تَخَاف أَنْ تَخْبِلك آلِهَتنَا لِسَبِّك إِيَّاهَا ؟ قَالَ لَهُمْ : أَفَلَا تَخَافُونَ أَنْتُمْ مِنْهَا إِذْ سَوَّيْتُمْ بَيْن الصَّغِير وَالْكَبِير فِي الْعِبَادَة وَالتَّعْظِيم ; فَيَغْضَب الْكَبِير فَيَخْبِلكُمْ ؟ .|نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ|أَيْ بِالْعِلْمِ وَالْفَهْم وَالْإِمَامَة وَالْمُلْك . وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ | دَرَجَات | بِالتَّنْوِينِ . وَمِثْله فِي | يُوسُف | أَوْقَعُوا الْفِعْل عَلَى | مَنْ | لِأَنَّهُ الْمَرْفُوع فِي الْحَقِيقَة , التَّقْدِير : وَنَرْفَع مَنْ نَشَاء إِلَى دَرَجَات . ثُمَّ حُذِفَتْ إِلَى . وَقَرَأَ أَهْل الْحَرَمَيْنِ وَأَبُو عَمْرو بِغَيْرِ تَنْوِين عَلَى الْإِضَافَة , وَالْفِعْل وَاقِع عَلَى الدَّرَجَات , وَإِذَا رُفِعَتْ فَقَدْ رُفِعَ صَاحِبهَا . يُقَوِّي هَذِهِ الْقِرَاءَة قَوْله تَعَالَى : | رَفِيع الدَّرَجَات | [ غَافِر : 15 ] وَقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : | اللَّهُمَّ اِرْفَعْ دَرَجَته ) . فَأَضَافَ الرَّفْع إِلَى الدَّرَجَات . وَهُوَ لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الرَّفِيع الْمُتَعَالِي فِي شَرَفه وَفَضْله . فَالْقِرَاءَتَانِ مُتَقَارِبَتَانِ ; لِأَنَّ مِنْ رُفِعَتْ دَرَجَاته فَقَدْ رُفِعَ , وَمَنْ رُفِعَ فَقَدْ رُفِعَتْ دَرَجَاته , فَاعْلَمْ .|إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ|يَضَع كُلّ شَيْء مَوْضِعه .

وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ

أَيْ جَزَاء لَهُ عَلَى الِاحْتِجَاج فِي الدِّين وَبَذْل النَّفْس فِيهِ .|كُلًّا هَدَيْنَا|أَيْ كُلّ وَاحِد مِنْهُمْ مُهْتَدٍ . و | كُلًّا | نُصِبَ ب | هَدْينَا ||وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ|نُصِبَ ب | هَدْينَا | الثَّانِي . | وَمِنْ ذُرِّيَّته | أَيْ ذُرِّيَّة إِبْرَاهِيم . وَقِيلَ : مِنْ ذُرِّيَّة نُوح ; قَالَهُ الْفَرَّاء وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيّ وَغَيْر وَاحِد مِنْ الْمُفَسِّرِينَ كَالْقُشَيْرِيّ وَابْن عَطِيَّة وَغَيْرهمَا . وَالْأَوَّل قَالَهُ الزَّجَّاج , وَاعْتَرَضَ بِأَنَّهُ عُدَّ مِنْ هَذِهِ الذُّرِّيَّة يُونُس وَلُوط وَمَا كَانَا مِنْ ذُرِّيَّة إِبْرَاهِيم . وَكَانَ لُوط اِبْن أَخِيهِ . وَقِيلَ : اِبْن أُخْته . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاء جَمِيعًا مُضَافُونَ إِلَى ذُرِّيَّة إِبْرَاهِيم , وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ لَمْ تَلْحَقهُ وِلَادَة مِنْ جِهَته مِنْ جِهَة أَب وَلَا أُمّ ; لِأَنَّ لُوطًا اِبْن أَخِي إِبْرَاهِيم . وَالْعَرَب تَجْعَل الْعَمّ أَبًا كَمَا أَخْبَرَ اللَّه عَنْ وَلَد يَعْقُوب أَنَّهُمْ قَالُوا : | نَعْبُد إِلَهك وَإِلَه آبَائِك إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق | [ الْبَقَرَة : 133 ] . وَإِسْمَاعِيل عَمّ يَعْقُوب . وَعَدَّ عِيسَى مِنْ ذُرِّيَّة إِبْرَاهِيم وَإِنَّمَا هُوَ اِبْن الْبِنْت . فَأَوْلَاد فَاطِمَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا ذُرِّيَّة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَبِهَذَا تَمَسَّكَ مَنْ رَأَى أَنَّ وَلَد الْبَنَات يَدْخُلُونَ فِي اِسْم الْوَلَد وَهِيَ :</p><p>قَالَ أَبُو حَنِيفَة وَالشَّافِعِيّ : مَنْ وَقَفَ وَقْفًا عَلَى وَلَده وَوَلَد وَلَده أَنَّهُ يَدْخُل فِيهِ وَلَد وَلَده وَوَلَد بَنَاته مَا تَنَاسَلُوا . وَكَذَلِكَ إِذَا أَوْصَى لِقَرَابَتِهِ يَدْخُل فِيهِ وَلَد الْبَنَات . وَالْقَرَابَة عِنْد أَبِي حَنِيفَة كُلّ ذِي رَحِم مُحَرَّم . وَيَسْقُط عِنْده اِبْن الْعَمّ وَالْعَمَّة وَابْن الْخَال وَالْخَالَة ; لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمُحْرِمِينَ . وَقَالَ الشَّافِعِيّ : الْقَرَابَة كُلّ ذِي رَحِم مُحَرَّم وَغَيْره . فَلَمْ يَسْقُط عِنْده اِبْن الْعَمّ وَلَا غَيْره . وَقَالَ مَالِك : لَا يَدْخُل فِي ذَلِكَ وَلَد الْبَنَات . وَقَوْله : لِقَرَابَتِي وَعَقِبِي كَقَوْلِهِ : لِوَلَدِي وَوَلَد وَلَدِي . يَدْخُل فِي ذَلِكَ وَلَد الْبَنِينَ وَمَنْ يَرْجِع إِلَى عَصَبَة الْأَب وَصُلْبه , وَلَا يَدْخُل فِي ذَلِكَ وَلَد الْبَنَات . وَقَدْ تَقَدَّمَ نَحْو هَذَا عَنْ الشَّافِعِيّ فِي | آل عِمْرَان | . وَالْحُجَّة لَهُمَا قَوْله سُبْحَانه : | يُوصِيكُمْ اللَّه فِي أَوْلَادكُمْ | [ النِّسَاء : 11 ] فَلَمْ يَعْقِل الْمُسْلِمُونَ مِنْ ظَاهِر الْآيَة إِلَّا وَلَد الصُّلْب وَوَلَد الِابْن خَاصَّة . وَقَالَ تَعَالَى : | وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى | [ الْأَنْفَال : 41 ] فَأَعْطَى عَلَيْهِ السَّلَام الْقَرَابَة مِنْهُمْ مِنْ أَعْمَامه دُون بَنِي أَخْوَاله . فَكَذَلِكَ وَلَد الْبَنَات لَا يَنْتَمُونَ إِلَيْهِ بِالنَّسَبِ , وَلَا يَلْتَقُونَ مَعَهُ فِي أَب . قَالَ اِبْن الْقَصَّار : وَحُجَّة مَنْ أَدْخَلَ الْبَنَات فِي الْأَقَارِب قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لِلْحَسَنِ بْن عَلِيّ ( إِنَّ اِبْنِي هَذَا سَيِّد ) . وَلَا نَعْلَم أَحَدًا يَمْتَنِع أَنْ يَقُول فِي وَلَد الْبَنَات إِنَّهُمْ وَلَد لِأَبِي أُمّهمْ . وَالْمَعْنَى يَقْتَضِي ذَلِكَ ; لِأَنَّ الْوَلَد مُشْتَقّ مِنْ التَّوَلُّد وَهُمْ مُتَوَلِّدُونَ عَنْ أَبِي أُمّهمْ لَا مَحَالَة ; وَالتَّوَلُّد مِنْ جِهَة الْأُمّ كَالتَّوَلُّدِ مِنْ جِهَة الْأَب . وَقَدْ دَلَّ الْقُرْآن عَلَى ذَلِكَ , قَالَ اللَّه تَعَالَى : | وَمِنْ ذُرِّيَّته دَاوُد وَسُلَيْمَان | إِلَى قَوْله | مِنْ الصَّالِحِينَ | .|وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ|إِلَى قَوْله | مِنْ الصَّالِحِينَ | فَجَعَلَ عِيسَى مِنْ ذُرِّيَّته وَهُوَ اِبْن اِبْنَته .

وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ

قَدْ تَقَدمَ فِي |النساء| بَيَانُ مُا لَا يَنْصَرِف مِنْ هْذِهِ الْأَسْمَاء ولَمْ يَنْصَرِف دَاوُد لِأَنَّهُ اِسْم أَعْجَمِيّ , وَلَمَّا كَانَ عَلَى فَاعُول لَا يَحْسُن فِيهِ الْأَلِف وَاللَّام لَمْ يَنْصَرِف . وَإِلْيَاس أَعْجَمِيّ . قَالَ الضَّحَّاك : كَانَ إِلْيَاس مِنْ وَلَد إِسْمَاعِيل . وَذَكَرَ الْقُتَبِيّ قَالَ : كَانَ مِنْ سِبْط يُوشَع بْن نُون . وَقَرَأَ الْأَعْرَج وَالْحَسَن وَقَتَادَة | وَالِيَاس | بِوَصْلِ الْأَلِف . وَقَرَأَ أَهْل الْحَرَمَيْنِ وَأَبُو عَمْرو وَعَاصِم | وَاَلْيَسَع | بِلَامٍ مُخَفَّفَة . وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ إِلَّا عَاصِمًا | وَالْيَسَع | . وَكَذَا قَرَأَ الْكِسَائِيّ , وَرَدَّ قِرَاءَة مَنْ قَرَأَ | وَاَلْيَسَع | قَالَ : لِأَنَّهُ لَا يُقَال الْيَفْعَل مِثْل الْيَحْيَى . قَالَ النَّحَّاس : وَهَذَا الرَّدّ لَا يَلْزَم , وَالْعَرَب تَقُول : الْيَعْمَل وَالْيَحْمَد , وَلَوْ نَكَّرْت يَحْيَى لَقُلْت الْيَحْيَى . وَرَدَّ أَبُو حَاتِم عَلَى مَنْ قَرَأَ | الْيَسَع | وَقَالَ : لَا يُوجَد لَيْسَع . وَقَالَ النَّحَّاس : وَهَذَا الرَّدّ لَا يَلْزَم , فَقَدْ جَاءَ فِي كَلَام الْعَرَب حَيْدَر وَزَيْنَب , وَالْحَقّ فِي هَذَا أَنَّهُ اِسْم أَعْجَمِيّ , وَالْعُجْمَة لَا تُؤْخَذ بِالْقِيَاسِ إِنَّمَا تُؤْخَذ سَمَاعًا وَالْعَرَب تُغَيِّرهَا كَثِيرًا , فَلَا يُنْكَر أَنْ يَأْتِي الِاسْم بِلُغَتَيْنِ . قَالَ مَكِّيّ : مَنْ قَرَأَ بِلَامَيْنِ فَأَصْل الِاسْم لَيْسَع , ثُمَّ دَخَلَتْ الْأَلِف وَاللَّام لِلتَّعْرِيفِ . وَلَوْ كَانَ أَصْله يَسَع مَا دَخَلَتْهُ الْأَلِف وَاللَّام ; إِذْ لَا يَدْخُلَانِ عَلَى يَزِيد وَيَشْكُر : اِسْمَيْنِ لِرَجُلَيْنِ ; لِأَنَّهُمَا مَعْرِفَتَانِ عَلَمَانِ . فَأَمَّا | لَيْسَع | نَكِرَة فَتَدْخُلهُ الْأَلِف وَاللَّام لِلتَّعْرِيفِ , وَالْقِرَاءَة بِلَامٍ وَاحِدَة أَحَبّ إِلَيَّ ; لِأَنَّ أَكْثَر الْقُرَّاء عَلَيْهِ . وَقَالَ الْمَهْدَوِيّ : مَنْ قَرَأَ | الْيَسَع | بِلَامٍ وَاحِدَة فَالِاسْم يَسَع , وَدَخَلَتْ الْأَلِف وَاللَّام زَائِدَتَيْنِ , كَزِيَادَتِهِمَا فِي نَحْو الْخَمْسَة عَشَر , وَفِي نَحْو قَوْله : <br>وَجَدْنَا يَزِيد بْن الْوَلِيد مُبَارَكًا .......... شَدِيدًا بِأَعْبَاءِ الْخِلَافَة كَاهِلهُ <br>وَقَدْ زَادُوهَا فِي الْفِعْل الْمُضَارِع نَحْو قَوْله : <br>فَيُسْتَخْرَج الْيَرْبُوع مِنْ نَافِقَائِهِ .......... وَمِنْ بَيْته بِالشِّيخَةِ الْيَتَقَصَّعُ <br>يُرِيد الَّذِي يَتَقَصَّع . قَالَ الْقُشَيْرِيّ : قُرِئَ بِتَخْفِيفِ اللَّام وَالتَّشْدِيد . وَالْمَعْنَى وَاحِد فِي أَنَّهُ اِسْم لِنَبِيٍّ مَعْرُوف ; مِثْل إِسْمَاعِيل وَإِبْرَاهِيم , وَلَكِنْ خَرَجَ عَمَّا عَلَيْهِ الْأَسْمَاء الْأَعْجَمِيَّة بِإِدْخَالِ الْأَلِف وَاللَّام . وَتَوَهَّمَ قَوْم أَنَّ الْيَسَع هُوَ إِلْيَاس , وَلَيْسَ كَذَلِكَ ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى أَفْرَدَ كُلّ وَاحِد بِالذِّكْرِ . وَقَالَ وَهْب : الْيَسَع هُوَ صَاحِب إِلْيَاس , وَكَانَا قَبْل زَكَرِيَّاء وَيَحْيَى وَعِيسَى . وَقِيلَ : إِلْيَاس هُوَ إِدْرِيس وَهَذَا غَيْر صَحِيح لِأَنَّ إِدْرِيس جَدّ نُوح وَإِلْيَاس مِنْ ذُرِّيَّته . وَقِيلَ : إِلْيَاس هُوَ الْخَضِر . وَقِيلَ : لَا , بَلْ الْيَسَع هُوَ الْخَضِر .

وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ

| لُوطًا | اِسْم أَعْجَمِيّ اِنْصَرَفَ لِخِفَّتِهِ . وَسَيَأْتِي اِشْتِقَاقه فِي | الْأَعْرَاف | .

وَمِنْ آَبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ

| مِنْ | لِلتَّبْعِيضِ ; أَيْ هَدْينَا بَعْض آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتهمْ وَإِخْوَانهمْ .|وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ|قَالَ مُجَاهِد : خَلَّصْنَاهُمْ , وَهُوَ عِنْد أَهْل اللُّغَة بِمَعْنَى اِخْتَرْنَاهُمْ ; مُشْتَقّ مِنْ جَبَيْت الْمَاء فِي الْحَوْض أَيْ جَمَعْته . فَالِاجْتِبَاء ضَمّ الَّذِي تَجْتَبِيه إِلَى خَاصَّتك . قَالَ الْكِسَائِيّ : وَجَبَيْت الْمَاء فِي الْحَوْض جَبًّا , مَقْصُور . وَالْجَابِيَة الْحَوْض . قَالَ : <br>كَجَابِيَةِ الشَّيْخ الْعِرَاقِيّ تَفْهَق <br>وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى الِاصْطِفَاء وَالْهِدَايَة .

ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ

قَوْله تَعَالَى : | ذَلِكَ هُدَى اللَّه يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء مِنْ عِبَاده وَلَوْ أَشْرَكُوا | أَيْ لَوْ عَبَدُوا غَيْرِي لَحَبِطَتْ أَعْمَالهمْ , وَلَكِنِّي عَصَمْتهمْ . وَالْحُبُوط الْبُطْلَان . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي | الْبَقَرَة | .

أُولَئِكَ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ

اِبْتِدَاء وَخَبَر | وَالْحُكْم | الْعِلْم وَالْفِقْه .|فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا|أَيْ بِآيَاتِنَا .|هَؤُلَاءِ|أَيْ كُفَّار عَصْرك يَا مُحَمَّد .|فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا|جَوَاب الشَّرْط ; أَيْ وَكَّلْنَا بِالْإِيمَانِ بِهَا|قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ|يُرِيد الْأَنْصَار مِنْ أَهْل الْمَدِينَة وَالْمُهَاجِرِينَ مِنْ أَهْل مَكَّة . وَقَالَ قَتَادَة : يَعْنِي النَّبِيِّينَ الَّذِينَ قَصَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ . قَالَ النَّحَّاس : وَهَذَا الْقَوْل أَشْبَهَ بِالْمَعْنَى ; لِأَنَّهُ قَالَ بَعْد : | أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّه فَبِهُدَاهُمْ اِقْتَدِهِ | [ الْأَنْعَام : 90 ] . وَقَالَ أَبُو رَجَاء : هُمْ الْمَلَائِكَة . وَقِيلَ : هُوَ عَامّ فِي كُلّ مُؤْمِن مِنْ الْجِنّ وَالْإِنْس وَالْمَلَائِكَة . وَالْبَاء فِي | بِكَافِرِينَ | زَائِدَة عَلَى جِهَة التَّأْكِيد .

أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ

| فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهْ | الِاقْتِدَاء طَلَب مُوَافَقَة الْغَيْر فِي فِعْله . فَقِيلَ : الْمَعْنَى اِصْبِرْ كَمَا صَبَرُوا . وَفِيل : مَعْنَى | فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهْ | التَّوْحِيد وَالشَّرَائِع مُخْتَلِفَة . وَقَدْ اِحْتَجَّ بَعْض الْعُلَمَاء بِهَذِهِ الْآيَة عَلَى وُجُوب اِتِّبَاع شَرَائِع الْأَنْبِيَاء فِيمَا عُدِمَ فِيهِ النَّصّ ; كَمَا فِي صَحِيح مُسْلِم وَغَيْره : أَنَّ أُخْت الرَّبِيع أُمّ حَارِثَة جَرَحَتْ إِنْسَانًا فَاخْتَصَمُوا إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه وَعَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( الْقِصَاص الْقِصَاص ) فَقَالَتْ أُمّ الرَّبِيع : يَا رَسُول اللَّه أَيُقْتَصُّ مِنْ فُلَانَة ؟ ! وَاَللَّه لَا يُقْتَصّ مِنْهَا . فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( سُبْحَان اللَّه يَا أُمّ الرَّبِيع الْقِصَاص كِتَاب اللَّه ) . قَالَتْ : وَاَللَّه لَا يُقْتَصّ مِنْهَا أَبَدًا . قَالَ : فَمَا زَالَتْ حَتَّى قَبِلُوا الدِّيَة . فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ مِنْ عِبَاد اللَّه مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّه لَأَبَرَّهُ ) . فَأَحَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَوْله : | وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْس بِالنَّفْسِ | [ الْمَائِدَة : 45 ] الْآيَة . وَلَيْسَ فِي كِتَاب اللَّه تَعَالَى نَصّ عَلَى الْقِصَاص فِي السِّنّ إِلَّا فِي هَذِهِ الْآيَة ; وَهِيَ خَبَر عَنْ شَرْع التَّوْرَاة وَمَعَ ذَلِكَ فَحَكَمَ بِهَا وَأَحَالَ عَلَيْهَا . وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ مُعْظَم أَصْحَاب مَالِك وَأَصْحَاب الشَّافِعِيّ , وَأَنَّهُ يَجِب الْعَمَل بِمَا وُجِدَ مِنْهَا . قَالَ اِبْن بُكَيْر : وَهُوَ الَّذِي تَقْتَضِيه أُصُول مَالِك وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ كَثِير مِنْ أَصْحَاب مَالِك وَأَصْحَاب الشَّافِعِيّ وَالْمُعْتَزِلَة ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى : | لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَة وَمِنْهَاجًا | [ الْمَائِدَة : 48 ] . وَهَذَا لَا حُجَّة فِيهِ ; لِأَنَّهُ يَحْتَمِل التَّقْيِيد : إِلَّا فِيمَا قَصَّ عَلَيْكُمْ مِنْ الْأَخْبَار عَنْهُمْ مِمَّا لَمْ يَأْتِ مِنْ كِتَابكُمْ . وَفِي صَحِيح الْبُخَارِيّ عَنْ الْعَوَّام قَالَ : سَأَلْت مُجَاهِدًا عَنْ سَجْدَة | ص | فَقَالَ : سَأَلْت اِبْن عَبَّاس عَنْ سَجْدَة | ص | فَقَالَ : أَوَتَقْرَأُ | وَمِنْ ذُرِّيَّته دَاوُد وَسُلَيْمَان | [ الْأَنْعَام : 84 ] إِلَى قَوْله | أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّه فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهْ | ؟ وَكَانَ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام مِمَّنْ أَمَرَ نَبِيّكُمْ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ .</p><p>قَرَأَ حَمْزَة وَالْكِسَائِيّ | اِقْتَدِ قُلْ | بِغَيْرِ هَاء فِي الْوَصْل . وَقَرَأَ اِبْن عَامِر | اِقْتَدْ هِي قُلْ | . قَالَ النَّحَّاس : وَهَذَا لَحْن ; لِأَنَّ الْهَاء لِبَيَانِ الْحَرَكَة فِي الْوَقْف وَلَيْسَتْ بِهَاءِ إِضْمَار وَلَا بَعْدهَا وَاو وَلَا يَاء , وَكَذَلِكَ أَيْضًا لَا يَجُوز | فَبِهُدَاهُمْ اِقْتَدِ قُلْ | . وَمَنْ اِجْتَنَبَ اللَّحْن وَاتَّبَعَ السَّوَاد قَرَأَ | فَبِهُدَاهُمْ اِقْتَدِهْ | فَوَقَفَ وَلَمْ يَصِل ; لِأَنَّهُ إِنْ وَصَلَ بِالْهَاءِ لَحَنَ وَإِنْ حَذَفَهَا خَالَفَ السَّوَاد . وَقَرَأَ الْجُمْهُور بِالْهَاءِ فِي الْوَصْل عَلَى نِيَّة الْوَقْف وَعَلَى نِيَّة الْإِدْرَاج اِتِّبَاعًا لِثَبَاتِهَا فِي الْخَطّ . وَقَرَأَ اِبْن عَيَّاش وَهِشَام | اِقْتَدِهِ قُلْ | بِكَسْرِ الْهَاء , وَهُوَ غَلَط لَا يَجُوز فِي الْعَرَبِيَّة .|قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا|أَيْ جُعْلًا عَلَى الْقُرْآن .|إِنْ هُوَ|أَيْ الْقُرْآن .|إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ|أَيْ هُوَ مَوْعِظَة لِلْخَلْقِ . وَأَضَافَ الْهِدَايَة إِلَيْهِمْ فَقَالَ : | فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهْ | لِوُقُوعِ الْهِدَايَة بِهِمْ . وَقَالَ : | ذَلِكَ هُدَى اللَّه | لِأَنَّهُ الْخَالِق لِلْهِدَايَةِ .

وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا

أَيْ فِيمَا وَجَبَ لَهُ وَاسْتَحَالَ عَلَيْهِ وَجَازَ . قَالَ اِبْن عَبَّاس : مَا آمَنُوا أَنَّهُ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِير . وَقَالَ الْحَسَن : مَا عَظَّمُوهُ حَقّ عَظَمَته . وَهَذَا يَكُون مِنْ قَوْلهمْ : لِفُلَانٍ قَدْر . وَشَرْح هَذَا أَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا : | مَا أَنْزَلَ اللَّه عَلَى بَشَر مِنْ شَيْء | نَسَبُوا اللَّه عَزَّ وَجَلَّ إِلَى أَنَّهُ لَا يُقِيم الْحُجَّة عَلَى عِبَاده , وَلَا يَأْمُرهُمْ بِمَا لَهُمْ فِيهِ الصَّلَاح ; فَلَمْ يُعَظِّمُوهُ حَقّ عَظَمَته وَلَا عَرَفُوهُ حَقّ مَعْرِفَته . وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة : أَيْ مَا عَرَفُوا اللَّه حَقّ مَعْرِفَته . قَالَ النَّحَّاس : وَهَذَا مَعْنًى حَسَن ; لِأَنَّ مَعْنَى قَدَرْت الشَّيْء وَقَدَّرْته عَرَفْت مِقْدَاره . وَيَدُلّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى : | إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّه عَلَى بَشَر مِنْ شَيْء | أَيْ لَمْ يَعْرِفُوهُ حَقّ مَعْرِفَته ; إِذْ أَنْكَرُوا أَنْ يُرْسِل رَسُولًا . وَالْمَعْنَيَانِ مُتَقَارِبَانِ . وَقَدْ قِيلَ : وَمَا قَدَرُوا نِعْمَ اللَّه حَقّ تَقْدِيرهَا . وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَة | وَمَا قَدَرُوا اللَّه حَقّ قَدَره | بِفَتْحِ الدَّال , وَهِيَ لُغَة .|إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ|قَالَ اِبْن عَبَّاس وَغَيْره : يَعْنِي مُشْرِكِي قُرَيْش . وَقَالَ الْحَسَن وَسَعِيد بْن جُبَيْر : الَّذِي قَالَهُ أَحَد الْيَهُود , قَالَ : لَمْ يُنْزِل اللَّه كِتَابًا مِنْ السَّمَاء . قَالَ السُّدِّيّ : اِسْمه فِنْحَاص . وَعَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر أَيْضًا قَالَ : هُوَ مَالِك بْن الصَّيْف , جَاءَ يُخَاصِم النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَنْشُدك بِاَلَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاة عَلَى مُوسَى أَمَا تَجِد فِي التَّوْرَاة أَنَّ اللَّه يُبْغِض الْحَبْر السَّمِين ) ؟ وَكَانَ حَبْرًا سَمِينًا . فَغَضِبَ وَقَالَ : وَاَللَّه مَا أَنْزَلَ اللَّه عَلَى بَشَر مِنْ شَيْء . فَقَالَ لَهُ أَصْحَابه الَّذِينَ مَعَهُ : وَيْحك ! وَلَا عَلَى مُوسَى ؟ فَقَالَ : وَاَللَّه مَا أَنْزَلَ اللَّه عَلَى بَشَر مِنْ شَيْء ; فَنَزَلَتْ الْآيَة . ثُمَّ قَالَ نَقْضًا لِقَوْلِهِمْ وَرَدًّا عَلَيْهِمْ : | قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَاب الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ يَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيس أَيْ فِي قَرَاطِيس يُبْدُونَهَا وَيُخْفُونَ كَثِيرًا | هَذَا لِلْيَهُودِ الَّذِينَ أَخْفَوْا صِفَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرهَا مِنْ الْأَحْكَام .|قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ|خِطَاب لِلْمُشْرِكِينَ .|تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا|لِلْيَهُودِ .|وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ|لِلْمُسْلِمِينَ وَهَذَا يَصِحّ عَلَى قِرَاءَة مَنْ قَرَأَ | يَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيس يُبْدُونَهَا وَيُخْفُونَ | بِالْيَاءِ . وَالْوَجْه عَلَى قِرَاءَة التَّاء أَنْ يَكُون كُلّه لِلْيَهُودِ , وَيَكُون مَعْنَى | وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا | أَيْ وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَهُ أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ عَلَى وَجْه الْمَنّ عَلَيْهِمْ بِإِنْزَالِ التَّوْرَاة . وَجُعِلَتْ التَّوْرَاة صُحُفًا فَلِذَلِكَ قَالَ | قَرَاطِيس تُبْدُونَهَا | أَيْ تُبْدُونَ الْقَرَاطِيس . وَهَذَا ذَمّ لَهُمْ ; وَلِذَلِكَ كَرِهَ الْعُلَمَاء كُتُب الْقُرْآن أَجْزَاء .|قُلِ اللَّهُ|أَيْ قُلْ يَا مُحَمَّد اللَّه الَّذِي أَنْزَلَ ذَلِكَ الْكِتَاب عَلَى مُوسَى وَهَذَا الْكِتَاب عَلَيَّ . أَوْ قُلْ اللَّه عَلَّمَكُمْ الْكِتَاب .|ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ|أَيْ لَاعِبِينَ , وَلَوْ كَانَ جَوَابًا لِلْأَمْرِ لَقَالَ يَلْعَبُوا . وَمَعْنَى الْكَلَام التَّهْدِيد . وَقِيلَ : هُوَ مِنْ الْمَنْسُوخ بِالْقِتَالِ ; ثُمَّ قِيلَ : | يَجْعَلُونَهُ | فِي مَوْضِع الصِّفَة لِقَوْلِهِ | نُورًا وَهُدًى | فَيَكُون فِي الصِّلَة . وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون مُسْتَأْنَفًا , وَالتَّقْدِير : يَجْعَلُونَهُ ذَا قَرَاطِيس . وَقَوْله : | يُبْدُونَهَا وَيُخْفُونَ كَثِيرًا | يَحْتَمِل أَنْ يَكُون صِفَة لِقَرَاطِيس ; لِأَنَّ النَّكِرَة تُوصَف بِالْجُمَلِ . وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون مُسْتَأْنَفًا حَسْبَمَا تَقَدَّمَ .

وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ

يَعْنِي الْقُرْآن|أَنْزَلْنَاهُ|صِفَة|مُبَارَكٌ|أَيْ بُورِكَ فِيهِ , وَالْبَرَكَة الزِّيَادَة . وَيَجُوز نَصْبه فِي غَيْر الْقُرْآن عَلَى الْحَال .|مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ|أَيْ مِنْ الْكُتُب الْمُنَزَّلَة قَبْله , فَإِنَّهُ يُوَافِقهَا فِي نَفْي الشِّرْك وَإِثْبَات التَّوْحِيد .|وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا|يُرِيد مَكَّة وَالْمُرَاد أَهْلهَا , فَحُذِفَ الْمُضَاف ; أَيْ أَنْزَلْنَاهُ لِلْبَرَكَةِ وَالْإِنْذَار . | وَمَنْ حَوْلهَا | يَعْنِي جَمِيع الْآفَاق .|وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ|يُرِيد أَتْبَاع مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; بِدَلِيلِ قَوْله : | وَهُمْ عَلَى صَلَاتهمْ يُحَافِظُونَ | .|يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ|وَإِيمَان مَنْ آمَنَ بِالْآخِرَةِ وَلَمْ يُؤْمِن بِالنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَام وَلَا بِكِتَابِهِ غَيْر مُعْتَدّ بِهِ .

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِم

اِبْتِدَاء وَخَبَر ; أَيْ لَا أَحَد أَظْلَم .|مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا|أَيْ اِخْتَلَقَ .|أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ|فَزَعَمَ أَنَّهُ نَبِيّ|وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ|نَزَلَتْ فِي رَحْمَان الْيَمَامَة وَالْأَسْوَد الْعَنْسِيّ وَسَجَاح زَوْج مُسَيْلِمَة ; كُلّهمْ تَنَبَّأَ وَزَعَمَ أَنَّ اللَّه قَدْ أَوْحَى إِلَيْهِ . قَالَ قَتَادَة : بَلَغَنَا أَنَّ اللَّه أَنْزَلَ هَذَا فِي مُسَيْلِمَة ; وَقَالَهُ اِبْن عَبَّاس . قُلْت : وَمِنْ هَذَا النَّمَط مَنْ أَعْرَضَ عَنْ الْفِقْه وَالسُّنَن وَمَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَف مِنْ السُّنَن فَيَقُول : وَقَعَ فِي خَاطِرِي كَذَا , أَوْ أَخْبَرَنِي قَلْبِي بِكَذَا ; فَيَحْكُمُونَ بِمَا يَقَع فِي قُلُوبهمْ وَيَغْلِب عَلَيْهِمْ مِنْ خَوَاطِرهمْ , وَيَزْعُمُونَ أَنَّ ذَلِكَ لِصَفَائِهَا مِنْ الْأَكْدَار وَخُلُوّهَا مِنْ الْأَغْيَار , فَتَتَجَلَّى لَهُمْ الْعُلُوم الْإِلَهِيَّة وَالْحَقَائِق الرَّبَّانِيَّة , فَيَقِفُونَ عَلَى أَسْرَار الْكُلِّيَّات وَيَعْلَمُونَ أَحْكَام الْجُزْئِيَّات فَيَسْتَغْنُونَ بِهَا عَنْ أَحْكَام الشَّرَائِع الْكُلِّيَّات , وَيَقُولُونَ : هَذِهِ الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة الْعَامَّة , إِنَّمَا يُحْكَم بِهَا عَلَى الْأَغْبِيَاء وَالْعَامَّة , وَأَمَّا الْأَوْلِيَاء وَأَهْل الْخُصُوص , فَلَا يَحْتَاجُونَ لِتِلْكَ النُّصُوص . وَقَدْ جَاءَ فِيمَا يَنْقُلُونَ : اِسْتَفْتِ قَلْبك وَإِنْ أَفْتَاك الْمُفْتُونَ ; وَيَسْتَدِلُّونَ عَلَى هَذَا بِالْخَضِرِ ; وَأَنَّهُ اِسْتَغْنَى بِمَا تَجَلَّى لَهُ مِنْ تِلْكَ الْعُلُوم , عَمَّا كَانَ عِنْد مُوسَى مِنْ تِلْكَ الْفُهُوم . وَهَذَا الْقَوْل زَنْدَقَة وَكُفْر , يُقْتَل قَائِله وَلَا يُسْتَتَاب , وَلَا يَحْتَاج مَعَهُ إِلَى سُؤَال وَلَا جَوَاب ; فَإِنَّهُ يَلْزَم مِنْهُ هَدّ الْأَحْكَام وَإِثْبَات أَنْبِيَاء بَعْد نَبِيّنَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَسَيَأْتِي لِهَذَا الْمَعْنَى فِي | الْكَهْف | مَزِيد بَيَان إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .|وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ|| مَنْ | فِي مَوْضِع خَفْض ; أَيْ وَمَنْ أَظْلَم مِمَّنْ قَالَ سَأُنْزِلُ , وَالْمُرَاد عَبْد اللَّه بْن أَبِي سَرْح الَّذِي كَانَ يَكْتُب الْوَحْي لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , ثُمَّ اِرْتَدَّ وَلَحِقَ بِالْمُشْرِكِينَ . وَسَبَب ذَلِكَ فِيمَا ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ الْآيَة الَّتِي فِي | الْمُؤْمِنُونَ | : | وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَان مِنْ سُلَالَة مِنْ طِين | [ الْمُؤْمِنُونَ : 12 ] دَعَاهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمْلَاهَا عَلَيْهِ ; فَلَمَّا اِنْتَهَى إِلَى قَوْله | ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَر | [ الْمُؤْمِنُونَ : 14 ] عَجِبَ عَبْد اللَّه فِي تَفْصِيل خَلْق الْإِنْسَان فَقَالَ : | تَبَارَكَ اللَّه أَحْسَن الْخَالِقِينَ | [ الْمُؤْمِنُونَ : 14 ] . فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَهَكَذَا أُنْزِلَتْ عَلَيَّ ) فَشَكَّ عَبْد اللَّه حِينَئِذٍ وَقَالَ : لَئِنْ كَانَ مُحَمَّد صَادِقًا لَقَدْ أُوحِيَ إِلَيَّ كَمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ , وَلَئِنْ كَانَ كَاذِبًا لَقَدْ قُلْت كَمَا قَالَ . فَارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَام وَلَحِقَ بِالْمُشْرِكِينَ , فَذَلِكَ قَوْله : | وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْل مَا أَنْزَلَ اللَّه | رَوَاهُ الْكَلْبِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس . وَذَكَرَهُ مُحَمَّد بْن إِسْحَاق قَالَ حَدَّثَنِي شُرَحْبِيل قَالَ : نَزَلَتْ فِي عَبْد اللَّه بْن سَعْد بْن أَبِي سَرْح | وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْل مَا أَنْزَلَ اللَّه | اِرْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَام , فَلَمَّا دَخَلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّة أَمَرَ بِقَتْلِهِ وَقَتْل عَبْد اللَّه بْن خَطَل وَمَقِيس بْن صُبَابَة وَلَوْ وُجِدُوا تَحْت أَسْتَار الْكَعْبَة , فَفَرَّ عَبْد اللَّه بْن أَبِي سَرْح إِلَى عُثْمَان رَضِيَ اللَّه عَنْهُ , وَكَانَ أَخَاهُ مِنْ الرَّضَاعَة , أَرْضَعَتْ أُمّه عُثْمَان , فَغَيَّبَهُ عُثْمَان حَتَّى أَتَى بِهِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْد مَا اِطْمَأَنَّ أَهْل مَكَّة فَاسْتَأْمَنَهُ لَهُ ; فَصَمَتَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَوِيلًا ثُمَّ قَالَ : ( نَعَمْ ) . فَلَمَّا اِنْصَرَفَ عُثْمَان قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَا صُمْت إِلَّا لِيَقُومَ إِلَيْهِ بَعْضكُمْ فَيَضْرِب عُنُقه ) . فَقَالَ رَجُل مِنْ الْأَنْصَار : فَهَلَّا أَوْمَأْت إِلَيَّ يَا رَسُول اللَّه ؟ فَقَالَ : ( إِنَّ النَّبِيّ لَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُون لَهُ خَائِنَة الْأَعْيُن ) . قَالَ أَبُو عُمَر : وَأَسْلَمَ عَبْد اللَّه بْن سَعْد بْن أَبِي سَرْح أَيَّام الْفَتْح فَحَسُنَ إِسْلَامه , وَلَمْ يَظْهَر مِنْهُ مَا يُنْكَر عَلَيْهِ بَعْد ذَلِكَ . وَهُوَ أَحَد النُّجَبَاء الْعُقَلَاء الْكُرَمَاء مِنْ قُرَيْش , وَفَارِس بَنِي عَامِر بْن لُؤَيّ الْمَعْدُود فِيهِمْ , ثُمَّ وَلَّاهُ عُثْمَان بَعْد ذَلِكَ مِصْر سَنَة خَمْس وَعِشْرِينَ . وَفُتِحَ عَلَى يَدَيْهِ إِفْرِيقِيَّة سَنَة سَبْع وَعِشْرِينَ , وَغَزَا مِنْهَا الْأَسَاوِد مِنْ أَرْض النُّوبَة سَنَة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ , وَهُوَ هَادَنَهُمْ الْهُدْنَة الْبَاقِيَة إِلَى الْيَوْم . وَغَزَا الصَّوَارِي مِنْ أَرْض الرُّوم سَنَة أَرْبَع وَثَلَاثِينَ ; فَلَمَّا رَجَعَ مِنْ وِفَادَاته مَنَعَهُ اِبْن أَبِي حُذَيْفَة مِنْ دُخُول الْفُسْطَاط , فَمَضَى إِلَى عَسْقَلَان , فَأَقَامَ فِيهَا حَتَّى قُتِلَ عُثْمَان رَضِيَ اللَّه عَنْهُ . وَقِيلَ : بَلْ أَقَامَ بِالرَّمْلَةِ حَتَّى مَاتَ فَارًّا مِنْ الْفِتْنَة . وَدَعَا رَبّه فَقَالَ : اللَّهُمَّ اِجْعَلْ خَاتِمَة عَمَلِي صَلَاة الصُّبْح ; فَتَوَضَّأَ ثُمَّ صَلَّى فَقَرَأَ فِي الرَّكْعَة الْأُولَى بِأُمِّ الْقُرْآن وَالْعَادِيَات , وَفِي الثَّانِيَة بِأُمِّ الْقُرْآن وَسُورَة , ثُمَّ سَلَّمَ عَنْ يَمِينه , ثُمَّ ذَهَبَ يُسَلِّم عَنْ يَسَاره فَقَبَضَ اللَّه رُوحه . ذَكَرَ ذَلِكَ كُلّه يَزِيد بْن أَبِي حَبِيب وَغَيْره . وَلَمْ يُبَايِع لِعَلِيٍّ وَلَا لِمُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا . وَكَانَتْ وَفَاته قَبْل اِجْتِمَاع النَّاس عَلَى مُعَاوِيَة . وَقِيلَ : إِنَّهُ تُوُفِّيَ بِإِفْرِيقِيَّة . وَالصَّحِيح أَنَّهُ تُوُفِّيَ بِعَسْقَلَان سَنَة سِتّ أَوْ سَبْع وَثَلَاثِينَ . وَقِيلَ : سَنَة سِتّ وَثَلَاثِينَ . وَرَوَى حَفْص بْن عُمَر عَنْ الْحَكَم بْن أَبَان عَنْ عِكْرِمَة أَنَّ هَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ فِي النَّضْر بْن الْحَارِث ; لِأَنَّهُ عَارَضَ الْقُرْآن فَقَالَ : وَالطَّاحِنَات طَحْنًا . وَالْعَاجِنَات عَجْنًا . فَالْخَابِزَات خَبْزًا . فَاللَّاقِمَات لَقْمًا .|وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ|أَيْ شَدَائِده وَسَكَرَاته . وَالْغَمْرَة الشِّدَّة ; وَأَصْلهَا الشَّيْء الَّذِي يَغْمُر الْأَشْيَاء فَيُغَطِّيهَا . وَمِنْهُ غَمَرَهُ الْمَاء . ثُمَّ وُضِعَتْ فِي مَعْنَى الشَّدَائِد وَالْمَكَارِه . وَمِنْهُ غَمَرَات الْحَرْب . قَالَ الْجَوْهَرِيّ : وَالْغَمْرَة الشِّدَّة , وَالْجَمْع غُمَر مِثْل نَوْبَة وَنُوَب . قَالَ الْقُطَامِيّ يَصِف سَفِينَة نُوح عَلَيْهِ السَّلَام : <br>وَحَانَ لِتَالِكَ الْغُمَر اِنْحِسَار <br>وَغَمَرَات الْمَوْت شَدَائِده .|وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ|اِبْتِدَاء وَخَبَر . وَالْأَصْل بَاسِطُونَ . قِيلَ : بِالْعَذَابِ وَمَطَارِق الْحَدِيد ; عَنْ الْحَسَن وَالضَّحَّاك . وَقِيلَ : لِقَبْضِ أَرْوَاحهمْ ; وَفِي التَّنْزِيل : | وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَة يَضْرِبُونَ وُجُوههمْ وَأَدْبَارهمْ | [ الْأَنْفَال : 50 ] فَجَمَعَتْ هَذِهِ الْآيَة الْقَوْلَيْنِ . يُقَال : بَسَطَ إِلَيْهِ يَده بِالْمَكْرُوهِ .|أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ|أَيْ خَلِّصُوهَا مِنْ الْعَذَاب إِنْ أَمْكَنَكُمْ , وَهُوَ تَوْبِيخ . وَقِيلَ : أَخْرِجُوهَا كُرْهًا ; لِأَنَّ رُوح الْمُؤْمِن تَنْشَط لِلْخُرُوجِ لِلِقَاءِ رَبّه , وَرُوح الْكَافِر تُنْتَزَع اِنْتِزَاعًا شَدِيدًا , وَيُقَال : أَيَّتهَا النَّفْس الْخَبِيثَة اُخْرُجِي سَاخِطَة مَسْخُوطًا عَلَيْك إِلَى عَذَاب اللَّه وَهَوَانه ; كَذَا جَاءَ فِي حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة وَغَيْره . وَقَدْ أَتَيْنَا عَلَيْهِ فِي كِتَاب | التَّذْكِرَة | وَالْحَمْد لِلَّهِ . وَقِيلَ : هُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْل الْقَائِل لِمَنْ يُعَذِّبهُ : لَأُذِيقَنك الْعَذَاب وَلَأُخْرِجَن نَفْسك ; وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَا يُخْرِجُونَ أَنْفُسهمْ بَلْ يَقْبِضهَا مَلَك الْمَوْت وَأَعْوَانه . وَقِيلَ : يُقَال هَذَا لِلْكُفَّارِ وَهُمْ فِي النَّار . وَالْجَوَاب مَحْذُوف لِعِظَمِ الْأَمْر ; أَيْ وَلَوْ رَأَيْت الظَّالِمِينَ فِي هَذِهِ الْحَال لَرَأَيْت عَذَابًا عَظِيمًا . وَالْهَوْن وَالْهَوَان سَوَاء .|الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ|أَيْ تَتَعَظَّمُونَ وَتَأْنَفُونَ عَنْ قَبُول آيَاته .

وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُن

هَذِهِ عِبَارَة عَنْ الْحَشْر و | فُرَادَى | فِي مَوْضِع نَصْب عَلَى الْحَال , وَلَمْ يَنْصَرِف لِأَنَّ فِيهِ أَلِف تَأْنِيث . وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَة | فُرَادًا | بِالتَّنْوِينِ وَهِيَ لُغَة تَمِيم , وَلَا يَقُولُونَ فِي مَوْضِع الرَّفْع فُرَاد . وَحَكَى أَحْمَد بْن يَحْيَى | فُرَاد | بِلَا تَنْوِين , قَالَ : مِثْل ثُلَاث وَرُبَاع . و | فُرَادَى | جَمْع فُرْدَان كَسُكَارَى جَمْع سَكْرَان , وَكُسَالَى جَمْع كَسْلَان . وَقِيلَ : وَاحِده | فَرْد | بِجَزْمِ الرَّاء , و | فَرِد | بِكَسْرِهَا , و | فَرَد | بِفَتْحِهَا , و | فَرِيد | . وَالْمَعْنَى : جِئْتُمُونَا وَاحِدًا وَاحِدًا , كُلّ وَاحِد مِنْكُمْ مُنْفَرِدًا بِلَا أَهْل وَلَا مَال وَلَا وَلَد وَلَا نَاصِر مِمَّنْ كَانَ يُصَاحِبكُمْ فِي الْغَيّ , وَلَمْ يَنْفَعكُمْ مَا عَبَدْتُمْ مِنْ دُون اللَّه . وَقَرَأَ الْأَعْرَج | فَرْدَى | مِثْل سَكْرَى وَكَسْلَى بِغَيْرِ أَلِف .|كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ|أَيْ مُنْفَرِدِينَ كَمَا خُلِقْتُمْ . وَقِيلَ : عُرَاة كَمَا خَرَجْتُمْ مِنْ بُطُون أُمَّهَاتكُمْ حُفَاة غُرْلًا بُهْمًا لَيْسَ مَعَهُمْ شَيْء . وَقَالَ الْعُلَمَاء : يُحْشَر الْعَبْد غَدًا وَلَهُ مِنْ الْأَعْضَاء مَا كَانَ لَهُ يَوْم وُلِدَ ; فَمَنْ قُطِعَ مِنْهُ عُضْو يُرَدّ فِي الْقِيَامَة عَلَيْهِ . وَهَذَا مَعْنَى قَوْله : | غُرْلًا | أَيْ غَيْر مَخْتُونِينَ , أَيْ يُرَدّ عَلَيْهِمْ مَا قُطِعَ مِنْهُمْ عِنْد الْخِتَان .|وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ|أَيْ أَعْطَيْنَاكُمْ وَمَلَّكْنَاكُمْ . وَالْخَوْل : مَا أَعْطَاهُ اللَّه لِلْإِنْسَانِ مِنْ الْعَبِيد وَالنِّعَم .|وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ|أَيْ خَلْفكُمْ .|وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ|أَيْ الَّذِينَ عَبَدْتُمُوهُمْ وَجَعَلْتُمُوهُمْ شُرَكَاء يُرِيد الْأَصْنَام أَيْ شُرَكَائِي . وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَقُولُونَ : الْأَصْنَام شُرَكَاء اللَّه وَشُفَعَاؤُنَا عِنْده .|لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ|قَرَأَ نَافِع وَالْكِسَائِيّ وَحَفْص بِالنَّصْبِ عَلَى الظَّرْف , عَلَى مَعْنَى لَقَدْ تَقَطَّعَ وَصْلكُمْ بَيْنكُمْ . وَدَلَّ عَلَى حَذْف الْوَصْل قَوْله | وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمْ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ | . فَدَلَّ هَذَا عَلَى التَّقَاطُع وَالتَّهَاجُر بَيْنهمْ وَبَيْن شُرَكَائِهِمْ : إِذْ تَبَرَّءُوا مِنْهُمْ وَلَمْ يَكُونُوا مَعَهُمْ . وَمُقَاطَعَتهمْ لَهُمْ هُوَ تَرْكهمْ وَصْلهمْ لَهُمْ ; فَحَسُنَ إِضْمَار الْوَصْل بَعْد | تَقَطَّعَ | لِدَلَالَةِ الْكَلَام عَلَيْهِ . وَفِي حَرْف اِبْن مَسْعُود مَا يَدُلّ عَلَى النَّصْب فِيهِ لَقَدْ تَقَطَّعَ مَا بَيْنكُمْ وَهَذَا لَا يَجُوز فِيهِ إِلَّا النَّصْب , لِأَنَّك ذَكَرْت الْمُتَقَطِّع وَهُوَ | مَا | . كَأَنَّهُ قَالَ : لَقَدْ تَقَطَّعَ الْوَصْل بَيْنكُمْ . وَقِيلَ : الْمَعْنَى لَقَدْ تَقَطَّعَ الْأَمْر بَيْنكُمْ . وَالْمَعْنَى مُتَقَارِب . وَقَرَأَ الْبَاقُونَ | بَيْنُكُمْ | بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ اِسْم غَيْر ظَرْف , فَأُسْنِدَ الْفِعْل إِلَيْهِ فَرُفِعَ . وَيُقَوِّي جَعْل | بَيْن | اِسْمًا مِنْ جِهَة دُخُول حَرْف الْجَرّ عَلَيْهِ فِي قَوْله تَعَالَى : | وَمِنْ بَيْننَا وَبَيْنك حِجَاب | [ فُصِّلَتْ : 5 ] و | هَذَا فِرَاق بَيْنِي وَبَيْنك | [ الْكَهْف : 78 ] . وَيَجُوز أَنْ تَكُون قِرَاءَة النَّصْب عَلَى مَعْنَى الرَّفْع , وَإِنَّمَا نُصِبَ لِكَثْرَةِ اِسْتِعْمَاله ظَرْفًا مَنْصُوبًا وَهُوَ فِي مَوْضِع رَفْع , وَهُوَ مَذْهَب الْأَخْفَش ; فَالْقِرَاءَتَانِ عَلَى هَذَا بِمَعْنًى وَاحِد , فَاقْرَأْ بِأَيِّهِمَا شِئْت .|وَضَلَّ عَنْكُمْ|أَيْ ذَهَبَ .|مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ|أَيْ تَكْذِبُونَ بِهِ فِي الدُّنْيَا . رُوِيَ أَنَّ الْآيَة نَزَلَتْ فِي النَّضْر بْن الْحَارِث . وَرُوِيَ أَنَّ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا قَرَأَتْ قَوْل اللَّه تَعَالَى : | وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّل مَرَّة | فَقَالَتْ : يَا رَسُول اللَّه , وَاسَوْءَتَاهُ ! إِنَّ الرِّجَال وَالنِّسَاء يُحْشَرُونَ جَمِيعًا , يَنْظُر بَعْضهمْ إِلَى سَوْءَة بَعْض ؟ فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لِكُلِّ اِمْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمئِذٍ شَأْن يُغْنِيه لَا يَنْظُر الرِّجَال إِلَى النِّسَاء وَلَا النِّسَاء إِلَى الرِّجَال شُغِلَ بَعْضهمْ عَنْ بَعْض ) . وَهَذَا حَدِيث ثَابِت فِي الصَّحِيح أَخْرَجَهُ مُسْلِم بِمَعْنَاهُ .

إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ

عُدَّ مِنْ عَجَائِب صُنْعه مَا يَعْجِز عَنْ أَدْنَى شَيْء مِنْهُ آلِهَتهمْ . وَالْفَلْق : الشَّقّ ; أَيْ يَشُقّ النَّوَاة الْمَيِّتَة فَيُخْرِج مِنْهَا وَرَقًا أَخْضَر , وَكَذَلِكَ الْحَبَّة . وَيُخْرِج مِنْ الْوَرِق الْأَخْضَر نَوَاة مَيِّتَة وَحَبَّة ; وَهَذَا مَعْنَى يُخْرِج الْحَيّ مِنْ الْمَيِّت وَمُخْرِج الْمَيِّت مِنْ الْحَيّ ; عَنْ الْحَسَن وَقَتَادَة . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَالضَّحَّاك : مَعْنَى فَالِق خَالِق . وَقَالَ مُجَاهِد : عُنِيَ بِالْفَلْقِ الشَّقّ الَّذِي فِي الْحَبّ وَفِي النَّوَى . وَالنَّوَى جَمْع نَوَاة . وَيَجْرِي فِي كُلّ مَا لَهُ عَجْم كَالْمِشْمِشِ وَالْخَوْخ .|يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ|يُخْرِج الْبَشَر الْحَيّ مِنْ النُّطْفَة الْمَيِّتَة , وَالنُّطْفَة الْمَيِّتَة مِنْ الْبَشَر الْحَيّ ; عَنْ اِبْن عَبَّاس . وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْل قَتَادَة وَالْحَسَن . وَقَدْ مَضَى ذَلِكَ فِي | آل عِمْرَان | . وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ عَلِيّ : وَاَلَّذِي فَلَقَ الْحَبَّة وَبَرَأَ النَّسَمَة إِنَّهُ لَعَهْد النَّبِيّ الْأُمِّيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيَّ أَنْ لَا يُحِبّنِي إِلَّا مُؤْمِن وَلَا يُبْغِضنِي إِلَّا مُنَافِق .|ذَلِكُمُ اللَّهُ|اِبْتِدَاء وَخَبَر .|فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ|فَمِنْ أَيْنَ تُصْرَفُونَ عَنْ الْحَقّ مَعَ مَا تَرَوْنَ مِنْ قُدْرَة اللَّه جَلَّ وَعَزَّ .

فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ

قَوْله تَعَالَى : | فَالِق الْإِصْبَاح | نَعْت لِاسْمِ اللَّه تَعَالَى , أَيْ ذَلِكُمْ اللَّه رَبّكُمْ فَالِق الْإِصْبَاح . وَقِيلَ : الْمَعْنَى أَنَّ اللَّه فَالِق الْإِصْبَاح . وَالصُّبْح وَالصَّبَاح أَوَّل النَّهَار , وَكَذَلِكَ الْإِصْبَاح ; أَيْ فَالِق الصُّبْح كُلّ يَوْم , يُرِيد الْفَجْر . وَالْإِصْبَاح مَصْدَر أَصْبَحَ . وَالْمَعْنَى : شَاقّ الضِّيَاء عَنْ الظَّلَام وَكَاشِفه . وَقَالَ الضَّحَّاك : فَالِق الْإِصْبَاح خَالِق النَّهَار . وَهُوَ مَعْرِفَة لَا يَجُوز فِيهِ التَّنْوِين عِنْد أَحَد مِنْ النَّحْوِيِّينَ . وَقَرَأَ الْحَسَن وَعِيسَى بْن عُمَر | فَالِق الْأَصْبَاح | بِفَتْحِ الْهَمْزَة , وَهُوَ جَمْع صُبْح . وَرَوَى الْأَعْمَش عَنْ إِبْرَاهِيم النَّخَعِيّ أَنَّهُ قَرَأَ | فَلَقَ الْإِصْبَاحَ | عَلَى فَعَلَ , وَالْهَمْزَة مَكْسُورَة وَالْحَاء مَنْصُوبَة . وَقَرَأَ الْحَسَن وَعِيسَى بْن عُمَر وَحَمْزَة وَالْكِسَائِيّ | وَجَعَلَ اللَّيْل سَكَنًا | بِغَيْرِ أَلِف . وَنُصِبَ | اللَّيْل | حَمْلًا عَلَى مَعْنَى | فَالِق | فِي الْمَوْضِعَيْنِ ; لِأَنَّهُ بِمَعْنَى فَلَقَ , لِأَنَّهُ أَمْر قَدْ كَانَ فَحُمِلَ عَلَى الْمَعْنَى . وَأَيْضًا فَإِنَّ بَعْده أَفْعَالًا مَاضِيَة وَهُوَ قَوْله : | جَعَلَ لَكُمْ النُّجُوم | [ الْأَنْعَام : 97 ] . | أَنْزَلَ مِنْ السَّمَاء مَاء | [ الرَّعْد : 17 ] . فَحُمِلَ أَوَّل الْكَلَام عَلَى آخِره . يُقَوِّي ذَلِكَ إِجْمَاعهمْ عَلَى نَصْب الشَّمْس وَالْقَمَر عَلَى إِضْمَار فِعْل , وَلَمْ يَحْمِلُوهُ عَلَى فَاعِل فَيَخْفِضُوهُ ; قَالَهُ مَكِّيّ رَحِمَهُ اللَّه . وَقَالَ النَّحَّاس : وَقَدْ قَرَأَ يَزِيد بْن قَطِيب السَّكُونِيّ | جَاعِل اللَّيْل سَكَنًا وَالشَّمْس وَالْقَمَر حُسْبَانًا | بِالْخَفْضِ عَطْفًا عَلَى اللَّفْظ . قُلْت : فَيُرِيد مَكِّيّ وَالْمَهْدَوِيّ وَغَيْرهمَا إِجْمَاع الْقُرَّاء السَّبْعَة . وَاَللَّه أَعْلَم . وَقَرَأَ يَعْقُوب فِي رِوَايَة رُوَيْس عَنْهُ | وَجَاعِل اللَّيْل سَاكِنًا | . وَأَهْل الْمَدِينَة | وَجَاعِل اللَّيْل سَكَنَا | أَيْ مَحَلًّا لِلسُّكُونِ . وَفِي الْمُوَطَّإِ عَنْ يَحْيَى بْن سَعِيد أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدْعُو فَيَقُول : | اللَّهُمَّ فَالِق الْإِصْبَاح وَجَاعِل اللَّيْل سَكَنًا وَالشَّمْس وَالْقَمَر حُسْبَانًا اِقْضِ عَنِّي الدَّيْن وَاغْنِنِي مِنْ الْفَقْر وَأَمْتِعْنِي بِسَمْعِي وَبَصَرِي وَقُوَّتِي فِي سَبِيلك ) . فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ قَالَ ( وَأَمْتِعْنِي بِسَمْعِي وَبَصَرِي ) وَفِي كِتَاب النَّسَائِيّ وَالتِّرْمِذِيّ وَغَيْرهمَا ( وَاجْعَلْهُ الْوَارِث مِنِّي ) وَذَلِكَ يَفْنَى مَعَ الْبَدَن ؟ قِيلَ لَهُ : فِي الْكَلَام تَجَوُّز , وَالْمَعْنَى اللَّهُمَّ لَا تُعْدِمهُ قَبْلِي . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ الْمُرَاد بِالسَّمْعِ وَالْبَصَر هُنَا أَبُو بَكْر وَعُمَر ; لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام فِيهِمَا : ( هُمَا السَّمْع وَالْبَصَر ) . وَهَذَا تَأْوِيل بَعِيد , إِنَّمَا الْمُرَاد بِهِمَا الْجَارِحَتَانِ . وَمَعْنَى | حُسْبَانًا | أَيْ بِحِسَابٍ يَتَعَلَّق بِهِ مَصَالِح الْعِبَاد . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس فِي قَوْله جَلَّ وَعَزَّ : | وَالشَّمْس وَالْقَمَر حُسْبَانًا | أَيْ بِحِسَابٍ . قَالَ الْأَخْفَش : حُسْبَان جَمْع حِسَاب ; مِثْل شِهَاب وَشُهْبَان . وَقَالَ يَعْقُوب : حُسْبَان مَصْدَر حَسِبْت الشَّيْء أَحْسُبهُ حُسْبَانًا وَحِسَابًا وَحِسْبَة , وَالْحِسَاب الِاسْم . وَقَالَ غَيْره : جَعَلَ اللَّه تَعَالَى سَيْر الشَّمْس وَالْقَمَر بِحِسَابٍ لَا يَزِيد وَلَا يَنْقُص ; فَدَلَّهُمْ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بِذَلِكَ عَلَى قُدْرَته وَوَحْدَانِيّته . وَقِيلَ : | حُسْبَانًا | أَيْ ضِيَاء . وَالْحُسْبَان : النَّار فِي لُغَة ; وَقَدْ قَالَ اللَّه تَعَالَى : | وَيُرْسِل عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنْ السَّمَاء | [ الْكَهْف : 40 ] . قَالَ اِبْن عَبَّاس : نَارًا . وَالْحُسْبَانَة : الْوِسَادَة الصَّغِيرَة .

وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ

بَيَّنَ كَمَال قُدْرَته , وَفِي النُّجُوم مَنَافِع جَمَّة . ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَة بَعْض مَنَافِعهَا , وَهِيَ الَّتِي نَدَبَ الشَّرْع إِلَى مَعْرِفَتهَا ; وَفِي التَّنْزِيل : | وَحِفْظًا مِنْ كُلّ شَيْطَان مَارِد | [ الصَّافَّات : 7 ] . | وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ | [ الْمُلْك : 5 ] . و | جَعَلَ | هُنَا بِمَعْنَى خَلَقَ .|قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ|أَيْ بَيَّنَّاهَا مُفَصَّلَة لِتَكُونَ أَبْلَغ فِي الِاعْتِبَار .|لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ|خَصَّهُمْ لِأَنَّهُمْ الْمُنْتَفِعُونَ بِهَا .

وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ

يُرِيد آدَم عَلَيْهِ السَّلَام . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّل السُّورَة .|فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ|قَرَأَ اِبْن عَبَّاس وَسَعِيد بْن جُبَيْر وَالْحَسَن وَأَبُو عَمْرو وَعِيسَى وَالْأَعْرَج وَشَيْبَة وَالنَّخَعِيّ بِكَسْرِ الْقَاف , وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا . وَهِيَ فِي مَوْضِع رَفْع بِالِابْتِدَاءِ , إِلَّا أَنَّ التَّقْدِير فِيمَنْ كَسَرَ الْقَاف فَمِنْهَا | مُسْتَقَرّ | وَالْفَتْح بِمَعْنَى لَهَا | مُسْتَقَرّ | . قَالَ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود : فَلَهَا مُسْتَقَرّ فِي الرَّحِم وَمُسْتَوْدَع فِي الْأَرْض الَّتِي تَمُوت فِيهَا ; وَهَذَا التَّفْسِير يَدُلّ عَلَى الْفَتْح . وَقَالَ الْحَسَن : فَمُسْتَقَرّ فِي الْقَبْر . وَأَكْثَر أَهْل التَّفْسِير يَقُولُونَ : الْمُسْتَقَرّ مَا كَانَ فِي الرَّحِم , وَالْمُسْتَوْدَع مَا كَانَ فِي الصُّلْب ; رَوَاهُ سَعِيد بْن جُبَيْر عَنْ اِبْن عَبَّاس , وَقَالَهُ النَّخَعِيّ . وَعَنْ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا : مُسْتَقَرّ فِي الْأَرْض , وَمُسْتَوْدَع فِي الْأَصْلَاب . قَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر : قَالَ لِي اِبْن عَبَّاس هَلْ تَزَوَّجْت ؟ قُلْت : لَا ; فَقَالَ : إِنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ يَسْتَخْرِج مِنْ ظَهْرك مَا اِسْتَوْدَعَهُ فِيهِ . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا أَنَّ الْمُسْتَقَرّ مَنْ خُلِقَ , وَالْمُسْتَوْدَع مَنْ لَمْ يُخْلَق ; ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيّ . وَعَنْ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا : وَمُسْتَوْدَع عِنْد اللَّه . قُلْت : وَفِي التَّنْزِيل | وَلَكُمْ فِي الْأَرْض مُسْتَقَرّ وَمَتَاع إِلَى حِين | [ الْبَقَرَة : 36 ] وَالِاسْتِيدَاع إِشَارَة إِلَى كَوْنهمْ فِي الْقَبْر إِلَى أَنْ يُبْعَثُوا لِلْحِسَابِ . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَة .|قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ|قَالَ قَتَادَة : | فَصَّلْنَا | بَيَّنَّا وَقَرَّرْنَا . وَاَللَّه أَعْلَم .

وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّا

أَيْ الْمَطَر .|فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ|أَيْ كُلّ صِنْف مِنْ النَّبَات . وَقِيلَ : رِزْق كُلّ حَيَوَان .|فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا|قَالَ الْأَخْفَش : أَيْ أَخْضَر ; كَمَا تَقُول الْعَرَب : أَرِنِيهَا نَمِرَة أُرِكْهَا مَطِرَة . وَالْخَضِر رُطَب الْبُقُول . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : يُرِيد الْقَمْح وَالشَّعِير وَالسُّلْت وَالذُّرَة وَالْأَرُزّ وَسَائِر الْحُبُوب .|نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا|أَيْ يَرْكَب بَعْضه عَلَى بَعْض كَالسُّنْبُلَةِ .|وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ|اِبْتِدَاء وَخَبَر . وَأَجَازَ الْفَرَّاء فِي غَيْر الْقُرْآن | قِنْوَانًا دَانِيَة | عَلَى الْعَطْف عَلَى مَا قَبْله . قَالَ سِيبَوَيْهِ : وَمِنْ الْعَرَب مَنْ يَقُول : قِنْوَان . قَالَ الْفَرَّاء : هَذِهِ لُغَة قَيْس , وَأَهْل الْحِجَاز يَقُولُونَ : قِنْوَان , وَتَمِيم يَقُولُونَ : قِنْيَان ; ثُمَّ يَجْتَمِعُونَ فِي الْوَاحِد فَيَقُولُونَ : قِنْو وَقَنْو . وَالطَّلْع الْكُفُرَّى قَبْل أَنْ يَنْشَقّ عَنْ الْإِغْرِيض . وَالْإِغْرِيض يُسَمَّى طَلْعًا أَيْضًا . وَالطَّلْع ; مَا يُرَى مِنْ عِذْق النَّخْلَة . وَالْقِنْوَان : جَمْع قِنْو , وَتَثْنِيَته قِنْوَان كَصِنْوٍ وَصِنْوَانِ ( بِكَسْرِ النُّون ) . وَجَاءَ الْجَمْع عَلَى لَفْظ الِاثْنَيْنِ . قَالَ الْجَوْهَرِيّ وَغَيْره : الِاثْنَانِ صِنْوَانِ وَالْجَمْع صِنْوَانُ ( بِرَفْعِ النُّون ) . وَالْقِنْو : الْعِذْق وَالْجَمْع الْقِنْوَان وَالْأَقْنَاء ; قَالَ : <br>طَوِيلَة الْأَقْنَاء وَالْأَثَاكِل <br>غَيْره : | أَقْنَاء | جَمْع الْقِلَّة . قَالَ الْمَهْدَوِيّ : قَرَأَ اِبْن هُرْمُز | قَنْوَان | بِفَتْحِ الْقَاف , وَرُوِيَ عَنْهُ ضَمّهَا . فَعَلَى الْفَتْح هُوَ اِسْم لِلْجَمْعِ غَيْر مُكَسَّر , بِمَنْزِلَةِ رَكْب عِنْد سِيبَوَيْهِ , وَبِمَنْزِلَةِ الْبَاقِر وَالْجَامِل ; لِأَنَّ فِعْلَان لَيْسَ مِنْ أَمْثِلَة الْجَمْع , وَضَمّ الْقَاف عَلَى أَنَّهُ جَمْع قِنْو وَهُوَ الْعِذْق ( بِكَسْرِ الْعَيْن ) وَهِيَ الْكِبَاسَة , وَهِيَ عُنْقُود النَّخْلَة . وَالْعِذْق ( بِفَتْحِ الْعَيْن ) النَّخْلَة نَفْسهَا . وَقِيلَ : الْقِنْوَان الْجُمَّار . | دَانِيَة | قَرِيبَة , يَنَالهَا الْقَائِم وَالْقَاعِد . عَنْ اِبْن عَبَّاس وَالْبَرَاء بْن عَازِب وَغَيْرهمَا . وَقَالَ الزَّجَّاج : مِنْهَا دَانِيَة وَمِنْهَا بَعِيدَة ; فَحُذِفَ ; وَمِثْله | سَرَابِيل تَقِيكُمْ الْحَرّ | [ النَّحْل : 81 ] . وَخَصَّ الدَّانِيَة بِالذِّكْرِ , لِأَنَّ مِنْ الْغَرَض فِي الْآيَة ذِكْر الْقُدْرَة وَالِامْتِنَان بِالنِّعْمَةِ , وَالِامْتِنَان فِيمَا يَقْرَب مُتَنَاوَله أَكْثَر .|وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ|أَيْ وَأَخْرَجْنَا جَنَّات . وَقَرَأَ مُحَمَّد بْن عَبْد الرَّحْمَن بْن أَبِي لَيْلَى وَالْأَعْمَش , وَهُوَ الصَّحِيح مِنْ قِرَاءَة عَاصِم | وَجَنَّات | بِالرَّفْعِ . وَأَنْكَرَ هَذِهِ الْقِرَاءَة أَبُو عُبَيْد وَأَبُو حَاتِم , حَتَّى قَالَ أَبُو حَاتِم : هِيَ مُحَال ; لِأَنَّ الْجَنَّات لَا تَكُون مِنْ النَّخْل . قَالَ النَّحَّاس . وَالْقِرَاءَة جَائِزَة , وَلَيْسَ التَّأْوِيل عَلَى هَذَا , وَلَكِنَّهُ رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ وَالْخَبَر مَحْذُوف ; أَيْ وَلَهُمْ جَنَّات . كَمَا قَرَأَ جَمَاعَة مِنْ الْقُرَّاء | وَحُور عِين | [ الْوَاقِعَة : 22 ] . وَأَجَازَ مِثْل هَذَا سِيبَوَيْهِ وَالْكِسَائِيّ وَالْفَرَّاء ; وَمِثْله كَثِير . وَعَلَى هَذَا أَيْضًا | وَحُورًا عِينًا | حَكَاهُ سِيبَوَيْهِ , وَأَنْشَدَ : <br>جِئْنِي بِمِثْلِ بَنِي بَدْر لِقَوْمِهِمْ .......... أَوْ مِثْل أُسْرَة مَنْظُور بْن سَيَّار <br>وَقِيلَ : التَّقْدِير | وَجَنَّات مِنْ أَعْنَاب | أَخْرَجْنَاهَا ; كَقَوْلِك : أَكْرَمْت عَبْد اللَّه وَأَخُوهُ , أَيْ وَأَخُوهُ أَكْرَمْت أَيْضًا . فَأَمَّا الزَّيْتُون وَالرُّمَّان فَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا النَّصْب لِلْإِجْمَاعِ عَلَى ذَلِكَ . وَقِيلَ : | وَجَنَّات | بِالرَّفْعِ عَطْف عَلَى | قِنْوَان | لَفْظًا , وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي الْمَعْنَى مِنْ جِنْسهَا .|وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ|أَيْ مُتَشَابِهًا فِي الْأَوْرَاق ; أَيْ وَرَق الزَّيْتُون يُشْبِه وَرَق الرُّمَّان فِي اِشْتِمَاله عَلَى جَمِيع الْغُصْن وَفِي حَجْم الْوَرَق , وَغَيْر مُتَشَابِه فِي الذَّوَاق ; عَنْ قَتَادَة وَغَيْره . قَالَ اِبْن جُرَيْج : | مُتَشَابِهًا | فِي النَّظَر | وَغَيْر مُتَشَابِه | فِي الطَّعْم ; مِثْل الرُّمَّانَتَيْنِ لَوْنهمَا وَاحِد وَطَعَامهمَا مُخْتَلِف . وَخُصَّ الرُّمَّان وَالزَّيْتُون بِالذِّكْرِ لِقُرْبِهِمَا مِنْهُمْ وَمَكَانهمَا عِنْدهمْ . وَهُوَ كَقَوْلِهِ : | أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِل كَيْفَ خُلِقَتْ | [ الْغَاشِيَة : 17 ] . رَدَّهُمْ إِلَى الْإِبِل لِأَنَّهَا أَغْلَب مَا يَعْرِفُونَهُ .|انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ|أَيْ نَظَر الِاعْتِبَار لَا نَظَر الْإِبْصَار الْمُجَرَّد عَنْ التَّفَكُّر . وَالثَّمَر فِي اللُّغَة جَنَى الشَّجَر . وَقَرَأَ حَمْزَة وَالْكِسَائِيّ | ثُمُره | بِضَمِّ الثَّاء وَالْمِيم . وَالْبَاقُونَ بِالْفَتْحِ فِيهِمَا جَمْع ثَمَرَة , مِثْل بَقَرَة وَبَقَر وَشَجَرَة وَشَجَر . قَالَ مُجَاهِد الثَّمَر أَصْنَاف الْمَال , وَالتَّمْر ثَمَر النَّخْل . وَكَأَنَّ الْمَعْنَى عَلَى قَوْل مُجَاهِد : اُنْظُرُوا إِلَى الْأَمْوَال الَّتِي يَتَحَصَّل مِنْهُ الثَّمَر ; فَالثَّمَر بِضَمَّتَيْنِ جَمْع ثِمَار وَهُوَ الْمَال الْمُثْمِر . وَرُوِيَ عَنْ الْأَعْمَش | ثُمْره | بِضَمِّ الثَّاء وَسُكُون الْمِيم ; حُذِفَتْ الضَّمَّة لِثِقَلِهَا طَلَبًا لِلْخِفَّةِ . وَيَجُوز أَنْ يَكُون ثَمَر جَمْع ثَمَرَة مِثْل بَدَنَة وَبَدَن . وَيَجُوز أَنْ يَكُون ثَمَر جَمْع جَمْع , فَتَقُول : ثَمَرَة وَثِمَار وَثَمَر مِثْل حِمَار وَحُمُر . وَيَجُوز أَنْ يَكُون جَمْع ثَمَرَة كَخَشَبَةٍ وَخَشَب لَا جَمْع الْجَمْع .|وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ|قَرَأَ مُحَمَّد بْن السَّمَيْقَع | وَيَانِعه | . وَابْن مُحَيْصِن وَابْن أَبِي إِسْحَاق | وَيُنْعِهِ | بِضَمِّ الْيَاء . قَالَ الْفَرَّاء : هِيَ لُغَة بَعْض أَهْل نَجْد ; يُقَال : يَنَعَ الثَّمَر يَيْنَع , وَالثَّمَر يَانِع . وَأَيْنَعَ يُونِع وَالتَّمْر مُونِع . وَالْمَعْنَى : وَنُضْجه . يَنَعَ وَأَيْنَعَ إِذَا نَضِجَ وَأَدْرَكَ . قَالَ الْحَجَّاج فِي خُطْبَته : أَرَى رُءُوسًا قَدْ أَيْنَعَتْ وَحَانَ قِطَافهَا . قَالَ اِبْن الْأَنْبَارِيّ : الْيَنْع جَمْع يَانِع , كَرَاكِبٍ وَرَكْب , وَتَاجِر وَتَجْر , وَهُوَ الْمُدْرِك الْبَالِغ . وَقَالَ الْفَرَّاء : أَيْنَع أَكْثَر مِنْ يَنَعَ , وَمَعْنَاهُ أَحْمَر ; وَمِنْهُ مَا رُوِيَ فِي حَدِيث الْمُلَاعَنَة ( إِنْ وَلَدْته أَحْمَر مِثْل الْيَنَعَة ) وَهِيَ خَرَزَة حَمْرَاء , يُقَال : إِنَّهُ الْعَقِيق أَوْ نَوْع مِنْهُ . فَدَلَّتْ الْآيَة لِمَنْ تَدَبَّرَ وَنَظَرَ بِبَصَرِهِ وَقَلْبه , نَظَرَ مَنْ تَفَكَّرَ , أَنَّ الْمُتَغَيِّرَات لَا بُدّ لَهَا مِنْ مُغَيِّر ; وَذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ : | اُنْظُرُوا إِلَى ثَمَره إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعه | . فَتَرَاهُ أَوَّلًا طَلْعًا ثُمَّ إِغْرِيضًا إِذَا اِنْشَقَّ عَنْهُ الطَّلْع . وَالْإِغْرِيض يُسَمَّى ضَحْكًا أَيْضًا , ثُمَّ بَلْحًا , ثُمَّ سَيَّابًا , ثُمَّ جِدَالًا إِذْ اِخْضَرَّ وَاسْتَدَارَ قَبْل أَنْ يَشْتَدّ , ثُمَّ بُسْرًا إِذَا عَظُمَ , ثُمَّ زَهْوًا إِذَا اِحْمَرَّ ; يُقَال : أَزْهَى يُزْهِي , ثُمَّ مُوَكَّتًا إِذَا بَدَتْ فِيهِ نُقَط مِنْ الْإِرْطَاب . فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ قِبَل الذَّنْب فَهِيَ مُذْنِبَة , وَهُوَ التَّذْنُوب , فَإِذَا لَانَتْ فَهِيَ ثَعْدة , فَإِذَا بَلَغَ الْإِرْطَاب نِصْفهَا فَهِيَ مُجَزَّعَة , فَإِذَا بَلَغَ ثُلُثَيْهَا فَهِيَ حُلْقَانَة , فَإِذَا عَمَّهَا الْإِرْطَاب فَهِيَ مُنْسَبِتَة ; يُقَال : رُطَب مُنْسَبِت , ثُمَّ يَيْبَس فَيَصِير تَمْرًا . فَنَبَّهَ اللَّه تَعَالَى بِانْتِقَالِهَا مِنْ حَال إِلَى حَال وَتَغَيُّرهَا وَوُجُودهَا بَعْد أَنْ لَمْ تَكُنْ بَعْد عَلَى وَحْدَانِيّته وَكَمَال قُدْرَته , وَأَنَّ لَهَا صَانِعًا قَادِرًا عَالِمًا . وَدَلَّ عَلَى جَوَاز الْبَعْث ; لِإِيجَادِ النَّبَات بَعْد الْجَفَاف . قَالَ الْجَوْهَرِيّ : يَنَعَ الثَّمَر يَيْنَع وَيَيْنَع يَنْعًا وَيُنُوعًا , أَيْ نَضِجَ .</p><p>قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ قَالَ مَالِك : الْإِينَاع الطِّيب بِغَيْرِ فَسَاد وَلَا نَقْش . قَالَ مَالِك : وَالنَّقْش أَنْ يَنْقُش أَهْل الْبَصْرَة الثَّمَر حَتَّى يُرْطَب ; يُرِيد يُثْقَب فِيهِ بِحَيْثُ يُسْرِع دُخُول الْهَوَاء إِلَيْهِ فَيُرْطَب مُعَجَّلًا . فَلَيْسَ ذَلِكَ الْيَنْع الْمُرَاد فِي الْقُرْآن , وَلَا هُوَ الَّذِي رَبَطَ بِهِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَيْع , وَإِنَّمَا هُوَ مَا يَكُون مِنْ ذَاته بِغَيْرِ مُحَاوَلَة . وَفِي بَعْض بِلَاد التِّين , وَهِيَ الْبِلَاد الْبَارِدَة , لَا يَنْضَج حَتَّى يَدْخُل فِي فَمه عُود قَدْ دُهِنَ زَيْتًا , فَإِذَا طَابَ حَلَّ بَيْعه ; لِأَنَّ ذَلِكَ ضَرُورَة الْهَوَاء وَعَادَة الْبِلَاد , وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا طَابَ فِي وَقْت الطِّيب . قُلْت : وَهَذَا الْيَنْع الَّذِي يَقِف عَلَيْهِ جَوَاز بَيْع التَّمْر وَبِهِ يَطِيب أَكْلهَا وَيَأْمَن مِنْ الْعَاهَة , هُوَ عِنْد طُلُوع الثُّرَيَّا بِمَا أَجْرَى اللَّه سُبْحَانه مِنْ الْعَادَة وَأَحْكَمَهُ مِنْ الْعِلْم وَالْقُدْرَة . ذَكَرَ الْمُعَلَّى بْن أَسَد عَنْ وُهَيْب عَنْ عَسَل بْن سُفْيَان عَنْ عَطَاء عَنْ أَبِي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( إِذَا طَلَعَتْ الثُّرَيَّا صَبَاحًا رَفَعَتْ الْعَاهَة عَنْ أَهْل الْبَلَد ) . وَالثُّرَيَّا النَّجْم , لَا خِلَاف فِي ذَلِكَ . وَطُلُوعهَا صَبَاحًا لِاثْنَتَيْ عَشْرَة لَيْلَة تَمْضِي مِنْ شَهْر أَيَّار , وَهُوَ شَهْر مَايُو . وَفِي الْبُخَارِيّ : وَأَخْبَرَنِي خَارِجَة بْن زَيْد بْن ثَابِت أَنَّ زَيْد بْن ثَابِت لَمْ يَكُنْ يَبِيع ثِمَار أَرْضه حَتَّى تَطْلُع الثُّرَيَّا فَيَتَبَيَّن الْأَصْفَر مِنْ الْأَحْمَر .</p><p>وَقَدْ اِسْتَدَلَّ مَنْ أَسْقَطَ الْجَوَائِح فِي الثِّمَار بِهَذِهِ الْآثَار , وَمَا كَانَ مِثْلهَا مِنْ نَهْيه عَلَيْهِ السَّلَام عَنْ بَيْع الثَّمَرَة حَتَّى يَبْدُو صَلَاحهَا , وَعَنْ بَيْع الثِّمَار حَتَّى تَذْهَب الْعَاهَة . قَالَ عُثْمَان بْن سُرَاقَة : فَسَأَلْت اِبْن عُمَر مَتَى هَذَا ؟ فَقَالَ : طُلُوع الثُّرَيَّا . قَالَ الشَّافِعِيّ : لَمْ يَثْبُت عِنْدِي أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِوَضْعِ الْجَوَائِح , وَلَوْ ثَبَتَ عِنْدِي لَمْ أَعُدَّهُ , وَالْأَصْل الْمُجْتَمَع عَلَيْهِ أَنَّ كُلّ مَنْ اِبْتَاعَ مَا يَجُوز بَيْعه وَقَبَضَهُ كَانَتْ الْمُصِيبَة مِنْهُ , قَالَ : وَلَوْ كُنْت قَائِلًا بِوَضْعِ الْجَوَائِح لَوَضَعَتْهَا فِي الْقَلِيل وَالْكَثِير . وَهُوَ قَوْل الثَّوْرِيّ وَالْكُوفِيِّينَ . وَذَهَبَ مَالِك وَأَكْثَر أَهْل الْمَدِينَة إِلَى وَضْعهَا ; لِحَدِيثِ جَابِر أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِوَضْعِ الْجَوَائِح . أَخْرَجَهُ مُسْلِم . وَبِهِ كَانَ يَقْضِي عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز , وَهُوَ قَوْل أَحْمَد بْن حَنْبَل وَسَائِر أَصْحَاب الْحَدِيث . وَأَهْل الظَّاهِر وَضَعُوهَا عَنْ الْمُبْتَاع فِي الْقَلِيل وَالْكَثِير عَلَى عُمُوم الْحَدِيث ; إِلَّا أَنَّ مَالِكًا وَأَصْحَابه اِعْتَبَرُوا أَنْ تَبْلُغ الْجَائِحَة ثُلُث الثَّمَرَة فَصَاعِدًا , وَمَا كَانَ دُون الثُّلُث أَلْغُوهُ وَجَعَلُوهُ تَبَعًا , إِذْ لَا تَخْلُو ثَمَرَة مِنْ أَنْ يَتَعَذَّر الْقَلِيل مِنْ طِيبهَا وَأَنْ يَلْحَقهَا فِي الْيَسِير مِنْهَا فَسَاد . وَكَانَ أَصْبَغ وَأَشْهَب لَا يَنْظُرَانِ إِلَى الثَّمَرَة وَلَكِنْ إِلَى الْقِيمَة , فَإِذَا كَانَتْ الْقِيمَة الثُّلُث فَصَاعِدًا وُضِعَ عَنْهُ . وَالْجَائِحَة مَا لَا يُمْكِن دَفْعه عِنْد اِبْن الْقَاسِم . وَعَلَيْهِ فَلَا تَكُون السَّرِقَة جَائِحَة , وَكَذَا فِي كِتَاب مُحَمَّد . وَفِي الْكِتَاب أَنَّهُ جَائِحَة , وَرُوِيَ عَنْ اِبْن الْقَاسِم , وَخَالَفَهُ أَصْحَابه وَالنَّاس . وَقَالَ مُطَّرِف وَابْن الْمَاجِشُون : مَا أَصَابَ الثَّمَرَة مِنْ السَّمَاء مِنْ عَفَن أَوْ بَرَد , أَوْ عَطَش أَوْ حَرّ أَوْ كَسْر الشَّجَر بِمَا لَيْسَ بِصُنْعِ آدَمِيّ فَهُوَ جَائِحَة . وَاخْتُلِفَ فِي الْعَطَش ; فَفِي رِوَايَة اِبْن الْقَاسِم هُوَ جَائِحَة . وَالصَّحِيح فِي الْبُقُول أَنَّهَا فِيهَا جَائِحَة كَالثَّمَرَةِ . وَمَنْ بَاعَ ثَمَرًا قَبْل بُدُوّ صَلَاحه بِشَرْطِ التَّبْقِيَة فُسِخَ بَيْعه وَرُدَّ ; لِلنَّهْيِ عَنْهُ ; وَلِأَنَّهُ مَنْ أَكَلَ الْمَال بِالْبَاطِلِ ; لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( أَرَأَيْت إِنْ مَنَعَ اللَّه الثَّمَرَة فَبِمَ يَأْخُذ أَحَدكُمْ مَال أَخِيهِ بِغَيْرِ حَقّ ) ؟ هَذَا قَوْل الْجُمْهُور , وَصَحَّحَهُ أَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه وَحَمَلُوا النَّهْي عَلَى الْكَرَاهَة . وَذَهَبَ الْجُمْهُور إِلَى جَوَاز بَيْعهَا قَبْل بُدُوّ الصَّلَاح بِشَرْطِ الْقَطْع . وَمَنَعَهُ الثَّوْرِيّ وَابْن أَبِي لَيْلَى تَمَسُّكًا بِالنَّهْيِ الْوَارِد فِي ذَلِكَ . وَخَصَّصَهُ الْجُمْهُور بِالْقِيَاسِ الْجَلِيّ ; لِأَنَّهُ مَبِيع مَعْلُوم يَصِحّ قَبْضه حَالَة الْعَقْد فَصَحَّ بَيْعه كَسَائِرِ الْمَبِيعَات .

وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ

قَوْله تَعَالَى : | وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاء الْجِنّ | هَذَا ذِكْر نَوْع آخَر مِنْ جَهَالَاتهمْ , أَيْ فِيهِمْ مَنْ اِعْتَقَدَ لِلَّهِ شُرَكَاء مِنْ الْجِنّ . قَالَ النَّحَّاس : | الْجِنّ | مَفْعُول أَوَّل , و | شُرَكَاء | مَفْعُول ثَانٍ ; مِثْل | وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا | [ الْمَائِدَة : 20 ] . | وَجَعَلْت لَهُ مَالًا مَمْدُودًا | [ الْمُدَّثِّر : 12 ] . وَهُوَ فِي الْقُرْآن كَثِير . وَالتَّقْدِير وَجَعَلُوا لِلَّهِ الْجِنّ شُرَكَاء . وَيَجُوز أَنْ يَكُون | الْجِنّ | بَدَلًا مِنْ شُرَكَاء , وَالْمَفْعُول الثَّانِي | لِلَّهِ | . وَأَجَازَ الْكِسَائِيّ رَفْع | الْجِنّ | بِمَعْنَى هُمْ الْجِنّ . | وَخَلَقَهُمْ | كَذَا قِرَاءَة الْجَمَاعَة , أَيْ خَلَقَ الْجَاعِلِينَ لَهُ شُرَكَاء . وَقِيلَ : خَلَقَ الْجِنّ الشُّرَكَاء . وَقَرَأَ اِبْن مَسْعُود | وَهُوَ خَلَقَهُمْ | بِزِيَادَةِ هُوَ . وَقَرَأَ يَحْيَى بْن يَعْمُر | وَخَلَقَهُمْ | بِسُكُونِ اللَّام , وَقَالَ : أَيْ وَجَعَلُوا خَلْقهمْ لِلَّهِ شُرَكَاء ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَخْلُقُونَ الشَّيْء ثُمَّ يَعْبُدُونَهُ . وَالْآيَة نَزَلَتْ فِي مُشْرِكِي الْعَرَب . وَمَعْنَى إِشْرَاكهمْ بِالْجِنِّ أَنَّهُمْ أَطَاعُوهُمْ كَطَاعَةِ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ ; رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَن وَغَيْره . قَالَ قَتَادَة وَالسُّدِّيّ : هُمْ الَّذِينَ قَالُوا الْمَلَائِكَة بَنَات اللَّه . وَقَالَ الْكَلْبِيّ : نَزَلَتْ فِي الزَّنَادِقَة , قَالُوا : إِنَّ اللَّه وَإِبْلِيس أَخَوَانِ ; فَاَللَّه خَالِق النَّاس وَالدَّوَابّ , وَإِبْلِيس خَالِق الْجَانّ وَالسِّبَاع وَالْعَقَارِب . وَيَقْرُب مِنْ هَذَا قَوْل الْمَجُوس , فَإِنَّهُمْ قَالُوا : لِلْعَالَمِ صَانِعَانِ : إِلَه قَدِيم , وَالثَّانِي شَيْطَان حَادِث مِنْ فِكْرَة الْإِلَه الْقَدِيم ; وَزَعَمُوا أَنَّ صَانِع الشَّرّ حَادِث . وَكَذَا الْحَائِطِيَّة مِنْ الْمُعْتَزِلَة مِنْ أَصْحَاب أَحْمَد بْن حَائِط , زَعَمُوا أَنَّ لِلْعَالَمِ صَانِعَيْنِ : الْإِلَه الْقَدِيم , وَالْآخَر مُحْدَث , خَلَقَهُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أَوَّلًا ثُمَّ فَوَّضَ إِلَيْهِ تَدْبِير الْعَالَم ; وَهُوَ الَّذِي يُحَاسِب الْخَلْق فِي الْآخِرَة . تَعَالَى اللَّه عَمَّا يَقُول الظَّالِمُونَ وَالْجَاحِدُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا . | وَخَرَقُوا | قِرَاءَة نَافِع بِالتَّشْدِيدِ عَلَى التَّكْثِير ; لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ اِدَّعَوْا أَنَّ لِلَّهِ بَنَات وَهُمْ الْمَلَائِكَة , وَسَمُّوهُمْ جِنًّا لِاجْتِنَانِهِمْ . وَالنَّصَارَى اِدَّعَتْ الْمَسِيح اِبْن اللَّه . وَالْيَهُود قَالَتْ : عُزَيْر اِبْن اللَّه , فَكَثُرَ ذَلِكَ مِنْ كُفْرهمْ ; فَشُدِّدَ الْفِعْل لِمُطَابَقَةِ الْمَعْنَى . تَعَالَى اللَّه عَمَّا يَقُولُونَ . وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّخْفِيفِ عَلَى التَّقْلِيل . وَسُئِلَ الْحَسَن الْبَصْرِيّ عَنْ مَعْنَى | وَخَرَقُوا لَهُ | بِالتَّشْدِيدِ فَقَالَ : إِنَّمَا هُوَ | وَخَرَقُوا | بِالتَّخْفِيفِ , كَلِمَة عَرَبِيَّة , كَانَ الرَّجُل إِذَا كَذَبَ فِي النَّادِي قِيلَ : خَرَقَهَا وَرَبّ الْكَعْبَة . وَقَالَ أَهْل اللُّغَة : مَعْنَى | خَرَقُوا | اِخْتَلِقُوا وَافْتَعَلُوا | وَخَرَقُوا | عَلَى التَّكْثِير . قَالَ مُجَاهِد وَقَتَادَة وَابْن زَيْد وَابْن جُرَيْج : | خَرَقُوا | كَذَبُوا . يُقَال : إِنَّ مَعْنَى خَرَقَ وَاخْتَرَقَ وَاخْتَلَقَ سَوَاء ; أَيْ أَحْدَثَ :

بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ

أَيْ مُبْدِعهمَا ; فَكَيْفَ يَجُوز أَنْ يَكُون لَهُ وَلَد . و | بَدِيع | خَبَر اِبْتِدَاء مُضْمَر أَيْ هُوَ بَدِيع . وَأَجَازَ الْكِسَائِيّ خَفْضه عَلَى النَّعْت لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ , وَنَصْبه بِمَعْنَى بَدِيعًا السَّمَوَات وَالْأَرْض . وَذَا خَطَأ عِنْد الْبَصْرِيِّينَ لِأَنَّهُ لِمَا مَضَى .|أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ|أَيْ مِنْ أَيْنَ يَكُون لَهُ وَلَد . وَوَلَد كُلّ شَيْء شَبِيهه , وَلَا شَبِيه لَهُ .|وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ|أَيْ زَوْجَة .|وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ|عُمُوم مَعْنَاهُ الْخُصُوص ; أَيْ خَلَقَ الْعَالَم . وَلَا يَدْخُل فِي ذَلِكَ كَلَامه وَلَا غَيْره مِنْ صِفَات ذَاته . وَمِثْله | وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلّ شَيْء | [ الْأَعْرَاف : 156 ] وَلَمْ تَسَع إِبْلِيس وَلَا مَنْ مَاتَ كَافِرًا . وَمِثْله | تُدَمِّر كُلّ شَيْء | [ الْأَحْقَاف : 25 ] وَلَمْ تُدَمِّر السَّمَوَات وَالْأَرْض .

ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ

| ذَلِكُمْ | فِي مَوْضِع رَفْع بِالِابْتِدَاءِ . | اللَّه رَبّكُمْ | عَلَى الْبَدَل . | خَالِق كُلّ شَيْء | خَبَر الِابْتِدَاء . وَيَجُوز أَنْ يَكُون | رَبّكُمْ | الْخَبَر , و | خَالِق | خَبَرًا ثَانِيًا , أَوْ عَلَى إِضْمَار مُبْتَدَأ , أَيْ هُوَ خَالِق . وَأَجَازَ الْكِسَائِيّ وَالْفَرَّاء فِيهِ النَّصْب .

لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ

قَوْله تَعَالَى : | لَا تُدْرِكهُ الْأَبْصَار | بَيَّنَ سُبْحَانه أَنَّهُ مُنَزَّه عَنْ سِمَات الْحُدُوث , وَمِنْهَا الْإِدْرَاك بِمَعْنَى الْإِحَاطَة وَالتَّحْدِيد , كَمَا تُدْرَك سَائِر الْمَخْلُوقَات , وَالرُّؤْيَة ثَابِتَة . فَقَالَ الزَّجَّاج : أَيْ لَا يَبْلُغ كُنْه حَقِيقَته ; كَمَا تَقُول : أَدْرَكْت كَذَا وَكَذَا ; لِأَنَّهُ قَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَحَادِيث فِي الرُّؤْيَة يَوْم الْقِيَامَة . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : | لَا تُدْرِكهُ الْأَبْصَار | فِي الدُّنْيَا , وَيَرَاهُ الْمُؤْمِنُونَ فِي الْآخِرَة ; لِإِخْبَارِ اللَّه بِهَا فِي قَوْله : | وُجُوه يَوْمئِذٍ نَاضِرَة إِلَى رَبّهَا نَاظِرَة | [ الْقِيَامَة : 22 - 23 ] . وَقَالَ السُّدِّيّ . وَهُوَ أَحْسَن مَا قِيلَ لِدَلَالَةِ التَّنْزِيل وَالْأَخْبَار الْوَارِدَة بِرُؤْيَةِ اللَّه فِي الْجَنَّة . وَسَيَأْتِي بَيَانه فِي | يُونُس | . وَقِيلَ : | لَا تُدْرِكهُ الْأَبْصَار | لَا تُحِيط بِهِ وَهُوَ يُحِيط بِهَا ; عَنْ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا . وَقِيلَ : الْمَعْنَى لَا تُدْرِكهُ أَبْصَار الْقُلُوب , أَيْ لَا تُدْرِكهُ الْعُقُول فَتَتَوَهَّمهُ ; إِذْ | لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء | [ الشُّورَى : 11 ] وَقِيلَ : الْمَعْنَى لَا تُدْرِكهُ الْأَبْصَار الْمَخْلُوقَة فِي الدُّنْيَا , لَكِنَّهُ يَخْلُق لِمَنْ يُرِيد كَرَامَته بَصَرًا وَإِدْرَاكًا يَرَاهُ فِيهِ كَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَام ; إِذْ رُؤْيَته تَعَالَى فِي الدُّنْيَا جَائِزَة عَقْلًا , إِذْ لَوْ لَمْ تَكُنْ جَائِزَة لَكَانَ سُؤَال مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام مُسْتَحِيلًا , وَمُحَال أَنْ يَجْهَل نَبِيّ مَا يَجُوز عَلَى اللَّه وَمَا لَا يَجُوز , بَلْ لَمْ يَسْأَل إِلَّا جَائِزًا غَيْر مُسْتَحِيل . وَاخْتَلَفَ السَّلَف فِي رُؤْيَة نَبِيّنَا عَلَيْهِ السَّلَام رَبّه , فَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ مَسْرُوق قَالَ : كُنْت مُتَّكِئًا عِنْد عَائِشَة , فَقَالَتْ : يَا أَبَا عَائِشَة , ثَلَاث مَنْ تَكَلَّمَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّه الْفِرْيَة . قُلْت : مَا هُنَّ ؟ قَالَتْ : مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَأَى رَبّه فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّه الْفِرْيَة . قَالَ : وَكُنْت مُتَّكِئًا فَجَلَسْت فَقُلْت : يَا أُمّ الْمُؤْمِنِينَ , أَنْظِرِينِي وَلَا تُعْجِلِينِي , أَلَمْ يَقُلْ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ | وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِين | [ التَّكْوِير : 23 ] . | وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَة أُخْرَى | [ النَّجْم : 13 ] ؟ فَقَالَتْ : أَنَا أَوَّل هَذِهِ الْأُمَّة مَنْ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : ( إِنَّمَا هُوَ جِبْرِيل لَمْ أَرَهُ عَلَى صُورَته الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا غَيْر هَاتَيْنِ الْمَرَّتَيْنِ رَأَيْته مُنْهَبِطًا مِنْ السَّمَاء سَادًّا عِظَم خَلْقه مَا بَيْن السَّمَاء وَالْأَرْض ) . فَقَالَتْ : أَوَلَمْ تَسْمَع أَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ يَقُول : | لَا تُدْرِكهُ الْأَبْصَار وَهُوَ يُدْرِك الْأَبْصَار وَهُوَ اللَّطِيف الْخَبِير | ؟ أَوَلَمْ تَسْمَع أَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ يَقُول : | وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمهُ اللَّه إِلَّا وَحَيًّا أَوْ مِنْ وَرَاء حِجَاب أَوْ يُرْسِل رَسُولًا - إِلَى قَوْله - عَلِيّ حَكِيم | [ الشُّورَى : 51 ] ؟ قَالَتْ : وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَمَ شَيْئًا مِنْ كِتَاب اللَّه فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّه الْفِرْيَة , وَاَللَّه تَعَالَى يَقُول : | يَا أَيّهَا الرَّسُول بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْك مِنْ رَبّك وَإِنْ لَمْ تَفْعَل فَمَا بَلَّغْت رِسَالَته | [ الْمَائِدَة : 67 ] قَالَتْ : وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يُخْبِر بِمَا يَكُون فِي غَد فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّه الْفِرْيَة , وَاَللَّه تَعَالَى يَقُول : | قُلْ لَا يَعْلَم مَنْ فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض الْغَيْب إِلَّا اللَّه | [ النَّمْل : 65 ] . وَإِلَى مَا ذَهَبَتْ إِلَيْهِ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا مِنْ عَدَم الرُّؤْيَة , وَأَنَّهُ إِنَّمَا رَأَى جِبْرِيل : اِبْن مَسْعُود , وَمِثْله عَنْ أَبِي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ , وَأَنَّهُ رَأَى جِبْرِيل , وَاخْتَلَفَ عَنْهُمَا . وَقَالَ بِإِنْكَارِ هَذَا وَامْتِنَاع رُؤْيَته جَمَاعَة مِنْ الْمُحَدِّثِينَ وَالْفُقَهَاء وَالْمُتَكَلِّمِينَ . وَعَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ رَآهُ بِعَيْنِهِ ; هَذَا هُوَ الْمَشْهُور عَنْهُ . وَحُجَّته قَوْله تَعَالَى : | مَا كَذَبَ الْفُؤَاد مَا رَأَى | [ النَّجْم : 11 ] . وَقَالَ عَبْد اللَّه بْن الْحَارِث : اِجْتَمَعَ اِبْن عَبَّاس وَأُبَيّ بْن كَعْب , فَقَالَ اِبْن عَبَّاس : أَمَا نَحْنُ بَنُو هَاشِم فَنَقُول إِنَّ مُحَمَّدًا رَأَى رَبّه مَرَّتَيْنِ . ثُمَّ قَالَ اِبْن عَبَّاس : أَتَعْجَبُونَ أَنَّ الْخُلَّة تَكُون لِإِبْرَاهِيم وَالْكَلَام لِمُوسَى , وَالرُّؤْيَة لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ . قَالَ : فَكَبَّرَ كَعْب حَتَّى جَاوَبَتْهُ الْجِبَال , ثُمَّ قَالَ : إِنَّ اللَّه قَسَمَ رُؤْيَته وَكَلَامه بَيْن مُحَمَّد وَمُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَام , فَكَلَّمَ مُوسَى وَرَآهُ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَحَكَى عَبْد الرَّزَّاق أَنَّ الْحَسَن كَانَ يَحْلِف بِاَللَّهِ لَقَدْ رَأَى مُحَمَّد رَبّه . وَحَكَاهُ أَبُو عُمَر الطَّلَمَنْكِيّ عَنْ عِكْرِمَة , وَحَكَاهُ بَعْض الْمُتَكَلِّمِينَ عَنْ اِبْن مَسْعُود , وَالْأَوَّل عَنْهُ أَشْهَر . وَحَكَى اِبْن إِسْحَاق أَنَّ مَرْوَان سَأَلَ أَبَا هُرَيْرَة : هَلْ رَأَى مُحَمَّد رَبّه ؟ فَقَالَ نَعَمْ وَحَكَى النَّقَّاش عَنْ أَحْمَد بْن حَنْبَل أَنَّهُ قَالَ : أَنَا أَقُول بِحَدِيثِ اِبْن عَبَّاس : بِعَيْنِهِ رَآهُ رَآهُ ! حَتَّى اِنْقَطَعَ نَفَسه , يَعْنِي نَفَس أَحْمَد . وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الشَّيْخ أَبُو الْحَسَن الْأَشْعَرِيّ وَجَمَاعَة مِنْ أَصْحَابه أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى اللَّه بِبَصَرِهِ وَعَيْنَيْ رَأْسه . وَقَالَهُ أَنَس وَابْن عَبَّاس وَعِكْرِمَة وَالرَّبِيع وَالْحَسَن . وَكَانَ الْحَسَن يَحْلِف بِاَللَّهِ الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ لَقَدْ رَأَى مُحَمَّد رَبّه . وَقَالَ جَمَاعَة مِنْهُمْ أَبُو الْعَالِيَة وَالْقُرَظِيّ وَالرَّبِيع بْن أَنَس : إِنَّهُ إِنَّمَا رَأَى رَبّه بِقَلْبِهِ وَفُؤَاده ; وَحُكِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا وَعِكْرِمَة . وَقَالَ أَبُو عُمَر : قَالَ أَحْمَد بْن حَنْبَل رَآهُ بِقَلْبِهِ , وَجَبُنَ عَنْ الْقَوْل بِرُؤْيَتِهِ فِي الدُّنْيَا بِالْأَبْصَارِ . وَعَنْ مَالِك بْن أَنَس قَالَ : لَمْ يُرَ فِي الدُّنْيَا ; لِأَنَّهُ بَاقٍ وَلَا يَرَى الْبَاقِي بِالْفَانِي , فَإِذَا كَانَ فِي الْآخِرَة وَرُزِقُوا أَبْصَارًا بَاقِيَة رَأَوْا الْبَاقِي بِالْبَاقِي . قَالَ الْقَاضِي عِيَاض : وَهَذَا كَلَام حَسَن مَلِيح , وَلَيْسَ فِيهِ دَلِيل عَلَى الِاسْتِحَالَة إِلَّا مِنْ حَيْثُ ضَعْف الْقُدْرَة ; فَإِذَا قَوَّى اللَّه تَعَالَى مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَاده وَأَقْدَرَهُ عَلَى حَمْل أَعْبَاء الرُّؤْيَة لَمْ يَمْتَنِع فِي حَقّه . وَسَيَأْتِي شَيْء مِنْ هَذَا فِي حَقّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام فِي | الْأَعْرَاف | إِنْ شَاءَ اللَّه . قَوْله تَعَالَى : | وَهُوَ يُدْرِك الْأَبْصَار | أَيْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْء إِلَّا يَرَاهُ وَيَعْلَمهُ . وَإِنَّمَا خَصَّ الْأَبْصَار ; لِتَجْنِيسِ الْكَلَام . وَقَالَ الزَّجَّاج : وَفِي هَذَا الْكَلَام دَلِيل عَلَى أَنَّ الْخَلْق لَا يُدْرِكُونَ الْأَبْصَار ; أَيْ لَا يَعْرِفُونَ كَيْفِيَّة حَقِيقَة الْبَصَر , وَمَا الشَّيْء الَّذِي صَارَ بِهِ الْإِنْسَان يُبْصِر مِنْ عَيْنَيْهِ دُون أَنْ يُبْصِر مِنْ غَيْرهمَا مِنْ سَائِر أَعْضَائِهِ . ثُمَّ قَالَ : | وَهُوَ اللَّطِيف الْخَبِير | أَيْ الرَّفِيق بِعِبَادِهِ ; يُقَال : لَطَفَ فُلَان بِفُلَانٍ يَلْطُف , أَيْ رَفَقَ بِهِ . وَاللُّطْف فِي الْفِعْل الرِّفْق فِيهِ . وَاللُّطْف مِنْ اللَّه تَعَالَى التَّوْفِيق وَالْعِصْمَة . وَأَلْطَفَهُ بِكَذَا , أَيْ بَرَّهُ بِهِ . وَالِاسْم اللُّطْف بِالتَّحْرِيكِ . يُقَال : جَاءَتْنَا مِنْ فُلَان لَطَفَة ; أَيْ هَدِيَّة . وَالْمُلَاطَفَة الْمُبَارَّة ; عَنْ الْجَوْهَرِيّ وَابْن فَارِس . قَالَ أَبُو الْعَالِيَة : الْمَعْنَى لَطِيف بِاسْتِخْرَاجِ الْأَشْيَاء خَبِير بِمَكَانِهَا . وَقَالَ الْجُنَيْد : اللَّطِيف مَنْ نَوَّرَ قَلْبك بِالْهُدَى , وَرَبَّى جِسْمك بِالْغِذَا , وَجَعَلَ لَك الْوِلَايَة فِي الْبَلْوَى , وَيَحْرُسك وَأَنْت فِي لَظَى , وَيُدْخِلك جَنَّة الْمَأْوَى . وَقِيلَ غَيْر هَذَا , مِمَّا مَعْنَاهُ رَاجِع إِلَى مَعْنَى الرِّفْق وَغَيْره . وَسَيَأْتِي مَا لِلْعُلَمَاءِ مِنْ الْأَقْوَال فِي ذَلِكَ فِي | الشُّورَى | إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .

قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ

أَيْ آيَات وَبَرَاهِين يُبْصِر بِهَا وَيُسْتَدَلّ ; جَمْع بَصِيرَة وَهِيَ الدَّلَالَة . قَالَ الشَّاعِر : <br>جَاءُوا بَصَائِرهمْ عَلَى أَكْتَافهمْ .......... وَبَصِيرَتِي يَعْدُو بِهَا عَتَد وَآي <br>يَعْنِي بِالْبَصِيرَةِ الْحُجَّة الْبَيِّنَة الظَّاهِرَة . وَوَصَفَ الدَّلَالَة بِالْمَجِيءِ لِتَفْخِيمِ شَأْنهَا ; إِذْ كَانَتْ بِمَنْزِلَةِ الْغَائِب الْمُتَوَقَّع حُضُوره لِلنَّفْسِ ; كَمَا يُقَال : جَاءَتْ الْعَافِيَة وَقَدْ اِنْصَرَفَ الْمَرَض , وَأَقْبَلَ السُّعُود وَأَدْبَرَ النُّحُوس .|فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ|الْإِبْصَار : هُوَ الْإِدْرَاك بِحَاسَّةِ الْبَصَر ; أَيْ فَمَنْ اِسْتَدَلَّ وَتَعَرَّفَ فَنَفْسه نَفَعَ .|وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا|لَمْ يُسْتَدَلّ , فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْأَعْمَى ; فَعَلَى نَفْسه يَعُود ضَرَر عَمَاهُ .|وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ|أَيْ لَمْ أُؤْمَرْ بِحِفْظِكُمْ عَلَى أَنْ تُهْلِكُوا أَنْفُسكُمْ . وَقِيلَ : أَيْ لَا أَحْفَظكُمْ مِنْ عَذَاب اللَّه . وَقِيلَ : | بِحَفِيظٍ | بِرَقِيبٍ ; أُحْصِي عَلَيْكُمْ أَعْمَالكُمْ , وَإِنَّمَا أَنَا رَسُول أُبَلِّغكُمْ رِسَالَات رَبِّي , وَهُوَ الْحَفِيظ عَلَيْكُمْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْء مِنْ أَفْعَالكُمْ . قَالَ الزَّجَّاج : نَزَلَ هَذَا قَبْل فَرْض الْقِتَال , ثُمَّ أَمَرَ أَنْ يَمْنَعهُمْ بِالسَّيْفِ مِنْ عِبَادَة الْأَوْثَان .

وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ

قَوْله تَعَالَى : | وَكَذَلِكَ نُصَرِّف الْآيَات | الْكَاف فِي كَذَلِكَ فِي مَوْضِع نَصْب ; أَيْ نُصَرِّف الْآيَات مِثْل مَا تَلَوْنَا عَلَيْك . أَيْ كَمَا صَرَّفْنَا الْآيَات فِي الْوَعْد وَالْوَعِيد وَالْوَعْظ وَالتَّنْبِيه فِي هَذِهِ السُّورَة نُصَرِّف فِي غَيْرهَا . | وَلِيَقُولُوا دَرَسْت | وَالْوَاو لِلْعَطْفِ عَلَى مُضْمَر ; أَيْ نُصَرِّف الْآيَات لِتَقُومَ الْحُجَّة وَلِيَقُولُوا دَرَسْت . وَقِيلَ : أَيْ | وَلِيَقُولُوا دَرَسْت | صَرَّفْنَاهَا ; فَهِيَ لَام الصَّيْرُورَة . وَقَالَ الزَّجَّاج : هَذَا كَمَا تَقُول كَتَبَ فُلَان هَذَا الْكِتَاب لِحَتْفِهِ ; أَيْ آلَ أَمْره إِلَى ذَلِكَ . وَكَذَا لَمَّا صُرِّفَتْ الْآيَات آلَ أَمْرهمْ إِلَى أَنْ قَالُوا : دَرَسْت وَتَعَلَّمْت مِنْ جَبْر وَيَسَار , وَكَانَا غُلَامَيْنِ نَصْرَانِيَّيْنِ بِمَكَّة , فَقَالَ أَهْل مَكَّة : إِنَّمَا يَتَعَلَّم مِنْهُمَا . قَالَ النَّحَّاس : وَفِي الْمَعْنَى قَوْل آخَر حَسَن , وَهُوَ أَنْ يَكُون مَعْنَى | نُصَرِّف الْآيَات | نَأْتِي بِهَا آيَة بَعْد آيَة لِيَقُولُوا دَرَسْت عَلَيْنَا ; فَيَذْكُرُونَ الْأَوَّل بِالْآخَرِ . فَهَذَا حَقِيقَة , وَاَلَّذِي قَالَهُ أَبُو إِسْحَاق مَجَاز . وَفِي | دَرَسْت | سَبْع قِرَاءَات . قَرَأَ أَبُو عَمْرو وَابْن كَثِير | دَارَسْت | بِالْأَلِفِ بَيْن الدَّال وَالرَّاء ; كَفَاعَلْت . وَهِيَ قِرَاءَة عَلِيّ وَابْن عَبَّاس وَسَعِيد بْن جُبَيْر وَمُجَاهِد وَعِكْرِمَة وَأَهْل مَكَّة . قَالَ اِبْن عَبَّاس : مَعْنَى | دَارَسْت | تَالَيْت . وَقَرَأَ اِبْن عَامِر | دَرَسَتْ | بِفَتْحِ السِّين وَإِسْكَان التَّاء مِنْ غَيْر أَلِف ; كَخَرَجَتْ . وَهِيَ قِرَاءَة الْحَسَن . وَقَرَأَ الْبَاقُونَ | دَرَسْت | كَخَرَجْت . فَعَلَى الْأُولَى : دَارَسْت أَهْل الْكِتَاب وَدَارَسُوك ; أَيْ ذَاكَرْتهمْ وَذَاكَرُوك ; قَالَهُ سَعِيد بْن جُبَيْر . وَدَلَّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْله تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْهُمْ : | وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْم آخَرُونَ | [ الْفُرْقَان : 4 ] أَيْ أَعَانَ الْيَهُود النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْقُرْآن وَذَاكِرُوهُ فِيهِ . وَهَذَا كُلّه قَوْل الْمُشْرِكِينَ . وَمِثْله قَوْلهمْ : | وَقَالُوا أَسَاطِير الْأَوَّلِينَ اِكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَة وَأَصِيلًا | [ الْفُرْقَان : 5 ] | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبّكُمْ قَالُوا أَسَاطِير الْأَوَّلِينَ | [ النَّحْل : 24 ] . وَقِيلَ : الْمَعْنَى دَارَسْتنَا ; فَيَكُون مَعْنَاهُ كَمَعْنَى دَرَسْت ; ذَكَرَهُ النَّحَّاس وَاخْتَارَهُ , وَالْأَوَّل ذَكَرَهُ مَكِّيّ . وَزَعَمَ النَّحَّاس أَنَّهُ مَجَاز ; كَمَا قَالَ : <br>فَلِلْمَوْتِ مَا تَلِد الْوَالِدَة <br>وَمَنْ قَرَأَ | دَرَسَتْ | فَأَحْسَن مَا قِيلَ فِي قِرَاءَته أَنَّ الْمَعْنَى : وَلِئَلَّا يَقُولُوا اِنْقَطَعَتْ وَامَّحَتْ , وَلَيْسَ يَأْتِي مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغَيْرِهَا . وَقَرَأَ قَتَادَة | دَرَسْت | أَيْ قَرَأْت . وَرَوَى سُفْيَان بْن عُيَيْنَة عَنْ عَمْرو بْن عُبَيْد عَنْ الْحَسَن أَنَّهُ قَرَأَ | دَارَسَتْ | . وَكَانَ أَبُو حَاتِم يَذْهَب إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْقِرَاءَة لَا تَجُوز ; قَالَ : لِأَنَّ الْآيَات لَا تُدَارِس . وَقَالَ غَيْره : الْقِرَاءَة بِهَذَا تَجُوز , وَلَيْسَ الْمَعْنَى عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو حَاتِم , وَلَكِنَّ مَعْنَاهُ دَارَسَتْ أُمَّتك ; أَيْ دَارَسَتْك أُمَّتك , وَإِنْ كَانَ لَمْ يَتَقَدَّم لَهَا ذِكْر ; مِثْل قَوْله : | حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ | [ ص : 32 ] . وَحَكَى الْأَخْفَش | وَلْيَقُولُوا دَرُسَتْ | وَهُوَ بِمَعْنَى | دَرَسَتْ | إِلَّا أَنَّهُ أَبْلَغ . وَحَكَى أَبُو الْعَبَّاس أَنَّهُ قُرِئَ | وَلْيَقُولُوا دَرَسْت | بِإِسْكَانِ اللَّام عَلَى الْأَمْر . وَفِيهِ مَعْنَى التَّهْدِيد ; أَيْ فَلْيَقُولُوا بِمَا شَاءُوا فَإِنَّ الْحَقّ بَيِّن ; كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ | فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا | [ التَّوْبَة : 82 ] فَأَمَّا مَنْ كَسَرَ اللَّام فَإِنَّهَا عِنْده لَام كَيْ . وَهَذِهِ الْقِرَاءَات كُلّهَا يَرْجِع اِشْتِقَاقهَا إِلَى شَيْء وَاحِد , إِلَى التَّلْيِين وَالتَّذْلِيل . و | دَرَسْت | مِنْ دَرَسَ يَدْرُس دِرَاسَة , وَهِيَ الْقِرَاءَة عَلَى الْغَيْر . وَقِيلَ : دَرَسْته أَيْ ذَلَّلْته بِكَثْرَةِ الْقِرَاءَة ; وَأَصْله دَرَسَ الطَّعَام أَيْ دَاسَهُ . وَالدِّيَاس الدِّرَاس بِلُغَةِ أَهْل الشَّام . وَقِيلَ : أَصْله مِنْ دَرَسْت الثَّوْب أَدْرُسهُ دَرْسًا أَيْ أَخَلَقْته . وَقَدْ دَرَسَ الثَّوْب دَرْسًا أَيْ أَخْلَقَ . وَيَرْجِع هَذَا إِلَى التَّذَلُّل أَيْضًا . وَيُقَال : سُمِّيَ إِدْرِيس لِكَثْرَةِ دِرَاسَته لِكِتَابِ اللَّه . وَدَارَسْت الْكُتُب وَتَدَارَسْتهَا وَادَّارَسْتهَا أَيْ دَرَسْتهَا . وَدَرَسْت الْكِتَاب دَرْسًا وَدِرَاسَة . وَدَرَسْت الْمَرْأَة دَرْسًا أَيْ حَاضَتْ . وَيُقَال إِنَّ فَرْج الْمَرْأَة يُكَنَّى أَبَا أَدْرَاس ; وَهُوَ مِنْ الْحَيْض . وَالدَّرْس أَيْضًا : الطَّرِيق الْخَفِيّ . وَحَكَى الْأَصْمَعِيّ : بَعِير لَمْ يُدَرَّس أَيْ لَمْ يُرْكَب , وَدَرَسْت مِنْ دَرَسَ الْمَنْزِل إِذَا عَفَا . وَقَرَأَ اِبْن مَسْعُود وَأَصْحَابه وَأَبِي وَطَلْحَة وَالْأَعْمَش | وَلْيَقُولُوا دَرَسَ | أَيْ دَرَسَ مُحَمَّد الْآيَات . | وَلِنُبَيِّنهُ | يَعْنِي الْقَوْل وَالتَّصْرِيف , أَوْ الْقُرْآن | لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ | .

اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ

قَوْله تَعَالَى: | اِتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْك مِنْ رَبّك | يَعْنِي الْقُرْآن ; أَيْ لَا تَشْغَل قَلْبك وَخَاطِرك بِهِمْ , بَلْ اشْتَغِلْ بِعِبَادَةِ اللَّه . | لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ | مَنْسُوخ .

وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ

نَصَّ عَلَى أَنَّ الشِّرْك بِمَشِيئَتِهِ , وَهُوَ إِبْطَال لِمَذْهَبِ الْقَدَرِيَّة كَمَا تَقَدَّمَ .|وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا|أَيْ لَا يُمْكِنك حِفْظهمْ مِنْ عَذَاب اللَّه .|وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ|أَيْ قَيِّم بِأُمُورِهِمْ فِي مَصَالِحهمْ لِدِينِهِمْ أَوْ دُنْيَاهُمْ , حَتَّى تَلَطَّفَ لَهُمْ فِي تَنَاوُل مَا يَجِب لَهُمْ ; فَلَسْت بِحَفِيظٍ فِي ذَلِكَ وَلَا وَكِيل فِي هَذَا , إِنَّمَا أَنْتَ مُبَلِّغ . وَهَذَا قَبْل أَنْ يُؤْمَر بِالْقِتَالِ .

وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ

نَهْي .|فَيَسُبُّوا اللَّهَ|جَوَاب النَّهْي . فَنَهَى سُبْحَانه الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَسُبُّوا أَوْثَانهمْ ; لِأَنَّهُ عَلِمَ إِذَا سَبُّوهَا نَفَرَ الْكُفَّار وَازْدَادُوا كُفْرًا . قَالَ اِبْن عَبَّاس : قَالَتْ كُفَّار قُرَيْش لِأَبِي طَالِب إِمَّا أَنْ تَنْهَى مُحَمَّدًا وَأَصْحَابه عَنْ سَبّ آلِهَتنَا وَالْغَضّ مِنْهَا وَإِمَّا أَنْ نَسُبّ إِلَهه وَنَهْجُوهُ ; فَنَزَلَتْ الْآيَة .</p><p>قَالَ الْعُلَمَاء : حُكْمهَا بَاقٍ فِي هَذِهِ الْأُمَّة عَلَى كُلّ حَال ; فَمَتَى كَانَ الْكَافِر فِي مَنَعَة وَخِيفَ أَنْ يَسُبّ الْإِسْلَام أَوْ النَّبِيّ عَلَيْهِ السَّلَام أَوْ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ , فَلَا يَحِلّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَسُبّ صُلْبَانهمْ وَلَا دِينهمْ وَلَا كَنَائِسهمْ , وَلَا يَتَعَرَّض إِلَى مَا يُؤَدِّي إِلَى ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْبَعْث عَلَى الْمَعْصِيَة . وَعَبَّرَ عَنْ الْأَصْنَام وَهِيَ لَا تَعْقِل ب | الَّذِينَ | عَلَى مُعْتَقَد الْكَفَرَة فِيهَا .</p><p>فِي هَذِهِ الْآيَة أَيْضًا ضَرْب مِنْ الْمُوَادَعَة , وَدَلِيل عَلَى وُجُوب الْحُكْم بِسَدِّ الذَّرَائِع ; حَسْب مَا تَقَدَّمَ فِي | الْبَقَرَة | . وَفِيهَا دَلِيل عَلَى أَنَّ الْمُحِقّ قَدْ يَكُفّ عَنْ حَقّ لَهُ إِذَا أَدَّى إِلَى ضَرَر يَكُون فِي الدِّين . وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى مَا رُوِيَ عَنْ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : لَا تَبُتُّوا الْحُكْم بَيْن ذَوِي الْقَرَابَات مَخَافَة الْقَطِيعَة . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : إِنْ كَانَ الْحَقّ وَاجِبًا فَيَأْخُذهُ بِكُلِّ حَال وَإِنْ كَانَ جَائِزًا فَفِيهِ يَكُون هَذَا الْقَوْل .|عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ|أَيْ جَهْلًا وَاعْتِدَاء . وَرُوِيَ عَنْ أَهْل مَكَّة أَنَّهُمْ قَرَءُوا | عُدُوًّا | بِضَمِّ الْعَيْن وَالدَّال وَتَشْدِيد الْوَاو , وَهِيَ قِرَاءَة الْحَسَن وَأَبِي رَجَاء وَقَتَادَة , وَهِيَ رَاجِعَة إِلَى الْقِرَاءَة الْأُولَى , وَهُمَا جَمِيعًا بِمَعْنَى الظُّلْم . وَقَرَأَ أَهْل مَكَّة أَيْضًا | عَدُوًّا | بِفَتْحِ الْعَيْن وَضَمّ الدَّال بِمَعْنَى عَدُوّ . وَهُوَ وَاحِد يُؤَدِّي عَنْ جَمْع ; كَمَا قَالَ : | فَإِنَّهُمْ عَدُوّ لِي إِلَّا رَبّ الْعَالَمِينَ | [ الشُّعَرَاء : 77 ] . وَقَالَ تَعَالَى : | هُمْ الْعَدُوّ | وَهُوَ مَنْصُوب عَلَى الْمَصْدَر أَوْ عَلَى الْمَفْعُول مِنْ أَجْله .|كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ|أَيْ كَمَا زَيَّنَّا لِهَؤُلَاءِ أَعْمَالهمْ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّة عَمَلهمْ . قَالَ اِبْن عَبَّاس . زَيَّنَّا لِأَهْلِ الطَّاعَة الطَّاعَة , وَلِأَهْلِ الْكُفْر الْكُفْر ; وَهُوَ كَقَوْلِهِ : | كَذَلِكَ يُضِلّ اللَّه مَنْ يَشَاء وَيَهْدِي مَنْ يَشَاء | [ الْمُدَّثِّر : 31 ] . وَفِي هَذَا رَدّ عَلَى الْقَدَرِيَّة .

وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آَيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآَيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ

فِيهِ مَسْأَلَتَانِ : الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : | وَأَقْسَمُوا | أَيْ حَلَفُوا . وَجَهْد الْيَمِين أَشَدّهَا , وَهُوَ بِاَللَّهِ . فَقَوْله : | جَهْد أَيْمَانهمْ | أَيْ غَايَة أَيْمَانهمْ الَّتِي بَلَغَهَا عِلْمهمْ , وَانْتَهَتْ إِلَيْهَا قُدْرَتهمْ . وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ اللَّه هُوَ الْإِلَه الْأَعْظَم , وَأَنَّ هَذِهِ الْآلِهَة إِنَّمَا يَعْبُدُونَهَا ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهَا تُقَرِّبهُمْ إِلَى اللَّه زُلْفَى ; كَمَا أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : | مَا نَعْبُدهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّه زُلْفَى | [ الزُّمَر : 3 ] . وَكَانُوا يَحْلِفُونَ بِآبَائِهِمْ وَبِالْأَصْنَامِ وَبِغَيْرِ ذَلِكَ , وَكَانُوا يَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَكَانُوا يُسَمُّونَهُ جَهْد الْيَمِين إِذَا كَانَتْ الْيَمِين بِاَللَّهِ . | جَهْد | مَنْصُوب عَلَى الْمَصْدَر وَالْعَامِل فِيهِ | أَقْسَمُوا | عَلَى مَذْهَب سِيبَوَيْهِ ; لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ . وَالْجَهْد ( بِفَتْحِ الْجِيم ) : الْمَشَقَّة يُقَال : فَعَلْت ذَلِكَ بِجَهْدٍ . وَالْجَهْد ( بِضَمِّهَا ) : الطَّاقَة يُقَال : هَذَا جَهْدِي , أَيْ طَاقَتِي . وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلهُمَا وَاحِدًا , وَيَحْتَجّ بِقَوْلِهِ | وَاَلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جَهْدهمْ | [ التَّوْبَة : 79 ] . وَقُرِئَ | جَهْدهمْ | بِالْفَتْحِ ; عَنْ اِبْن قُتَيْبَة . وَسَبَب الْآيَة فِيمَا ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ : الْقُرَظِيّ وَالْكَلْبِيّ وَغَيْرهمَا , أَنَّ قُرَيْشًا قَالَتْ : يَا مُحَمَّد , تُخْبِرنَا بِأَنَّ مُوسَى ضَرَبَ بِعَصَاهُ الْحَجَر فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اِثْنَتَا عَشْرَة عَيْنًا , وَأَنَّ عِيسَى كَانَ يُحْيِي الْمَوْتَى , وَأَنَّ ثَمُود كَانَتْ لَهُمْ نَاقَة ; فَائِتنَا بِبَعْضِ هَذِهِ الْآيَات حَتَّى نُصَدِّقك . فَقَالَ : ( أَيّ شَيْء تُحِبُّونَ ) ؟ قَالُوا : اِجْعَلْ لَنَا الصَّفَا ذَهَبًا ; فَوَاَللَّهِ إِنْ فَعَلْته لَنَتَّبِعَنَّكَ أَجْمَعُونَ . فَقَامَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ سَلَّمَ يَدْعُو ; فَجَاءَهُ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ : ( إِنْ شِئْت أَصْبَحَ الصَّفَا ذَهَبًا , وَلَئِنْ أَرْسَلَ اللَّه آيَة وَلَمْ يُصَدِّقُوا عِنْدهَا لَيُعَذِّبَنهُمْ فَاتْرُكْهُمْ حَتَّى يَتُوب تَائِبهمْ ) فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( بَلْ يَتُوب تَائِبهمْ ) فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة . وَبَيَّنَ الرَّبّ بِأَنَّ مَنْ سَبَقَ الْعِلْم الْأَزَلِيّ بِأَنَّهُ لَا يُؤْمِن فَإِنَّهُ لَا يُؤْمِن وَإِنْ أَقْسَمَ لَيُؤْمِنَنَّ .</p><p>الثَّانِيَة : قَوْله تَعَالَى | | جَهْد أَيْمَانهمْ | قِيلَ : مَعْنَاهُ بِأَغْلَظ الْأَيْمَان عِنْدهمْ . وَتُعْرَض هُنَا مَسْأَلَة مِنْ الْأَحْكَام عُظْمَى , وَهِيَ قَوْل الرَّجُل : الْأَيْمَان تَلْزَمهُ إِنْ كَانَ كَذَا وَكَذَا . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَقَدْ كَانَتْ هَذِهِ الْيَمِين فِي صَدْر الْإِسْلَام مَعْرُوفَة بِغَيْرِ هَذِهِ الصُّورَة , كَانُوا يَقُولُونَ : عَلَيَّ أَشَدّ مَا أَخَذَهُ أَحَد عَلَى أَحَد ; فَقَالَ مَالِك : تَطْلُق نِسَاؤُهُ . ثُمَّ تَكَاثَرَتْ الصُّورَة حَتَّى آلَتْ بَيْن النَّاس إِلَى صُورَة هَذِهِ أُمّهَا . وَكَانَ شَيْخنَا الْفِهْرِيّ الطَّرَسُوسِيّ يَقُول : يَلْزَمهُ إِطْعَام ثَلَاثِينَ مِسْكِينًا إِذَا حَنِثَ فِيهَا ; لِأَنَّ قَوْله | الْأَيْمَان | جَمْع يَمِين , وَهُوَ لَوْ قَالَ عَلَيَّ يَمِين وَحَنِثَ أَلْزَمْنَاهُ كَفَّارَة . وَلَوْ قَالَ : عَلَيَّ يَمِينَانِ لَلَزِمَتْهُ كَفَّارَتَانِ إِذَا حَنِثَ . وَالْأَيْمَان جَمْع يَمِين فَيَلْزَمهُ فِيهَا ثَلَاث كَفَّارَات . قُلْت : وَذَكَرَ أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن مُغِيث فِي وَثَائِقه : اِخْتَلَفَ شُيُوخ الْقَيْرَوَان فِيهَا ; فَقَالَ أَبُو مُحَمَّد بْن أَبِي زَيْد ; يَلْزَمهُ فِي زَوْجَته ثَلَاث تَطْلِيقَات , وَالْمَشْي إِلَى مَكَّة , وَتَفْرِيق ثُلُث مَاله , وَكَفَّارَة يَمِين , وَعِتْق رَقَبَة . قَالَ اِبْن مُغِيث : وَبِهِ قَالَ اِبْن أَرْفَع رَأْسه وَابْن بَدْر مِنْ فُقَهَاء طُلَيْطِلَة . وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو عِمْرَان الْفَاسِيّ وَأَبُو الْحَسَن الْقَابِسِيّ وَأَبُو بَكْر بْن عَبْد الرَّحْمَن الْقَرَوِيّ : تَلْزَمهُ طَلْقَة وَاحِدَة إِذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّة . وَمِنْ حُجَّتهمْ فِي ذَلِكَ رِوَايَة اِبْن الْحَسَن فِي سَمَاعه مِنْ اِبْن وَهْب فِي قَوْله : | وَأَشَدّ مَا أَخَذَهُ أَحَد عَلَى أَحَد أَنَّ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ كَفَّارَة يَمِين | . قَالَ اِبْن مُغِيث : فَجَعَلَ مَنْ سَمَّيْنَاهُ عَلَى الْقَائِل : | الْأَيْمَان تَلْزَمهُ | طَلْقَة وَاحِدَة ; لِأَنَّهُ لَا يَكُون أَسْوَأ حَالًا مِنْ قَوْله : أَشَدّ مَا أَخَذَهُ أَحَد عَلَى أَحَد أَنَّ عَلَيْهِ كَفَّارَة يَمِين , قَالَ وَبِهِ نَقُول . قَالَ : وَاحْتَجَّ الْأَوَّلُونَ بِقَوْلِ اِبْن الْقَاسِم فِيمَنْ قَالَ : عَلَيَّ عَهْد اللَّه وَغَلِيظ مِيثَاقه وَكَفَالَته وَأَشَدّ مَا أَخَذَهُ أَحَد عَلَى أَحَد عَلَى أَمَرَ أَلَّا يَفْعَلهُ ثُمَّ فَعَلَهُ ; فَقَالَ : إِنْ لَمْ يُرِدْ الطَّلَاق وَلَا الْعَتَاق وَعَزَلَهُمَا عَنْ ذَلِكَ فَلْتَكُنْ ثَلَاث كَفَّارَات . فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّة حِين حَلَفَ فَلْيُكَفِّرْ كَفَّارَتَيْنِ فِي قَوْله : عَلَيَّ عَهْد اللَّه وَغَلِيظ مِيثَاقه . وَيَعْتِق رَقَبَة وَتَطْلُق نِسَاؤُهُ , وَيَمْشِي إِلَى مَكَّة وَيَتَصَدَّق بِثُلُثِ مَاله فِي قَوْله : وَأَشَدّ مَا أَخَذَهُ عَلَى أَحَد . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : أَمَّا طَرِيق الْأَدِلَّة فَإِنَّ الْأَلِف وَاللَّام فِي الْأَيْمَان لَا تَخْلُو أَنْ يُرَاد بِهَا الْجِنْس أَوْ الْعَهْد ; فَإِنْ دَخَلَتْ لِلْعَهْدِ فَالْمَعْهُود قَوْلك | بِاَللَّهِ | فَيَكُون مَا قَالَهُ الْفِهْرِيّ . فَإِنْ دَخَلَتْ لِلْجِنْسِ فَالطَّلَاق جِنْس فَيَدْخُل فِيهَا وَلَا يُسْتَوْفَى عَدَده , فَإِنَّ الَّذِي يَكْفِي أَنْ يَدْخُل فِي كُلّ جِنْس مَعْنًى وَاحِد ; فَإِنَّهُ لَوْ دَخَلَ فِي الْجِنْس الْمَعْنَى كُلّه لَلَزِمَهُ أَنْ يَتَصَدَّق بِجَمِيعِ مَاله ; إِذْ قَدْ تَكُون الصَّدَقَة بِالْمَالِ يَمِينًا . وَاَللَّه أَعْلَم .|قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ|أَيْ قُلْ يَا مُحَمَّد : اللَّه الْقَادِر عَلَى الْإِتْيَان بِهَا , وَإِنَّمَا يَأْتِي بِهَا إِذَا شَاءَ . | وَمَا يُشْعِركُمْ | أَيْ وَمَا يُدْرِيكُمْ أَيْمَانكُمْ ; فَحَذَفَ الْمَفْعُول . ثُمَّ اِسْتَأْنَفَ فَقَالَ : | إِنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ | بِكَسْرِ إِنَّ , وَهِيَ قِرَاءَة مُجَاهِد وَأَبِي عَمْرو وَابْن كَثِير . وَيَشْهَد لِهَذَا قِرَاءَة اِبْن مَسْعُود | وَمَا يَشْعُركُمْ إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ | . وَقَالَ مُجَاهِد وَابْن زَيْد : الْمُخَاطَب بِهَذَا الْمُشْرِكُونَ , وَتَمَّ الْكَلَام . حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ , وَقَدْ أَعْلَمَنَا فِي الْآيَة بَعْد هَذِهِ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ . وَهَذَا التَّأْوِيل يُشْبِه قِرَاءَة مَنْ قَرَأَ | تُؤْمِنُونَ | بِالتَّاءِ . وَقَالَ الْفَرَّاء وَغَيْره ; الْخِطَاب لِلْمُؤْمِنِينَ ; لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا رَسُول اللَّه , لَوْ نَزَلَتْ الْآيَة لَعَلَّهُمْ يُؤْمِنُونَ ; فَقَالَ اللَّه تَعَالَى : | وَمَا يُشْعِركُمْ | .|وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ|أَيْ يُعَلِّمكُمْ وَيُدْرِيكُمْ أَيّهَا الْمُؤْمِنُونَ . | أَنَّهَا | بِالْفَتْحِ , وَهِيَ قِرَاءَة أَهْل الْمَدِينَة وَالْأَعْمَش وَحَمْزَة , أَيْ لَعَلَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ . قَالَ الْخَلِيل : | أَنَّهَا | بِمَعْنَى لَعَلَّهَا ; وَحَكَاهُ عَنْهُ سِيبَوَيْهِ . وَفِي التَّنْزِيل : | وَمَا يُدْرِيك لَعَلَّهُ يَزَّكَّى | [ عَبَسَ : 3 ] أَيْ أَنَّهُ يَزَّكَّى . وَحُكِيَ عَنْ الْعَرَب : اِيتِ السُّوق أَنَّك تَشْتَرِي لَنَا شَيْئًا , أَيْ لَعَلَّك . وَقَالَ أَبُو النَّجْم : <br>قُلْت لِشَيْبَان اُدْنُ مِنْ لِقَائِهْ .......... أَنَّ تُغَدِّي الْقَوْم مِنْ شِوَائِهْ <br>وَقَالَ عَدِيّ بْن زَيْد : <br>أَعَاذِل مَا يُدْرِيك أَنَّ مَنِيَّتِي .......... إِلَى سَاعَة فِي الْيَوْم أَوْ فِي ضُحَى الْغَد <br>أَيْ لَعَلَّ . وَقَالَ دُرَيْد بْن الصِّمَّة . <br>أَرِينِي جَوَادًا مَاتَ هَزْلًا لِأَنَّنِي .......... أَرَى مَا تَرَيْنَ أَوْ بَخِيلًا مُخَلَّدَا <br>أَيْ لَعَلَّنِي . وَهُوَ فِي كَلَام الْعَرَب كَثِير | أَنَّ | بِمَعْنَى لَعَلَّ . وَحَكَى الْكِسَائِيّ أَنَّهُ كَذَلِكَ فِي مُصْحَف أُبَيّ بْن كَعْب | وَمَا أَدْرَاكُمْ لَعَلَّهَا | . وَقَالَ الْكِسَائِيّ وَالْفَرَّاء : أَنَّ | لَا | زَائِدَة , وَالْمَعْنَى : وَمَا يُشْعِركُمْ أَنَّهَا - أَيْ الْآيَات - إِذَا جَاءَتْ الْمُشْرِكِينَ يُؤْمِنُونَ , فَزِيدَتْ | لَا | ; كَمَا زِيدَتْ | لَا | فِي قَوْله تَعَالَى : | وَحَرَام عَلَى قَرْيَة أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ | [ الْأَنْبِيَاء : 95 ] . لِأَنَّ الْمَعْنَى : وَحَرَام عَلَى قَرْيَة مُهْلَكَة رُجُوعهمْ . وَفِي قَوْله : | مَا مَنَعَك أَلَّا تَسْجُد | [ الْأَعْرَاف : 12 ] . وَالْمَعْنَى : مَا مَنَعَك أَنْ تَسْجُد . وَضَعَّفَ الزَّجَّاج وَالنَّحَّاس وَغَيْرهمَا زِيَادَة | لَا | وَقَالُوا : هُوَ غَلَط وَخَطَأ ; لِأَنَّهَا إِنَّمَا تُزَاد فِيمَا لَا يُشْكِل . وَقِيلَ : فِي الْكَلَام حَذْف , وَالْمَعْنَى : وَمَا يُشْعِركُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ أَوْ يُؤْمِنُونَ , ثُمَّ حَذَفَ هَذَا لِعِلْمِ السَّامِع ; ذَكَرَهُ النَّحَّاس وَغَيْره .

وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ

هَذِهِ آيَة مُشْكِلَة , وَلَا سِيَّمَا وَفِيهَا | وَنَذَرهُمْ فِي طُغْيَانهمْ يَعْمَهُونَ | . قِيلَ : الْمَعْنَى وَنُقَلِّب أَفْئِدَتهمْ وَأَنْظَارهمْ يَوْم الْقِيَامَة عَلَى لَهَب النَّار وَحَرّ الْجَمْر ; كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا فِي الدُّنْيَا . | وَنَذَرهُمْ | فِي الدُّنْيَا , أَيْ نُمْهِلهُمْ وَلَا نُعَاقِبهُمْ ; فَبَعْض الْآيَة فِي الْآخِرَة , وَبَعْضهَا فِي الدُّنْيَا . وَنَظِيرهَا | وُجُوه يَوْمئِذٍ خَاشِعَة | [ الْغَاشِيَة : 2 ] فَهَذَا فِي الْآخِرَة . | عَامِلَة نَاصِبَة | فِي الدُّنْيَا . وَقِيلَ : وَنُقَلِّب فِي الدُّنْيَا ; أَيْ نَحُول بَيْنهمْ وَبَيْن الْإِيمَان لَوْ جَاءَتْهُمْ تِلْكَ الْآيَة , كَمَا حُلْنَا بَيْنهمْ وَبَيْن الْإِيمَان أَوَّل مَرَّة ; لَمَّا دَعَوْتهمْ وَأَظْهَرْت الْمُعْجِزَة . وَفِي التَّنْزِيل : | وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّه يَحُول بَيْن الْمَرْء وَقَلْبه | [ الْأَنْفَال : 24 ] . وَالْمَعْنَى : كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُؤْمِنُوا إِذَا جَاءَتْهُمْ الْآيَة فَرَأَوْهَا بِأَبْصَارِهِمْ وَعَرَفُوهَا بِقُلُوبِهِمْ ; فَإِذَا لَمْ يُؤْمِنُوا كَانَ ذَلِكَ بِتَقْلِيبِ اللَّه قُلُوبهمْ وَأَبْصَارهمْ .|كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ|وَدَخَلَتْ الْكَاف عَلَى مَحْذُوف , أَيْ فَلَا يُؤْمِنُونَ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّل مَرَّة ; أَيْ أَوَّل مَرَّة أَتَتْهُمْ الْآيَات الَّتِي عَجَزُوا عَنْ مُعَارَضَتهَا مِثْل الْقُرْآن وَغَيْره . وَقِيلَ : وَنُقَلِّب أَفْئِدَة هَؤُلَاءِ كَيْ لَا يُؤْمِنُوا ; كَمَا لَمْ تُؤْمِن كُفَّار الْأُمَم السَّالِفَة لَمَّا رَأَوْا مَا اِقْتَرَحُوا مِنْ الْآيَات . وَقِيلَ : فِي الْكَلَام تَقْدِيم وَتَأْخِير ; أَيْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا أَوَّل مَرَّة وَنُقَلِّب أَفْئِدَتهمْ وَأَبْصَارهمْ .|وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ|يَتَحَيَّرُونَ . وَقَدْ مَضَى فِي | الْبَقَرَة | .

وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ

فَرَأَوْهُمْ عِيَانًا .|وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى|بِإِحْيَائِنَا إِيَّاهُمْ .|وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ|سَأَلُوهُ مِنْ الْآيَات .|قُبُلًا|مُقَابَلَة ; عَنْ اِبْن عَبَّاس وَقَتَادَة وَابْن زَيْد . وَهِيَ قِرَاءَة نَافِع وَابْن عَامِر . وَقِيلَ : مُعَايَنَة , لَمَّا آمَنُوا . وَقَالَ مُحَمَّد بْن يَزِيد : يَكُون | قِبَلًا | بِمَعْنَى نَاحِيَة ; كَمَا تَقُول : لِي قِبَل فُلَان مَال ; فَقِبَلًا نُصِبَ عَلَى الظَّرْف . وَقَرَأَ الْبَاقُونَ | قُبُلًا | بِضَمِّ الْقَاف وَالْبَاء , وَمَعْنَاهُ ضُمَنَاء ; فَيَكُون جَمْع قَبِيل بِمَعْنَى كَفِيلٍ , نَحْو رَغِيف وَرُغُف ; كَمَا قَالَ : | أَوْ تَأْتِي بِاَللَّهِ وَالْمَلَائِكَة قَبِيلًا | [ الْإِسْرَاء : 92 ] ; أَيْ يَضْمَنُونَ ذَلِكَ ; عَنْ الْفَرَّاء . وَقَالَ الْأَخْفَش : هُوَ بِمَعْنَى قَبِيل قَبِيل ; أَيْ جَمَاعَة جَمَاعَة , وَقَالَهُ مُجَاهِد , وَهُوَ نَصْب عَلَى الْحَال عَلَى الْقَوْلَيْنِ . وَقَالَ مُحَمَّد بْن يَزِيد | قُبُلًا | أَيْ مُقَابَلَة ; وَمِنْهُ | إِنْ كَانَ قَمِيصه قُدَّ مِنْ قُبُل | [ يُوسُف : 26 ] . وَمِنْهُ قُبُل الرَّجُل وَدُبُره لَمَّا كَانَ مِنْ بَيْن يَدَيْهِ وَمِنْ وَرَائِهِ . وَمِنْهُ قَبْل الْحَيْض . حَكَى أَبُو زَيْد : لَقِيت فُلَانًا قُبُلًا وَمُقَابَلَة وَقَبَلًا وَقِبُلًا , كُلّه بِمَعْنَى الْمُوَاجَهَة ; فَيَكُون الضَّمّ كَالْكَسْرِ فِي الْمَعْنَى وَتَسْتَوِي الْقِرَاءَتَانِ ; قَالَهُ مَكِّيّ . وَقَرَأَ الْحَسَن | قُبْلًا | حَذَفَ الضَّمَّة مِنْ الْبَاء لِثِقَلِهَا . وَعَلَى قَوْل الْفَرَّاء يَكُون فِيهِ نُطْق مَا لَا يَنْطِق , وَفِي كَفَالَة مَا لَا يَعْقِل آيَة عَظِيمَة لَهُمْ . وَعَلَى قَوْل الْأَخْفَش يَكُون فِيهِ اِجْتِمَاع الْأَجْنَاس الَّذِي لَيْسَ بِمَعْهُودٍ . وَالْحَشْر الْجَمْع .|مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ|| أَنْ | فِي مَوْضِع اِسْتِثْنَاء لَيْسَ مِنْ الْأَوَّل ; أَيْ لَكِنْ إِنْ شَاءَ ذَلِكَ لَهُمْ . وَقِيلَ : الِاسْتِثْنَاء لِأَهْلِ السَّعَادَة الَّذِينَ سَبَقَ لَهُمْ فِي عِلْم اللَّه الْإِيمَان . وَفِي هَذَا تَسْلِيَة لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .|وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ|أَيْ يَجْهَلُونَ الْحَقّ . وَقِيلَ : يَجْهَلُونَ أَنَّهُ لَا يَجُوز اِقْتِرَاح الْآيَات بَعْد أَنْ رَأَوْا آيَة وَاحِدَة .

وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ

يُعَزِّي نَبِيّه وَيُسَلِّيه , أَيْ كَمَا اِبْتَلَيْنَاك بِهَؤُلَاءِ الْقَوْم فَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيّ قَبْلك .|عَدُوًّا|أَيْ أَعْدَاء .|شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ|حَكَى سِيبَوَيْهِ جَعَلَ بِمَعْنَى وَصَفَ . | عَدُوًّا | مَفْعُول أَوَّل . | لِكُلِّ نَبِيّ | فِي مَوْضِع الْمَفْعُول الثَّانِي . | شَيَاطِين الْإِنْس وَالْجِنّ | بَدَل مِنْ عَدُوّ . وَيَجُوز أَنْ يَكُون | شَيَاطِين | مَفْعُولًا أَوَّل , | عَدُوًّا | مَفْعُولًا ثَانِيًا ; كَأَنَّهُ قِيلَ : جَعَلْنَا شَيَاطِين الْإِنْس وَالْجِنّ عَدُوًّا . وَقَرَأَ الْأَعْمَش : | شَيَاطِين الْجِنّ وَالْإِنْس | بِتَقْدِيمِ الْجِنّ . وَالْمَعْنَى وَاحِد .|يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا|عِبَارَة عَمَّا يُوَسْوِس بِهِ شَيَاطِين الْجِنّ إِلَى شَيَاطِين الْإِنْس . وَسُمِّيَ وَحْيًا لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَكُون خُفْيَة , وَجَعَلَ تَمْوِيههمْ زُخْرُفًا لِتَزْيِينِهِمْ إِيَّاهُ ; وَمِنْهُ سُمِّيَ الذَّهَب زُخْرُفًا . وَكُلّ شَيْء حَسَن مُمَوَّه فَهُوَ زُخْرُف . وَالْمُزَخْرَف الْمُزَيَّن . وَزَخَارِف الْمَاء طَرَائِقه . و | غُرُورًا | نَصْب عَلَى الْمَصْدَر , لِأَنَّ مَعْنَى | يُوحِي بَعْضهمْ إِلَى بَعْض | يَغُرُّونَهُمْ بِذَلِكَ غُرُورًا . وَيَجُوز أَنْ يَكُون فِي مَوْضِع الْحَال . وَالْغُرُور الْبَاطِل . قَالَ النَّحَّاس : وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس بِإِسْنَادٍ ضَعِيف أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ | يُوحِي بَعْضهمْ إِلَى بَعْض | قَالَ : مَعَ كُلّ جِنِّيّ شَيْطَان , وَمَعَ كُلّ إِنْسِيّ شَيْطَان , فَيَلْقَى أَحَدهمَا الْآخَر فَيَقُول : إِنِّي قَدْ أَضْلَلْت صَاحِبِي بِكَذَا فَأَضِلَّ صَاحِبك بِمِثْلِهِ . وَيَقُول الْآخَر مِثْل ذَلِكَ ; فَهَذَا وَحْي بَعْضهمْ إِلَى بَعْض . وَقَالَهُ عِكْرِمَة وَالضَّحَّاك وَالسُّدِّيّ وَالْكَلْبِيّ . قَالَ النَّحَّاس : وَالْقَوْل الْأَوَّل يَدُلّ عَلَيْهِ | وَإِنَّ الشَّيَاطِين لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ | [ الْأَنْعَام : 121 ] ; فَهَذَا يُبَيِّن مَعْنَى ذَلِكَ .</p><p>قُلْت : وَيَدُلّ عَلَيْهِ مِنْ صَحِيح السُّنَّة قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَد إِلَّا وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينه مِنْ الْجِنّ ) قِيلَ : وَلَا أَنْتَ يَا رَسُول اللَّه ؟ قَالَ : ( وَلَا أَنَا إِلَّا أَنَّ اللَّه أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَم فَلَا يَأْمُرنِي إِلَّا بِخَيْرٍ ) . رُوِيَ ( فَأَسْلَم ) بِرَفْعِ الْمِيم وَنَصْبهَا . فَالرَّفْع عَلَى مَعْنَى فَأَسْلَمُ مِنْ شَرّه . وَالنَّصْب عَلَى مَعْنَى فَأَسْلَمَ هُوَ . فَقَالَ : ( مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَد ) وَلَمْ يَقُلْ وَلَا مِنْ الشَّيَاطِين ; إِلَّا أَنَّهُ يَحْتَمِل أَنْ يَكُون نَبَّهَ عَلَى أَحَد الْجِنْسَيْنِ بِالْآخَرِ ; فَيَكُون مِنْ بَاب | سَرَابِيل تَقِيكُمْ الْحَرّ | [ النَّحْل : 81 ] وَفِيهِ بَعْد , وَاَللَّه أَعْلَم . وَرَوَى عَوْف بْن مَالِك عَنْ أَبِي ذَرّ قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يَا أَبَا ذَرّ هَلْ تَعَوَّذْت بِاَللَّهِ مِنْ شَرّ شَيَاطِين الْإِنْس وَالْجِنّ ) ؟ قَالَ قُلْت : يَا رَسُول اللَّه , وَهَلْ لِلْإِنْسِ مِنْ شَيَاطِين ؟ قَالَ : ( نَعَمْ هُمْ شَرّ مِنْ شَيَاطِين الْجِنّ ) . وَقَالَ مَالِك بْن دِينَار : إِنَّ شَيْطَان الْإِنْس أَشَدّ عَلَيَّ مِنْ شَيْطَان الْجِنّ , وَذَلِكَ أَنِّي إِذَا تَعَوَّذْت بِاَللَّهِ ذَهَبَ عَنِّي شَيْطَان الْجِنّ , وَشَيْطَان الْإِنْس يَجِيئنِي فَيَجُرّنِي إِلَى الْمَعَاصِي عِيَانًا . وَسَمِعَ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ اِمْرَأَة تَنْشُد : <br>إِنَّ النِّسَاء رَيَاحِين خُلِقْنَ لَكُمْ .......... وَكُلّكُمْ يَشْتَهِي شَمَّ الرَّيَاحِين <br>فَأَجَابَهَا عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : <br>إِنَّ النِّسَاء شَيَاطِين خُلِقْنَ لَنَا .......... نَعُوذ بِاَللَّهِ مِنْ شَرّ الشَّيَاطِين<br>|وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ|أَيْ مَا فَعَلُوا إِيحَاء الْقَوْل بِالْغُرُورِ .|فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ|أَمْر فِيهِ مَعْنَى التَّهْدِيد . قَالَ سِيبَوَيْهِ : وَلَا يُقَال وَذَرَ وَلَا وَدَعَ , اِسْتَغْنَوْا عَنْهُمَا بِتَرَكَ . قُلْت : هَذَا إِنَّمَا خَرَجَ عَلَى الْأَكْثَر . وَفِي التَّنْزِيل : | وَذَرِ الَّذِينَ | و | ذَرْهُمْ | و | مَا وَدَعَك | [ الضُّحَى : 3 ] . وَفِي السُّنَّة ( لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَام عَنْ وَدَعهمْ الْجُمُعَات ) . وَقَوْله : ( إِذَا فَعَلُوا - يُرِيد الْمَعَاصِي - فَقَدْ تُوُدِّعَ مِنْهُمْ ) . قَالَ الزَّجَّاج : الْوَاو ثَقِيلَة ; فَلَمَّا كَانَ | تَرَكَ | لَيْسَ فِيهِ وَاو بِمَعْنَى مَا فِيهِ الْوَاو تُرِكَ مَا فِيهِ الْوَاو . وَهَذَا مَعْنَى قَوْله وَلَيْسَ بِنَصِّهِ .

وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ

تَصْغَى تَمِيل ; يُقَال : صَغَوْت أَصْغُو صَغْوًا وَصُغُوًّا , وَصَغَيْت أَصْغَى , وَصَغَيْت بِالْكَسْرِ أَيْضًا . يُقَال مِنْهُ : صَغِيَ يَصْغَى صَغًى وَصُغْيًا , وَأَصْغَيْت إِلَيْهِ إِصْغَاء بِمَعْنًى .</p><p>قَالَ الشَّاعِر : <br>تَرَى السَّفِيه بِهِ عَنْ كُلّ مُحْكَمَة .......... زَيْغ وَفِيهِ إِلَى التَّشْبِيه إِصْغَاء <br>وَيُقَال : أَصْغَيْت الْإِنَاء إِذَا أَمَلْته لِيَجْتَمِع مَا فِيهِ . وَأَصْله الْمَيْل إِلَى الشَّيْء لِغَرَضٍ مِنْ الْأَغْرَاض . وَمِنْهُ صَغَتْ النُّجُوم : مَالَتْ لِلْغُرُوبِ . وَفِي التَّنْزِيل : | فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبكُمَا | [ التَّحْرِيم : 4 ] . قَالَ أَبُو زَيْد : يُقَال صَغْوُهُ مَعَك وَصِغْوُهُ , وَصَغَاهُ مَعَك , أَيْ مَيْله . وَفِي الْحَدِيث : ( فَأَصْغَى لَهَا الْإِنَاء ) يَعْنِي لِلْهِرَّةِ . وَأَكْرَمُوا فُلَانًا فِي صَاغِيَته , أَيْ فِي قَرَابَته الَّذِينَ يَمِيلُونَ إِلَيْهِ وَيَطْلُبُونَ مَا عِنْده . وَأَصْغَتْ النَّاقَة إِذَا أَمَالَتْ رَأْسهَا إِلَى الرَّجُل كَأَنَّهَا تَسْتَمِع شَيْئًا حِين يُشَدّ عَلَيْهَا الرَّحْل . قَالَ ذُو الرُّمَّة : <br>تُصْغِي إِذَا شَدَّهَا بِالْكُورِ جَانِحَة .......... حَتَّى إِذَا مَا اِسْتَوَى فِي غَرْزهَا تَثِب <br>وَاللَّام فِي وَلِتَصْغَى لَام كَيْ , وَالْعَامِل فِيهَا | يُوحِي | تَقْدِيره : يُوحِي بَعْضهمْ إِلَى بَعْض لِيَغُرُّوهُمْ وَلِتَصْغَى . وَزَعَمَ بَعْضهمْ أَنَّهَا لَام الْأَمْر , وَهُوَ غَلَط ; لِأَنَّهُ كَانَ يَجِب | وَلْتَصْغَ إِلَيْهِ | بِحَذْفِ الْأَلِف , وَإِنَّمَا هِيَ لَام كَيْ .|وَلِيَرْضَوْهُ|وَكَذَلِكَ وَلْيَقْتَرِفُوا إِلَّا أَنَّ الْحَسَن قَرَأَ | وَلْيَرْضَوْهُ وَلْيَقْتَرِفُوا | بِإِسْكَانِ اللَّام , جَعَلَهَا لَام أَمْر فِيهِ مَعْنَى التَّهْدِيد ; كَمَا يُقَال : اِفْعَلْ مَا شِئْت .|وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ|أَيْ وَلِيَكْتَسِبُوا ; عَنْ اِبْن عَبَّاس وَالسُّدِّيّ وَابْن زَيْد . يُقَال : خَرَجَ يَقْتَرِف أَهْله أَيْ يَكْتَسِب لَهُمْ . وَقَارَفَ فُلَان هَذَا الْأَمْر إِذَا وَاقَعَهُ وَعَمِلَهُ . وَقَرَفْتنِي بِمَا اِدَّعَيْت عَلَيَّ , أَيْ رَمَيْتنِي بِالرِّيبَةِ . وَقَرَفَ الْقَرْحَة إِذَا قَشَرَ مِنْهَا . وَاقْتَرَفَ كَذِبًا . قَالَ رُؤْبَة : <br>أَعْيَا اِقْتِرَاف الْكَذِب الْمَقْرُوف .......... تَقْوَى التَّقِيّ وَعِفَّة الْعَفِيف <br>وَأَصْله اِقْتِطَاع قِطْعَة مِنْ الشَّيْء .

أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ

| غَيْر | نَصْب ب | أَبْتَغِي | . | حَكَمًا | نَصْب عَلَى الْبَيَان , وَإِنْ شِئْت عَلَى الْحَال . وَالْمَعْنَى : أَفَغَيْر اللَّه أَطْلُب لَكُمْ حَاكِمًا وَهُوَ كَفَاكُمْ مَئُونَة الْمَسْأَلَة فِي الْآيَات بِمَا أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ مِنْ الْكِتَاب الْمُفَصَّل , أَيْ الْمُبِين . ثُمَّ قِيلَ : الْحَكَم أَبْلَغ مِنْ الْحَاكِم ; إِذْ لَا يَسْتَحِقّ التَّسْمِيَة بِحُكْمٍ إِلَّا مَنْ يَحْكُم بِالْحَقِّ , لِأَنَّهَا صِفَة تَعْظِيم فِي مَدْح . وَالْحَاكِم صِفَة جَارِيَة عَلَى الْفِعْل , فَقَدْ يُسَمَّى بِهَا مَنْ يَحْكُم بِغَيْرِ الْحَقّ .|وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ|يُرِيد الْيَهُود وَالنَّصَارَى . وَقِيلَ : مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ كَسَلْمَان وَصُهَيْب وَعَبْد اللَّه بْن سَلَّام .|يَعْلَمُونَ أَنَّهُ|أَيْ الْقُرْآن .|مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ|أَيْ أَنَّ كُلّ مَا فِيهِ مِنْ الْوَعْد وَالْوَعِيد لَحَقّ .|فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ|أَيْ مِنْ الشَّاكِّينَ فِي أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّل مِنْ عِنْد اللَّه . وَقَالَ عَطَاء : الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَاب وَهُمْ رُؤَسَاء أَصْحَاب مُحَمَّد عَلَيْهِ السَّلَام : أَبُو بَكْر وَعُمَر وَعُثْمَان وَعَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ .

وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ

قِرَاءَة أَهْل الْكُوفَة بِالتَّوْحِيدِ , وَالْبَاقُونَ بِالْجَمْعِ . قَالَ اِبْن عَبَّاس : مَوَاعِيد رَبّك , فَلَا مُغَيِّر لَهَا . وَالْكَلِمَات تَرْجِع إِلَى الْعِبَارَات أَوْ إِلَى الْمُتَعَلَّقَات مِنْ الْوَعْد وَالْوَعِيد وَغَيْرهمَا . قَالَ قَتَادَة : الْكَلِمَات هِيَ الْقُرْآن لَا مُبَدِّل لَهُ , لَا يَزِيد فِيهِ الْمُفْتَرُونَ وَلَا يَنْقُصُونَ .|صِدْقًا وَعَدْلًا|أَيْ فِيمَا وَعَدَ وَحَكَمَ , لَا رَادّ لِقَضَائِهِ وَلَا خُلْف فِي وَعْده . وَحَكَى الرُّمَّانِيّ عَنْ قَتَادَة .|لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ|لَا مُبَدِّل لَهَا فِيمَا حَكَمَ بِهِ , أَيْ إِنَّهُ وَإِنْ أَمْكَنَهُ التَّغْيِير وَالتَّبْدِيل فِي الْأَلْفَاظ كَمَا غَيَّرَ أَهْل الْكِتَاب التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل فَإِنَّهُ لَا يَعْتَدّ بِذَلِكَ . وَدَلَّتْ الْآيَة عَلَى وُجُوب اِتِّبَاع دَلَالَات الْقُرْآن ; لِأَنَّهُ حَقّ لَا يُمْكِن تَبْدِيله بِمَا يُنَاقِضهُ , لِأَنَّهُ مِنْ عِنْد حَكِيم لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْء مِنْ الْأُمُور كُلّهَا .

وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ

أَيْ الْكُفَّار .|يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ|أَيْ عَنْ الطَّرِيق الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى ثَوَاب اللَّه .|إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ|| إِنْ | بِمَعْنَى مَا . وَكَذَلِكَ | وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ | .|وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ|أَيْ يَحْدِسُونَ وَيَقْدِرُونَ ; وَمِنْهُ الْخَرْص , وَأَصْله الْقَطْع . قَالَ الشَّاعِر : <br>تَرَى قَصْد الْمِرَان فِينَا كَأَنَّهُ .......... تَذَرُّع خِرْصَان بِأَيْدِي الشَّوَاطِب <br>يَعْنِي جَرِيدًا يُقْطَع طُولًا وَيُتَّخَذ مِنْهُ الْخَرْص . وَهُوَ جَمْع الْخَرْص ; وَمِنْهُ خَرَصَ يَخْرُص النَّخْل خَرْصًا إِذَا حَزَرَهُ لِيَأْخُذ الْخَرَاج مِنْهُ . فَالْخَارِص يَقْطَع بِمَا لَا يَجُوز الْقَطْع بِهِ ; إِذْ لَا يَقِين مَعَهُ . وَسَيَأْتِي لِهَذَا مَزِيد بَيَان فِي | الذَّارِيَات | إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .

إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ

قَالَ بَعْض النَّاس : إِنَّ | أَعْلَم | هُنَا بِمَعْنَى يَعْلَم ; وَأَنْشَدَ قَوْل حَاتِم الطَّائِيّ : <br>تَحَالَفَتْ طَيْء مِنْ دُوننَا حِلْفًا .......... وَاَللَّه أَعْلَم مَا كُنَّا لَهُمْ خُذُلًا <br>وَقَوْل الْخَنْسَاء : <br>اللَّه أَعْلَم أَنَّ جَفْنَته .......... تَغْدُو غَدَاة الرِّيح أَوْ تَسْرِي <br>وَهَذَا لَا حُجَّة فِيهِ ; لِأَنَّهُ لَا يُطَابِق | هُوَ أَعْلَم بِالْمُهْتَدِينَ | . وَلِأَنَّهُ يَحْتَمِل أَنْ يَكُون عَلَى أَصْله .|مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ|| مَنْ | بِمَعْنَى أَيْ ; فَهُوَ فِي مَحَلّ رَفْع وَالرَّافِع لَهُ | يَضِلّ | . وَقِيلَ : فِي مَحْل نَصْب بِأَعْلَم , أَيْ إِنَّ رَبّك أَعْلَم أَيّ النَّاس يَضِلّ عَنْ سَبِيله . وَقِيلَ : فِي مَحَلّ نَصْب بِنَزْعِ الْخَافِض ; أَيْ بِمَنْ يَضِلّ . قَالَهُ بَعْض الْبَصْرِيِّينَ , وَهُوَ حَسَن .|وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ|وَقَوْله فِي آخِر النَّحْل : | إِنَّ رَبّك هُوَ أَعْلَم بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيله وَهُوَ أَعْلَم بِالْمُهْتَدِينَ | [ النَّحْل : 125 ] . وَقُرِئَ | يَضِلّ | وَهَذَا عَلَى حَذْف الْمَفْعُول , وَالْأَوَّل أَحْسَن ; لِأَنَّهُ قَالَ : | وَهُوَ أَعْلَم بِالْمُهْتَدِينَ | . فَلَوْ كَانَ مِنْ الْإِضْلَال لَقَالَ وَهُوَ أَعْلَم بِالْهَادِينَ .

فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآَيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ

نَزَلَتْ بِسَبَبِ أُنَاس أَتَوْا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا : يَا رَسُول اللَّه , إِنَّا نَأْكُل مَا نَقْتُل وَلَا نَأْكُل مَا قَتَلَ اللَّه ؟ فَنَزَلَتْ | فَكُلُوا | إِلَى قَوْله | وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ | [ الْأَنْعَام : 121 ] خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيّ وَغَيْره . قَالَ عَطَاء : هَذِهِ الْآيَة أَمْر بِذِكْرِ اِسْم اللَّه عَلَى الشَّرَاب وَالذَّبْح وَكُلّ مَطْعُوم .|إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ|أَيْ بِأَحْكَامِهِ وَأَوَامِره آخِذِينَ ; فَإِنَّ الْإِيمَان بِهَا يَتَضَمَّن وَيَقْتَضِي الْأَخْذ بِهَا وَالِانْقِيَاد لَهَا .

وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ

الْمَعْنَى مَا الْمَانِع لَكُمْ مِنْ أَكْل مَا سَمَّيْتُمْ عَلَيْهِ رَبّكُمْ وَإِنْ قَتَلْتُمُوهُ بِأَيْدِيكُمْ .|وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ|أَيْ بَيَّنَ لَكُمْ الْحَلَال مِنْ الْحَرَام , وَأُزِيلَ عَنْكُمْ اللَّبْس وَالشَّكّ . ف | مَا | اِسْتِفْهَام يَتَضَمَّن التَّقْرِير . وَتَقْدِير الْكَلَام : وَأَيّ شَيْء لَكُمْ فِي أَلَّا تَأْكُلُوا . ف | أَنَّ | فِي مَوْضِع خَفْض بِتَقْدِيرِ حَرْف الْجَرّ . وَيَصِحّ أَنْ تَكُون فِي مَوْضِع نَصْب عَلَى أَلَّا يُقَدَّر حَرْف جَرّ , وَيَكُون النَّاصِب مَعْنَى الْفِعْل الَّذِي فِي قَوْله | مَا لَكُمْ | تَقْدِيره أَيْ مَا يَمْنَعكُمْ . ثُمَّ اِسْتَثْنَى فَقَالَ إِلَّا مَا اُضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ | .|إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ|يُرِيد مِنْ جَمِيع مَا حَرَّمَ كَالْمَيْتَةِ وَغَيْرهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي | الْبَقَرَة | . وَهُوَ اِسْتِثْنَاء مُنْقَطِع . وَقَرَأَ نَافِع وَيَعْقُوب | وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ | بِفَتْحِ الْفِعْلَيْنِ . وَقَرَأَ أَبُو عَمْرو وَابْن عَامِر وَابْن كَثِير بِالضَّمِّ فِيهِمَا , وَالْكُوفِيُّونَ | فَصَّلَ | بِالْفَتْحِ | حُرِّمَ | بِالضَّمِّ . وَقَرَأَ عَطِيَّة الْعَوْفِيّ | فَصَلَ | بِالتَّخْفِيفِ . وَمَعْنَاهُ أَبَانَ وَظَهَرَ ; كَمَا قُرِئَ | الر كِتَاب أُحْكِمَتْ آيَاته ثُمَّ فُصِّلَتْ | [ هُود : 1 ] أَيْ اِسْتَبَانَتْ . وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْدَة قِرَاءَة أَهْل الْمَدِينَة . وَقِيلَ : | فَصَّلَ | أَيْ بَيَّنَ , وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ فِي سُورَة | الْمَائِدَة | مِنْ قَوْله : | حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَة وَالدَّم وَلَحْم الْخِنْزِير | [ الْمَائِدَة : 3 ] الْآيَة . قُلْت : هَذَا فِيهِ نَظَر ; فَإِنَّ | الْأَنْعَام | مَكِّيَّة وَالْمَائِدَة مَدَنِيَّة فَكَيْفَ يُحِيل بِالْبَيَانِ عَلَى مَا لَمْ يُنَزِّل بَعْد , إِلَّا أَنْ يَكُون فَصَّلَ بِمَعْنَى يُفَصِّل . وَاَللَّه أَعْلَم .|وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ|وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ | يُضِلُّونَ | مِنْ أَضَلَّ . يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ قَالُوا : مَا ذَبَحَ اللَّه بِسِكِّينِهِ خَيْر مِمَّا ذَبَحْتُمْ بِسَكَاكِينِكُمْ | بِغَيْرِ عِلْم | أَيْ بِغَيْرِ عِلْم يَعْلَمُونَهُ فِي أَمْر الذَّبْح ; إِذْ الْحِكْمَة فِيهِ إِخْرَاج مَا حَرَّمَهُ اللَّه عَلَيْنَا مِنْ الدَّم بِخِلَافِ مَا مَاتَ حَتْف أَنْفه ; وَلِذَلِكَ شَرَعَ الذَّكَاة فِي مَحَلّ مَخْصُوص لِيَكُونَ الذَّبْح فِيهِ سَبَبًا لِجَذْبِ كُلّ دَم فِي الْحَيَوَان بِخِلَافِ غَيْره مِنْ الْأَعْضَاء . وَاَللَّه أَعْلَم .

وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ

لِلْعُلَمَاءِ فِيهِ أَقْوَال كَثِيرَة وَحَاصِلهَا رَاجِع إِلَى أَنَّ الظَّاهِر مَا كَانَ عَمَلًا بِالْبَدَنِ مِمَّا نَهَى اللَّه عَنْهُ , وَبَاطِنه مَا عَقَدَ بِالْقَلْبِ مِنْ مُخَالَفَة أَمْر اللَّه فِيمَا أَمَرَ وَنَهَى ; وَهَذِهِ الْمَرْتَبَة لَا يَبْلُغهَا إِلَّا مَنْ اِتَّقَى وَأَحْسَن ; كَمَا قَالَ : | ثُمَّ اِتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اِتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا | [ الْمَائِدَة : 93 ] . وَهِيَ الْمَرْتَبَة الثَّالِثَة حَسْب مَا تَقَدَّمَ بَيَانه فِي | الْمَائِدَة | .</p><p>وَقِيلَ : هُوَ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّة مِنْ الزِّنَا الظَّاهِر وَاِتِّخَاذ الْحَلَائِل فِي الْبَاطِن . وَمَا قَدَّمْنَا جَامِع لِكُلِّ إِثْم وَمُوجِب لِكُلِّ أَمْر .

وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ

رَوَى أَبُو دَاوُد قَالَ : جَاءَتْ الْيَهُود إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا : نَأْكُل مِمَّا قَتَلْنَا وَلَا نَأْكُل مِمَّا قَتَلَ اللَّه ؟ فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : | وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَر اِسْم اللَّه عَلَيْهِ | إِلَى آخِر الْآيَة . وَرَوَى النَّسَائِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى : | وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَر اِسْم اللَّه عَلَيْهِ | قَالَ : خَاصَمَهُمْ الْمُشْرِكُونَ فَقَالُوا : مَا ذَبَحَ اللَّه فَلَا تَأْكُلُوهُ وَمَا ذَبَحْتُمْ أَنْتُمْ أَكَلْتُمُوهُ ; فَقَالَ اللَّه سُبْحَانه لَهُمْ : لَا تَأْكُلُوا ; فَإِنَّكُمْ لَمْ تَذْكُرُوا اِسْم اللَّه عَلَيْهَا . وَتَنْشَأ هُنَا مَسْأَلَة أُصُولِيَّة , وَهِيَ :</p><p>وَذَلِكَ أَنَّ اللَّفْظ الْوَارِد عَلَى سَبَب هَلْ يُقْصَر عَلَيْهِ أَمْ لَا ; فَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : لَا إِشْكَال فِي صِحَّة دَعْوَى الْعُمُوم فِيمَا يَذْكُرهُ الشَّارِع اِبْتِدَاء مِنْ صِيَغ أَلْفَاظ الْعُمُوم . أَمَّا مَا ذَكَرَهُ جَوَابًا لِسُؤَالٍ فَفِيهِ تَفْصِيل , عَلَى مَا هُوَ مَعْرُوف فِي أُصُول الْفِقْه ; إِلَّا أَنَّهُ إِنْ أَتَى بِلَفْظٍ مُسْتَقِلّ دُون السُّؤَال لَحِقَ بِالْأَوَّلِ فِي صِحَّة الْقَصْد إِلَى التَّعْمِيم . فَقَوْله : | لَا تَأْكُلُوا | ظَاهِر فِي تَنَاوُل الْمَيْتَة , وَيَدْخُل فِيهِ مَا ذُكِرَ عَلَيْهِ غَيْر اِسْم اللَّه بِعُمُومِ أَنَّهُ لَمْ يُذْكَر عَلَيْهِ اِسْم اللَّه , وَبِزِيَادَةِ ذِكْر غَيْر اِسْم اللَّه سُبْحَانه عَلَيْهِ الَّذِي يَقْتَضِي تَحْرِيمه نَصًّا بِقَوْلِهِ : | وَمَا أُهِلّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّه | [ الْبَقَرَة : 173 ] . وَهَلْ يَدْخُل فِيهِ مَا تَرَكَ الْمُسْلِم التَّسْمِيَة عَمْدًا عَلَيْهِ مِنْ الذَّبْح , وَعِنْد إِرْسَال الصَّيْد . اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي ذَلِكَ عَلَى أَقْوَال خَمْسَة , وَهِيَ</p><p>الْقَوْل الْأَوَّل : إِنْ تَرَكَهَا سَهْوًا أَكَلَا جَمِيعًا , وَهُوَ قَوْل إِسْحَاق وَرِوَايَة عَنْ أَحْمَد بْن حَنْبَل . فَإِنْ تَرَكَهَا عَمْدًا لَمْ يُؤْكَلَا ; وَقَالَهُ فِي الْكِتَاب مَالِك وَابْن الْقَاسِم , وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَة وَأَصْحَابه وَالثَّوْرِيّ وَالْحَسَن بْن حَيّ وَعِيسَى وَأَصْبَغ , وَقَالَهُ سَعِيد بْن جُبَيْر وَعَطَاء , وَاخْتَارَهُ النَّحَّاس وَقَالَ : هَذَا أَحْسَن , لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى فَاسِقًا إِذَا كَانَ نَاسِيًا . الثَّانِي : إِنْ تَرَكَهَا عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا يَأْكُلهُمَا . وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيّ وَالْحَسَن , وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ اِبْن عَبَّاس وَأَبِي هُرَيْرَة وَعَطَاء وَسَعِيد بْن الْمُسَيِّب وَجَابِر بْن زَيْد وَعِكْرِمَة وَأَبِي عِيَاض وَأَبِي رَافِع وَطَاوُس وَإِبْرَاهِيم النَّخَعِيّ وَعَبْد الرَّحْمَن بْن أَبِي لَيْلَى وَقَتَادَة . وَحَكَى الزَّهْرَاوِيّ عَنْ مَالِك بْن أَنَس أَنَّهُ قَالَ : تُؤْكَل الذَّبِيحَة الَّتِي تَرَكَتْ التَّسْمِيَة عَلَيْهَا عَمْدًا أَوْ نِسْيَانًا . وَرُوِيَ عَنْ رَبِيعَة أَيْضًا . قَالَ عَبْد الْوَهَّاب : التَّسْمِيَة سُنَّة ; فَإِذَا تَرَكَهَا الذَّابِح نَاسِيًا أُكِلَتْ الذَّبِيحَة فِي قَوْل مَالِك وَأَصْحَابه . الثَّالِث : إِنْ تَرَكَهَا عَامِدًا أَوْ سَاهِيًا حَرُمَ أَكْلهَا ; قَالَ مُحَمَّد بْن سِيرِينَ وَعَبْد اللَّه بْن عَيَّاش بْن أَبِي رَبِيعَة وَعَبْد اللَّه بْن عُمَر وَنَافِع وَعَبْد اللَّه بْن زَيْد الْخَطْمِيّ وَالشَّعْبِيّ ; وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْر وَدَاوُد بْن عَلِيّ وَأَحْمَد فِي رِوَايَة . الرَّابِع : إِنْ تَرَكَهَا عَامِدًا كَرِهَ أَكْلهَا ; قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو الْحَسَن وَالشَّيْخ أَبُو بَكْر مِنْ عُلَمَائِنَا . الْخَامِس : قَالَ أَشْهَب : تُؤْكَل ذَبِيحَة تَارِك التَّسْمِيَة عَمْدًا إِلَّا أَنْ يَكُون مُسْتَخِفًّا , وَقَالَ نَحْوه الطَّبَرِيّ . أَدِلَّة قَالَ اللَّه تَعَالَى : | فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اِسْم اللَّه عَلَيْهِ | [ الْأَنْعَام : 118 ] وَقَالَ : | وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَر اِسْم اللَّه عَلَيْهِ | فَبَيَّنَ الْحَالَيْنِ وَأَوْضَحَ الْحُكْمَيْنِ . فَقَوْله : | لَا تَأْكُلُوا | نَهْي عَلَى التَّحْرِيم لَا يَجُوز حَمْله عَلَى الْكَرَاهَة ; لِتَنَاوُلِهِ فِي بَعْض مُقْتَضَيَاته الْحَرَام الْمَحْض , وَلَا يَجُوز أَنْ يَتَبَعَّض , أَيْ يُرَاد بِهِ التَّحْرِيم وَالْكَرَاهَة مَعًا ; وَهَذَا مِنْ نَفِيس الْأُصُول . وَأَمَّا النَّاسِي فَلَا خِطَاب تَوَجَّهَ إِلَيْهِ إِذْ يَسْتَحِيل خِطَابه ; فَالشَّرْط لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِ . وَأَمَّا التَّارِك لِلتَّسْمِيَةِ عَمْدًا فَلَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَة أَحْوَال : إِمَّا أَنْ يَتْرُكهَا إِذَا أَضْجَعَ الذَّبِيحَة وَيَقُول : قَلْبِي مَمْلُوء مِنْ أَسْمَاء اللَّه تَعَالَى وَتَوْحِيده فَلَا أَفْتَقِر إِلَى ذِكْر بِلِسَانِي ; فَذَلِكَ يُجْزِئهُ لِأَنَّهُ ذَكَرَ اللَّه جَلَّ جَلَاله وَعَظَّمَهُ . أَوْ يَقُول : إِنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَوْضِعِ تَسْمِيَة صَرِيحَة , إِذْ لَيْسَتْ بِقُرْبَةٍ ; فَهَذَا أَيْضًا يُجْزِئُهُ . أَوْ يَقُول : لَا أُسَمِّي , وَأَيّ قَدْر لِلتَّسْمِيَةِ ; فَهَذَا مُتَهَاوِن فَاسِق لَا تُؤْكَل ذَبِيحَته . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَأَعْجَب لِرَأْسِ الْمُحَقِّقِينَ أَمَام الْحَرَمَيْنِ حَيْثُ قَالَ : ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى إِنَّمَا شَرَعَ فِي الْقُرْب , وَالذَّبْح لَيْسَ بِقُرْبَةٍ . وَهَذَا يُعَارِض الْقُرْآن وَالسُّنَّة ; قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيح : ( مَا أَنْهَرَ الدَّم وَذُكِرَ اِسْم اللَّه عَلَيْهِ فَكُلْ ) . فَإِنْ قِيلَ : الْمُرَاد بِذِكْرِ اِسْم اللَّه بِالْقَلْبِ ; لِأَنَّ الذِّكْر يُضَادّ النِّسْيَان وَمَحِلّ النِّسْيَان الْقَلْب فَمَحِلّ الذِّكْر الْقَلْب , وَقَدْ رَوَى الْبَرَاء بْن عَازِب : اِسْم اللَّه عَلَى قَلْب كُلّ مُؤْمِن سَمَّى أَوْ لَمْ يُسَمِّ . قُلْنَا : الذِّكْر بِاللِّسَانِ وَبِالْقَلْبِ , وَاَلَّذِي كَانَتْ الْعَرَب تَفْعَلهُ تَسْمِيَة الْأَصْنَام وَالنَّصْب بِاللِّسَانِ , فَنَسَخَ اللَّه ذَلِكَ بِذِكْرِهِ فِي الْأَلْسِنَة , وَاشْتُهِرَ ذَلِكَ فِي الشَّرِيعَة حَتَّى قِيلَ لِمَالِكٍ : هَلْ يُسَمِّي اللَّه تَعَالَى إِذَا تَوَضَّأَ فَقَالَ : أَيُرِيدُ أَنْ يَذْبَح . وَأَمَّا الْحَدِيث الَّذِي تَعَلَّقُوا بِهِ مِنْ قَوْله : ( اِسْم اللَّه عَلَى قَلْب كُلّ مُؤْمِن ) فَحَدِيث ضَعِيف . وَقَدْ اِسْتَدَلَّ جَمَاعَة مِنْ أَهْل الْعِلْم عَلَى أَنَّ التَّسْمِيَة عَلَى الذَّبِيحَة لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ ; لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام لِأُنَاسٍ سَأَلُوهُ , قَالُوا : يَا رَسُول اللَّه , إِنَّ قَوْمًا يَأْتُونَنَا بِاللَّحْمِ لَا نَدْرِي أَذَكَرُوا اِسْم اللَّه عَلَيْهِ أَمْ لَا ؟ فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : | سَمُّوا اللَّه عَلَيْهِ وَكُلُوا | . أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ عَائِشَة وَمَالِك مُرْسَلًا عَنْ هِشَام بْن عُرْوَة عَنْ أَبِيهِ , لَمْ يَخْتَلِف عَلَيْهِ فِي إِرْسَاله . وَتَأَوَّلَهُ بِأَنْ قَالَ فِي آخِره : وَذَلِكَ فِي أَوَّل الْإِسْلَام . يُرِيد قَبْل أَنْ يَنْزِل عَلَيْهِ | وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَر اِسْم اللَّه عَلَيْهِ | . قَالَ أَبُو عُمَر : وَهَذَا ضَعِيف , وَفِي الْحَدِيث نَفْسه مَا يَرُدّهُ , وَذَلِكَ أَنَّهُ أَمَرَهُمْ فِيهِ بِتَسْمِيَةِ اللَّه عَلَى الْأَكْل ; فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْآيَة قَدْ كَانَتْ نَزَلَتْ عَلَيْهِ . وَمِمَّا يَدُلّ عَلَى صِحَّة مَا قُلْنَاهُ أَنَّ هَذَا الْحَدِيث كَانَ بِالْمَدِينَةِ , وَلَا يَخْتَلِف الْعُلَمَاء أَنَّ قَوْله تَعَالَى : | وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَر اِسْم اللَّه عَلَيْهِ | نَزَلَ فِي سُورَة | الْأَنْعَام | بِمَكَّة .|وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ|أَيْ لَمَعْصِيَة عَنْ اِبْن عَبَّاس . وَالْفِسْق : الْخُرُوج . وَقَدْ تَقَدَّمَ .|وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ|أَيْ يُوَسْوِسُونَ فَيُلْقُونَ فِي قُلُوبهمْ الْجِدَال بِالْبَاطِلِ . رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ اِبْن عَبَّاس فِي قَوْله : | وَإِنَّ الشَّيَاطِين لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ | يَقُولُونَ : مَا ذَبَحَ اللَّه فَلَا تَأْكُلُوهُ , وَمَا ذَبَحْتُمْ أَنْتُمْ فَكُلُوهُ , فَأَنْزَلَ اللَّه | وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَر اِسْم اللَّه عَلَيْهِ | قَالَ عِكْرِمَة : عَنَى بِالشَّيَاطِينِ فِي هَذِهِ الْآيَة مَرَدَة الْإِنْس مِنْ مَجُوس فَارِس . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَعَبْد اللَّه بْن كَثِير : بَلْ الشَّيَاطِين الْجِنّ , وَكَفَرَة الْجِنّ أَوْلِيَاء قُرَيْش . وَرُوِيَ عَنْ عَبْد اللَّه بْن الزُّبَيْر أَنَّهُ قِيلَ لَهُ : إِنَّ الْمُخْتَار يَقُول : يُوحَى إِلَيَّ فَقَالَ : صَدَقَ , إِنَّ الشَّيَاطِين لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ . وَقَوْله : | لِيُجَادِلُوكُمْ | . يُرِيد قَوْلهمْ : مَا قَتَلَ اللَّه لَمْ تَأْكُلُوهُ وَمَا قَتَلْتُمُوهُ أَكَلْتُمُوهُ . وَالْمُجَادَلَة : دَفَعَ الْقَوْل عَلَى طَرِيق الْحُجَّة بِالْقُوَّةِ ; مَأْخُوذ مِنْ الْأَجْدَل , طَائِر قَوِيّ . وَقِيلَ : هُوَ مَأْخُوذ مِنْ الْجَدَالَة , وَهِيَ الْأَرْض ; فَكَأَنَّهُ يَغْلِبهُ بِالْحُجَّةِ وَيَقْهَرهُ حَتَّى يَصِير كَالْمَجْدُولِ بِالْأَرْضِ . وَقِيلَ : هُوَ مَأْخُوذ مِنْ الْجَدَل , وَهُوَ شِدَّة الْقَتْل ; فَكَأَنَّ كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا يَفْتِل حُجَّة صَاحِبه حَتَّى يَقْطَعهَا , وَتَكُون حَقًّا فِي نُصْرَة الْحَقّ وَبَاطِلًا فِي نُصْرَة الْبَاطِل .|وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ|أَيْ فِي تَحْلِيل الْمَيْتَة|إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ|فَدَلَّتْ الْآيَة عَلَى أَنَّ مَنْ اِسْتَحَلَّ شَيْئًا مِمَّا حَرَّمَ اللَّه تَعَالَى صَارَ بِهِ مُشْرِكًا . وَقَدْ حَرَّمَ اللَّه سُبْحَانه الْمَيْتَة نَصًّا ; فَإِذَا قَبِلَ تَحْلِيلهَا مِنْ غَيْره فَقَدْ أَشْرَكَ . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : إِنَّمَا يَكُون الْمُؤْمِن بِطَاعَةِ الْمُشْرِك مُشْرِكًا إِذَا أَطَاعَهُ فِي الِاعْتِقَاد ; فَأَمَّا إِذَا أَطَاعَهُ فِي الْفِعْل وَعَقْده سَلِيم مُسْتَمِرّ عَلَى التَّوْحِيد وَالتَّصْدِيق فَهُوَ عَاصٍ ; فَافْهَمُوهُ . وَقَدْ مَضَى فِي | الْمَائِدَة | .

أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ

قَرَأَ الْجُمْهُور بِفَتْحِ الْوَاو , دَخَلَتْ عَلَيْهَا هَمْزَة الِاسْتِفْهَام . وَرَوَى الْمُسَيَّبِيّ عَنْ نَافِع بْن أَبِي نُعَيْم | أَوَمَنْ كَانَ | بِإِسْكَانِ الْوَاو . قَالَ النَّحَّاس : يَجُوز أَنْ يَكُون مَحْمُولًا عَلَى الْمَعْنَى , أَيْ اُنْظُرُوا وَتَدَبَّرُوا أَغَيْر اللَّه أَبْتَغِي حَكَمًا . | أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ | قِيلَ : مَعْنَاهُ كَانَ مَيْتًا حِين كَانَ نُطْفَة فَأَحْيَيْنَاهُ بِنَفْخِ الرُّوح فِيهِ ; حَكَاهُ اِبْن بَحْر . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : أَوَمَنْ كَانَ كَافِرًا فَهَدَيْنَاهُ . نَزَلَتْ فِي حَمْزَة بْن عَبْد الْمُطَّلِب وَأَبِي جَهْل . وَقَالَ زَيْد بْن أَسْلَم وَالسُّدِّيّ : | فَأَحْيَيْنَاهُ | عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ . | كَمَنْ مَثَله فِي الظُّلُمَات | أَبُو جَهْل لَعَنَهُ اللَّه . وَالصَّحِيح أَنَّهَا عَامَّة فِي كُلّ مُؤْمِن وَكَافِر . وَقِيلَ : كَانَ مَيْتًا بِالْجَهْلِ فَأَحْيَيْنَاهُ بِالْعِلْمِ . وَأَنْشَدَ بَعْض أَهْل الْعِلْم مَا يَدُلّ عَلَى صِحَّة هَذَا التَّأْوِيل لِبَعْضِ شُعَرَاء الْبَصْرَة : <br>وَفِي الْجَهْل قَبْل الْمَوْت مَوْت لِأَهْلِهِ .......... فَأَجْسَامهمْ قَبْل الْقُبُور قُبُور <br><br>وَإِنْ اِمْرَأً لَمْ يَحْيَى بِالْعِلْمِ مَيِّت .......... فَلَيْسَ لَهُ حَتَّى النُّشُور نُشُور <br>وَالنُّور عِبَارَة عَنْ الْهُدَى وَالْإِيمَان . وَقَالَ الْحَسَن : الْقُرْآن . وَقِيلَ : الْحِكْمَة . وَقِيلَ : هُوَ النُّور الْمَذْكُور فِي قَوْله : | يَسْعَى نُورهمْ بَيْن أَيْدِيهمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ | [ الْحَدِيد : 12 ] , وَقَوْله : | اُنْظُرُونَا نَقْتَبِس مِنْ نُوركُمْ | [ الْحَدِيد : 13 ] .|يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ|أَيْ بِالنُّورِ|كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا|أَيْ كَمَنْ هُوَ فَمَثَل زَائِدَة . تَقُول : أَنَا أَكْرَم مِثْلك ; أَيْ أَكْرَمك . وَمِثْله | فَجَزَاء مِثْل مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَم | [ الْمَائِدَة : 95 ] , | لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء | [ الشُّورَى : 11 ] . وَقِيلَ : الْمَعْنَى كَمَنْ مَثَله مَثَل مَنْ هُوَ فِي الظُّلُمَات . وَالْمَثَل وَالْمِثْل وَاحِد .|كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ|أَيْ زَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَان عِبَادَة الْأَصْنَام وَأَوْهَمَهُمْ أَنَّهُمْ أَفْضَل مِنْ الْمُسْلِمِينَ .

وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ

الْمَعْنَى : وَكَمَا زَيَّنَّا لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ كَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلّ قَرْيَة . | مُجْرِمِيهَا | مَفْعُول أَوَّل لِجَعَلَ | أَكَابِر | مَفْعُول ثَان عَلَى التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير . وَجَعَلَ بِمَعْنَى صَيَّرَ . وَالْأَكَابِر جَمْع الْأَكْبَر . قَالَ مُجَاهِد : يُرِيد الْعُظَمَاء . وَقِيلَ : الرُّؤَسَاء وَالْعُظَمَاء . وَخَصَّهُمْ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُمْ أَقْدَر عَلَى الْفَسَاد . وَالْمَكْر الْحِيلَة فِي مُخَالَفَة الِاسْتِقَامَة , وَأَصْله الْفَتْل ; فَالْمَاكِر يَفْتِل عَنْ الِاسْتِقَامَة أَيْ يَصْرِف عَنْهَا . قَالَ مُجَاهِد : كَانُوا يَجْلِسُونَ عَلَى كُلّ عَقَبَة أَرْبَعَة يَنْفِرُونَ النَّاس عَنْ اِتِّبَاع النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; كَمَا فَعَلَ مَنْ قَبْلهمْ مِنْ الْأُمَم السَّالِفَة بِأَنْبِيَائِهِمْ .|وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ|أَيْ وَبَال مَكْرهمْ رَاجِع إِلَيْهِمْ . وَهُوَ مِنْ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ الْجَزَاء عَلَى مَكْر الْمَاكِرِينَ بِالْعَذَابِ الْأَلِيم .|وَمَا يَشْعُرُونَ|فِي الْحَال ; لِفَرْطِ جَهْلهمْ أَنَّ وَبَال مَكْرهمْ عَائِد إِلَيْهِمْ .

وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آَيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ

قَوْله تَعَالَى : | وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَة قَالُوا لَنْ نُؤْمِن | بَيَّنَ شَيْئًا آخَر مِنْ جَهْلهمْ , وَهُوَ أَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ نُؤْمِن حَتَّى نَكُون أَنْبِيَاء , فَنُؤْتَى مِثْل مَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى مِنْ الْآيَات ; وَنَظِيره | بَلْ يُرِيد كُلّ اِمْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَة | [ الْمُدَّثِّر : 52 ] . وَالْكِنَايَة فِي | جَاءَتْهُمْ | تَرْجِع إِلَى الْأَكَابِر الَّذِينَ جَرَى ذِكْرهمْ . قَالَ الْوَلِيد بْن الْمُغِيرَة : لَوْ كَانَتْ النُّبُوَّة حَقًّا لَكُنْت أَوْلَى بِهَا مِنْك ; لِأَنِّي أَكْبَر مِنْك سِنًّا , وَأَكْثَر مِنْك مَالًا . وَقَالَ أَبُو جَهْل : وَاَللَّه لَا نَرْضَى بِهِ وَلَا نَتَّبِعهُ أَبَدًا , إِلَّا أَنْ يَأْتِينَا وَحْي كَمَا يَأْتِيه ; فَنَزَلَتْ الْآيَة . وَقِيلَ : لَمْ يَطْلُبُوا النُّبُوَّة وَلَكِنْ قَالُوا لَا نُصَدِّقك حَتَّى يَأْتِينَا جِبْرِيل وَالْمَلَائِكَة يُخْبِرُونَنَا بِصِدْقِك . وَالْأَوَّل أَصَحّ ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ : | اللَّه أَعْلَم حَيْثُ يَجْعَل رِسَالَته | [ الْأَنْعَام : 124 ] أَيْ بِمَنْ هُوَ مَأْمُون عَلَيْهَا وَمَوْضِع لَهَا . و | حَيْثُ | لَيْسَ ظَرْفًا هُنَا , بَلْ هُوَ اِسْم نَصْب نُصِبَ الْمَفْعُول بِهِ عَلَى الِاتِّسَاع ; أَيْ اللَّه أَعْلَم أَهْل الرِّسَالَة . وَكَانَ الْأَصْل اللَّه أَعْلَم بِمَوَاضِع رِسَالَته , ثُمَّ حُذِفَ الْحَرْف , وَلَا يَجُوز أَنْ يَعْمَل | أَعْلَم | فِي | حَيْثُ | وَيَكُون ظَرْفًا , لِأَنَّ الْمَعْنَى يَكُون عَلَى ذَلِكَ اللَّه أَعْلَم فِي هَذَا الْمَوْضِع , وَذَلِكَ لَا يَجُوز أَنْ يُوصَف بِهِ الْبَارِي تَعَالَى , وَإِنَّمَا مَوْضِعهَا نَصْب بِفِعْلٍ مُضْمَر دَلَّ عَلَيْهِ | أَعْلَم | . وَهِيَ اِسْم كَمَا ذَكَرْنَا . وَالصَّغَار : الضَّيْم وَالذُّلّ وَالْهَوَان , وَكَذَلِكَ الصُّغْر ( بِالضَّمِّ ) . وَالْمَصْدَر الصَّغَر ( بِالتَّحْرِيكِ ) . وَأَصْله مِنْ الصِّغَر دُون الْكِبَر ; فَكَأَنَّ الذُّلّ يُصَغَّر إِلَى الْمَرْء نَفْسه , وَقِيلَ : أَصْله مِنْ الصَّغَر وَهُوَ الرِّضَا بِالذُّلِّ ; يُقَال مِنْهُ : صَغَرَ يَصْغُر بِفَتْحِ الْغَيْن فِي الْمَاضِي وَضَمّهَا فِي الْمُسْتَقْبَل . وَصَغِرَ بِالْكَسْرِ يَصْغَر بِالْفَتْحِ لُغَتَانِ , صَغَرًا وَصَغَارًا , وَاسْم الْفَاعِل صَاغِر وَصَغِير . وَالصَّاغِر : الرَّاضِي بِالضَّيْمِ . وَالْمَصْغُورَاء الصِّغَار . وَأَرْض مُصَغَّرَة : نَبْتهَا لَمْ يَطُلْ ; عَنْ اِبْن السِّكِّيت . | عِنْد اللَّه | أَيْ مِنْ عِنْد اللَّه , فَحُذِفَ . وَقِيلَ : فِيهِ تَقْدِيم وَتَأْخِير , أَيْ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا عِنْد اللَّه صَغَار . الْفَرَّاء : سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَار مِنْ اللَّه . وَقِيلَ : الْمَعْنَى سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَار ثَابِت عِنْد اللَّه . قَالَ النَّحَّاس : وَهَذَا أَحْسَن الْأَقْوَال ; لِأَنَّ | عِنْد | فِي مَوْضِعهَا .

فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ

أَيْ يُوَسِّعهُ لَهُ , وَيُوَفِّقهُ وَيُزَيِّن عِنْده ثَوَابه . وَيُقَال : شَرَحَ شَقَّ , وَأَصْله التَّوْسِعَة . وَشَرَحَ اللَّه صَدْره وَسِعَهُ بِالْبَيَانِ لِذَلِكَ . وَشَرَحْت الْأَمْر : بِنْته وَأَوْضَحْته . وَكَانَتْ قُرَيْش تَشْرَح النِّسَاء شَرْحًا , وَهُوَ مِمَّا تَقَدَّمَ : مِنْ التَّوْسِعَة وَالْبَسْط , وَهُوَ وَطْء الْمَرْأَة مُسْتَلْقِيَة عَلَى قَفَاهَا . فَالشَّرْح : الْكَشْف ; تَقُول : شَرَحْت الْغَامِض ; وَمِنْهُ تَشْرِيح اللَّحْم . قَالَ الرَّاجِز : <br>كَمْ قَدْ أَكَلْت كَبِدًا وَإِنْفَحَة .......... ثُمَّ اِدَّخَرْت إِلَيْهِ مُشَرَّحه <br>وَالْقِطْعَة مِنْهُ شَرِيحَة . وَكُلّ سَمِين مِنْ اللَّحْم مُمْتَدّ فَهُوَ شَرِيحَة .|وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ|يُغْوِيه .|يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا|وَهَذَا رَدّ عَلَى الْقَدَرِيَّة . وَنَظِير هَذِهِ الْآيَة مِنْ السُّنَّة قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( مَنْ يُرِدْ اللَّه بِهِ خَيْرًا يُفَقِّههُ فِي الدِّين ) أَخْرَجَهُ الصَّحِيحَانِ . وَلَا يَكُون ذَلِكَ إِلَّا بِشَرْحِ الصَّدْر وَتَنْوِيره . وَالدِّين الْعِبَادَات ; كَمَا قَالَ : | إِنَّ الدِّين عِنْد اللَّه الْإِسْلَام | [ آل عِمْرَان : 19 ] . وَدَلِيل خِطَابه أَنَّ مَنْ لَمْ يُرِدْ اللَّه بِهِ خَيْرًا ضَيَّقَ صَدْره , وَأَبْعَدَ فَهْمه فَلَمْ يُفَقِّههُ . وَاَللَّه أَعْلَم . وَرُوِيَ أَنَّ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود قَالَ : يَا رَسُول اللَّه , وَهَلْ يَنْشَرِح الصَّدْر ؟ فَقَالَ : ( نَعَمْ يَدْخُل الْقَلْب نُور ) فَقَالَ : وَهَلْ لِذَلِكَ مِنْ عَلَامَة ؟ فَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( التَّجَافِي عَنْ دَار الْغُرُور وَالْإِنَابَة إِلَى دَار الْخُلُود وَالِاسْتِعْدَاد لِلْمَوْتِ قَبْل نُزُول الْمَوْت ) . وَقَرَأَ اِبْن كَثِير | ضَيْقًا | بِالتَّخْفِيفِ ; مِثْل هَيْن وَلَيْن لُغَتَانِ . وَنَافِع وَأَبُو بَكْر | حَرِجًا | بِالْكَسْرِ , وَمَعْنَاهُ الضِّيق . كَرَّرَ الْمَعْنَى , وَحَسُنَ ذَلِكَ لِاخْتِلَافِ اللَّفْظ . وَالْبَاقُونَ بِالْفَتْحِ . جَمْع حَرَجَة ; وَهُوَ شِدَّة الضِّيق أَيْضًا , وَالْحَرَجَة الْغَيْضَة ; وَالْجَمْع حَرَج وَحَرَجَات . وَمِنْهُ فُلَان يَتَحَرَّج أَيْ يُضَيِّق عَلَى نَفْسه فِي تَرْكه هَوَاهُ لِلْمَعَاصِي ; قَالَهُ الْهَرَوِيّ . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : الْحَرَج مَوْضِع الشَّجَر الْمُلْتَفّ ; فَكَأَنَّ قَلْب الْكَافِر لَا تَصِل إِلَيْهِ الْحِكْمَة كَمَا لَا تَصِل الرَّاعِيَة إِلَى الْمَوْضِع الَّذِي اِلْتَفَّ شَجَره . وَرُوِيَ عَنْ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ هَذَا الْمَعْنَى ; ذَكَرَهُ مَكِّيّ وَالثَّعْلَبِيّ وَغَيْرهمَا . وَكُلّ ضَيِّق حَرِج وَحَرَج . قَالَ الْجَوْهَرِيّ : مَكَان حَرِج وَحَرَج أَيْ ضَيِّق كَثِير الشَّجَر لَا تَصِل إِلَيْهِ الرَّاعِيَة . وَقُرِئَ | يَجْعَل صَدْره ضَيِّقًا حَرَجًا | و | حَرِجًا | . وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْوَحَد وَالْوَحِد وَالْفَرَد وَالْفَرِد وَالدَّنَف وَالدَّنِف ; فِي مَعْنًى وَاحِد , وَحَكَاهُ غَيْره عَنْ الْفَرَّاء . وَقَدْ حَرِجَ صَدْره يَحْرَج حَرَجًا . وَالْحَرَج الْإِثْم . وَالْحَرَج أَيْضًا : النَّاقَة الضَّامِرَة . وَيُقَال : الطَّوِيلَة عَلَى وَجْه الْأَرْض ; عَنْ أَبِي زَيْد , فَهُوَ لَفْظ مُشْتَرَك . وَالْحَرَج : خَشَب يَشُدّ بَعْضه إِلَى بَعْض يُحْمَل فِيهِ الْمَوْتَى ; عَنْ الْأَصْمَعِيّ . وَهُوَ قَوْل اِمْرِئِ الْقَيْس : <br>فَإِمَّا تَرَيْنِي فِي رِحَالَة جَابِر .......... عَلَى حَرَج كَالْقَرِّ تَخْفُق أَكْفَانِي <br>وَرُبَّمَا وُضِعَ فَوْق نَعْش النِّسَاء ; قَالَ عَنْتَرَة يَصِف ظَلِيمًا : <br>يَتْبَعْنَ قُلَّة رَأْسه وَكَأَنَّهُ .......... حَرَج عَلَى نَعْش لَهُنَّ مُخَيَّم <br>وَقَالَ الزَّجَّاج : الْحَرَج : أَضْيَق الضِّيق . فَإِذَا قِيلَ . فُلَان حَرَج الصَّدْر , فَالْمَعْنَى ذُو حَرَج فِي صَدْره . فَإِذَا قِيلَ : حَرَج فَهُوَ فَاعِل . قَالَ النَّحَّاس : حَرَج اِسْم الْفَاعِل , وَحَرَج مَصْدَر وُصِفَ بِهِ ; كَمَا يُقَال : رَجُل عَدْل وَرِضًا .|كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ|قَرَأَهُ اِبْن كَثِير بِإِسْكَانِ الصَّاد مُخَفَّفًا , مِنْ الصُّعُود هُوَ الطُّلُوع . شَبَّهَ اللَّه الْكَافِر فِي نُفُوره مِنْ الْإِيمَان وَثِقَله عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ تَكَلَّفَ مَا لَا يُطِيقهُ ; كَمَا أَنَّ صُعُود السَّمَاء لَا يُطَاق . وَكَذَلِكَ يَصَّاعَد وَأَصْله يَتَصَاعَد , أُدْغِمَتْ التَّاء فِي الصَّاد , وَهِيَ قِرَاءَة أَبِي بَكْر وَالنَّخَعِيّ ; إِلَّا أَنَّ فِيهِ مَعْنَى فِعْل شَيْء بَعْد شَيْء , وَذَلِكَ أَثْقَل عَلَى فَاعِله . وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ مِنْ غَيْر أَلِف , وَهُوَ كَاَلَّذِي قَبْله . مَعْنَاهُ يَتَكَلَّف مَا لَا يُطِيق شَيْئًا بَعْد شَيْء ; كَقَوْلِك : يَتَجَرَّع وَيَتَفَوَّق . وَرُوِيَ عَنْ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود أَنَّهُ قَرَأَ | كَأَنَّمَا يَتَصَعَّد | . قَالَ النَّحَّاس : وَمَعْنَى هَذِهِ الْقِرَاءَة وَقِرَاءَة مَنْ قَرَأَ يَصَّعَّد وَيَصَّاعَد وَاحِد . وَالْمَعْنَى فِيهِمَا أَنَّ الْكَافِر مِنْ ضِيق صَدْره كَأَنَّهُ يُرِيد أَنْ يَصْعَد إِلَى السَّمَاء وَهُوَ لَا يَقْدِر عَلَى ذَلِكَ ; فَكَأَنَّهُ يَسْتَدْعِي ذَلِكَ . وَقِيلَ : الْمَعْنَى كَادَ قَلْبه يَصْعَد إِلَى السَّمَاء نَبْوًا عَنْ الْإِسْلَام .|كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ|عَلَيْهِمْ ; كَجَعْلِهِ ضِيق الصَّدْر فِي أَجْسَادهمْ . وَأَصْل الرِّجْس فِي اللُّغَة النَّتْن . قَالَ اِبْن زَيْد : هُوَ الْعَذَاب . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : الرِّجْس هُوَ الشَّيْطَان ; أَيْ يُسَلِّطهُ عَلَيْهِمْ . وَقَالَ مُجَاهِد : الرِّجْس مَا لَا خَيْر فِيهِ . وَكَذَلِكَ الرِّجْس عِنْد أَهْل اللُّغَة هُوَ النَّتْن . فَمَعْنَى الْآيَة وَاَللَّه أَعْلَم : وَيَجْعَل اللَّعْنَة فِي الدُّنْيَا وَالْعَذَاب فِي الْآخِرَة .

وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ

أَيْ هَذَا الَّذِي أَنْتَ عَلَيْهِ يَا مُحَمَّد وَالْمُؤْمِنُونَ دِين رَبّك لَا اِعْوِجَاج فِيهِ .|قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ|أَيْ بَيَّنَّاهَا|لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ|أَيْ لِلْمُتَذَكِّرِينَ .

لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ

أَيْ الْجَنَّة , فَالْجَنَّة دَار اللَّه ; كَمَا يُقَال : الْكَعْبَة بَيْت اللَّه . وَيَجُوز أَنْ يَكُون الْمَعْنَى دَار السَّلَامَة , أَيْ الَّتِي يَسْلَم فِيهَا مِنْ الْآفَات .|عِنْدَ رَبِّهِمْ|أَيْ مَضْمُونَة لَهُمْ عِنْده يُوَصِّلهُمْ إِلَيْهَا بِفَضْلِهِ .|وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ|أَيْ نَاصِرهمْ وَمُعِينهمْ .

وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِي

نُصِبَ عَلَى الْفِعْل الْمَحْذُوف , أَيْ وَيَوْم نَحْشُرهُمْ نَقُول .|جَمِيعًا|نُصِبَ عَلَى الْحَال . وَالْمُرَاد حُشِرَ جَمِيع الْخَلْق فِي مَوْقِف الْقِيَامَة .|يَا مَعْشَرَ|نِدَاء مُضَاف .|الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ|أَيْ مِنْ الِاسْتِمْتَاع بِالْإِنْسِ ; فَحُذِفَ الْمَصْدَر الْمُضَاف إِلَى الْمَفْعُول , وَحَرْف الْجَرّ ; يَدُلّ عَلَى ذَلِكَ قَوْله : رَبّنَا اِسْتَمْتَعَ بَعْضنَا بِبَعْضٍ .|الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا|وَهَذَا يَرُدّ قَوْل مَنْ قَالَ : إِنَّ الْجِنّ هُمْ الَّذِينَ اِسْتَمْتَعُوا مِنْ الْإِنْس ; لِأَنَّ الْإِنْس قَبِلُوا مِنْهُمْ . وَالصَّحِيح أَنَّ كُلّ وَاحِد مُسْتَمْتِع بِصَاحِبِهِ . وَالتَّقْدِير فِي الْعَرَبِيَّة : اِسْتَمْتَعَ بَعْضنَا بَعْضًا ; فَاسْتِمْتَاع الْجِنّ مِنْ الْإِنْس إِنَّهُمْ تَلَذَّذُوا بِطَاعَةِ الْإِنْس إِيَّاهُمْ , وَتَلَذَّذَ الْإِنْس بِقَبُولِهِمْ مِنْ الْجِنّ حَتَّى زَنَوْا وَشَرِبُوا الْخُمُور بِإِغْوَاءِ الْجِنّ إِيَّاهُمْ . وَقِيلَ : كَانَ الرَّجُل إِذَا مَرَّ بِوَادٍ فِي سَفَره وَخَافَ عَلَى نَفْسه قَالَ : أَعُوذ بِرَبِّ هَذَا الْوَادِي مِنْ جَمِيع مَا أَحْذَر . وَفِي التَّنْزِيل : | وَأَنَّهُ كَانَ رِجَال مِنْ الْإِنْس يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنْ الْجِنّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا | [ الْجِنّ : 6 ] . فَهَذَا اِسْتِمْتَاع الْإِنْس بِالْجِنِّ . وَأَمَّا اِسْتِمْتَاع الْجِنّ بِالْإِنْسِ فَمَا كَانُوا يُلْقُونَ إِلَيْهِمْ مِنْ الْأَرَاجِيف وَالْكِهَانَة وَالسِّحْر . وَقِيلَ : اِسْتِمْتَاع الْجِنّ بِالْإِنْسِ أَنَّهُمْ يَعْتَرِفُونَ أَنَّ الْجِنّ يَقْدِرُونَ أَنْ يَدْفَعُوا عَنْهُمْ مَا يَحْذَرُونَ . وَمَعْنَى الْآيَة تَقْرِيع الضَّالِّينَ وَالْمُضِلِّينَ وَتَوْبِيخهمْ فِي الْآخِرَة عَلَى أَعْيُن الْعَالَمِينَ .|بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ|يَعْنِي الْمَوْت وَالْقَبْر , وَوَافَيْنَا نَادِمِينَ .|لَنَا قَالَ النَّارُ|أَيْ مَوْضِع مَقَامكُمْ . وَالْمَثْوَى الْمُقَام .|مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ|اِسْتِثْنَاء لَيْسَ مِنْ الْأَوَّل . قَالَ الزَّجَّاج : يَرْجِع إِلَى يَوْم الْقِيَامَة , أَيْ خَالِدِينَ فِي النَّار إِلَّا مَا شَاءَ اللَّه مِنْ مِقْدَار حَشْرهمْ مِنْ قُبُورهمْ وَمِقْدَار مُدَّتهمْ فِي الْحِسَاب ; فَالِاسْتِثْنَاء مُنْقَطِع . وَقِيلَ : يَرْجِع الِاسْتِثْنَاء إِلَى النَّار , أَيْ إِلَّا مَا شَاءَ اللَّه مِنْ تَعْذِيبكُمْ بِغَيْرِ النَّار فِي بَعْض الْأَوْقَات . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : الِاسْتِثْنَاء لِأَهْلِ الْإِيمَان . ف | مَا | عَلَى هَذَا بِمَعْنَى مَنْ . وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ : هَذِهِ الْآيَة تُوجِب الْوَقْف فِي جَمِيع الْكُفَّار . وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهَا تُوجِب الْوَقْف فِيمَنْ لَمْ يَمُتْ , إِذْ قَدْ يُسْلِم . وَقِيلَ : | إِلَّا مَا شَاءَ اللَّه | مِنْ كَوْنهمْ فِي الدُّنْيَا بِغَيْرِ عَذَاب . وَمَعْنَى هَذِهِ الْآيَة مَعْنَى الْآيَة الَّتِي فِي | هُود | . قَوْله : | فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّار | [ هُود : 106 ] وَهُنَاكَ يَأْتِي مُسْتَوْفًى إِنْ شَاءَ اللَّه .|اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ|أَيْ فِي عُقُوبَتهمْ وَفِي جَمِيع أَفْعَاله .|حَكِيمٌ|بِمِقْدَارِ مُجَازَاتهمْ .

وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ

قَوْله تَعَالَى : | وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْض الظَّالِمِينَ بَعْضًا | الْمَعْنَى وَكَمَا فَعَلْنَا بِهَؤُلَاءِ مِمَّا وَصَفْته لَكُمْ مِنْ اِسْتِمْتَاع بَعْضهمْ بِبَعْضٍ أَجْعَل بَعْض الظَّالِمِينَ أَوْلِيَاء بَعْض , ثُمَّ يَتَبَرَّأ بَعْضهمْ مِنْ بَعْض غَدًا . وَمَعْنَى | نُوَلِّي | عَلَى هَذَا نَجْعَل وَلِيًّا . قَالَ اِبْن زَيْد : نُسَلِّط ظَلَمَة الْجِنّ عَلَى ظَلَمَة الْإِنْس . وَعَنْهُ أَيْضًا : نُسَلِّط بَعْض الظَّلَمَة عَلَى بَعْض فَيُهْلِكهُ وَيُذِلّهُ . وَهَذَا تَهْدِيد لِلظَّالِمِ إِنْ لَمْ يَمْتَنِع مِنْ ظُلْمه سَلَّطَ اللَّه عَلَيْهِ ظَالِمًا آخَر . وَيَدْخُل فِي الْآيَة جَمِيع مَنْ يَظْلِم نَفْسه أَوْ يَظْلِم الرَّعِيَّة , أَوْ التَّاجِر يَظْلِم النَّاس فِي تِجَارَته أَوْ السَّارِق وَغَيْرهمْ . وَقَالَ فُضَيْل بْن عِيَاض : إِذَا رَأَيْت ظَالِمًا يَنْتَقِم مِنْ ظَالِم فَقِفْ , وَانْظُرْ فِيهِ مُتَعَجِّبًا . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : إِذَا رَضِيَ اللَّه عَنْ قَوْم وَلَّى أَمْرهمْ خِيَارهمْ , وَإِذَا سَخِطَ اللَّه عَلَى قَوْم وَلَّى أَمْرهمْ شِرَارهمْ . وَفِي الْخَبَر عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ أَعَانَ ظَالِمًا سَلَّطَهُ اللَّه عَلَيْهِ ) . وَقِيلَ : الْمَعْنَى نَكَّلَ بَعْضهمْ إِلَى بَعْض فِيمَا يَخْتَارُونَهُ مِنْ الْكُفْر , كَمَا نَكَّلَهُمْ غَدًا إِلَى رُؤَسَائِهِمْ الَّذِينَ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى تَخْلِيصهمْ مِنْ الْعَذَاب أَيْ كَمَا نَفْعَل بِهِمْ ذَلِكَ فِي الْآخِرَة كَذَلِكَ نَفْعَل بِهِمْ فِي الدُّنْيَا . وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْله تَعَالَى : | نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى | [ النِّسَاء : 115 ] : نَكِلهُ إِلَى مَا وُكِّلَ إِلَيْهِ نَفْسه . قَالَ اِبْن عَبَّاس : تَفْسِيرهَا هُوَ أَنَّ اللَّه إِذَا أَرَادَ بِقَوْمٍ شَرًّا وَلَّى أَمْرهمْ شِرَارهمْ . يَدُلّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى : | وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَة فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ | [ الشُّورَى : 30 ] .

يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ ك

أَيْ يَوْم نَحْشُرهُمْ نَقُول لَهُمْ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُل فَحُذِفَ ; فَيَعْتَرِفُونَ بِمَا فِيهِ اِفْتِضَاحهمْ . وَمَعْنَى | مِنْكُمْ | فِي الْخَلْق وَالتَّكْلِيف وَالْمُخَاطَبَة . وَلَمَّا كَانَتْ الْجِنّ مِمَّنْ يُخَاطِب وَيَعْقِل قَالَ : | مِنْكُمْ | وَإِنْ كَانَتْ الرُّسُل مِنْ الْإِنْس وَغَلَبَ الْإِنْس فِي الْخِطَاب كَمَا يَغْلِب الْمُذَكَّر عَلَى الْمُؤَنَّث . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : رُسُل الْجِنّ هُمْ الَّذِينَ بَلَغُوا قَوْمهمْ مَا سَمِعُوهُ مِنْ الْوَحْي ; كَمَا قَالَ : | وَلَّوْا إِلَى قَوْمهمْ مُنْذِرِينَ | [ الْأَحْقَاف : 29 ] . وَقَالَ مُقَاتِل وَالضَّحَّاك : أَرْسَلَ اللَّه رُسُلًا مِنْ الْجِنّ كَمَا أَرْسَلَ مِنْ الْإِنْس . وَقَالَ مُجَاهِد : الرُّسُل مِنْ الْإِنْس , وَالنَّذْر مِنْ الْجِنّ ; ثُمَّ قَرَأَ | إِلَى قَوْمهمْ مُنْذِرِينَ | [ الْأَحْقَاف : 29 ] . وَهُوَ مَعْنَى قَوْل اِبْن عَبَّاس , وَهُوَ الصَّحِيح عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه فِي | الْأَحْقَاف | . وَقَالَ الْكَلْبِيّ : كَانَتْ الرُّسُل قَبْل أَنْ يُبْعَث مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبْعَثُونَ إِلَى الْإِنْس وَالْجِنّ جَمِيعًا . قُلْت : وَهَذَا لَا يَصِحّ , بَلْ فِي صَحِيح مُسْلِم مِنْ حَدِيث جَابِر بْن عَبْد اللَّه الْأَنْصَارِيّ قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أُعْطِيت خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ نَبِيّ قَبْلِي كَانَ كُلّ نَبِيّ يُبْعَث إِلَى قَوْمه خَاصَّة وَبُعِثْت إِلَى كُلّ أَحْمَر وَأَسْوَد ) الْحَدِيث . عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه فِي | الْأَحْقَاف | . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : كَانَتْ الرُّسُل تُبْعَث إِلَى الْإِنْس وَإِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثَ إِلَى الْجِنّ وَالْإِنْس ; ذَكَرَهُ أَبُو اللَّيْث السَّمَرْقَنْدِيّ . وَقِيلَ : كَانَ قَوْم مِنْ الْجِنّ : اِسْتَمَعُوا إِلَى الْأَنْبِيَاء ثُمَّ عَادُوا إِلَى قَوْمهمْ وَأَخْبَرُوهُمْ ; كَالْحَالِ مَعَ نَبِيّنَا عَلَيْهِ السَّلَام . فَيُقَال لَهُمْ رُسُل اللَّه , وَإِنْ لَمْ يَنُصّ عَلَى إِرْسَالهمْ . وَفِي التَّنْزِيل : | يَخْرُج مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤ وَالْمَرْجَان | [ الرَّحْمَن : 22 ] أَيْ مِنْ أَحَدهمَا , وَإِنَّمَا يَخْرُج مِنْ الْمِلْح دُون الْعَذْب , فَكَذَلِكَ الرُّسُل مِنْ الْإِنْس دُون الْجِنّ ; فَمَعْنَى | مِنْكُمْ | أَيْ مِنْ أَحَدكُمْ . وَكَانَ هَذَا جَائِزًا ; لِأَنَّ ذِكْرهمَا سَبَقَ . وَقِيلَ : إِنَّمَا صَيَّرَ الرُّسُل فِي مَخْرَج اللَّفْظ مِنْ الْجَمِيع لِأَنَّ الثَّقَلَيْنِ قَدْ ضَمَّتْهُمَا عَرْصَة الْقِيَامَة , وَالْحِسَاب عَلَيْهِمْ دُون الْخَلْق ; فَلَمَّا صَارُوا فِي تِلْكَ الْعَرْصَة فِي حِسَاب وَاحِد فِي شَأْن الثَّوَاب وَالْعِقَاب خُوطِبُوا يَوْمئِذٍ بِمُخَاطَبَةٍ وَاحِدَة كَأَنَّهُمْ جَمَاعَة وَاحِدَة ; لِأَنَّ بَدْء خَلْقهمْ لِلْعُبُودِيَّةِ , وَالثَّوَاب وَالْعِقَاب عَلَى الْعُبُودِيَّة , وَلِأَنَّ الْجِنّ أَصْلهمْ مِنْ مَارِج مِنْ نَار , وَأَصْلنَا مِنْ تُرَاب , وَخَلْقهمْ غَيْر خَلْقنَا ; فَمِنْهُمْ مُؤْمِن وَكَافِر . وَعَدُوّنَا إِبْلِيس عَدُوّ لَهُمْ , يُعَادِي مُؤْمِنهمْ وَيُوَالِي كَافِرهمْ . وَفِيهِمْ أَهْوَاء : شِيعَة وَقَدَرِيَّة وَمُرْجِئَة يَتْلُونَ كِتَابنَا . وَقَدْ وَصَفَ اللَّه عَنْهُمْ فِي سُورَة | الْجِنّ | مِنْ قَوْله : | وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ | [ الْجِنّ : 14 ] . | وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُون ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِق قِدَدًا | [ الْجِنّ : 11 ] عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه هُنَاكَ . | يَقُصُّونَ | فِي مَوْضِع رَفْع نَعْت لِرُسُلٍ .|هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى|أَيْ شَهِدْنَا أَنَّهُمْ بَلَغُوا .|أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ|قِيلَ : هَذَا خِطَاب مِنْ اللَّه لِلْمُؤْمِنِينَ ; أَيْ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ غَرَّتْهُمْ الْحَيَاة الدُّنْيَا , أَيْ خَدَعَتْهُمْ وَظَنُّوا أَنَّهَا تَدُوم , وَخَافُوا زَوَالهَا عَنْهُمْ إِنْ آمَنُوا .|الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا|أَيْ اِعْتَرَفُوا بِكُفْرِهِمْ . قَالَ مُقَاتِل : هَذَا حِين شَهِدَتْ عَلَيْهِمْ الْجَوَارِح بِالشِّرْكِ وَبِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ .

ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ

قَوْله تَعَالَى : | ذَلِكَ | فِي مَوْضِع رَفْع عِنْد سِيبَوَيْهِ ; أَيْ الْأَمْر ذَلِكَ . و | أَنْ | مُخَفَّفَة مِنْ الثَّقِيلَة ; أَيْ إِنَّمَا فَعَلْنَا هَذَا بِهِمْ لِأَنِّي لَمْ أَكُنْ أُهْلِك الْقُرَى بِظُلْمِهِمْ ; أَيْ بِشِرْكِهِمْ قَبْل إِرْسَال الرُّسُل إِلَيْهِمْ فَيَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِير وَلَا نَذِير . وَقِيلَ : لَمْ أَكُنْ أُهْلِك الْقُرَى بِشْرك مَنْ أَشْرَكَ مِنْهُمْ ; فَهُوَ مِثْل | وَلَا تَزِر وَازِرَة وِزْر أُخْرَى | [ الْأَنْعَام : 164 ] . وَلَوْ أَهْلَكَهُمْ قَبْل بَعْثَة الرُّسُل فَلَهُ أَنْ يَفْعَل مَا يُرِيد . وَقَدْ قَالَ عِيسَى : | إِنْ تُعَذِّبهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادك | [ الْمَائِدَة : 118 ] وَقَدْ تَقَدَّمَ . وَأَجَازَ الْفَرَّاء أَنْ يَكُون | ذَلِكَ | فِي مَوْضِع نَصْب , الْمَعْنَى : فَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُهْلِك الْقُرَى بِظُلْمٍ .

وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ

أَيْ مِنْ الْجِنّ وَالْإِنْس ; كَمَا قَالَ فِي آيَة أُخْرَى : | أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقّ عَلَيْهِمْ الْقَوْل فِي أُمَم قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلهمْ مِنْ الْجِنّ وَالْإِنْس إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ | [ الْأَحْقَاف : 18 ] ثُمَّ قَالَ : | وَلِكُلِّ دَرَجَات مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالهمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ | [ الْأَحْقَاف : 19 ] . وَفِي هَذَا مَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْمُطِيع مِنْ الْجِنّ فِي الْجَنَّة , وَالْعَاصِي مِنْهُمْ فِي النَّار ; كَالْإِنْسِ سَوَاء . وَهُوَ أَصَحّ مَا قِيلَ فِي ذَلِكَ فَاعْلَمْهُ . وَمَعْنَى | وَلِكُلٍّ دَرَجَات | أَيْ وَلِكُلِّ عَامِل بِطَاعَةٍ دَرَجَات فِي الثَّوَاب . وَلِكُلِّ عَامِل بِمَعْصِيَةٍ دِرْكَات فِي الْعِقَاب .|وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ|أَيْ لَيْسَ بِلَاهٍ وَلَا سَاهٍ . وَالْغَفْلَة أَنْ يَذْهَب الشَّيْء عَنْك لِاشْتِغَالِك بِغَيْرِهِ .|عَمَّا يَعْمَلُونَ|قَرَأَهُ اِبْن عَامِر بِالتَّاءِ , الْبَاقُونَ بِالْيَاءِ .

وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آَخَرِينَ

أَيْ عَنْ خَلْقه وَعَنْ أَعْمَالهمْ .|ذُو الرَّحْمَةِ|أَيْ بِأَوْلِيَائِهِ وَأَهْل طَاعَته .|إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ|بِالْإِمَاتَةِ وَالِاسْتِئْصَال بِالْعَذَابِ .|وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ|أَيْ خَلْقًا آخَر أَمْثَل مِنْكُمْ وَأَطْوَع .|كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ|وَالْكَاف فِي مَوْضِع نَصْب , أَيْ يَسْتَخْلِف مِنْ بَعْدكُمْ مَا يَشَاء اِسْتِخْلَافًا مِثْل مَا أَنْشَأَكُمْ , وَنَظِيره | إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيّهَا النَّاس وَيَأْتِ بِآخَرِينَ | [ النِّسَاء : 133 ] . | وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِل قَوْمًا غَيْركُمْ | [ مُحَمَّد : 38 ] . فَالْمَعْنَى يُبَدِّل غَيْركُمْ مَكَانكُمْ , كَمَا تَقُول : أَعْطَيْتُك مِنْ دِينَارك ثَوْبًا .

إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآَتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ

أَوْعَدْت | فِي الشَّرّ , وَالْمَصْدَر الْإِيعَاد . وَالْمُرَاد عَذَاب الْآخِرَة . وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون مِنْ | وَعُدْت | عَلَى أَنْ يَكُون الْمُرَاد السَّاعَة الَّتِي فِي مَجِيئِهَا الْخَيْر وَالشَّرّ فَغَلَبَ الْخَيْر . رُوِيَ مَعْنَاهُ عَنْ الْحَسَن .|وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ|أَيْ فَائِتِينَ ; يُقَال : أَعْجَزَنِي فُلَان , أَيْ فَاتَنِي وَغَلَبَنِي .

قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ

وَقَرَأَ أَبُو بَكْر بِالْجَمْعِ | مَكَانَاتكُمْ | . وَالْمَكَانَة الطَّرِيقَة . وَالْمَعْنَى اُثْبُتُوا عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ فَأَنَا أَثْبُت عَلَى مَا أَنَا عَلَيْهِ . فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ يَجُوز أَنْ يُؤْمَرُوا بِالثَّبَاتِ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ وَهُمْ كُفَّار . فَالْجَوَاب أَنَّ هَذَا تَهْدِيد ; كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ : | فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا | [ التَّوْبَة : 82 ] . وَدَلَّ عَلَيْهِ | فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُون لَهُ عَاقِبَة الدَّار | أَيْ الْعَاقِبَة الْمَحْمُودَة الَّتِي يُحْمَد صَاحِبهَا عَلَيْهَا , أَيْ مَنْ لَهُ النَّصْر فِي دَار الْإِسْلَام , وَمَنْ لَهُ وِرَاثَة الْأَرْض , وَمَنْ لَهُ الدَّار الْآخِرَة , أَيْ الْجَنَّة . قَالَ الزَّجَّاج : | مَكَانَتكُمْ | تُمَكِّنكُمْ فِي الدُّنْيَا . اِبْن عَبَّاس وَالْحَسَن وَالنَّخَعِيّ : عَلَى نَاحِيَتكُمْ . الْقُتَبِيّ : عَلَى مَوْضِعكُمْ .|مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ|عَلَى مَكَانَتِي , فَحُذِفَ لِدَلَالَةِ الْحَال عَلَيْهِ .|تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ|| وَمَنْ | مِنْ قَوْله | مَنْ تَكُون | فِي مَوْضِع نَصْب بِمَعْنَى الَّذِي ; لِوُقُوعِ الْعِلْم عَلَيْهِ . وَيَجُوز أَنْ تَكُون فِي مَوْضِع رَفْع ; لِأَنَّ الِاسْتِفْهَام لَا يَعْمَل فِيهِ مَا قَبْله فَيَكُون الْفِعْل مُعَلَّقًا . أَيْ تَعْلَمُونَ أَيّنَا تَكُون لَهُ عَاقِبَة الدَّار ; كَقَوْلِهِ : | لِنَعْلَم أَيّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى | وَقَرَأَ حَمْزَة وَالْكِسَائِيّ | مَنْ يَكُون | بِالْيَاءِ .

وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْ

وَيُقَال : ذَرَأَ يَذْرَأ ذَرْءًا , أَيْ خَلَقَ . وَفِي الْكَلَام حَذْف وَاخْتِصَار , وَهُوَ وَجَعَلُوا لِأَصْنَامِهِمْ نَصِيبًا ; دَلَّ عَلَيْهِ مَا بَعْده . وَكَانَ هَذَا مِمَّا زَيَّنَهُ الشَّيْطَان وَسَوَّلَهُ لَهُمْ , حَتَّى صَرَفُوا مِنْ مَالهمْ طَائِفَة إِلَى اللَّه بِزَعْمِهِمْ وَطَائِفَة إِلَى أَصْنَامهمْ ; قَالَهُ اِبْن عَبَّاس وَالْحَسَن وَمُجَاهِد وَقَتَادَة . وَالْمَعْنَى مُتَقَارِب . جَعَلُوا لِلَّهِ جُزْءًا وَلِشُرَكَائِهِمْ جُزْءًا , فَإِذَا ذَهَبَ مَا لِشُرَكَائِهِمْ بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا وَعَلَى سَدَنَتهَا عَوَّضُوا مِنْهُ مَا لِلَّهِ , وَإِذَا ذَهَبَ مَا لِلَّهِ بِالْإِنْقَاقِ عَلَى الضِّيفَان وَالْمَسَاكِين لَمْ يُعَوَّضُوا مِنْهُ شَيْئًا , وَقَالُوا : اللَّه مُسْتَغْنٍ عَنْهُ وَشُرَكَاؤُنَا فُقَرَاء . وَكَانَ هَذَا مِنْ جَهَالَاتهمْ وَبِزَعْمِهِمْ . وَالزَّعْم الْكَذِب . قَالَ شُرَيْح الْقَاضِي : إِنَّ لِكُلِّ شَيْء كُنْيَة وَكُنْيَة الْكَذِب زَعَمُوا . وَكَانُوا يَكْذِبُونَ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاء لِأَنَّهُ لَمْ يَنْزِل بِذَلِكَ شَرْع . وَرَوَى سَعِيد بْن جُبَيْر عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ قَالَ : مَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْلَم جَهْل الْعَرَب فَلْيَقْرَأْ مَا فَوْق الثَّلَاثِينَ وَالْمِائَة مِنْ سُورَة الْأَنْعَام إِلَى قَوْله : | قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادهمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْم | [ الْأَنْعَام : 140 ] . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ كَلَام صَحِيح , فَإِنَّهَا تَصَرَّفَتْ بِعُقُولِهَا الْعَاجِزَة فِي تَنْوِيع الْحَلَال وَالْحَرَام سَفَاهَة بِغَيْرِ مَعْرِفَة وَلَا عَدْل , وَاَلَّذِي تَصَرَّفَتْ بِالْجَهْلِ فِيهِ مِنْ اِتِّخَاذ الْآلِهَة أَعْظَم جَهْلًا وَأَكْبَر جُرْمًا ; فَإِنَّ الِاعْتِدَاء عَلَى اللَّه تَعَالَى أَعْظَم مِنْ الِاعْتِدَاء عَلَى الْمَخْلُوقَات . وَالدَّلِيل فِي أَنَّ اللَّه وَاحِد فِي ذَاته وَاحِد فِي صِفَاته وَاحِد فِي مَخْلُوقَاته أَبْيَن وَأَوْضَح مِنْ الدَّلِيل عَلَى أَنَّ هَذَا حَلَال وَهَذَا حَرَام . وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِعَمْرِو بْن الْعَاصِ : إِنَّكُمْ عَلَى كَمَالِ عُقُولكُمْ وَوُفُور أَحْلَامكُمْ عَبَدْتُمْ الْحَجَر ! فَقَالَ عَمْرو : تِلْكَ عُقُول كَادَهَا بَارِيهَا . فَهَذَا الَّذِي أَخْبَرَ اللَّه سُبْحَانه مِنْ سَخَافَة الْعَرَب وَجَهْلهَا أَمْر أَذْهَبَهُ الْإِسْلَام , وَأَبْطَلَهُ اللَّه بِبَعْثِهِ الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام . فَكَانَ مِنْ الظَّاهِر لَنَا أَنْ نُمِيتهُ حَتَّى لَا يَظْهَر , وَنَنْسَاهُ حَتَّى لَا يُذْكَر ; إِلَّا أَنَّ رَبّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى ذَكَرَهُ بِنَصِّهِ وَأَوْرَدَهُ بِشَرْحِهِ , كَمَا ذَكَرَ كُفْر الْكَافِرِينَ بِهِ . وَكَانَتْ الْحِكْمَة فِي ذَلِكَ - وَاَللَّه أَعْلَم - أَنَّ قَضَاءَهُ قَدْ سَبَقَ , وَحُكْمه قَدْ نَفَذَ بِأَنَّ الْكُفْر وَالتَّخْلِيط لَا يَنْقَطِعَانِ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة . وَقَرَأَ يَحْيَى بْن وَثَّاب وَالسُّلَمِيّ وَالْأَعْمَش وَالْكِسَائِيّ | بِزَعْمِهِمْ | بِضَمِّهِ الزَّاي . وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا , وَهُمَا لُغَتَانِ .|فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ|أَيْ إِلَى الْمَسَاكِين . | سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ | أَيْ سَاءَ الْحُكْم حُكْمهمْ . قَالَ اِبْن زَيْد : كَانُوا إِذَا ذَبَحُوا مَا لِلَّهِ ذَكَرُوا عَلَيْهِ اِسْم الْأَوْثَان , وَإِذَا ذَبَحُوا مَا لِأَوْثَانِهِمْ لَمْ يَذْكُرُوا عَلَيْهِ اِسْم اللَّه , فَهَذَا مَعْنَى | فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِل إِلَى اللَّه | . فَكَانَ تَرْكهمْ لِذِكْرِ اللَّه مَذْمُومًا مِنْهُمْ وَكَانَ دَاخِلًا فِي تَرْك أَكْل مَا لَمْ يُذْكَر اِسْم اللَّه عَلَيْهِ .

وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ

الْمَعْنَى : فَكَمَا زُيِّنَ لِهَؤُلَاءِ أَنْ جَعَلُوا لِلَّهِ نَصِيبًا وَلِأَصْنَامِهِمْ نَصِيبًا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِكَثِيرٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ قَتْل أَوْلَادهمْ شُرَكَاؤُهُمْ . قَالَ مُجَاهِد وَغَيْره : زُيِّنَتْ لَهُمْ قَتْل الْبَنَات مَخَافَة الْعَيْلَة . قَالَ الْفَرَّاء وَالزَّجَّاج : شُرَكَاؤُهُمْ هَاهُنَا هُمْ الَّذِينَ كَانُوا يَخْدُمُونَ الْأَوْثَان . وَقِيلَ : هُمْ الْغُوَاة مِنْ النَّاس . وَقِيلَ : هُمْ الشَّيَاطِين . وَأَشَارَ بِهَذَا إِلَى الْوَأْد الْخَفِيّ وَهُوَ دَفْن الْبِنْت حَيَّة مَخَافَة السِّبَاء وَالْحَاجَة , وَعَدَم مَا حُرِمْنَ مِنْ النُّصْرَة . وَسَمَّى الشَّيَاطِين شُرَكَاء لِأَنَّهُمْ أَطَاعُوهُمْ فِي مَعْصِيَة اللَّه فَأَشْرَكُوهُمْ مَعَ اللَّه فِي وُجُوب طَاعَتهمْ . وَقِيلَ : كَانَ الرَّجُل فِي الْجَاهِلِيَّة يَحْلِف بِاَللَّهِ لَئِنْ وُلِدَ لَهُ كَذَا وَكَذَا غُلَامًا لَيَنْحَرَن أَحَدهمْ ; كَمَا فَعَلَهُ عَبْد الْمُطَّلِب حِين نَذَرَ ذَبْح وَلَده عَبْد اللَّه . ثُمَّ قِيلَ : فِي الْآيَة أَرْبَع قِرَاءَات , أَصَحّهَا قِرَاءَة الْجُمْهُور : | وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِكَثِيرٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ قَتْل أَوْلَادهمْ شُرَكَاؤُهُمْ | وَهَذِهِ قِرَاءَة أَهْل الْحَرَمَيْنِ وَأَهْل الْكُوفَة وَأَهْل الْبَصْرَة . | شُرَكَاؤُهُمْ | رُفِعَ ب | زُيِّنَ | ; لِأَنَّهُمْ زَيَّنُوا وَلَمْ يَقْتُلُوا . | قَتْل | نُصِبَ ب | زُيِّنَ | و | أَوْلَادهمْ | مُضَاف إِلَى الْمَفْعُول , وَالْأَصْل فِي الْمَصْدَر أَنْ يُضَاف إِلَى الْفَاعِل ; لِأَنَّهُ أَحْدَثَهُ وَلِأَنَّهُ لَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ وَيُسْتَغْنَى عَنْ الْمَفْعُول ; فَهُوَ هُنَا مُضَاف إِلَى الْمَفْعُول لَفْظًا مُضَاف إِلَى الْفَاعِل مَعْنًى ; لِأَنَّ التَّقْدِير زُيِّنَ لِكَثِيرٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ قَتْلهمْ أَوْلَادهمْ شُرَكَاؤُهُمْ , ثُمَّ حُذِفَ الْمُضَاف وَهُوَ الْفَاعِل كَمَا حُذِفَ مِنْ قَوْله تَعَالَى : | لَا يَسْأَم الْإِنْسَان مِنْ دُعَاء الْخَيْر | [ فُصِّلَتْ : 49 ] أَيْ مِنْ دُعَائِهِ الْخَيْر . فَالْهَاء فَاعِلَة الدُّعَاء , أَيْ لَا يَسْأَم الْإِنْسَان مِنْ أَنْ يَدْعُو بِالْخَيْرِ . وَكَذَا قَوْله : زُيِّنَ لِكَثِيرٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فِي أَنْ يَقْتُلُوا أَوْلَادهمْ شُرَكَاؤُهُمْ . قَالَ مَكِّيّ : وَهَذِهِ الْقِرَاءَة هِيَ الِاخْتِيَار ; لِصِحَّةِ الْإِعْرَاب فِيهَا وَلِأَنَّ عَلَيْهَا الْجَمَاعَة . الْقِرَاءَة الثَّانِيَة | زُيِّنَ | ( بِضَمِّ الزَّاي ) . | لِكَثِيرٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ قَتْلُ | ( بِالرَّفْعِ ) . | أَوْلَادِهِمْ | بِالْخَفْضِ | شُرَكَاؤُهُمْ | ( بِالرَّفْعِ ) قِرَاءَة الْحَسَن . اِبْن عَامِر وَأَهْل الشَّام | زُيِّنَ | بِضَمِّ الزَّاي | لِكَثِيرٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ قَتْلُ أَوْلَادَهُمْ بِرَفْعِ | قَتْل | وَنَصْب | أَوْلَادهمْ | . | شُرَكَائِهِمْ | بِالْخَفْضِ فِيمَا حَكَى أَبُو عُبَيْد ; وَحَكَى غَيْره عَنْ أَهْل الشَّام أَنَّهُمْ قَرَءُوا | وَكَذَلِكَ | بِضَمِّ الزَّاي | لِكَثِيرٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ قَتْل بِالرَّفْعِ | أَوْلَادهمْ | بِالْخَفْضِ | شُرَكَائِهِمْ | بِالْخَفْضِ أَيْضًا . فَالْقِرَاءَة الثَّانِيَة قِرَاءَة الْحَسَن جَائِزَة , يَكُون | قَتْل | اِسْم مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِله , | شُرَكَاؤُهُمْ | ; رُفِعَ بِإِضْمَارِ فِعْل يَدُلّ عَلَيْهِ | زَيَّنَ | , أَيْ زَيَّنَهُ شُرَكَاؤُهُمْ . وَيَجُوز عَلَى هَذَا ضُرِبَ زَيْد عَمْرو , بِمَعْنَى ضَرَبَهُ عَمْرو , وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ : <br>لَبَّيْكَ يَزِيد ضَارِع لِخُصُومَةٍ <br>أَيْ يُبْكِيه ضَارِع . وَقَرَأَ اِبْن عَامِر وَعَاصِم مِنْ رِوَايَة أَبِي بَكْر | يُسَبِّح لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَال رِجَال | [ النُّور : 36 - 37 ] التَّقْدِير يُسَبِّحهُ رِجَال . وَقَرَأَ إِبْرَاهِيم بْن أَبِي عَبْلَة | قُتِلَ أَصْحَاب الْأُخْدُود النَّار ذَات الْوُقُود | [ الْبُرُوج : 4 - 5 ] بِمَعْنَى قَتَلَهُمْ النَّار . قَالَ النَّحَّاس : وَأَمَّا مَا حَكَاهُ أَبُو عُبَيْد عَنْ اِبْن عَامِر وَأَهْل الشَّام فَلَا يَجُوز فِي كَلَام وَلَا فِي شِعْر , وَإِنَّمَا أَجَازَ النَّحْوِيُّونَ التَّفْرِيق بَيْن الْمُضَاف وَالْمُضَاف إِلَيْهِ بِالظَّرْفِ لِأَنَّهُ لَا يَفْصِل , فَأَمَّا بِالْأَسْمَاءِ غَيْر الظُّرُوف فَلَحْن . قَالَ مَكِّيّ : وَهَذِهِ الْقِرَاءَة فِيهَا ضَعْف لِلتَّفْرِيقِ بَيْن الْمُضَاف وَالْمُضَاف إِلَيْهِ ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَجُوز مِثْل هَذَا التَّفْرِيق فِي الشِّعْر مَعَ الظُّرُوف لِاتِّسَاعِهِمْ فِيهَا وَهُوَ فِي الْمَفْعُول بِهِ فِي الشِّعْر بَعِيد , فَإِجَازَته فِي الْقِرَاءَة أَبْعَد . وَقَالَ الْمَهْدَوِيّ : قِرَاءَة اِبْن عَامِر هَذِهِ عَلَى التَّفْرِقَة بَيْن الْمُضَاف وَالْمُضَاف إِلَيْهِ , وَمِثْله قَوْل الشَّاعِر : <br>فَزَجَجْتهَا بِمِزَجَّةٍ .......... زَجّ الْقُلُوص أَبِي مَزَادَة <br>يُرِيد : زَجّ أَبِي مَزَادَة الْقُلُوص . وَأَنْشَدَ : <br>تَمُرّ عَلَى مَا تَسْتَمِرّ وَقَدْ شَفَتْ .......... غَلَائِل عَبْد الْقَيْس مِنْهَا صُدُورهَا <br>يُرِيد شَقَّتْ عَبْد الْقَيْس غَلَائِل صُدُورهَا . وَقَالَ أَبُو غَانِم أَحْمَد بْن حَمْدَان النَّحْوِيّ : قِرَاءَة اِبْن عَامِر لَا تَجُوز فِي الْعَرَبِيَّة ; وَهِيَ زَلَّة عَالِم , وَإِذَا زَلَّ الْعَالِم لَمْ يَجُزْ اِتِّبَاعه , وَرَدَّ قَوْله إِلَى الْإِجْمَاع , وَكَذَلِكَ يَجِب أَنْ يَرُدّ مَنْ زَلَّ مِنْهُمْ أَوْ سَهَا إِلَى الْإِجْمَاع ; فَهُوَ أَوْلَى مِنْ الْإِصْرَار عَلَى غَيْر الصَّوَاب . وَإِنَّمَا أَجَازُوا فِي الضَّرُورَة لِلشَّاعِرِ أَنْ يُفَرِّق بَيْن الْمُضَاف وَالْمُضَاف إِلَيْهِ بِالظَّرْفِ ; لِأَنَّهُ لَا يَفْصِل . كَمَا قَالَ : <br>كَمَا خُطَّ الْكِتَاب بِكَفٍّ يَوْمًا .......... يَهُودِيّ يُقَارِب أَوْ يُزِيل <br>وَقَالَ آخَر : <br>كَأَنَّ أَصْوَات مِنْ إِيغَالهنَّ بِنَا .......... أَوَاخِر الْمَيْس أَصْوَات الْفَرَارِيج <br>وَقَالَ آخَر : <br>لَمَّا رَأَتْ ساتيد ما اِسْتَعْبَرَتْ .......... لِلَّهِ دَرّ الْيَوْم مَنْ لَامَهَا <br>وَقَالَ الْقُشَيْرِيّ : وَقَالَ قَوْم هَذَا قَبِيح , وَهَذَا مُحَال , لِأَنَّهُ إِذَا ثَبَتَتْ الْقِرَاءَة بِالتَّوَاتُرِ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ الْفَصِيح لَا الْقَبِيح . وَقَدْ وَرَدَ ذَلِكَ فِي كَلَام الْعَرَب وَفِي مُصْحَف عُثْمَان | شُرَكَائِهِمْ | بِالْيَاءِ وَهَذَا يَدُلّ عَلَى قِرَاءَة اِبْن عَامِر . وَأُضِيفَ الْقَتْل فِي هَذِهِ الْقِرَاءَة إِلَى الشُّرَكَاء ; لِأَنَّ الشُّرَكَاء هُمْ الَّذِي زَيَّنُوا ذَلِكَ وَدَعَوْا إِلَيْهِ ; فَالْفِعْل مُضَاف إِلَى فَاعِله عَلَى مَا يَجِب فِي الْأَصْل , لَكِنَّهُ فَرْق بَيْن الْمُضَاف وَالْمُضَاف إِلَيْهِ ; وَقَدَّمَ الْمَفْعُول وَتَرَكَهُ مَنْصُوبًا عَلَى حَاله ; إِذْ كَانَ مُتَأَخِّرًا فِي الْمَعْنَى , وَأَخَّرَ الْمُضَاف وَتَرَكَهُ مَخْفُوضًا عَلَى حَاله ; إِذْ كَانَ مُتَقَدِّمًا بَعْد الْقَتْل . وَالتَّقْدِير : وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِكَثِيرٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ قَتْل شُرَكَائِهِمْ أَوْلَادهمْ . أَيْ أَنَّ قَتْل شُرَكَاؤُهُمْ أَوْلَادهمْ . قَالَ النَّحَّاس : فَأَمَّا مَا حَكَاهُ غَيْر أَبِي عُبَيْد ( وَهِيَ الْقِرَاءَة الرَّابِعَة ) فَهُوَ جَائِز . عَلَى أَنْ تُبَدِّل شُرَكَاءَهُمْ مِنْ أَوْلَادهمْ ; لِأَنَّهُمْ شُرَكَاؤُهُمْ فِي النَّسَب وَالْمِيرَاث .|لِيُرْدُوهُمْ|اللَّام لَام كَيْ . وَالْإِرْدَاء الْإِهْلَاك .|وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ|الَّذِي اِرْتَضَى لَهُمْ . أَيْ يَأْمُرُونَهُمْ - بِالْبَاطِلِ وَيُشَكِّكُونَهُمْ فِي دِينهمْ . وَكَانُوا عَلَى دِين إِسْمَاعِيل , وَمَا كَانَ فِيهِ قَتْل الْوَلَد ; فَيَصِير الْحَقّ مُغَطًّى عَلَيْهِ ; فَبِهَذَا يَلْبِسُونَ .|وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ|بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ كُفْرهمْ بِمَشِيئَةِ اللَّه . وَهُوَ رَدّ عَلَى الْقَدَرِيَّة .|فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ|يُرِيد قَوْلهمْ إِنَّ لِلَّهِ شُرَكَاء .

وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ

ذَكَرَ تَعَالَى نَوْعًا آخَر مِنْ جَهَالَتهمْ . وَقَرَأَ أَبَان بْن عُثْمَان | حُجُر | بِضَمِّ الْحَاء وَالْجِيم . وَقَرَأَ الْحَسَن وَقَتَادَة | حَجْر | بِفَتْحِ الْحَاء وَإِسْكَان الْجِيم , لُغَتَانِ بِمَعْنًى . وَعَنْ الْحَسَن أَيْضًا | حُجْر | بِضَمِّ الْحَاء . قَالَ أَبُو عُبَيْد عَنْ هَارُون قَالَ : كَانَ الْحَسَن يَضُمّ الْحَاء فِي | حِجْر | فِي جَمِيع الْقُرْآن إِلَّا فِي قَوْله : | بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا | [ الْفُرْقَان : 53 ] فَإِنَّهُ كَانَ يَكْسِرهَا هَاهُنَا . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس وَابْن الزُّبَيْر | وَحَرْث حَرَج | الرَّاء قَبْل الْجِيم ; وَكَذَا فِي مُصْحَف أَبِي ; وَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدهمَا أَنَّهُ مِثْل جَبَذَ وَجَذَبَ . وَالْقَوْل الْآخَر - وَهُوَ أَصَحّ - أَنَّهُ مِنْ الْحِرْج ; فَإِنَّ الْحِرْج ( بِكَسْرِ الْحَاء ) لُغَة فِي الْحَرَج ( بِفَتْحِ الْحَاء ) وَهُوَ الضِّيق وَالْإِثْم ; فَيَكُون مَعْنَاهُ الْحَرَام . وَمِنْهُ فُلَان يَتَحَرَّج أَيْ يُضَيِّق عَلَى نَفْسه الدُّخُول فِيمَا يَشْتَبِه عَلَيْهِ مِنْ الْحَرَام . وَالْحِجْر : لَفْظ مُشْتَرَك . وَهُوَ هُنَا بِمَعْنَى الْحَرَام , وَأَصْله الْمَنْع . وَسُمِّيَ الْعَقْل حَجَرًا لِمَنْعِهِ عَنْ الْقَبَائِح . وَفُلَان فِي حِجْر الْقَاضِي أَيْ مَنْعه . حَجَرْت عَلَى الصَّبِيّ حَجْرًا . وَالْحِجْر الْعَقْل ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : | هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَم لِذِي حِجْر | [ الْفَجْر : 5 ] وَالْحِجْر الْفَرَس الْأُنْثَى . وَالْحِجْر الْقَرَابَة . قَالَ : <br>يُرِيدُونَ أَنْ يُقْصُوهُ عَنِّي وَإِنَّهُ .......... لَذُو حَسَب دَانَ إِلَيَّ وَذُو حِجْر <br>وَحِجْر الْإِنْسَان وَحَجْره لُغَتَانِ , وَالْفَتْح أَكْثَر . أَيْ حَرَّمُوا أَنْعَامًا وَحَرْثًا وَجَعَلُوهَا لِأَصْنَامِهِمْ وَقَالُوا : لَا يَطْعَمهَا إِلَّا مَنْ نَشَاء | .|لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ|وَهُمْ خَدَّام الْأَصْنَام . ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ هَذَا تَحَكُّم لَمْ يَرِدْ بِهِ شَرْع ; وَلِهَذَا قَالَ : | بِزَعْمِهِمْ | .|وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا|يُرِيد مَا يُسَيِّبُونَهُ لِآلِهَتِهِمْ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ النَّصِيب . وَقَالَ مُجَاهِد : الْمُرَاد الْبَحِيرَة وَالْوَصِيلَة وَالْحَام .|وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا|يَعْنِي مَا ذَبَحُوهُ لِآلِهَتِهِمْ . قَالَ أَبُو وَائِل : لَا يَحُجُّونَ عَلَيْهَا .|افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ|أَيْ لِلِافْتِرَاءِ عَلَى اللَّه ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ : اللَّه أَمَرَنَا بِهَذَا . فَهُوَ نَصْب عَلَى الْمَفْعُول لَهُ . وَقِيلَ : أَيْ يَفْتَرُونَ اِفْتِرَاء , وَانْتِصَابه لِكَوْنِهِ مَصْدَرًا .

وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ

هَذَا نَوْع آخَر مِنْ جَهْلهمْ . قَالَ اِبْن عَبَّاس : هُوَ اللَّبَن , جَعَلُوهُ حَلَالًا لِلذُّكُورِ وَحَرَامًا عَلَى الْإِنَاث . وَقِيلَ : الْأَجِنَّة ; قَالُوا : إِنَّهَا لِذُكُورِنَا . ثُمَّ إِنْ مَاتَ مِنْهَا شَيْء أَكَلَهُ الرِّجَال وَالنِّسَاء . وَالْهَاء فِي | خَالِصَة | لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْخُلُوص ; وَمِثْله رَجُل عَلَّامَة وَنَسَّابَة ; عَنْ الْكِسَائِيّ وَالْأَخْفَش . و | خَالِصَة | بِالرَّفْعِ خَبَر الْمُبْتَدَإِ الَّذِي هُوَ | مَا | . وَقَالَ الْفَرَّاء : تَأْنِيثهَا لِتَأْنِيثِ الْأَنْعَام . وَهَذَا الْقَوْل عِنْد قَوْم خَطَأ ; لِأَنَّ مَا فِي بُطُونهَا لَيْسَ مِنْهَا ; فَلَا يُشْبِه قَوْله | يَلْتَقِطهُ بَعْض السَّيَّارَة | [ يُوسُف : 10 ] لِأَنَّ بَعْض السَّيَّارَة سَيَّارَة , وَهَذَا لَا يَلْزَم قَالَ الْفَرَّاء : فَإِنَّ مَا فِي بُطُون الْأَنْعَام أَنْعَام مِثْلهَا ; فَأَنَّثَ لِتَأْنِيثِهَا , أَيْ الْأَنْعَام الَّتِي فِي بُطُون الْأَنْعَام خَالِصَة لِذُكُورِنَا . وَقِيلَ : أَيْ جَمَاعَة مَا فِي الْبُطُون . وَقِيلَ : إِنَّ | مَا | تَرْجِع إِلَى الْأَلْبَان أَوْ الْأَجِنَّة ; فَجَاءَ التَّأْنِيث عَلَى الْمَعْنَى وَالتَّذْكِير عَلَى اللَّفْظ . وَلِهَذَا قَالَ | وَمُحَرَّم عَلَى أَزْوَاجنَا | عَلَى اللَّفْظ . وَلَوْ رَاعَى الْمَعْنَى لَقَالَ وَمُحَرَّمَة . وَيُعَضِّد هَذَا قِرَاءَة الْأَعْمَش | خَالِص | بِغَيْرِ هَاء . قَالَ الْكِسَائِيّ : مَعْنَى خَالِص وَخَالِصَة وَاحِد , إِلَّا أَنَّ الْهَاء لِلْمُبَالَغَةِ ; كَمَا يُقَال . : رَجُل دَاهِيَة وَعَلَّامَة ; كَمَا تَقَدَّمَ . وَقَرَأَ قَتَادَة | خَالِصَة | بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَال مِنْ الضَّمِير فِي الظَّرْف الَّذِي هُوَ صِلَة لِ | مَا | . وَخَبَر الْمُبْتَدَإِ مَحْذُوف ; كَقَوْلِك : الَّذِي فِي الدَّار قَائِمًا زَيْد . هَذَا مَذْهَب الْبَصْرِيِّينَ . وَانْتَصَبَ عِنْد الْفَرَّاء عَلَى الْقَطْع . وَكَذَا الْقَوْل فِي قِرَاءَة سَعِيد بْن جُبَيْر | خَالِصًا | . وَقَرَأَ اِبْن عَبَّاس | خَالِصَة | عَلَى الْإِضَافَة فَيَكُون اِبْتِدَاء ثَانِيًا ; وَالْخَبَر | لِذُكُورِنَا | وَالْجُمْلَة خَبَر | مَا | . وَيَجُوز أَنْ يَكُون | خَالِصَة | بَدَلًا مِنْ | مَا | . فَهَذِهِ خَمْس قِرَاءَات .|وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا|أَيْ بَنَاتنَا ; عَنْ اِبْن زَيْد . وَغَيْره : نِسَاؤُهُمْ .|وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً|قُرِئَ بِالْيَاءِ وَالتَّاء ; أَيْ إِنْ يَكُنْ مَا فِي بُطُون الْأَنْعَام مَيْتَة .|فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ|أَيْ الرِّجَال وَالنِّسَاء . وَقَالَ | فِيهِ | لِأَنَّ الْمُرَاد بِالْمَيْتَةِ الْحَيَوَان , وَهِيَ تُقَوِّي قِرَاءَة الْيَاء , وَلَمْ يَقُلْ فِيهَا . | مَيْتَةٌ | بِالرَّفْعِ بِمَعْنَى تَقَع أَوْ تَحْدُث . | مَيْتَةً | بِالنَّصْبِ ; أَيْ وَإِنْ تَكُنْ النَّسَمَة مَيْتَة .|سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ|أَيْ كَذِبهمْ وَافْتِرَاءَهُمْ ; أَيْ يُعَذِّبهُمْ عَلَى ذَلِكَ . وَانْتُصِبَ | وَصْفهمْ | بِنَزْعِ الْخَافِض ; أَيْ بِوَصْفِهِمْ . وَفِي الْآيَة دَلِيل عَلَى أَنَّ الْعَالِم يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَعَلَّم قَوْل مَنْ خَالَفَهُ وَإِنْ لَمْ يَأْخُذ بِهِ , حَتَّى يَعْرِف فَسَاد قَوْله , وَيَعْلَم كَيْفَ يَرُدّ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى أَعْلَمَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابه قَوْل مَنْ خَالَفَهُمْ مِنْ أَهْل زَمَانهمْ , لِيَعْرِفُوا فَسَاد قَوْلهمْ .

قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ

أَخْبَرَ بِخُسْرَانِهِمْ لِوَأْدِهِمْ الْبَنَات وَتَحْرِيمهمْ الْبَحِيرَة وَغَيْرهَا بِعُقُولِهِمْ ; فَقَتَلُوا أَوْلَادهمْ سَفَهًا خَوْف الْإِمْلَاق , وَحَجَرُوا عَلَى أَنْفُسهمْ فِي أَمْوَالهمْ وَلَمْ يَخْشَوْا الْإِمْلَاق ; فَأَبَانَ ذَلِكَ عَنْ تَنَاقُض رَأْيهمْ . قُلْت : إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْعَرَب مَنْ يَقْتُل وَلَده خَشْيَة الْإِمْلَاق ; كَمَا ذَكَرَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فِي غَيْر هَذَا الْمَوْضِع . وَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَقْتُلهُ سَفَهًا بِغَيْرِ حُجَّة مِنْهُمْ فِي قَتْلهمْ ; وَهُمْ رَبِيعَة وَمُضَر , وَكَانُوا يَقْتُلُونَ بَنَاتهمْ لِأَجْلِ الْحَمِيَّة . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُول : الْمَلَائِكَة بَنَات اللَّه ; فَأَلْحَقُوا الْبَنَات بِالْبَنَاتِ . وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَا يَزَال مُغْتَمًّا بَيْن يَدَيْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَقَالَ لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَا لَك تَكُون مَحْزُونًا ) ؟ فَقَالَ : يَا رَسُول اللَّه , إِنِّي أَذْنَبْت ذَنْبًا فِي الْجَاهِلِيَّة فَأَخَاف أَلَّا يَغْفِرهُ اللَّه لِي وَإِنْ أَسْلَمْت ! فَقَالَ لَهُ : ( أَخْبِرْنِي عَنْ ذَنْبك ) . فَقَالَ : يَا رَسُول اللَّه , إِنِّي كُنْت مِنْ الَّذِينَ يَقْتُلُونَ بَنَاتهمْ , فَوُلِدَتْ لِي بِنْت فَتَشَفَّعَتْ إِلَيَّ اِمْرَأَتِي أَنْ أَتْرُكهَا فَتَرَكْتهَا حَتَّى كَبِرَتْ وَأَدْرَكَتْ , وَصَارَتْ مِنْ أَجْمَل النِّسَاء فَخَطَبُوهَا ; فَدَخَلَتْنِي الْحَمِيَّة وَلَمْ يَحْتَمِل قَلْبِي أَنْ أُزَوِّجهَا أَوْ أَتْرُكهَا فِي الْبَيْت بِغَيْرِ زَوْج , فَقُلْت لِلْمَرْأَةِ : إِنِّي أُرِيد أَنْ أَذْهَب إِلَى قَبِيلَة كَذَا وَكَذَا فِي زِيَارَة أَقْرِبَائِي فَابْعَثِيهَا مَعِي , فَسِرْت بِذَلِكَ وَزَيَّنْتهَا بِالثِّيَابِ وَالْحُلِيّ , وَأَخَذَتْ عَلَيَّ الْمَوَاثِيق بِأَلَّا أَخُونهَا , فَذَهَبْت بِهَا إِلَى رَأْس بِئْر فَنَظَرْت فِي الْبِئْر فَفَطِنَتْ الْجَارِيَة أَنِّي أُرِيد أَنْ أُلْقِيهَا فِي الْبِئْر ; فَالْتَزَمَتْنِي وَجَعَلَتْ تَبْكِي وَتَقُول : يَا أَبَت ! أَيْش تُرِيد أَنْ تَفْعَل بِي ! فَرَحِمْتهَا , ثُمَّ نَظَرْت فِي الْبِئْر فَدَخَلَتْ عَلَيَّ الْحَمِيَّة , ثُمَّ الْتَزَمَتْنِي وَجَعَلَتْ تَقُول : يَا أَبَت لَا تُضَيِّع أَمَانَة أُمِّي ; فَجَعَلْت مَرَّة أَنْظُر فِي الْبِئْر وَمَرَّة أَنْظُر إِلَيْهَا فَأَرْحَمهَا , حَتَّى غَلَبَنِي الشَّيْطَان فَأَخَذْتهَا وَأَلْقَيْتهَا فِي الْبِئْر مَنْكُوسَة , وَهِيَ تُنَادِي فِي الْبِئْر : يَا أَبَت , قَتَلْتنِي . فَمَكَثْت هُنَاكَ حَتَّى اِنْقَطَعَ صَوْتهَا فَرَجَعْت . فَبَكَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابه وَقَالَ : ( لَوْ أَمَرْت أَنْ أُعَاقِب أَحَدًا بِمَا فَعَلَ فِي الْجَاهِلِيَّة لَعَاقَبْتُك ) .

وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُس

أَيْ خَلَقَ .|جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ|أَيْ بَسَاتِين مَمْسُوكَات مَرْفُوعَات .|وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ|غَيْر مَرْفُوعَات . قَالَ اِبْن عَبَّاس : | مَعْرُوشَات | مَا اِنْبَسَطَ عَلَى الْأَرْض مِمَّا يَفْرِش مِثْل الْكُرُوم وَالزُّرُوع وَالْبِطِّيخ . | وَغَيْر مَعْرُوشَات | مَا قَامَ عَلَى سَاق مِثْل النَّخْل وَسَائِر الْأَشْجَار . وَقِيلَ : الْمَعْرُوشَات مَا اِرْتَفَعَتْ أَشْجَارهَا . وَأَصْل التَّعْرِيش الرَّفْع . وَعَنْ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا : الْمَعْرُوشَات مَا أَث ْبَتَهُ وَرَفَعَهُ النَّاس . وَغَيْر الْمَعْرُوشَات مَا خَرَجَ فِي الْبَرَارِي وَالْجِبَال مِنْ الثِّمَار . يَدُلّ عَلَيْهِ قِرَاءَة عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ | مَغْرُوسَات وَغَيْر مَغْرُوسَات | بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَة وَالسِّين الْمُهْمَلَة .|وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ|أَفْرَدَهُمَا بِالذِّكْرِ وَهُمَا دَاخِلَانِ فِي الْجَنَّات لِمَا فِيهِمَا مِنْ الْفَضِيلَة ; عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانه فِي | الْبَقَرَة | عِنْد قَوْله : | مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَته | [ الْبَقَرَة : 98 ] الْآيَة .</p><p>| مُخْتَلِفًا أُكُله | يَعْنِي طَعْمه مِنْهُ الْجَيِّد وَالدُّون . وَسَمَّاهُ أُكُلًا لِأَنَّهُ يُؤْكَل . و | أُكُله | مَرْفُوع بِالِابْتِدَاءِ . و | مُخْتَلِفًا | نَعْته ; وَلَكِنَّهُ لَمَّا تَقَدَّمَ عَلَيْهِ وَوَلِيَ مَنْصُوبًا نُصِبَ . كَمَا تَقُول : عِنْدِي طَبَّاخًا غُلَام . قَالَ : <br>الشَّرّ مُنْتَشِر يَلْقَاك عَنْ عُرُض .......... وَالصَّالِحَات عَلَيْهَا مُغْلَقًا بَاب <br>وَقِيلَ : | مُخْتَلِفًا | نُصِبَ عَلَى الْحَال . قَالَ أَبُو إِسْحَاق الزَّجَّاج : وَهَذِهِ مَسْأَلَة مُشْكِلَة مِنْ النَّحْو ; لِأَنَّهُ يُقَال : قَدْ أَنْشَأَهَا وَلَمْ يَخْتَلِف أُكُلهَا وَهُوَ ثَمَرهَا ; فَالْجَوَاب أَنَّ اللَّه سُبْحَانه أَنْشَأَهَا بِقَوْلِهِ : | خَالِق كُلّ شَيْء | [ الْأَنْعَام : 102 ] فَأَعْلَمَ أَنَّهُ أَنْشَأَهَا مُخْتَلِفًا أُكُلهَا ; أَيْ أَنَّهُ أَنْشَأَهَا مُقَدِّرًا فِيهِ الِاخْتِلَاف ; وَقَدْ بَيَّنَ هَذَا سِيبَوَيْهِ بِقَوْلِهِ : مَرَرْت بِرَجُلٍ مَعَهُ صَقْر صَائِدًا بِهِ غَدًا , عَلَى الْحَال ; كَمَا تَقُول ; لَتَدْخُلُنَّ الدَّار آكِلِينَ شَارِبِينَ ; أَيْ مُقَدِّرِينَ ذَلِكَ . جَوَاب ثَالِث : أَيْ لَمَّا أَنْشَأَهُ كَانَ مُخْتَلِفًا أُكُله , عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ لَكَانَ مُخْتَلِفًا أُكُله . وَلَمْ يَقُلْ أُكُلهمَا ; لِأَنَّهُ اِكْتَفَى بِإِعَادَةِ الذِّكْر عَلَى أَحَدهمَا ; كَقَوْلِهِ : | وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَة أَوْ لَهْوًا اِنْفَضُّوا إِلَيْهَا | [ الْجُمُعَة : 11 ] أَيْ إِلَيْهِمَا . وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى .|وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ|عَطْف عَلَيْهِ .|مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ|نُصِبَ عَلَى الْحَال , وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْل فِيهِ . وَفِي هَذِهِ أَدِلَّة ثَلَاثَة ; أَحَدهَا مَا تَقَدَّمَ مِنْ قِيَام الدَّلِيل عَلَى أَنَّ الْمُتَغَيِّرَات لَا بُدّ لَهَا مِنْ مُغَيِّر . الثَّانِي عَلَى الْمِنَّة مِنْهُ سُبْحَانه عَلَيْنَا ; فَلَوْ شَاءَ إِذْ خَلَقَنَا أَلَّا يَخْلُق لَنَا غِذَاء , إِذْ خَلَقَهُ أَلَّا يَكُون جَمِيل الْمَنْظَر طَيِّب الطَّعْم , وَإِذْ خَلَقَهُ كَذَلِكَ أَلَّا يَكُون سَهْل الْجَنْي ; فَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَل ذَلِكَ اِبْتِدَاء ; لِأَنَّهُ لَا يَجِب عَلَيْهِ شَيْء . الثَّالِث عَلَى الْقُدْرَة فِي أَنْ يَكُون الْمَاء الَّذِي مِنْ شَأْنه الرُّسُوب يَصْعَد بِقُدْرَةِ اللَّه الْوَاحِد عَلَّام الْغُيُوب مِنْ أَسَافِل الشَّجَرَة إِلَى أَعَالِيهَا , حَتَّى إِذَا اِنْتَهَى إِلَى آخِرهَا نَشَأَ فِيهَا أَوْرَاق لَيْسَتْ مِنْ جِنْسهَا , وَثَمَر خَارِج مِنْ صِفَته الْجُرْم الْوَافِر , وَاللَّوْن الزَّاهِر , وَالْجَنْي الْجَدِيد , وَالطَّعْم اللَّذِيذ ; فَأَيْنَ الطَّبَائِع وَأَجْنَاسهَا , وَأَيْنَ الْفَلَاسِفَة وَأُنَاسهَا , هَلْ فِي قُدْرَة الطَّبِيعَة أَنْ تُتْقِن هَذَا الْإِتْقَان , أَوْ تُرَتِّب هَذَا التَّرْتِيب الْعَجِيب ! كَلَّا ! لَا يَتِمّ ذَلِكَ فِي الْعُقُول إِلَّا لِحَيٍّ عَالِم قَدِير مُرِيد . فَسُبْحَان مَنْ لَهُ فِي كُلّ شَيْء آيَة وَنِهَايَة ! وَوَجْه اِتِّصَال هَذَا بِمَا قَبْله أَنَّ الْكُفَّار لَمَّا اِفْتَرَوْا عَلَى اللَّه الْكَذِب وَأَشْرَكُوا مَعَهُ وَحَلَّلُوا وَحَرَّمُوا دَلَّهُمْ عَلَى وَحْدَانِيّته بِأَنَّهُ خَالِق الْأَشْيَاء , وَأَنَّهُ جَعَلَ هَذِهِ الْأَشْيَاء أَرْزَاقًا لَهُمْ .|كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ|فَهَذَانِ بِنَاءَانِ جَاءَا بِصِيغَةِ اِفْعَلْ , أَحَدهمَا مُبَاح كَقَوْلِهِ : | فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْض | [ الْجُمُعَة : 10 ] وَالثَّانِي وَاجِب . وَلَيْسَ يَمْتَنِع فِي الشَّرِيعَة اِقْتِرَان الْمُبَاح وَالْوَاجِب , وَبَدَأَ بِذِكْرِ نِعْمَة الْأَكْل قَبْل الْأَمْر بِإِيتَاءِ الْحَقّ لِيُبَيِّن أَنَّ الِابْتِدَاء بِالنِّعْمَةِ كَانَ مِنْ فَضْله قَبْل التَّكْلِيف .|وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ|اِخْتَلَفَ النَّاس فِي تَفْسِير هَذَا الْحَقّ مَا هُوَ ; فَقَالَ أَنَس بْن مَالِك وَابْن عَبَّاس وَطَاوُس وَالْحَسَن وَابْن زَيْد وَابْن الْحَنَفِيَّة وَالضَّحَّاك وَسَعِيد بْن الْمُسَيِّب : هِيَ الزَّكَاة الْمَفْرُوضَة , الْعُشْر وَنِصْف الْعُشْر . وَرَوَاهُ اِبْن وَهْب وَابْن الْقَاسِم عَنْ مَالِك فِي تَفْسِير الْآيَة , وَبِهِ قَالَ بَعْض أَصْحَاب الشَّافِعِيّ . وَحَكَى الزَّجَّاج أَنَّ هَذِهِ الْآيَة قِيلَ فِيهَا إِنَّهَا نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ . وَقَالَ عَلِيّ بْن الْحُسَيْن وَعَطَاء وَالْحَكَم وَحَمَّاد وَسَعِيد بْن جُبَيْر وَمُجَاهِد : هُوَ حَقّ فِي الْمَال سِوَى الزَّكَاة , أَمَرَ اللَّه بِهِ نَدْبًا . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عُمَر وَمُحَمَّد اِبْن الْحَنَفِيَّة أَيْضًا , وَرَوَاهُ أَبُو سَعِيد الْخُدْرِيّ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قَالَ مُجَاهِد : إِذَا حَصَدْت فَحَضَرَك الْمَسَاكِين فَاطْرَحْ لَهُمْ مِنْ السُّنْبُل , وَإِذَا جَذَذْت فَأَلْقِ لَهُمْ مِنْ الشَّمَارِيخ , وَإِذَا دَرَسْته وَدُسْته وَذَرَيْته فَاطْرَحْ لَهُمْ مِنْهُ , وَإِذَا عَرَفْت كَيْله فَأَخْرِجْ مِنْهُ زَكَاته . وَقَوْل ثَالِث هُوَ مَنْسُوخ بِالزَّكَاةِ ; لِأَنَّ هَذِهِ السُّورَة مَكِّيَّة وَآيَة الزَّكَاة لَمْ تَنْزِل إِلَّا بِالْمَدِينَةِ : | خُذْ مِنْ أَمْوَالهمْ صَدَقَة | [ التَّوْبَة : 103 ] , | وَأَقِيمُوا الصَّلَاة وَآتُوا الزَّكَاة | [ الْبَقَرَة : 43 ] . رُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس وَابْن الْحَنَفِيَّة وَالْحَسَن وَعَطِيَّة الْعَوْفِيّ وَالنَّخَعِيّ وَسَعِيد بْن جُبَيْر . وَقَالَ سُفْيَان : سَأَلْت السُّدِّيّ عَنْ هَذِهِ الْآيَة فَقَالَ . نَسَخَهَا الْعُشْر وَنِصْف الْعُشْر . فَقُلْت عَمَّنْ ؟ فَقَالَ عَنْ الْعُلَمَاء .</p><p>وَقَدْ تَعَلَّقَ أَبُو حَنِيفَة بِهَذِهِ الْآيَة وَبِعُمُومِ مَا فِي قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( فِيمَا سَقَتْ السَّمَاء الْعُشْر وَفِيمَا سُقِيَ بِنَضْحٍ أَوْ دَالِيَة نِصْف الْعُشْر | فِي إِيجَاب الزَّكَاة فِي كُلّ مَا تُنْبِت الْأَرْض طَعَامًا كَانَ أَوْ غَيْره . وَقَالَ أَبُو يُوسُف عَنْهُ : إِلَّا الْحَطَب وَالْحَشِيش وَالْقَضْب وَالتِّين وَالسَّعَف وَقَصَب الذَّرِيرَة وَقَصَب السُّكَّر . وَأَبَاهُ الْجُمْهُور , مُعَوِّلِينَ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُود مِنْ الْحَدِيث بَيَان مَا يُؤْخَذ مِنْهُ الْعُشْر وَمَا يُؤْخَذ مِنْهُ نِصْف الْعُشْر . قَالَ أَبُو عُمَر : لَا اِخْتِلَاف بَيْن الْعُلَمَاء فِيمَا عَلِمْت أَنَّ الزَّكَاة وَاجِبَة فِي الْحِنْطَة وَالشَّعِير وَالتَّمْر وَالزَّبِيب . وَقَالَتْ طَائِفَة : لَا زَكَاة فِي غَيْرهَا . رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَن وَابْن سِيرِينَ وَالشَّعْبِيّ . وَقَالَ بِهِ مِنْ الْكُوفِيِّينَ اِبْن أَبِي لَيْلَى وَالثَّوْرِيّ وَالْحَسَن بْن صَالِح وَابْن الْمُبَارَك و يَحْيَى بْن آدَم , وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو عُبَيْد . وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَهُوَ مَذْهَب أَبِي مُوسَى , فَإِنَّهُ كَانَ لَا يَأْخُذ الزَّكَاة إِلَّا مِنْ الْحِنْطَة وَالشَّعِير وَالتَّمْر وَالزَّبِيب ; ذَكَرَهُ وَكِيع عَنْ طَلْحَة بْن يَحْيَى عَنْ أَبِي بُرْدَة عَنْ أَبِيهِ . وَقَالَ مَالِك وَأَصْحَابه : الزَّكَاة وَاجِبَة فِي كُلّ مُقْتَات مُدَّخَر ; وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيّ . وَقَالَ الشَّافِعِيّ : إِنَّمَا تَجِب الزَّكَاة فِيمَا يَيْبَس وَيُدَّخَر وَيُقْتَات مَأْكُولًا . وَلَا شَيْء فِي الزَّيْتُون لِأَنَّهُ إِدَام . وَقَالَ أَبُو ثَوْر مِثْله . وَقَالَ أَحْمَد أَقْوَالًا أَظْهَرهَا أَنَّ الزَّكَاة إِنَّمَا تَجِب فِي كُلّ مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَة إِذَا كَانَ يُوَسَّق ; فَأَوْجَبَهَا فِي اللَّوْز لِأَنَّهُ مَكِيل دُون الْجَوْز لِأَنَّهُ مَعْدُود . وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( لَيْسَ فِيمَا دُون خَمْسَة أَوْسُق مِنْ تَمْر أَوْ حَبّ صَدَقَة ) قَالَ : فَبَيَّنَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ مَحِلّ الْوَاجِب هُوَ الْوَسْق , وَبَيَّنَ الْمِقْدَار الَّذِي يَجِب إِخْرَاج الْحَقّ مِنْهُ . وَذَهَبَ النَّخَعِيّ إِلَى أَنَّ الزَّكَاة وَاجِبَة فِي كُلّ مَا أَخْرَجَتْهُ الْأَرْض , حَتَّى فِي عَشْر دَسَاتِج مِنْ بَقْل دستجة بَقْل . وَقَدْ اُخْتُلِفَ عَنْهُ فِي ذَلِكَ , وَهُوَ قَوْل عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز فَإِنَّهُ كَتَبَ أَنْ يُؤْخَذ مِمَّا تُنْبِت الْأَرْض مِنْ قَلِيل أَوْ كَثِير الْعُشْر ; ذَكَرَهُ عَبْد الرَّزَّاق عَنْ مَعْمَر عَنْ سِمَاك بْن الْفَضْل , قَالَ : كَتَبَ عُمَر . . . ; فَذَكَرَهُ . وَهُوَ قَوْل حَمَّاد بْن أَبِي سُلَيْمَان وَتِلْمِيذه أَبِي حَنِيفَة . وَإِلَى هَذَا مَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ فِي أَحْكَامه فَقَالَ : وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَة فَجَعَلَ الْآيَة مِرْآته فَأَبْصَرَ الْحَقّ , وَأَخَذَ يَعْضُد مَذْهَب الْحَنَفِيّ وَيُقَوِّيه . وَقَالَ فِي كِتَاب ( الْقَبَس بِمَا عَلَيْهِ الْإِمَام مَالِك بْن أَنَس ) فَقَالَ : قَالَ اللَّه تَعَالَى : | وَالزَّيْتُون وَالرُّمَّان مُتَشَابِهًا وَغَيْر مُتَشَابِه | [ الْأَنْعَام : 141 ] . وَاخْتَلَفَ النَّاس فِي وُجُوب الزَّكَاة فِي جَمِيع مَا تَضَمَّنَتْهُ أَوْ بَعْضه , وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي ( الْأَحْكَام ) لِبَابِهِ , أَنَّ الزَّكَاة إِنَّمَا تَتَعَلَّق بِالْمُقْتَاتِ كَمَا بَيَّنَّا دُون الْخَضْرَاوَات ; وَقَدْ كَانَ بِالطَّائِفِ الرُّمَّان وَالْفِرْسِك وَالْأُتْرُجّ فَمَا اِعْتَرَضَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا ذَكَرَهُ وَلَا أَحَد مِنْ خُلَفَائِهِ . قُلْت : هَذَا وَإِنْ لَمْ يَذْكُرهُ فِي الْأَحْكَام هُوَ الصَّحِيح فِي الْمَسْأَلَة , وَأَنَّ الْخَضْرَاوَات لَيْسَ فِيهَا شَيْء . وَأَمَّا الْآيَة فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهَا , هَلْ هِيَ مُحْكَمَة أَوْ مَنْسُوخَة أَوْ مَحْمُولَة عَلَى النَّدْب . وَلَا قَاطِع يُبَيِّن أَحَد مَحَامِلهَا , بَلْ الْقَاطِع الْمَعْلُوم مَا ذَكَرَهُ اِبْن بُكَيْر فِي أَحْكَامه : أَنَّ الْكُوفَة اُفْتُتِحَتْ بَعْد مَوْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَعْد اِسْتِقْرَار الْأَحْكَام فِي الْمَدِينَة , أَفَيَجُوز أَنْ يَتَوَهَّم مُتَوَهِّم أَوْ مَنْ لَهُ أَدْنَى بَصِيرَة أَنْ تَكُون شَرِيعَة مِثْل هَذِهِ عُطِّلَتْ فَلَمْ يُعْمَل بِهَا فِي دَار الْهِجْرَة وَمُسْتَقَرّ الْوَحْي وَلَا فِي خِلَافَة أَبِي بَكْر , حَتَّى عَمِلَ بِذَلِكَ الْكُوفِيُّونَ ؟ . إِنَّ هَذِهِ لَمُصِيبَة فِيمَنْ ظَنَّ هَذَا وَقَالَ بِهِ ! قُلْت : وَمِمَّا يَدُلّ عَلَى هَذَا مِنْ مَعْنَى التَّنْزِيل قَوْله تَعَالَى : | يَا أَيّهَا الرَّسُول بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْك مِنْ رَبّك وَإِنْ لَمْ تَفْعَل فَمَا بَلَّغْت رِسَالَته | [ الْمَائِدَة : 67 ] أَتَرَاهُ يَكْتُم شَيْئًا أُمِرَ بِتَبْلِيغِهِ أَوْ بِبَيَانِهِ ؟ حَاشَاهُ عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ تَعَالَى : | الْيَوْم أَكْمَلْت لَكُمْ دِينكُمْ وَأَتْمَمْت عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي | [ الْمَائِدَة : 3 ] وَمِنْ كَمَالِ الدِّين كَوْنه لَمْ يَأْخُذ مِنْ الْخَضْرَاوَات شَيْئًا . وَقَالَ جَابِر بْن عَبْد اللَّه فِيمَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ : إِنَّ الْمَقَاثِئ كَانَتْ تَكُون عِنْدنَا تُخْرِج عَشَرَة آلَاف فَلَا يَكُون فِيهَا شَيْء . وَقَالَ الزُّهْرِيّ وَالْحَسَن : تُزَكَّى أَثْمَان الْخُضَر إِذَا بِيعَتْ وَبَلَغَ الثَّمَن مِائَتَيْ دِرْهَم ; وَقَالَهُ الْأَوْزَاعِيّ فِي ثَمَن الْفَوَاكِه . وَلَا حُجَّة فِي قَوْلهمَا لِمَا ذَكَرْنَا . وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيّ عَنْ مُعَاذ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلهُ عَنْ الْخَضْرَاوَات وَهِيَ الْبُقُول فَقَالَ : ( لَيْسَ فِيهَا شَيْء ) . وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى عَنْ جَابِر وَأَنْسَ وَعَلِيّ وَمُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه بْن جَحْش وَأَبِي مُوسَى وَعَائِشَة . ذَكَرَ أَحَادِيثهمْ الدَّارَقُطْنِيّ رَحِمَهُ اللَّه . قَالَ التِّرْمِذِيّ : لَيْسَ يَصِحّ فِي هَذَا الْبَاب عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْء . وَاحْتَجَّ بَعْض أَصْحَاب أَبِي حَنِيفَة بِحَدِيثِ صَالِح بْن مُوسَى عَنْ مَنْصُور عَنْ إِبْرَاهِيم عَنْ الْأَسْوَد عَنْ عَائِشَة قَالَتْ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( فِيمَا أَنْبَتَتْ الْأَرْض مِنْ الْخُضَر زَكَاة ) . قَالَ أَبُو عُمَر : وَهَذَا حَدِيث لَمْ يَرْوِهِ مِنْ ثِقَات أَصْحَاب مَنْصُور أَحَد هَكَذَا , وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ قَوْل إِبْرَاهِيم . قُلْت : وَإِذَا سَقَطَ الِاسْتِدْلَال مِنْ جِهَة السُّنَّة لِضَعْفِ أَسَانِيدهَا فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَخْصِيص عُمُوم الْآيَة , وَعُمُوم قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( فِيمَا سَقَتْ السَّمَاء الْعُشْر ) بِمَا ذَكَرْنَا . وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمَّد : لَيْسَ فِي شَيْء مِنْ الْخُضَر زَكَاة إِلَّا مَا كَانَتْ لَهُ ثَمَرَة بَاقِيَة , سِوَى الزَّعْفَرَان وَنَحْوه مِمَّا يُوزَن فَفِيهِ الزَّكَاة . وَكَانَ مُحَمَّد يَعْتَبِر فِي الْعُصْفُر وَالْكَتَّان الْبَزْر , فَإِذَا بَلَغَ بَزْرهمَا مِنْ الْقُرْطُم وَالْكَتَّان خَمْسَة أَوْسُق كَانَ الْعُصْفُر وَالْكَتَّان تَبَعًا لِلْبَزْرِ , وَأَخَذَ مِنْهُ الْعُشْر أَوْ نِصْف الْعُشْر . وَأَمَّا الْقُطْن فَلَيْسَ فِيهِ عِنْده دُون خَمْسَة أَحْمَال شَيْء ; وَالْحَمْل ثَلَاثمِائَةِ مَنّ بِالْعِرَاقِيِّ . وَالْوَرْس وَالزَّعْفَرَان لَيْسَ فِيمَا دُون خَمْسَة أَمْنَان مِنْهَا شَيْء . فَإِذَا بَلَغَ أَحَدهمَا خَمْسَة أَمْنَان كَانَتْ فِيهِ الصَّدَقَة , عُشْرًا أَوْ نِصْف الْعُشْر . وَقَالَ أَبُو يُوسُف : وَكَذَلِكَ قَصَب السُّكَّر الَّذِي يَكُون مِنْهُ السُّكَّر , وَيَكُون فِي أَرْض الْعُشْر دُون أَرْض الْخَرَاج , فِيهِ مَا فِي الزَّعْفَرَان . وَأَوْجَبَ عَبْد الْمَلِك بْن الْمَاجِشُون الزَّكَاة فِي أُصُول الثِّمَار دُون الْبُقُول . وَهَذَا خِلَاف مَا عَلَيْهِ مَالِك وَأَصْحَابه , لَا زَكَاة عِنْدهمْ لَا فِي اللَّوْز وَلَا فِي الْجَوْز وَلَا فِي الْجِلَّوْز وَمَا كَانَ مِثْلهَا , وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يُدَّخَر . كَمَا أَنَّهُ لَا زَكَاة عِنْدهمْ فِي الْإِجَّاص وَلَا فِي التُّفَّاح وَلَا فِي الْكُمَّثْرَى , وَلَا مَا كَانَ مِثْل ذَلِكَ كُلّه مِمَّا لَا يُيْبَس وَلَا يُدَّخَر . وَاخْتَلَفُوا فِي التِّين ; وَالْأَشْهَر عِنْد أَهْل الْمَغْرِب مِمَّنْ يَذْهَب مَذْهَب مَالِك أَنَّهُ لَا زَكَاة عِنْدهمْ فِي التِّين . إِلَّا عَبْد الْمَلِك بْن حَبِيب فَإِنَّهُ كَانَ يَرَى فِيهِ الزَّكَاة عَلَى مَذْهَب مَالِك , قِيَاسًا عَلَى التَّمْر وَالزَّبِيب . وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ جَمَاعَة مِنْ أَهْل الْعِلْم الْبَغْدَادِيِّينَ الْمَالِكِيِّينَ , إِسْمَاعِيل بْن إِسْحَاق وَمَنْ اِتَّبَعَهُ . قَالَ مَالِك فِي الْمُوَطَّإِ : السُّنَّة الَّتِي لَا اِخْتِلَاف فِيهَا عِنْدنَا , وَاَلَّذِي سَمِعْته مِنْ أَهْل الْعِلْم , أَنَّهُ لَيْسَ فِي شَيْء مِنْ الْفَوَاكِه كُلّهَا صَدَقَة : الرُّمَّان وَالْفِرْسِك وَالتِّين وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ . وَمَا لَمْ يُشْبِههُ إِذَا كَانَ مِنْ الْفَوَاكِه . قَالَ أَبُو عُمَر : فَأَدْخَلَ التِّين فِي هَذَا الْبَاب , وَأَظُنّهُ ( وَاَللَّه أَعْلَم ) لَمْ يَعْلَم بِأَنَّهُ يُيْبَس وَيُدَّخَر وَيُقْتَات , وَلَوْ عُلِمَ ذَلِكَ مَا أَدْخَلَهُ فِي هَذَا الْبَاب ; لِأَنَّهُ أَشْبَهَ بِالتَّمْرِ وَالزَّبِيب مِنْهُ بِالرُّمَّانِ . وَقَدْ بَلَغَنِي عَنْ الْأَبْهَرِيّ وَجَمَاعَة مِنْ أَصْحَابه أَنَّهُمْ كَانُوا يُفْتُونَ بِالزَّكَاةِ فِيهِ , وَيَرَوْنَهُ مَذْهَب مَالِك عَلَى أُصُوله عِنْدهمْ . وَالتِّين مَكِيل يُرَاعَى فِيهِ الْخَمْسَة الْأَوْسُق وَمَا كَانَ مِثْلهَا وَزْنًا , وَيُحْكَم فِي التِّين عِنْدهمْ بِحُكْمِ التَّمْر وَالزَّبِيب الْمُجْتَمَع عَلَيْهِمَا . وَقَالَ الشَّافِعِيّ : لَا زَكَاة فِي شَيْء مِنْ الثِّمَار غَيْر التَّمْر وَالْعِنَب ; لِأَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ الصَّدَقَة مِنْهُمَا وَكَانَا قُوتًا بِالْحِجَازِ يُدَّخَر . قَالَ : وَقَدْ يُدَّخَر الْجَوْز وَاللَّوْز وَلَا زَكَاة فِيهِمَا ; لِأَنَّهُمَا لَمْ يَكُونَا بِالْحِجَازِ قُوتًا فِيمَا عَلِمْت , وَإِنَّمَا كَانَا فَاكِهَة . وَلَا زَكَاة فِي الزَّيْتُون , لِقَوْلِهِ تَعَالَى : | وَالزَّيْتُون وَالرُّمَّان | [ الْأَنْعَام : 141 ] . فَقَرَنَهُ مَعَ الرُّمَّان , وَلَا زَكَاة فِيهِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ التِّين أَنْفَع مِنْهُ فِي الْقُوت وَلَا زَكَاة فِيهِ . وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْل بِزَكَاةِ الزَّيْتُون قَالَهُ بِالْعِرَاقِ , وَالْأَوَّل قَالَهُ بِمِصْر ; فَاضْطَرَبَ قَوْل الشَّافِعِيّ فِي الزَّيْتُون , وَلَمْ يَخْتَلِف فِيهِ قَوْل مَالِك . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْآيَة مُحْكَمَة عِنْدهمَا غَيْر مَنْسُوخَة . وَاتَّفَقَا جَمِيعًا عَلَى أَنْ لَا زَكَاة فِي الرُّمَّان , وَكَانَ يَلْزَمهُمَا إِيجَاب الزَّكَاة فِيهِ . قَالَ أَبُو عُمَر : فَإِنْ كَانَ الرُّمَّان خَرَجَ بِاتِّفَاقٍ فَقَدْ بَانَ بِذَلِكَ الْمُرَاد بِأَنَّ الْآيَة لَيْسَتْ عَلَى عُمُومهَا , وَكَانَ الضَّمِير عَائِدًا عَلَى بَعْض الْمَذْكُور دُون بَعْض . وَاَللَّه أَعْلَم . قُلْت : بِهَذَا اِسْتَدَلَّ مَنْ أَوْجَبَ الْعُشْر فِي الْخَضْرَاوَات فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ : | وَآتُوا حَقّه يَوْم حَصَاده | وَالْمَذْكُور قَبْله الزَّيْتُون وَالرُّمَّان , وَالْمَذْكُور عَقِيب جُمْلَة يَنْصَرِف إِلَى الْأَخِير بِلَا خِلَاف ; قَالَهُ إِلْكِيَا الطَّبَرِيّ . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ قَالَ : مَا لُقِّحَتْ رُمَّانَة قَطُّ إِلَّا بِقَطْرَةٍ مِنْ مَاء الْجَنَّة . وَرُوِيَ عَنْ عَلِيّ كَرَّمَ اللَّه وَجْهه أَنَّهُ قَالَ : إِذَا أَكَلْتُمْ الرُّمَّانَة فَكُلُوهَا بِشَحْمِهَا فَإِنَّهُ دِبَاغ الْمَعِدَة . وَذَكَرَ اِبْن عَسَاكِر فِي تَارِيخ دِمَشْق عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : لَا تَكْسِرُوا الرُّمَّانَة مِنْ رَأْسهَا فَإِنَّ فِيهَا دُودَة يَعْتَرِي مِنْهَا الْجُذَام . وَسَيَأْتِي مَنَافِع زَيْت الزَّيْتُون فِي سُورَة | الْمُؤْمِنُونَ | إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَمِمَّنْ قَالَ بِوُجُوبِ زَكَاة الزَّيْتُون الزُّهْرِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْث وَالثَّوْرِيّ وَأَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه وَأَبُو ثَوْر . قَالَ الزُّهْرِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْث : يُخْرَص زَيْتُونًا وَيُؤْخَذ زَيْتًا صَافِيًا . وَقَالَ مَالِك : لَا يُخْرَص , وَلَكِنْ يُؤْخَذ الْعُشْر بَعْد أَنْ يُعْصَر وَيَبْلُغ كَيْله خَمْسَة أَوْسُق . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَالثَّوْرِيّ : يُؤْخَذ مِنْ حَبّه .</p><p>قَوْله تَعَالَى : | يَوْم حَصَاده | قَرَأَ أَبُو عَمْرو وَابْن عَامِر وَعَاصِم | حَصَاده | بِفَتْحِ الْحَاء , وَالْبَاقُونَ بِكَسْرِهَا , وَهُمَا لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ ; وَمِثْله الصِّرَام وَالصَّرَام وَالْجَذَاذ وَالْجِذَاذ وَالْقَطَاف وَالْقِطَاف وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي وَقْت الْوُجُوب عَلَى ثَلَاثَة أَقْوَال : الْأُولَى : أَنَّهُ وَقْت الْجَذَاذ ; قَالَهُ مُحَمَّد بْن مَسْلَمَة ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى : | يَوْم حَصَاده | . الثَّانِي : يَوْم الطِّيب ; لِأَنَّ مَا قَبْل الطِّيب يَكُون عَلَفًا لَا قُوتًا وَلَا طَعَامًا ; فَإِذَا طَابَ وَحَانَ الْأَكْل الَّذِي أَنْعَمَ اللَّه بِهِ وَجَبَ الْحَقّ الَّذِي أَمَرَ اللَّه بِهِ , إِذْ بِتَمَامِ النِّعْمَة يَجِب شُكْر النِّعْمَة , وَيَكُون الْإِيتَاء الْحَصَاد لِمَا قَدْ وَجَبَ يَوْم الطِّيب . الثَّالِث : أَنَّهُ يَكُون بَعْد تَمَام الْخَرْص ; لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَتَحَقَّق الْوَاجِب فِيهِ مِنْ الزَّكَاة فَيَكُون شَرْطًا لِوُجُوبِهَا . أَصْله مَجِيء السَّاعِي فِي الْغُنْم ; وَبِهِ قَالَ الْمُغِيرَة . وَالصَّحِيح الْأَوَّل لِنَصِّ التَّنْزِيل . وَالْمَشْهُور مِنْ الْمَذْهَب الثَّانِي , وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيّ . وَفَائِدَة الْخِلَاف إِذَا مَاتَ بَعْد الطِّيب زَكَّيْت عَلَى مِلْكه , أَوْ قَبْل الْخَرْص عَلَى وَرَثَته . وَقَالَ مُحَمَّد بْن مَسْلَمَة : إِنَّمَا قَدَّمَ الْخَرْص تَوْسِعَة عَلَى أَرْبَاب الثِّمَار , وَلَوْ قَدَّمَ رَجُل زَكَاته بَعْد الْخَرْص وَقَبْل الْجَذَاذ لَمْ يُجْزِهِ ; لِأَنَّهُ أَخْرَجَهَا قَبْل وُجُوبهَا . وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْقَوْل بِالْخَرْصِ وَهِيَ : -</p><p>فَكَرِهَهُ الثَّوْرِيّ وَلَمْ يُجْزِهِ بِحَالٍ , وَقَالَ : الْخَرْص غَيْر مُسْتَعْمَل . قَالَ : وَإِنَّمَا عَلَى رَبّ الْحَائِط أَنْ يُؤَدِّي عُشْر مَا يَصِير فِي يَده لِلْمَسَاكِينِ إِذَا بَلَغَ خَمْسَة أَوْسُق . وَرَوَى الشَّيْبَانِيّ عَنْ الشَّعْبِيّ أَنَّهُ قَالَ : الْخَرْص الْيَوْم بِدْعَة . وَالْجُمْهُور عَلَى خِلَاف هَذَا , ثُمَّ اِخْتَلَفُوا فَالْمُعْظَم عَلَى جَوَازه فِي النَّخْل وَالْعِنَب ; لِحَدِيثِ عَتَّاب بْن أَسِيد أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُ وَأَمَرَهُ أَنْ يَخْرُص الْعِنَب كَمَا يَخْرُص النَّخْل وَتُؤْخَذ زَكَاته زَبِيبًا كَمَا تُؤْخَذ زَكَاة النَّخْل تَمْرًا . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد . وَقَالَ دَاوُد بْن عَلِيّ : الْخَرْص لِلزَّكَاةِ جَائِز فِي النَّخْل , وَغَيْر جَائِز فِي الْعِنَب ; وَدَفَعَ حَدِيث عَتَّاب بْن أَسِيد لِأَنَّهُ مُنْقَطِع وَلَا يَتَّصِل مِنْ طَرِيق صَحِيح , قَالَهُ أَبُو مُحَمَّد عَبْد الْحَقّ .</p><p>وَصِفَة الْخَرْص أَنْ يُقَدِّر مَا عَلَى نَخْله رُطَبًا وَيُقَدِّر مَا يَنْقُص لَوْ يُتَمَّر , ثُمَّ يَعْتَدّ بِمَا بَقِيَ بَعْد النَّقْص وَيُضَيَّف بَعْض ذَلِكَ إِلَى بَعْض حَتَّى يَكْمُل الْحَائِط , وَكَذَلِكَ فِي الْعِنَب فِي كُلّ دَالِيَة .</p><p>وَيَكْفِي فِي الْخَرْص الْوَاحِد كَالْحَاكِمِ . فَإِذَا كَانَ فِي التَّمْر زِيَادَة عَلَى مَا خَرِصَ لَمْ يَلْزَم رَبّ الْحَائِط الْإِخْرَاج عَنْهُ , لِأَنَّهُ حُكْم قَدْ نَفَذَ ; قَالَهُ عَبْد الْوَهَّاب . وَكَذَلِكَ إِذَا نَقَصَ لَمْ تَنْقُص الزَّكَاة . قَالَ الْحَسَن : كَانَ الْمُسْلِمُونَ يُخْرَص عَلَيْهِمْ ثُمَّ يُؤْخَذ مِنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْخَرْص .</p><p>فَإِنْ اِسْتَكْثَرَ رَبّ الْحَائِط الْخَرْص خَيَّرَهُ الْخَارِص فِي أَنْ يُعْطِيه مَا خَرَصَ وَأَخْذ خَرْصه ; ذَكَرَهُ عَبْد الرَّزَّاق أَخْبَرَنَا اِبْن جُرَيْج عَنْ أَبِي الزُّبَيْر أَنَّهُ سَمِعَ جَابِر بْن عَبْد اللَّه يَقُول : خَرَصَ اِبْن رَوَاحَة أَرْبَعِينَ أَلْف وَسْق , وَزَعَمَ أَنَّ الْيَهُود لَمَّا خَيَّرَهُمْ أَخَذُوا التَّمْر وَأَعْطَوْهُ عِشْرِينَ أَلْف وَسْق . قَالَ اِبْن جُرَيْج فَقُلْت لِعَطَاءٍ : فَحَقّ عَلَى الْخَارِص إِذَا اِسْتَكْثَرَ سَيِّد الْمَال الْخَرْص أَنْ يُخَيِّرهُ كَمَا خَيَّرَ اِبْن رَوَاحَة الْيَهُود ؟ قَالَ : أَيْ لَعَمْرِي ! وَأَيّ سُنَّة خَيْر مِنْ سُنَّة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .</p><p>وَلَا يَكُون الْخَرْص إِلَّا بَعْد الطِّيب ; لِحَدِيثِ عَائِشَة قَالَتْ : كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَبْعَث اِبْن رَوَاحَة إِلَى الْيَهُود فَيَحْرِص عَلَيْهِمْ النَّخْل حِين تَطِيب أَوَّل التَّمْرَة قَبْل أَنْ يُؤْكَل مِنْهَا , ثُمَّ يُخَيَّر يَهُودًا يَأْخُذُونَهَا بِذَلِكَ الْخَرْص أَوْ يَدْفَعُونَهَا إِلَيْهِ . وَإِنَّمَا كَانَ أَمْر رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْخَرْصِ لِكَيْ تُحْصَى الزَّكَاة قَبْل أَنْ تُؤْكَل الثِّمَار وَتُفَرَّق . أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ مِنْ حَدِيث اِبْن جُرَيْج عَنْ الزُّهْرِيّ عَنْ عُرْوَة عَنْ عَائِشَة . قَالَ : وَرَوَاهُ صَالِح بْن أَبِي الْأَخْضَر عَنْ الزُّهْرِيّ عَنْ اِبْن الْمُسَيِّب عَنْ أَبِي هُرَيْرَة , وَأَرْسَلَهُ مَالِك وَمَعْمَر وَعُقَيْل عَنْ الزُّهْرِيّ عَنْ سَعِيد عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .</p><p>فَإِذَا خَرَصَ الْخَارِص فَحُكْمه أَنْ يُسْقِط مِنْ خَرْصه مِقْدَارًا مَا ; لِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالْبُسْتِيّ فِي صَحِيحه عَنْ سَهْل بْن أَبِي حَثْمَة أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُول : ( إِذَا خَرَصْتُمْ فَخُذُوا وَدَعُوا الثُّلُث فَإِنْ لَمْ تَدَعُوا الثُّلُث فَدَعُوا الرُّبُع ) . لَفْظ التِّرْمِذِيّ . قَالَ أَبُو دَاوُد : الْخَارِص يَدَع الثُّلُث لِلْخُرْفَةِ : وَكَذَا قَالَ يَحْيَى الْقَطَّان . وَقَالَ أَبُو حَاتِم الْبُسْتِيّ : لِهَذَا الْخَبَر صِفَتَانِ : أَحَدهمَا أَنْ يَتْرُك الثُّلُث أَوْ الرُّبُع مِنْ الْعُشْر , وَالثَّانِي أَنْ يَتْرُك ذَلِكَ مِنْ نَفْس التَّمْر قَبْل أَنْ يُعْشَر , إِذَا كَانَ ذَلِكَ حَائِطًا كَبِيرًا يَحْتَمِلهُ . الْخُرْفَة بِضَمِّ الْخَاء : مَا يُخْتَرَف مِنْ النَّخْل حِين يُدْرَك ثَمَره , أَيْ يُجْتَنَى . يُقَال : التَّمْر خُرْفَة الصَّائِم ; عَنْ الْجَوْهَرِيّ وَالْهَرَوِيّ . وَالْمَشْهُور مِنْ مَذْهَب مَالِك أَنَّهُ لَا يَتْرُك الْخَارِص شَيْئًا فِي حِين خَرْصه مِنْ تَمْر النَّخْل وَالْعِنَب إِلَّا خَرَصَهُ . وَقَدْ رَوَى بَعْض الْمَدَنِيِّينَ أَنَّهُ يُخَفَّف فِي الْخَرْص وَيُتْرَك لِلْعَرَايَا وَالصِّلَة وَنَحْوهَا .</p><p>فَإِنْ لَحِقَتْ الثَّمَرَة جَائِحَة بَعْد الْخَرْص وَقَبْل الْجَذَاذ سَقَطَتْ الزَّكَاة عَنْهُ بِإِجْمَاعٍ مِنْ أَهْل الْعِلْم , إِلَّا أَنْ يَكُون فِيمَا بَقِيَ مِنْهُ خَمْسَة أَوْسُق فَصَاعِدًا .</p><p>وَلَا زَكَاة فِي أَقَلّ مِنْ خَمْسَة أَوَسْق , كَذَا جَاءَ مُبَيَّنًا عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَهُوَ فِي الْكِتَاب مُجْمَل , قَالَ اللَّه تَعَالَى : | يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَات مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الْأَرْض | [ الْبَقَرَة : 267 ] . وَقَالَ تَعَالَى : | وَآتُوا حَقّه | . ثُمَّ وَقَعَ الْبَيَان بِالْعُشْرِ وَنِصْف الْعُشْر . ثُمَّ لَمَّا كَانَ الْمِقْدَار الَّذِي إِذَا بَلَغَهُ الْمَال أُخِذَ مِنْهُ الْحَقّ مُجْمَلًا بَيَّنَهُ أَيْضًا فَقَالَ : ( لَيْسَ فِيمَا دُون خَمْسَة أَوْسُق مِنْ تَمْر أَوْ حَبّ صَدَقَة ) وَهُوَ يَنْفِي الصَّدَقَة فِي الْخَضْرَاوَات , إِذْ لَيْسَتْ مِمَّا يُوسَق ; فَمَنْ حَصَلَ لَهُ خَمْسَة أَوْسُق فِي نَصِيبه مِنْ تَمْر أَوْ حَبّ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الزَّكَاة , وَكَذَلِكَ مِنْ زَبِيب ; وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالنِّصَابِ عِنْد الْعُلَمَاء . يُقَال : وِسْق وَوَسْق ( بِكَسْرِ الْوَاو وَفَتْحهَا ) وَهُوَ سِتُّونَ صَاعًا , وَالصَّاع أَرْبَعَة أَمْدَاد , وَالْمُدّ رِطْل وَثُلُث بِالْبَغْدَادِيِّ وَمَبْلَغ الْخَمْسَة الْأَوْسُق مِنْ الْأَمْدَاد أَلْف مُدّ وَمِائَتَا مُدّ , وَهِيَ بِالْوَزْنِ أَلْف رِطْل وَسِتّمِائَةِ رِطْل .</p><p>وَمَنْ حَصَلَ لَهُ مِنْ تَمْر وَزَبِيب مَعًا خَمْسَة أَوْسُق لَمْ تَلْزَمهُ الزَّكَاة إِجْمَاعًا ; لِأَنَّهُمَا صِنْفَانِ مُخْتَلِفَانِ . وَكَذَلِكَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُضَاف التَّمْر إِلَى الْبُرّ وَلَا الْبُرّ إِلَى الزَّبِيب ; وَلَا الْإِبِل إِلَى الْبَقَر , وَلَا الْبَقَر إِلَى الْغَنَم . وَيُضَاف الضَّأْن إِلَى الْمَعْز بِإِجْمَاعٍ . وَاخْتَلَفُوا فِي ضَمّ الْبُرّ إِلَى الشَّعِير وَالسُّلْت .</p><p>فَأَجَازَهُ مَالِك فِي هَذِهِ الثَّلَاثَة خَاصَّة فَقَطْ ; لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الصِّنْف الْوَاحِد لِتَقَارُبهَا فِي الْمَنْفَعَة وَاجْتِمَاعهَا فِي الْمَنْبَت وَالْمَحْصَد , وَافْتِرَاقهَا فِي الِاسْم لَا يُوجِب اِفْتِرَاقهَا فِي الْحُكْم كَالْجَوَامِيسِ وَالْبَقَر , وَالْمَعْز وَالْغَنَم . وَقَالَ الشَّافِعِيّ وَغَيْره : لَا يُجْمَع بَيْنهَا ; لِأَنَّهَا أَصْنَاف مُخْتَلِفَة , وَصِفَاتهَا مُتَبَايِنَة , وَأَسْمَاؤُهَا مُتَغَايِرَة , وَطَعْمهَا مُخْتَلَف ; وَذَلِكَ يُوجِب اِفْتِرَاقهَا . وَاَللَّه أَعْلَم . قَالَ مَالِك وَالْقَطَانِيّ : كُلّهَا صِنْف وَاحِد , يُضَمّ إِلَى بَعْض . وَقَالَ الشَّافِعِيّ : لَا تُضَمّ حَبَّة عُرِفَتْ بِاسْمٍ مُنْفَرِد دُون صَاحِبَتهَا , وَهِيَ خِلَافهَا مُبَايِنه فِي الْخِلْقَة وَالطَّعْم إِلَى غَيْرهَا . وَيُضَمّ كُلّ صِنْف بَعْضه إِلَى بَعْض , رَدِيئُهُ إِلَى جَيِّده ; كَالتَّمْرِ وَأَنْوَاعه , وَالزَّبِيب أَسْوَده وَأَحْمَره , وَالْحِنْطَة وَأَنْوَاعهَا مِنْ السَّمْرَاء وَغَيْرهَا . وَهُوَ قَوْل الثَّوْرِيّ وَأَبِي حَنِيفَة وَصَاحِبَيْهِ أَبِي يُوسُف وَمُحَمَّد وَأَبِي ثَوْر . وَقَالَ اللَّيْث : تُضَمّ الْحُبُوب كُلّهَا : الْقُطْنِيَّة وَغَيْرهَا بَعْضهَا إِلَى بَعْض فِي الزَّكَاة . وَكَانَ أَحْمَد بْن حَنْبَل يَجْبُن عَنْ ضَمّ الذَّهَب إِلَى الْوَرِق , وَضَمّ الْحُبُوب بَعْضهَا إِلَى بَعْض , ثُمَّ كَانَ فِي آخِر أَمْره يَقُول فِيهَا بِقَوْلِ الشَّافِعِيّ .</p><p>قَالَ مَالِك : وَمَا اِسْتَهْلَكَهُ مِنْهُ رَبّه بَعْد بُدُوّ صَلَاحه أَوْ بَعْدَمَا أَفَرَكَ حُسِبَ عَلَيْهِ , وَمَا أَعْطَاهُ رَبّه مِنْهُ فِي حَصَاده وَجَذَاذه , وَمِنْ الزَّيْتُون فِي اِلْتِقَاطه , تَحَرَّى ذَلِكَ وَحُسِبَ عَلَيْهِ . وَأَكْثَر الْفُقَهَاء يُخَالِفُونَهُ فِي ذَلِكَ , وَلَا يُوجِبُونَ الزَّكَاة إِلَّا فِيمَا حَصَلَ فِي يَده بَعْد الدَّرْس . قَالَ اللَّيْث فِي زَكَاة الْحُبُوب : يَبْدَأ بِهَا قَبْل النَّفَقَة , وَمَا أَكَلَ مِنْ فَرِيك هُوَ وَأَهْله فَلَا يُحْسَب عَلَيْهِ , بِمَنْزِلَةِ الرُّطَب الَّذِي يُتْرَك لِأَهْلِ الْحَائِط يَأْكُلُونَهُ فَلَا يُخْرَص عَلَيْهِمْ . وَقَالَ الشَّافِعِيّ : يَتْرُك الْخَارِص لِرَبِّ الْحَائِط مَا يَأْكُلهُ هُوَ وَأَهْله رُطَبًا , لَا يَخْرُصهُ عَلَيْهِمْ . وَمَا أَكَلَهُ وَهُوَ رُطَب لَمْ يُحْسَب عَلَيْهِ . قَالَ أَبُو عُمَر : اِحْتَجَّ الشَّافِعِيّ وَمَنْ وَافَقَهُ بِقَوْلِ اللَّه تَعَالَى : | كُلُوا مِنْ ثَمَره إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقّه يَوْم حَصَاده | . وَاسْتَدَلُّوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُحْتَسَب بِالْمَأْكُولِ قَبْل الْحَصَاد بِهَذِهِ الْآيَة . وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( إِذَا خَرَصْتُمْ فَدَعُوا الثُّلُث فَإِنْ لَمْ تَدَعُوا الثُّلُث فَدَعُوا الرُّبُع ) . وَمَا أَكَلَتْ الدَّوَابّ وَالْبَقَر مِنْهُ عِنْد الدَّرْس لَمْ يُحْسَب مِنْهُ شَيْء عَلَى صَاحِبه عِنْد مَالِك وَغَيْره .</p><p>وَمَا بِيعَ مِنْ الْفُول وَالْحِمَّص وَالْجُلْبَان أَخْضَر ; تَحَرَّى مِقْدَار ذَلِكَ يَابِسًا وَأُخْرِجَتْ زَكَاته حَبًّا . وَكَذَا مَا بِيعَ مِنْ الثَّمَر أَخْضَر اُعْتُبِرَ وَتُوُخِّيَ وَخُرِصَ يَابِسًا وَأَخْرَجَتْ زَكَاته عَلَى ذَلِكَ الْخَرْص زَبِيبًا وَتَمْرًا . وَقِيلَ : يَخْرُج مِنْ ثَمَنه .</p><p>وَأَمَّا مَا لَا يَتَتَمَّر مِنْ ثَمَر النَّخْل وَلَا يَتَزَبَّب مِنْ الْعِنَب كَعِنَبِ مِصْر وَبَلَحهَا , وَكَذَلِكَ زَيْتُونهَا الَّذِي لَا يُعْصَر , فَقَالَ مَالِك : تُخْرَج زَكَاته مِنْ ثَمَنه , لَا يُكَلَّف غَيْر ذَلِكَ صَاحِبه , وَلَا يُرَاعَى فِيهِ بُلُوغ ثَمَنه عِشْرِينَ مِثْقَالًا أَوْ مِائَتَيْ دِرْهَم , وَإِنَّمَا يُنْظَر إِلَى مَا يَرَى أَنَّهُ يَبْلُغهُ خَمْسَة أَوْسُق فَأَكْثَر . وَقَالَ الشَّافِعِيّ : يُخْرِج عُشْره أَوْ نِصْف عُشْره مِنْ وَسَطه تَمْرًا إِذَا أَكَلَهُ أَهْله رُطَبًا أَوْ أَطْعَمُوهُ .</p><p>رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ اِبْن عُمَر قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( فِيمَا سَقَتْ السَّمَاء وَالْأَنْهَار وَالْعُيُون أَوْ كَانَ بَعْلًا الْعُشْر , وَفِيمَا سُقِيَ بِالسَّوَانِي أَوْ النَّضْح نِصْف الْعُشْر وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ يَشْرَب سَيْحًا فِيهِ الْعُشْر ) . وَهُوَ الْمَاء الْجَارِي عَلَى وَجْه الْأَرْض ; قَالَهُ اِبْن السِّكِّيت . وَلَفْظ السَّيْح مَذْكُور فِي الْحَدِيث , خَرَّجَهُ النَّسَائِيّ . فَإِنْ كَانَ يَشْرَب بِالسَّيْحِ لَكِنَّ رَبّ الْأَرْض لَا يَمْلِك مَاء وَإِنَّمَا يَكْتَرِيه لَهُ فَهُوَ كَالسَّمَاءِ ; عَلَى الْمَشْهُور مِنْ الْمَذْهَب . وَرَأَى أَبُو الْحَسَن اللَّخْمِيّ أَنَّهُ كَالنَّضْحِ ; فَلَوْ سُقِيَ مَرَّة بِمَاءِ السَّمَاء وَمَرَّة بِدَالِيَةٍ ; فَقَالَ مَالِك : يُنْظَر إِلَى مَا تَمَّ بِهِ الزَّرْع وَحَيِيَ وَكَانَ أَكْثَر ; فَيَتَعَلَّق الْحُكْم عَلَيْهِ . هَذِهِ رِوَايَة اِبْن الْقَاسِم عَنْهُ . وَرَوَى عَنْهُ اِبْن وَهْب : إِذَا سُقِيَ نِصْف سَنَة بِالْعُيُونِ ثُمَّ اِنْقَطَعَ فَسُقِيَ بَقِيَّة السَّنَة بِالنَّاضِحِ فَإِنَّ عَلَيْهِ نِصْف زَكَاته عُشْرًا , وَالنِّصْف الْآخَر نِصْف الْعُشْر . وَقَالَ مَرَّة : زَكَاته بِاَلَّذِي تَمَّتْ بِهِ حَيَاته . وَقَالَ الشَّافِعِيّ : يُزَكِّي كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا بِحِسَابِهِ . مِثَاله أَنْ يَشْرَب شَهْرَيْنِ بِالنَّضْحِ وَأَرْبَعَة بِالسَّمَاءِ ; فَيَكُون فِيهِ ثُلُثَا الْعُشْر لِمَاءِ السَّمَاء وَسُدُس الْعُشْر لِلنَّضْحِ ! وَهَكَذَا مَا زَادَ وَنَقَصَ بِحِسَابِهِ . وَبِهَذَا كَانَ يُفْتِي بَكَّار بْن قُتَيْبَة . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَأَبُو يُوسُف : يَنْظُر إِلَى الْأَغْلَب فَيُزَكَّى , وَلَا يَلْتَفِت إِلَى مَا سِوَى ذَلِكَ . وَرُوِيَ عَنْ الشَّافِعِيّ . قَالَ الطَّحَاوِيّ : قَدْ اِتَّفَقَ الْجَمِيع عَلَى أَنَّهُ لَوْ سَقَاهُ بِمَاءِ الْمَطَر يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ أَنَّهُ لَا اِعْتِبَار بِهِ , وَلَا يَجْعَل لِذَلِكَ حِصَّة ; فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الِاعْتِبَار بِالْأَغْلَبِ , وَاَللَّه أَعْلَم . قُلْت : فَهَذِهِ جُمْلَة مِنْ أَحْكَام هَذِهِ الْآيَة , وَلَعَلَّ غَيْرنَا يَأْتِي بِأَكْثَر مِنْهَا عَلَى مَا يَفْتَح اللَّه لَهُ . وَقَدْ مَضَى فِي | الْبَقَرَة | جُمْلَة مِنْ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَة , وَالْحَمْد لِلَّهِ .</p><p>وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَيْسَ فِي حَبّ وَلَا تَمْر صَدَقَة ) فَخَرَّجَهُ النَّسَائِيّ . قَالَ حَمْزَة الْكِنَانِيّ : لَمْ يَذْكُر فِي هَذَا الْحَدِيث ( فِي حَبّ ) غَيْر إِسْمَاعِيل بْن أُمَيَّة , وَهُوَ ثِقَة قُرَشِيّ مِنْ وَلَد سَعِيد بْن الْعَاصِ . قَالَ : وَهَذِهِ السُّنَّة لَمْ يَرْوِهَا أَحَد عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَصْحَابه غَيْر أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ . قَالَ أَبُو عُمَر : هُوَ كَمَا قَالَ حَمْزَة , وَهَذِهِ سُنَّة جَلِيلَة تَلَقَّاهَا الْجَمِيع بِالْقَبُولِ , وَلَمْ يَرْوهَا أَحَد عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَجْه ثَابِت مَحْفُوظ غَيْر أَبِي سَعِيد . وَقَدْ رَوَى جَابِر عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْل ذَلِكَ , وَلَكِنَّهُ غَرِيب , وَقَدْ وَجَدْنَاهُ مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة بِإِسْنَادٍ حَسَن .|وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ|الْإِسْرَاف فِي اللُّغَة الْخَطَأ . وَقَالَ أَعْرَابِيّ أَرَادَ قَوْمًا : طَلَبْتُكُمْ فَسَرِفْتُكُمْ ; أَيْ أَخْطَأْت مَوْضِعكُمْ . وَقَالَ الشَّاعِر : <br>وَقَالَ قَائِلهمْ وَالْخَيْل تَخْبِطهُمْ .......... أَسْرَفْتُمْ فَأَجَبْنَا أَنَّنَا سَرَف <br>وَالْإِسْرَاف فِي النَّفَقَة : التَّبْذِير . وَمُسْرِف لَقَب مُسْلِم بْن عُقْبَة الْمُرِّيّ صَاحِب وَقْعَة الْحَرَّة ; لِأَنَّهُ قَدْ أَسْرَفَ فِيهَا . قَالَ عَلِيّ بْن عَبْد اللَّه بْن الْعَبَّاس : <br>هُمْ مَنَعُوا ذِمَارِي يَوْم جَاءَتْ .......... كَتَائِب مُسْرِف وَبَنِي اللَّكِيعَهْ <br>وَالْمَعْنَى الْمَقْصُود مِنْ الْآيَة : لَا تَأْخُذُوا الشَّيْء بِغَيْرِ حَقّه ثُمَّ تَضَعُوهُ فِي غَيْر حَقّه ; قَالَهُ أَصْبَغ بْن الْفَرَج . وَنَحْوه قَوْل إِيَاس بْن مُعَاوِيَة : مَا جَاوَزْت بِهِ أَمْر اللَّه فَهُوَ سَرَف وَإِسْرَاف . وَقَالَ اِبْن زَيْد : هُوَ خِطَاب لِلْوُلَاةِ , يَقُول : لَا تَأْخُذُوا فَوْق حَقّكُمْ وَمَا لَا يَجِب عَلَى النَّاس . وَالْمَعْنَيَانِ يَحْتَمِلهُمَا قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( الْمُعْتَدِي فِي الصَّدَقَة كَمَانِعِهَا ) . وَقَالَ مُجَاهِد : لَوْ كَانَ أَبُو قُبَيْس ذَهَبًا لِرَجُلٍ فَأَنْفَقَهُ فِي طَاعَة اللَّه لَمْ يَكُنْ مُسْرِفًا , وَلَوْ أَنْفَقَ دِرْهَمًا أَوْ مُدًّا فِي مَعْصِيَة اللَّه كَانَ مُسْرِفًا . وَفِي هَذَا الْمَعْنَى قِيلَ لِحَاتِمٍ : لَا خَيْر فِي السَّرَف ; فَقَالَ : لَا سَرَف فِي الْخَيْر . قُلْت : وَهَذَا ضَعِيف ; يَرُدّهُ مَا رَوَى اِبْن عَبَّاس أَنَّ ثَابِت بْن قَيْس بْن شَمَّاس عَمَدَ إِلَى خَمْسمِائَةِ نَخْلَة فَجَذَّهَا ثُمَّ قَسَمَهَا فِي يَوْم وَاحِد وَلَمْ يَتْرُك لِأَهْلِهِ شَيْئًا ; فَنَزَلَتْ | وَلَا تُسْرِفُوا | أَيْ لَا تُعْطُوا كُلّه . وَرَوَى عَبْد الرَّزَّاق عَنْ اِبْن جُرَيْج قَالَ : جَذَّ مُعَاذ بْن جَبَل نَخْله فَلَمْ يَزَلْ يَتَصَدَّق حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْهُ شَيْء : فَنَزَلَ | وَلَا تُسْرِفُوا | . قَالَ السُّدِّيّ : | وَلَا تُسْرِفُوا | أَيْ لَا تُعْطُوا أَمْوَالكُمْ فَتَقْعُدُوا فُقَرَاء . وَرُوِيَ عَنْ مُعَاوِيَة بْن أَبِي سُفْيَان أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْله تَعَالَى : | وَلَا تُسْرِفُوا | قَالَ : الْإِسْرَاف مَا قَصَّرْت عَنْ حَقّ اللَّه تَعَالَى . قُلْت : فَعَلَى هَذَا تَكُون الصَّدَقَة بِجَمِيعِ الْمَال وَمِنْهُ إِخْرَاج حَقّ الْمَسَاكِين دَاخِلِينَ فِي حُكْم السَّرَف , وَالْعَدْل خِلَاف هَذَا ; فَيَتَصَدَّق وَيُبْقِي كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام : ( خَيْر الصَّدَقَة مَا كَانَ عَنْ ظَهْر غِنًى ) إِلَّا أَنْ يَكُون قَوِيّ النَّفْس غَنِيًّا بِاَللَّهِ مُتَوَكِّلًا عَلَيْهِ مُنْفَرِدًا لَا عِيَال لَهُ , فَلَهُ أَنْ يَتَصَدَّق بِجَمِيعِ مَاله , وَكَذَلِكَ يُخْرِج الْحَقّ الْوَاجِب عَلَيْهِ مِنْ زَكَاة وَمَا يَعُنّ فِي بَعْض الْأَحْوَال مِنْ الْحُقُوق الْمُتَعَيِّنَة فِي الْمَال . وَقَالَ عَبْد الرَّحْمَن بْن زَيْد بْن أَسْلَم : الْإِسْرَاف مَا لَمْ يَقْدِر عَلَى رَدّه إِلَى الصَّلَاح . وَالسَّرَف مَا يَقْدِر عَلَى رَدّه إِلَى الصَّلَاح . وَقَالَ النَّضْر بْن شُمَيْل : الْإِسْرَاف التَّبْذِير وَالْإِفْرَاط , وَالسَّرَف الْغَفْلَة وَالْجَهْل . قَالَ جَرِير : <br>أَعْطَوْا هُنَيْدَة يَحْدُوهَا ثَمَانِيَة .......... مَا فِي عَطَائِهِمْ مَنّ وَلَا سَرَف <br>أَيْ إِغْفَال , وَيُقَال : خَطَأ . وَرَجُل سَرِفَ الْفُؤَاد , أَيْ مُخْطِئ الْفُؤَاد غَافِله . قَالَ طَرَفَة : <br>إِنْ اِمْرَأً سَرِفَ الْفُؤَاد يَرَى .......... عَسَلًا بِمَاءِ سَحَابَة شَتْمِي<br>

وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ

عَطْف عَلَى مَا تَقَدَّمَ . أَيْ وَأَنْشَأَ حَمُولَة وَفَرْشًا مِنْ الْأَنْعَام . وَلِلْعُلَمَاءِ فِي الْأَنْعَام ثَلَاثَة أَقْوَال : أَحَدهَا : أَنَّ الْأَنْعَام الْإِبِل خَاصَّة ; وَسَيَأْتِي فِي | النَّحْل | بَيَانه . الثَّانِي : أَنَّ الْأَنْعَام الْإِبِل وَحْدهَا , وَإِذَا كَانَ مَعَهَا بَقَر وَغَنَم فَهِيَ أَنْعَام أَيْضًا . الثَّالِث : وَهُوَ أَصَحّهَا قَالَهُ أَحْمَد بْن يَحْيَى : الْأَنْعَام كُلّ مَا أَحَلَّهُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ مِنْ الْحَيَوَان . وَيَدُلّ عَلَى صِحَّة هَذَا قَوْله تَعَالَى : | أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَة الْأَنْعَام إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ | [ الْمَائِدَة : 1 ] وَقَدْ تَقَدَّمَ . وَالْحَمُولَة مَا أَطَاقَ الْحَمْل وَالْعَمَل ; عَنْ اِبْن مَسْعُود وَغَيْره . ثُمَّ قِيلَ : يَخْتَصّ اللَّفْظ بِالْإِبِلِ . وَقِيلَ : كُلّ مَا اِحْتَمَلَ عَلَيْهِ الْحَيّ مِنْ حِمَار أَوْ بَغْل أَوْ بَعِير ; عَنْ أَبِي زَيْد , سَوَاء كَانَتْ عَلَيْهِ الْأَحْمَال أَوْ لَمْ تَكُنْ . قَالَ عَنْتَرَة : <br>مَا رَاعِنِي إِلَّا حَمُولَة أَهْلهَا .......... وَسْط الدِّيَار تَسُفّ حَبّ الْحِمْحِم <br>وَفَعُولَة بِفَتْحِ الْفَاء إِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى الْفَاعِل اِسْتَوَى فِيهَا الْمُؤَنَّث وَالْمُذَكَّر ; نَحْو قَوْلك : رَجُل فَرُوقَة وَامْرَأَة فَرُوقَة لِلْجَبَانِ وَالْخَائِف . وَرَجُل صَرُورَة وَامْرَأَة صَرُورَة إِذَا لَمْ يَحُجَّا ; وَلَا جَمْع لَهُ . فَإِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى الْمَفْعُول فَرَّقَ بَيْن الْمُذَكَّر وَالْمُؤَنَّث بِالْهَاءِ كَالْحَلُوبَةِ وَالرَّكُوبَة . وَالْحُمُولَة ( بِضَمِّ الْحَاء ) : الْأَحْمَال . وَأَمَّا الْحُمُول ( بِالضَّمِّ بِلَا هَاء ) فَهِيَ الْإِبِل الَّتِي عَلَيْهَا الْهَوَادِج , كَانَ فِيهَا نِسَاء أَوْ لَمْ يَكُنْ ; عَنْ أَبِي زَيْد . | وَفُرُشًا | قَالَ الضَّحَّاك : الْحُمُولَة مِنْ الْإِبِل وَالْبَقَر . وَالْفَرْش : الْغَنَم . النَّحَّاس : وَاسْتُشْهِدَ لِصَاحِبِ هَذَا الْقَوْل بِقَوْلِهِ : | ثَمَانِيَة أَزْوَاج | قَالَ : ف | ثَمَانِيَة | بَدَل مِنْ قَوْله : | حَمُولَة وَفَرْشًا | . وَقَالَ الْحَسَن : الْحَمُولَة الْإِبِل . وَالْفَرْش : الْغَنَم . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : الْحَمُولَة كُلّ مَا حَمَلَ مِنْ الْإِبِل وَالْبَقَر وَالْخَيْل وَالْبِغَال وَالْحَمِير . وَالْفَرْش : الْغَنَم . وَقَالَ اِبْن زَيْد : الْحَمُولَة مَا يُرْكَب , وَالْفَرْش مَا يُؤْكَل لَحْمه وَيُحْلَب ; مِثْل الْغَنَم وَالْفِصْلَان وَالْعَجَاجِيل ; سُمِّيَتْ فَرْشًا لِلَطَافَةِ أَجْسَامهَا وَقُرْبهَا مِنْ الْفُرُش , وَهِيَ الْأَرْض الْمُسْتَوِيَة الَّتِي يَتَوَطَّؤُهَا النَّاس . قَالَ الرَّاجِز : <br>أَوْرَثَنِي حَمُولَة وَفَرْشًا .......... أَمُشّهَا فِي كُلّ يَوْم مَشًّا <br>وَقَالَ آخَر : <br>وَحَوَيْنَا الْفَرْش مِنْ أَنْعَامكُمْ .......... وَالْحُمُولَات وَرَبَّات الْحَجَل <br>قَالَ الْأَصْمَعِيّ : لَمْ أَسْمَع لَهُ بِجَمْعٍ . قَالَ : وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون مَصْدَرًا سُمِّيَ بِهِ ; مِنْ قَوْلهمْ : فَرَشَهَا اللَّه فَرْشًا , أَيْ بَثَّهَا بَثًّا . وَالْفَرْش : الْمَفْرُوش مِنْ مَتَاع الْبَيْت . وَالْفَرْش : الزَّرْع إِذَا فُرِشَ . وَالْفَرْش : الْفَضَاء الْوَاسِع . وَالْفَرْش فِي رِجْل الْبَعِير : اِتِّسَاع قَلِيل , وَهُوَ مَحْمُود . وَافْتَرَشَ الشَّيْء اِنْبَسَطَ ; فَهُوَ لَفْظ مُشْتَرَك . وَقَدْ يَرْجِع قَوْله تَعَالَى : | وَفَرْشًا | إِلَى هَذَا . قَالَ النَّحَّاس : وَمَنْ أَحْسَن مَا قِيلَ فِيهِمَا أَنَّ الْحَمُولَة الْمُسَخَّرَة الْمُذَلَّلَة لِلْحَمْلِ . وَالْفُرُش مَا خَلَقَهُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ مِنْ الْجُلُود وَالصُّوف مِمَّا يَجْلِس وَيُتَمَهَّد . وَبَاقِي الْآيَة قَدْ تَقَدَّمَ .

ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آَلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ

| ثَمَانِيَة | مَنْصُوب بِفِعْلٍ مُضْمَر , أَيْ وَأَنْشَأَ | ثَمَانِيَة أَزْوَاج | ; عَنْ الْكِسَائِيّ . وَقَالَ الْأَخْفَش سَعِيد : هُوَ مَنْصُوب عَلَى الْبَدَل مِنْ | حَمُولَة وَفَرْشًا | . وَقَالَ الْأَخْفَش عَلِيّ بْن سُلَيْمَان : يَكُون مَنْصُوبًا ب | كُلُوا | ; أَيْ كُلُوا لَحْم ثَمَانِيَة أَزْوَاج . وَيَجُوز أَنْ يَكُون مَنْصُوبًا عَلَى الْبَدَل مِنْ | مَا | عَلَى الْمَوْضِع . وَيَجُوز أَنْ يَكُون مَنْصُوبًا بِمَعْنَى كُلُوا الْمُبَاح | ثَمَانِيَة أَزْوَاج مِنْ الضَّأْن اِثْنَيْنِ | . وَنَزَلَتْ الْآيَة فِي مَالِك بْن عَوْف وَأَصْحَابه حَيْثُ قَالُوا : | مَا فِي بُطُون هَذِهِ الْأَنْعَام خَالِصَة لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّم عَلَى أَزْوَاجنَا | فَنَبَّهَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ نَبِيّه وَالْمُؤْمِنِينَ بِهَذِهِ الْآيَة عَلَى مَا أَحَلَّهُ لَهُمْ ; لِئَلَّا يَكُونُوا بِمَنْزِلَةِ مَنْ حَرَّمَ مَا أَحَلَّهُ اللَّه تَعَالَى . وَالزَّوْج خِلَاف الْفَرْد ; يُقَال : زَوْج أَوْ فَرْد . كَمَا يُقَال : خَسًا أَوْ زَكًا , شَفْع أَوْ وَتْر . فَقَوْله : | ثَمَانِيَة أَزْوَاج | يَعْنِي ثَمَانِيَة أَفْرَاد . وَكُلّ فَرْد عِنْد الْعَرَب يَحْتَاج إِلَى آخَر يُسَمَّى زَوْجًا , فَيُقَال لِلذَّكَرِ زَوْج وَلِلْأُنْثَى زَوْج . وَيَقَع لَفْظ الزَّوْج لِلْوَاحِدِ وَلِلِاثْنَيْنِ ; يُقَال هُمَا زَوْجَانِ , وَهُمَا زَوْج ; كَمَا يُقَال : هُمَا سِيَّانِ وَهُمَا سَوَاء . وَتَقُول : اِشْتَرَيْت زَوْجَيْ حَمَام . وَأَنْتَ تَعْنِي ذَكَرًا وَأُنْثَى .|مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ|أَيْ الذَّكَر وَالْأُنْثَى . وَالضَّأْن : ذَوَات الصُّوف مِنْ الْغَنَم , وَهِيَ جَمْع ضَائِن . وَالْأُنْثَى ضَائِنَة , وَالْجَمْع ضَوَائِن . وَقِيلَ : هُوَ جَمْع لَا وَاحِد لَهُ . وَقِيلَ فِي جَمْعه : ضَئِين ; كَعَبْدٍ وَعَبِيد . وَيُقَال فِيهِ ضَئِين . كَمَا يُقَال فِي شَعِير : شَعِير , كُسِرَتْ الضَّاد اِتِّبَاعًا . وَقَرَأَ طَلْحَة بْن مُصَرِّف | مِنْ الضَّأْن اِثْنَيْنِ | بِفَتْحِ الْهَمْزَة , وَهِيَ لُغَة مَسْمُوعَة عِنْد الْبَصْرِيِّينَ . وَهُوَ مُطَّرِد عِنْد الْكُوفِيِّينَ فِي كُلّ مَا ثَانِيه حَرْف حَلْق . وَكَذَلِكَ الْفَتْح وَالْإِسْكَان فِي الْمَعْز . وَقَرَأَ أَبَان بْن عُثْمَان | مِنْ الضَّأْن اِثْنَانِ وَمِنْ الْمَعْز اِثْنَانِ | رَفْعًا بِالِابْتِدَاءِ . وَفِي حَرْف أُبَيّ .|وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ|وَهِيَ قِرَاءَة الْأَكْثَر . وَقَرَأَ اِبْن عَامِر وَأَبُو عَمْرو بِالْفَتْحِ . قَالَ النَّحَّاس : الْأَكْثَر فِي كَلَام الْعَرَب الْمَعْز وَالضَّأْن بِالْإِسْكَانِ . وَيَدُلّ عَلَى هَذَا قَوْلهمْ فِي الْجَمْع : مَعِيز ; فَهَذَا جَمْع مَعْز . كَمَا يُقَال : عَبْد وَعَبِيد . قَالَ أَمْرُؤُ الْقَيْس : <br>وَيَمْنَحهَا بَنُو شَمَجَى بْن جَرْم .......... مَعِيزهمْ حَنَانك ذَا الْحَنَان <br>وَمِثْله ضَأْن وَضَئِين . وَالْمَعْز مِنْ الْغَنَم خِلَاف الضَّأْن , وَهِيَ ذَوَات الْأَشْعَار وَالْأَذْنَاب الْقِصَار , وَهُوَ اِسْم جِنْس , وَكَذَلِكَ الْمَعْز وَالْمَعِيز وَالْأُمْعُوز وَالْمِعْزَى . وَوَاحِد الْمَعْز مَاعِز ; مِثْل صَاحِب وَصَحْب وَتَاجِر وَتَجْرِ . وَالْأُنْثَى مَاعِزَة وَهِيَ الْعَنْز , وَالْجَمْع مَوَاعِز . وَأَمْعَز الْقَوْم كَثُرَتْ مَعْزَاهُمْ . وَالْمَعَّاز صَاحِب الْمِعْزَى . قَالَ أَبُو مُحَمَّد الْفَقْعَسِيّ يَصِف إِبِلًا بِكَثْرَةِ اللَّبَن وَيُفَضِّلهَا عَلَى الْغَنَم فِي شِدَّة الزَّمَان : <br>يَكِلْنَ كَيْلًا لَيْسَ بِالْمَمْحُوقِ .......... إِذْ رَضِيَ الْمَعَّاز بِاللَّعُوقِ <br>وَالْمَعَز الصَّلَابَة مِنْ الْأَرْض . وَالْأَمْعَز : الْمَكَان الصُّلْب الْكَثِير الْحَصَى ; وَالْمَعْزَاء أَيْضًا . وَاسْتَمْعَزَ الرَّجُل فِي أَمْره : جَدّ .|قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ|مَنْصُوب ب | حَرَّمَ | .|أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ|عَطْف عَلَيْهِ .|أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ|وَزِيدَتْ مَعَ أَلِف الْوَصْل مَدَّة لِلْفَرْقِ بَيْن الِاسْتِفْهَام وَالْخَبَر . وَيَجُوز حَذْف الْهَمْزَة لِأَنَّ | أَمْ | تَدُلّ عَلَى الِاسْتِفْهَام . كَمَا قَالَ : <br>تَرُوح مِنْ الْحَيّ أَمْ تَبْتَكِر<br>قَالَ الْعُلَمَاء : الْآيَة اِحْتِجَاج عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي أَمْر الْبَحِيرَة وَمَا ذُكِرَ مَعَهَا . وَقَوْلهمْ : | مَا فِي بُطُون هَذِهِ الْأَنْعَام خَالِصَة لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّم عَلَى أَزْوَاجنَا | . فَدَلَّتْ عَلَى إِثْبَات الْمُنَاظَرَة فِي الْعِلْم ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى أَمَرَ نَبِيّه عَلَيْهِ السَّلَام بِأَنْ يُنَاظِرهُمْ , وَيُبَيِّن لَهُمْ فَسَاد قَوْلهمْ . وَفِيهَا إِثْبَات الْقَوْل بِالنَّظَرِ وَالْقِيَاس . وَفِيهَا دَلِيل بِأَنَّ الْقِيَاس إِذَا وَرَدَ عَلَيْهِ النَّصّ بَطَلَ الْقَوْل بِهِ . وَيُرْوَى : | إِذَا وَرَدَ عَلَيْهِ النَّقْض | ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى أَمَرَهُمْ بِالْمُقَايَسَةِ الصَّحِيحَة , وَأَمَرَهُمْ بِطَرْدِ عِلَّتهمْ . وَالْمَعْنَى : قُلْ لَهُمْ إِنْ كَانَ حَرَّمَ الذُّكُور فَكُلّ ذَكَر حَرَام . وَإِنْ كَانَ حَرَّمَ الْإِنَاث فَكُلّ أُنْثَى حَرَام . وَإِنْ كَانَ حَرَّمَ مَا اِشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَام الْأُنْثَيَيْنِ , يَعْنِي مِنْ الضَّأْن وَالْمَعْز , فَكُلّ مَوْلُود حَرَام , ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى . وَكُلّهَا مَوْلُود فَكُلّهَا إِذًا حَرَام لِوُجُودِ الْعِلَّة فِيهَا , فَبَيَّنَ اِنْتِقَاض عِلَّتهمْ وَفَسَاد قَوْلهمْ ; فَأَعْلَمَ اللَّه سُبْحَانه أَنَّ مَا فَعَلُوهُ مِنْ ذَلِكَ اِفْتِرَاء عَلَيْهِ|نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ|أَيْ بِعِلْمٍ إِنْ كَانَ عِنْدكُمْ , مِنْ أَيْنَ هَذَا التَّحْرِيم الَّذِي اِفْتَعَلْتُمُوهُ ؟ وَلَا عِلْم عِنْدهمْ ; لِأَنَّهُمْ لَا يَقْرَءُونَ الْكُتُب .

وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آَلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى الل

| قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ | مَنْصُوب بِ | حَرَّمَ | | أَمْ الْأُنْثَيَيْنِ | عَطْف عَلَيْهِ . وَمَا بَعْده كَمَا سَبَقَ .|أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا|أَيْ هَلْ شَاهَدْتُمْ اللَّه قَدْ حَرَّمَ هَذَا . وَلَمَّا لَزِمَتْهُمْ الْحُجَّة أَخَذُوا فِي الِافْتِرَاء فَقَالُوا : كَذَا أَمَرَ اللَّه .|فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ|بَيَّنَ أَنَّهُمْ كَذَبُوا ; إِذْ قَالُوا مَا لَمْ يَقُمْ عَلَيْهِ دَلِيل .

قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِن

أَعْلَمَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فِي هَذِهِ الْآيَة بِمَا حَرَّمَ . وَالْمَعْنَى : قُلْ يَا مُحَمَّد لَا أَجِد فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا إِلَّا هَذِهِ الْأَشْيَاء , لَا مَا تُحَرِّمُونَهُ بِشَهْوَتِكُمْ . وَالْآيَة مَكِّيَّة . وَلَمْ يَكُنْ فِي الشَّرِيعَة فِي ذَلِكَ الْوَقْت مُحَرَّم غَيْر هَذِهِ الْأَشْيَاء , ثُمَّ نَزَلَتْ سُورَة | الْمَائِدَة | بِالْمَدِينَةِ . وَزِيدَ فِي الْمُحَرَّمَات كَالْمُنْخَنِقَةِ وَالْمَوْقُوذَة وَالْمُتَرَدِّيَة وَالنَّطِيحَة وَالْخَمْر وَغَيْر ذَلِكَ . وَحَرَّمَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ أَكْل كُلّ ذِي نَاب مِنْ السِّبَاع وَكُلّ ذِي مِخْلَب مِنْ الطَّيْر . وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي حُكْم هَذِهِ الْآيَة وَتَأْوِيلهَا عَلَى أَقْوَال : الْأَوَّل : مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَة مَكِّيَّة , وَكُلّ مُحَرَّم حَرَّمَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ جَاءَ فِي الْكِتَاب مَضْمُوم إِلَيْهَا ; فَهُوَ زِيَادَة حُكْم مِنْ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَلَى لِسَان نَبِيّه عَلَيْهِ السَّلَام . عَلَى هَذَا أَكْثَر أَهْل الْعِلْم مِنْ أَهْل النَّظَر , وَالْفِقْه وَالْأَثَر . وَنَظِيره نِكَاح الْمَرْأَة عَلَى عَمَّتهَا وَعَلَى خَالَتهَا مَعَ قَوْله : | وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاء ذَلِكُمْ | [ النِّسَاء : 24 ] وَكَحُكْمِهِ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِد مَعَ قَوْله : | فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُل وَامْرَأَتَانِ | [ الْبَقَرَة : 282 ] . وَقَدْ تَقَدَّمَ .</p><p>وَقَدْ قِيلَ : إِنَّهَا مَنْسُوخَة بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام ( أَكْل كُلّ ذِي نَاب مِنْ السِّبَاع حَرَام ) أَخْرَجَهُ مَالِك , وَهُوَ حَدِيث صَحِيح . وَقِيلَ : الْآيَة مُحْكَمَة وَلَا يُحَرَّم إِلَّا مَا فِيهَا وَهُوَ قَوْل يُرْوَى عَنْ اِبْن عَبَّاس وَابْن عُمَر وَعَائِشَة , وَرُوِيَ عَنْهُمْ خِلَافه . قَالَ مَالِك : لَا حَرَام بَيِّن إِلَّا مَا ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَة . وَقَالَ اِبْن خُوَيْز مِنْدَاد : تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَة تَحْلِيل كُلّ شَيْء مِنْ الْحَيَوَان وَغَيْره إِلَّا مَا اُسْتُثْنِيَ فِي الْآيَة مِنْ الْمَيْتَة وَالدَّم الْمَسْفُوح وَلَحْم الْخِنْزِير . وَلِهَذَا قُلْنَا : إِنَّ لُحُوم السِّبَاع وَسَائِر الْحَيَوَان مَا سِوَى الْإِنْسَان وَالْخِنْزِير مُبَاح . وَقَالَ إِلْكِيَا الطَّبَرِيّ : وَعَلَيْهَا بَنَى الشَّافِعِيّ تَحْلِيل كُلّ مَسْكُوت عَنْهُ ; أَخْذًا مِنْ هَذِهِ الْآيَة , إِلَّا مَا دَلَّ عَلَيْهِ الدَّلِيل . وَقِيلَ : إِنَّ الْآيَة جَوَاب لِمَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْء بِعَيْنِهِ فَوَقَعَ الْجَوَاب مَخْصُوصًا . وَهَذَا مَذْهَب الشَّافِعِيّ . وَقَدْ رَوَى الشَّافِعِيّ عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر أَنَّهُ قَالَ : فِي هَذِهِ الْآيَة أَشْيَاء سَأَلُوا عَنْهَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَجَابَهُمْ عَنْ الْمُحَرَّمَات مِنْ تِلْكَ الْأَشْيَاء . وَقِيلَ : أَيْ لَا أَجِد فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ أَيْ فِي هَذِهِ الْحَال حَال الْوَحْي وَوَقْت نُزُوله , ثُمَّ لَا يَمْتَنِع حُدُوث وَحْي بَعْد ذَلِكَ بِتَحْرِيمِ أَشْيَاء أُخَر . وَزَعَمَ اِبْن الْعَرَبِيّ أَنَّ هَذِهِ الْآيَة مَدَنِيَّة وَهِيَ مَكِّيَّة فِي قَوْل الْأَكْثَرِينَ , نَزَلَتْ عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْم نَزَلَ عَلَيْهِ | الْيَوْم أَكْمَلْت لَكُمْ دِينكُمْ | [ الْمَائِدَة : 3 ] وَلَمْ يَنْزِل بَعْدهَا نَاسِخ فَهِيَ مُحْكَمَة , فَلَا مُحَرَّم إِلَّا مَا فِيهَا , وَإِلَيْهِ أَمِيل . قُلْت : وَهَذَا مَا رَأَيْته قَالَهُ غَيْره . وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو عُمَر بْن عَبْد الْبَرّ الْإِجْمَاع فِي أَنَّ سُورَة | الْأَنْعَام | مَكِّيَّة إِلَّا قَوْله تَعَالَى : | قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبّكُمْ عَلَيْكُمْ | [ الْأَنْعَام : 151 ] الثَّلَاث الْآيَات , وَقَدْ نَزَلَ بَعْدهَا قُرْآن كَثِير وَسُنَن جَمَّة . فَنَزَلَ تَحْرِيم الْخَمْر بِالْمَدِينَةِ فِي | الْمَائِدَة | . وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ نَهْيه عَلَيْهِ السَّلَام عَنْ أَكْل كُلّ ذِي نَاب مِنْ السِّبَاع إِنَّمَا كَانَ مِنْهُ بِالْمَدِينَةِ . قَالَ إِسْمَاعِيل بْن إِسْحَاق : وَهَذَا كُلّه يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ أَمْر كَانَ بِالْمَدِينَةِ بَعْد نُزُول قَوْله : | قُلْ لَا أَجِد فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا | لِأَنَّ ذَلِكَ مَكِّيّ . قُلْت : وَهَذَا هُوَ مَثَار الْخِلَاف بَيْن الْعُلَمَاء . فَعَدَلَ جَمَاعَة عَنْ ظَاهِر الْأَحَادِيث الْوَارِدَة بِالنَّهْيِ عَنْ أَكْل كُلّ ذِي نَاب مِنْ السِّبَاع ; لِأَنَّهَا مُتَأَخِّرَة عَنْهَا وَالْحَصْر فِيهَا ظَاهِر فَالْأَخْذ بِهَا أَوْلَى ; لِأَنَّهَا إِمَّا نَاسِخَة لِمَا تَقَدَّمَهَا أَوْ رَاجِحَة عَلَى تِلْكَ الْأَحَادِيث . وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِالتَّحْرِيمِ فَظَهَرَ لَهُمْ وَثَبَتَ عِنْدهمْ أَنَّ سُورَة | الْأَنْعَام | مَكِّيَّة ; نَزَلَتْ قَبْل الْهِجْرَة , وَأَنَّ هَذِهِ الْآيَة قُصِدَ بِهَا الرَّدّ عَلَى الْجَاهِلِيَّة فِي تَحْرِيم الْبَحِيرَة وَالسَّائِبَة وَالْوَصِيلَة وَالْحَامِي , ثُمَّ بَعْد ذَلِكَ حَرَّمَ أُمُورًا كَثِيرَة كَالْحُمُرِ الْإِنْسِيَّة وَلُحُوم الْبِغَال وَغَيْرهَا , وَكُلّ ذِي نَاب مِنْ السِّبَاع وَكُلّ ذِي مِخْلَب مِنْ الطَّيْر . قَالَ أَبُو عُمَر : وَيَلْزَم عَلَى قَوْل مَنْ قَالَ : | لَا مُحَرَّم إِلَّا مَا فِيهَا | أَلَّا يُحَرَّم مَا لَمْ يُذْكَر اِسْم اللَّه عَلَيْهِ عَمْدًا , وَتُسْتَحَلّ الْخَمْر الْمُحَرَّمَة عِنْد جَمَاعَة الْمُسْلِمِينَ . وَفِي إِجْمَاع الْمُسْلِمِينَ عَلَى تَحْرِيم خَمْر الْعِنَب دَلِيل وَاضِح عَلَى أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ وَجَدَ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ مُحَرَّمًا غَيْر مَا فِي سُورَة | الْأَنْعَام | مِمَّا قَدْ نَزَلَ بَعْدهَا مِنْ الْقُرْآن . وَقَدْ اِخْتَلَفَتْ الرِّوَايَة عَنْ مَالِك فِي لُحُوم السِّبَاع وَالْحَمِير وَالْبِغَال فَقَالَ مَرَّة : هِيَ مُحَرَّمَة ; لِمَا وَرَدَ مِنْ نَهْيه عَلَيْهِ السَّلَام عَنْ ذَلِكَ , وَهُوَ الصَّحِيح مِنْ قَوْله عَلَى مَا فِي الْمُوَطَّإِ . وَقَالَ مَرَّة : هِيَ مَكْرُوهَة , وَهُوَ ظَاهِر الْمُدَوَّنَة ; لِظَاهِرِ الْآيَة ; وَلِمَا رُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس وَابْن عُمَر وَعَائِشَة مِنْ إِبَاحَة أَكْلهَا , وَهُوَ قَوْل الْأَوْزَاعِيّ . رَوَى الْبُخَارِيّ مِنْ رِوَايَة عَمْرو بْن دِينَار قَالَ : قُلْت لِجَابِرِ بْن زَيْد إِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ لُحُوم الْحُمُر الْأَهْلِيَّة ؟ فَقَالَ : قَدْ كَانَ يَقُول ذَلِكَ الْحَكَم بْن عَمْرو الْغِفَارِيّ عِنْدنَا بِالْبَصْرَةِ ; وَلَكِنْ أَبَى ذَلِكَ الْبَحْر اِبْن عَبَّاس , وَقَرَأَ | قُلْ لَا أَجِد فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا | . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عُمَر أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ لُحُوم السِّبَاع فَقَالَ : لَا بَأْس بِهَا . فَقِيلَ لَهُ : حَدِيث أَبِي ثَعْلَبَة الْخُشَنِيّ فَقَالَ : لَا نَدَع كِتَاب اللَّه رَبّنَا لِحَدِيثِ أَعْرَابِيّ يَبُول عَلَى سَاقَيْهِ . وَسُئِلَ الشَّعْبِيّ عَنْ لَحْم الْفِيل وَالْأَسَد فَتَلَا هَذِهِ الْآيَة : وَقَالَ الْقَاسِم : كَانَتْ عَائِشَة تَقُول لَمَّا سَمِعْت النَّاس يَقُولُونَ حُرِّمَ كُلّ ذِي نَاب مِنْ السِّبَاع : ذَلِكَ حَلَال , وَتَتْلُو هَذِهِ الْآيَة | قُلْ لَا أَجِد فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا | ثُمَّ قَالَتْ : إِنْ كَانَتْ الْبُرْمَة لِيَكُونَ مَاؤُهَا أَصْفَر مِنْ الدَّم ثُمَّ يَرَاهَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يُحَرِّمهَا . وَالصَّحِيح فِي هَذَا الْبَاب مَا بَدَأْنَا بِذِكْرِهِ , وَإِنَّ مَا وَرَدَ مِنْ الْمُحَرَّمَات بَعْد الْآيَة مَضْمُوم إِلَيْهَا مَعْطُوف عَلَيْهَا . وَقَدْ أَشَارَ الْقَاضِي أَبُو بَكْر بْن الْعَرَبِيّ إِلَى هَذَا فِي قَبَسه خِلَاف مَا ذَكَرَ فِي أَحْكَامه قَالَ : رُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّ هَذِهِ الْآيَة مِنْ آخِر مَا نَزَلَ ; فَقَالَ الْبَغْدَادِيُّونَ مِنْ أَصْحَابنَا : إِنَّ كُلّ مَا عَدَاهَا حَلَال , لَكِنَّهُ يَكْرَه أَكْل السِّبَاع . وَعِنْد فُقَهَاء الْأَمْصَار مِنْهُمْ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو حَنِيفَة وَعَبْد الْمَلِك أَنَّ أَكْل كُلّ ذِي نَاب مِنْ السِّبَاع حَرَام , وَلَيْسَ يَمْتَنِع أَنْ تَقَع الزِّيَادَة بَعْد قَوْله : | قُلْ لَا أَجِد فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا | بِمَا يَرِد مِنْ الدَّلِيل فِيهَا ; كَمَا قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا يَحِلّ دَم اِمْرِئٍ مُسْلِم إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاث ) فَذَكَرَ الْكُفْر وَالزِّنَى وَالْقَتْل . ثُمَّ قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إِنَّ أَسْبَاب الْقَتْل عَشَرَة بِمَا وَرَدَ مِنْ الْأَدِلَّة , إِذْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا يُخْبِر بِمَا وَصَلَ إِلَيْهِ مِنْ الْعِلْم عَنْ الْبَارِي تَعَالَى ; وَهُوَ يَمْحُو مَا يَشَاء وَيُثْبِت وَيَنْسَخ وَيُقَدِّر . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( أَكْل كُلّ ذِي نَاب مِنْ السِّبَاع حَرَام ) وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ أَكْل كُلّ ذِي نَاب مِنْ السِّبَاع وَذِي مِخْلَب مِنْ الطَّيْر . وَرَوَى مُسْلِم عَنْ مَعْن عَنْ مَالِك : | نَهْي عَنْ أَكْل كُلّ ذِي مِخْلَب مِنْ الطَّيْر | وَالْأَوَّل أَصَحّ وَتَحْرِيم كُلّ ذِي نَاب مِنْ السِّبَاع هُوَ صَرِيح الْمَذْهَب وَبِهِ تَرْجَمَ مَالِك فِي الْمُوَطَّإِ حِين قَالَ : تَحْرِيم أَكْل كُلّ ذِي نَاب مِنْ السِّبَاع . ثُمَّ ذَكَرَ الْحَدِيث وَعَقَّبَهُ بَعْد ذَلِكَ بِأَنْ قَالَ : وَهُوَ الْأَمْر عِنْدنَا . فَأَخْبَرَ أَنَّ الْعَمَل اِطَّرَدَ مَعَ الْأَثَر . قَالَ الْقُشَيْرِيّ : فَقَوْل مَالِك | هَذِهِ الْآيَة مِنْ أَوَاخِر مَا نَزَلَ | لَا يَمْنَعنَا مِنْ أَنْ نَقُول : ثَبَتَ تَحْرِيم بَعْض هَذِهِ الْأَشْيَاء بَعْد هَذِهِ الْآيَة , وَقَدْ أَحَلَّ اللَّه الطَّيِّبَات وَحَرَّمَ الْخَبَائِث , وَنَهَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَكْل كُلّ ذِي نَاب مِنْ السِّبَاع , وَعَنْ أَكْل كُلّ ذِي مِخْلَب مِنْ الطَّيْر , وَنَهَى عَنْ لُحُوم الْحُمُر الْأَهْلِيَّة عَام خَيْبَر . وَاَلَّذِي يَدُلّ عَلَى صِحَّة هَذَا التَّأْوِيل الْإِجْمَاع عَلَى تَحْرِيم الْعَذِرَة وَالْبَوْل وَالْحَشَرَات الْمُسْتَقْذَرَة وَالْحُمُر مِمَّا لَيْسَ مَذْكُورًا فِي هَذِهِ الْآيَة .</p><p>قَوْله تَعَالَى : | مُحَرَّمًا | قَالَ اِبْن عَطِيَّة : لَفْظَة التَّحْرِيم إِذَا وَرَدَتْ عَلَى لِسَان رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهَا صَالِحَة أَنْ تَنْتَهِي بِالشَّيْءِ الْمَذْكُور غَايَة الْحَظْر وَالْمَنْع , وَصَالِحَة أَيْضًا بِحَسَبِ اللُّغَة أَنْ تَقِف دُون الْغَايَة فِي حَيِّز الْكَرَاهَة وَنَحْوهَا ; فَمَا اِقْتَرَنَتْ بِهِ قَرِينَة التَّسْلِيم مِنْ الصَّحَابَة الْمُتَأَوِّلِينَ وَأَجْمَعَ الْكُلّ مِنْهُمْ وَلَمْ تَضْطَرِب فِيهِ أَلْفَاظ الْأَحَادِيث وَجَبَ بِالشَّرْعِ أَنْ يَكُون تَحْرِيمه قَدْ وَصَلَ الْغَايَة مِنْ الْحَظْر وَالْمَنْع , وَلَحِقَ بِالْخِنْزِيرِ وَالْمَيْتَة وَالدَّم , وَهَذِهِ صِفَة تَحْرِيم الْخَمْر . وَمَا اِقْتَرَنَتْ بِهِ قَرِينَة اِضْطِرَاب أَلْفَاظ الْأَحَادِيث وَاخْتَلَفَتْ الْأَئِمَّة فِيهِ مَعَ عِلْمهمْ بِالْأَحَادِيثِ كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( أَكْل كُلّ ذِي نَاب مِنْ السِّبَاع حَرَام ) . وَقَدْ وَرَدَ نَهْي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَكْل كُلّ ذِي نَاب مِنْ السِّبَاع , ثُمَّ اِخْتَلَفَتْ الصَّحَابَة وَمَنْ بَعْدهمْ فِي تَحْرِيم ذَلِكَ , فَجَازَ لِهَذِهِ الْوُجُوه لِمَنْ يَنْظُر أَنْ يَحْمِل لَفْظ التَّحْرِيم عَلَى الْمَنْع الَّذِي هُوَ الْكَرَاهَة وَنَحْوهَا . وَمَا اِقْتَرَنَتْ بِهِ قَرِينَة التَّأْوِيل كَتَحْرِيمِهِ عَلَيْهِ السَّلَام لُحُوم الْحُمُر الْإِنْسِيَّة فَتَأَوَّلَ بَعْض الصَّحَابَة الْحَاضِرِينَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ نَجِس , وَتَأَوَّلَ بَعْضهمْ ذَلِكَ لِئَلَّا تَفْنَى حَمُولَة النَّاس , وَتَأَوَّلَ بَعْضهمْ التَّحْرِيم الْمَحْض . وَثَبَتَ فِي الْأُمَّة الِاخْتِلَاف فِي تَحْرِيم لَحْمهَا ; فَجَائِز لِمَنْ يَنْظُر مِنْ الْعُلَمَاء أَنْ يَحْمِل لَفْظ التَّحْرِيم عَلَى الْمَنْع الَّذِي هُوَ الْكَرَاهَة وَنَحْوهَا بِحَسَبِ اِجْتِهَاده وَقِيَاسه . قُلْت : وَهَذَا عَقْد حَسَن فِي هَذَا الْبَاب وَفِي سَبَب الْخِلَاف عَلَى مَا تَقَدَّمَ . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ الْحِمَار لَا يُؤْكَل , لِأَنَّهُ أَبْدَى جَوْهَره الْخَبِيث حَيْثُ نَزَا عَلَى ذَكَر وَتَلَوَّطَ ; فَسُمِّيَ رِجْسًا . قَالَ مُحَمَّد بْن سِيرِينَ : لَيْسَ شَيْء مِنْ الدَّوَابّ يَعْمَل عَمَل قَوْم لُوط إِلَّا الْخِنْزِير وَالْحِمَار ; ذَكَرَهُ التِّرْمِذِيّ فِي نَوَادِر الْأُصُول . رَوَى عَمْرو بْن دِينَار عَنْ أَبِي الشَّعْثَاء عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : كَانَ أَهْل الْجَاهِلِيَّة يَأْكُلُونَ أَشْيَاء وَيَتْرُكُونَ أَشْيَاء , فَبَعَثَ اللَّه نَبِيّه عَلَيْهِ السَّلَام وَأَنْزَلَ كِتَابه وَأَحَلَّ حَلَاله وَحَرَّمَ حَرَامه ; فَمَا أَحَلَّ فَهُوَ حَلَال وَمَا حَرَّمَ فَهُوَ حَرَام وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَفْو , وَتَلَا هَذِهِ الْآيَة | قُلْ لَا أَجِد | الْآيَة . يَعْنِي مَا لَمْ يُبَيِّن تَحْرِيمه فَهُوَ مُبَاح بِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَة . وَرَوَى الزُّهْرِيّ عَنْ عُبَيْد اللَّه بْن عَبْد اللَّه بْن عَبَّاس أَنَّهُ قَرَأَ | قُلْ لَا أَجِد فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا | قَالَ : إِنَّمَا حَرَّمَ مِنْ الْمَيْتَة أَكْلهَا , مَا يُؤْكَل مِنْهَا وَهُوَ اللَّحْم ; فَأَمَّا الْجِلْد وَالْعَظْم وَالصُّوف وَالشَّعْر فَحَلَال . وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ مِلْقَام بْن تَلِب عَنْ أَبِيهِ قَالَ : صَحِبْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ أَسْمَع لِحَشَرَةِ الْأَرْض تَحْرِيمًا . الْحَشَرَة : صِغَار دَوَابّ الْأَرْض كَالْيَرَابِيعِ وَالضِّبَاب وَالْقَنَافِذ . وَنَحْوهَا ; قَالَ الشَّاعِر : <br>أَكَلْنَا الرُّبَى يَا أُمّ عَمْرو وَمَنْ يَكُنْ .......... غَرِيبًا لَدَيْكُمْ يَأْكُل الْحَشَرَات <br>أَيْ مَا دَبَّ وَدَرَجَ . وَالرُّبَى جَمْع رُبْيَة وَهِيَ الْفَأْرَة . قَالَ الْخَطَّابِيّ : وَلَيْسَ فِي قَوْله | لَمْ أَسْمَع لَهَا تَحْرِيمًا | دَلِيل عَلَى أَنَّهَا مُبَاحَة ; لِجَوَازِ أَنْ يَكُون غَيْره قَدْ سَمِعَهُ . وَقَدْ اِخْتَلَفَ النَّاس فِي الْيَرْبُوع وَالْوَبَر وَالْجَمْع وَبَار وَنَحْوهمَا مِنْ الْحَشَرَات ; فَرَخَّصَ فِي الْيَرْبُوع عُرْوَة وَعَطَاء وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْر . قَالَ الشَّافِعِيّ : لَا بَأْس بِالْوَبَرِ وَكَرِهَهُ اِبْن سِيرِينَ وَالْحَكَم وَحَمَّاد وَأَصْحَاب الرَّأْي . وَكَرِهَ أَصْحَاب الرَّأْي الْقُنْفُذ . وَسُئِلَ عَنْهُ مَالِك بْن أَنَس فَقَالَ : لَا أَدْرِي . وَحَكَى أَبُو عَمْرو : وَقَالَ مَالِك لَا بَأْس بِأَكْلِ الْقُنْفُذ . وَكَانَ أَبُو ثَوْر لَا يَرَى بِهِ بَأْسًا ; وَحَكَاهُ عَنْ الشَّافِعِيّ . وَسُئِلَ عَنْهُ اِبْن عُمَر فَتَلَا | قُلْ لَا أَجِد فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا | الْآيَة ; فَقَالَ شَيْخ عِنْده سَمِعْت أَبَا هُرَيْرَة يَقُول : ذُكِرَ عِنْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : ( خَبِيثَة مِنْ الْخَبَائِث ) . فَقَالَ اِبْن عُمَر : إِنْ كَانَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا فَهُوَ كَمَا قَالَ . ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد . وَقَالَ مَالِك : لَا بَأْس بِأَكْلِ الضَّبّ وَالْيَرْبُوع وَالْوَرَل . وَجَائِز عِنْده أَكْل الْحَيَّات إِذَا ذُكِّيَتْ ; وَهُوَ قَوْل اِبْن أَبِي لَيْلَى وَالْأَوْزَاعِيّ . وَكَذَلِكَ الْأَفَاعِي وَالْعَقَارِب وَالْفَأْر وَالْعَظَايَة وَالْقُنْفُذ وَالضُّفْدَع . وَقَالَ اِبْن الْقَاسِم : وَلَا بَأْس بِأَكْلِ خَشَاش الْأَرْض وَعَقَارِبهَا وَدُودهَا فِي قَوْل مَالِك ; لِأَنَّهُ قَالَ : مَوْته فِي الْمَاء لَا يُفْسِدهُ . وَقَالَ مَالِك : لَا بَأْس بِأَكْلِ فِرَاخ النَّحْل وَدُود الْجُبْن وَالتَّمْر وَنَحْوه . وَالْحُجَّة لَهُ حَدِيث مِلْقَام بْن تَلِب , وَقَوْل اِبْن عَبَّاس وَأَبِي الدَّرْدَاء : مَا أَحَلَّ اللَّه فَهُوَ حَلَال وَمَا حَرَّمَ فَهُوَ حَرَام وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَفْو . وَقَالَتْ عَائِشَة فِي الْفَأْرَة : مَا هِيَ بِحَرَامٍ , وَقَرَأَتْ | قُلْ لَا أَجِد فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا | . وَمِنْ عُلَمَاء أَهْل الْمَدِينَة جَمَاعَة لَا يُجِيزُونَ أَكْل كُلّ شَيْء مِنْ خَشَاش الْأَرْض وَهَوَامّهَا ; مِثْل الْحَيَّات وَالْأَوْزَاغ وَالْفَأْر وَمَا أَشْبَهَهُ . وَكُلّ مَا يَجُوز قَتْله فَلَا يَجُوز عِنْد هَؤُلَاءِ أَكْله , وَلَا تَعْمَل الذَّكَاة عِنْدهمْ فِيهِ . وَهُوَ قَوْل اِبْن شِهَاب وَعُرْوَة وَالشَّافِعِيّ وَأَبِي حَنِيفَة وَأَصْحَابه وَغَيْرهمْ . وَلَا يُؤْكَل عِنْد مَالِك وَأَصْحَابه شَيْء مِنْ سِبَاع الْوَحْش كُلّهَا , وَلَا الْهِرّ الْأَهْلِيّ وَلَا الْوَحْشِيّ لِأَنَّهُ سَبُع . وَقَالَ : وَلَا يُؤْكَل الضَّبُع وَلَا الثَّعْلَب , وَلَا بَأْس بِأَكْلِ سِبَاع الطَّيْر كُلّهَا : الرَّخَم وَالنُّسُور وَالْعِقْبَان وَغَيْرهَا , مَا أَكَلَ الْجِيَف مِنْهَا وَمَا لَمْ يَأْكُل . وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ الطَّيْر كُلّه حَلَال , إِلَّا أَنَّهُمْ يَكْرَهُونَ الرَّخَم . وَحُجَّة مَالِك أَنَّهُ لَمْ يَجِد أَحَدًا مِنْ أَهْل الْعِلْم يَكْرَه أَكْل سِبَاع الطَّيْر , وَأَنْكَرَ الْحَدِيث عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( أَنَّهُ نَهَى عَنْ أَكْل كُلّ ذِي مِخْلَب مِنْ الطَّيْر ) . وَرُوِيَ عَنْ أَشْهَب أَنَّهُ قَالَ : لَا بَأْس بِأَكْلِ الْفِيل إِذَا ذُكِّيَ ; وَهُوَ قَوْل الشَّعْبِيّ , وَمَنَعَ مِنْهُ الشَّافِعِيّ . وَكَرِهَ النُّعْمَان وَأَصْحَابه أَكْل الضَّبُع وَالثَّعْلَب . وَرَخَّصَ فِي ذَلِكَ الشَّافِعِيّ , وَرُوِيَ عَنْ سَعْد بْن أَبِي وَقَّاص أَنَّهُ كَانَ يَأْكُل الضِّبَاع . وَحُجَّة مَالِك عُمُوم النَّهْي عَنْ أَكْل كُلّ ذِي نَاب مِنْ السِّبَاع , وَلَمْ يَخُصّ سَبُعًا مِنْ سَبُع . وَلَيْسَ حَدِيث الضَّبُع الَّذِي خَرَّجَهُ النَّسَائِيّ فِي إِبَاحَة أَكْلهَا مِمَّا يُعَارِض بِهِ حَدِيث النَّهْي ; لِأَنَّهُ حَدِيث اِنْفَرَدَ بِهِ عَبْد الرَّحْمَن بْن أَبِي عَمَّار , وَلَيْسَ مَشْهُورًا بِنَقْلِ الْعِلْم , وَلَا مِمَّنْ يُحْتَجّ بِهِ إِذَا خَالَفَهُ مَنْ هُوَ أَثْبَت مِنْهُ . قَالَ أَبُو عُمَر : وَقَدْ رُوِيَ النَّهْي عَنْ أَكْل كُلّ ذِي نَاب مِنْ السِّبَاع مِنْ طُرُق مُتَوَاتِرَة . وَرَوَى ذَلِكَ جَمَاعَة مِنْ الْأَئِمَّة الثِّقَات الْأَثْبَات , وَمُحَال أَنْ يُعَارَضُوا بِمِثْلِ حَدِيث اِبْن أَبِي عَمَّار . قَالَ أَبُو عُمَر : أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوز أَكْل الْقِرْد لِنَهْيِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَكْله , وَلَا يَجُوز بَيْعه لِأَنَّهُ لَا مَنْفَعَة فِيهِ . قَالَ : وَمَا عَلِمْت أَحَدًا رَخَّصَ فِي أَكْله إِلَّا مَا ذَكَرَهُ عَبْد الرَّزَّاق عَنْ مَعْمَر عَنْ أَيُّوب . سُئِلَ مُجَاهِد عَنْ أَكْل الْقِرْد فَقَالَ : لَيْسَ مِنْ بَهِيمَة الْأَنْعَام . قُلْت : ذَكَرَ اِبْن الْمُنْذِر أَنَّهُ قَالَ : رُوِّينَا عَنْ عَطَاء أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْقِرْد يُقْتَل فِي الْحَرَم فَقَالَ : يَحْكُم بِهِ ذَوَا عَدْل . قَالَ : فَعَلَى مَذْهَب عَطَاء يَجُوز أَكْل لَحْمه ; لِأَنَّ الْجَزَاء لَا يَجِب عَلَى مَنْ قَتَلَ غَيْر الصَّيْد . وَفِي ( بَحْر الْمَذْهَب ) لِلرُّويَانِيّ عَلَى مَذْهَب الْإِمَام الشَّافِعِيّ : وَقَالَ الشَّافِعِيّ يَجُوز بَيْع الْقِرْد لِأَنَّهُ يَعْلَم وَيَنْتَفِع بِهِ لِحِفْظِ الْمَتَاع . وَحَكَى الْكَشْفَلِيّ عَنْ اِبْن شُرَيْح يَجُوز بَيْعه لِأَنَّهُ يَنْتَفِع بِهِ . فَقِيلَ لَهُ : وَمَا وَجْه الِانْتِفَاع بِهِ ؟ قَالَ تَفْرَح بِهِ الصِّبْيَان . قَالَ أَبُو عُمَر : وَالْكَلْب وَالْفِيل وَذُو النَّاب كُلّه عِنْدِي مِثْل الْقِرْد . وَالْحُجَّة فِي قَوْل رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا فِي قَوْل غَيْره . وَقَدْ زَعَمَ نَاس أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الْعَرَب مَنْ يَأْكُل لَحْم الْكَلْب إِلَّا قَوْم مِنْ فَقْعَس . وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ اِبْن عُمَر قَالَ : نَهَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَكْل الْجَلَّالَة وَأَلْبَانهَا . فِي رِوَايَة : عَنْ الْجَلَّالَة فِي الْإِبِل أَنْ يَرْكَب عَلَيْهَا أَوْ يَشْرَب مِنْ أَلْبَانهَا . قَالَ الْحَلِيمِيّ أَبُو عَبْد اللَّه : فَأَمَّا الْجَلَّالَة فَهِيَ الَّتِي تَأْكُل الْعَذِرَة مِنْ الدَّوَابّ وَالدَّجَاج الْمُخَلَّاة . وَنَهَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ لُحُومهَا . وَقَالَ الْعُلَمَاء : كُلّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا رِيح الْعَذِرَة فِي لَحْمه أَوْ طَعْمه فَهُوَ حَرَام , وَمَا لَمْ يَظْهَر فَهُوَ حَلَال . وَقَالَ الْخَطَّابِيّ : هَذَا نَهْي تَنَزُّه وَتَنَظُّف , وَذَلِكَ أَنَّهَا إِذَا اِغْتَذَتْ الْجِلَّة وَهِيَ الْعَذِرَة وُجِدَ نَتْن رَائِحَتهَا فِي لُحُومهَا , وَهَذَا إِذَا كَانَ غَالِب عَلَفهَا مِنْهَا ; فَأَمَّا إِذَا رَعَتْ الْكَلَأ وَاعْتَلَفَتْ الْحَبّ وَكَانَتْ تَنَال مَعَ ذَلِكَ شَيْئًا مِنْ الْجِلَّة فَلَيْسَتْ بِجَلَّالَةٍ ; وَإِنَّمَا هِيَ كَالدَّجَاجِ الْمُخَلَّاة , وَنَحْوهَا مِنْ الْحَيَوَان الَّذِي رُبَّمَا نَالَ الشَّيْء مِنْهَا وَغَالِب غِذَائِهِ وَعَلَفه مِنْ غَيْره فَلَا يُكْرَهُ أَكْلهَا . وَقَالَ أَصْحَاب الرَّأْي وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد : لَا تُؤْكَل حَتَّى تُحْبَس أَيَّامًا وَتُعْلَف عَلَفًا غَيْرهَا ; فَإِذَا طَابَ لَحْمهَا أُكِلَتْ . وَقَدْ رُوِيَ فِي الْحَدِيث ( أَنَّ الْبَقَر تُعْلَف أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ يُؤْكَل لَحْمهَا ) . وَكَانَ اِبْن عُمَر يَحْبِس الدَّجَاج ثَلَاثًا ثُمَّ يَذْبَح . وَقَالَ إِسْحَاق : لَا بَأْس بِأَكْلِهَا بَعْد أَنْ يُغْسَل لَحْمهَا غَسْلًا جَيِّدًا . وَكَانَ الْحَسَن لَا يَرَى بَأْسًا بِأَكْلِ لَحْم الْجَلَّالَة ; وَكَذَلِكَ مَالِك بْن أَنَس . وَمِنْ هَذَا الْبَاب نُهِيَ أَنْ تُلْقَى فِي الْأَرْض الْعَذِرَة . رُوِيَ عَنْ بَعْضهمْ قَالَ : كُنَّا نَكْرِي أَرْض رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَشْتَرِط عَلَى مَنْ يُكْرِيهَا أَلَّا يُلْقِي فِيهَا الْعَذِرَة . وَعَنْ اِبْن عُمَر أَنَّهُ كَانَ يُكْرِي أَرْضه وَيَشْتَرِط أَلَّا تُدْمَن بِالْعَذِرَةِ . وَرُوِيَ أَنَّ رَجُل كَانَ يَزْرَع أَرْضه بِالْعَذِرَةِ فَقَالَ لَهُ عُمَر : أَنْتَ الَّذِي تُطْعِم النَّاس مَا يَخْرُج مِنْهُمْ . وَاخْتَلَفُوا فِي أَكْل الْخَيْل ; فَأَبَاحَهَا الشَّافِعِيّ , وَهُوَ الصَّحِيح , وَكَرِهَهَا مَالِك . وَأَمَّا الْبَغْل فَهُوَ مُتَوَلِّد مِنْ بَيْن الْحِمَار وَالْفَرَس , وَأَحَدهمَا مَأْكُول أَوْ مَكْرُوه وَهُوَ الْفَرَس , وَالْآخَر مُحَرَّم وَهُوَ الْحِمَار ; فَغَلَبَ حُكْم التَّحْرِيم ; لِأَنَّ التَّحْلِيل وَالتَّحْرِيم إِذَا اِجْتَمَعَا فِي عَيْن وَاحِدَة غَلَبَ حُكْم التَّحْرِيم . وَسَيَأْتِي بَيَان هَذِهِ الْمَسْأَلَة فِي | النَّحْل | إِنْ شَاءَ اللَّه بِأَوْعَبَ مِنْ هَذَا . وَسَيَأْتِي حُكْم الْجَرَاد فِي | الْأَعْرَاف | . وَالْجُمْهُور مِنْ الْخَلَف وَالسَّلَف عَلَى جَوَاز أَكْل الْأَرْنَب . وَقَدْ حُكِيَ عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو بْن الْعَاصِ تَحْرِيمه . وَعَنْ اِبْن أَبِي لَيْلَى كَرَاهَته . قَالَ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو : جِيءَ بِهَا إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا جَالِس فَلَمْ يَأْكُلهَا وَلَمْ يَنْهَ عَنْ أَكْلهَا . وَزَعَمَ أَنَّهَا تَحِيض . ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد . وَرَوَى النَّسَائِيّ مُرْسَلًا عَنْ مُوسَى بْن طَلْحَة قَالَ : أُتِيَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَرْنَبٍ قَدْ شَوَاهَا رَجُل وَقَالَ : يَا رَسُول اللَّه , إِنِّي رَأَيْت بِهَا دَمًا ; فَتَرَكَهَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَأْكُلهَا , وَقَالَ لِمَنْ عِنْده : ( كُلُوا فَإِنِّي لَوْ اِشْتَهَيْتهَا أَكَلْتهَا ) . قُلْت : وَلَيْسَ فِي هَذَا مَا يَدُلّ عَلَى تَحْرِيمه , وَإِنَّمَا هُوَ نَحْو مِنْ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي فَأَجِدنِي أَعَافهُ ) . وَقَدْ رَوَى مُسْلِم فِي صَحِيحه عَنْ أَنَس بْن مَالِك قَالَ : مَرَرْنَا بِمَرِّ الظَّهْرَانِ فَاسْتَنْفَجْنَا أَرْنَبًا فَسَعَوْا عَلَيْهِ فَلَغِبُوا . قَالَ : فَسَعَيْت حَتَّى أَدْرَكَتْهَا , فَأَتَيْت بِهَا أَبَا طَلْحَة فَذَبَحَهَا , فَبَعَثَ بِوَرِكِهَا وَفَخِذهَا إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَأَتَيْت بِهَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَبِلَهُ .|عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ|أَيْ آكِل يَأْكُلهُ . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَامِر أَنَّهُ قَرَأَ | أَوْحَى | بِفَتْحِ الْهَمْزَة . وَقَرَأَ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب | يَطَّعِمُهُ | مُثَقَّل الطَّاء , أَرَادَ يَتَطَعَّمُهُ فَأُدْغِمَ . وَقَرَأَتْ عَائِشَة وَمُحَمَّد اِبْن الْحَنَفِيَّة | عَلَى طَاعِم طَعِمَهُ | بِفِعْلٍ مَاضٍ|إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ|قُرِئَ بِالْيَاءِ وَالتَّاء ; أَيْ إِلَّا أَنْ تَكُون الْعَيْن أَوْ الْجُثَّة أَوْ النَّفْس مَيْتَة . وَقُرِئَ | يَكُون | بِالْيَاءِ | مَيْتَةٌ | بِالرَّفْعِ بِمَعْنَى تَقَع وَتُحْدِث مَيْتَة . وَالْمَسْفُوح : الْجَارِي الَّذِي يَسِيل وَهُوَ الْمُحَرَّم . وَغَيْره مَعْفُوّ عَنْهُ . وَحَكَى الْمَاوَرْدِيّ أَنَّ الدَّم غَيْر الْمَسْفُوح أَنَّهُ إِنْ كَانَ ذَا عُرُوق يَجْمُد عَلَيْهَا كَالْكَبِدِ وَالطِّحَال فَهُوَ حَلَال ; لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ ) الْحَدِيث . وَإِنْ كَانَ غَيْر ذِي عُرُوق يَجْمُد عَلَيْهَا , وَإِنَّمَا هُوَ مَعَ اللَّحْم فَفِي تَحْرِيمه قَوْلَانِ : أَحَدهمَا أَنَّهُ حَرَام ; لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَة الْمَسْفُوح أَوْ بَعْضه . وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْمَسْفُوح لِاسْتِثْنَاءِ الْكَبِد وَالطِّحَال مِنْهُ . وَالثَّانِي أَنَّهُ لَا يُحَرَّم ; لِتَخْصِيصِ التَّحْرِيم بِالْمَسْفُوحِ . قُلْت : وَهُوَ الصَّحِيح . قَالَ عِمْرَان بْن حُدَيْر : سَأَلْت أَبَا مِجْلَز عَمَّا يَتَلَطَّخ مِنْ اللَّحْم بِالدَّمِ , وَعَنْ الْقِدْر تَعْلُوهَا الْحُمْرَة مِنْ الدَّم فَقَالَ : لَا بَأْس بِهِ , إِنَّمَا حَرَّمَ اللَّه الْمَسْفُوح . وَقَالَتْ نَحْوه عَائِشَة وَغَيْرهَا , وَعَلَيْهِ إِجْمَاع الْعُلَمَاء . وَقَالَ عِكْرِمَة : لَوْلَا هَذِهِ الْآيَة لَاتَّبَعَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ الْعُرُوق مَا تَتْبَع الْيَهُود . وَقَالَ إِبْرَاهِيم النَّخَعِيّ : لَا بَأْس بِالدَّمِ فِي عِرْق أَوْ مُخّ . وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا وَحُكْم الْمُضْطَرّ فِي | الْبَقَرَة | وَاَللَّه أَعْلَم | .

وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ

لَمَّا ذَكَرَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ مَا حَرَّمَ عَلَى أُمَّة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَقَّبَ ذَلِكَ بِذِكْرِ مَا حَرَّمَ عَلَى الْيَهُود ; لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَكْذِيبهمْ فِي قَوْلهمْ : إِنَّ اللَّه لَمْ يُحَرِّم عَلَيْنَا شَيْئًا , وَإِنَّمَا نَحْنُ حَرَّمْنَا عَلَى أَنْفُسنَا مَا حَرَّمَهُ إِسْرَائِيل عَلَى نَفْسه . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي | الْبَقَرَة | مَعْنَى | هَادُوا | [ الْبَقَرَة : 62 ] . وَهَذَا التَّحْرِيم عَلَى الَّذِينَ هَادُوا إِنَّمَا هُوَ تَكْلِيف بَلْوَى وَعُقُوبَة . فَأَوَّل مَا ذُكِرَ مِنْ الْمُحَرَّمَات عَلَيْهِمْ كُلّ ذِي ظُفُر . وَقَرَأَ الْحَسَن | ظُفْر | بِإِسْكَانِ الْفَاء . وَقَرَأَ أَبُو السِّمَال | ظِفْر | بِكَسْرِ الظَّاء وَإِسْكَان الْفَاء . وَأَنْكَرَ أَبُو حَاتِم كَسْر الظَّاء وَإِسْكَان الْفَاء , وَلَمْ يَذْكُر هَذِهِ الْقِرَاءَة وَهِيَ لُغَة . | وَظِفِر | بِكَسْرِهِمَا . وَالْجَمْع أَظْفَار وَأُظْفُور وَأَظَافِير ; قَالَهُ الْجَوْهَرِيّ . وَزَادَ النَّحَّاس عَنْ الْفَرَّاء أَظَافِير وَأَظَافِرَة ; قَالَ اِبْن السِّكِّيت : يُقَال رَجُل أَظْفَر بَيِّن الظَّفَر إِذَا كَانَ طَوِيل الْأَظْفَار ; كَمَا يُقَال : رَجُل أَشْعَر لِلطَّوِيلِ الشَّعْر . قَالَ مُجَاهِد وَقَتَادَة : | ذِي ظُفُر | مَا لَيْسَ بِمُنْفَرِجِ الْأَصَابِع مِنْ الْبَهَائِم وَالطَّيْر ; مِثْل الْإِبِل وَالنَّعَام وَالْإِوَزّ وَالْبَطّ . وَقَالَ اِبْن زَيْد : الْإِبِل فَقَطْ . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : | ذِي ظُفُر | الْبَعِير وَالنَّعَامَة ; لِأَنَّ النَّعَامَة ذَات ظُفْر كَالْإِبِلِ . وَقِيلَ : يَعْنِي كُلّ ذِي مِخْلَب مِنْ الطَّيْر وَذِي حَافِر مِنْ الدَّوَابّ . وَيُسَمَّى الْحَافِر ظُفْرًا اِسْتِعَارَة . وَقَالَ التِّرْمِذِيّ الْحَكِيم : الْحَافِر ظُفْر , وَالْمِخْلَب ظُفْر ; إِلَّا أَنَّ هَذَا عَلَى قَدْره , وَذَاكَ عَلَى قَدْره وَلَيْسَ هَهُنَا اِسْتِعَارَة ; أَلَا تَرَى أَنَّ كِلَيْهِمَا يُقَصّ وَيُؤْخَذ مِنْهُمَا وَكِلَاهُمَا جِنْس وَاحِد : عَظْم لَيِّن رِخْو . أَصْله مِنْ غِذَاء يَنْبُت فَيَقُصّ مِثْل ظُفْر الْإِنْسَان , وَإِنَّمَا سُمِّيَ حَافِرًا لِأَنَّهُ يَحْفِر الْأَرْض بِوَقْعِهِ عَلَيْهَا . وَسُمِّيَ مِخْلَبًا لِأَنَّهُ يَخْلِب الطَّيْر بِرُءُوسِ تِلْكَ الْإِبَر مِنْهَا . وَسُمِّيَ ظُفْرًا لِأَنَّهُ يَأْخُذ الْأَشْيَاء بِظُفْرِهِ , أَيْ يَظْفَر بِهِ الْآدَمِيّ وَالطَّيْر .|وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا|قَالَ قَتَادَة : يَعْنِي الثُّرُوب وَشَحْم الْكُلْيَتَيْنِ ; وَقَالَهُ السُّدِّيّ . وَالثُّرُوب جَمْع الثَّرْب , وَهُوَ الشَّحْم الرَّقِيق الَّذِي يَكُون عَلَى الْكَرِش . قَالَ اِبْن جُرَيْج : حَرَّمَ عَلَيْهِمْ كُلّ شَحْم غَيْر مُخْتَلِط بِعَظْمٍ أَوْ عَلَى عَظْم , وَأُحِلَّ لَهُمْ شَحْم الْجَنْب وَالْأَلْيَة ; لِأَنَّهُ عَلَى الْعُصْعُص .|إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا|| مَا | فِي مَوْضِع نَصْب عَلَى الِاسْتِثْنَاء | ظُهُورُهُمَا | رُفِعَ ب | حَمَلَتْ | | أَوْ الْحَوَايَا | فِي مَوْضِع رَفْع عَطْف عَلَى الظُّهُور أَيْ أَوْ حَمَلَتْ حَوَايَاهُمَا , وَالْأَلِف وَاللَّام بَدَل مِنْ الْإِضَافَة . وَعَلَى هَذَا تَكُون الْحَوَايَا مِنْ جُمْلَة مَا أَحَلَّ . | أَوْ مَا اِخْتَلَطَ بِعَظْمٍ | | مَا | فِي مَوْضِع نَصْب عَطْف عَلَى | مَا حَمَلَتْ | أَيْضًا هَذَا أَصَحّ مَا قِيلَ فِيهِ . وَهُوَ قَوْل الْكِسَائِيّ وَالْفَرَّاء وَأَحْمَد بْن يَحْيَى . وَالنَّظَر يُوجِب أَنْ يَعْطِف الشَّيْء عَلَى مَا يَلِيه , إِلَّا أَلَّا يَصِحّ مَعْنَاهُ أَوْ يَدُلّ دَلِيل عَلَى غَيْر ذَلِكَ . وَقِيلَ : إِنَّ الِاسْتِثْنَاء فِي التَّحْلِيل إِنَّمَا هُوَ مَا حَمَلَتْ الظُّهُور خَاصَّة , وَقَوْله : | أَوْ الْحَوَايَا أَوْ مَا اِخْتَلَطَ بِعَظْمٍ | مَعْطُوف عَلَى الْمُحَرَّم . وَالْمَعْنَى : حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ شُحُومهمَا أَوْ الْحَوَايَا أَوْ مَا اِخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ; إِلَّا مَا حَمَلَتْ الظُّهُور فَإِنَّهُ غَيْر مُحَرَّم . وَقَدْ اِحْتَجَّ الشَّافِعِيّ بِهَذِهِ الْآيَة فِي أَنَّ مَنْ حَلَفَ أَلَّا يَأْكُل الشَّحْم حَنِثَ بِأَكْلِ شَحْم الظُّهُور ; لِاسْتِثْنَاءِ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ مَا عَلَى ظُهُورهمَا مِنْ جُمْلَة الشَّحْم .|أَوِ الْحَوَايَا|الْحَوَايَا : هِيَ الْمَبَاعِر , عَنْ اِبْن عَبَّاس وَغَيْره . وَهُوَ جَمْع مَبْعَر , سُمِّيَ بِذَلِكَ لِاجْتِمَاعِ الْبَعْر فِيهِ . وَهُوَ الزِّبْل . وَوَاحِد الْحَوَايَا حَاوِيَاء ; مِثْل قَاصِعَاء وَقَوَاصِع . وَقِيلَ : حَاوِيَة مِثْل ضَارِبَة وَضَوَارِب . وَقِيلَ : حَوِيَّة مِثْل سَفِينَة وَسَفَائِن . قَالَ أَبُو عُبَيْدَة : الْحَوَايَا مَا تَحَوَّى مِنْ الْبَطْن أَيْ اِسْتَدَارَ . وَهِيَ مُنْحَوِيَة أَيْ مُسْتَدِيرَة . وَقِيلَ : الْحَوَايَا خَزَائِن اللَّبَن , وَهُوَ يَتَّصِل بِالْمَبَاعِر وَهِيَ الْمَصَارِين . وَقِيلَ : الْحَوَايَا الْأَمْعَاء الَّتِي عَلَيْهَا الشُّحُوم . وَالْحَوَايَا فِي غَيْر هَذَا الْمَوْضِع : كِسَاء يُحَوَّى حَوْل سَنَام الْبَعِير . قَالَ اِمْرُؤُ الْقَيْس : <br>جَعَلْنَ حَوَايَا وَاقْتَعَدْنَ قَعَائِدًا .......... وَخَفَّفْنَ مِنْ حَوْك الْعِرَاق الْمُنَمَّق <br>فَأَخْبَرَ اللَّه سُبْحَانه أَنَّهُ كَتَبَ عَلَيْهِمْ تَحْرِيم هَذَا فِي التَّوْرَاة رَدًّا لِكَذِبِهِمْ . وَنَصّه فِيهَا : | حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ | الْمَيْتَة وَالدَّم وَلَحْم الْخِنْزِير وَكُلّ دَابَّة لَيْسَتْ مَشْقُوقَة الْحَافِر وَكُلّ حُوت لَيْسَ فِيهِ سَفَاسِق | أَيْ بَيَاض . ثُمَّ نَسَخَ اللَّه ذَلِكَ كُلّه بِشَرِيعَةِ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَأَبَاحَ لَهُمْ مَا كَانَ مُحَرَّمًا عَلَيْهِمْ مِنْ الْحَيَوَان , وَأَزَالَ الْحَرَج بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَام , وَأَلْزَمَ الْخَلِيقَة دِين الْإِسْلَام بِحِلِّهِ وَحِرْمه وَأَمْره وَنَهْيه .</p><p>لَوْ ذَبَحُوا أَنْعَامهمْ فَأَكَلُوا مَا أَحَلَّ اللَّه لَهُمْ فِي التَّوْرَاة وَتَرَكُوا مَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ فَهَلْ يَحِلّ لَنَا ; قَالَ مَالِك فِي كِتَاب مُحَمَّد : هِيَ مُحَرَّمَة . وَقَالَ فِي سَمَاع الْمَبْسُوط : هِيَ مُحَلَّلَة وَبِهِ قَالَ اِبْن نَافِع . وَقَالَ اِبْن الْقَاسِم : أَكْرَههُ . وَجْه الْأَوَّل أَنَّهُمْ يَدِينُونَ بِتَحْرِيمِهَا وَلَا يَقْصِدُونَهَا عِنْد الذَّكَاة , فَكَانَتْ مُحَرَّمَة كَالدَّمِ . وَوَجْه الثَّانِي وَهُوَ الصَّحِيح أَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ رَفَعَ ذَلِكَ التَّحْرِيم بِالْإِسْلَامِ , وَاعْتِقَادهمْ فِيهِ لَا يُؤَثِّر ; لِأَنَّهُ اِعْتِقَاد فَاسِد ; قَالَهُ اِبْن الْعَرَبِيّ . قُلْت : وَيَدُلّ عَلَى صِحَّته مَا رَوَاهُ الصَّحِيحَانِ عَنْ عَبْد اللَّه بْن مُغَفَّل قَالَ : كُنَّا مُحَاصِرِينَ قَصْر خَيْبَر , فَرَمَى إِنْسَان بِجِرَابٍ فِيهِ شَحْم فَنَزَوْت لِآخُذهُ فَالْتَفَتّ فَإِذَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَحْيَيْت مِنْهُ . لَفْظ الْبُخَارِيّ . وَلَفْظ مُسْلِم : قَالَ عَبْد اللَّه بْن مُغَفَّل : أَصَبْت جِرَابًا مِنْ شَحْم يَوْم خَيْبَر , قَالَ فَالْتَزَمْته وَقُلْت : لَا أُعْطِي الْيَوْم أَحَدًا مِنْ هَذَا شَيْئًا , قَالَ : فَالْتَفَتّ فَإِذَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَبَسِّمًا . قَالَ عُلَمَاؤُنَا : تَبَسُّمه عَلَيْهِ السَّلَام إِنَّمَا كَانَ لِمَا رَأَى مِنْ شِدَّة حِرْص اِبْن مُغَفَّل عَلَى أَخْذ الْجِرَاب وَمِنْ ضِنَته بِهِ , وَلَمْ يَأْمُرهُ بِطَرْحِهِ وَلَا نَهَاهُ . وَعَلَى جَوَاز الْأَكْل مَذْهَب أَبِي حَنِيفَة وَالشَّافِعِيّ وَعَامَّة الْعُلَمَاء ; غَيْر أَنَّ مَالِكًا كَرِهَهُ لِلْخِلَافِ فِيهِ . وَحَكَى اِبْن الْمُنْذِر عَنْ مَالِك تَحْرِيمهَا ; وَإِلَيْهِ ذَهَبَ كُبَرَاء أَصْحَاب مَالِك . وَمُتَمَسِّكهمْ مَا تَقَدَّمَ , وَالْحَدِيث حُجَّة عَلَيْهِمْ ; فَلَوْ ذَبَحُوا كُلّ ذِي ظُفُر قَالَ أَصْبَغ : مَا كَانَ مُحَرَّمًا فِي كِتَاب اللَّه مِنْ ذَبَائِحهمْ فَلَا يَحِلّ أَكْله ; لِأَنَّهُمْ يَدِينُونَ بِتَحْرِيمِهَا . وَقَالَهُ أَشْهَب وَابْن الْقَاسِم , وَأَجَازَهُ اِبْن وَهْب . وَقَالَ اِبْن حَبِيب : مَا كَانَ مُحَرَّمًا عَلَيْهِمْ , وَعَلِمْنَا ذَلِكَ مِنْ كِتَابنَا فَلَا يَحِلّ لَنَا مِنْ ذَبَائِحهمْ , وَمَا لَمْ نَعْلَم تَحْرِيمه إِلَّا مِنْ أَقْوَالهمْ وَاجْتِهَادهمْ فَهُوَ غَيْر مُحَرَّم عَلَيْنَا مِنْ ذَبَائِحهمْ .|أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ|أَيْ ذَلِكَ التَّحْرِيم . فَذَلِكَ فِي مَوْضِع رَفْع , أَيْ الْأَمْر ذَلِكَ .|جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ|أَيْ بِظُلْمِهِمْ , عُقُوبَة لَهُمْ لِقَتْلِهِمْ الْأَنْبِيَاء وَصَدّهمْ عَنْ سَبِيل اللَّه , وَأَخْذهمْ الرِّبَا وَاسْتِحْلَالهمْ أَمْوَال النَّاس بِالْبَاطِلِ . وَفِي هَذَا دَلِيل عَلَى أَنَّ التَّحْرِيم إِنَّمَا يَكُون بِذَنْبٍ ; لِأَنَّهُ ضَيِّق فَلَا يَعْدِل عَنْ السَّعَة إِلَيْهِ إِلَّا عِنْد الْمُؤَاخَذَة .|وَإِنَّا لَصَادِقُونَ|فِي إِخْبَارنَا عَنْ هَؤُلَاءِ الْيَهُود عَمَّا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ مِنْ اللُّحُوم وَالشُّحُوم .

فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ

شَرْط , وَالْجَوَاب | فَقُلْ رَبّكُمْ ذُو رَحْمَة وَاسِعَة | .|فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ|أَيْ مِنْ سَعَة رَحْمَته حَلُمَ عَنْكُمْ فَلَمْ يُعَاقِبكُمْ فِي الدُّنْيَا . ثُمَّ أَخْبَرَ بِمَا أَعَدَّهُ لَهُمْ فِي الْآخِرَة مِنْ الْعَذَاب فَقَالَ : | وَلَا يُرَدّ بَأْسه عَنْ الْقَوْم الْمُجْرِمِينَ | .|وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ|وَقِيلَ : الْمَعْنَى وَلَا يُرَدّ بَأْسه عَنْ الْقَوْم الْمُجْرِمِينَ إِذَا أَرَادَ حُلُوله فِي الدُّنْيَا .

سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلّ

قَالَ مُجَاهِد : يَعْنِي كُفَّار قُرَيْش .|لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا|يُرِيد الْبَحِيرَة وَالسَّائِبَة وَالْوَصِيلَة . أَخْبَرَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بِالْغَيْبِ عَمَّا سَيَقُولُونَهُ ; وَظَنُّوا أَنَّ هَذَا مُتَمَسَّك لَهُمْ لَمَّا لَزِمَتْهُمْ الْحُجَّة وَتَيَقَّنُوا بَاطِل مَا كَانُوا عَلَيْهِ . وَالْمَعْنَى : لَوْ شَاءَ اللَّه لَأَرْسَلَ إِلَى آبَائِنَا رَسُولًا فَنَهَاهُمْ عَنْ الشِّرْك وَعَنْ تَحْرِيم مَا أَحَلَّ لَهُمْ فَيَنْتَهُوا فَأَتْبَعْنَاهُمْ عَلَى ذَلِكَ . فَرَدَّ اللَّه عَلَيْهِمْ ذَلِكَ فَقَالَ : | قُلْ هَلْ عِنْدكُمْ مِنْ عِلْم فَتُخْرِجُوهُ لَنَا | .|قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا|أَيْ أَعِنْدكُمْ دَلِيل عَلَى أَنَّ هَذَا كَذَا ؟ .|إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ|فِي هَذَا الْقَوْل .|وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ|لِتُوهِمُوا ضَعَفَتكُمْ أَنَّ لَكُمْ حُجَّة . وَقَوْله | وَلَا آبَاؤُنَا | عَطْف عَلَى النُّون فِي | أَشْرَكْنَا | . وَلَمْ يَقُلْ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا ; لِأَنَّ قَوْله | وَلَا | قَامَ مَقَام تَوْكِيد الْمُضْمَر ; وَلِهَذَا حَسُنَ أَنْ يُقَال : مَا قُمْت وَلَا زَيْد .

قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ

| قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّة الْبَالِغَة | أَيْ الَّتِي تَقْطَع عُذْر الْمَحْجُوج , وَتُزِيل الشَّكّ عَمَّنْ نَظَرَ فِيهَا . فَحُجَّته الْبَالِغَة عَلَى هَذَا تَبْيِينه أَنَّهُ الْوَاحِد , وَإِرْسَاله الرُّسُل وَالْأَنْبِيَاء ; فَبَيَّنَ التَّوْحِيد بِالنَّظَرِ فِي الْمَخْلُوقَات , وَأَيَّدَ الرُّسُل بِالْمُعْجِزَاتِ , وَلَزِمَ أَمْره كُلّ مُكَلَّف . فَأَمَّا عِلْمه وَإِرَادَته وَكَلَامه فَغَيْب لَا يَطَّلِع عَلَيْهِ الْعَبْد , إِلَّا مَنْ اِرْتَضَى مِنْ رَسُول . وَيَكْفِي فِي التَّكْلِيف أَنْ يَكُون الْعَبْد بِحَيْثُ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَفْعَل مَا أُمِرَ بِهِ لَأَمْكَنَهُ . وَقَدْ لَبَّسَتْ الْمُعْتَزِلَة بِقَوْلِهِ : | لَوْ شَاءَ اللَّه مَا أَشْرَكْنَا | فَقَالُوا : قَدْ ذَمَّ اللَّه هَؤُلَاءِ الَّذِينَ جَعَلُوا شِرْكهمْ عَنْ مَشِيئَته . وَتَعَلُّقهمْ بِذَلِكَ بَاطِل ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى إِنَّمَا ذَمَّهُمْ عَلَى تَرْك اِجْتِهَادهمْ فِي طَلَب الْحَقّ . وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ عَلَى جِهَة الْهَزْء وَاللَّعِب . نَظِيره | وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَن مَا عَبَدْنَاهُمْ | [ الزُّخْرُف : 20 ] . وَلَوْ قَالُوهُ عَلَى جِهَة التَّعْظِيم وَالْإِجْلَال وَالْمَعْرِفَة بِهِ لَمَا عَابَهُمْ ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى يَقُول : | وَلَوْ شَاءَ اللَّه مَا أَشْرَكُوا | [ الْأَنْعَام : 107 ] . و | مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاء اللَّه | [ الْأَنْعَام : 111 ] . | وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ | [ النَّحْل : 9 ] . وَمِثْله كَثِير . فَالْمُؤْمِنُونَ يَقُولُونَهُ لِعِلْمٍ مِنْهُمْ بِاَللَّهِ تَعَالَى .

قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ

أَيْ قُلْ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ أَحْضِرُوا شُهَدَاءَكُمْ عَلَى أَنَّ اللَّه حَرَّمَ مَا حَرَّمْتُمْ . و | هَلُمَّ | كَلِمَة دَعْوَة إِلَى شَيْء , وَيَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِد وَالْجَمَاعَة وَالذَّكَر وَالْأُنْثَى عِنْد أَهْل الْحِجَاز , إِلَّا فِي لُغَة نَجْد فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ : هَلُمَّا هَلُمُّوا هَلُمِّي , يَأْتُونَ بِالْعَلَامَةِ كَمَا تَكُون فِي سَائِر الْأَفْعَال . وَعَلَى لُغَة أَهْل الْحِجَاز جَاءَ الْقُرْآن , قَالَ اللَّه تَعَالَى : | وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا | [ الْأَحْزَاب : 18 ] يَقُول : هَلُمَّ أَيْ اُحْضُر أَوْ اُدْنُ . وَهَلُمَّ الطَّعَام , أَيْ هَاتِ الطَّعَام . وَالْمَعْنَى هَاهُنَا : هَاتُوا شُهَدَاءَكُمْ , وَفُتِحَتْ الْمِيم لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ ; كَمَا تَقُول : رُدَّ يَا هَذَا , وَلَا يَجُوز ضَمّهَا وَلَا كَسْرهَا . وَالْأَصْل عِنْد الْخَلِيل | هَا | ضُمَّتْ إِلَيْهَا | لَمْ | ثُمَّ حُذِفَتْ الْأَلِف لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَال . وَقَالَ غَيْره . الْأَصْل | هَلْ | زِيدَتْ عَلَيْهَا | لَمْ | . وَقِيلَ : هِيَ عَلَى لَفْظهَا تَدُلّ عَلَى مَعْنَى هَاتِ . وَفِي كِتَاب الْعَيْن لِلْخَلِيلِ : أَصْلهَا هَلْ أَؤُمّ , أَيْ هَلْ أَقْصِدك , ثُمَّ كَثُرَ اِسْتِعْمَالهمْ إِيَّاهَا حَتَّى صَارَ الْمَقْصُود بِقَوْلِهَا اُحْضُرْ كَمَا أَنَّ تَعَالَ أَصْلهَا أَنْ يَقُولهَا الْمُتَعَالِي لِلْمُتَسَافِل ; فَكَثُرَ اِسْتِعْمَالهمْ إِيَّاهَا حَتَّى صَارَ الْمُتَسَافِل يَقُول لِلْمُتَعَالِي تَعَالَ .</p><p>| فَإِنْ شَهِدُوا | أَيْ شَهِدَ بَعْضهمْ لِبَعْضٍ .</p><p>| فَلَا تَشْهَد مَعَهُمْ | أَيْ فَلَا تُصَدِّق أَدَاء الشَّهَادَة إِلَّا مِنْ كِتَاب أَوْ عَلَى لِسَان نَبِيّ , وَلَيْسَ مَعَهُمْ شَيْء مِنْ ذَلِكَ .

قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَ

أَيْ تَقَدَّمُوا وَاقْرَءُوا حَقًّا يَقِينًا كَمَا أَوْحَى إِلَيَّ رَبِّي , لَا ظَنًّا وَلَا كَذِبًا كَمَا زَعَمْتُمْ . ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ فَقَالَ | أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا | يُقَال لِلرَّجُلِ : تَعَالَ , أَيْ تَقَدَّمْ , وَلِلْمَرْأَةِ تَعَالَيْ , وَلِلِاثْنَيْنِ وَالِاثْنَتَيْنِ تَعَالَيَا , وَلِجَمَاعَةِ الرِّجَال تَعَالَوْا , وَلِجَمَاعَةِ النِّسَاء تَعَالَيْنَ ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : | فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعكُنَّ | [ الْأَحْزَاب : 28 ] . وَجَعَلُوا التَّقَدُّم ضَرْبًا مِنْ التَّعَالِي وَالِارْتِفَاع ; لِأَنَّ الْمَأْمُور بِالتَّقَدُّمِ فِي أَصْل وَضْع هَذَا الْفِعْل كَأَنَّهُ كَانَ قَاعِدًا فَقِيلَ لَهُ تَعَالَ , أَيْ اِرْفَعْ شَخْصك بِالْقِيَامِ وَتَقَدَّمْ ; وَاتْسَعُوا فِيهِ حَتَّى جَعَلُوهُ لِلْوَاقِفِ وَالْمَاشِي ; قَالَهُ اِبْن الشَّجَرِيّ .|مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ|الْوَجْه فِي | مَا | أَنْ تَكُون خَبَرِيَّة فِي مَوْضِع نَصْب ب | أَتْلُ | وَالْمَعْنَى : تَعَالَوْا أَتْلُ الَّذِي حَرَّمَ رَبّكُمْ عَلَيْكُمْ ; فَإِنْ عَلَّقْت | عَلَيْكُمْ | ب | حَرَّمَ | فَهُوَ الْوَجْه ; لِأَنَّهُ الْأَقْرَب وَهُوَ اِخْتِيَار الْبَصْرِيِّينَ . وَإِنْ عَلَّقْته ب | أَتْلُ | فَجَيِّد لِأَنَّهُ الْأَسْبَق ; وَهُوَ اِخْتِيَار الْكُوفِيِّينَ ; فَالتَّقْدِير فِي هَذَا الْقَوْل أَتْلُ عَلَيْكُمْ الَّذِي حَرَّمَ رَبّكُمْ .|أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا|فِي مَوْضِع نَصْب بِتَقْدِيرِ فَعَلَ مِنْ لَفْظ الْأَوَّل , أَيْ أَتْلُ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا ; أَيْ أَتْلُ عَلَيْكُمْ تَحْرِيم الْإِشْرَاك , وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون مَنْصُوبًا بِمَا فِي | عَلَيْكُمْ | مِنْ الْإِغْرَاء , وَتَكُون | عَلَيْكُمْ | مُنْقَطِعَة مِمَّا قَبْلهَا ; أَيْ عَلَيْكُمْ تَرْك الْإِشْرَاك , وَعَلَيْكُمْ إِحْسَانًا بِالْوَالِدَيْنِ , وَأَلَّا تَقْتُلُوا أَوْلَادكُمْ وَأَلَّا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِش . كَمَا تَقُول : عَلَيْك شَأْنك ; أَيْ اِلْزَمْ شَأْنك . وَكَمَا قَالَ : | عَلَيْكُمْ أَنْفُسكُمْ | [ الْمَائِدَة : 105 ] قَالَ جَمِيعه اِبْن الشَّجَرِيّ . وَقَالَ النَّحَّاس : يَجُوز أَنْ تَكُون | أَنْ | فِي مَوْضِع نَصْب بَدَلًا مِنْ | مَا | ; أَيْ أَتْلُ عَلَيْكُمْ تَحْرِيم الْإِشْرَاك . وَاخْتَارَ الْفَرَّاء أَنْ تَكُون | لَا | لِلنَّهْيِ ; لِأَنَّ بَعْده | وَلَا | .</p><p>هَذِهِ الْآيَة أَمْر مِنْ اللَّه تَعَالَى لِنَبِيِّهِ عَلَيْهِ السَّلَام بِأَنْ يَدْعُو جَمِيع الْخَلْق إِلَى سَمَاع تِلَاوَة مَا حَرَّمَ اللَّه . وَهَكَذَا يَجِب عَلَى مَنْ بَعْده مِنْ الْعُلَمَاء أَنْ يُبَلِّغُوا النَّاس وَيُبَيِّنُوا لَهُمْ مَا حَرَّمَ اللَّه عَلَيْهِمْ مِمَّا حَلَّ . قَالَ اللَّه تَعَالَى : | لِتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ | [ آل عِمْرَان : 187 ] . وَذَكَرَ اِبْن الْمُبَارَك : أَخْبَرَنَا عِيسَى بْن عُمَر عَنْ عَمْرو بْن مُرَّة أَنَّهُ حَدَّثَهُمْ قَالَ : قَالَ رَبِيع بْن خَيْثَم لِجَلِيسٍ لَهُ : أَيَسُرُّك أَنْ تُؤْتَى بِصَحِيفَةٍ مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُفَكّ خَاتَمهَا ؟ قَالَ نَعَمْ . قَالَ فَاقْرَأْ | قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبّكُمْ عَلَيْكُمْ | فَقَرَأَ إِلَى آخِر الثَّلَاث الْآيَات . وَقَالَ كَعْب الْأَحْبَار : هَذِهِ الْآيَة مُفْتَتَح التَّوْرَاة : ( بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَن الرَّحِيم قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبّكُمْ عَلَيْكُمْ ) الْآيَة . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : هَذِهِ الْآيَات الْمُحْكَمَات الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّه فِي سُورَة | آل عِمْرَان | أَجْمَعَتْ عَلَيْهَا شَرَائِع الْخَلْق , وَلَمْ تُنْسَخ قَطُّ فِي مِلَّة . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّهَا الْعَشْر كَلِمَات الْمُنَزَّلَة عَلَى مُوسَى .|وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا|الْإِحْسَان إِلَى الْوَالِدَيْنِ بِرّهمَا وَحِفْظهمَا وَصِيَانَتهمَا وَامْتِثَال أَمْرهمَا وَإِزَالَة الرِّقّ عَنْهُمَا وَتَرْك السَّلْطَنَة عَلَيْهِمَا . و | إِحْسَانًا | نَصْب عَلَى الْمَصْدَر , وَنَاصِبه فِعْل مُضْمَر مِنْ لَفْظه ; تَقْدِيره وَأَحْسِنُوا بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا .|وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ|الْإِمْلَاق الْفَقْر : أَيْ لَا تَئِدُوا - مِنْ الْمَوْءُودَة - بَنَاتكُمْ خَشْيَة الْعَيْلَة , فَإِنِّي رَازِقكُمْ وَإِيَّاهُمْ . وَقَدْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَفْعَل ذَلِكَ بِالْإِنَاثِ وَالذُّكُور خَشْيَة الْفَقْر , كَمَا هُوَ ظَاهِر الْآيَة . أَمْلَقَ أَيْ اِفْتَقَرَ . وَأَمْلَقَهُ أَيْ أَفْقَرَهُ ; فَهُوَ لَازِم وَمُتَعَدٍّ . وَحَكَى النَّقَّاش عَنْ مُؤَرِّج أَنَّهُ قَالَ : الْإِمْلَاق الْجُوع بِلُغَةِ لَخْم . وَذَكَرَ مُنْذِر بْن سَعِيد أَنَّ الْإِمْلَاق الْإِنْفَاق ; يُقَال : أَمْلَقَ مَاله بِمَعْنَى أَنْفَقَهُ . وَذُكِرَ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : أَمْلِقِي مِنْ مَالِك مَا شِئْت . وَرَجُل مَلِق يُعْطِي بِلِسَانِهِ مَا لَيْسَ فِي قَلْبه . فَالْمَلَق لَفْظ مُشْتَرَك يَأْتِي بَيَانه فِي مَوْضِعه .</p><p>وَقَدْ يَسْتَدِلّ بِهَذَا مَنْ يَمْنَع الْعَزْل ; لِأَنَّ الْوَأْد يَرْفَع الْمَوْجُود وَالنَّسْل ; وَالْعَزْل مَنْع أَصْل النَّسْل فَتَشَابَهَا ; إِلَّا أَنَّ قَتْل النَّفْس أَعْظَم وِزْرًا وَأَقْبَح فِعْلًا ; وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْض عُلَمَائِنَا : إِنَّهُ يُفْهَم مِنْ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام فِي الْعَزْل : ( ذَلِكَ الْوَأْد الْخَفِيّ ) الْكَرَاهَة لَا التَّحْرِيم وَقَالَ بِهِ جَمَاعَة مِنْ الصَّحَابَة وَغَيْرهمْ . وَقَالَ بِإِبَاحَتِهِ أَيْضًا جَمَاعَة مِنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَالْفُقَهَاء ; لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( لَا عَلَيْكُمْ أَلَّا تَفْعَلُوا فَإِنَّمَا هُوَ الْقَدَر ) أَيْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاح فِي أَلَّا تَفْعَلُوا . وَقَدْ فَهِمَ مِنْهُ الْحَسَن وَمُحَمَّد بْن الْمُثَنَّى النَّهْي وَالزَّجْر عَنْ الْعَزْل . وَالتَّأْوِيل الْأَوَّل أَوْلَى ; لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( وَإِذَا أَرَادَ اللَّه خَلْق شَيْء لَمْ يَمْنَعهُ شَيْء ) . قَالَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ : لَا يَجُوز الْعَزْل عَنْ الْحُرَّة إِلَّا بِإِذْنِهَا . وَكَأَنَّهُمْ رَأَوْا الْإِنْزَال مِنْ تَمَام لَذَّاتهَا , وَمِنْ حَقّهَا فِي الْوَلَد , وَلَمْ يَرَوْا ذَلِكَ فِي الْمَوْطُوءَة بِمِلْكِ الْيَمِين , إِذْ لَهُ أَنْ يَعْزِل عَنْهَا بِغَيْرِ إِذْنهَا , إِذْ لَا حَقّ لَهَا فِي شَيْء مِمَّا ذُكِرَ .|وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ|نَظِيره | وَذَرُوا ظَاهِر الْإِثْم وَبَاطِنه | [ الْأَنْعَام : 120 ] . فَقَوْله : | مَا ظَهَرَ | نَهْي عَنْ جَمِيع أَنْوَاع الْفَوَاحِش وَهِيَ الْمَعَاصِي . | وَمَا بَطَنَ | مَا عَقَدَ عَلَيْهِ الْقَلْب مِنْ الْمُخَالَفَة . وَظَهَرَ وَبَطَنَ حَالَتَانِ تَسْتَوْفِيَانِ أَقْسَام مَا جُعِلَتْ لَهُ مِنْ الْأَشْيَاء . و | مَا ظَهَرَ | نَصْب عَلَى الْبَدَل مِنْ | الْفَوَاحِش | . | وَمَا بَطَنَ | عَطْف عَلَيْهِ .|وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ|الْأَلِف وَاللَّام فِي | النَّفْس | لِتَعْرِيفِ الْجِنْس ; كَقَوْلِهِمْ : أَهْلَكَ النَّاس حُبّ الدِّرْهَم وَالدِّينَار . وَمِثْله | إِنَّ الْإِنْسَان خُلِقَ هَلُوعًا | [ الْمَعَارِج : 19 ] أَلَا تَرَى قَوْله سُبْحَانه : | إِلَّا الْمُصَلِّينَ | ؟ وَكَذَلِكَ قَوْله : | وَالْعَصْر . إِنَّ الْإِنْسَان لَفِي خُسْر | [ الْعَصْر : 1 , 2 ] لِأَنَّهُ قَالَ : | إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا | وَهَذِهِ الْآيَة نَهْي عَنْ قَتْل النَّفْس الْمُحَرَّمَة , مُؤْمِنَة كَانَتْ أَوْ مُعَاهَدَة إِلَّا بِالْحَقِّ الَّذِي يُوجِب قَتْلهَا . قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أُمِرْت أَنْ أُقَاتِل النَّاس حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَه إِلَّا اللَّه فَمَنْ قَالَ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه فَقَدْ عَصَمَ مَاله وَنَفْسه إِلَّا بِحَقِّهِ وَحِسَابهمْ عَلَى اللَّه ) . وَهَذَا الْحَقّ أُمُور : مِنْهَا مَنْع الزَّكَاة وَتَرْك الصَّلَاة ; وَقَدْ قَاتَلَ الصِّدِّيق مَانِعِي الزَّكَاة . وَفِي التَّنْزِيل | فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاة وَآتَوْا الزَّكَاة فَخَلُّوا سَبِيلهمْ | [ التَّوْبَة : 5 ] وَهَذَا بَيِّن . وَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا يَحِلّ دَم اِمْرِئٍ مُسْلِم إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاث الثَّيِّب الزَّانِي وَالنَّفْس بِالنَّفْسِ وَالتَّارِك لِدِينِهِ الْمُفَارِق لِلْجَمَاعَةِ ) . وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام : ( إِذَا بُويِعَ لِخَلِيفَتَيْنِ فَاقْتُلُوا الْآخِر مِنْهُمَا ) . أَخْرَجَهُ مُسْلِم . وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَل عَمَل قَوْم لُوط فَاقْتُلُوا الْفَاعِل وَالْمَفْعُول بِهِ ) . وَسَيَأْتِي بَيَان هَذَا فِي | الْأَعْرَاف | . وَفِي التَّنْزِيل : | إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّه وَرَسُوله وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْض فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا | [ الْمَائِدَة : 33 ] الْآيَة . وَقَالَ : | وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اِقْتَتَلُوا | [ الْحُجُرَات : 9 ] الْآيَة . وَكَذَلِكَ مَنْ شَقَّ عَصَا الْمُسْلِمِينَ وَخَالَفَ إِمَام جَمَاعَتهمْ وَفَرَّقَ كَلِمَتهمْ وَسَعَى فِي الْأَرْض فَسَادًا بِانْتِهَابِ الْأَهْل وَالْمَال وَالْبَغْي عَلَى السُّلْطَان وَالِامْتِنَاع مِنْ حُكْمه يُقْتَل . فَهَذَا مَعْنَى قَوْله : | إِلَّا بِالْحَقِّ | . وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام : ( الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأ دِمَاؤُهُمْ وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ لَا يُقْتَل مُسْلِم بِكَافِرٍ وَلَا ذُو عَهْد فِي عَهْده وَلَا يَتَوَارَث أَهْل مِلَّتَيْنِ ) . وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ عَنْ أَبِي بَكْرَة قَالَ : سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا فِي غَيْر كُنْهه حَرَّمَ اللَّه عَلَيْهِ الْجَنَّة ) . وَفِي رِوَايَة أُخْرَى لِأَبِي دَاوُد قَالَ : ( مَنْ قَتَلَ رَجُل مِنْ أَهْل الذِّمَّة لَمْ يَجِد رِيح الْجَنَّة وَإِنَّ رِيحهَا لَيُوجَد مِنْ مَسِيرَة سَبْعِينَ عَامًا ) . فِي الْبُخَارِيّ فِي هَذَا الْحَدِيث ( وَإِنَّ رِيحهَا لَيُوجَد مِنْ مَسِيرَة أَرْبَعِينَ عَامًا ) . خَرَّجَهُ مِنْ حَدِيث عَبْد اللَّه بْن عَمْرو بْن الْعَاصِ .|ذَلِكُمْ|إِشَارَة إِلَى هَذِهِ الْمُحَرَّمَات . وَالْكَاف وَالْمِيم لَلْخِطَاب , وَلَا حَظّ لَهُمَا مِنْ الْإِعْرَاب .|وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ|الْوَصِيَّة الْأَمْر الْمُؤَكَّد الْمَقْدُور . وَالْكَاف وَالْمِيم مَحِلّه النَّصْب ; لِأَنَّهُ ضَمِير مَوْضُوع لِلْمُخَاطَبَةِ . وَفِي وَصَّى ضَمِير فَاعِل يَعُود عَلَى اللَّه . وَرَوَى مَطَر الْوَرَّاق عَنْ نَافِع عَنْ اِبْن عُمَر أَنَّ عُثْمَان بْن عَفَّان رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَشْرَفَ عَلَى أَصْحَابه فَقَالَ : عَلَامَ تَقْتُلُونِي ! فَإِنِّي سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( لَا يَحِلّ دَم اِمْرِئٍ مُسْلِم إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاث رَجُل زَنَى بَعْد حَصَانَة فَعَلَيْهِ الرَّجْم أَوْ قَتَلَ عَمْدًا فَعَلَيْهِ الْقَوَد أَوْ اِرْتَدَّ بَعْد إِسْلَامه فَعَلَيْهِ الْقَتْل ) فَوَاَللَّهِ مَا زَنَيْت فِي جَاهِلِيَّة وَلَا إِسْلَام , وَلَا قَتَلْت أَحَدًا فَأُقَيِّد نَفْسِي بِهِ , وَلَا اِرْتَدَدْت مُنْذُ أَسْلَمْت , إِنِّي أَشْهَد أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْده وَرَسُوله , ذَلِكُمْ الَّذِي ذَكَرْت لَكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ !

وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْف

أَيْ بِمَا فِيهِ صَلَاحه وَتَثْمِيره , وَذَلِكَ بِحِفْظِ أُصُوله وَتَثْمِير فُرُوعه . وَهَذَا أَحْسَن الْأَقْوَال فِي هَذَا ; فَإِنَّهُ جَامِع . قَالَ مُجَاهِد : | وَلَا تَقْرَبُوا مَال الْيَتِيم إِلَّا بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَن | بِالتِّجَارَةِ فِيهِ , وَلَا تَشْتَرِي مِنْهُ وَلَا تَسْتَقْرِض .|حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ|يَعْنِي قُوَّته , وَقَدْ تَكُون فِي الْبَدَن , وَقَدْ تَكُون فِي الْمَعْرِفَة بِالتَّجْرِبَةِ , وَلَا بُدّ مِنْ حُصُول الْوَجْهَيْنِ ; فَإِنَّ الْأَشَدّ وَقَعَتْ هُنَا مُطْلَقَة وَقَدْ جَاءَ بَيَان حَال الْيَتِيم فِي سُورَة | النِّسَاء | مُقَيَّدَة , فَقَالَ : | وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاح فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا | [ النِّسَاء : 6 ] فَجَمَعَ بَيْن قُوَّة الْبَدَن وَهُوَ بُلُوغ النِّكَاح , وَبَيْن قُوَّة الْمَعْرِفَة وَهُوَ إِينَاس الرُّشْد ; فَلَوْ مُكِّنَ الْيَتِيم مِنْ مَاله قَبْل حُصُول الْمَعْرِفَة وَبَعْد حُصُول الْقُوَّة لَأَذْهَبَهُ فِي شَهْوَته وَبَقِيَ صُعْلُوكًا لَا مَال لَهُ . وَخَصَّ الْيَتِيم بِهَذَا الشَّرْط لِغَفْلَةِ النَّاس عَنْهُ وَافْتِقَاد الْآبَاء لِأَبْنَائِهِمْ فَكَانَ الِاهْتِبَال بِفَقِيدِ الْأَب أَوْلَى . وَلَيْسَ بُلُوغ الْأَشُدّ مِمَّا يُبِيح قُرْب مَاله بِغَيْرِ الْأَحْسَن ; لِأَنَّ الْحُرْمَة فِي حَقّ الْبَالِغ ثَابِتَة . وَخَصَّ الْيَتِيم بِالذِّكْرِ لِأَنَّ خَصْمه اللَّه . وَالْمَعْنَى : وَلَا تَقْرَبُوا مَال الْيَتِيم إِلَّا بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَن عَلَى الْأَبَد حَتَّى يَبْلُغ أَشُدّهُ . وَفِي الْكَلَام حَذْف ; فَإِذَا بَلَغَ أَشُدّهُ وَأُونِسَ مِنْهُ الرُّشْد فَادْفَعُوا إِلَيْهِ مَاله . وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي أَشُدّ الْيَتِيم ; فَقَالَ اِبْن زَيْد : بُلُوغه . وَقَالَ أَهْل الْمَدِينَة . بُلُوغه وَإِينَاس رُشْده . وَعِنْد أَبِي حَنِيفَة : خَمْس وَعِشْرُونَ سَنَة . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَعَجَبًا مِنْ أَبِي حَنِيفَة , فَإِنَّهُ يَرَى أَنَّ الْمُقَدَّرَات لَا تَثْبُت قِيَاسًا وَلَا نَظَرًا وَإِنَّمَا تَثْبُت نَقْلًا , وَهُوَ يُثْبِتهَا بِالْأَحَادِيثِ الضَّعِيفَة , وَلَكِنَّهُ سَكَنَ دَار الضَّرْب فَكَثُرَ عِنْده الْمُدَلِّس , وَلَوْ سَكَنَ الْمَعْدِن كَمَا قَيَّضَ اللَّه لِمَالِك لِمَا صَدَرَ عَنْهُ إِلَّا إِبْرِيز الدِّين . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ اِنْتِهَاء الْكُهُولَة فِيهَا مُجْتَمَع الْأَشُدّ ; كَمَا قَالَ سُحَيْم بْن وَثِيل : <br>أَخُو خَمْسِينَ مُجْتَمِع أَشُدِّي .......... وَنَجَّذَنِي مُدَاوَرَة الشُّؤُون <br>يُرْوَى | نَجَّدَنِي | بِالدَّالِ وَالذَّال . وَالْأَشُدّ وَاحِد لَا جَمْع لَهُ ; بِمَنْزِلَةِ الْآنُك وَهُوَ الرَّصَاص . وَقَدْ قِيلَ : وَاحِده شَدّ ; كَفَلْسٍ وَأَفْلُس . وَأَصْله مِنْ شَدَّ النَّهَار أَيْ اِرْتَفَعَ ; يُقَال : أَتَيْته شَدَّ النَّهَار وَمَدَّ النَّهَار . وَكَانَ مُحَمَّد بْن الضَّبِّيّ يَنْشُد بَيْت عَنْتَرَة : <br>عَهْدِي بِهِ شَدَّ النَّهَار كَأَنَّمَا .......... خُضِبَ اللَّبَّان وَرَأْسه بْالْعِظْلِمِ <br>وَقَالَ آخَر : <br>تُطِيف بِهِ شَدَّ النَّهَار ظَعِينَة .......... طَوِيلَة أَنْقَاء الْيَدَيْنِ سَحُوق <br>وَكَانَ سِيبَوَيْهِ يَقُول : وَاحِده شِدَّة . قَالَ الْجَوْهَرِيّ : وَهُوَ حَسَن فِي الْمَعْنَى ; لِأَنَّهُ يُقَال : بَلَغَ الْغُلَام شِدَّته , وَلَكِنْ لَا تُجْمَع فِعْلَة عَلَى أَفْعُل , وَأَمَّا أَنْعُم فَإِنَّمَا هُوَ جَمْع نُعْم ; مِنْ قَوْلهمْ : يَوْم بُؤْس وَيَوْم نُعْم . وَأَمَّا قَوْل مَنْ قَالَ : وَاحِده شَدّ ; مِثْل كَلْب وَأَكْلُب , وَشِدّ مِثْل ذِئْب وَأَذْؤُب فَإِنَّمَا هُوَ قِيَاس . كَمَا يَقُولُونَ فِي وَاحِد الْأَبَابِيل : إِبَّوْل , قِيَاسًا عَلَى عِجَّوْل , وَلَيْسَ هُوَ شَيْئًا سُمِعَ مِنْ الْعَرَب . قَالَ أَبُو زَيْد : أَصَابَتْنِي شُدَّى عَلَى فُعْلَى ; أَيْ شِدَّة . وَأَشَدَّ الرَّجُل إِذَا كَانَتْ مَعَهُ دَابَّة شَدِيدَة .|وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ|أَيْ بِالِاعْتِدَالِ فِي الْأَخْذ وَالْعَطَاء عِنْد الْبَيْع وَالشِّرَاء . وَالْقِسْط : الْعَدْل .|لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا|أَيْ طَاقَتهَا فِي إِيفَاء الْكَيْل وَالْوَزْن . وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ هَذِهِ الْأَوَامِر إِنَّمَا هِيَ فِيمَا يَقَع تَحْت قُدْرَة الْبَشَر مِنْ التَّحَفُّظ وَالتَّحَرُّر . وَمَا لَا يُمْكِن الِاحْتِرَاز عَنْهُ مِنْ تَفَاوُت مَا بَيْن الْكَيْلَيْنِ , وَلَا يَدْخُل تَحْت قُدْرَة الْبَشَر فَمَعْفُوّ عَنْهُ . وَقِيلَ : الْكَيْل بِمَعْنَى الْمِكْيَال . يُقَال : هَذَا كَذَا وَكَذَا كَيْلًا ; وَلِهَذَا عُطِفَ عَلَيْهِ بِالْمِيزَانِ . وَقَالَ بَعْض الْعُلَمَاء : لَمَّا عَلِمَ اللَّه سُبْحَانه مِنْ عِبَاده أَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ تَضِيق نَفْسه عَنْ أَنْ تَطِيب لِلْغَيْرِ بِمَا لَا يَجِب عَلَيْهَا لَهُ أَمَرَ الْمُعْطِي بِإِيفَاءِ رَبّ الْحَقّ حَقّه الَّذِي هُوَ لَهُ , وَلَمْ يُكَلِّفهُ الزِّيَادَة ; لِمَا فِي الزِّيَادَة عَلَيْهِ مِنْ ضِيق نَفْسه بِهَا . وَأَمَرَ صَاحِب الْحَقّ بِأَخْذِ حَقّه وَلَمْ يُكَلِّفهُ الرِّضَا بِأَقَلّ مِنْهُ ; لِمَا فِي النُّقْصَان مِنْ ضِيق نَفْسه . وَفِي مُوَطَّإِ مَالِك عَنْ يَحْيَى بْن سَعِيد أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَبَّاس أَنَّهُ قَالَ : مَا ظَهَرَ الْغُلُول فِي قَوْم قَطُّ إِلَّا أَلْقَى اللَّه فِي قُلُوبهمْ الرُّعْب , وَلَا فَشَا الزِّنَى فِي قَوْم إِلَّا كَثُرَ فِيهِمْ الْمَوْت , وَلَا نَقَصَ قَوْم الْمِكْيَال وَالْمِيزَان إِلَّا قُطِعَ عَنْهُمْ الرِّزْق , وَلَا حَكَمَ قَوْم بِغَيْرِ الْحَقّ إِلَّا فَشَا فِيهِمْ الدَّم , وَلَا خَتَرَ قَوْم بِالْعَهْدِ إِلَّا سَلَّطَ اللَّه عَلَيْهِمْ الْعَدُوّ . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا : إِنَّكُمْ مَعْشَر الْأَعَاجِم قَدْ وُلِّيتُمْ أَمْرَيْنِ بِهِمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلكُمْ الْكَيْل وَالْمِيزَان .|وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا|يَتَضَمَّن الْأَحْكَام وَالشَّهَادَات .|وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى|أَيْ وَلَوْ كَانَ الْحَقّ عَلَى مِثْل قَرَابَاتكُمْ . كَمَا تَقَدَّمَ فِي | النِّسَاء | .|وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا|عَامّ فِي جَمِيع مَا عَهِدَهُ اللَّه إِلَى عِبَاده . وَيَحْتَمِل أَنْ يُرَاد بِهِ جَمِيع مَا اِنْعَقَدَ بَيْن إِنْسَانَيْنِ . وَأُضِيفَ ذَلِكَ الْعَهْد إِلَى اللَّه مِنْ حَيْثُ أُمِرَ بِحِفْظِهِ وَالْوَفَاء بِهِ .|ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ|تَتَّعِظُونَ .

وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ

هَذِهِ آيَة عَظِيمَة عَطْفهَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ ; فَإِنَّهُ لَمَّا نَهَى وَأَمَرَ حَذَّرَ هُنَا عَنْ اِتِّبَاع غَيْر سَبِيله , فَأَمَرَ فِيهَا بِاتِّبَاعِ طَرِيقه عَلَى مَا نُبَيِّنهُ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَة وَأَقَاوِيل السَّلَف . | وَأَنَّ | فِي مَوْضِع نَصْب , أَيْ وَاتْلُ أَنَّ هَذَا صِرَاطِي . عَنْ الْفَرَّاء وَالْكِسَائِيّ . قَالَ الْفَرَّاء : وَيَجُوز أَنْ يَكُون خَفْضًا , أَيْ وَصَّاكُمْ بِهِ وَبِأَنَّ هَذَا صِرَاطِي . وَتَقْدِيرهَا عِنْد الْخَلِيل وَسِيبَوَيْهِ : وَلِأَنَّ هَذَا صِرَاطِي ; كَمَا قَالَ : | وَأَنَّ الْمَسَاجِد لِلَّهِ | [ الْجِنّ : 18 ] وَقَرَأَ الْأَعْمَش وَحَمْزَة وَالْكِسَائِيّ | وَإِنَّ هَذَا | بِكَسْرِ الْهَمْزَة عَلَى الِاسْتِئْنَاف ; أَيْ الَّذِي ذُكِرَ فِي الْآيَات صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا . وَقَرَأَ اِبْن أَبِي إِسْحَاق وَيَعْقُوب | وَأَنْ هَذَا | بِالتَّخْفِيفِ . وَالْمُخَفَّفَة مِثْل الْمُشَدَّدَة , إِلَّا أَنَّ فِيهِ ضَمِير الْقِصَّة وَالشَّان ; أَيْ وَأَنَّهُ هَذَا . فَهِيَ فِي مَوْضِع رَفْع . وَيَجُوز النَّصْب . وَيَجُوز أَنْ تَكُون زَائِدَة لِلتَّوْكِيدِ ; كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ : | فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِير | [ يُوسُف : 96 ] . وَالصِّرَاط : الطَّرِيق الَّذِي هُوَ دِين الْإِسْلَام . | مُسْتَقِيمًا | نُصِبَ عَلَى الْحَال , وَمَعْنَاهُ مُسْتَوِيًا قَوِيمًا لَا اِعْوِجَاج فِيهِ . فَأُمِرَ بِاتِّبَاعِ طَرِيقه الَّذِي طَرَقَهُ عَلَى لِسَان نَبِيّه مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَرَعَهُ وَنِهَايَته الْجَنَّة . وَتَشَعَّبَتْ مِنْهُ طُرُق فَمَنْ سَلَكَ الْجَادَّة نَجَا , وَمَنْ خَرَجَ إِلَى تِلْكَ الطُّرُق أَفْضَتْ بِهِ إِلَى النَّار .|وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ|أَيْ تَمِيل . رَوَى الدَّارِمِيّ أَبُو مُحَمَّد فِي مُسْنَده بِإِسْنَادٍ صَحِيح : أَخْبَرَنَا عَفَّان حَدَّثَنَا حَمَّاد بْن زَيْد حَدَّثَنَا عَاصِم بْن بَهْدَلَة عَنْ أَبِي وَائِل عَنْ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود قَالَ : خَطَّ لَنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا خَطًّا , ثُمَّ قَالَ : ( هَذَا سَبِيل اللَّه ) ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينه وَخُطُوطًا عَنْ يَسَاره ثُمَّ قَالَ ( هَذِهِ سُبُل عَلَى كُلّ سَبِيل مِنْهَا شَيْطَان يَدْعُو إِلَيْهَا ) ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَة . وَأَخْرَجَهُ اِبْن مَاجَهْ فِي سُنَنه عَنْ جَابِر بْن عَبْد اللَّه قَالَ : كُنَّا عِنْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَطَّ خَطًّا , وَخَطَّ خَطَّيْنِ عَنْ يَمِينه , وَخَطَّ خَطَّيْنِ عَنْ يَسَاره , ثُمَّ وَضَعَ يَده فِي الْخَطّ الْأَوْسَط فَقَالَ : ( هَذَا سَبِيل اللَّه - ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَة - | وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيله | . وَهَذِهِ السُّبُل تَعُمّ الْيَهُودِيَّة وَالنَّصْرَانِيَّة وَالْمَجُوسِيَّة وَسَائِر أَهْل الْمِلَل وَأَهْل الْبِدَع وَالضَّلَالَات مِنْ أَهْل الْأَهْوَاء وَالشُّذُوذ فِي الْفُرُوع , وَغَيْر ذَلِكَ مِنْ أَهْل التَّعَمُّق فِي الْجَدَل وَالْخَوْض فِي الْكَلَام . هَذِهِ كُلّهَا عُرْضَة لِلزَّلَلِ , وَمَظِنَّة لِسُوءِ الْمُعْتَقَد ; قَالَهُ اِبْن عَطِيَّة . قُلْت : وَهُوَ الصَّحِيح . ذَكَرَ الطَّبَرِيّ فِي كِتَاب آدَاب النُّفُوس : حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد الْأَعْلَى الصَّنْعَانِيّ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن ثَوْر عَنْ مَعْمَر عَنْ أَبَان أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِابْنِ مَسْعُود : مَا الصِّرَاط الْمُسْتَقِيم ؟ قَالَ : تَرَكَنَا مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَدْنَاهُ وَطَرَفه فِي الْجَنَّة , وَعَنْ يَمِينه جَوَاد وَعَنْ يَسَاره جَوَاد , وَثَمَّ رِجَال يَدْعُونَ مَنْ مَرَّ بِهِمْ فَمَنْ أَخَذَ فِي تِلْكَ الْجَوَاد اِنْتَهَتْ بِهِ إِلَى النَّار , وَمَنْ أَخَذَ عَلَى الصِّرَاط اِنْتَهَى بِهِ إِلَى الْجَنَّة , ثُمَّ قَرَأَ اِبْن مَسْعُود : | وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا | الْآيَة . وَقَالَ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود : تَعْلَمُوا الْعِلْم قَبْل أَنْ يُقْبَض , وَقَبْضه أَنْ يَذْهَب أَهْله , أَلَا وَإِيَّاكُمْ وَالتَّنَطُّع وَالتَّعَمُّق وَالْبِدَع , وَعَلَيْكُمْ بِالْعَتِيقِ . أَخْرَجَهُ الدَّارِمِيّ . وَقَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله : | وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُل | قَالَ : الْبِدَع . قَالَ اِبْن شِهَاب : وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى : | إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينهمْ وَكَانُوا شِيَعًا | [ الْأَنْعَام : 159 ] الْآيَة . فَالْهَرَب الْهَرَب , وَالنَّجَاة النَّجَاة ! وَالتَّمَسُّك بِالطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيم وَالسُّنَن الْقَوِيم , الَّذِي سَلَكَهُ السَّلَف الصَّالِح , وَفِيهِ الْمَتْجَر الرَّابِح . رَوَى الْأَئِمَّة عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) . وَرَوَى اِبْن مَاجَهْ وَغَيْره عَنْ الْعِرْبَاض بْن سَارِيَة قَالَ : وَعَظَنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْعِظَة ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُون ; وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوب ; فَقُلْنَا : يَا رَسُول اللَّه , إِنَّ هَذِهِ لَمَوْعِظَة مُوَدِّع , فَمَا تَعْهَد إِلَيْنَا ؟ فَقَالَ : ( قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاء لَيْلهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِك مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اِخْتِلَافًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِمَا عَرَفْتُمْ مِنْ سُنَّتِي وَسُنَّة الْخُلَفَاء الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ بَعْدِي عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَالْأُمُور الْمُحْدَثَات فَإِنَّ كُلّ بِدْعَة ضَلَالَة وَعَلَيْكُمْ بِالطَّاعَةِ وَإِنَّ عَبْدًا حَبَشِيًّا فَإِنَّمَا الْمُؤْمِن كَالْجَمَلِ الْأَنِف حَيْثُمَا قِيدَ اِنْقَادَ ) أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ بِمَعْنَاهُ وَصَحَّحَهُ . وَرَوَى أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا اِبْن كَثِير قَالَ أَخْبَرَنَا سُفْيَان قَالَ : كَتَبَ رَجُل إِلَى عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز يَسْأَلهُ عَنْ الْقَدَر ; فَكَتَبَ إِلَيْهِ : أَمَّا بَعْد , فَإِنِّي أُوصِيك بِتَقْوَى اللَّه وَالِاقْتِصَاد فِي أَمْره وَاتِّبَاع سُنَّة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَتَرْك مَا أَحْدَثَ الْمُحَدِّثُونَ بَعْد مَا جَرَتْ بِهِ سُنَّته , وَكُفُوا مَئُونَته , فَعَلَيْك بِلُزُومِ الْجَمَاعَة فَإِنَّهَا لَك بِإِذْنِ اللَّه عِصْمَة , ثُمَّ اِعْلَمْ أَنَّهُ لَمْ يَبْتَدِع النَّاس بِدْعَة إِلَّا قَدْ مَضَى قَبْلهَا مَا هُوَ دَلِيل عَلَيْهَا أَوْ عِبْرَة فِيهَا ; فَإِنَّ السُّنَّة إِنَّمَا سَنَّهَا مَنْ قَدْ عَلِمَ مَا فِي خِلَافهَا مِنْ الْخَطَإِ وَالزَّلَل , وَالْحُمْق وَالتَّعَمُّق ; فَارْضَ لِنَفْسِك مَا رَضِيَ بِهِ الْقَوْم لِأَنْفُسِهِمْ , فَإِنَّهُمْ عَلَى عِلْم وَقَفُوا , وَبِبَصَرٍ نَافِذ كُفُوا , وَإِنَّهُمْ عَلَى كَشْف الْأُمُور كَانُوا أَقْوَى , وَبِفَضْلِ مَا كَانُوا فِيهِ أَوْلَى , فَإِنْ كَانَ الْهُدَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ فَقَدْ سَبَقْتُمُوهُمْ إِلَيْهِ , وَلَئِنْ قُلْتُمْ إِنَّمَا حَدَثَ بَعْدهمْ فَمَا أَحْدَثَهُ إِلَّا مَنْ اِتَّبَعَ غَيْر سَبِيلهمْ وَرَغِبَ بِنَفْسِهِ عَنْهُمْ ; فَإِنَّهُمْ هُمْ السَّابِقُونَ , قَدْ تَكَلَّمُوا فِيهِ بِمَا يَكْفِي وَوَصَفُوا مَا يَشْفِي ; فَمَا دُونهمْ مِنْ مُقَصِّر , وَمَا فَوْقهمْ مِنْ مُجَسِّر , وَقَدْ قَصَّرَ قَوْم دُونهمْ فَجَفَوْا , وَطَمَحَ عَنْهُمْ أَقْوَام فَغَلَوْا وَإِنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيم . وَذَكَرَ الْحَدِيث . وَقَالَ سَهْل بْن عَبْد اللَّه التُّسْتَرِيّ : عَلَيْكُمْ بِالِاقْتِدَاءِ بِالْأَثَرِ وَالسُّنَّة , فَإِنِّي أَخَاف أَنَّهُ سَيَأْتِي عَنْ قَلِيل زَمَان إِذَا ذَكَرَ إِنْسَان النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالِاقْتِدَاء بِهِ فِي جَمِيع أَحْوَاله ذَمُّوهُ وَنَفَرُوا عَنْهُ وَتَبْرَءُوا مِنْهُ وَأَذَلُّوهُ وَأَهَانُوهُ . قَالَ سَهْل : إِنَّمَا ظَهَرَتْ الْبِدْعَة عَلَى يَدَيْ أَهْل السُّنَّة لِأَنَّهُمْ ظَاهَرُوهُمْ وَقَاوَلُوهُمْ ; فَظَهَرَتْ أَقَاوِيلهمْ وَفَشَتْ فِي الْعَامَّة فَسَمِعَهُ مَنْ لَمْ يَكُنْ يَسْمَعهُ , فَلَوْ تَرَكُوهُمْ وَلَمْ يُكَلِّمُوهُمْ لَمَاتَ كُلّ وَاحِد مِنْهُمْ عَلَى مَا فِي صَدْره وَلَمْ يَظْهَر مِنْهُ شَيْء وَحَمَلَهُ مَعَهُ إِلَى قَبْره . وَقَالَ سَهْل : لَا يُحْدِث أَحَدكُمْ بِدْعَة حَتَّى يُحْدِث لَهُ إِبْلِيس عِبَادَة فَيَتَعَبَّد بِهَا ثُمَّ يُحْدِث لَهُ بِدْعَة , فَإِذَا نَطَقَ بِالْبِدْعَةِ وَدَعَا النَّاس إِلَيْهَا نَزَعَ مِنْهُ تِلْكَ الْخَذْمَة . قَالَ سَهْل : لَا أَعْلَم حَدِيثًا جَاءَ فِي الْمُبْتَدِعَة أَشَدّ مِنْ هَذَا الْحَدِيث : ( حَجَبَ اللَّه الْجَنَّة عَنْ صَاحِب الْبِدْعَة ) . قَالَ : فَالْيَهُودِيّ وَالنَّصْرَانِيّ أُرْجَى مِنْهُمْ . قَالَ سَهْل : مَنْ أَرَادَ أَنْ يُكْرِم دِينه فَلَا يَدْخُل عَلَى السُّلْطَان , وَلَا يَخْلُوَن بِالنِّسْوَان , وَلَا يُخَاصِمَن أَهْل الْأَهْوَاء . وَقَالَ أَيْضًا : اِتَّبِعُوا وَلَا تَبْتَدِعُوا , فَقَدْ كَفَيْتُمْ . وَفِي مُسْنَد الدَّارِمِيّ : أَنَّ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيّ جَاءَ إِلَى عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود فَقَالَ : يَا أَبَا عَبْد الرَّحْمَن , إِنْ رَأَيْت فِي الْمَسْجِد آنِفًا شَيْئًا أَنْكَرْته وَلَمْ أَرَ وَالْحَمْد لِلَّهِ إِلَّا خَيْرًا , قَالَ : فَمَا هُوَ ؟ قَالَ : إِنْ عِشْت فَسَتَرَاهُ , قَالَ : رَأَيْت فِي الْمَسْجِد قَوْمًا حِلَقًا حِلَقًا جُلُوسًا يَنْتَظِرُونَ الصَّلَاة ; فِي كُلّ حَلْقَة رَجُل وَفِي أَيْدِيهمْ حَصًى فَيَقُول لَهُمْ : كَبِّرُوا مِائَة ; فَيُكَبِّرُونَ مِائَة . فَيَقُول : هَلِّلُوا مِائَة ; فَيُهَلِّلُونَ مِائَة . وَيَقُول : سَبِّحُوا مِائَة ; فَيُسَبِّحُونَ مِائَة . قَالَ : فَمَاذَا قُلْت لَهُمْ ؟ قَالَ : مَا قُلْت لَهُمْ شَيْئًا ; اِنْتِظَار رَأْيك وَانْتِظَار أَمْرك . قَالَ أَفَلَا أَمَرْتهمْ أَنْ يَعُدُّوا سَيِّئَاتهمْ وَضَمِنْت لَهُمْ أَلَّا يَضِيع مِنْ حَسَنَاتهمْ . ثُمَّ مَضَى وَمَضَيْنَا مَعَهُ حَتَّى أَتَى حَلْقَة مِنْ تِلْكَ الْحِلَق ; فَوَقَفَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ : مَا هَذَا الَّذِي أَرَاكُمْ تَصْنَعُونَ ؟ قَالُوا : يَا أَبَا عَبْد الرَّحْمَن , حَصًى نَعُدّ بِهِ التَّكْبِير وَالتَّهْلِيل وَالتَّسْبِيح . قَالَ : فَعُدُّوا سَيِّئَاتكُمْ وَأَنَا ضَامِن لَكُمْ أَلَّا يَضِيع مِنْ حَسَنَاتكُمْ شَيْء , وَيْحَكُمْ يَا أُمَّة مُحَمَّد ! مَا أَسْرَعَ هَلَكَتكُمْ . أَوْ مُفْتَتِحِي بَاب ضَلَالَة ! قَالُوا : وَاَللَّه يَا أَبَا عَبْد الرَّحْمَن , مَا أَرَدْنَا إِلَّا الْخَيْر . فَقَالَ : وَكَمْ مِنْ مُرِيد لِلْخَيْرِ لَنْ يُصِيبهُ . وَعَنْ عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز وَسَأَلَهُ رَجُل عَنْ شَيْء مِنْ أَهْل الْأَهْوَاء وَالْبِدَع ; فَقَالَ : عَلَيْك بِدِينِ الْأَعْرَاب وَالْغُلَام فِي الْكِتَاب , وَآله عَمَّا سِوَى ذَلِكَ . وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ : قَالَ إِبْلِيس لِأَوْلِيَائِهِ مِنْ أَيّ شَيْء تَأْتُونَ بَنِي آدَم ؟ فَقَالُوا : مِنْ كُلّ شَيْء . قَالَ : فَهَلْ تَأْتُونَهُمْ مِنْ قِبَل الِاسْتِغْفَار ؟ قَالُوا : هَيْهَاتَ ! ذَلِكَ شَيْء قُرِنَ بِالتَّوْحِيدِ . قَالَ : لَأُبِثَّنَّ فِيهِمْ شَيْئًا لَا يَسْتَغْفِرُونَ اللَّه مِنْهُ . قَالَ : فَبَثَّ فِيهِمْ الْأَهْوَاء . وَقَالَ مُجَاهِد : وَلَا أَدْرِي أَيّ النِّعْمَتَيْنِ عَلَيَّ أَعْظَم أَنْ هَدَانِي لِلْإِسْلَامِ , أَوْ عَافَانِي مِنْ هَذِهِ الْأَهْوَاء . وَقَالَ الشَّعْبِيّ : إِنَّمَا سَمَّوْا أَصْحَاب الْأَهْوَاء لِأَنَّهُمْ يَهْوُونَ فِي النَّار . كُلّه عَنْ الدَّارِمِيّ . وَسُئِلَ سَهْل بْن عَبْد اللَّه عَنْ الصَّلَاة خَلْف الْمُعْتَزِلَة وَالنِّكَاح مِنْهُمْ وَتَزْوِيجهمْ . فَقَالَ : لَا , وَلَا كَرَامَة ! هُمْ كُفَّار , كَيْف يُؤْمِن مَنْ يَقُول : الْقُرْآن مَخْلُوق , وَلَا جَنَّة مَخْلُوقَة وَلَا نَار مَخْلُوقَة , وَلَا لِلَّهِ صِرَاط وَلَا شَفَاعَة , وَلَا أَحَد مِنْ الْمُؤْمِنِينَ يَدْخُل النَّار وَلَا يَخْرُج مِنْ النَّار مِنْ مُذْنِبِي أُمَّة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَلَا عَذَاب الْقَبْر وَلَا مُنْكَر وَلَا نَكِير , وَلَا رُؤْيَة لِرَبِّنَا فِي الْآخِرَة وَلَا زِيَادَة , وَأَنَّ عِلْم اللَّه مَخْلُوق , وَلَا يَرَوْنَ السُّلْطَان وَلَا جُمُعَة ; وَيُكَفِّرُونَ مَنْ يُؤْمِن بِهَذَا . وَقَالَ الْفُضَيْل بْن عِيَاض : مَنْ أَحَبَّ صَاحِب بِدْعَة أَحْبَطَ اللَّه عَمَله , وَأَخْرَجَ نُور الْإِسْلَام مِنْ قَلْبه . وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا مِنْ كَلَامه وَزِيَادَة . وَقَالَ سُفْيَان الثَّوْرِيّ : الْبِدْعَة أَحَبّ إِلَى إِبْلِيس مِنْ الْمَعْصِيَة ; الْمَعْصِيَة يُتَاب مِنْهَا , وَالْبِدْعَة لَا يُتَاب مِنْهَا . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : النَّظَر إِلَى الرَّجُل مِنْ أَهْل السُّنَّة يَدْعُو إِلَى السُّنَّة وَيَنْهَى عَنْ الْبِدْعَة , عِبَادَة . وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَة : عَلَيْكُمْ بِالْأَمْرِ الْأَوَّل الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ قَبْل أَنْ يَفْتَرِقُوا . قَالَ عَاصِم الْأَحْوَل : فَحَدَّثْت بِهِ الْحَسَن فَقَالَ : قَدْ نَصَحَك وَاَللَّه وَصَدَقَك . وَقَدْ مَضَى فِي | آل عِمْرَان | مَعْنَى قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( تَفَرَّقَتْ بَنُو إِسْرَائِيل عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَة وَأَنَّ هَذِهِ الْأُمَّة سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلَاث وَسَبْعِينَ ) . الْحَدِيث . وَقَدْ قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء الْعَارِفِينَ : هَذِهِ الْفِرْقَة الَّتِي زَادَتْ فِي فِرَق أُمَّة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُمْ قَوْم يُعَادُونَ الْعُلَمَاء وَيُبْغِضُونَ الْفُقَهَاء , وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ قَطُّ فِي الْأُمَم السَّالِفَة . وَقَدْ رَوَى رَافِع بْن خَدِيج أَنَّهُ سَمِعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( يَكُون فِي أُمَّتِي قَوْم يَكْفُرُونَ بِاَللَّهِ وَبِالْقُرْآنِ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ كَمَا كَفَرَتْ الْيَهُود وَالنَّصَارَى ) . قَالَ فَقُلْت : جُعِلْت فِدَاك يَا رَسُول اللَّه ! كَيْفَ ذَاكَ ؟ قَالَ : ( يُقِرُّونَ بِبَعْضٍ وَيَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ) . قَالَ قُلْت : جُعِلْت فِدَاك يَا رَسُول اللَّه ! وَكَيْفَ يَقُولُونَ ؟ قَالَ : ( يَجْعَلُونَ إِبْلِيس عَدْلًا لِلَّهِ فِي خَلْقه وَقُوَّته وَرِزْقه وَيَقُولُونَ الْخَيْر مِنْ اللَّه وَالشَّرّ مِنْ إِبْلِيس ) . قَالَ : فَيَكْفُرُونَ بِاَللَّهِ ثُمَّ يَقْرَءُونَ عَلَى ذَلِكَ كِتَاب اللَّه , فَيَكْفُرُونَ بِالْقُرْآنِ بَعْد الْإِيمَان وَالْمَعْرِفَة ؟ قَالَ : ( فَمَا تَلْقَى أُمَّتِي مِنْهُمْ مِنْ الْعَدَاوَة وَالْبَغْضَاء وَالْجِدَال أُولَئِكَ زَنَادِقَة هَذِهِ الْأُمَّة ) . وَذُكِرَ الْحَدِيث . وَمَضَى فِي | النِّسَاء | وَهَذِهِ السُّورَة النَّهْي عَنْ مُجَالَسَة أَهْل الْبِدَع وَالْأَهْوَاء , وَأَنَّ مَنْ جَالَسَهُمْ حُكْمه حُكْمهمْ فَقَالَ : | وَإِذَا رَأَيْت الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتنَا | [ الْأَنْعَام : 68 ] الْآيَة . ثُمَّ بَيَّنَ فِي سُورَة | النِّسَاء | وَهِيَ مَدَنِيَّة عُقُوبَة مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَخَالَفَ مَا أَمَرَ اللَّه بِهِ فَقَالَ : | وَقَدْ نُزِّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَاب | [ النِّسَاء : 140 ] الْآيَة . فَأَلْحَقَ مَنْ جَالَسَهُمْ بِهِمْ . وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا جَمَاعَة مِنْ أَئِمَّة هَذِهِ الْأُمَّة وَحَكَمَ بِمُوجَبِ هَذِهِ الْآيَات فِي مَجَالِس أَهْل الْبِدَع عَلَى الْمُعَاشَرَة وَالْمُخَالَطَة مِنْهُمْ أَحْمَد بْن حَنْبَل وَالْأَوْزَاعِيّ وَابْن الْمُبَارَك فَإِنَّهُمْ قَالُوا فِي رَجُل شَأْنه مُجَالَسَة أَهْل الْبِدَع قَالُوا : يَنْهَى عَنْ مُجَالَسَتهمْ , فَإِنْ اِنْتَهَى وَإِلَّا أُلْحِقَ بِهِمْ , يَعْنُونَ فِي الْحُكْم . وَقَدْ حَمَلَ عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز الْحَدّ عَلَى مُجَالِس شَرَبَة الْخَمْر , وَتَلَا | إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلهمْ | . قِيلَ لَهُ : فَإِنَّهُ يَقُول إِنِّي أُجَالِسهُمْ لِأُبَايِنهُمْ وَأَرُدّ عَلَيْهِمْ . قَالَ يُنْهَى عَنْ مُجَالَسَتهمْ , فَإِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْحَقّ بِهِمْ .

ثُمَّ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ

قَوْله تَعَالَى : | ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَاب | مَفْعُولَانِ . | تَمَامًا | مَفْعُول مِنْ أَجْله أَوْ مَصْدَر . | عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ | قُرِئَ بِالنَّصْبِ وَالرَّفْع . فَمَنْ رَفَعَ - وَهِيَ قِرَاءَة يَحْيَى بْن يَعْمُر وَابْن أَبِي إِسْحَاق . فَعَلَى تَقْدِير : تَمَامًا عَلَى الَّذِي هُوَ أَحْسَنُ . قَالَ الْمَهْدَوِيّ : وَفِيهِ بُعْد مِنْ أَجْل حَذْف الْمُبْتَدَأ الْعَائِد عَلَى الَّذِي . وَحَكَى سِيبَوَيْهِ عَنْ الْخَلِيل أَنَّهُ سَمِعَ | مَا أَنَا بِاَلَّذِي قَائِل لَك شَيْئًا | . وَمَنْ نَصَبَ فَعَلَى أَنَّهُ فِعْل مَاضٍ دَاخِل فِي الصِّلَة ; هَذَا قَوْل الْبَصْرِيِّينَ . وَأَجَازَ الْكِسَائِيّ وَالْفَرَّاء أَنْ يَكُون اِسْمًا نَعْتًا لِلَّذِي . وَأَجَازَا | مَرَرْت بِاَلَّذِي أَخِيك | يَنْعَتَانِ الَّذِي بِالْمَعْرِفَةِ وَمَا قَارَبَهَا . قَالَ النَّحَّاس : وَهَذَا مُحَال عِنْد الْبَصْرِيِّينَ ; لِأَنَّهُ نَعْت لِلِاسْمِ قَبْل أَنْ يَتِمّ , وَالْمَعْنَى عِنْدهمْ : عَلَى الْمُحْسِن . قَالَ مُجَاهِد : تَمَامًا عَلَى الْمُحْسِن الْمُؤْمِن . وَقَالَ الْحَسَن فِي مَعْنَى قَوْله : | تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ | كَانَ فِيهِمْ مُحْسِن وَغَيْر مُحْسِن ; فَأَنْزَلَ اللَّه الْكِتَاب تَمَامًا عَلَى الْمُحْسِنِينَ . وَالدَّلِيل عَلَى صِحَّة هَذَا الْقَوْل أَنَّ اِبْن مَسْعُود قَرَأَ : | تَمَامًا عَلَى الَّذِينَ أَحْسَنُوا | . وَقِيلَ : الْمَعْنَى أَعْطَيْنَا مُوسَى التَّوْرَاة زِيَادَة عَلَى مَا كَانَ يُحْسِنهُ مُوسَى مِمَّا كَانَ عَلَّمَهُ اللَّه قَبْل نُزُول التَّوْرَاة عَلَيْهِ . قَالَ مُحَمَّد بْن يَزِيد : فَالْمَعْنَى | تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ | أَيْ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَهُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام مِنْ الرِّسَالَة وَغَيْرهَا . وَقَالَ عَبْد اللَّه بْن زَيْد : مَعْنَاهُ عَلَى إِحْسَان اللَّه تَعَالَى إِلَى أَنْبِيَائِهِ عَلَيْهِمْ السَّلَام مِنْ الرِّسَالَة وَغَيْرهَا . وَقَالَ الرَّبِيع بْن أَنَس : تَمَامًا عَلَى إِحْسَان مُوسَى مِنْ طَاعَته لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ; وَقَالَهُ الْفَرَّاء . ثُمَّ قِيلَ : | ثُمَّ | يَدُلّ عَلَى أَنَّ الثَّانِي بَعْد الْأَوَّل , وَقِصَّة مُوسَى صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِتْيَانه الْكِتَاب قَبْل هَذَا ; فَقِيلَ : | ثُمَّ | بِمَعْنَى الْوَاو ; أَيْ وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَاب , لِأَنَّهُمَا حَرْفَا عَطْف . وَقِيلَ : تَقْدِير الْكَلَام ثُمَّ كُنَّا قَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَاب قَبْل إِنْزَالنَا الْقُرْآن عَلَى مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقِيلَ : الْمَعْنَى قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبّكُمْ عَلَيْكُمْ , ثُمَّ أَتْلُ مَا آتَيْنَا مُوسَى تَمَامًا . | وَتَفْصِيلًا | عَطْف عَلَيْهِ . وَكَذَا | وَهُدًى وَرَحْمَة |

وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ

| وَهَذَا كِتَاب | اِبْتِدَاء وَخَبَر . | أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَك | نَعْت ; أَيْ كَثِير الْخَيْرَات . وَيَجُوز فِي غَيْر الْقُرْآن | مُبَارَكًا | عَلَى الْحَال . | فَاتَّبِعُوهُ | أَيْ اِعْمَلُوا بِمَا فِيهِ . | وَاتَّقُوا | أَيْ اِتَّقُوا تَحْرِيفه . | لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ | أَيْ لِتَكُونُوا رَاجِينَ لِلرَّحْمَةِ فَلَا تُعَذَّبُونَ .

أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ

فِي مَوْضِع نَصْب . قَالَ الْكُوفِيُّونَ . لِئَلَّا تَقُولُوا . وَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ : أَنْزَلْنَاهُ كَرَاهِيَة أَنْ تَقُولُوا . وَقَالَ الْفَرَّاء وَالْكِسَائِيّ : الْمَعْنَى فَاتَّقُوا أَنْ تَقُولُوا يَا أَهْل مَكَّة .|إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ|أَيْ التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل .|عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا|أَيْ عَلَى الْيَهُود وَالنَّصَارَى , وَلَمْ يَنْزِل عَلَيْنَا كِتَاب .|وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ|أَيْ عَنْ تِلَاوَة كُتُبهمْ وَعَنْ لُغَاتهمْ . وَلَمْ يَقُلْ عَنْ دِرَاسَتهمَا ; لِأَنَّ كُلّ طَائِفَة جَمَاعَة .

أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آَيَاتِ

عُطِفَ عَلَى | أَنْ تَقُولُوا | .|فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ|أَيْ قَدْ زَالَ الْعُذْر بِمَجِيءِ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَالْبَيِّنَة وَالْبَيَان وَاحِد ; وَالْمُرَاد مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , سَمَّاهُ سُبْحَانه بَيِّنَة .|وَهُدًى وَرَحْمَةٌ|أَيْ لِمَنْ اِتَّبَعَهُ .|فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا|أَيْ فَإِنْ كَذَّبْتُمْ فَلَا أَحَد أَظْلَم مِنْكُمْ . | صَدَف | أَعْرَضَ .|سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ|| يَصْدِفُونَ | يُعْرِضُونَ . وَقَدْ تَقَدَّمَ .

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آَمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْر

مَعْنَاهُ أَقَمْت عَلَيْهِمْ الْحُجَّة وَأَنْزَلْت عَلَيْهِمْ الْكِتَاب فَلَمْ يُؤْمِنُوا , فَمَاذَا يَنْتَظِرُونَ .|إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ|أَيْ عِنْد الْمَوْت لِقَبْضِ أَرْوَاحهمْ .|أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ|قَالَ اِبْن عَبَّاس وَالضَّحَّاك : أَمَرَ رَبّك فِيهِمْ بِالْقَتْلِ أَوْ غَيْره , وَقَدْ يُذْكَر الْمُضَاف إِلَيْهِ وَالْمُرَاد بِهِ الْمُضَاف ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى : | وَاسْأَلْ الْقَرْيَة | [ يُوسُف : 82 ] يَعْنِي أَهْل الْقَرْيَة . وَقَوْله : | وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبهمْ الْعِجْل | [ الْبَقَرَة : 93 ] أَيْ حُبّ الْعِجْل . كَذَلِكَ هُنَا : يَأْتِي أَمْر رَبّك , أَيْ عُقُوبَة رَبّك وَعَذَاب رَبّك . وَيُقَال : هَذَا مِنْ الْمُتَشَابِه الَّذِي لَا يَعْلَم تَأْوِيله إِلَّا اللَّه . وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْل فِي مِثْله فِي | الْبَقَرَة | وَغَيْرهَا .|أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ|قِيلَ : هُوَ طُلُوع الشَّمْس مِنْ مَغْرِبهَا . بَيَّنَ بِهَذَا أَنَّهُمْ يُمْهَلُونَ فِي الدُّنْيَا فَإِذَا ظَهَرَتْ السَّاعَة فَلَا إِمْهَال . وَقِيلَ : إِتْيَان اللَّه تَعَالَى مَجِيئُهُ لِفَصْلِ الْقَضَاء بَيْن خَلْقه فِي مَوْقِف الْقِيَامَة ; كَمَا قَالَ تَعَالَى : | وَجَاءَ رَبّك وَالْمَلَك صَفًّا صَفًّا | [ الْفَجْر : 22 ] . وَلَيْسَ مَجِيئُهُ تَعَالَى حَرَكَة وَلَا اِنْتِقَالًا وَلَا زَوَالًا ; لِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَكُون إِذَا كَانَ الْجَائِي جِسْمًا أَوْ جَوْهَرًا . وَاَلَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُور أَئِمَّة أَهْل السُّنَّة أَنَّهُمْ يَقُولُونَ : يَجِيء وَيَنْزِل وَيَأْتِي . وَلَا يُكَيِّفُونَ ; لِأَنَّهُ | لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء وَهُوَ السَّمِيع الْبَصِير | [ الشُّورَى : 11 ] . وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( ثَلَاث إِذَا خَرَجْنَ لَا يَنْفَع نَفْسًا إِيمَانهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْل أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانهَا خَيْرًا : طُلُوع الشَّمْس مِنْ مَغْرِبهَا وَالدَّجَّال وَدَابَّة الْأَرْض ) . وَعَنْ صَفْوَان بْن عَسَّال الْمُرَادِيّ قَالَ سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( إِنَّ بِالْمَغْرِبِ بَابًا مَفْتُوحًا لِلتَّوْبَةِ مَسِيرَة سَبْعِينَ سَنَة لَا يُغْلَق حَتَّى تَطْلُع الشَّمْس مِنْ نَحْوه ) . أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَالدَّارِمِيّ وَالتِّرْمِذِيّ وَقَالَ : هَذَا حَدِيث حَسَن صَحِيح . وَقَالَ سُفْيَان : قِبَل الشَّام , خَلَقَهُ اللَّه يَوْم خَلَقَ السَّمَوَات وَالْأَرْض . ( مَفْتُوحًا ) يَعْنِي لِلتَّوْبَةِ لَا يُغْلَق حَتَّى تَطْلُع الشَّمْس مِنْهُ . قَالَ : حَدِيث حَسَن صَحِيح . قُلْت : وَكَذَّبَ بِهَذَا كُلّه الْخَوَارِج وَالْمُعْتَزِلَة كَمَا تَقَدَّمَ . وَرَوَى اِبْن عَبَّاس قَالَ : سَمِعْت عُمَر بْن الْخَطَّاب فَقَالَ : أَيّهَا النَّاس , إِنَّ الرَّجْم حَقّ فَلَا تُخْدَعُنَّ عَنْهُ , وَإِنَّ آيَة ذَلِكَ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ رَجَمَ , وَأَنَّ أَبَا بَكْر قَدْ رَجَمَ , وَأَنَا قَدْ رَجَمْنَا بَعْدهمَا , وَسَيَكُونُ قَوْم مِنْ هَذِهِ الْأُمَّة يُكَذِّبُونَ بِالرَّجْمِ , وَيُكَذِّبُونَ بِالدَّجَّالِ , وَيُكَذِّبُونَ بِطُلُوعِ الشَّمْس مِنْ مَغْرِبهَا , وَيُكَذِّبُونَ بِعَذَابِ الْقَبْر , وَيُكَذِّبُونَ بِالشَّفَاعَةِ , وَيُكَذِّبُونَ بِقَوْمٍ يَخْرُجُونَ مِنْ النَّار بَعْد مَا اِمْتَحَشُوا . ذَكَرَهُ أَبُو عُمَر . وَذَكَرَ الثَّعْلَبِيّ فِي حَدِيث فِيهِ طُول عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا مَعْنَاهُ : أَنَّ الشَّمْس تُحْبَس عَنْ النَّاس - حِين تَكْثُر الْمَعَاصِي فِي الْأَرْض , وَيَذْهَب الْمَعْرُوف فَلَا يَأْمُر بِهِ أَحَد , وَيَفْشُو الْمُنْكَر فَلَا يُنْهَى عَنْهُ - مِقْدَار لَيْلَة تَحْت الْعَرْش , كُلَّمَا سَجَدَتْ وَاسْتَأْذَنَتْ رَبّهَا تَعَالَى مِنْ أَيْنَ تَطْلُع لَمْ يَجِئْ لَهَا جَوَاب حَتَّى يُوَافِيهَا الْقَمَر فَيَسْجُد مَعَهَا , وَيَسْتَأْذِن مِنْ أَيْنَ يَطْلُع فَلَا يُجَاء إِلَيْهِمَا جَوَاب حَتَّى يُحْبَسَا مِقْدَار ثَلَاث لَيَالٍ لِلشَّمْسِ وَلَيْلَتَيْنِ لِلْقَمَرِ ; فَلَا يُعْرَف طُول تِلْكَ اللَّيْلَة إِلَّا الْمُتَهَجِّدُونَ فِي الْأَرْض وَهُمْ يَوْمئِذٍ عِصَابَة قَلِيلَة فِي كُلّ بَلْدَة مِنْ بِلَاد الْمُسْلِمِينَ فَإِذَا تَمَّ لَهُمَا مِقْدَار ثَلَاث لَيَالٍ أَرْسَلَ اللَّه تَعَالَى إِلَيْهِمَا جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام فَيَقُول : ( إِنَّ الرَّبّ سُبْحَانه وَتَعَالَى يَأْمُركُمَا أَنْ تَرْجِعَا إِلَى مَغَارِبكُمَا فَتَطْلُعَا مِنْهُ , وَأَنَّهُ لَا ضَوْء لَكُمَا عِنْدنَا وَلَا نُور ) فَيَطْلُعَانِ مِنْ مَغَارِبهمَا أَسْوَدَيْنِ , لَا ضَوْء لِلشَّمْسِ وَلَا نُور لِلْقَمَرِ , مِثْلهمَا فِي كُسُوفهمَا قَبْل ذَلِكَ . فَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : | وَجَمَعَ الشَّمْس وَالْقَمَر | [ الْقِيَامَة : 9 ] وَقَوْله : | إِذَا الشَّمْس كُوِّرَتْ | [ التَّكْوِير : 1 ] فَيَرْتَفِعَانِ كَذَلِكَ مِثْل الْبَعِيرَيْنِ الْمَقْرُونَيْنِ ; فَإِذَا مَا بَلَغَ الشَّمْس وَالْقَمَر سُرَّة السَّمَاء وَهِيَ مُنْتَصَفهَا جَاءَهُمَا جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام فَأَخَذَ بِقُرُونِهِمَا وَرَدَّهُمَا إِلَى الْمَغْرِب , فَلَا يُغَرِّبهُمَا مِنْ مَغَارِبهمَا وَلَكِنْ يُغَرِّبهُمَا مِنْ بَاب التَّوْبَة ثُمَّ يَرُدّ الْمِصْرَاعَيْنِ , ثُمَّ يَلْتَئِم مَا بَيْنهمَا فَيَصِير كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنهمَا صَدْع . فَإِذَا أُغْلِقَ بَاب التَّوْبَة لَمْ تُقْبَل لِعَبْدٍ بَعْد ذَلِكَ تَوْبَة , وَلَمْ تَنْفَعهُ بَعْد ذَلِكَ حَسَنَة يَعْمَلهَا ; إِلَّا مَنْ كَانَ قَبْل ذَلِكَ مُحْسِنًا فَإِنَّهُ يَجْرِي عَلَيْهِ مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْل ذَلِكَ الْيَوْم ; فَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : | يَوْم يَأْتِي بَعْض آيَات رَبّك لَا يَنْفَع نَفْسًا إِيمَانهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْل أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانهَا خَيْرًا | .|يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ|ثُمَّ إِنَّ الشَّمْس وَالْقَمَر يُكْسَيَانِ بَعْد ذَلِكَ الضَّوْء وَالنُّور , ثُمَّ يَطْلُعَانِ عَلَى النَّاس وَيُغَرِّبَانِ كَمَا كَانَا قَبْل ذَلِكَ يَطْلُعَانِ وَيَغْرُبَانِ . قَالَ الْعُلَمَاء : وَإِنَّمَا لَا يَنْفَع نَفْسًا إِيمَانهَا عِنْد طُلُوعهَا مِنْ مَغْرِبهَا ; لِأَنَّهُ خَلَصَ إِلَى قُلُوبهمْ مِنْ الْفَزَع مَا تُخْمَد مَعَهُ كُلّ شَهْوَة مِنْ شَهَوَات النَّفْس , وَتَفْتُر كُلّ قُوَّة مِنْ قُوَى الْبَدَن ; فَيَصِير النَّاس كُلّهمْ لِإِيقَانِهِمْ بِدُنُوِّ الْقِيَامَة فِي حَال مَنْ حَضَرَهُ الْمَوْت فِي اِنْقِطَاع الدَّوَاعِي إِلَى أَنْوَاع الْمَعَاصِي عَنْهُمْ , وَبُطْلَانهَا مِنْ أَبْدَانهمْ ; فَمَنْ تَابَ فِي مِثْل هَذِهِ الْحَال لَمْ تُقْبَل تَوْبَته , كَمَا لَا تُقْبَل تَوْبَة مَنْ حَضَرَهُ الْمَوْت . قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ اللَّه يَقْبَل تَوْبَة الْعَبْد مَا لَمْ يُغَرْغِر ) أَيْ تَبْلُغ رُوحه رَأْس حَلْقه , وَذَلِكَ وَقْت الْمُعَايَنَة الَّذِي يَرَى فِيهِ مَقْعَده مِنْ الْجَنَّة أَوْ مَقْعَده مِنْ النَّار ; فَالْمُشَاهَد لِطُلُوعِ الشَّمْس مِنْ مَغْرِبهَا مِثْله . وَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُون تَوْبَة كُلّ مَنْ شَاهَدَ ذَلِكَ أَوْ كَانَ كَالْمُشَاهَدِ لَهُ مَرْدُودَة مَا عَاشَ ; لِأَنَّ عِلْمه بِاَللَّهِ تَعَالَى وَبِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِوَعْدِهِ قَدْ صَارَ ضَرُورَة . فَإِنْ اِمْتَدَّتْ أَيَّام الدُّنْيَا إِلَى أَنْ يَنْسَى النَّاس مِنْ هَذَا الْأَمْر الْعَظِيم مَا كَانَ , وَلَا يَتَحَدَّثُوا عَنْهُ إِلَّا قَلِيلًا , فَيَصِير الْخَبَر عَنْهُ خَاصًّا وَيَنْقَطِع التَّوَاتُر عَنْهُ ; فَمَنْ أَسْلَمَ فِي ذَلِكَ الْوَقْت أَوْ تَابَ قُبِلَ مِنْهُ . وَاَللَّه أَعْلَم . وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ عَبْد اللَّه قَالَ : حَفِظْت مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثًا لَمْ أَنْسَهُ بَعْد , سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( إِنَّ أَوَّل الْآيَات خُرُوجًا طُلُوع الشَّمْس مِنْ مَغْرِبهَا وَخُرُوج الدَّابَّة عَلَى النَّاس ضُحًى وَأَيّهمَا مَا كَانَتْ قَبْل صَاحِبَتهَا فَالْأُخْرَى عَلَى إِثْرهَا قَرِيبًا ) . وَفِيهِ عَنْ حُذَيْفَة قَالَ : كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غُرْفَة وَنَحْنُ أَسْفَل مِنْهُ , فَاطَّلَعَ إِلَيْنَا فَقَالَ : | مَا تَذْكُرُونَ ) ؟ قُلْنَا : السَّاعَة . قَالَ : ( إِنَّ السَّاعَة لَا تَكُون حَتَّى تَكُون عَشْر آيَات . خَسْف بِالْمَشْرِقِ وَخَسْف بِالْمَغْرِبِ وَخَسْف فِي جَزِيرَة الْعَرَب وَالدُّخَان وَالدَّجَّال وَدَابَّة الْأَرْض وَيَأْجُوج وَمَأْجُوج وَطُلُوع الشَّمْس مِنْ مَغْرِبهَا وَنَار تَخْرُج مِنْ قَعْر عَدْن تُرَحِّل النَّاس ) . قَالَ شُعْبَة : وَحَدَّثَنِي عَبْد الْعَزِيز بْن رُفَيْع عَنْ أَبِي الطُّفَيْل عَنْ أَبِي سَرِيحَة مِثْل ذَلِكَ , لَا يَذْكُر النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَالَ أَحَدهمَا فِي الْعَاشِرَة : وَنُزُول عِيسَى اِبْن مَرْيَم صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَالَ الْآخَر : وَرِيح تُلْقِي النَّاس فِي الْبَحْر . قُلْت : وَهَذَا حَدِيث مُتْقِن فِي تَرْتِيب الْعَلَامَات . وَقَدْ وَقَعَ بَعْضهَا وَهِيَ الْخُسُوفَات عَلَى مَا ذَكَرَ أَبُو الْفَرَج الْجَوْزِيّ مِنْ وُقُوعهَا بِعِرَاقِ الْعَجَم وَالْمَغْرِب . وَهَلَكَ بِسَبَبِهَا خَلْق كَثِير ; ذَكَرَهُ فِي كِتَاب فُهُوم الْآثَار وَغَيْره . وَيَأْتِي ذِكْر الدَّابَّة فِي | النَّمْل | . وَيَأْجُوج وَمَأْجُوج فِي | الْكَهْف | . وَيُقَال : إِنَّ الْآيَات تَتَابَع كَالنَّظْمِ فِي الْخَيْط عَامًا فَعَامًا . وَقِيلَ : إِنَّ الْحُكْم فِي طُلُوع الشَّمْس مِنْ مَغْرِبهَا أَنَّ إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ لِنُمْرُوذ : | فَإِنَّ اللَّه يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِق فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِب فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ | [ الْبَقَرَة : 258 ] وَأَنَّ الْمُلْحِدَة وَالْمُنَجِّمَة عَنْ آخِرهمْ يُنْكِرُونَ ذَلِكَ وَيَقُولُونَ : هُوَ غَيْر كَائِن ; فَيُطْلِعهَا اللَّه تَعَالَى يَوْمًا مِنْ الْمَغْرِب لِيُرِيَ الْمُنْكِرِينَ قُدْرَته أَنَّ الشَّمْس فِي مُلْكه , إِنْ شَاءَ أَطْلَعَهَا مِنْ الْمَشْرِق وَإِنْ شَاءَ أَطْلَعَهَا مِنْ الْمَغْرِب . وَعَلَى هَذَا يَحْتَمِل أَنْ يَكُون رَدّ التَّوْبَة وَالْإِيمَان عَلَى مَنْ آمَنَ وَتَابَ مِنْ الْمُنْكِرِينَ لِذَلِكَ الْمُكَذِّبِينَ لِخَبَرِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِطُلُوعِهَا , فَأَمَّا الْمُصَدِّقُونَ لِذَلِكَ فَإِنَّهُ تُقْبَل تَوْبَتهمْ وَيَنْفَعهُمْ إِيمَانهمْ قَبْل ذَلِكَ . وَرُوِيَ عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَبَّاس أَنَّهُ قَالَ : لَا يُقْبَل مِنْ كَافِر عَمَل وَلَا تَوْبَة إِذَا أَسْلَمَ حِين يَرَاهَا , إِلَّا مَنْ كَانَ صَغِيرًا يَوْمئِذٍ ; فَإِنَّهُ لَوْ أَسْلَمَ بَعْد ذَلِكَ قُبِلَ ذَلِكَ مِنْهُ . وَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا مُذْنِبًا فَتَابَ مِنْ الذَّنْب قُبِلَ مِنْهُ . وَرُوِيَ عَنْ عِمْرَان بْن حُصَيْن أَنَّهُ قَالَ : إِنَّمَا لَمْ تُقْبَل تَوْبَته وَقْت طُلُوع الشَّمْس حِين تَكُون صَيْحَة فَيَهْلِك فِيهَا كَثِير مِنْ النَّاس ; فَمَنْ أَسْلَمَ أَوْ تَابَ فِي ذَلِكَ الْوَقْت وَهَلَكَ لَمْ تُقْبَل تَوْبَته , وَمَنْ تَابَ بَعْد ذَلِكَ قُبِلَتْ تَوْبَته ; ذَكَرَهُ أَبُو اللَّيْث السَّمَرْقَنْدِيّ فِي تَفْسِيره . وَقَالَ عَبْد اللَّه بْن عُمَر : يَبْقَى النَّاس بَعْد طُلُوع الشَّمْس مِنْ مَغْرِبهَا مِائَة وَعِشْرِينَ سَنَة حَتَّى يَغْرِسُوا النَّخْل . وَاَللَّه بِغَيْبِهِ أَعْلَم . وَقَرَأَ اِبْن عُمَر وَابْن الزُّبَيْر | يَوْم تَأْتِي | بِالتَّاءِ ; مِثْل | تَلْتَقِطهُ بَعْض السَّيَّارَة | . وَذَهَبَتْ بَعْض أَصَابِعه . وَقَالَ جَرِير : <br>لَمَّا أَتَى خَبَر الزُّبَيْر تَوَاضَعَتْ .......... سُوَر الْمَدِينَة وَالْجِبَال الْخُشَّع <br>قَالَ الْمُبَرِّد : التَّأْنِيث عَلَى الْمُجَاوَرَة لِمُؤَنَّثٍ لَا عَلَى الْأَصْل . وَقَرَأَ اِبْن سِيرِينَ | لَا تَنْفَع | بِالتَّاءِ . قَالَ أَبُو حَاتِم : يَذْكُرُونَ أَنَّ هَذَا غَلَط مِنْ اِبْن سِيرِينَ . قَالَ النَّحَّاس : فِي هَذَا شَيْء دَقِيق مِنْ النَّحْو ذَكَرَهُ سِيبَوَيْهِ , وَذَلِكَ أَنَّ الْإِيمَان وَالنَّفْس كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا مُشْتَمِل عَلَى الْآخَر فَأَنَّثَ الْإِيمَان إِذْ هُوَ مِنْ النَّفْس وَبِهَا ; وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ : <br>مَشَيْنَ كَمَا اِهْتَزَّتْ رِمَاح تَسَفَّهَتْ .......... أَعَالِيهَا مَرّ الرِّيَاح النَّوَاسِم <br>قَالَ الْمَهْدَوِيّ : وَكَثِيرًا مَا يُؤَنِّثُونَ فِعْل الْمُضَاف الْمُذَكَّر إِذَا كَانَتْ إِضَافَته إِلَى مُؤَنَّث , وَكَانَ الْمُضَاف بَعْض الْمُضَاف إِلَيْهِ مِنْهُ أَوْ بِهِ ; وَعَلَيْهِ قَوْل ذِي الرُّمَّة : مَشَيْنَ . . . الْبَيْت فَأَنَّثَ الْمَرّ لِإِضَافَتِهِ إِلَى الرِّيَاح وَهِيَ مُؤَنَّثَة , إِذْ كَانَ الْمَرّ مِنْ الرِّيَاح . قَالَ النَّحَّاس : وَفِيهِ قَوْل آخَر وَهُوَ أَنْ يُؤَنَّث الْإِيمَان لِأَنَّهُ مَصْدَر كَمَا يُذَكَّر الْمَصْدَر الْمُؤَنَّث ; مِثْل | فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَة مِنْ رَبّه | [ الْبَقَرَة : 275 ] وَكَمَا قَالَ : <br>فَقَدْ عَذَرْتنَا فِي صَحَابَته الْعُذْر <br>فَفِي أَحَد الْأَقْوَال أَنَّثَ الْعُذْر لِأَنَّهُ بِمَعْنَى الْمَعْذِرَة . | قُلْ اِنْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ | بِكُمْ الْعَذَاب .

إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ

قَرَأَهُ حَمْزَة وَالْكِسَائِيّ فَارَقُوا بِالْأَلِفِ , وَهِيَ قِرَاءَة عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب كَرَّمَ اللَّه وَجْهه ; مِنْ الْمُفَارَقَة وَالْفِرَاق . عَلَى مَعْنَى أَنَّهُمْ تَرَكُوا دِينهمْ وَخَرَجُوا عَنْهُ . وَكَانَ عَلِيّ يَقُول : وَاَللَّه مَا فَرَّقُوهُ وَلَكِنْ فَارَقُوهُ . وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ ; إِلَّا النَّخَعِيّ فَإِنَّهُ قَرَأَ | فَرَّقُوا | مُخَفَّفًا ; أَيْ آمَنُوا بِبَعْضٍ وَكَفَرُوا بِبَعْضٍ . وَالْمُرَاد الْيَهُود وَالنَّصَارَى فِي قَوْل مُجَاهِد وَقَتَادَة وَالسُّدِّيّ وَالضَّحَّاك . وَقَدْ وُصِفُوا بِالتَّفَرُّقِ ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : | وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب إِلَّا مِنْ بَعْد مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَة | [ الْبَيِّنَة : 4 ] . وَقَالَ : | وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْن اللَّه وَرُسُله | [ النِّسَاء : 150 ] . وَقِيلَ : عَنَى الْمُشْرِكِينَ , عَبَدَ بَعْضهمْ الصَّنَم وَبَعْضهمْ الْمَلَائِكَة . وَقِيلَ : الْآيَة عَامَّة فِي جَمِيع الْكُفَّار . وَكُلّ مَنْ اِبْتَدَعَ وَجَاءَ بِمَا لَمْ يَأْمُر اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بِهِ فَقَدْ فَرَّقَ دِينه . وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَة | إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينهمْ | هُمْ أَهْل الْبِدَع وَالشُّبُهَات , وَأَهْل الضَّلَالَة مِنْ هَذِهِ الْأُمَّة . وَرَوَى بَقِيَّة بْن الْوَلِيد حَدَّثَنَا شُعْبَة بْن الْحَجَّاج حَدَّثَنَا مُجَالِد عَنْ الشَّعْبِيّ عَنْ شُرَيْح عَنْ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَائِشَة : ( إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينهمْ وَكَانُوا شِيَعًا إِنَّمَا هُمْ أَصْحَاب الْبِدَع وَأَصْحَاب الْأَهْوَاء وَأَصْحَاب الضَّلَالَة مِنْ هَذِهِ الْأُمَّة , يَا عَائِشَة إِنَّ لِكُلِّ صَاحِب ذَنْب تَوْبَة غَيْر أَصْحَاب الْبِدَع وَأَصْحَاب الْأَهْوَاء لَيْسَ لَهُمْ تَوْبَة وَأَنَا بَرِيء مِنْهُمْ وَهُمْ مِنَّا بُرَآء ) . وَرَوَى لَيْث بْن أَبِي سُلَيْم عَنْ طَاوُس عَنْ أَبِي هُرَيْرَة أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ | إِنَّ الَّذِينَ فَارَقُوا دِينهمْ | .|وَكَانُوا شِيَعًا|فِرَقًا وَأَحْزَابًا . وَكُلّ قَوْم أَمْرهمْ وَاحِد يَتَّبِع بَعْضهمْ رَأْي بَعْض فَهُمْ شِيَع .|لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ|فَأَوْجَبَ بَرَاءَته مِنْهُمْ ; وَهُوَ كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا ) أَيْ نَحْنُ بُرَآء مِنْهُ . وَقَالَ الشَّاعِر : <br>إِذَا حَاوَلْت فِي أَسَد فُجُورًا .......... فَإِنِّي لَسْت مِنْك وَلَسْت مِنِّي <br>أَيْ أَنَا أَبْرَأ مِنْك . وَمَوْضِع | فِي شَيْء | نَصْب عَلَى الْحَال مِنْ الْمُضْمَر الَّذِي فِي الْخَبَر ; قَالَهُ أَبُو عَلِيّ . وَقَالَ الْفَرَّاء هُوَ عَلَى حَذْف مُضَاف , الْمَعْنَى لَسْت مِنْ عِقَابهمْ فِي شَيْء , وَإِنَّمَا عَلَيْك الْإِنْذَار .|إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ|تَعْزِيَة لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ

اِبْتِدَاء , وَهُوَ شَرْط , وَالْجَوَاب | فَلَهُ عَشْر أَمْثَالهَا ||فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا|أَيْ فَلَهُ عَشْر حَسَنَات أَمْثَالهَا ; فَحُذِفَتْ الْحَسَنَات وَأُقِيمَتْ الْأَمْثَال الَّتِي هِيَ صِفَتهَا مَقَامهَا ; جَمْع مِثْل وَحَكَى سِيبَوَيْهِ : عِنْدِي عَشَرَة نَسَّابَات , أَيْ عِنْدِي عَشَرَة رِجَال نَسَّابَات . وَقَالَ أَبُو عَلِيّ : حَسُنَ التَّأْنِيث فِي | عَشْر أَمْثَالهَا | لِمَا كَانَ الْأَمْثَال مُضَافًا إِلَى مُؤَنَّث , وَالْإِضَافَة إِلَى الْمُؤَنَّث إِذَا كَانَ إِيَّاهُ فِي الْمَعْنَى يَحْسُن فِيهِ ذَلِكَ ; نَحْو | تَلْتَقِطهُ بَعْض السَّيَّارَة | . وَذَهَبَتْ بَعْض أَصَابِعه . وَقَرَأَ الْحَسَن وَسَعِيد بْن جُبَيْر وَالْأَعْمَش | فَلَهُ عَشْر أَمْثَالهَا | . وَالتَّقْدِير : فَلَهُ عَشْر حَسَنَات أَمْثَالهَا , أَيْ لَهُ مِنْ الْجَزَاء عَشْرَة أَضْعَاف مِمَّا يَجِب لَهُ . وَيَجُوز أَنْ يَكُون لَهُ مِثْل , وَيُضَاعَف الْمِثْل فَيَصِير عَشَرَة . وَالْحَسَنَة هُنَا : الْإِيمَان . أَيْ مَنْ جَاءَ بِشَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه فَلَهُ بِكُلِّ عَمَل عَمَله فِي الدُّنْيَا مِنْ الْخَيْر عَشَرَة أَمْثَاله مِنْ الثَّوَاب .|وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ|يَعْنِي الشِّرْك .|فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا|وَهُوَ الْخُلُود فِي النَّار ; لِأَنَّ الشِّرْك أَعْظَم الذُّنُوب , وَالنَّار أَعْظَم الْعُقُوبَة ; فَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : | جَزَاء وِفَاقًا | [ النَّبَأ : 26 ] يَعْنِي جَزَاء وَافَقَ الْعَمَل . وَأَمَّا الْحَسَنَة فَبِخِلَافِ ذَلِكَ ; لِنَصِّ اللَّه تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ . وَفِي الْخَبَر ( الْحَسَنَة بِعَشْرِ أَمْثَالهَا وَأَزِيد وَالسَّيِّئَة وَاحِدَة وَأَغْفِر فَالْوَيْل لِمَنْ غَلَبَتْ آحَاده أَعْشَاره ) . وَرَوَى الْأَعْمَش عَنْ أَبِي صَالِح قَالَ : الْحَسَنَة لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَالسَّيِّئَة الشِّرْك .|وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ|أَيْ لَا يَنْقُص ثَوَاب أَعْمَالهمْ . وَقَدْ مَضَى فِي | الْبَقَرَة | بَيَان هَذِهِ الْآيَة , وَأَنَّهَا مُخَالِفَة لِلْإِنْفَاقِ فِي سَبِيل اللَّه ; وَلِهَذَا قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء : الْعَشْر لِسَائِرِ الْحَسَنَات ; وَالسَّبْعمِائَةِ لِلنَّفَقَةِ فِي سَبِيل اللَّه , وَالْخَاصّ وَالْعَامّ فِيهِ سَوَاء . وَقَالَ بَعْضهمْ : يَكُون لِلْعَوَامِّ عَشَرَة وَلِلْخَوَاصِّ سَبْعمِائَةِ وَأَكْثَر إِلَى مَا لَا يُحْصَى ; وَهَذَا يَحْتَاج إِلَى تَوْقِيف . وَالْأَوَّل أَصَحّ ; لِحَدِيثِ خُرَيْم بْن فَاتِك عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَفِيهِ : ( وَأَمَّا حَسَنَة بِعَشْرٍ فَمَنْ عَمِلَ حَسَنَة فَلَهُ عَشْر أَمْثَالهَا وَأَمَّا حَسَنَة بِسَبْعِمِائَةٍ فَالنَّفَقَة فِي سَبِيل اللَّه ) .

قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ

لَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْكُفَّار تَفَرَّقُوا بَيَّنَ أَنَّ اللَّه هَدَاهُ إِلَى الدِّين الْمُسْتَقِيم وَهُوَ دِين إِبْرَاهِيم|دِينًا|نُصِبَ عَلَى الْحَال ; عَنْ قُطْرُب . وَقِيلَ : نُصِبَ ب | هَدَانِي | عَنْ الْأَخْفَش . قَالَ غَيْره : اُنْتُصِبَ حَمْلًا عَلَى الْمَعْنَى ; لِأَنَّ مَعْنَى هَدَانِي عَرَفَنِي دِينًا . وَيَجُوز أَنْ يَكُون بَدَلًا مِنْ الصِّرَاط , أَيْ هَدَانِي صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا دِينًا . وَقِيلَ : مَنْصُوب بِإِضْمَارِ فِعْل ; فَكَأَنَّهُ قَالَ : اِتَّبِعُوا دِينًا , وَاعْرِفُوا دِينًا .|قِيَمًا|قَرَأَهُ الْكُوفِيُّونَ وَابْن عَامِر بِكَسْرِ الْقَاف وَالتَّخْفِيف وَفَتْح الْيَاء , مَصْدَر كَالشِّبَعِ فَوُصِفَ بِهِ . وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْقَاف وَكَسْر الْيَاء وَشَدّهَا , وَهُمَا لُغَتَانِ . وَأَصْل الْيَاء الْوَاو | قَيُّوم | ثُمَّ أُدْغِمَتْ الْوَاو فِي الْيَاء كَمَيِّتٍ . وَمَعْنَاهُ دِينًا مُسْتَقِيمًا لَا عِوَج فِيهِ .|مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ|بَدَل .|حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ|قَالَ الزَّجَّاج : هُوَ حَال مِنْ إِبْرَاهِيم . وَقَالَ عَلِيّ بْن سُلَيْمَان : هُوَ نَصْب بِإِضْمَارِ أَعْنِي .

قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ

قَدْ تَقَدَّمَ اِشْتِقَاق لَفْظ الصَّلَاة . وَقِيلَ : الْمُرَاد بِهَا هُنَا صَلَاة اللَّيْل . وَقِيلَ : صَلَاة الْعِيد . وَالنُّسُك جَمْع نَسِيكَة , وَهِيَ الذَّبِيحَة , وَكَذَلِكَ قَالَ مُجَاهِد وَالضَّحَّاك وَسَعِيد بْن جُبَيْر وَغَيْرهمْ . وَالْمَعْنَى : ذَبْحِي فِي الْحَجّ وَالْعُمْرَة . وَقَالَ الْحَسَن : نُسُكِي دِينِي . وَقَالَ الزَّجَّاج : عِبَادَتِي ; وَمِنْهُ النَّاسِك الَّذِي يَتَقَرَّب إِلَى اللَّه بِالْعِبَادَةِ . وَقَالَ قَوْم : النُّسُك فِي هَذِهِ الْآيَة جَمِيع أَعْمَال الْبِرّ وَالطَّاعَات ; مِنْ قَوْلك نَسَكَ فُلَان فَهُوَ نَاسِك , إِذَا تَعَبَّدَ .|وَمَحْيَايَ|أَيْ مَا أَعْمَلهُ فِي حَيَاتِي .|وَمَمَاتِي|أَيْ مَا أُوصِي بِهِ بَعْد وَفَاتِي .|لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ|أَيْ أُفْرِدهُ بِالتَّقَرُّبِ بِهَا إِلَيْهِ . وَقِيلَ : | وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ | أَيْ حَيَاتِي وَمَوْتِي لَهُ . وَقَرَأَ الْحَسَن : | نُسْكِي | بِإِسْكَانِ السِّين . وَأَهْل الْمَدِينَة | وَمَحْيَايْ | بِسُكُونِ الْيَاء فِي الْإِدْرَاج . وَالْعَامَّة بِفَتْحِهَا ; لِأَنَّهُ لَا يَجْتَمِع سَاكِنَانِ . قَالَ النَّحَّاس : لَمْ يُجِزْهُ أَحَد مِنْ النَّحْوِيِّينَ إِلَّا يُونُس , وَإِنَّمَا أَجَازَهُ لِأَنَّ قَبْله أَلِفًا , وَالْأَلِف الْمَدَّة الَّتِي فِيهَا تَقُوم مَقَام الْحَرَكَة . وَأَجَازَ يُونُس اِضْرِبَانِ زَيْدًا , وَإِنَّمَا مَنَعَ النَّحْوِيُّونَ هَذَا لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْن سَاكِنَيْنِ وَلَيْسَ فِي الثَّانِي إِدْغَام , وَمَنْ قَرَأَ بِقِرَاءَةِ أَهْل الْمَدِينَة وَأَرَادَ أَنْ يَسْلَم مِنْ اللَّحْن وَقَفَ عَلَى | مَحْيَايَ | فَيَكُون غَيْر لَاحِن عِنْد جَمِيع النَّحْوِيِّينَ . وَقَرَأَ اِبْن أَبِي إِسْحَاق وَعِيسَى بْن عُمَر وَعَاصِم الْجَحْدَرِيّ | وَمَحْيَيَّ | بِتَشْدِيدِ الْيَاء الثَّانِيَة مِنْ غَيْر أَلِف ; وَهِيَ لُغَة عُلْيَا مُضَر يَقُولُونَ : قَفَيَّ وَعَصَيَّ . وَأَنْشَدَ أَهْل اللُّغَة : <br>سَبَقُوا هَوَيَّ وَأَعْنَقُوا لِهَوَاهُمْ <br>وَقَدْ تَقَدَّمَ . قَالَ إِلْكِيَا الطَّبَرِيّ : قَوْله تَعَالَى : | قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم | إِلَى قَوْله : | قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ | اِسْتَدَلَّ بِهِ الشَّافِعِيّ عَلَى اِفْتِتَاح الصَّلَاة بِهَذَا الذِّكْر ; فَإِنَّ اللَّه أَمَرَ نَبِيّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْزَلَهُ فِي كِتَابه , ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيث عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا اِفْتَتَحَ الصَّلَاة قَالَ : | وَجَّهْت وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَات وَالْأَرْض حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ . إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ - إِلَى قَوْله - وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ ) . قُلْت : رَوَى مُسْلِم فِي صَحِيحه عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاة قَالَ : ( وَجَّهْت وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَات وَالْأَرْض حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ . إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيك لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْت وَأَنَا أَوَّل الْمُسْلِمِينَ . اللَّهُمَّ أَنْتَ الْمَلِك لَا إِلَه إِلَّا أَنْتَ , أَنْتَ رَبِّي وَأَنَا عَبْدك ظَلَمْت نَفْسِي وَاعْتَرَفْت بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي جَمِيعًا إِنَّهُ لَا يَغْفِر الذُّنُوب إِلَّا أَنْتَ وَاهْدِنِي لِأَحْسَن الْأَخْلَاق لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا لَا يَصْرِف عَنِّي سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْر كُلّه فِي يَدَيْك وَالشَّرّ لَيْسَ إِلَيْك . تَبَارَكْت وَتَعَالَيْت . أَسْتَغْفِرك وَأَتُوب إِلَيْك . الْحَدِيث . وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَقَالَ فِي آخِره : بَلَغَنَا عَنْ النَّضْر بْن شُمَيْل وَكَانَ مِنْ الْعُلَمَاء بِاللُّغَةِ وَغَيْرهَا قَالَ : مَعْنَى قَوْل رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( وَالشَّرّ لَيْسَ إِلَيْك ) الشَّرّ لَيْسَ مِمَّا يُتَقَرَّب بِهِ إِلَيْك . قَالَ مَالِك : لَيْسَ التَّوْجِيه فِي الصَّلَاة بِوَاجِبٍ عَلَى النَّاس , وَالْوَاجِب عَلَيْهِمْ التَّكْبِير ثُمَّ الْقِرَاءَة . قَالَ اِبْن الْقَاسِم : لَمْ يَرَ مَالِك هَذَا الَّذِي يَقُولهُ النَّاس قَبْل الْقِرَاءَة : سُبْحَانك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك . وَفِي مُخْتَصَر مَا لَيْسَ فِي الْمُخْتَصَر : أَنَّ مَالِكًا كَانَ يَقُولهُ فِي خَاصَّة نَفْسه ; لِصِحَّةِ الْحَدِيث بِهِ , وَكَانَ لَا يَرَاهُ لِلنَّاسِ مَخَافَة أَنْ يَعْتَقِدُوا وُجُوبه . قَالَ أَبُو الْفَرَج الْجَوْزِيّ : وَكُنْت أُصَلِّي وَرَاء شَيْخنَا أَبِي بَكْر الدَّيْنَوَرِيّ الْفَقِيه فِي زَمَان الصَّبَا , فَرَآنِي مَرَّة أَفْعَل هَذَا فَقَالَ : يَا بُنَيّ , إِنَّ الْفُقَهَاء قَدْ اِخْتَلَفُوا فِي وُجُوب قِرَاءَة الْفَاتِحَة خَلْف الْإِمَام , وَلَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّ الِافْتِتَاح سُنَّة , فَاشْتَغِلْ بِالْوَاجِبِ وَدَعْ السُّنَن . وَالْحُجَّة لِمَالِكٍ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْأَعْرَابِيِّ الَّذِي عَلَّمَهُ الصَّلَاة : ( إِذَا قُمْت إِلَى الصَّلَاة فَكَبِّرْ ثُمَّ اِقْرَأْ ) وَلَمْ يَقُلْ لَهُ سَبِّحْ كَمَا يَقُول أَبُو حَنِيفَة , وَلَا قُلْ وَجَّهْت وَجْهِيَ , كَمَا يَقُول الشَّافِعِيّ . وَقَالَ لِأُبَيّ : ( كَيْف تَقْرَأ إِذَا اِفْتَتَحَتْ الصَّلَاة ) ؟ قَالَ : قُلْت اللَّه أَكْبَر , الْحَمْد لِلَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ . فَلَمْ يَذْكُر تَوْجِيهًا وَلَا تَسْبِيحًا . فَإِنْ قِيلَ : فَإِنَّ عَلِيًّا قَدْ أَخْبَرَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولهُ . قُلْنَا : يَحْتَمِل أَنْ يَكُون قَالَهُ قَبْل التَّكْبِير ثُمَّ كَبَّرَ , وَذَلِكَ حَسَن عِنْدنَا . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ رَوَى النَّسَائِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا اِفْتَتَحَ الصَّلَاة كَبَّرَ ثُمَّ يَقُول : ( إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي ) الْحَدِيث قُلْنَا : هَذَا نَحْمِلهُ عَلَى النَّافِلَة فِي صَلَاة اللَّيْل ; كَمَا جَاءَ فِي كِتَاب النَّسَائِيّ عَنْ أَبِي سَعِيد قَالَ : كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اِفْتَتَحَ الصَّلَاة بِاللَّيْلِ قَالَ : ( سُبْحَانك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك تَبَارَكَ اِسْمك وَتَعَالَى جَدّك وَلَا إِلَه غَيْرك ) . أَوْ فِي النَّافِلَة مُطْلَقًا ; فَإِنَّ النَّافِلَة أَخَفّ مِنْ الْفَرْض ; لِأَنَّهُ يَجُوز أَنْ يُصَلِّيهَا قَائِمًا وَقَاعِدًا وَرَاكِبًا , وَإِلَى الْقِبْلَة وَغَيْرهَا فِي السَّفَر , فَأَمْرهَا أَيْسَر .

لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ

وَقَدْ رَوَى النَّسَائِيّ عَنْ مُحَمَّد بْن مَسْلَمَة أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا قَامَ يُصَلِّي تَطَوُّعًا قَالَ : ( اللَّه أَكْبَر . وَجَّهْت وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَات وَالْأَرْض حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ . إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ . لَا شَرِيك لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْت وَأَنَا أَوَّل الْمُسْلِمِينَ . اللَّهُمَّ أَنْتَ الْمَلِك لَا إِلَه إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانك وَبِحَمْدِك ) . ثُمَّ يَقْرَأ . وَهَذَا نَصّ فِي التَّطَوُّع لَا فِي الْوَاجِب . وَإِنْ صَحَّ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي الْفَرِيضَة بَعْد التَّكْبِير , فَيُحْمَل عَلَى الْجَوَاز وَالِاسْتِحْبَاب , وَأَمَّا الْمَسْنُون فَالْقِرَاءَة بَعْد التَّكْبِير , وَاَللَّه بِحَقَائِق الْأُمُور عَلِيم . ثُمَّ إِذَا قَالَهُ فَلَا يَقُلْ : | وَأَنَا أَوَّل الْمُسْلِمِينَ | .</p><p>إِذْ لَيْسَ أَحَدهمْ بِأَوَّلِهِمْ إِلَّا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَإِنْ قِيلَ : أَوَلَيْسَ إِبْرَاهِيم وَالنَّبِيُّونَ قَبْله ؟ قُلْنَا عَنْهُ ثَلَاثَة أَجْوِبَة : الْأَوَّل : أَنَّهُ أَوَّل الْخَلْق أَجْمَع مَعْنًى ; كَمَا فِي حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة مِنْ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( نَحْنُ الْآخِرُونَ الْأَوَّلُونَ يَوْم الْقِيَامَة وَنَحْنُ أَوَّل مَنْ يَدْخُل الْجَنَّة ) . وَفِي حَدِيث حُذَيْفَة ( نَحْنُ الْآخِرُونَ مِنْ أَهْل الدُّنْيَا وَالْأَوَّلُونَ يَوْم الْقِيَامَة الْمَقْضِيّ لَهُمْ قَبْل الْخَلَائِق ) . الثَّانِي : أَنَّهُ أَوَّلهمْ لِكَوْنِهِ مُقَدَّمًا فِي الْخَلْق عَلَيْهِمْ ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : | وَإِذْ أَخَذْنَا مِنْ النَّبِيِّينَ مِيثَاقهمْ وَمِنْك وَمِنْ نُوح | [ الْأَحْزَاب : 7 ] . قَالَ قَتَادَة : إِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( كُنْت أَوَّل الْأَنْبِيَاء فِي الْخَلْق وَآخِرهمْ فِي الْبَعْث ) . فَلِذَلِكَ وَقَعَ ذِكْره هُنَا مُقَدَّمًا قَبْل نُوح وَغَيْره . الثَّالِث : أَوَّل الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْل مِلَّته ; قَالَهُ اِبْن الْعَرَبِيّ , وَهُوَ قَوْل قَتَادَة وَغَيْره . وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَات فِي | أَوَّل | فَفِي بَعْضهَا ثُبُوتهَا وَفِي بَعْضهَا لَا , عَلَى مَا ذَكَرْنَا . وَرَوَى عِمْرَان بْن حُصَيْن قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يَا فَاطِمَة قُومِي فَاشْهَدِي أُضْحِيَّتك فَإِنَّهُ يُغْفَر لَك فِي أَوَّل قَطْرَة مِنْ دَمهَا كُلّ ذَنْب عَمِلْتِيهِ ثُمَّ قَوْلِي : إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ . لَا شَرِيك لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْت وَأَنَا أَوَّل الْمُسْلِمِينَ ) . قَالَ عِمْرَان : يَا رَسُول اللَّه , هَذَا لَك وَلِأَهْلِ بَيْتك خَاصَّة أَمْ لِلْمُسْلِمِينَ عَامَّة ؟ قَالَ : ( بَلْ لِلْمُسْلِمِينَ عَامَّة ) .

قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ

أَيْ مَالِكه . رُوِيَ أَنَّ الْكُفَّار قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اِرْجِعْ يَا مُحَمَّد إِلَى دِيننَا , وَاعْبُدْ آلِهَتنَا , وَاتْرُكْ مَا أَنْتَ عَلَيْهِ , وَنَحْنُ نَتَكَفَّل لَك بِكُلِّ تِبَاعَة تَتَوَقَّعهَا فِي دُنْيَاك وَآخِرَتك ; فَنَزَلَتْ الْآيَة . وَهِيَ اِسْتِفْهَام يَقْتَضِي التَّقْرِير وَالتَّوْبِيخ . و | غَيْرَ | نُصِبَ بِ | أَبْغِي | و | رَبًّا | تَمْيِيز .|وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا|فِيهِ مَسْأَلَتَانِ : الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : | وَلَا تَكْسِب كُلّ نَفْس إِلَّا عَلَيْهَا | أَيْ لَا يَنْفَعنِي فِي اِبْتِغَاء رَبّ غَيْر اللَّه كَوْنكُمْ عَلَى ذَلِكَ ; إِذْ لَا تَكْسِب كُلّ نَفْس إِلَّا عَلَيْهَا ; أَيْ لَا يُؤْخَذ بِمَا أَتَتْ مِنْ الْمَعْصِيَة , وَرَكِبَتْ مِنْ الْخَطِيئَة سِوَاهَا . الثَّانِيَة : وَقَدْ اِسْتَدَلَّ بَعْض الْعُلَمَاء مِنْ الْمُخَالِفِينَ بِهَذِهِ الْآيَة عَلَى أَنَّ بَيْع الْفُضُولِيّ لَا يَصِحّ , وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيّ . وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : الْمُرَاد مِنْ الْآيَة تَحْمِل الثَّوَاب وَالْعِقَاب دُون أَحْكَام الدُّنْيَا , بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى : | وَلَا تَزِر وَازِرَة وِزْر أُخْرَى | عَلَى مَا يَأْتِي . وَبَيْع الْفُضُولِيّ عِنْدنَا مَوْقُوف عَلَى إِجَازَة الْمَالِك , فَإِنْ أَجَازَهُ جَازَ . هَذَا عُرْوَة الْبَارِقِيّ قَدْ بَاعَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاشْتَرَى وَتَصَرَّفَ بِغَيْرِ أَمْره , فَأَجَازَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَة . وَرَوَى الْبُخَارِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ عَنْ عُرْوَة بْن أَبِي الْجَعْد قَالَ : عُرِضَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَلَب فَأَعْطَانِي دِينَارًا وَقَالَ : ( أَيْ عُرْوَة اِيتِ الْجَلَب فَاشْتَرِ لَنَا شَاة بِهَذَا الدِّينَار ) فَأَتَيْت الْجَلَب فَسَاوَمْت فَاشْتَرَيْت شَاتَيْنِ بِدِينَارٍ , فَجِئْت أَسُوقهُمَا - أَوْ قَالَ أَقُودهُمَا - فَلَقِيَنِي رَجُل فِي الطَّرِيق فَسَاوَمَنِي فَبِعْته إِحْدَى الشَّاتَيْنِ بِدِينَارٍ , وَجِئْت بِالشَّاةِ الْأُخْرَى وَبِدِينَارٍ , فَقُلْت : يَا رَسُول اللَّه , هَذِهِ الشَّاة وَهَذَا دِينَاركُمْ . قَالَ : ( كَيْفَ صَنَعْت ) ؟ فَحَدَّثْته الْحَدِيث . قَالَ : ( اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُ فِي صَفْقَة يَمِينه ) . قَالَ : فَلَقَدْ رَأَيْتنِي أَقِف فِي كُنَاسَة الْكُوفَة فَأَرْبَح أَرْبَعِينَ أَلْفًا قَبْل أَنْ أَصِل إِلَى أَهْلِي . لَفْظ الدَّارَقُطْنِيّ . قَالَ أَبُو عُمَر : وَهُوَ حَدِيث جَيِّد , وَفِيهِ صِحَّة ثُبُوت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلشَّاتَيْنِ , وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا أَخَذَ مِنْهُ الدِّينَار وَلَا أَمْضَى لَهُ الْبَيْع . وَفِيهِ دَلِيل عَلَى جَوَاز الْوَكَالَة , وَلَا خِلَاف فِيهَا بَيْن الْعُلَمَاء . فَإِذَا قَالَ الْمُوَكَّل لِوَكِيلِهِ : اِشْتَرِ كَذَا ; فَاشْتَرَى زِيَادَة عَلَى مَا وُكِّلَ بِهِ فَهَلْ يَلْزَم ذَلِكَ الْأَمْر أَمْ لَا ؟ . كَرَجُلٍ قَالَ لِرَجُلٍ : اِشْتَرِ بِهَذَا الدِّرْهَم رِطْل لَحْم , صِفَته كَذَا ; فَاشْتَرَى لَهُ أَرْبَعَة أَرْطَال مِنْ تِلْكَ الصِّفَة بِذَلِكَ الدِّرْهَم . فَاَلَّذِي عَلَيْهِ مَالِك وَأَصْحَابه أَنَّ الْجَمِيع يَلْزَمهُ إِذَا وَافَقَ الصِّفَة وَمِنْ جِنْسهَا ; لِأَنَّهُ مُحْسِن . وَهُوَ قَوْل أَبِي يُوسُف وَمُحَمَّد بْن الْحَسَن . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : الزِّيَادَة لِلْمُشْتَرِي . وَهَذَا الْحَدِيث حُجَّة عَلَيْهِ .|وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ|| وَلَا تَزِر وَازِرَة وِزْر أُخْرَى | أَيْ لَا تَحْمِل حَامِلَة ثِقَل أُخْرَى , أَيْ لَا تُؤْخَذ نَفْس بِذَنْبِ غَيْرهَا , بَلْ كُلّ نَفْس مَأْخُوذَة بِجُرْمِهَا وَمُعَاقَبَة بِإِثْمِهَا . وَأَصْل الْوِزْر الثِّقَل ; وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : | وَوَضَعْنَا عَنْك وِزْرك | [ الشَّرْح : 2 ] . وَهُوَ هُنَا الذَّنْب ; كَمَا قَالَ تَعَالَى : | وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارهمْ عَلَى ظُهُورهمْ | [ الْأَنْعَام : 31 ] . وَقَدْ تَقَدَّمَ . قَالَ الْأَخْفَش : يُقَال وَزِرَ يَوْزَر , وَوَزَرَ يَزِر , وَوُزِرَ يُوزَر وَزَرًا . وَيَجُوز إِزْرًا , كَمَا يُقَال : إِسَادَة . وَالْآيَة نَزَلَتْ فِي الْوَلِيد بْن الْمُغِيرَة , كَانَ يَقُول : اِتَّبِعُوا سَبِيلِي أَحْمِل أَوْزَاركُمْ ; ذَكَرَهُ اِبْن عَبَّاس . وَقِيلَ : إِنَّهَا نَزَلَتْ رَدًّا عَلَى الْعَرَب فِي الْجَاهِلِيَّة مِنْ مُؤَاخَذَة الرَّجُل بِأَبِيهِ وَبِابْنِهِ وَبِجَرِيرَةِ حَلِيفه .</p><p>قُلْت : وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون الْمُرَاد بِهَذِهِ الْآيَة فِي الْآخِرَة , وَكَذَلِكَ الَّتِي قَبْلهَا ; فَأَمَّا الَّتِي فِي الدُّنْيَا فَقَدْ يُؤَاخَذ فِيهَا بَعْضهمْ بِجُرْمِ بَعْض , لَا سِيَّمَا إِذَا لَمْ يَنْهَ الطَّائِعُونَ الْعَاصِينَ , كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيث أَبِي بَكْر فِي قَوْله : | عَلَيْكُمْ أَنْفُسكُمْ | [ الْمَائِدَة : 105 ] . وَقَوْله تَعَالَى : | وَاتَّقُوا فِتْنَة لَا تُصِيبَن الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّة | [ الْأَنْفَال : 25 ] . | إِنَّ اللَّه لَا يُغَيِّر مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ | [ الرَّعْد : 11 ] . وَقَالَتْ زَيْنَب بِنْت جَحْش : يَا رَسُول اللَّه , أَنَهْلَك وَفِينَا الصَّالِحُونَ ؟ قَالَ : ( نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَث ) . قَالَ الْعُلَمَاء : مَعْنَاهُ أَوْلَاد الزِّنَى . وَالْخَبَث ( بِفَتْحِ الْبَاء ) اِسْم لِلزِّنَى . فَأَوْجَبَ اللَّه تَعَالَى عَلَى لِسَان رَسُوله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِيَة الْخَطَإِ عَلَى الْعَاقِلَة حَتَّى لَا يُطَلّ دَم الْحُرّ الْمُسْلِم تَعْظِيمًا لِلدِّمَاءِ . وَأَجْمَعَ أَهْل الْعِلْم عَلَى ذَلِكَ مِنْ غَيْر خِلَاف بَيْنهمْ فِي ذَلِكَ ; فَدَلَّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ . وَقَدْ يَحْتَمِل أَنْ يَكُون هَذَا فِي الدُّنْيَا , فِي أَلَّا يُؤَاخَذ زَيْد بِفِعْلِ عَمْرو , وَأَنَّ كُلّ مُبَاشِر لِجَرِيمَةٍ فَعَلَيْهِ مَغَبَّتهَا . وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي رِمْثَة قَالَ ; اِنْطَلَقْت مَعَ أَبِي نَحْو النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , ثُمَّ إِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَبِي : ( اِبْنك هَذَا ) ؟ قَالَ : أَيْ وَرَبّ الْكَعْبَة . قَالَ : ( حَقًّا ) . قَالَ : أَشْهَد بِهِ . قَالَ : فَتَبَسَّمَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَاحِكًا مِنْ ثَبْت شَبَهِي فِي أَبِي , وَمِنْ حَلِف أَبِي عَلِيّ . ثُمَّ قَالَ : ( أَمَا إِنَّهُ لَا يَجْنِي عَلَيْك وَلَا تَجْنِي عَلَيْهِ ) . وَقَرَأَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ | وَلَا تَزِر وَازِرَة وِزْر أُخْرَى | . وَلَا يُعَارِض مَا قُلْنَاهُ أَوَّلًا بِقَوْلِهِ : | وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالهمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالهمْ | [ الْعَنْكَبُوت : 13 ] ; فَإِنَّ هَذَا مُبِين فِي الْآيَة الْأُخْرَى قَوْله : | لِيَحْمِلُوا أَوْزَارهمْ كَامِلَة يَوْم الْقِيَامَة وَمِنْ أَوْزَار الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْم | [ النَّحْل : 25 ] . فَمَنْ كَانَ إِمَامًا فِي الضَّلَالَة وَدَعَا إِلَيْهَا وَاتَّبَعَ عَلَيْهَا فَإِنَّهُ يَحْمِل وِزْر مَنْ أَضَلَّهُ مِنْ غَيْر أَنْ يَنْقُص مِنْ وِزْر الْمُضِلّ شَيْء , عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .

وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ

| خَلَائِف | جَمْع خَلِيفَة , كَكَرَائِم جَمْع كَرِيمَة . وَكُلّ مَنْ جَاءَ بَعْد مَنْ مَضَى فَهُوَ خَلِيفَة . أَيْ جَعَلَكُمْ خَلَفًا لِلْأُمَمِ الْمَاضِيَة وَالْقُرُون السَّالِفَة . قَالَ الشَّمَّاخ : <br>تُصِيبهُمْ وَتُخْطِئنِي الْمَنَايَا .......... وَأَخْلَفَ فِي رُبُوع عَنْ رُبُوع<br>|وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ|فِي الْخَلْق . الرِّزْق وَالْقُوَّة وَالْبَسْطَة وَالْفَضْل وَالْعِلْم .|دَرَجَاتٍ|نُصِبَ بِإِسْقَاطِ الْخَافِض , أَيْ إِلَى دَرَجَات .|لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ|نُصِبَ بِلَامِ كَيْ . وَالِابْتِلَاء الِاخْتِبَار ; أَيْ لِيُظْهِر مِنْكُمْ مَا يَكُون غَايَته الثَّوَاب وَالْعِقَاب . وَلَمْ يَزَلْ بِعِلْمِهِ غَنِيًّا ; فَابْتَلَى الْمُوسِر بِالْغِنَى وَطَلَب مِنْهُ الشُّكْر , وَابْتَلَى الْمُعْسِر بِالْفَقْرِ وَطَلَب مِنْهُ الصَّبْر . وَيُقَال : | لِيَبْلُوَكُمْ | أَيْ بَعْضكُمْ بِبَعْضٍ . كَمَا قَالَ : | وَجَعَلْنَا بَعْضكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَة | [ الْفُرْقَان : 20 ] عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه . ثُمَّ خَوَّفَهُمْ فَقَالَ : | إِنَّ رَبّك سَرِيع الْعِقَاب | .|إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ|لِمَنْ عَصَاهُ .|وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ|لِمَنْ أَطَاعَهُ . وَقَالَ : | سَرِيع الْعِقَاب | مَعَ وَصْفه سُبْحَانه بِالْإِمْهَالِ , وَمَعَ أَنَّ عِقَاب النَّار فِي الْآخِرَة ; لِأَنَّ كُلّ آتٍ قَرِيب ; فَهُوَ سَرِيع عَلَى هَذَا . كَمَا قَالَ تَعَالَى : | وَمَا أَمْر السَّاعَة إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَر أَوْ هُوَ أَقْرَب | [ النَّحْل : 77 ] . وَقَالَ | يَرَوْنَهُ بَعِيدًا . وَنَرَاهُ قَرِيبًا | [ الْمَعَارِج : 6 , 7 ] . وَيَكُون أَيْضًا سَرِيع الْعِقَاب لِمَنْ اِسْتَحَقَّهُ فِي دَار الدُّنْيَا ; فَيَكُون تَحْذِيرًا لِمُوَاقِعِ الْخَطِيئَة عَلَى هَذِهِ الْجِهَة . وَاَللَّه أَعْلَم . تَمَّتْ سُورَة الْأَنْعَام بِحَمْدِ اللَّه تَعَالَى وَصَلَوَاته عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آله وَصَحْبه وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا


1-الفاتحة 2-البقرة 3-آل-عمران 4-النساء 5-المائدة 6-الأنعام 7-الأعراف 8-الأنفال 9-التوبة 10-يونس 11-هود 12-يوسف 13-الرعد 14-إبراهيم 15-الحجر 16-النحل 17-الإسراء 18-الكهف 19-مريم 20-طه 21-الأنبياء 22-الحج 23-المؤمنون 24-النور 25-الفرقان 26-الشعراء 27-النمل 28-القصص 29-العنكبوت 30-الروم 31-لقمان 32-السجدة 33-الأحزاب 34-سبأ 35-فاطر 36-يس 37-الصافات 38-ص 39-الزمر 40-غافر 41-فصلت 42-الشورى 43-الزخرف 44-الدخان 45-الجاثية 46-الأحقاف 47-محمد 48-الفتح 49-الحجرات 50-ق 51-الذاريات 52-الطور 53-النجم 54-القمر 55-الرحمن 56-الواقعة 57-الحديد 58-المجادلة 59-الحشر 60-الممتحنة 61-الصف 62-الجمعة 63-المنافقون 64-التغابن 65-الطلاق 66-التحريم 67-الملك 68-القلم 69-الحاقة 70-المعارج 71-نوح 72-الجن 73-المزمل 74-المدثر 75-القيامة 76-الإنسان 77-المرسلات 78-النبأ 79-النازعات 80-عبس 81-التكوير 82-الانفطار 83-المطففين 84-الانشقاق 85-البروج 86-الطارق 87-الأعلى 88-الغاشية 89-الفجر 90-البلد 91-الشمس 92-الليل 93-الضحى 94-الشرح 95-التين 96-العلق 97-القدر 98-البينة 99-الزلزلة 100-العاديات 101-القارعة 102-التكاثر 103-العصر 104-الهمزة 105-الفيل 106-قريش 107-الماعون 108-الكوثر 109-الكافرون 110-النصر 111-المسد 112-الإخلاص 113-الفلق 114-الناس