islamkingdomfaceBook islamkingdomtwitter islamkingdominstagram islamkingdomyoutube islamkingdomnew

تفسير القرطبى
15609

3-آل-عمران

الم

اِخْتَلَفَ أَهْل التَّأْوِيل فِي الْحُرُوف الَّتِي فِي أَوَائِل السُّورَة ; فَقَالَ عَامِر الشَّعْبِيّ وَسُفْيَان الثَّوْرِيّ وَجَمَاعَة مِنْ الْمُحَدِّثِينَ : هِيَ سِرّ اللَّه فِي الْقُرْآن , وَلِلَّهِ فِي كُلّ كِتَاب مِنْ كُتُبه سِرّ . فَهِيَ مِنْ الْمُتَشَابِه الَّذِي اِنْفَرَدَ اللَّه تَعَالَى بِعِلْمِهِ , وَلَا يَجِب أَنْ يُتَكَلَّم فِيهَا , وَلَكِنْ نُؤْمِن بِهَا وَنَقْرَأ كَمَا جَاءَتْ . وَرُوِيَ هَذَا الْقَوْل عَنْ أَبِي بَكْر الصِّدِّيق وَعَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا . وَذَكَرَ أَبُو اللَّيْث السَّمَرْقَنْدِيّ عَنْ عُمَر وَعُثْمَان وَابْن مَسْعُود أَنَّهُمْ قَالُوا : الْحُرُوف الْمُقَطَّعَة مِنْ الْمَكْتُوم الَّذِي لَا يُفَسَّر . وَقَالَ أَبُو حَاتِم : لَمْ نَجِد الْحُرُوف الْمُقَطَّعَة فِي الْقُرْآن إِلَّا فِي أَوَائِل السُّوَر , وَلَا نَدْرِي مَا أَرَادَ اللَّه جَلَّ وَعَزَّ بِهَا .</p><p>قُلْت : وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى مَا ذَكَرَهُ أَبُو بَكْر الْأَنْبَارِيّ : حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن الْحُبَاب حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْن أَبِي طَالِب حَدَّثَنَا أَبُو الْمُنْذِر الْوَاسِطِيّ عَنْ مَالِك بْن مِغْوَل عَنْ سَعِيد بْن مَسْرُوق عَنْ الرَّبِيع بْن خُثَيْم قَالَ : إِنَّ اللَّه تَعَالَى أَنْزَلَ هَذَا الْقُرْآن فَاسْتَأْثَرَ مِنْهُ بِعِلْمِ مَا شَاءَ , وَأَطْلَعَكُمْ عَلَى مَا شَاءَ , فَأَمَّا مَا اِسْتَأْثَرَ بِهِ لِنَفْسِهِ فَلَسْتُمْ بِنَائِلِيهِ فَلَا تَسْأَلُوا عَنْهُ , وَأَمَّا الَّذِي أَطْلَعَكُمْ عَلَيْهِ فَهُوَ الَّذِي تَسْأَلُونَ عَنْهُ وَتُخْبَرُونَ بِهِ , وَمَا بِكُلِّ الْقُرْآن تَعْلَمُونَ , وَلَا بِكُلِّ مَا تَعْلَمُونَ تَعْمَلُونَ . قَالَ أَبُو بَكْر : فَهَذَا يُوَضِّح أَنَّ حُرُوفًا مِنْ الْقُرْآن سُتِرَتْ مَعَانِيهَا عَنْ جَمِيع الْعَالَم , اِخْتِبَارًا مِنْ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وَامْتِحَانًا ; فَمَنْ آمَنَ بِهَا أُثِيبَ وَسَعِدَ , وَمَنْ كَفَرَ وَشَكَّ أَثِمَ وَبَعُدَ . حَدَّثَنَا أَبُو يُوسُف بْن يَعْقُوب الْقَاضِي حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أَبِي بَكْر حَدَّثَنَا عَبْد الرَّحْمَن بْن مَهْدِيّ عَنْ سُفْيَان عَنْ الْأَعْمَش عَنْ عُمَارَة عَنْ حُرَيْث بْن ظُهَيْر عَنْ عَبْد اللَّه قَالَ : مَا آمَنَ مُؤْمِن أَفْضَل مِنْ إِيمَان بِغَيْبٍ , ثُمَّ قَرَأَ : | الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ | [ الْبَقَرَة : 3 ] .</p><p>قُلْت : هَذَا الْقَوْل فِي الْمُتَشَابِه وَحُكْمه , وَهُوَ الصَّحِيح عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه فِي ( آل عِمْرَان ) إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَقَالَ جَمْع مِنْ الْعُلَمَاء كَبِير : بَلْ يَجِب أَنْ نَتَكَلَّم فِيهَا , وَنَلْتَمِس الْفَوَائِد الَّتِي تَحْتهَا , وَالْمَعَانِي الَّتِي تَتَخَرَّج عَلَيْهَا ; وَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ عَلَى أَقْوَال عَدِيدَة ; فَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس وَعَلِيّ أَيْضًا أَنَّ الْحُرُوف الْمُقَطَّعَة فِي الْقُرْآن اِسْم اللَّه الْأَعْظَم , إِلَّا أَنَّا لَا نَعْرِف تَأْلِيفه مِنْهَا . وَقَالَ قُطْرُب وَالْفَرَّاء وَغَيْرهمَا : هِيَ إِشَارَة إِلَى حُرُوف الْهِجَاء أَعْلَمَ اللَّه بِهَا الْعَرَب حِينَ تَحَدَّاهُمْ بِالْقُرْآنِ أَنَّهُ مُؤْتَلِف مِنْ حُرُوف هِيَ الَّتِي مِنْهَا بِنَاء كَلَامهمْ ; لِيَكُونَ عَجْزهمْ عَنْهُ أَبْلَغ فِي الْحُجَّة عَلَيْهِمْ إِذْ لَمْ يَخْرُج عَنْ كَلَامهمْ . قَالَ قُطْرُب : كَانُوا يَنْفِرُونَ عِنْدَ اِسْتِمَاع الْقُرْآن , فَلَمَّا سَمِعُوا : | الم | وَ | المص | اِسْتَنْكَرُوا هَذَا اللَّفْظ , فَلَمَّا أَنْصَتُوا لَهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ بِالْقُرْآنِ الْمُؤْتَلِف لِيُثَبِّتهُ فِي أَسْمَاعهمْ وَآذَانهمْ وَيُقِيم الْحُجَّة عَلَيْهِمْ . وَقَالَ قَوْم : رُوِيَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا أَعْرَضُوا عَنْ سَمَاع الْقُرْآن بِمَكَّة وَقَالُوا : | لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآن وَالْغَوْا فِيهِ | [ فُصِّلَتْ : 26 ] نَزَلَتْ لِيَسْتَغْرِبُوهَا فَيَفْتَحُونَ لَهَا أَسْمَاعهمْ فَيَسْمَعُونَ الْقُرْآن بَعْدهَا فَتَجِب عَلَيْهِمْ الْحُجَّة . وَقَالَ جَمَاعَة : هِيَ حُرُوف دَالَّة عَلَى أَسْمَاء أُخِذَتْ مِنْهَا وَحُذِفَتْ بَقِيَّتهَا ; كَقَوْلِ اِبْن عَبَّاس وَغَيْره : الْأَلِف مِنْ اللَّه , وَاللَّام مِنْ جِبْرِيل , وَالْمِيم مِنْ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقِيلَ : الْأَلِف مِفْتَاح اِسْمه اللَّه , وَاللَّام مِفْتَاح اِسْمه لَطِيف , وَالْمِيم مِفْتَاح اِسْمه مَجِيد . وَرَوَى أَبُو الضُّحَى عَنْ اِبْن عَبَّاس فِي قَوْله : | الم | قَالَ : أَنَا اللَّه أَعْلَم , | الر | أَنَا اللَّه أَرَى , | المص | أَنَا اللَّه أَفْضَل . فَالْأَلِف تُؤَدِّي عَنْ مَعْنَى أَنَا , وَاللَّام تُؤَدِّي عَنْ اِسْم اللَّه , وَالْمِيم تُؤَدِّي عَنْ مَعْنَى أَعْلَم . وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْل الزَّجَّاج وَقَالَ : أذْهَب إِلَى أَنَّ كُلّ حَرْف مِنْهَا يُؤَدِّي عَنْ مَعْنًى ; وَقَدْ تَكَلَّمَتْ الْعَرَب بِالْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَة نَظْمًا لَهَا وَوَضْعًا بَدَل الْكَلِمَات الَّتِي الْحُرُوف مِنْهَا , كَقَوْلِهِ : <br>فَقُلْت لَهَا قِفِي فَقَالَتْ قَاف <br>أَرَادَ : قَالَتْ وَقَفْت . وَقَالَ زُهَيْر : <br>بِالْخَيْرِ خَيْرَات وَإِنْ شَرًّا فا .......... وَلَا أُرِيد الشَّرّ إِلَّا أَنْ تا <br>أَرَادَ : وَإِنْ شَرًّا فَشَرّ . وَأَرَادَ : إِلَّا أَنْ تَشَاء . وَقَالَ آخَر : <br>نَادَوْهُمُ أَلَا الْجِمُوا أَلَا تَا .......... قَالُوا جَمِيعًا كُلّهمْ أَلَا فا <br>أَرَادَ : أَلَا تَرْكَبُونَ , قَالُوا : أَلَا فَارْكَبُوا . وَفِي الْحَدِيث : ( مَنْ أَعَانَ عَلَى قَتْل مُسْلِم بِشَطْرِ كَلِمَة ) قَالَ شَقِيق : هُوَ أَنْ يَقُول فِي اُقْتُلْ : اُقْ ; كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ( كَفَى بِالسَّيْفِ شا ) مَعْنَاهُ : شَافِيًا .</p><p>وَقَالَ زَيْد بْن أَسْلَمَ : هِيَ أَسْمَاء لِلسُّوَرِ . وَقَالَ الْكَلْبِيّ : هِيَ أَقْسَام أَقْسَمَ اللَّه تَعَالَى بِهَا لِشَرَفِهَا وَفَضْلهَا , وَهِيَ مِنْ أَسْمَائِهِ ; عَنْ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا وَرَدَ بَعْض الْعُلَمَاء هَذَا الْقَوْل فَقَالَ : لَا يَصِحّ أَنْ يَكُون قَسَمًا لِأَنَّ الْقَسَم مَعْقُود عَلَى حُرُوف مِثْل : إِنْ وَقَدْ وَلَقَدْ وَمَا ; وَلَمْ يُوجَد هَا هُنَا حَرْف مِنْ هَذِهِ الْحُرُوف , فَلَا يَجُوز أَنْ يَكُون يَمِينًا . وَالْجَوَاب أَنْ يُقَال : مَوْضِع الْقَسَم قَوْله تَعَالَى : | لَا رَيْب فِيهِ | فَلَوْ أَنَّ إِنْسَانًا حَلَفَ فَقَالَ : وَاَللَّه هَذَا الْكِتَاب لَا رَيْب فِيهِ ; لَكَانَ الْكَلَام سَدِيدًا , وَتَكُون | لَا | جَوَاب الْقَسَم . فَثَبَتَ أَنَّ قَوْل الْكَلْبِيّ وَمَا رُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس سَدِيد صَحِيح .</p><p>فَإِنْ قِيلَ : مَا الْحِكْمَة فِي الْقَسَم مِنْ اللَّه تَعَالَى , وَكَانَ الْقَوْم فِي ذَلِكَ الزَّمَان عَلَى صِنْفَيْنِ : مُصَدِّق , وَمُكَذِّب ; فَالْمُصَدِّق يُصَدِّق بِغَيْرِ قَسَم , وَالْمُكَذِّب لَا يُصَدِّق مَعَ الْقَسَم ؟ . قِيلَ لَهُ : الْقُرْآن نَزَلَ بِلُغَةِ الْعَرَب ; وَالْعَرَب إِذَا أَرَادَ بَعْضهمْ أَنْ يُؤَكِّد كَلَامه أَقْسَمَ عَلَى كَلَامه ; وَاَللَّه تَعَالَى أَرَادَ أَنْ يُؤَكِّد عَلَيْهِمْ الْحُجَّة فَأَقْسَمَ أَنَّ الْقُرْآن مِنْ عِنْده . وَقَالَ بَعْضهمْ : | الم | أَيْ أَنْزَلْت عَلَيْك هَذَا الْكِتَاب مِنْ اللَّوْح الْمَحْفُوظ . وَقَالَ قَتَادَة فِي قَوْله : | الم | قَالَ اِسْم مِنْ أَسْمَاء الْقُرْآن . وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّد بْن عَلِيّ التِّرْمِذِيّ أَنَّهُ قَالَ : إِنَّ اللَّه تَعَالَى أَوْدَعَ جَمِيع مَا فِي تِلْكَ السُّورَة مِنْ الْأَحْكَام وَالْقِصَص فِي الْحُرُوف الَّتِي ذَكَرَهَا فِي أَوَّل السُّورَة , وَلَا يَعْرِف ذَلِكَ إِلَّا نَبِيّ أَوْ وَلِيّ , ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي جَمِيع السُّورَة لِيَفْقَه النَّاس . وَقِيلَ غَيْر هَذَا مِنْ الْأَقْوَال ; فَاَللَّه أَعْلَم .</p><p>وَالْوَقْف عَلَى هَذِهِ الْحُرُوف عَلَى السُّكُون لِنُقْصَانِهَا إِلَّا إِذَا أَخْبَرْت عَنْهَا أَوْ عَطَفْتهَا فَإِنَّك تُعْرِبهَا . وَاخْتُلِفَ : هَلْ لَهَا مَحَلّ مِنْ الْإِعْرَاب ؟ فَقِيلَ : لَا ; لِأَنَّهَا لَيْسَتْ أَسْمَاء مُتَمَكِّنَة , وَلَا أَفْعَالًا مُضَارِعَة ; وَإِنَّمَا هِيَ بِمَنْزِلَةِ حُرُوف التَّهَجِّي فَهِيَ مَحْكِيَّة . هَذَا مَذْهَب الْخَلِيل وَسِيبَوَيْهِ . وَمَنْ قَالَ : إِنَّهَا أَسْمَاء السُّوَر فَمَوْضِعهَا عِنْده الرَّفْع عَلَى أَنَّهَا عِنْده خَبَر اِبْتِدَاء مُضْمَر ; أَيْ هَذِهِ | الم | ; كَمَا تَقُول : هَذِهِ سُورَة الْبَقَرَة . أَوْ تَكُون رَفْعًا عَلَى الِابْتِدَاء وَالْخَبَر ذَلِكَ ; كَمَا تَقُول : زَيْد ذَلِكَ الرَّجُل . وَقَالَ اِبْن كَيْسَان النَّحْوِيّ : | الم | فِي مَوْضِع نَصْب ; كَمَا تَقُول : اِقْرَأْ | الم | أَوْ عَلَيْك | الم | . وَقِيلَ : فِي مَوْضِع خَفْض بِالْقَسَمِ ; لِقَوْلِ اِبْن عَبَّاس : إِنَّهَا أَقْسَام أَقْسَمَ اللَّه بِهَا .

اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ

فِيهِ خَمْس مَسَائِل </subtitle>[ الْأُولَى ] : قَوْله : | اللَّه لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْحَيّ الْقَيُّوم | هَذِهِ السُّورَة مَدَنِيَّة بِإِجْمَاعٍ . وَحَكَى النَّقَّاش أَنَّ اِسْمهَا فِي التَّوْرَاة طَيْبَة , وَقَرَأَ الْحَسَن وَعَمْرو بْن عُبَيْد وَعَاصِم بْن أَبِي النَّجُود وَأَبُو جَعْفَر الرُّؤَاسِيّ | الم . اللَّه | بِقَطْعِ أَلِف الْوَصْل , عَلَى تَقْدِير الْوَقْف عَلَى | الم | كَمَا يُقَدِّرُونَ الْوَقْف عَلَى أَسْمَاء الْأَعْدَاد فِي نَحْو وَاحِد , اِثْنَانِ , ثَلَاثَة , أَرْبَعَة , وَهُمْ وَاصِلُونَ . قَالَ الْأَخْفَش سَعِيد : وَيَجُوز | المِ اللَّه | بِكَسْرِ الْمِيم لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ . قَالَ الزَّجَّاج : هَذَا خَطَأ , وَلَا تَقُولهُ الْعَرَب لِثِقَلِهِ . قَالَ النَّحَّاس : الْقِرَاءَة الْأُولَى قِرَاءَة الْعَامَّة , وَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهَا النَّحْوِيُّونَ الْقُدَمَاء ; فَمَذْهَب سِيبَوَيْهِ أَنَّ الْمِيم فُتِحَتْ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ , وَاخْتَارُوا لَهَا الْفَتْح لِئَلَّا يُجْمَع بَيْن كَسْرَة وَيَاء وَكَسْرَة قَبْلهَا . وَقَالَ الْكِسَائِيّ : حُرُوف التَّهَجِّي إِذَا لَقِيَتْهَا أَلِف وَصْل فَحُذِفَتْ أَلِف الْوَصْل حَرَّكْتهَا بِحَرَكَةِ الْأَلِف فَقُلْت : الم اللَّه , والم اُذْكُرْ , والم اِقْتَرَبَتْ . وَقَالَ الْفَرَّاء : الْأَصْل | الم اللَّه | كَمَا قَرَأَ الرُّؤَاسِيّ فَأُلْقِيَتْ حَرَكَة الْهَمْزَة عَلَى الْمِيم . وَقَرَأَ عُمَر بْن الْخَطَّاب | الْحَيّ الْقَيَّام | . وَقَالَ خَارِجَة : فِي مُصْحَف عَبْد اللَّه | الْحَيّ الْقَيِّم | . وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا لِلْعُلَمَاءِ مِنْ آرَاء فِي الْحُرُوف الَّتِي فِي أَوَائِل السُّوَر فِي أَوَّل | الْبَقَرَة | . وَمِنْ حَيْثُ جَاءَ فِي هَذِهِ السُّورَة : | اللَّه لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْحَيّ الْقَيُّوم | جُمْلَة قَائِمَة بِنَفْسِهَا فَتَتَصَوَّر تِلْكَ الْأَقْوَال كُلّهَا . [ الثَّانِيَة ] : رَوَى الْكِسَائِيّ أَنَّ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ صَلَّى الْعِشَاء فَاسْتَفْتَحَ | آل عِمْرَان | فَقَرَأَ | الم . اللَّه لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْحَيّ الْقَيَّام | فَقَرَأَ فِي الرَّكْعَة الْأُولَى بِمِائَةِ آيَة , وَفِي الثَّانِيَة بِالْمِائَةِ الْبَاقِيَة . قَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَلَا يَقْرَأ سُورَة فِي رَكْعَتَيْنِ , فَإِنْ فَعَلَ أَجْزَأَهُ . وَقَالَ مَالِك فِي الْمَجْمُوعَة : لَا بَأْس بِهِ , وَمَا هُوَ بِالشَّأْنِ .</p><p>قُلْت : الصَّحِيح جَوَاز ذَلِكَ . وَقَدْ قَرَأَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْأَعْرَافِ فِي الْمَغْرِب فَرَّقَهَا فِي رَكْعَتَيْنِ , خَرَّجَهُ النَّسَائِيّ أَيْضًا , وَصَحَّحَهُ أَبُو مُحَمَّد عَبْد الْحَقّ , وَسَيَأْتِي . [ الثَّالِثَة ] : هَذِهِ السُّورَة وَرَدَ فِي فَضْلهَا آثَار وَأَخْبَار ; فَمِنْ ذَلِكَ مَا جَاءَ أَنَّهَا أَمَان مِنْ الْحَيَّات , وَكَنْز لِلصُّعْلُوكِ , وَأَنَّهَا تُحَاجّ عَنْ قَارِئِهَا فِي الْآخِرَة , وَيُكْتَب لِمَنْ قَرَأَ آخِرهَا فِي لَيْلَة كَقِيَامِ لَيْلَة , إِلَى غَيْر ذَلِكَ . ذَكَرَ الدِّرَامِيّ أَبُو مُحَمَّد فِي مُسْنَده حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْد الْقَاسِم بْن سَلَّام قَالَ حَدَّثَنِي عُبَيْد اللَّه الْأَشْجَعِيّ قَالَ : حَدَّثَنِي مِسْعَر قَالَ حَدَّثَنِي جَابِر , قَبْل أَنْ يَقَع فِيمَا وَقَعَ فِيهِ , عَنْ الشَّعْبِيّ قَالَ قَالَ عَبْد اللَّه : ( نِعْمَ كَنْز الصُّعْلُوك سُورَة | آل عِمْرَان | يَقُوم بِهَا فِي آخِر اللَّيْل ) حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن سَعِيد حَدَّثَنَا عَبْد السَّلَام عَنْ الْجُرِيرِيّ عَنْ أَبِي السَّلِيل قَالَ : أَصَابَ رَجُل دَمًا قَالَ : فَأَوَى إِلَى وَادِي مَجَنَّة : وَادٍ لَا يَمْشِي فِيهِ أَحَد إِلَّا أَصَابَتْهُ حَيَّة , وَعَلَى شَفِير الْوَادِي رَاهِبَانِ ; فَلَمَّا أَمْسَى قَالَ أَحَدهمَا لِصَاحِبِهِ : هَلَكَ وَاَللَّه الرَّجُل ! قَالَ : فَافْتَتَحَ سُورَة | آل عِمْرَان | قَالَا : فَقَرَأَ سُورَة طَيْبَة لَعَلَّهُ سَيَنْجُو . قَالَ : فَأَصْبَحَ سَلِيمًا . وَأَسْنَدَ عَنْ مَكْحُول قَالَ : ( مَنْ قَرَأَ سُورَة | آل عِمْرَان | يَوْم الْجُمْعَة صَلَّتْ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَة إِلَى اللَّيْل ) وَأَسْنَدَ عَنْ عُثْمَان بْن عَفَّان قَالَ : ( مَنْ قَرَأَ آخِر سُورَة | آل عِمْرَان | فِي لَيْلَة كُتِبَ لَهُ قِيَام لَيْلَة ) فِي طَرِيقه اِبْن لَهِيعَة . وَخَرَّجَ مُسْلِم عَنْ النَّوَّاس بْن سِمْعَان الْكِلَابِيّ قَالَ : سَمِعْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( يُؤْتَى بِالْقُرْآنِ يَوْم الْقِيَامَة وَأَهْله الَّذِينَ كَانُوا يَعْمَلُونَ بِهِ تَقْدُمهُ سُورَة الْبَقَرَة وَآل عِمْرَان ) , وَضَرَبَ لَهُمَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَة أَمْثَال مَا نَسِيتهنَّ بَعْد , قَالَ : - كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ أَوْ ظُلَّتَانِ سَوْدَاوَانِ بَيْنهمَا شَرْق , أَوْ كَأَنَّهُمَا حِزْقَان مِنْ طَيْر صَوَافّ تُحَاجَّانِ عَنْ صَاحِبهمَا . وَخَرَّجَ أَيْضًا عَنْ أَبِي أُمَامَة قَالَ : سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( اِقْرَءُوا الْقُرْآن فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْم الْقِيَامَة شَفِيعًا لِأَصْحَابِهِ اِقْرَءُوا الزَّهْرَاوَيْنِ الْبَقَرَة وَسُورَة آل عِمْرَان فَإِنَّهُمَا يَأْتِيَانِ يَوْم الْقِيَامَة كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ أَوْ كَأَنَّهُمَا غَيَايَتَانِ أَوْ كَأَنَّهُمَا فِرْقَانِ مِنْ طَيْر صَوَافّ تُحَاجَّانِ عَنْ أَصْحَابهمَا اِقْرَءُوا سُورَة الْبَقَرَة فَإِنَّ أَخْذهَا بَرَكَة وَتَرْكهَا حَسْرَة وَلَا يَسْتَطِيعهَا الْبَطَلَة ) . قَالَ مُعَاوِيَة : وَبَلَغَنِي أَنَّ الْبَطَلَة السَّحَرَة . [ الرَّابِعَة ] : لِلْعُلَمَاءِ فِي تَسْمِيَة | الْبَقَرَة وَآل عِمْرَان | بِالزَّهْرَاوَيْنِ ثَلَاثَة أَقْوَال : الْأَوَّل : إِنَّهُمَا النَّيِّرَتَانِ , مَأْخُوذ مِنْ الزَّهْر وَالزُّهْرَة ; فَإِمَّا لِهِدَايَتِهِمَا قَارِئَهُمَا بِمَا يُزْهِر لَهُ مِنْ أَنْوَارهمَا , أَيْ مِنْ مَعَانِيهمَا . وَإِمَّا لِمَا يَتَرَتَّب عَلَى قِرَاءَتهمَا مِنْ النُّور التَّامّ يَوْم الْقِيَامَة , وَهُوَ الْقَوْل الثَّانِي . الثَّالِث : سُمِّيَتَا بِذَلِكَ لِأَنَّهُمَا اِشْتَرَكَتَا فِيمَا تَضَمَّنَهُ اِسْم اللَّه الْأَعْظَم ; كَمَا ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْره عَنْ أَسْمَاء بِنْت يَزِيد أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِنَّ اِسْم اللَّه الْأَعْظَم فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ وَإِلَهكُمْ إِلَه وَاحِد لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الرَّحْمَن الرَّحِيم وَاَلَّتِي فِي آل عِمْرَان اللَّه لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْحَيّ الْقَيُّوم ) أَخْرَجَهُ اِبْن مَاجَهْ أَيْضًا . وَالْغَمَام : السَّحَاب الْمُلْتَفّ , وَهُوَ الْغَيَايَة إِذَا كَانَتْ قَرِيبًا مِنْ الرَّأْس , وَهِيَ الظُّلَّة أَيْضًا . وَالْمَعْنَى : إِنَّ قَارِئَهُمَا فِي ظِلّ ثَوَابهمَا ; كَمَا جَاءَ ( الرَّجُل فِي ظِلّ صَدَقَته ) وَقَوْله : ( تُحَاجَّانِ ) أَيْ يَخْلُق اللَّه مَنْ يُجَادِل عَنْهُ بِثَوَابِهِمَا مَلَائِكَة كَمَا جَاءَ فِي بَعْض الْحَدِيث : ( إِنَّ مَنْ قَرَأَ | شَهِدَ اللَّه أَنَّهُ لَا إِلَه إِلَّا هُوَ . .. | الْآيَة خَلَقَ اللَّه سَبْعِينَ مَلَكًا يَسْتَغْفِرُونَ لَهُ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ) . وَقَوْله : ( بَيْنهمَا شَرْق ) قُيِّدَ بِسُكُونِ الرَّاء وَفَتْحهَا وَهُوَ تَنْبِيه عَلَى الضِّيَاء ; لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ : ( سَوْدَاوَانِ ) قَدْ يُتَوَهَّم أَنَّهُمَا مُظْلِمَتَانِ , فَنَفَى ذَلِكَ . بِقَوْلِهِ : ( بَيْنهمَا شَرْق ) . وَيَعْنِي بِكَوْنِهِمَا سَوْدَاوَانِ أَيْ مِنْ كَثَافَتهمَا الَّتِي بِسَبَبِهَا حَالَتَا بَيْنَ مَنْ تَحْتهمَا وَبَيْن حَرَارَة الشَّمْس وَشِدَّة اللَّهَب . وَاَللَّه أَعْلَم . [ الْخَامِسَة ] : صَدْر هَذِهِ السُّورَة نَزَلَ بِسَبَبِ وَفْد نَجْرَان فِيمَا ذَكَرَ مُحَمَّد بْن إِسْحَاق عَنْ مُحَمَّد بْن جَعْفَر بْن الزُّبَيْر , وَكَانُوا نَصَارَى وَفَدُوا عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ فِي سِتِّينَ رَاكِبًا , فِيهِمْ مِنْ أَشْرَافهمْ أَرْبَعَة عَشَر رَجُلًا , فِي الْأَرْبَعَة عَشَر ثَلَاثَة نَفَر إِلَيْهِمْ يَرْجِع أَمْرهمْ : الْعَاقِب أَمِير الْقَوْم وَذُو آرَائِهِمْ وَاسْمه عَبْد الْمَسِيح , وَالسَّيِّد ثِمَالهمْ وَصَاحِب مُجْتَمَعهمْ وَاسْمه الْأَيْهَم , وَأَبُو حَارِثَة بْن عَلْقَمَة أَحَد بَكْر بْن وَائِل أُسْقُفّهمْ وَعَالِمهمْ ; فَدَخَلُوا عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِثْر صَلَاة الْعَصْر , عَلَيْهِمْ ثِيَاب الْحِبَرَات جُبَب وَأَرْدِيَة فَقَالَ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا رَأَيْنَا وَفْدًا مِثْلهمْ جَمَالًا وَجَلَالَة . وَحَانَتْ صَلَاتهمْ فَقَامُوا فَصَلَّوْا فِي مَسْجِد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَشْرِق . فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( دَعُوهُمْ ) . ثُمَّ أَقَامُوا بِهَا أَيَّامًا يُنَاظِرُونَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عِيسَى وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ اِبْن اللَّه , إِلَى غَيْر ذَلِكَ مِنْ أَقْوَال شَنِيعَة مُضْطَرِبَة , وَرَسُول صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرُدّ عَلَيْهِمْ بِالْبَرَاهِينِ السَّاطِعَة وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ , وَنَزَلَ فِيهِمْ صَدْر هَذِهِ السُّورَة إِلَى نَيِّف وَثَمَانِينَ آيَة ; إِلَى أَنْ آل أَمْرهمْ إِلَى أَنْ دَعَاهُمْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُبَاهَلَة , حَسْب مَا هُوَ مَذْكُور فِي سِيرَة اِبْن إِسْحَاق وَغَيْره .

نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ

يَعْنِي الْقُرْآن وَالْقُرْآن نُزِّلَ نُجُومًا : شَيْئًا بَعْد شَيْء ; فَلِذَلِكَ قَالَ | نَزَّلَ | وَالتَّنْزِيل مَرَّة بَعْد مَرَّة . وَالتَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل نَزَلَا دُفْعَة وَاحِدَة فَلِذَلِكَ قَالَ | أَنْزَلَ | وَالْبَاء فِي قَوْله | بِالْحَقِّ | فِي مَوْضِع الْحَال مِنْ الْكِتَاب وَالْبَاء مُتَعَلِّقَة بِمَحْذُوفٍ التَّقْدِير آتَيَا بِالْحَقِّ وَلَا تَتَعَلَّق ب | نَزَّلَ | لِأَنَّهُ قَدْ تَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ أَحَدهمَا بِحَرْفِ جَرّ , وَلَا يَتَعَدَّى إِلَى ثَالِث .|بِالْحَقِّ|أَيْ بِالصِّدْقِ وَقِيلَ : بِالْحُجَّةِ الْغَالِبَة .|مُصَدِّقًا|حَال مُؤَكَّدَة غَيْر مُنْتَقِلَة ; لِأَنَّهُ لَا يُمْكِن أَنْ يَكُون غَيْر مُصَدِّق , أَيْ غَيْر مُوَافِق ; هَذَا قَوْل الْجُمْهُور . وَقَدَّرَ فِيهِ بَعْضهمْ الِانْتِقَال , عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ مُصَدِّق لِنَفْسِهِ وَمُصَدِّق لِغَيْرِهِ .|لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ|يَعْنِي مِنْ الْكُتُب الْمُنَزَّلَة .|وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ|وَالتَّوْرَاة مَعْنَاهَا الضِّيَاء وَالنُّور مُشْتَقَّة مِنْ وَرَى الزَّنْد وَوَرِيَ لُغَتَانِ إِذَا خَرَجَتْ نَاره وَأَصْلهَا تَوْرِيَة عَلَى وَزْن تَفْعِلَة التَّاء زَائِدَة وَتَحَرَّكَتْ الْيَاء وَقَبْلهَا فَتْحَة فَقُلِبَتْ أَلِفًا وَيَجُوز أَنْ تَكُون تَفْعِلَة فَتُنْقَل الرَّاء مِنْ الْكَسْر إِلَى الْفَتْح كَمَا قَالُوا فِي جَارِيَة جَارَاة وَفِي نَاصِيَة نَاصَاة كِلَاهُمَا عَنْ الْفَرَّاء وَقَالَ الْخَلِيل : أَصْلهَا فَوْعَلَة فَالْأَصْل وَوْرَيَة قُلِبَتْ الْوَاو الْأُولَى تَاء كَمَا قُلِبَتْ فِي تَوْلَج وَالْأَصْل وَوْلَج فَوْعَل مِنْ وَلَجَت وَقُلِبَتْ الْيَاء أَلِفًا لِحَرَكَتِهَا وَانْفِتَاح مَا قَبْلهَا وَبِنَاء فَوْعَلَة أَكْثَر مِنْ تَفْعِلَة . وَقِيلَ : التَّوْرَاة مَأْخُوذَة مِنْ التَّوْرِيَة , وَهِيَ التَّعْرِيض بِالشَّيْءِ وَالْكِتْمَان لِغَيْرِهِ ; فَكَأَنَّ أَكْثَر التَّوْرَاة مَعَارِيض وَتَلْوِيحَات مِنْ غَيْر تَصْرِيح وَإِيضَاح , هَذَا قَوْل الْمُؤَرِّج . وَالْجُمْهُور عَلَى الْقَوْل الْأَوَّل لِقَوْلِهِ تَعَالَى : | وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُون الْفُرْقَان وَضِيَاء وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ | [ الْأَنْبِيَاء : 48 ] يَعْنِي التَّوْرَاة . وَالْإِنْجِيل إِفْعِيل مِنْ النَّجْل وَهُوَ الْأَصْل , وَيُجْمَع عَلَى أَنَاجِيل وَتَوْرَاة عَلَى تَوَارٍ ; فَالْإِنْجِيل أَصْل لِعُلُومٍ وَحِكَم . وَيُقَال : لَعَنَ اللَّه نَاجِلَيْهِ , يَعْنِي وَالِدَيْهِ , إِذْ كَانَ أَصْله . وَقِيلَ : هُوَ مِنْ نَجَلْت الشَّيْء إِذَا اِسْتَخْرَجْته ; فَالْإِنْجِيل مُسْتَخْرَج بِهِ عُلُوم وَحِكَم ; وَمِنْهُ سُمِّيَ الْوَلَد وَالنَّسْل نَجْلًا لِخُرُوجِهِ ; كَمَا قَالَ : <br>إِلَى مَعْشَر لَمْ يُورِث اللُّؤْم جَدّهمْ .......... أَصَاغِرهمْ وَكُلّ فَحْل لَهُمْ نَجْلُ <br>وَالنَّجْل الْمَاء الَّذِي يَخْرُج مِنْ النَّزّ . وَاسْتَنْجَلَتْ الْأَرْض , وَبِهَا نِجَال إِذَا خَرَجَ مِنْهَا الْمَاء , فَسُمِّيَ الْإِنْجِيل بِهِ ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى أَخْرَجَ بِهِ دَارِسًا مِنْ الْحَقّ عَافِيًا . وَقِيلَ : هُوَ مِنْ النَّجَل فِي الْعَيْن ( بِالتَّحْرِيكِ ) وَهُوَ سَعَتهَا ; وَطَعْنَة نَجْلَاء , أَيْ وَاسِعَة ; قَالَ : <br>رُبَّمَا ضَرْبَة بِسَيْفٍ صَقِيل .......... بَيْنَ بُصْرَى وَطَعْنَة نَجْلَاء <br>فَسُمِّيَ الْإِنْجِيل بِذَلِكَ ; لِأَنَّهُ أَصْل أَخْرَجَهُ لَهُمْ وَوَسَّعَهُ عَلَيْهِمْ وَنُورًا وَضِيَاء . وَقِيلَ : التَّنَاجُل التَّنَازُع ; وَسُمِّيَ إِنْجِيلًا لِتَنَازُعِ النَّاس فِيهِ . وَحَكَى شَمِر عَنْ بَعْضهمْ : الْإِنْجِيل كُلّ كِتَاب مَكْتُوب وَافِر السُّطُور . وَقِيلَ : نَجَلَ عَمِلَ وَصَنَعَ ; قَالَ : <br>وَأَنْجَل فِي ذَاكَ الصَّنِيع كَمَا نَجَل <br>أَيْ اِعْمَلْ وَاصْنَعْ . وَقِيلَ : التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل مِنْ اللُّغَة السُّرْيَانِيَّة . وَقِيلَ : الْإِنْجِيل بِالسُّرْيَانِيَّةِ إنكليون ; حَكَاهُ الثَّعْلَبِيّ . قَالَ الْجَوْهَرِيّ : الْإِنْجِيل كِتَاب عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام يُذَكَّر وَيُؤَنَّث ; فَمَنْ أَنَّثَ أَرَادَ الصَّحِيفَة , وَمَنْ ذَكَّرَ أَرَادَ الْكِتَاب . قَالَ غَيْره : وَقَدْ يُسَمَّى الْقُرْآن إِنْجِيلًا أَيْضًا ; كَمَا رُوِيَ فِي قِصَّة مُنَاجَاة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام أَنَّهُ قَالَ : ( يَا رَبّ أَرَى فِي الْأَلْوَاح أَقْوَامًا أَنَاجِيلهمْ فِي صُدُورهمْ فَاجْعَلْهُمْ أُمَّتِي ) . فَقَالَ اللَّه تَعَالَى لَهُ : ( تِلْكَ أُمَّة أَحْمَد ) صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَإِنَّمَا أَرَادَ بِالْأَنَاجِيلِ الْقُرْآن . وَقَرَأَ الْحَسَن : | وَالْأَنْجِيل | بِفَتْحِ الْهَمْزَة , وَالْبَاقُونَ بِالْكَسْرِ مِثْل الْإِكْلِيل , لُغَتَانِ . وَيَحْتَمِل إِنْ سُمِعَ أَنْ يَكُون مِمَّا عَرَّبَتْهُ الْعَرَب مِنْ الْأَسْمَاء الْأَعْجَمِيَّة , وَلَا مِثَال لَهُ فِي كَلَامهَا .

مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ

يَعْنِي الْقُرْآن|هُدًى لِلنَّاسِ|قَالَ اِبْن فُورك : التَّقْدِير هُدًى لِلنَّاسِ الْمُتَّقِينَ ; دَلِيله فِي الْبَقَرَة | هُدًى لِلْمُتَّقِينَ | [ الْبَقَرَة : 2 ] فَرَدَّ هَذَا الْعَامّ إِلَى ذَلِكَ الْخَاصّ . و | هُدًى | فِي مَوْضِع نَصْب عَلَى الْحَال .|وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ|الْقُرْآن وَقَدْ تَقَدَّمَ .

إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ

هَذَا خَبَر عَنْ عِلْمه تَعَالَى بِالْأَشْيَاءِ عَلَى التَّفْصِيل ; وَمِثْله فِي الْقُرْآن كَثِير . فَهُوَ الْعَالِم بِمَا كَانَ وَمَا يَكُون وَمَا لَا يَكُون ; فَكَيْفَ يَكُون عِيسَى إِلَهًا أَوْ ابْن إِلَه وَهُوَ تَخْفَى عَلَيْهِ الْأَشْيَاء .

هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ

أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ تَصْوِيره لِلْبَشَرِ فِي أَرْحَام الْأُمَّهَات , وَأَصْل الرَّحِم مِنْ الرَّحْمَة , لِأَنَّهَا مِمَّا يُتَرَاحَم بِهِ . وَاشْتِقَاق الصُّورَة مِنْ صَارَهُ إِلَى كَذَا إِذَا أَمَالَهُ ; فَالصُّورَة مَائِلَة إِلَى شَبَه وَهَيْئَة . وَهَذِهِ الْآيَة تَعْظِيم لِلَّهِ تَعَالَى , وَفِي ضِمْنهَا الرَّدّ عَلَى نَصَارَى نَجْرَان , وَأَنَّ عِيسَى مِنْ الْمُصَوَّرِينَ , وَذَلِكَ مِمَّا لَا يُنْكِرهُ عَاقِل . وَأَشَارَ تَعَالَى إِلَى شَرْح التَّصْوِير فِي سُورَة | الْحَجّ | و | الْمُؤْمِنُونَ | . وَكَذَلِكَ شَرَحَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيث اِبْن مَسْعُود , عَلَى مَا يَأْتِي هُنَاكَ بَيَانه إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى وَفِيهَا الرَّدّ عَلَى الطَّبَائِعِيِّينَ أَيْضًا إِذْ يَجْعَلُونَهَا فَاعِلَة مُسْتَبِدَّة . وَقَدْ مَضَى الرَّدّ عَلَيْهِمْ فِي آيَة التَّوْحِيد وَفِي مُسْنَد اِبْن سَنْجَر - وَاسْمه مُحَمَّد بْن سَنْجَر - حَدِيث ( إِنَّ اللَّه تَعَالَى يَخْلُق عِظَام الْجَنِين وَغَضَارِيفه مِنْ مَنِيّ الرَّجُل وَشَحْمه وَلَحْمه مِنْ مَنِيّ الْمَرْأَة ) . وَفِي هَذَا أَدَلّ دَلِيل عَلَى أَنَّ الْوَلَد يَكُون مِنْ مَاء الرَّجُل وَالْمَرْأَة , وَهُوَ صَرِيح فِي قَوْله تَعَالَى : | يَا أَيّهَا النَّاس إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَر وَأُنْثَى | [ الْحُجُرَات : 13 ] وَفِي صَحِيح مُسْلِم مِنْ حَدِيث ثَوْبَان وَفِيهِ أَنَّ الْيَهُودِيّ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَجِئْت أَسْأَلك عَنْ شَيْء لَا يَعْلَمهُ أَحَد مِنْ أَه2ْل الْأَرْض إِلَّا نَبِيّ أَوْ رَجُل أَوْ رَجُلَانِ . قَالَ : ( يَنْفَعك إِنْ حَدَّثْتُك ) ؟ . قَالَ : أَسْمَع بِأُذُنِي , قَالَ : جِئْتُك أَسْأَلك عَنْ الْوَلَد . فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَاء الرَّجُل أَبْيَض وَمَاء الْمَرْأَة أَصْفَر فَإِذَا اِجْتَمَعَا فَعَلَا مَنِيّ الرَّجُل مَنِيَّ الْمَرْأَة أَذْكَرَا بِإِذْنِ اللَّه تَعَالَى وَإِذَا عَلَا مَنِيُّ الْمَرْأَة مَنِيّ الرَّجُل آنَثَا بِإِذْنِ اللَّه . .. ) الْحَدِيث . وَسَيَأْتِي بَيَانه آخِر | الشُّورَى | إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .|كَيْفَ يَشَاءُ|يَعْنِي مِنْ حُسْن وَقُبْح وَسَوَاد وَبَيَاض وَطُول وَقِصَر وَسَلَامَة وَعَاهَة , إِلَى غَيْر ذَلِكَ مِنْ الشَّقَاء وَالسَّعَادَة . وَذُكِرَ عَنْ إِبْرَاهِيم بْن أَدْهَم أَنَّ الْقُرَّاء اِجْتَمَعُوا إِلَيْهِ لِيَسْمَعُوا مَا عِنْده مِنْ الْأَحَادِيث , فَقَالَ لَهُمْ : إِنِّي مَشْغُول عَنْكُمْ بِأَرْبَعَةِ أَشْيَاء , فَلَا أَتَفَرَّغ لِرِوَايَةِ الْحَدِيث . فَقِيلَ لَهُ : وَمَا ذَاكَ الشُّغْل ؟ قَالَ : أَحَدهَا إِنِّي أَتَفَكَّر فِي يَوْم الْمِيثَاق حَيْثُ قَالَ : ( هَؤُلَاءِ فِي الْجَنَّة وَلَا أُبَالِي وَهَؤُلَاءِ فِي النَّار وَلَا أُبَالِي ) فَلَا أَدْرِي مِنْ أَيّ الْفَرِيقَيْنِ كُنْت فِي ذَلِكَ الْوَقْت وَالثَّانِي حَيْثُ صُوِّرْت فِي الرَّحِم فَقَالَ الْمَلَك الَّذِي هُوَ مُوَكَّل عَلَى الْأَرْحَام : ( يَا رَبّ شَقِيّ هُوَ أَمْ سَعِيد ) فَلَا أَدْرِي كَيْفَ كَانَ الْجَوَاب فِي ذَلِكَ الْوَقْت وَالثَّالِث حِينَ يَقْبِض مَلَك الْمَوْت رُوحِي فَيَقُول : ( يَا رَبّ مَعَ الْكُفْر أَمْ مَعَ الْإِيمَان ) فَلَا أَدْرِي كَيْفَ يَخْرُج الْجَوَاب وَالرَّابِع حَيْثُ يَقُول : | وَامْتَازُوا الْيَوْم أَيّهَا الْمُجْرِمُونَ | [ يس : 59 ] فَلَا أَدْرِي فِي أَيِّ الْفَرِيقَيْنِ أَكُون .|لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ|أَيْ لَا خَالِق وَلَا مُصَوِّر سِوَاهُ وَذَلِكَ دَلِيل عَلَى وَحْدَانِيّته , فَكَيْفَ يَكُون عِيسَى إِلَهًا مُصَوِّرًا وَهُوَ مُصَوَّر .|الْعَزِيزُ|الَّذِي لَا يُغَالَب .|الْحَكِيمُ|ذُو الْحِكْمَة أَوْ الْمُحْكِم , وَهَذَا أَخَصّ بِمَا ذُكِرَ مِنْ التَّصْوِير .

هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَم

خَرَّجَ مُسْلِم عَنْ عَائِشَة رِضَى اللَّه عَنْهَا قَالَتْ : تَلَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ | هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْك الْكِتَاب مِنْهُ آيَات مُحْكَمَات هُنَّ أُمّ الْكِتَاب وَأُخَر مُتَشَابِهَات فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبهمْ زَيْغ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ اِبْتِغَاء الْفِتْنَة وَابْتِغَاء تَأْوِيله وَمَا يَعْلَم تَأْوِيله إِلَّا اللَّه وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْم يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلّ مِنْ عِنْد رَبّنَا وَمَا يَذَّكَّر إِلَّا أُولُو الْأَلْبَاب | قَالَتْ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِذَا رَأَيْتُمْ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّاهُمْ اللَّه فَاحْذَرُوهُمْ ) . وَعَنْ أَبِي غَالِب قَالَ : كُنْت أَمْشِي مَعَ أَبِي أُمَامَة وَهُوَ عَلَى حِمَار لَهُ , حَتَّى إِذَا اِنْتَهَى إِلَى دَرَج مَسْجِد دِمَشْق فَإِذَا رُءُوس مَنْصُوبَة ; فَقَالَ : مَا هَذِهِ الرُّءُوس ؟ قِيلَ : هَذِهِ رُءُوس خَوَارِج يُجَاء بِهِمْ مِنْ الْعِرَاق فَقَالَ أَبُو أُمَامَة : ( كِلَاب النَّار كِلَاب النَّار كِلَاب النَّار شَرّ قَتْلَى تَحْت ظِلّ السَّمَاء , طُوبَى لِمَنْ قَتَلَهُمْ وَقَتَلُوهُ - يَقُولهَا ثَلَاثًا - ثُمَّ بَكَى ) فَقُلْت : مَا يُبْكِيك يَا أَبَا أُمَامَة ؟ قَالَ : رَحْمَة لَهُمْ , ( إِنَّهُمْ كَانُوا مِنْ أَهْل الْإِسْلَام فَخَرَجُوا مِنْهُ ; ثُمَّ قَرَأَ | هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْك الْكِتَاب مِنْهُ آيَات مُحْكَمَات . .. | إِلَى آخِر الْآيَات . ثُمَّ قَرَأَ | وَلَا تَكُونُوا كَاَلَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْد مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَات . .. | [ آل عِمْرَان : 105 ] . فَقُلْت : يَا أَبَا أُمَامَة , هُمْ هَؤُلَاءِ ؟ قَالَ نَعَمْ . قُلْت : أَشَيْء تَقُولهُ بِرَأْيِك أَمْ شَيْء سَمِعْته مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَقَالَ : إِنِّي إِذًا لَجَرِيء إِنِّي إِذًا لَجَرِيء بَلْ سَمِعْته مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْر مَرَّة وَلَا مَرَّتَيْنِ وَلَا ثَلَاث وَلَا أَرْبَع وَلَا خَمْس وَلَا سِتّ وَلَا سَبْع , وَوَضَعَ أُصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ , قَالَ : وَإِلَّا فَصُمَّتَا - قَالَهَا ثَلَاثًا - ) ثُمَّ قَالَ : سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( تَفَرَّقَتْ بَنُو إِسْرَائِيل عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَة وَاحِدَة فِي الْجَنَّة وَسَائِرهمْ فِي النَّار وَلِتَزِيدَن عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْأُمَّة وَاحِدَة وَاحِدَة فِي الْجَنَّة وَسَائِرهمْ فِي النَّار ) .</p><p>اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْمُحْكَمَات وَالْمُتَشَابِهَات عَلَى أَقْوَال عَدِيدَة ; فَقَالَ جَابِر بْن عَبْد اللَّه , وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْل الشَّعْبِيّ وَسُفْيَان الثَّوْرِيّ وَغَيْرهمَا : ( الْمُحْكَمَات مِنْ آي الْقُرْآن مَا عُرِفَ تَأْوِيله وَفُهِمَ مَعْنَاهُ وَتَفْسِيره وَالْمُتَشَابِه مَا لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ إِلَى عِلْمه سَبِيل مِمَّا اِسْتَأْثَرَ اللَّه تَعَالَى بِعِلْمِهِ دُونَ خَلْقه , قَالَ بَعْضهمْ : وَذَلِكَ مِثْل وَقْت قِيَام السَّاعَة , وَخُرُوج يَأْجُوج وَمَأْجُوج وَالدَّجَّال وَعِيسَى , وَنَحْو الْحُرُوف الْمُقَطَّعَة فِي أَوَائِل السُّوَر )</p><p>قُلْت : هَذَا أَحْسَن مَا قِيلَ فِي الْمُتَشَابِه . وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي أَوَائِل سُورَة الْبَقَرَة عَنْ الرَّبِيع بْن خُثَيْم ( إِنَّ اللَّه تَعَالَى أَنْزَلَ هَذَا الْقُرْآن فَاسْتَأْثَرَ مِنْهُ بِعِلْمِ مَا شَاءَ . .. ) الْحَدِيث . وَقَالَ أَبُو عُثْمَان : الْمُحْكَم فَاتِحَة الْكِتَاب الَّتِي لَا تُجْزِئ الصَّلَاة إِلَّا بِهَا . وَقَالَ مُحَمَّد بْن الْفَضْل : سُورَة الْإِخْلَاص , لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا إِلَّا التَّوْحِيد فَقَطْ . وَقَدْ قِيلَ : الْقُرْآن كُلّه مُحْكَم : لِقَوْلِ تَعَالَى : | كِتَاب أُحْكِمَتْ آيَاته | [ هُود : 1 ] . وَقِيلَ : كُلّه مُتَشَابِه ; لِقَوْلِهِ : | كِتَابًا مُتَشَابِهًا | [ الزُّمَر : 23 ] .</p><p>قُلْت : وَلَيْسَ هَذَا مِنْ مَعْنَى الْآيَة فِي شَيْء ; فَإِنَّ قَوْله تَعَالَى : | كِتَاب أُحْكِمَتْ آيَاته | أَيْ فِي النَّظْم وَالرَّصْف وَأَنَّهُ حَقّ مِنْ عِنْد اللَّه . وَمَعْنَى | كِتَابًا مُتَشَابِهًا | , أَيْ يُشْبِه بَعْضه بَعْضًا وَيُصَدِّق بَعْضه بَعْضًا . وَلَيْسَ الْمُرَاد بِقَوْلِهِ : | آيَات مُحْكَمَات وَأُخَر مُتَشَابِهَات | هَذَا الْمَعْنَى ; وَإِنَّمَا الْمُتَشَابِه فِي هَذِهِ الْآيَة مِنْ بَاب الِاحْتِمَال وَالِاشْتِبَاه , مِنْ قَوْله : | إِنَّ الْبَقَر تَشَابَهَ عَلَيْنَا | [ الْبَقَرَة : 70 ] أَيْ اِلْتَبَسَ عَلَيْنَا , أَيْ يَحْتَمِل أَنْوَاعًا كَثِيرَة مِنْ الْبَقَر . وَالْمُرَاد بِالْمُحْكَمِ مَا فِي مُقَابَلَة هَذَا , وَهُوَ مَا لَا اِلْتِبَاس فِيهِ وَلَا يَحْتَمِل إِلَّا وَجْهًا وَاحِدًا . وَقِيلَ : إِنَّ الْمُتَشَابِه مَا يَحْتَمِل وُجُوهًا , ثُمَّ إِذَا رُدَّتْ الْوُجُوه إِلَى وَجْه وَاحِد وَأَبْطَلَ الْبَاقِي صَارَ الْمُتَشَابِه مُحْكَمًا . فَالْمُحْكَم أَبَدًا أَصْل تُرَدّ إِلَيْهِ الْفُرُوع ; وَالْمُتَشَابِه هُوَ الْفَرْع . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : ( الْمُحْكَمَات هُوَ قَوْله فِي سُورَة الْأَنْعَام | قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبّكُمْ عَلَيْكُمْ | [ الْأَنْعَام : 151 ] إِلَى ثَلَاث آيَات , وَقَوْله فِي بَنِي إِسْرَائِيل : | وَقَضَى رَبّك أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا | [ الْإِسْرَاء : 23 ] قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا عِنْدِي مِثَال أَعْطَاهُ فِي الْمُحْكَمَات . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا : ( الْمُحْكَمَات نَاسِخه وَحَرَامه وَفَرَائِضه وَمَا يُؤْمِن بِهِ وَيَعْمَل بِهِ , وَالْمُتَشَابِهَات الْمَنْسُوخَات وَمُقَدَّمه وَمُؤَخَّره وَأَمْثَاله وَأَقْسَامه وَمَا يُؤْمِن بِهِ وَلَا يَعْمَل بِهِ ) وَقَالَ اِبْن مَسْعُود وَغَيْره : ( الْمُحْكَمَات النَّاسِخَات , وَالْمُتَشَابِهَات الْمَنْسُوخَات ) وَقَالَ قَتَادَة وَالرَّبِيع وَالضَّحَّاك . وَقَالَ مُحَمَّد بْن جَعْفَر بْن الزُّبَيْر : الْمُحْكَمَات هِيَ الَّتِي فِيهَا حُجَّة الرَّبّ وَعِصْمَة الْعِبَاد وَدَفْع الْخُصُوم وَالْبَاطِل , لَيْسَ لَهَا تَصْرِيف وَلَا تَحْرِيف عَمَّا وُضِعْنَ عَلَيْهِ . وَالْمُتَشَابِهَات لَهُنَّ تَصْرِيف وَتَحْرِيف وَتَأْوِيل , اِبْتَلَى اللَّه فِيهِنَّ الْعِبَاد ; وَقَالَهُ مُجَاهِد وَابْن إِسْحَاق . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا أَحْسَن الْأَقْوَال فِي هَذِهِ الْآيَة . قَالَ النَّحَّاس : أَحْسَن مَا قِيلَ فِي الْمُحْكَمَات , وَالْمُتَشَابِهَات أَنَّ الْمُحْكَمَات مَا كَانَ قَائِمًا بِنَفْسِهِ لَا يَحْتَاج أَنْ يَرْجِع فِيهِ إِلَى غَيْره ; نَحْو | لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوا أَحَد | [ الْإِخْلَاص : 4 ] | وَإِنِّي لَغَفَّار لِمَنْ تَابَ | [ طَه : 82 ] . وَالْمُتَشَابِهَات نَحْو | إِنَّ اللَّه يَغْفِر الذُّنُوب جَمِيعًا | [ الزُّمَر : 53 ] يَرْجِع فِيهِ إِلَى قَوْله جَلَّ وَعَلَا : | وَإِنِّي لَغَفَّار لِمَنْ تَابَ | [ طَه : 82 ] وَإِلَى قَوْل عَزَّ وَجَلَّ : | إِنَّ اللَّه لَا يَغْفِر أَنْ يُشْرَك بِهِ | [ النِّسَاء : 48 , 116 ] .</p><p>قُلْت : مَا قَالَهُ النَّحَّاس يُبَيِّن مَا اِخْتَارَهُ اِبْن عَطِيَّة , وَهُوَ الْجَارِي عَلَى وَضْع اللِّسَان ; وَذَلِكَ أَنَّ الْمُحْكِم اِسْم مَفْعُول مِنْ أَحْكَمَ , وَالْإِحْكَام الْإِتْقَان ; وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ مَا كَانَ وَاضِح الْمَعْنَى , لَا إِشْكَال فِيهِ وَلَا تَرَدُّد , إِنَّمَا يَكُون كَذَلِكَ لِوُضُوحِ مُفْرَدَات كَلِمَاته وَإِتْقَان تَرْكِيبهَا ; وَمَتَى اِخْتَلَّ أَحَد الْأَمْرَيْنِ جَاءَ التَّشَابُه وَالْإِشْكَال . وَاَللَّه أَعْلَم . وَقَالَ اِبْن خُوَيْز مَنْدَاد : لِلْمُتَشَابِهِ وُجُوه , وَاَلَّذِي يَتَعَلَّق بِهِ الْحُكْم مَا اِخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاء أَيّ الْآيَتَيْنِ نَسَخَتْ الْأُخْرَى ; كَقَوْلِ عَلِيّ وَابْن عَبَّاس فِي الْحَامِل الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجهَا ( تَعْتَدّ أَقْصَى الْأَجَلَيْنِ ) فَكَانَ عُمَر وَزَيْد بْن ثَابِت وَابْن مَسْعُود وَغَيْرهمْ يَقُولُونَ ( وَضْع الْحَمْل ) وَيَقُولُونَ : ( سُورَة النِّسَاء الْقُصْرَى نَسَخَتْ أَرْبَعَة أَشْهُر وَعَشْرًا ) وَكَانَ عَلِيّ وَابْن عَبَّاس يَقُولَانِ لَمْ تَنْسَخ . وَكَاخْتِلَافِهِمْ فِي الْوَصِيَّة لِلْوَارِثِ هَلْ نُسِخَتْ أَمْ لَمْ تُنْسَخ . وَكَتَعَارُضِ الْآيَتَيْنِ أَيّهمَا أَوْلَى أَنْ تُقَدَّم إِذَا لَمْ يُعْرَف النَّسْخ وَلَمْ تُوجَد شَرَائِطه ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى : | وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاء ذَلِكُمْ | [ النِّسَاء : 24 ] يَقْتَضِي الْجَمْع بَيْنَ الْأَقَارِب مِنْ مِلْك الْيَمِين , وَقَوْله تَعَالَى : | وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ | [ النِّسَاء : 23 ] يَمْنَع ذَلِكَ . وَمِنْهُ أَيْضًا تَعَارُض الْأَخْبَار عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَعَارُض الْأَقْيِسَة , فَذَلِكَ الْمُتَشَابِه . وَلَيْسَ مِنْ الْمُتَشَابِه أَنْ تَقْرَأ الْآيَة بِقِرَاءَتَيْنِ وَيَكُون الِاسْم مُحْتَمِلًا أَوْ مُجْمَلًا يَحْتَاج إِلَى تَفْسِير لِأَنَّ الْوَاجِب مِنْهُ قَدْر مَا يَتَنَاوَل الِاسْم أَوْ جَمِيعه . وَالْقِرَاءَتَانِ كَالْآيَتَيْنِ يَجِب الْعَمَل بِمُوجِبِهِمَا جَمِيعًا ; كَمَا قُرِئَ : | وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلكُمْ | [ الْمَائِدَة : 6 ] بِالْفَتْحِ وَالْكَسْر , عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه | فِي الْمَائِدَة | إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .</p><p>رَوَى الْبُخَارِيّ عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر قَالَ : قَالَ رَجُل لِابْنِ عَبَّاس : إِنِّي أَجِد فِي الْقُرْآن أَشْيَاء تَخْتَلِف عَلَيَّ . قَالَ : مَا هُوَ ؟ قَالَ : | فَلَا أَنْسَاب بَيْنهمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ | [ الْمُؤْمِنُونَ : 101 ] وَقَالَ : | وَأَقْبَلَ بَعْضهمْ عَلَى بَعْض يَتَسَاءَلُونَ | [ الصَّافَّات : 27 ] وَقَالَ : | وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّه حَدِيثًا | [ النِّسَاء : 42 ] وَقَالَ : | وَاَللَّه رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ | [ الْأَنْعَام : 23 ] فَقَدْ كَتَمُوا فِي هَذِهِ الْآيَة . وَفِي النَّازِعَات | أَمْ السَّمَاء بَنَاهَا | إِلَى قَوْله | دَحَاهَا | [ النَّازِعَات : 26 27 - 28 - 29 - 30 ] فَذَكَرَ خَلْق السَّمَاء قَبْل خَلْق الْأَرْض , ثُمَّ قَالَ : | أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِاَلَّذِي خَلَقَ الْأَرْض فِي يَوْمَيْنِ . .. إِلَى : طَائِعِينَ | [ فُصِّلَتْ : 9 , 10 , 11 ] فَذَكَرَ فِي هَذَا خَلْق الْأَرْض قَبْل خَلْق السَّمَاء . وَقَالَ : | وَكَانَ اللَّه غَفُورًا رَحِيمًا | [ النِّسَاء : 100 ] | وَكَانَ اللَّه عَزِيزًا حَكِيمًا | [ النِّسَاء : 158 ] . | وَكَانَ اللَّه سَمِيعًا بَصِيرًا | [ النِّسَاء : 134 ] فَكَأَنَّهُ كَانَ ثُمَّ مَضَى . فَقَالَ اِبْن عَبَّاس : ( | فَلَا أَنْسَاب بَيْنهمْ | فِي النَّفْخَة الْأُولَى , ثُمَّ يُنْفَخ فِي الصُّور فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَات وَمَنْ فِي الْأَرْض إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّه , فَلَا أَنْسَاب بَيْنهمْ عِنْد ذَلِكَ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ ; ثُمَّ فِي النَّفْخَة الْآخِرَة أَقْبَلَ بَعْضهمْ عَلَى بَعْض يَتَسَاءَلُونَ . وَأَمَّا قَوْله : | مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ | وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّه حَدِيثًا | فَإِنَّ اللَّه يَغْفِر لِأَهْلِ الْإِخْلَاص ذُنُوبهمْ , وَقَالَ الْمُشْرِكُونَ : تَعَالَوْا نَقُول : لَمْ نَكُنْ مُشْرِكِينَ ; فَخَتَمَ اللَّه عَلَى أَفْوَاههمْ فَتَنْطِق جَوَارِحهمْ بِأَعْمَالِهِمْ ; فَعِنْد ذَلِكَ عُرِفَ أَنَّ اللَّه لَا يُكْتَم حَدِيثًا , وَعِنْده يَوَدّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ . وَخَلَقَ اللَّه الْأَرْض فِي يَوْمَيْنِ , ثُمَّ اِسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْع سَمَاوَات فِي يَوْمَيْنِ , ثُمَّ دَحَا الْأَرْض أَيْ بَسَطَهَا فَأَخْرَجَ مِنْهَا الْمَاء وَالْمَرْعَى , وَخَلَقَ فِيهَا الْجِبَال وَالْأَشْجَار وَالْآكَام وَمَا بَيْنهَا فِي يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ ; فَذَلِكَ قَوْله : | وَالْأَرْض بَعْد ذَلِكَ دَحَاهَا | . فَخُلِقَتْ الْأَرْض وَمَا فِيهَا فِي أَرْبَعَة أَيَّام , وَخُلِقَتْ السَّمَاء فِي يَوْمَيْنِ . وَقَوْله : | وَكَانَ اللَّه غَفُورًا رَحِيمًا | يَعْنِي نَفْسه ذَلِكَ , أَيْ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَال كَذَلِكَ ; فَإِنَّ اللَّه لَمْ يُرِدْ شَيْئًا إِلَّا أَصَابَ بِهِ الَّذِي أَرَادَ . وَيْحك فَلَا يَخْتَلِف عَلَيْك الْقُرْآن ; فَإِنَّ كُلًّا مِنْ عِنْد اللَّه )</p><p>| وَأُخَر مُتَشَابِهَات | لَمْ تُصْرَف | أُخَر | لِأَنَّهَا عُدِلَتْ عَنْ الْأَلِف وَاللَّام ; لِأَنَّ أَصْلهَا أَنْ تَكُون صِفَة بِالْأَلِفِ وَاللَّام كَالْكِبَرِ وَالصِّغَر ; فَلَمَّا عُدِلَتْ عَنْ مَجْرَى الْأَلِف وَاللَّام مُنِعَتْ الصَّرْف . أَبُو عُبَيْد : لَمْ يَصْرِفُوهَا لِأَنَّ وَاحِدهَا لَا يَنْصَرِف فِي مَعْرِفَة وَلَا نَكِرَة . وَأَنْكَرَ ذَلِكَ الْمُبَرِّد وَقَالَ : يَجِب عَلَى هَذَا أَلَّا يَنْصَرِف غِضَاب وَعِطَاش . الْكِسَائِيّ : لَمْ تَنْصَرِف لِأَنَّهَا صِفَة . وَأَنْكَرَهُ الْمُبَرِّد أَيْضًا وَقَالَ : إِنَّ لُبَدًا وَحُطَمًا صِفَتَانِ وَهُمَا مُنْصَرِفَانِ . سِيبَوَيْهِ : لَا يَجُوز أَنْ تَكُون أُخَر مَعْدُولَة عَنْ الْأَلِف وَاللَّام ; لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مَعْدُولَة عَنْ الْأَلِف وَاللَّام لَكَانَ مَعْرِفَة , أَلَا تَرَى أَنَّ سَحَرَ مَعْرِفَة فِي جَمِيع الْأَقَاوِيل لَمَّا كَانَتْ مَعْدُولَة عَنْ السِّحْر , وَأَمْس فِي قَوْل مَنْ قَالَ : ذَهَبَ أَمْس مَعْدُولًا عَنْ الْأَمْس ; فَلَوْ كَانَ أُخَر مَعْدُولًا أَيْضًا عَنْ الْأَلِف وَاللَّام لَكَانَ مَعْرِفَة , وَقَدْ وَصَفَهُ اللَّه تَعَالَى بِالنَّكِرَةِ .|فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ|الَّذِينَ رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ , وَالْخَبَر | فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ | . وَالزَّيْغ الْمَيْل ; وَمِنْهُ زَاغَتْ الشَّمْس , وَزَاغَتْ الْأَبْصَار . وَيُقَال : زَاغَ يَزِيغ زَيْغًا إِذَا تُرِكَ الْقَصْد ; وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : | فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّه قُلُوبهمْ | [ الصَّفّ : 5 ] . وَهَذِهِ الْآيَة تَعُمّ كُلّ طَائِفَة مِنْ كَافِر وَزِنْدِيق وَجَاهِل وَصَاحِب بِدْعَة , وَإِنْ كَانَتْ الْإِشَارَة بِهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْت إِلَى نَصَارَى نَجْرَان . وَقَالَ قَتَادَة فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى : | فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبهمْ زَيْغ | : إِنْ لَمْ يَكُونُوا الْحَرُورِيَّة وَأَنْوَاع الْخَوَارِج فَلَا أَدْرِي مَنْ هُمْ .</p><p>قُلْت : قَدْ مَرَّ هَذَا التَّفْسِير عَنْ أَبِي أُمَامَة مَرْفُوعًا , وَحَسْبك .|فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ|قَالَ شَيْخنَا أَبُو الْعَبَّاس رَحْمَة اللَّه عَلَيْهِ : مُتَّبِعُو الْمُتَشَابِه لَا يَخْلُو أَنْ يَتَّبِعُوهُ وَيَجْمَعُوهُ طَلَبًا لِلتَّشْكِيكِ فِي الْقُرْآن وَإِضْلَال الْعَوَامّ , كَمَا فَعَلَتْهُ الزَّنَادِقَة وَالْقَرَامِطَة الطَّاعِنُونَ فِي الْقُرْآن ; أَوْ طَلَبًا لِاعْتِقَادِ ظَوَاهِر الْمُتَشَابِه , كَمَا فَعَلَتْهُ الْمُجَسِّمَة الَّذِينَ جَمَعُوا مَا فِي الْكِتَاب وَالسُّنَّة مِمَّا ظَاهِره الْجِسْمِيَّة حَتَّى اِعْتَقَدُوا أَنَّ الْبَارِئ تَعَالَى جِسْم مُجَسَّم وَصُورَة مُصَوَّرَة ذَات وَجْه وَعَيْن وَيَد وَجَنْب وَرِجْل وَأُصْبُع , تَعَالَى اللَّه عَنْ ذَلِكَ ; أَوْ يَتَّبِعُوهُ عَلَى جِهَة إِبْدَاء تَأْوِيلَاتهَا وَإِيضَاح مَعَانِيهَا , أَوْ كَمَا فَعَلَ صَبِيغ حِينَ أَكْثَر عَلَى عُمَر فِيهِ السُّؤَال . <subtitle>فَهَذِهِ أَرْبَعَة أَقْسَام : </subtitle>[ الْأَوَّل ] لَا شَكَّ فِي كُفْرهمْ , وَإِنَّ حُكْم اللَّه فِيهِمْ الْقَتْل مِنْ غَيْر اِسْتِتَابَة . [ الثَّانِي ] الصَّحِيح الْقَوْل بِتَكْفِيرِهِمْ , إِذْ لَا فَرْق بَيْنهمْ وَبَيْنَ عُبَّاد الْأَصْنَام وَالصُّوَر , وَيُسْتَتَابُونَ فَإِنْ تَابُوا وَإِلَّا قُتِلُوا كَمَا يُفْعَل بِمَنْ اِرْتَدَّ . [ الثَّالِث ] اِخْتَلَفُوا فِي جَوَاز ذَلِكَ بِنَاء عَلَى الْخِلَاف فِي جَوَاز تَأْوِيلهَا . وَقَدْ عُرِفَ أَنَّ مَذْهَب السَّلَف تَرْك التَّعَرُّض لِتَأْوِيلِهَا مَعَ قَطْعهمْ بِاسْتِحَالَةِ ظَوَاهِرهَا , فَيَقُولُونَ أَمِّرُوهَا كَمَا جَاءَتْ . وَذَهَبَ بَعْضهمْ إِلَى إِبْدَاء تَأْوِيلَاتهَا وَحَمْلهَا عَلَى مَا يَصِحّ حَمْله فِي اللِّسَان عَلَيْهَا مِنْ غَيْر قَطْع بِتَعْيِينِ مُجْمَل مِنْهَا . [ الرَّابِع ] الْحُكْم فِيهِ الْأَدَب الْبَلِيغ , كَمَا فَعَلَهُ عُمَر بِصَبِيغٍ . وَقَالَ أَبُو بَكْر الْأَنْبَارِيّ : وَقَدْ كَانَ الْأَئِمَّة مِنْ السَّلَف يُعَاقِبُونَ مَنْ يَسْأَل عَنْ تَفْسِير الْحُرُوف الْمُشْكِلَات فِي الْقُرْآن , لِأَنَّ السَّائِل إِنْ كَانَ يَبْغِي بِسُؤَالِهِ تَخْلِيد الْبِدْعَة وَإِثَارَة الْفِتْنَة فَهُوَ حَقِيق بِالنَّكِيرِ وَأَعْظَم التَّعْزِير , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَقْصِده فَقَدْ اِسْتَحَقَّ الْعَتْب بِمَا اِجْتَرَمَ مِنْ الذَّنْب , إِذْ أَوْجَدَ لِلْمُنَافِقِينَ الْمُلْحِدِينَ فِي ذَلِكَ الْوَقْت سَبِيلًا إِلَى أَنْ يَقْصِدُوا ضَعَفَة الْمُسْلِمِينَ بِالتَّشْكِيكِ وَالتَّضْلِيل فِي تَحْرِيف الْقُرْآن عَنْ مَنَاهِج التَّنْزِيل وَحَقَائِق التَّأْوِيل . فَمِنْ ذَلِكَ مَا حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل بْن إِسْحَاق الْقَاضِي أَنْبَأَنَا سُلَيْمَان بْن حَرْب عَنْ حَمَّاد بْن زَيْد عَنْ يَزِيد بْن حَازِم عَنْ سُلَيْمَان بْن يَسَار أَنَّ صَبِيغ بْن عِسْل قَدِمَ الْمَدِينَة فَجَعَلَ يَسْأَل عَنْ مُتَشَابِه الْقُرْآن وَعَنْ أَشْيَاء ; فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فَبَعَثَ إِلَيْهِ عُمَر فَأَحْضَرَهُ وَقَدْ أَعَدَّ لَهُ عَرَاجِين مِنْ عَرَاجِين النَّخْل . فَلَمَّا حَضَرَ قَالَ لَهُ عُمَر : مَنْ أَنْتَ ؟ قَالَ : أَنَا عَبْد اللَّه صَبِيغ . فَقَالَ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : وَأَنَا عَبْد اللَّه عُمَر ; ثُمَّ قَامَ إِلَيْهِ فَضَرَبَ رَأْسه بِعُرْجُونٍ فَشَجَّهُ , ثُمَّ تَابَعَ ضَرْبه حَتَّى سَالَ دَمه عَلَى وَجْهه , فَقَالَ : حَسْبك يَا أَمِير الْمُؤْمِنِينَ فَقَدْ وَاَللَّه ذَهَبَ مَا كُنْت أَجِد فِي رَأْسِي . وَقَدْ اِخْتَلَفَتْ الرِّوَايَات فِي أَدَبه , وَسَيَأْتِي ذِكْرهَا فِي | الذَّارِيَات | . ثُمَّ إِنَّ اللَّه تَعَالَى أَلْهَمَهُ التَّوْبَة وَقَذَفَهَا فِي قَلْبه فَتَابَ وَحَسُنَتْ تَوْبَته .|ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ|طَلَب الشُّبُهَات وَاللَّبْس عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَتَّى يُفْسِدُوا ذَات بَيْنهمْ , وَيَرُدُّوا النَّاس إِلَى زَيْغهمْ .|وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ|قَالَ أَبُو إِسْحَاق الزَّجَّاج : مَعْنَى | اِبْتِغَاء تَأْوِيله | أَنَّهُمْ طَلَبُوا تَأْوِيل بَعْثهمْ وَإِحْيَائِهِمْ , فَأَعْلَمَ اللَّه جَلَّ وَعَزَّ أَنَّ تَأْوِيل ذَلِكَ وَوَقْته لَا يَعْلَمهُ إِلَّا اللَّه . قَالَ : وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : | هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيله يَوْم يَأْتِي تَأْوِيله | أَيْ يَوْم يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ مِنْ الْبَعْث وَالنُّشُور وَالْعَذَاب | يَقُول الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْل | أَيْ تَرَكُوهُ - | قَدْ جَاءَتْ رُسُل رَبّنَا بِالْحَقِّ | [ الْأَعْرَاف : 43 ] أَيْ قَدْ رَأَيْنَا تَأْوِيل مَا أَنْبَأَتْنَا بِهِ الرُّسُل قَالَ : فَالْوَقْف عَلَى قَوْله تَعَالَى : | وَمَا يَعْلَم تَأْوِيله إِلَّا اللَّه | أَيْ لَا يَعْلَم أَحَد مَتَى الْبَعْث إِلَّا اللَّه .|وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ|يُقَال : إِنَّ جَمَاعَة مِنْ الْيَهُود مِنْهُمْ حُيَيّ بْن أَخْطَب دَخَلُوا عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا : بَلَغَنَا أَنَّهُ نَزَلَ عَلَيْك | الم | فَإِنْ كُنْت صَادِقًا فِي مَقَالَتك فَإِنَّ مُلْك أُمَّتك يَكُون إِحْدَى وَسَبْعِينَ سَنَة ; لِأَنَّ الْأَلِف فِي حِسَاب الْجُمَّل وَاحِد , وَاللَّام ثَلَاثُونَ , وَالْمِيم أَرْبَعُونَ , فَنَزَلَ | وَمَا يَعْلَم تَأْوِيله إِلَّا اللَّه | . وَالتَّأْوِيل يَكُون بِمَعْنَى التَّفْسِير , كَقَوْلِك : تَأْوِيل هَذِهِ الْكَلِمَة عَلَى كَذَا . وَيَكُون بِمَعْنَى مَا يَؤُول الْأَمْر إِلَيْهِ . وَاشْتِقَاقه مِنْ آلَ الْأَمْر إِلَى كَذَا يَؤُول إِلَيْهِ , أَيْ صَارَ . وَأَوَّلْته تَأْوِيلًا أَيْ صَيَّرْته . وَقَدْ حَدَّهُ بَعْض الْفُقَهَاء فَقَالُوا : هُوَ إِبْدَاء اِحْتِمَال فِي اللَّفْظ مَقْصُود بِدَلِيلٍ خَارِج عَنْهُ . فَالتَّفْسِير بَيَان اللَّفْظ ; كَقَوْلِهِ | لَا رَيْب فِيهِ | [ الْبَقَرَة : 2 ] أَيْ لَا شَكَّ . وَأَصْله مِنْ الْفَسْر وَهُوَ الْبَيَان ; يُقَال : فَسَرْت الشَّيْء ( مُخَفَّفًا ) أَفْسِره ( بِالْكَسْرِ ) فَسْرًا . وَالتَّأْوِيل بَيَان الْمَعْنَى ; كَقَوْلِهِ لَا شَكَّ فِيهِ عِنْد الْمُؤْمِنِينَ أَوْ لِأَنَّهُ حَقّ فِي نَفْسه فَلَا يَقْبَل ذَاته الشَّكّ وَإِنَّمَا الشَّكّ وَصْف الشَّاكّ . وَكَقَوْلِ اِبْن عَبَّاس فِي الْجَدّ أَبًا لِأَنَّهُ تَأَوَّلَ قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : | يَا بَنِي آدَم | .|وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ|اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي | وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْم | هَلْ هُوَ اِبْتِدَاء كَلَام مَقْطُوع مِمَّا قَبْله , أَوْ هُوَ مَعْطُوف عَلَى مَا قَبْله فَتَكُون الْوَاو لِلْجَمْعِ . فَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَر أَنَّهُ مَقْطُوع مِمَّا قَبْله , وَأَنَّ الْكَلَام تَمَّ عِنْد قَوْله | إِلَّا اللَّه | هَذَا قَوْل اِبْن عُمَر وَابْن عَبَّاس وَعَائِشَة وَعُرْوَة بْن الزُّبَيْر وَعُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز وَغَيْرهمْ , وَهُوَ مَذْهَب الْكِسَائِيّ وَالْأَخْفَش وَالْفَرَّاء وَأَبِي عُبَيْد وَغَيْرهمْ . قَالَ أَبُو نَهِيك الْأَسَدِيّ : إِنَّكُمْ تَصِلُونَ هَذِهِ الْآيَة وَإِنَّهَا مَقْطُوعَة . وَمَا اِنْتَهَى عِلْم الرَّاسِخِينَ إِلَّا إِلَى قَوْلهمْ | آمَنَّا بِهِ كُلّ مِنْ عِنْد رَبّنَا | . وَقَالَ مِثْل هَذَا عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز , وَحَكَى الطَّبَرِيّ نَحْوه عَنْ يُونُس عَنْ أَشْهَب عَنْ مَالِك بْن أَنَس . وَ | يَقُولُونَ | عَلَى هَذَا خَبَر | الرَّاسِخُونَ | . قَالَ الْخَطَّابِيّ : وَقَدْ جَعَلَ اللَّه تَعَالَى آيَات كِتَابه الَّذِي أَمَرَنَا بِالْإِيمَانِ بِهِ وَالتَّصْدِيق بِمَا فِيهِ قِسْمَيْنِ : مُحْكَمًا وَمُتَشَابِهًا ; فَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِل : | هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْك الْكِتَاب مِنْهُ آيَات مُحْكَمَات هُنَّ أُمّ الْكِتَاب وَأُخَر مُتَشَابِهَات . .. إِلَى قَوْله : | كُلّ مِنْ عِنْد رَبّنَا | فَاعْلَمْ أَنَّ الْمُتَشَابِه مِنْ الْكِتَاب قَدْ اِسْتَأْثَرَ اللَّه بِعِلْمِهِ , فَلَا يَعْلَم تَأْوِيله أَحَد غَيْره , ثُمَّ أَثْنَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَلَى الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْم بِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ . وَلَوْلَا صِحَّة الْإِيمَان مِنْهُمْ لَمْ يَسْتَحِقُّوا الثَّنَاء عَلَيْهِ . وَمَذْهَب أَكْثَر الْعُلَمَاء أَنَّ الْوَقْف التَّامّ فِي هَذِهِ الْآيَة إِنَّمَا هُوَ عِنْد قَوْله تَعَالَى : | وَمَا يَعْلَم تَأْوِيله إِلَّا اللَّه | وَأَنَّ مَا بَعْده اِسْتِئْنَاف كَلَام آخَر , وَهُوَ قَوْله | وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْم يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ | . وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ اِبْن مَسْعُود وَأُبَيّ بْن كَعْب وَابْن عَبَّاس وَعَائِشَة . وَإِنَّمَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِد أَنَّهُ نَسَق | الرَّاسِخُونَ | عَلَى مَا قَبْله وَزَعَمَ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَهُ . وَاحْتَجَّ لَهُ بَعْض أَهْل اللُّغَة فَقَالَ : مَعْنَاهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْم يَعْلَمُونَهُ قَائِلِينَ آمَنَّا ; وَزَعَمَ أَنَّ مَوْضِع | يَقُولُونَ | نُصِبَ عَلَى الْحَال . وَعَامَّة أَهْل اللُّغَة يُنْكِرُونَهُ وَيَسْتَبْعِدُونَهُ ; لِأَنَّ الْعَرَب لَا تُضْمِر الْفِعْل وَالْمَفْعُول مَعًا , وَلَا تَذْكُر حَالًا إِلَّا مَعَ ظُهُور الْفِعْل ; فَإِذَا لَمْ يَظْهَر فِعْل فَلَا يَكُون حَال ; وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَجَازَ أَنْ يُقَال : عَبْد اللَّه رَاكِبًا , بِمَعْنَى أَقْبَلَ عَبْد اللَّه رَاكِبًا ; وَإِنَّمَا يَجُوز ذَلِكَ مَعَ ذِكْر الْفِعْل كَقَوْلِهِ : عَبْد اللَّه يَتَكَلَّم يُصْلِح بَيْن النَّاس ; فَكَانَ | يُصْلِح | حَالًا ; كَقَوْلِ الشَّاعِر - أَنَشَدَنِيهِ أَبُو عُمَر قَالَ أَنْشَدَنَا أَبُو الْعَبَّاس ثَعْلَب - : <br>أَرْسَلْت فِيهَا قَطِمًا لُكَالِكَا .......... يَقْصُر يَمْشِي وَيَطُول بَارِكَا <br>أَيْ يَقْصُر مَاشِيًا ; فَكَانَ قَوْل عَامَّة الْعُلَمَاء مَعَ مُسَاعَدَة مَذَاهِب النَّحْوِيِّينَ لَهُ أَوْلَى مِنْ قَوْل مُجَاهِد وَحْده , وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَا يَجُوز أَنْ يَنْفِيَ اللَّه سُبْحَانه شَيْئًا عَنْ الْخَلْق وَيُثْبِتهُ لِنَفْسِهِ ثُمَّ يَكُون لَهُ فِي ذَلِكَ شَرِيك . أَلَا تَرَى قَوْله عَزَّ وَجَلَّ : | قُلْ لَا يَعْلَم مَنْ فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض الْغَيْب إِلَّا اللَّه | [ النَّمْل : 65 ] وَقَوْله : | لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ | [ الْأَعْرَاف : 187 ] وَقَوْله : | كُلّ شَيْء هَالِك إِلَّا وَجْهه | [ الْقَصَص : 88 ] , فَكَانَ هَذَا كُلّه مِمَّا اِسْتَأْثَرَ اللَّه سُبْحَانه بِعِلْمِهِ لَا يُشْرِكهُ فِيهِ غَيْره . وَكَذَلِكَ قَوْله تَبَارَكَ وَتَعَالَى : | وَمَا يَعْلَم تَأْوِيله إِلَّا اللَّه | . وَلَوْ كَانَتْ الْوَاو فِي قَوْله : | وَالرَّاسِخُونَ | لِلنَّسَقِ لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ : | كُلّ مِنْ عِنْد رَبّنَا | فَائِدَة . وَاَللَّه أَعْلَم .</p><p>قُلْت : مَا حَكَاهُ الْخَطَّابِيّ مِنْ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِقَوْلِ مُجَاهِد غَيْره فَقَدْ رُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّ الرَّاسِخِينَ مَعْطُوف عَلَى اِسْم اللَّه عَزَّ وَجَلَّ , وَأَنَّهُمْ دَاخِلُونَ فِي عِلْم الْمُتَشَابِه , وَأَنَّهُمْ مَعَ عِلْمهمْ بِهِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ ; وَقَالَ الرَّبِيع وَمُحَمَّد بْن جَعْفَر بْن الزُّبَيْر وَالْقَاسِم بْن مُحَمَّد وَغَيْرهمْ . وَ | يَقُولُونَ | عَلَى هَذَا التَّأْوِيل نُصِبَ عَلَى الْحَال مِنْ الرَّاسِخِينَ ; كَمَا قَالَ : <br>الرِّيح تَبْكِي شَجْوَهَا .......... وَالْبَرْق يَلْمَع فِي الْغَمَامَهْ <br>وَهَذَا الْبَيْت يَحْتَمِل الْمَعْنَيَيْنِ ; فَيَجُوز أَنْ يَكُون | وَالْبَرْق | مُبْتَدَأ , وَالْخَبَر | يَلْمَع | عَلَى التَّأْوِيل الْأَوَّل , فَيَكُون مَقْطُوعًا مِمَّا قَبْله . وَيَجُوز أَنْ يَكُون مَعْطُوفًا عَلَى الرِّيح , و | يَلْمَع | فِي مَوْضِع الْحَال عَلَى التَّأْوِيل الثَّانِي أَيْ لَامِعًا . وَاحْتَجَّ قَائِلُو هَذِهِ الْمَقَالَة أَيْضًا بِأَنَّ اللَّه سُبْحَانه مَدَحَهُمْ بِالرُّسُوخِ فِي الْعِلْم ; فَكَيْفَ يَمْدَحهُمْ وَهُمْ جُهَّال وَقَدْ قَالَ اِبْن عَبَّاس : ( أَنَا مِمَّنْ يَعْلَم تَأْوِيله ) وَقَرَأَ مُجَاهِد هَذِهِ الْآيَة وَقَالَ : أَنَا مِمَّنْ يَعْلَم تَأْوِيله ; حَكَاهُ عَنْهُ إِمَام الْحَرَمَيْنِ أَبُو الْمَعَالِي .</p><p>قُلْت : وَقَدْ رَدَّ بَعْض الْعُلَمَاء هَذَا الْقَوْل إِلَى الْقَوْل الْأَوَّل فَقَالَ : وَتَقْدِير تَمَام الْكَلَام | عِنْد اللَّه | أَنَّ مَعْنَاهُ وَمَا يَعْلَم تَأْوِيله إِلَّا اللَّه يَعْنِي تَأْوِيل الْمُتَشَابِهَات , وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْم يَعْلَمُونَ بَعْضه قَائِلِينَ آمَنَّا بِهِ كُلّ مِنْ عِنْد رَبّنَا بِمَا نَصَبَ مِنْ الدَّلَائِل فِي الْمُحْكَم وَمَكَّنَ مِنْ رَدّه إِلَيْهِ . فَإِذَا عَلِمُوا تَأْوِيل بَعْضه وَلَمْ يَعْلَمُوا الْبَعْض قَالُوا آمَنَّا بِالْجَمِيعِ كُلّ مِنْ عِنْد رَبّنَا , وَمَا لَمْ يُحَطْ بِهِ عِلْمنَا مِنْ الْخَفَايَا مِمَّا فِي شَرْعِهِ الصَّالِح فَعِلْمه عِنْد رَبّنَا فَإِنْ قَالَ قَائِل : قَدْ أَشْكَلَ عَلَى الرَّاسِخِينَ بَعْض تَفْسِيره حَتَّى قَالَ اِبْن عَبَّاس : ( لَا أَدْرِي مَا الْأَوَّاه وَلَا مَا غِسْلِين ) قِيلَ لَهُ : هَذَا لَا يَلْزَم ; لِأَنَّ اِبْن عَبَّاس قَدْ عَلِمَ بَعْد ذَلِكَ فَفَسَّرَ مَا وَقَفَ عَلَيْهِ . وَجَوَاب أَقْطَع مِنْ هَذَا وَهُوَ أَنَّهُ سُبْحَانه لَمْ يَقُلْ وَكُلّ رَاسِخ فَيَجِب هَذَا فَإِذَا لَمْ يَعْلَمهُ أَحَد عَلِمَهُ الْآخَر . وَرَجَّحَ اِبْن فُورك أَنَّ الرَّاسِخِينَ يَعْلَمُونَ التَّأْوِيل وَأَطْنَبَ فِي ذَلِكَ ; وَفِي قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لِابْنِ عَبَّاس : ( اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّين وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيل ) مَا يُبَيِّن لَك ذَلِكَ , أَيْ عَلِّمْهُ مَعَانِي كِتَابك .</p><p>وَالْوَقْف عَلَى هَذَا يَكُون عِنْد قَوْله | وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْم | . قَالَ شَيْخنَا أَبُو الْعَبَّاس أَحْمَد بْن عُمَر : وَهُوَ الصَّحِيح ; فَإِنَّ تَسْمِيَتهمْ رَاسِخِينَ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَكْثَر مِنْ الْمُحْكَم الَّذِي يَسْتَوِي فِي عِلْمه جَمِيع مَنْ يَفْهَم كَلَام الْعَرَب . وَفِي أَيّ شَيْء هُوَ رُسُوخهمْ إِذَا لَمْ يَعْلَمُوا إِلَّا مَا يَعْلَم الْجَمِيع .</p><p>لَكِنَّ الْمُتَشَابِه يَتَنَوَّع , فَمِنْهُ مَا لَا يُعْلَم الْبَتَّة كَأَمْرِ الرُّوح وَالسَّاعَة مِمَّا اِسْتَأْثَرَ اللَّه بِغَيْبِهِ , وَهَذَا لَا يَتَعَاطَى عِلْمه أَحَد لَا اِبْن عَبَّاس وَلَا غَيْره . فَمَنْ قَالَ مِنْ الْعُلَمَاء الْحُذَّاق بِأَنَّ الرَّاسِخِينَ لَا يَعْلَمُونَ عِلْم الْمُتَشَابِه فَإِنَّمَا أَرَادَ هَذَا النَّوْع , وَأَمَّا مَا يُمْكِن حَمْله عَلَى وُجُوه فِي اللُّغَة وَمَنَاحٍ فِي كَلَام الْعَرَب فَيُتَأَوَّل وَيُعْلَم تَأْوِيله الْمُسْتَقِيم , وَيُزَال مَا فِيهِ مِمَّا عَسَى أَنْ يَتَعَلَّق مِنْ تَأْوِيل غَيْر مُسْتَقِيم ; كَقَوْلِهِ فِي عِيسَى : | وَرُوح مِنْهُ | [ النِّسَاء : 171 ] إِلَى غَيْر ذَلِكَ فَلَا يُسَمَّى أَحَد رَاسِخًا إِلَّا أَنْ يَعْلَم مِنْ هَذَا النَّوْع كَثِيرًا بِحَسْب مَا قُدِّرَ لَهُ .</p><p>وَأَمَّا مَنْ يَقُول : إِنَّ الْمُتَشَابِه هُوَ الْمَنْسُوخ فَيَسْتَقِيم عَلَى قَوْله إِدْخَال الرَّاسِخِينَ فِي عِلْم التَّأْوِيل ; لَكِنَّ تَخْصِيصه الْمُتَشَابِهَات بِهَذَا النَّوْع غَيْر صَحِيح .</p><p>وَالرُّسُوخ : الثُّبُوت فِي الشَّيْء , وَكُلّ ثَابِت رَاسِخ . وَأَصْله فِي الْأَجْرَام أَنْ يَرْسَخ الْجَبَل وَالشَّجَر فِي الْأَرْض ; قَالَ الشَّاعِر : <br>لَقَدْ رَسَخَتْ فِي الصَّدْرِ مِنِّي مَوَدَّةٌ .......... لِلَيْلَى أَبَتْ آيَاتهَا أَنْ تَغَيَّرَا <br>وَرَسَخَ الْإِيمَان فِي قَلْب فُلَان يَرْسَخ رُسُوخًا . وَحَكَى بَعْضهمْ : رَسَخَ الْغَدِير : نَضَبَ مَاؤُهُ ; حَكَاهُ اِبْن فَارِس فَهُوَ مِنْ الْأَضْدَاد . وَرَسَخَ وَرَضَخَ وَرَصَنَ وَرَسَبَ كُلّه ثَبَتَ فِيهِ . وَسُئِلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْم فَقَالَ : ( هُوَ مَنْ بَرَّتْ يَمِينه وَصَدَقَ لِسَانه وَاسْتَقَامَ قَلْبه ) . فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ كَانَ فِي الْقُرْآن مُتَشَابِه وَاَللَّه يَقُول : | وَأَنْزَلْنَا إِلَيْك الذِّكْر لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ | [ النَّحْل : 44 ] فَكَيْفَ لَمْ يَجْعَلهُ كُلّه وَاضِحًا ؟ قِيلَ لَهُ : الْحِكْمَة فِي ذَلِكَ - وَاَللَّه أَعْلَم - أَنْ يَظْهَر فَضْل الْعُلَمَاء ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كُلّه وَاضِحًا لَمْ يَظْهَر فَضْل بَعْضهمْ عَلَى بَعْض . وَهَكَذَا يَفْعَل مَنْ يُصَنِّف تَصْنِيفًا يَجْعَل بَعْضه وَاضِحًا وَبَعْضه مُشْكِلًا , وَيَتْرُك لِلْجُثْوَةِ مَوْضِعًا ; لِأَنَّ مَا هَانَ وُجُوده قَلَّ بَهَاؤُهُ . وَاَللَّه أَعْلَم .|يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا|فِيهِ ضَمِير عَائِد عَلَى كِتَاب اللَّه تَعَالَى مُحْكَمه وَمُتَشَابِهه ; وَالتَّقْدِير : كُلّه مِنْ عِنْد رَبّنَا . وَحَذَفَ الضَّمِير لِدَلَالَةِ | كُلّ | عَلَيْهِ ; إِذْ هِيَ لَفْظَة تَقْتَضِي الْإِضَافَة .|وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ|أَيْ مَا يَقُول هَذَا وَيُؤْمِن وَيَقِف حَيْثُ وَقَفَ وَيَدَع اِتِّبَاع الْمُتَشَابِه إِلَّا ذُو لُبّ , وَهُوَ الْعَقْل . وَلُبّ كُلّ شَيْء خَالِصه ; فَلِذَلِكَ قِيلَ لِلْعَقْلِ لُبّ . وَ | أُولُو | جَمْع ذُو .

رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ

فِي الْكَلَام حَذْف تَقْدِيره يَقُولُونَ . وَهَذَا حِكَايَة عَنْ الرَّاسِخِينَ . وَيَجُوز أَنْ يَكُون الْمَعْنَى قُلْ يَا مُحَمَّد , وَيُقَال : إِزَاغَة الْقَلْب فَسَاد وَمَيْل عَنْ الدِّين , أَفَكَانُوا يَخَافُونَ وَقَدْ هُدُوا أَنْ يَنْقُلهُمْ اللَّه إِلَى الْفَسَاد ؟ فَالْجَوَاب أَنْ يَكُونُوا سَأَلُوا إِذْ هَدَاهُمْ اللَّه أَلَّا يَبْتَلِيهِمْ بِمَا يَثْقُل عَلَيْهِمْ مِنْ الْأَعْمَال فَيَعْجِزُوا عَنْهُ ; نَحْو | وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنْ اُقْتُلُوا أَنْفُسكُمْ أَوْ اُخْرُجُوا مِنْ دِيَاركُمْ . .. | [ النِّسَاء : 66 ] . قَالَ اِبْن كَيْسَان : سَأَلُوا أَلَّا يَزِيغُوا فَيُزِيغ اللَّه قُلُوبهمْ ; نَحْو | فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّه قُلُوبهمْ . .. | [ الصَّفّ : 5 ] أَيْ ثَبِّتْنَا عَلَى هِدَايَتك إِذْ هَدَيْتنَا وَأَلَّا نَزِيغ فَنَسْتَحِقّ أَنْ تُزِيغ قُلُوبنَا . وَقِيلَ : هُوَ مُنْقَطِع مِمَّا قَبْل ; وَذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَهْل الزَّيْغ . عَقَّبَ ذَلِكَ بِأَنَّ عَلَّمَ عِبَاده الدُّعَاء إِلَيْهِ فِي أَلَّا يَكُونُوا مِنْ الطَّائِفَة الذَّمِيمَة الَّتِي ذُكِرَتْ وَهِيَ أَهْل الزَّيْغ .</p><p>وَفِي الْمُوَطَّأ عَنْ أَبِي عَبْد اللَّه الصُّنَابِحِيّ أَنَّهُ قَالَ : قَدِمْت الْمَدِينَة فِي خِلَافَة أَبِي بَكْر الصِّدِّيق فَصَلَّيْت وَرَاءَهُ الْمَغْرِب , فَقَرَأَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ بِأُمِّ الْقُرْآن وَسُورَة مِنْ قِصَار الْمُفَصَّل , ثُمَّ قَامَ فِي الثَّالِثَة , فَدَنَوْت مِنْهُ حَتَّى إِنَّ ثِيَابِي لَتَكَاد تَمَسّ ثِيَابه , فَسَمِعْته يَقْرَأ بِأُمِّ الْقُرْآن وَهَذِهِ الْآيَة | رَبّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبنَا | الْآيَة . قَالَ الْعُلَمَاء : قِرَاءَته بِهَذِهِ الْآيَة ضَرْب مِنْ الْقُنُوت وَالدُّعَاء لِمَا كَانَ فِيهِ مِنْ أَمْر أَهْل الرِّدَّة . وَالْقُنُوت جَائِز فِي الْمَغْرِب عِنْد جَمَاعَة مِنْ أَهْل الْعِلْم , وَفِي كُلّ صَلَاة أَيْضًا إِذَا دَهَمَ الْمُسْلِمِينَ أَمْر عَظِيم يُفْزِعهُمْ وَيَخَافُونَ مِنْهُ عَلَى أَنْفُسهمْ .</p><p>وَرَوَى التِّرْمِذِيّ مِنْ حَدِيث شَهْر بْن حَوْشَب قَالَ : قُلْت لِأُمِّ سَلَمَة : يَا أُمّ الْمُؤْمِنِينَ , مَا كَانَ أَكْثَر دُعَاء رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَانَ عِنْدك ؟ قَالَتْ : كَانَ أَكْثَر دُعَائِهِ ( يَا مُقَلِّب الْقُلُوب ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينك ) . فَقُلْت : يَا رَسُول اللَّه , مَا أَكْثَر دُعَاءَك يَا مُقَلِّب الْقُلُوب ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينك قَالَ : ( يَا أُمّ سَلَمَة إِنَّهُ لَيْسَ آدَمِيّ إِلَّا وَقَلْبه بَيْن أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِع اللَّه فَمَنْ شَاءَ أَقَامَ وَمَنْ شَاءَ أَزَاغَ ) . فَتَلَا مُعَاذ | رَبّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبنَا بَعْد إِذْ هَدَيْتنَا | . قَالَ : حَدِيث حَسَن . وَهَذِهِ الْآيَة حُجَّة عَلَى الْمُعْتَزِلَة فِي قَوْلهمْ : إِنَّ اللَّه لَا يُضِلّ الْعِبَاد . وَلَوْ لَمْ تَكُنْ الْإِزَاغَة مِنْ قَبْله لَمَا جَازَ أَنْ يَدَّعِيَ فِي دَفْع مَا لَا يَجُوز عَلَيْهِ فِعْله . وَقَرَأَ أَبُو وَاقِد الْجَرَّاح | لَا تَزِغْ قُلُوبنَا | بِإِسْنَادِ الْفِعْل إِلَى الْقُلُوب , وَهَذِهِ رَغْبَة إِلَى اللَّه تَعَالَى . وَمَعْنَى الْآيَة عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ أَلَّا يَكُون مِنْك خَلْق الزَّيْغ فِيهَا فَتَزِيغ .|وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ|أَيْ مِنْ عِنْدك وَمِنْ قِبَلك تَفَضُّلًا لَا عَنْ سَبَب مِنَّا وَلَا عَمَل . وَفِي هَذَا اِسْتِسْلَام وَتَطَارُح . وَفِي | لَدُنْ | أَرْبَع لُغَات : لَدُنْ بِفَتْحِ اللَّام وَضَمّ الدَّال وَجَزْم النُّون , وَهِيَ أَفْصَحهَا , وَبِفَتْحِ اللَّام وَضَمّ الدَّال وَحَذْف النُّون ; وَبِضَمِّ اللَّام وَجَزْم الدَّال وَفَتْح النُّون ; وَبِفَتْحِ اللَّام وَسُكُون الدَّال وَفَتْح النُّون .</p><p>وَلَعَلَّ جُهَّال الْمُتَصَوِّفَة وَزَنَادِقَة الْبَاطِنِيَّة يَتَشَبَّثُونَ بِهَذِهِ الْآيَة وَأَمْثَالهَا فَيَقُولُونَ : الْعِلْم مَا وَهَبَهُ اللَّه اِبْتِدَاء مِنْ غَيْر كَسْب , وَالنَّظَر فِي الْكُتُب وَالْأَوْرَاق حِجَاب . وَهَذَا مَرْدُود عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه فِي هَذَا الْمَوْضِع .</p><p>وَمَعْنَى الْآيَة : هَبْ لَنَا نَعِيمًا صَادِرًا عَنْ الرَّحْمَة ; لِأَنَّ الرَّحْمَة رَاجِعَة إِلَى صِفَة الذَّات فَلَا يُتَصَوَّر فِيهَا الْهِبَة يُقَال وَهَبَ يَهَب ; وَالْأَصْل يُوهِب بِكَسْرِ الْهَاء . وَمَنْ قَالَ : الْأَصْل يُوهَب بِفَتْحِ الْهَاء فَقَدْ أَخْطَأَ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَمَا قَالَ لَمْ تُحْذَف الْوَاو كَمَا لَمْ تُحْذَف فِي يَوْجَل وَإِنَّمَا حُذِفَتْ الْوَاو لِوُقُوعِهَا بَيْنَ يَاء وَكَسْرَة ثُمَّ فُتِحَ بَعْد حَذْفهَا لِأَنَّ فِيهِ حَرْفًا مِنْ حُرُوف الْحَلْق .

رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ

أَيْ بَاعِثهمْ وَمُحْيِيهمْ بَعْد تَفَرُّقهمْ , وَفِي هَذَا إِقْرَار بِالْبَعْثِ لِيَوْمِ الْقِيَامَة . قَالَ الزَّجَّاج : هَذَا هُوَ التَّأْوِيل الَّذِي عَلِمَهُ الرَّاسِخُونَ وَأَقَرُّوا بِهِ , وَخَالَفَ الَّذِينَ اِتَّبَعُوا مَا تَشَابَهَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَمْر الْبَعْث حَتَّى أَنْكَرُوهُ . وَالرَّيْب الشَّكّ , وَقَدْ تَقَدَّمَتْ مَحَامِله فِي الْبَقَرَة . وَالْمِيعَاد مِفْعَال مِنْ الْوَعْد .

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ

مَعْنَاهُ بَيِّنٌ , أَيْ لَنْ تَدْفَع عَنْهُمْ أَمْوَالهمْ وَلَا أَوْلَادهمْ مِنْ عَذَاب اللَّه شَيْئًا . وَقَرَأَ السُّلَمِيّ | لَنْ يُغْنِيَ | بِالْيَاءِ لِتَقَدُّمِ الْفِعْل وَدُخُول الْحَائِل بَيْنَ الِاسْم وَالْفِعْل . وَقَرَأَ الْحَسَن | يُغْنِي | بِالْيَاءِ وَسُكُون الْيَاء الْآخِرَة لِلتَّخْفِيفِ ; كَقَوْلِ الشَّاعِر : <br>كَفَى بِالْيَأْسِ مِنْ أَسْمَاء كَافِي .......... وَلَيْسَ لِسُقْمِهَا إِذْ طَالَ شَافِي <br>وَكَانَ حَقّه أَنْ يَقُول كَافِيًا , فَأَرْسَلَ الْيَاء . وَأَنْشَدَ الْفَرَّاء فِي مِثْله : <br>كَأَنَّ أَيْدِيهنَّ بِالْقَاعِ الْقَرِق .......... أَيْدِي جَوَارٍ يَتَعَاطَيْنَ الْوَرِق <br>الْقَرِق وَالْقَرِقَة لُغَتَانِ فِي الْقَاع . و | مِنْ | فِي قَوْله | مِنْ اللَّه | بِمَعْنَى عِنْد ; قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَة .|وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ|وَالْوُقُود اِسْم لِلْحَطَبِ , وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي | الْبَقَرَة | . وَقَرَأَ الْحَسَن وَمُجَاهِد وَطَلْحَة بْن مُصَرِّف | وُقُود | بِضَمِّ الْوَاو عَلَى حَذْف مُضَاف تَقْدِيره حَطَب وُقُود النَّار . وَيَجُوز فِي الْعَرَبِيَّة إِذَا ضُمَّ الْوَاو أَنْ تَقُول أُقُود مِثْل أُقِّتَتَ . وَالْوُقُود بِضَمِّ الْوَاو الْمَصْدَر ; وُقِدَتْ النَّار تَقِد إِذَا اِشْتَعَلَتْ . وَخَرَّجَ اِبْن الْمُبَارَك مِنْ حَدِيث الْعَبَّاس بْن عَبْد الْمُطَّلِب قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يَظْهَر هَذَا الدِّين حَتَّى يُجَاوِز الْبِحَار وَحَتَّى تُخَاض الْبِحَار بِالْخَيْلِ فِي سَبِيل اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى ثُمَّ يَأْتِي أَقْوَام يَقْرَءُونَ الْقُرْآن فَإِذَا قَرَءُوهُ قَالُوا مَنْ أَقْرَأ مِنَّا مَنْ أَعْلَمَ مِنَّا ؟ ثُمَّ اِلْتَفَتَ إِلَى أَصْحَابه فَقَالَ : هَلْ تَرَوْنَ فِي أُوْلَئِكُمْ مِنْ خَيْر ) ؟ قَالُوا لَا . قَالَ : ( أُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولَئِكَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّة وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُود النَّار ) .

كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ

الدَّأْب الْعَادَة وَالشَّأْن . وَدَأَبَ الرَّجُل فِي عَمَله يَدْأَب دَأَبًا وَدُءُوبًا إِذَا جَدَّ وَاجْتَهَدَ , وَأَدْأَبْته أَنَا . وَأَدْأَبَ بَعِيره إِذَا جَهِدَه فِي السَّيْر . وَالدَّائِبَانِ اللَّيْل وَالنَّهَار . قَالَ أَبُو حَاتِم : وَسَمِعْت يَعْقُوب يَذْكُر | كَدَأَبِ | بِفَتْحِ الْهَمْزَة , وَقَالَ لِي وَأَنَا غُلَيِّم : عَلَى أَيّ شَيْء يَجُوز | كَدَأَبِ | ؟ فَقُلْت لَهُ : أَظُنّهُ مِنْ دَئِبَ يَدْأَب دَأَبًا . فَقَبِلَ ذَلِكَ مِنِّي وَتَعَجَّبَ مِنْ جَوْدَة تَقْدِيرِي عَلَى صِغَرِي ; وَلَا أَدْرِي أَيُقَالُ أَمْ لَا . قَالَ النَّحَّاس : | وَهَذَا الْقَوْل خَطَأ , لَا يُقَال الْبَتَّة دَئِبَ ; وَإِنَّمَا يُقَال : دَأَبَ يَدْأَب دُءُوبًا وَدَأْبًا ; هَكَذَا حَكَى النَّحْوِيُّونَ , مِنْهُمْ الْفَرَّاء حَكَاهُ فِي كِتَاب الْمَصَادِر ; كَمَا قَالَ اِمْرُؤُ الْقَيْس : <br>كَدَأْبِك مِنْ أُمّ الْحُوَيْرِث قَبْلهَا .......... وَجَازَتْهَا أُمّ الرَّبَاب بِمَأْسَلِ <br>فَأَمَّا الدَّأَب فَإِنَّهُ يَجُوز ; كَمَا يُقَال : شَعْر وَشَعَر وَنَهْر وَنَهَر ; لِأَنَّ فِيهِ حَرْفًا مِنْ | حُرُوف الْحَلْق | . وَاخْتَلَفُوا فِي الْكَاف ; فَقِيلَ : هِيَ فِي مَوْضِع رَفْع تَقْدِيره دَأْبهمْ كَدَأْبِ آل فِرْعَوْن , أَيْ صَنِيع الْكُفَّار مَعَك كَصَنِيعِ آل فِرْعَوْن مَعَ مُوسَى . وَزَعَمَ الْفَرَّاء أَنَّ الْمَعْنَى : كَفَرَتْ الْعَرَب كَكُفْرِ آل فِرْعَوْن . قَالَ النَّحَّاس : لَا يَجُوز أَنْ تَكُون الْكَاف مُتَعَلِّقَة بِكَفَرُوا , لِأَنَّ كَفَرُوا دَاخِلَة فِي الصِّلَة . وَقِيلَ : هِيَ مُتَعَلِّقَة ب | أَخَذَهُمْ اللَّه | , أَيْ أَخَذَهُمْ أَخْذًا كَمَا أَخَذَ آل فِرْعَوْن . وَقِيلَ : هِيَ مُتَعَلِّقَة بِقَوْلِهِ | لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالهمْ وَلَا أَوْلَادهمْ . .. | [ آل عِمْرَان : 10 ] أَيْ لَمْ تُغْنِ عَنْهُمْ كَمَا لَمْ تُغْنِ الْأَمْوَال وَالْأَوْلَاد عَنْ آل فِرْعَوْن . وَهَذَا جَوَاب لِمَنْ تَخَلَّفَ عَنْ الْجِهَاد وَقَالَ : شَغَلَتْنَا أَمْوَالنَا وَأَهْلُونَا . وَيَصِحّ أَنْ يَعْمَل فِيهِ فِعْل مُقَدَّر مِنْ لَفْظ الْوَقُود , وَيَكُون التَّشْبِيه فِي نَفْس الِاحْتِرَاق . وَيُؤَيِّد هَذَا الْمَعْنَى | ... وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْن سُوء الْعَذَاب . | النَّار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْم تَقُوم السَّاعَة أَدْخِلُوا آل فِرْعَوْن أَشَدّ الْعَذَاب | [ الْمُؤْمِن : 46 ] . وَالْقَوْل الْأَوَّل أَرْجَح , وَاخْتَارَهُ غَيْر وَاحِد مِنْ الْعُلَمَاء . قَالَ اِبْن عَرَفَة : | كَدَأْبِ آل فِرْعَوْن | أَيْ كَعَادَةِ آل فِرْعَوْن . يَقُول : اِعْتَادَ هَؤُلَاءِ الْكَفَرَة الْإِلْحَاد وَالْإِعْنَات لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا اِعْتَادَ آل فِرْعَوْن مِنْ إِعْنَات الْأَنْبِيَاء ; وَقَالَ مَعْنَاهُ الْأَزْهَرِيّ .</p><p>فَأَمَّا قَوْله فِي سُورَة ( الْأَنْفَال ) | كَدَأْبِ آل فِرْعَوْن | فَالْمَعْنَى جُوزِيَ هَؤُلَاءِ بِالْقَتْلِ وَالْأَسْر كَمَا جُوزِيَ آل فِرْعَوْن بِالْغَرَقِ وَالْهَلَاك .|كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ|يَحْتَمِل أَنْ يُرِيد الْآيَات الْمَتْلُوَّة , وَيَحْتَمِل أَنْ يُرِيد الْآيَات الْمَنْصُوبَة لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْوَحْدَانِيَّة .

قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ

يَعْنِي الْيَهُود , قَالَ مُحَمَّد بْن إِسْحَاق : لَمَّا أَصَابَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُرَيْشًا بِبَدْرٍ وَقَدِمَ الْمَدِينَة جَمَعَ الْيَهُود فَقَالَ : ( يَا مَعْشَر الْيَهُود اِحْذَرُوا مِنْ اللَّه مِثْل مَا نَزَلَ بِقُرَيْشٍ يَوْم بَدْر قَبْل أَنْ يَنْزِل بِكُمْ مَا نَزَلَ بِهِمْ فَقَدْ عَرَفْتُمْ أَنِّي نَبِيّ مُرْسَل تَجِدُونَ ذَلِكَ فِي كِتَابكُمْ وَعَهْد اللَّه إِلَيْكُمْ ) , فَقَالُوا : يَا مُحَمَّد , لَا يَغُرَّنَّك أَنَّك قَتَلْت أَقْوَامًا أَغْمَارًا لَا عِلْم لَهُمْ بِالْحَرْبِ فَأَصَبْت فِيهِمْ فُرْصَة وَاَللَّه لَوْ قَاتَلْتنَا لَعَرَفْت أَنَّا نَحْنُ النَّاس . فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى : | قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ | بِالتَّاءِ يَعْنِي الْيَهُود : أَيْ تُهْزَمُونَ|وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ|فِي الْآخِرَة . فَهَذِهِ رِوَايَة عِكْرِمَة وَسَعِيد بْن جُبَيْر عَنْ اِبْن عَبَّاس . وَفِي رِوَايَة أَبِي صَالِح عَنْهُ أَنَّ الْيَهُود لَمَّا فَرِحُوا بِمَا أَصَابَ الْمُسْلِمِينَ يَوْم أُحُد نَزَلَتْ . فَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا | سَيُغْلَبُونَ | بِالْيَاءِ , يَعْنِي قُرَيْشًا , | وَيُحْشَرُونَ | بِالْيَاءِ فِيهِمَا , وَهِيَ قِرَاءَة نَافِع .|وَبِئْسَ الْمِهَادُ|يَعْنِي جَهَنَّم ; هَذَا ظَاهِر الْآيَة . وَقَالَ مُجَاهِد : الْمَعْنَى بِئْسَ مَا مَهَّدُوا لِأَنْفُسِهِمْ , فَكَأَنَّ الْمَعْنَى : بِئْسَ فِعْلهمْ الَّذِي أَدَّاهُمْ إِلَى جَهَنَّم .

قَدْ كَانَ لَكُمْ آَيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ

أَيْ عَلَامَة . وَقَالَ | كَانَ | وَلَمْ يَقُلْ | كَانَتْ | لِأَنَّ | آيَة | تَأْنِيثهَا غَيْر حَقِيقِيّ . وَقِيلَ : رَدَّهَا إِلَى الْبَيَان , أَيْ قَدْ كَانَ لَكُمْ بَيَان ; فَذَهَبَ إِلَى الْمَعْنَى وَتَرَكَ اللَّفْظ ; كَقَوْلِ اِمْرِئِ الْقَيْس : <br>بَرَهْرَهَةٌ رُؤْدَة رَخْصَة .......... كَخُرْعُوبَة الْبَانَة الْمُنْفَطِر <br>وَلَمْ يَقُلْ الْمُنْفَطِرَة ; لِأَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى الْقَضِيب . وَقَالَ الْفَرَّاء : ذَكَرَهُ لِأَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنهمَا بِالصِّفَةِ , فَلَمَّا حَالَتْ الصِّفَة بَيْنَ الِاسْم وَالْفِعْل ذَكَرَ الْفِعْل . وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي الْبَقَرَة فِي قَوْله تَعَالَى : | كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدكُمْ الْمَوْت إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّة | [ الْبَقَرَة : 180 ]|فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ|يَعْنِي الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ يَوْم بَدْر | فِئَة | قَرَأَ الْجُمْهُور | فِئَة | بِالرَّفْعِ , بِمَعْنَى إِحْدَاهُمَا فِئَة . وَقَرَأَ الْحَسَن وَمُجَاهِد | فِئَة | بِالْخَفْضِ | وَأُخْرَى كَافِرَة | عَلَى الْبَدَل . وَقَرَأَ اِبْن أَبِي عَبْلَة بِالنَّصْبِ فِيهِمَا . قَالَ أَحْمَد بْن يَحْيَى : وَيَجُوز النَّصْب عَلَى الْحَال , أَيْ اِلْتَقَتَا مُخْتَلِفَتَيْنِ مُؤْمِنَة وَكَافِرَة . قَالَ الزَّجَّاج : النَّصْب بِمَعْنَى أَعْنِي . وَسُمِّيَتْ الْجَمَاعَة مِنْ النَّاس فِئَة لِأَنَّهَا يُفَاء إِلَيْهَا , أَيْ يُرْجَع إِلَيْهَا فِي وَقْت الشِّدَّة . وَقَالَ الزَّجَّاج : الْفِئَة الْفِرْقَة , مَأْخُوذَة مِنْ فَأَوْتُ رَأْسه بِالسَّيْفِ - وَيُقَال : فَأَيْته - إِذَا فَلَقْته . وَلَا خِلَاف أَنَّ الْإِشَارَة بِهَاتَيْنِ الْفِئَتَيْنِ هِيَ إِلَى يَوْم بَدْر . وَاخْتُلِفَ مَنْ الْمُخَاطَب بِهَا ; فَقِيلَ : يَحْتَمِل أَنْ يُخَاطَب بِهَا الْمُؤْمِنُونَ , وَيَحْتَمِل أَنْ يُخَاطَب بِهَا جَمِيع الْكُفَّار , وَيَحْتَمِل أَنْ يُخَاطَب بِهَا يَهُود الْمَدِينَة ; وَبِكُلِّ اِحْتِمَال مِنْهَا قَدْ قَالَ قَوْم . وَفَائِدَة الْخِطَاب لِلْمُؤْمِنِينَ تَثْبِيت النُّفُوس وَتَشْجِيعهَا حَتَّى يَقْدَمُوا عَلَى مِثْلَيْهِمْ وَأَمْثَالهمْ كَمَا قَدْ وَقَعَ .|يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ|قَالَ أَبُو عَلِيّ الرُّؤْيَة فِي هَذِهِ الْآيَة رُؤْيَة عَيْن ; وَلِذَلِكَ تَعَدَّتْ إِلَى مَفْعُول وَاحِد . قَالَ مَكِّيّ وَالْمَهْدَوِيّ : يَدُلّ عَلَيْهِ | رَأْي الْعَيْن | . وَقَرَأَ نَافِع | تَرَوْنَهُمْ | بِالتَّاءِ وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ . | مِثْلَيْهِمْ | نُصِبَ عَلَى الْحَال مِنْ الْهَاء وَالْمِيم فِي | تَرَوْنَهُمْ | . وَالْجُمْهُور مِنْ النَّاس عَلَى أَنَّ الْفَاعِل بِتَرَوْنَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ , وَالضَّمِير الْمُتَّصِل هُوَ لِلْكُفَّارِ . وَأَنْكَرَ أَبُو عَمْرو أَنْ يُقْرَأ | تَرَوْنَهُمْ | بِالتَّاءِ ; قَالَ : وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ مِثْلَيْكُمْ . قَالَ النَّحَّاس | وَذَا لَا يَلْزَم , وَلَكِنْ يَجُوز أَنْ يَكُون مِثْلَيْ أَصْحَابكُمْ . قَالَ مَكِّيّ : | تَرَوْنَهُمْ | بِالتَّاءِ جَرَى عَلَى الْخِطَاب فِي | لَكُمْ | فَيَحْسُن أَنْ يَكُون الْخِطَاب لِلْمُسْلِمِينَ , وَالْهَاء وَالْمِيم لِلْمُشْرِكِينَ . وَقَدْ كَانَ يَلْزَم مَنْ قَرَأَ بِالتَّاءِ أَنْ يَقْرَأ مِثْلَيْكُمْ بِالْكَافِ , وَذَلِكَ لَا يَجُوز لِمُخَالَفَةِ الْخَطّ ; وَلَكِنْ جَرَى الْكَلَام عَلَى الْخُرُوج مِنْ الْخِطَاب إِلَى الْغَيْبَة , كَقَوْلِهِ تَعَالَى : | حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْك وَجَرَيْنَ بِهِمْ | [ يُونُس : 22 ] , وَقَوْله تَعَالَى : | وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاة | [ الرُّوم : 39 ] فَخَاطَبَ ثُمَّ قَالَ : | فَأُولَئِكَ هُمْ الْمُضْعِفُونَ | [ الرُّوم : 39 ] فَرَجَعَ إِلَى الْغَيْبَة . فَالْهَاء وَالْمِيم فِي | مِثْلَيْهِمْ | يَحْتَمِل أَنْ يَكُون لِلْمُشْرِكِينَ , أَيْ تَرَوْنَ أَيّهَا الْمُسْلِمُونَ الْمُشْرِكِينَ مِثْلَيْ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْعَدَد ; وَهُوَ بَعِيد فِي الْمَعْنَى ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى لَمْ يُكَثِّر الْمُشْرِكِينَ فِي أَعْيُن الْمُسْلِمِينَ بَلْ أَعْلَمَنَا أَنَّهُ قَلَّلَهُمْ فِي أَعْيُن الْمُؤْمِنِينَ , فَيَكُون الْمَعْنَى تَرَوْنَ أَيّهَا الْمُؤْمِنُونَ الْمُشْرِكِينَ مِثْلَيْكُمْ فِي الْعَدَد وَقَدْ كَانُوا ثَلَاثَة أَمْثَالهمْ , فَقَلَّلَ اللَّه الْمُشْرِكِينَ فِي أَعْيُن الْمُسْلِمِينَ فَأَرَاهُمْ إِيَّاهُمْ مِثْلَيْ عِدَّتهمْ لِتَقْوَى أَنْفُسُهُمْ وَيَقَع التَّجَاسُر , وَقَدْ كَانُوا أُعْلِمُوا أَنَّ الْمِائَة مِنْهُمْ تَغْلِب الْمِائَتَيْنِ مِنْ الْكُفَّار , وَقَلَّلَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَعْيُن الْمُشْرِكِينَ لِيَجْتَرِئُوا عَلَيْهِمْ فَيَنْفُذ حُكْم اللَّه فِيهِمْ . وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون الضَّمِير فِي | مِثْلَيْهِمْ | لِلْمُسْلِمِينَ , أَيْ تَرَوْنَ أَيّهَا الْمُسْلِمُونَ الْمُسْلِمِينَ مِثْلَيْ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْعَدَد , أَيْ تَرَوْنَ أَنْفُسكُمْ مِثْلَيْ عَدَدكُمْ ; فَعَلَ اللَّه ذَلِكَ بِهِمْ لِتَقْوَى أَنْفُسهمْ عَلَى لِقَاء الْمُشْرِكِينَ . وَالتَّأْوِيل الْأَوَّل أَوْلَى ; يَدُلّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى : | إِذْ يُرِيكَهُمْ اللَّه فِي مَنَامك قَلِيلًا | [ الْأَنْفَال : 43 ] وَقَوْله : | وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذْ اِلْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنكُمْ قَلِيلًا | [ الْأَنْفَال : 44 ] وَرُوِيَ عَنْ اِبْن مَسْعُود أَنَّهُ قَالَ : قُلْت لِرَجُلٍ إِلَى جَنْبِي : أَتَرَاهُمْ سَبْعِينَ ؟ قَالَ : أَظُنّهُمْ مِائَة فَلَمَّا أَخَذْنَا الْأُسَارَى أَخْبَرُونَا أَنَّهُمْ كَانُوا أَلْفًا . وَحَكَى الطَّبَرِيّ عَنْ قَوْم أَنَّهُمْ قَالُوا : بَلْ كَثَّرَ اللَّه عَدَد الْمُؤْمِنِينَ فِي عُيُون الْكَافِرِينَ حَتَّى كَانُوا عِنْدهمْ ضِعْفَيْنِ . وَضَعَّفَ الطَّبَرِيّ هَذَا الْقَوْل . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَكَذَلِكَ هُوَ مَرْدُود مِنْ جِهَات . بَلْ قَلَّلَ اللَّه الْمُشْرِكِينَ فِي أَعْيُن الْمُؤْمِنِينَ كَمَا تَقَدَّمَ . وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيل كَانَ يَكُون | تَرَوْنَ | لِلْكَافِرِينَ , أَيْ تَرَوْنَ أَيّهَا الْكَافِرُونَ الْمُؤْمِنِينَ مِثْلَيْهِمْ , وَيَحْتَمِل مِثْلَيْكُمْ , عَلَى مَا تَقَدَّمَ . وَزَعَمَ الْفَرَّاء أَنَّ الْمَعْنَى تَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ ثَلَاثَة أَمْثَالهمْ . وَهُوَ بَعِيد غَيْر مَعْرُوف فِي اللُّغَة . قَالَ الزَّجَّاج : وَهَذَا بَاب الْغَلَط , فِيهِ غَلَط فِي جَمِيع الْمَقَايِيس ; لِأَنَّا إِنَّمَا نَعْقِل مِثْل الشَّيْء مُسَاوِيًا لَهُ , وَنَعْقِل مِثْله مَا يُسَاوِيه مَرَّتَيْنِ . قَالَ اِبْن كَيْسَان : وَقَدْ بَيَّنَ الْفَرَّاء قَوْله بِأَنْ قَالَ : كَمَا تَقُول وَعِنْدك عَبْد : أَحْتَاج إِلَى مِثْله , فَأَنْتَ مُحْتَاج إِلَيْهِ وَإِلَى مِثْله . وَتَقُول : أَحْتَاج إِلَى مِثْلَيْهِ , فَأَنْتَ مُحْتَاج إِلَى ثَلَاثَة . وَالْمَعْنَى عَلَى خِلَاف مَا قَالَهُ , وَاللُّغَة . وَاَلَّذِي أَوْقَعَ الْفَرَّاء فِي هَذَا أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا ثَلَاثَة أَمْثَال الْمُؤْمِنِينَ يَوْم بَدْر ; فَتَوَهَّمَ أَنَّهُ لَا يَجُوز أَنْ يَكُونُوا يَرَوْنَهُمْ إِلَّا عَلَى عِدَّتهمْ , وَهَذَا بَعِيد وَلَيْسَ الْمَعْنَى عَلَيْهِ . وَإِنَّمَا أَرَاهُمْ اللَّه عَلَى غَيْر عُدّتهمْ لِجِهَتَيْنِ : إِحْدَاهُمَا أَنَّهُ رَأَى الصَّلَاح فِي ذَلِكَ , لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ تَقْوَى قُلُوبهمْ بِذَلِكَ . وَالْأُخْرَى أَنَّهُ آيَة لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَسَيَأْتِي ذِكْر وَقْعَة بَدْر إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَأَمَّا قِرَاءَة الْيَاء فَقَالَ اِبْن كَيْسَان : الْهَاء وَالْمِيم فِي | يَرَوْنَهُمْ | عَائِدَة عَلَى | وَأُخْرَى كَافِرَة | وَالْهَاء وَالْمِيم فِي | مِثْلَيْهِمْ | عَائِدَة عَلَى | فِئَة تُقَاتِل فِي سَبِيل اللَّه | وَهَذَا مِنْ الْإِضْمَار الَّذِي يَدُلّ عَلَيْهِ سِيَاق الْكَلَام , وَهُوَ قَوْله : | يُؤَيِّد بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاء | . فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا مِثْلَيْ الْمُسْلِمِينَ فِي رَأْي الْعَيْن وَثَلَاثَة أَمْثَالهمْ فِي الْعَدَد . قَالَ : وَالرُّؤْيَة هُنَا لِلْيَهُودِ . وَقَالَ مَكِّيّ : الرُّؤْيَة لِلْفِئَةِ الْمُقَاتِلَة فِي سَبِيل اللَّه , وَالْمَرْئِيَّة الْفِئَة الْكَافِرَة ; أَيْ تَرَى الْفِئَة الْمُقَاتِلَة فِي سَبِيل اللَّه الْفِئَة الْكَافِرَة مِثْلَيْ الْفِئَة الْمُؤْمِنَة , وَقَدْ كَانَتْ الْفِئَة الْكَافِرَة ثَلَاثَة أَمْثَال الْمُؤْمِنَة فَقَلَّلَهُمْ اللَّه فِي أَعْيُنهمْ عَلَى مَا تَقَدَّمَ . وَالْخِطَاب فِي | لَكُمْ | لِلْيَهُودِ . وَقَرَأَ اِبْن عَبَّاس وَطَلْحَة | تُرَوْنَهُمْ | بِضَمِّ التَّاء , وَالسُّلَمِيّ بِالتَّاءِ الْمَضْمُومَة عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِله .

زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ

زُيِّنَ مِنْ التَّزْيِين وَاخْتَلَفَ النَّاس مَنْ الْمُزَيِّن ; فَقَالَتْ فِرْقَة : اللَّه زَيَّنَ ذَلِكَ ; وَهُوَ ظَاهِر قَوْل عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ , ذَكَرَهُ الْبُخَارِيّ . وَفِي التَّنْزِيل : | إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْض زِينَة لَهَا | [ الْكَهْف : 7 ] ; وَلَمَّا قَالَ عُمَر : الْآن يَا رَبّ حِينَ زَيَّنْتهَا لَنَا نَزَلَتْ : | قُلْ أَؤُنَبِّئكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ | [ آل عِمْرَان : 15 ] وَقَالَتْ فِرْقَة : الْمُزَيِّن هُوَ الشَّيْطَان ; وَهُوَ ظَاهِر قَوْل الْحَسَن , فَإِنَّهُ قَالَ : مَنْ زَيَّنَهَا ؟ مَا أَحَد أَشَدّ لَهَا ذَمًّا مِنْ خَالِقهَا . فَتَزْيِين اللَّه تَعَالَى إِنَّمَا هُوَ بِالْإِيجَادِ وَالتَّهْيِئَة لِلِانْتِفَاعِ وَإِنْشَاء الْجِبِلَّة عَلَى الْمَيْل إِلَى هَذِهِ الْأَشْيَاء . وَتَزْيِين الشَّيْطَان إِنَّمَا هُوَ بِالْوَسْوَسَةِ وَالْخَدِيعَة وَتَحْسِين أَخْذهَا مِنْ غَيْر وُجُوههَا . وَالْآيَة عَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ اِبْتِدَاء وَعْظ لِجَمِيعِ النَّاس , وَفِي ضِمْن ذَلِكَ تَوْبِيخ لِمُعَاصِرِي مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْيَهُود وَغَيْرهمْ . وَقَرَأَ الْجُمْهُور | زُيِّنَ | عَلَى بِنَاء الْفِعْل لِلْمَفْعُولِ , وَرُفِعَ | حُبّ | . وَقَرَأَ الضَّحَّاك وَمُجَاهِد | زُيِّنَ | عَلَى بِنَاء الْفِعْل لِلْفَاعِلِ , وَنَصْب | حُبّ | وَحُرِّكَتْ الْهَاء مِنْ | الشَّهَوَات | فَرْقًا بَيْن الِاسْم وَالنَّعْت وَالشَّهَوَات جَمْع شَهْوَة وَهِيَ مَعْرُوفَة وَرَجُل شَهْوَان لِلشَّيْءِ , وَشَيْء شَهِيّ أَيْ مُشْتَهًى وَاتِّبَاع الشَّهَوَات مُرْدٍ وَطَاعَتهَا مَهْلَكَة . وَفِي صَحِيح مُسْلِم : ( حُفَّتْ الْجَنَّة بِالْمَكَارِهِ وَحُفَّتْ النَّار بِالشَّهَوَاتِ ) رَوَاهُ أَنَس عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَفَائِدَة هَذَا التَّمْثِيل أَنَّ الْجَنَّة لَا تُنَال إِلَّا بِقَطْعِ مَفَاوِز الْمَكَارِه وَبِالصَّبْرِ عَلَيْهَا . وَأَنَّ النَّار لَا يُنْجَى مِنْهَا إِلَّا بِتَرْكِ الشَّهَوَات وَفِطَام النَّفْس عَنْهَا . وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( طَرِيق الْجَنَّة حَزْن بِرَبْوَةٍ وَطَرِيق النَّار سَهْل بِسَهْوَةٍ . .. ) ; وَهُوَ مَعْنَى قَوْله ( حُفَّتْ الْجَنَّة بِالْمَكَارِهِ وَحُفَّتْ النَّار بِالشَّهَوَاتِ ) . أَيْ طَرِيق الْجَنَّة صَعْبَة الْمَسْلَك فِيهِ أَعْلَى مَا يَكُون مِنْ الرَّوَابِي , وَطَرِيق النَّار سَهْل لَا غِلَظ فِيهِ وَلَا وُعُورَة , وَهُوَ مَعْنَى قَوْله ( سَهْل بِسَهْوَةٍ ) وَهُوَ بِالسِّينِ الْمُهْمَلَة .|مِنَ النِّسَاءِ|بَدَأَ بِهِنَّ لِكَثْرَةِ تَشَوُّف النُّفُوس إِلَيْهِنَّ ; لِأَنَّهُنَّ حَبَائِل الشَّيْطَان وَفِتْنَة الرِّجَال . قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَا تَرَكْت بَعْدِي فِتْنَة أَشَدّ عَلَى الرِّجَال مِنْ النِّسَاء ) أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم . فَفِتْنَة النِّسَاء أَشَدّ مِنْ جَمِيع الْأَشْيَاء . وَيُقَال : فِي النِّسَاء فِتْنَتَانِ , وَفِي الْأَوْلَاد فِتْنَة وَاحِدَة . فَأَمَّا اللَّتَانِ فِي النِّسَاء فَإِحْدَاهُمَا أَنْ تُؤَدِّي إِلَى قَطْع الرَّحِم ; لِأَنَّ الْمَرْأَة تَأْمُر زَوْجهَا بِقَطْعِهِ عَنْ الْأُمَّهَات وَالْأَخَوَات وَالثَّانِيَة يُبْتَلَى بِجَمْعِ الْمَال مِنْ الْحَلَال وَالْحَرَام . وَأَمَّا الْبَنُونَ فَإِنَّ الْفِتْنَة فِيهِمْ وَاحِدَة وَهُوَ مَا اُبْتُلِيَ بِجَمْعِ الْمَال لِأَجْلِهِمْ . وَرَوَى عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا تُسْكِنُوا نِسَاءَكُمْ الْغُرَف وَلَا تُعَلِّمُوهُنَّ الْكِتَاب ) . حَذَّرَهُمْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; لِأَنَّ فِي إِسْكَانهنَّ الْغُرَف تَطَلُّعًا إِلَى الرِّجَال , وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ تَحْصِين لَهُنَّ وَلَا سِتْر ; لِأَنَّهُنَّ قَدْ يَشْرُفْنَ عَلَى الرِّجَال فَتَحْدُث الْفِتْنَة وَالْبَلَاء , وَلِأَنَّهُنَّ قَدْ خُلِقْنَ مِنْ الرَّجُل ; فَهِمَّتهَا فِي الرَّجُل وَالرَّجُل خُلِقَ فِيهِ الشَّهْوَة وَجُعِلَتْ سَكَنًا لَهُ ; فَغَيْر مَأْمُون كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبه . وَفِي تَعَلُّمهنَّ الْكِتَاب هَذَا الْمَعْنَى مِنْ الْفِتْنَة وَأَشَدّ . وَفِي كِتَاب الشِّهَاب عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَعْرُوا النِّسَاء يَلْزَمْنَ الْحِجَال ) . فَعَلَى الْإِنْسَان إِذَا لَمْ يَصْبِر فِي هَذِهِ الْأَزْمَان أَنْ يَبْحَث عَنْ ذَات الدِّين لِيَسْلَم لَهُ الدِّين ; قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( عَلَيْك بِذَاتِ الدِّين تَرِبَتْ يَدَاك ) أَخْرَجَهُ مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة . وَفِي سُنَن اِبْن مَاجَهْ عَنْ عَبْد اللَّه بْن عُمَر قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا تَزَوَّجُوا النِّسَاء لِحُسْنِهِنَّ فَعَسَى حُسْنهنَّ أَنْ يُرْدِيَهِنَّ وَلَا تَزَوَّجُوهُنَّ لِأَمْوَالِهِنَّ فَعَسَى أَمْوَالهنَّ أَنْ تُطْغِيَهِنَّ وَلَكِنْ تَزَوَّجُوهُنَّ , عَلَى الدِّين وَلَأَمَة سَوْدَاء خَرْمَاء ذَات دِين أَفْضَل ) .|وَالْبَنِينَ|عُطِفَ عَلَى مَا قَبْله . وَوَاحِد مِنْ الْبَنِينَ اِبْن . قَالَ اللَّه تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ نُوح : ( إِنَّ اِبْنِي مِنْ أَهْلِي ) . وَتَقُول فِي التَّصْغِير | بُنَيّ | كَمَا قَالَ لُقْمَان . وَفِي الْخَبَر أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْأَشْعَثِ بْن قَيْس : ( هَلْ لَك مِنْ اِبْنَة حَمْزَة مِنْ وَلَد ) ؟ قَالَ : نَعَمْ , لِي مِنْهَا غُلَام وَلَوَدِدْت أَنَّ لِي بِهِ جَفْنَة مِنْ طَعَام أُطْعِمهَا مَنْ بَقِيَ مِنْ بَنِي جَبَلَة . فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَئِنْ قُلْت ذَلِكَ إِنَّهُمْ لَثَمَرَة الْقُلُوب وَقُرَّة الْأَعْيُن وَإِنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ لَمَجْبَنَة مَبْخَلَة مَحْزَنَة ) .|وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ|الْقَنَاطِير جَمْع قِنْطَار , كَمَا قَالَ تَعَالَى : | وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا | [ النِّسَاء : 20 ] وَهُوَ الْعُقْدَة الْكَبِيرَة مِنْ الْمَال , وَقِيلَ : هُوَ اِسْم لِلْمِعْيَارِ الَّذِي يُوزَن بِهِ ; كَمَا هُوَ الرِّطْل وَالرُّبْع . وَيُقَال لِمَا بَلَغَ ذَلِكَ الْوَزْن : هَذَا قِنْطَار , أَيْ يَعْدِل الْقِنْطَار . وَالْعَرَب تَقُول : قَنْطَرَ الرَّجُل إِذَا بَلَغَ مَاله أَنْ يُوزَن بِالْقِنْطَارِ . وَقَالَ الزَّجَّاج : الْقِنْطَار مَأْخُوذ مِنْ عَقْد الشَّيْء وَإِحْكَامه ; تَقُول الْعَرَب : قَنْطَرْت الشَّيْء إِذَا أَحْكَمْته ; وَمِنْهُ سُمِّيَتْ الْقَنْطَرَة لِإِحْكَامِهَا . قَالَ طَرَفَة : <br>كَقَنْطَرَةِ الرُّومِيِّ أَقْسَمَ رَبُّهَا .......... لَتُكْتَنَفَنْ حَتَّى تُشَادَ بِقَرْمَدِ <br>وَالْقَنْطَرَة الْمَعْقُودَة ; فَكَأَنَّ الْقِنْطَار عَقْد مَال . وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي تَحْرِير حَدّه كَمْ هُوَ عَلَى أَقْوَال عَدِيدَة ; فَرَوَى أُبَيّ بْن كَعْب عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( الْقِنْطَار أَلْف أُوقِيَّة وَمِائَتَانِ أُوقِيَّة ) ; وَقَالَ بِذَلِكَ مُعَاذ بْن جَبَل وَعَبْد اللَّه بْن عُمَر وَأَبُو هُرَيْرَة وَجَمَاعَة مِنْ الْعُلَمَاء . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : | وَهُوَ أَصَحّ الْأَقْوَال , لَكِنَّ الْقِنْطَار عَلَى هَذَا يَخْتَلِف بِاخْتِلَافِ الْبِلَاد فِي قَدْر الْأُوقِيَّة | . وَقِيلَ : اِثْنَا عَشَر أَلْف أُوقِيَّة ; أَسْنَدَهُ الْبُسْتِيّ فِي مُسْنَده الصَّحِيح عَنْ أَبِي هُرَيْرَة أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : | الْقِنْطَار اِثْنَا عَشَر أَلْف أُوقِيَّة الْأُوقِيَّة خَيْر مِمَّا بَيْنَ السَّمَاء وَالْأَرْض | . وَقَالَ بِهَذَا الْقَوْل أَبُو هُرَيْرَة أَيْضًا . وَفِي مُسْنَد أَبِي مُحَمَّد الدَّارِمِيّ عَنْ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ قَالَ : | مَنْ قَرَأَ فِي لَيْلَة عَشْر آيَات كُتِبَ مِنْ الذَّاكِرِينَ , وَمَنْ قَرَأَ بِمِائَةِ آيَة كُتِبَ مِنْ الْقَانِتِينَ , وَمَنْ قَرَأَ بِخَمْسِمِائَةِ آيَة إِلَى الْأَلْف أَصْبَحَ وَلَهُ قِنْطَار مِنْ الْأَجْر | قِيلَ : وَمَا الْقِنْطَار ؟ قَالَ : | مِلْء مَسْك ثَوْر ذَهَبًا | . مَوْقُوف ; وَقَالَ بِهِ أَبُو نَضْرَة الْعَبْدِيّ . وَذَكَرَ اِبْن سِيدَهْ أَنَّهُ هَكَذَا بِالسُّرْيَانِيَّةِ . وَقَالَ النَّقَّاش عَنْ اِبْن الْكَلْبِيّ أَنَّهُ هَكَذَا بِلُغَةِ الرُّوم . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَالضَّحَّاك وَالْحَسَن : أَلْف وَمِائَتَا مِثْقَال مِنْ الْفِضَّة ; وَرَفَعَهُ الْحَسَن . وَعَنْ اِبْن عَبَّاس : اِثْنَا عَشَر أَلْف دِرْهَم مِنْ الْفِضَّة , وَمِنْ الذَّهَب أَلْف دِينَار دِيَة الرَّجُل الْمُسْلِم ; وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَن وَالضِّحَاك . وَقَالَ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب : ثَمَانُونَ أَلْفًا . قَتَادَة : مِائَة رِطْل مِنْ الذَّهَب أَوْ ثَمَانُونَ أَلْف دِرْهَم مِنْ الْفِضَّة . وَقَالَ أَبُو حَمْزَة الثُّمَالِيّ : الْقِنْطَار بِإِفْرِيقِيَّة وَالْأَنْدَلُس ثَمَانِيَة آلَاف مِثْقَال مِنْ ذَهَب أَوْ فِضَّة . السُّدِّيّ : أَرْبَعَة آلَاف مِثْقَال . مُجَاهِد : سَبْعُونَ أَلْف مِثْقَال ; وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عُمَر . وَحَكَى مَكِّيّ قَوْلًا أَنَّ الْقِنْطَار أَرْبَعُونَ أُوقِيَّة مِنْ ذَهَب أَوْ فِضَّة ; وَقَالَهُ اِبْن سِيدَهْ فِي الْمُحْكَم , وَقَالَ : الْقِنْطَار بِلُغَةِ|بَرْبَر أَلْف مِثْقَال . وَقَالَ الرَّبِيع بْن أَنَس : الْقِنْطَار الْمَال الْكَثِير بَعْضه عَلَى بَعْض ; وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوف عِنْد الْعَرَب , وَمِنْهُ قَوْله : | وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا | أَيْ مَالًا كَثِيرًا . وَمِنْهُ الْحَدِيث : ( إِنَّ صَفْوَان بْن أُمَيَّة قَنْطَرَ فِي الْجَاهِلِيَّة وَقَنْطَرَ أَبُوهُ ) أَيْ صَارَ لَهُ قِنْطَار مِنْ الْمَال . وَعَنْ الْحَكَم هُوَ مَا بَيْنَ السَّمَاء وَالْأَرْض . وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى | الْمُقَنْطَرَة | فَقَالَ الطَّبَرِيّ وَغَيْره : مَعْنَاهُ الْمُضَعَّفَة , وَكَأَنَّ الْقَنَاطِير ثَلَاثَة وَالْمُقَنْطَرَة تِسْع . وَرُوِيَ عَنْ الْفَرَّاء أَنَّهُ قَالَ : الْقَنَاطِير جَمْع الْقِنْطَار , وَالْمُقَنْطَرَة جَمْع الْجَمْع , فَيَكُون تِسْع قَنَاطِير . السُّدِّيّ : الْمُقَنْطَرَة الْمَضْرُوبَة حَتَّى صَارَتْ دَنَانِير أَوْ دَرَاهِم . مَكِّيّ : الْمُقَنْطَرَة الْمُكَمَّلَة ; وَحَكَاهُ الْهَرَوِيّ ; كَمَا يُقَال : بِدَر مُبَدَّرَة , وَآلَاف مُؤَلَّفَة . وَقَالَ بَعْضهمْ . وَلِهَذَا سُمِّيَ الْبِنَاء الْقَنْطَرَة لِتَكَاثُفِ الْبِنَاء بَعْضه عَلَى بَعْض . اِبْن كَيْسَان وَالْفَرَّاء : لَا تَكُون الْمُقَنْطَرَة أَقَلّ مِنْ تِسْع قَنَاطِير . وَقِيلَ : الْمُقَنْطَرَة إِشَارَة إِلَى حُضُور الْمَال وَكَوْنه عَتِيدًا . وَفِي صَحِيح الْبُسْتِيّ عَنْ عَبْد اللَّه بْن عُمَر عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( مَنْ قَامَ بِعَشْرِ آيَات لَمْ يُكْتَب مِنْ الْغَافِلِينَ وَمَنْ قَامَ بِمِائَةِ آيَة كُتِبَ مِنْ الْقَانِتِينَ وَمَنْ قَامَ بِأَلْفِ آيَة كُتِبَ مِنْ الْمُقَنْطِرِينَ ) .|مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ|الذَّهَب , مُؤَنَّثَة ; يُقَال : هِيَ الذَّهَب الْحَسَنَة جَمْعهَا ذَهَاب وَذُهُوب . وَيَجُوز أَنْ يَكُون جَمْع ذَهَبَة , وَيُجْمَع عَلَى الْأَذْهَاب . وَذَهَبَ فُلَان مَذْهَبًا حَسَنًا . وَالذَّهَب : مِكْيَال لِأَهْلِ الْيَمَن . وَرَجُل ذَهِبٌ إِذَا رَأَى مَعْدِن الذَّهَب فَدَهِشَ . وَالْفِضَّة مَعْرُوفَة , وَجَمْعهَا فِضَض . فَالذَّهَب مَأْخُوذَة مِنْ الذَّهَاب , وَالْفِضَّة مَأْخُوذَة مِنْ اِنْفَضَّ الشَّيْء تَفَرَّقَ ; وَمِنْهُ فَضَضْت الْقَوْم فَانْفَضُّوا , أَيْ فَرَّقْتهمْ فَتَفَرَّقُوا . وَهَذَا الِاشْتِقَاق يُشْعِر بِزَوَالِهِمَا وَعَدَم ثُبُوتهمَا كَمَا هُوَ مُشَاهَد فِي الْوُجُود . وَمِنْ أَحْسَن مَا قِيلَ فِي هَذَا الْمَعْنَى قَوْل بَعْضهمْ : <br>النَّار آخِر دِينَار نَطَقْتَ بِهِ .......... وَالْهَمّ آخِر هَذَا الدِّرْهَمِ الْجَارِي <br><br>وَالْمَرْء بَيْنهمَا إِنْ كَانَ ذَا وَرَع .......... مُعَذَّب الْقَلْب بَيْن الْهَمّ وَالنَّار<br>|وَالْخَيْلِ|الْخَيْل مُؤَنَّثَة . قَالَ اِبْن كَيْسَان : حُدِّثْت عَنْ أَبِي عُبَيْدَة أَنَّهُ قَالَ : وَاحِد الْخَيْل خَائِل , مِثْل طَائِر وَطَيْر , وَضَائِن وَضَيْن ; وَسُمِّيَ الْفَرَس بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يَخْتَال فِي مَشْيه . وَقَالَ غَيْره : هُوَ اِسْم جَمْع لَا وَاحِد لَهُ مِنْ لَفْظه وَاحِد فَرَس كَالْقَوْمِ وَالرَّهْط وَالنِّسَاء وَالْإِبِل وَنَحْوهَا . وَفِي الْخَبَر مِنْ حَدِيث عَلِيّ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ اللَّه خَلَقَ الْفَرَس مِنْ الرِّيح وَلِذَلِكَ جَعَلَهَا تَطِير بِلَا جَنَاح ) . وَهْب بْن مُنَبِّه : خَلَقَهَا مِنْ رِيح الْجَنُوب . قَالَ وَهْب : فَلَيْسَ تَسْبِيحَة وَلَا تَكْبِيرَة وَلَا تَهْلِيلَة يُكَبِّرهَا صَاحِبهَا إِلَّا وَهُوَ يَسْمَعهَا فَيُجِيبهُ بِمِثْلِهَا . وَسَيَأْتِي لِذِكْرِ الْخَيْل وَوَصْفهَا فِي سُورَة | الْأَنْفَال | مَا فِيهِ كِفَايَة إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَفِي الْخَبَر : ( إِنَّ اللَّه عَرَضَ عَلَى آدَم جَمِيع الدَّوَابّ , فَقِيلَ لَهُ : اِخْتَرْ مِنْهَا وَاحِدًا فَاخْتَارَ الْفَرَس ; فَقِيلَ لَهُ : اِخْتَرْت عِزّك ) ; فَصَارَ اِسْمه الْخَيْر مِنْ هَذَا الْوَجْه . وَسُمِّيَتْ خَيْلًا لِأَنَّهَا مَوْسُومَة بِالْعِزِّ فَمَنْ رَكِبَهُ اِعْتَزَّ بِنِحْلَةِ اللَّه لَهُ وَيَخْتَال بِهِ عَلَى أَعْدَاء اللَّه تَعَالَى . وَسُمِّيَ فَرَسًا لِأَنَّهُ يَفْتَرِس مَسَافَات الْجَوّ اِفْتِرَاس الْأَسَد وَثَبَانًا , وَيَقْطَعهَا كَالِالْتِهَامِ بِيَدَيْهِ عَلَى شَيْء خَبْطًا وَتَنَاوُلًا , وَسُمِّيَ عَرَبِيًّا لِأَنَّهُ جِيءَ بِهِ مِنْ بَعْد آدَم لِإِسْمَاعِيل جَزَاء عَنْ رَفْع قَوَاعِد الْبَيْت , وَإِسْمَاعِيل عَرَبِيّ , فَصَارَ لَهُ نِحْلَة مِنْ اللَّه تَعَالَى فَسُمِّيَ عَرَبِيًّا . وَفِي الْحَدِيث عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا يَدْخُل الشَّيْطَان دَارًا فِيهَا فَرَس عَتِيق ) . وَإِنَّمَا سُمِّيَ عَتِيقًا لِأَنَّهُ قَدْ تَخَلَّصَ مِنْ الْهَجَانَة . وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( خَيْر الْخَيْل الْأَدْهَم الْأَقْرَح الْأَرْثَم ثُمَّ الْأَقْرَح الْمُحَجَّل طَلْق الْيَمِين فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَدْهَم فَكُمَيْت عَلَى هَذِهِ الشِّيَة ) . أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ عَنْ أَبِي قَتَادَة . وَفِي مُسْنَد الدَّارِمِيّ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا قَالَ : يَا رَسُول اللَّه , إِنِّي أُرِيد أَنْ أَشْتَرِيَ فَرَسًا فَأَيّهَا أَشْتَرِي ؟ قَالَ : ( اِشْتَرِ أَدْهَم أَرْثَم مُحَجَّلًا طَلْق الْيَمِين أَوْ مِنْ الْكُمَيْت عَلَى هَذِهِ الشِّيَة تَغْنَم وَتَسْلَم ) . وَرَوَى النَّسَائِيّ عَنْ أَنَس قَالَ : لَمْ يَكُنْ أَحَبّ إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْد النِّسَاء مِنْ الْخَيْل .</p><p>وَرَوَى الْأَئِمَّة عَنْ أَبِي هُرَيْرَة أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( الْخَيْل ثَلَاثَة لِرَجُلٍ أَجْرٌ وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ وَلِرَجُلٍ وِزْرٌ . .. ) الْحَدِيث بِطُولِهِ , شُهْرَته أَغْنَتْ عَنْ ذِكْره . وَسَيَأْتِي ذِكْر أَحْكَام الْخَيْل فِي | الْأَنْفَال | و | النَّحْل | بِمَا فِيهِ كِفَايَة إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .|الْمُسَوَّمَةِ|يَعْنِي الرَّاعِيَة فِي الْمُرُوج وَالْمَسَارِح ; قَالَهُ سَعِيد بْن جُبَيْر . يُقَال : سَامَتْ الدَّابَّة وَالشَّاة إِذَا سَرَحَتْ تَسُوم سَوْمًا فَهِيَ سَائِمَة . وَأَسَمْتهَا أَنَا إِذَا تَرَكْتهَا لِذَلِكَ فَهِيَ مُسَامَة . وَسَوَّمْتهَا تَسْوِيمًا فَهِيَ مُسَوَّمَة . وَفِي سُنَن اِبْن مَاجَهْ عَنْ عَلِيّ قَالَ : ( نَهَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ السَّوْم قَبْل طُلُوع الشَّمْس , وَعَنْ ذَبْح ذَوَات الدَّرّ ) السَّوْم هُنَا فِي مَعْنَى الرَّعْي وَقَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ | فِيهِ تُسِيمُونَ | [ النَّحْل : 10 ] قَالَ الْأَخْطَل : <br>مِثْل اِبْن بزعة أَوْ كَآخَر مِثْله .......... أَوْلَى لَك اِبْن مِسيمَة الْأَجْمَال <br>أَرَادَ اِبْن رَاعِيَة الْإِبِل . وَالسَّوَام : كُلّ بَهِيمَة تَرْعَى , وَقِيلَ : الْمُعَدَّة لِلْجِهَادِ ; قَالَهُ اِبْن زَيْد . مُجَاهِد : الْمُسَوَّمَة الْمُطَهَّمَة الْحِسَان . وَقَالَ عِكْرِمَة : سَوَّمَهَا الْحُسْن ; وَاخْتَارَهُ النَّحَّاس , مِنْ قَوْلهمْ : رَجُل وَسِيم . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ قَالَ : الْمُسَوَّمَة الْمُعَلَّمَة بِشِيَاتِ الْخَيْل فِي وُجُوههَا مِنْ السِّيمَا وَهِيَ الْعَلَامَة . وَهَذَا مَذْهَب الْكِسَائِيّ وَأَبِي عُبَيْدَة .</p><p>قُلْت : كُلّ مَا ذُكِرَ يَحْتَمِلهُ اللَّفْظ , فَتَكُون رَاعِيَة مُعَدَّة حِسَانًا مُعَلَّمَة لِتُعْرَف مِنْ غَيْرهَا . قَالَ أَبُو زَيْد : أَصْل ذَلِكَ أَنْ تَجْعَل عَلَيْهَا صُوفَة أَوْ عَلَامَة تُخَالِف سَائِر جَسَدهَا لِتَبِينَ مِنْ غَيْرهَا فِي الْمَرْعَى . وَحَكَى اِبْن فَارِس اللُّغَوِيّ فِي مُجْمَله : الْمُسَوَّمَة الْمُرْسَلَة وَعَلَيْهَا رُكْبَانهَا . وَقَالَ الْمُؤَرِّج : الْمُسَوَّمَة الْمَكْوِيَّة , الْمُبَرِّد : الْمَعْرُوفَة فِي الْبُلْدَان . اِبْن كَيْسَان : الْبُلْق . وَكُلّهَا مُتَقَارِب مِنْ السِّيمَا . قَالَ النَّابِغَة : <br>وَضُمْر كَالْقِدَاحِ مُسَوَّمَات .......... عَلَيْهَا مَعْشَر أَشْبَاه جِنّ<br>|وَالْأَنْعَامِ|قَالَ اِبْن كَيْسَان : إِذَا قُلْت نَعَمْ لَمْ تَكُنْ إِلَّا لِلْإِبِلِ , فَإِذَا قُلْت أَنْعَام وَقَعَتْ لِلْإِبِلِ وَكُلّ مَا يَرْعَى . قَالَ الْفَرَّاء : هُوَ مُذَكَّر وَلَا يُؤَنَّث ; يَقُولُونَ هَذَا نَعَم وَارِد , وَيُجْمَع أَنْعَامًا . قَالَ الْهَرَوِيّ : وَالنَّعَم يُذَكَّر وَيُؤَنَّث , وَالْأَنْعَام الْمَوَاشِي مِنْ الْإِبِل وَالْبَقَر وَالْغَنَم ; , وَإِذَا قِيلَ : النَّعَم فَهُوَ الْإِبِل خَاصَّة . وَقَالَ حَسَّان : <br>وَكَانَتْ لَا يَزَال بِهَا أَنِيس .......... خِلَال مُرُوجهَا نَعَم وَشَاء <br>وَفِي سُنَن اِبْن مَاجَهْ عَنْ عُرْوَة الْبَارِقِيّ يَرْفَعهُ قَالَ : ( الْإِبِل عِزّ لِأَهْلِهَا وَالْغَنَم بَرَكَة وَالْخَيْر مَعْقُود فِي نَوَاصِي الْخَيْل إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ) . وَفِيهِ عَنْ اِبْن عُمَر قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( الشَّاة مِنْ دَوَابّ الْجَنَّة ) . وَفِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : أَمَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَغْنِيَاء بِاِتِّخَاذِ الْغَنَم , وَالْفُقَرَاء بِاِتِّخَاذِ الدَّجَاج . وَقَالَ : عِنْد اِتِّخَاذ الْأَغْنِيَاء الدَّجَاج يَأْذَن اللَّه تَعَالَى بِهَلَاكِ الْقُرَى . وَفِيهِ عَنْ أُمّ هَانِئ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا : ( اِتَّخِذِي غَنَمًا فَإِنَّ فِيهَا بَرَكَة ) . أَخْرَجَهُ عَنْ أَبِي بَكْر بْن أَبِي شَيْبَة عَنْ وَكِيع عَنْ هِشَام بْن عُرْوَة عَنْ أَبِيهِ عَنْ أُمّ هَانِئ , إِسْنَاد صَحِيح .|وَالْحَرْثِ|الْحَرْث هُنَا اِسْم لِكُلِّ مَا يُحْرَث , وَهُوَ مَصْدَر سُمِّيَ بِهِ ; تَقُول : حَرَثَ الرَّجُل حَرْثًا إِذَا أَثَارَ الْأَرْض لِمَعْنَى الْفِلَاحَة ; فَيَقَع اِسْم الْحِرَاثَة عَلَى زَرْع الْحُبُوب وَعَلَى الْجَنَّات وَعَلَى غَيْر ذَلِكَ مِنْ نَوْع الْفِلَاحَة . وَفِي الْحَدِيث : ( اُحْرُثْ لِدُنْيَاك كَأَنَّك تَعِيش أَبَدًا ) . يُقَال حَرَثْت وَاحْتَرَثْت . وَفِي حَدِيث عَبْد اللَّه ( اُحْرُثُوا هَذَا الْقُرْآن ) أَيْ فَتِّشُوهُ . قَالَ اِبْن الْأَعْرَابِيّ : الْحَرْث التَّفْتِيش ; وَفِي الْحَدِيث : ( أَصْدَق الْأَسْمَاء الْحَارِث ) لِأَنَّ الْحَارِث هُوَ الْكَاسِب , وَاحْتِرَاث الْمَال كَسْبه , وَالْمِحْرَاث مُسْعِر النَّار وَالْحَرَاث مَجْرَى الْوَتَر فِي الْقَوْس , وَالْجَمْع أَحْرِثَة , وَأَحْرَثَ الرَّجُل نَاقَته أَهْزَلَهَا . وَفِي حَدِيث مُعَاوِيَة : مَا فَعَلَتْ نَوَاضِحكُمْ ؟ قَالُوا : حَرَثْنَاهَا يَوْم بَدْر . قَالَ أَبُو عُبَيْد : يَعْنُونَ هَزَّلْنَاهَا ; يُقَال : حَرَثْت الدَّابَّة وَأَحْرَثْتهَا , لُغَتَانِ . وَفِي صَحِيح الْبُخَارِيّ عَنْ أَبِي أُمَامَة الْبَاهِلِيّ قَالَ وَقَدْ رَأَى سِكَّة وَشَيْئًا مِنْ آلَة الْحَرْث فَقَالَ : سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( لَا يَدْخُل هَذَا بَيْت قَوْم إِلَّا دَخَلَهُ الذُّلّ ) . قِيلَ : إِنَّ الذُّلّ هُنَا مَا يَلْزَم أَهْل الشُّغْل بِالْحَرْثِ مِنْ حُقُوق الْأَرْض الَّتِي يُطَالِبهُمْ بِهَا الْأَئِمَّة وَالسَّلَاطِين . وَقَالَ الْمُهَلِّب : مَعْنَى قَوْله فِي هَذَا الْحَدِيث وَاَللَّه أَعْلَم الْحَضّ عَلَى مَعَالِي الْأَحْوَال وَطَلَب الرِّزْق مِنْ أَشْرَف الصِّنَاعَات ; وَذَلِكَ لَمَّا خَشِيَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أُمَّته مِنْ الِاشْتِغَال بِالْحَرْثِ وَتَضْيِيع رُكُوب الْخَيْل وَالْجِهَاد فِي سَبِيل اللَّه ; لِأَنَّهُمْ إِنْ اِشْتَغَلُوا بِالْحَرْثِ غَلَبَتْهُمْ الْأُمَم الرَّاكِبَة لِلْخَيْلِ الْمُتَعَيِّشَة مِنْ مَكَاسِبهَا ; فَحَضَّهُمْ عَلَى التَّعَيُّش مِنْ الْجِهَاد لَا مِنْ الْخُلُود إِلَى عِمَارَة الْأَرْض وَلُزُوم الْمِهْنَة . أَلَا تَرَى أَنَّ عُمَر قَالَ : تَمَعْدَدُوا وَاخْشَوْشِنُوا وَاقْطَعُوا الرُّكَب وَثِبُوا عَلَى الْخَيْل وَثْبًا لَا تَغْلِبَنَّكُمْ عَلَيْهَا رُعَاة الْإِبِل . فَأَمَرَهُمْ بِمُلَازَمَةِ الْخَيْل , وَرِيَاضَة أَبْدَانهمْ بِالْوُثُوبِ عَلَيْهَا . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَس بْن مَالِك قَالَ : قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَا مِنْ مُسْلِم غَرَسَ غَرْسًا أَوْ زَرَعَ زَرْعًا فَيَأْكُل مِنْهُ طَيْر أَوْ إِنْسَان أَوْ بَهِيمَة إِلَّا كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَة ) .</p><p>قَالَ الْعُلَمَاء : ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى أَرْبَعَة أَصْنَاف مِنْ الْمَال , كُلّ نَوْع مِنْ الْمَال يَتَمَوَّل بِهِ صِنْف مِنْ النَّاس ; أَمَّا الذَّهَب وَالْفِضَّة فَيَتَمَوَّل بِهَا التُّجَّار , وَأَمَّا الْخَيْل الْمُسَوَّمَة فَيَتَمَوَّل بِهَا الْمُلُوك , وَأَمَّا الْأَنْعَام فَيَتَمَوَّل بِهَا أَهْل الْبَوَادِي , وَأَمَّا الْحَرْث فَيَتَمَوَّل بِهَا أَهْل الرَّسَاتِيق . فَتَكُون فِتْنَة كُلّ صِنْف فِي النَّوْع الَّذِي يَتَمَوَّل , فَأَمَّا النِّسَاء وَالْبَنُونَ فَفِتْنَة لِلْجَمِيعِ .|ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا|أَيْ مَا يُتَمَتَّع بِهِ فِيهَا ثُمَّ يَذْهَب وَلَا يَبْقَى . وَهَذَا مِنْهُ تَزْهِيد فِي الدُّنْيَا وَتَرْغِيب فِي الْآخِرَة . رَوَى اِبْن مَاجَهْ وَغَيْره عَنْ عَبْد اللَّه بْن عُمَر أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِنَّمَا الدُّنْيَا مَتَاع وَلَيْسَ مِنْ مَتَاع الدُّنْيَا شَيْء أَفْضَل مِنْ الْمَرْأَة الصَّالِحَة ) . وَفِي الْحَدِيث : ( اِزْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبّك اللَّه ) أَيْ فِي مَتَاعهَا مِنْ الْجَاه وَالْمَال الزَّائِد عَلَى الضَّرُورِيّ . قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَيْسَ لِابْنِ آدَم حَقّ فِي سِوَى هَذِهِ الْخِصَال بَيْت يَسْكُنهُ وَثَوْب يُوَارِي عَوْرَته وَجِلْف الْخُبْز وَالْمَاء ) أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ مِنْ حَدِيث الْمِقْدَام بْن مَعْد يَكْرُب . وَسُئِلَ سَهْل بْن عَبْد اللَّه : بِمَ يَسْهُل عَلَى الْعَبْد تَرْك الدُّنْيَا وَكُلّ الشَّهَوَات ؟ قَالَ : بِتَشَاغُلِهِ بِمَا أُمِرَ بِهِ .|وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ|اِبْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ . وَالْمَآب الْمَرْجِع ; آبَ يَؤُوبُ إِيَابًا إِذَا رَجَعَ ; قَالَ يَؤُوبُ إِيَابًا إِذَا رَجَعَ ; قَالَ اِمْرُؤُ الْقَيْس : <br>وَقَدْ طَوَّفْت فِي الْآفَاق حَتَّى .......... رَضِيت مِنْ الْغَنِيمَة بِالْإِيَابِ <br>وَقَالَ آخَر : <br>وَكُلّ ذِي غَيْبَة يَؤُوبُ .......... وَغَائِب الْمَوْت لَا يَؤُوبُ <br>وَأَصْل مَآب مَأَوِب , قُلِبَتْ حَرَكَة الْوَاو إِلَى الْهَمْزَة وَأُبْدِلَ مِنْ الْوَاو أَلِف , مِثْل مَقَال . وَمَعْنَى الْآيَة تَقْلِيل الدُّنْيَا وَتَحْقِيرهَا وَالتَّرْغِيب فِي حُسْن الْمَرْجِع إِلَى اللَّه تَعَالَى فِي الْآخِرَة .

قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ

مُنْتَهَى الِاسْتِفْهَام عِنْد قَوْله : | مِنْ ذَلِكُمْ | , | لِلَّذِينَ اِتَّقَوْا | خَبَر مُقَدَّم , و | جَنَّات | رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ . وَقِيلَ : مُنْتَهَاهُ | عِنْد رَبّهمْ | , و | جَنَّات | عَلَى هَذَا رُفِعَ بِابْتِدَاءٍ مُضْمَر تَقْدِيره ذَلِكَ جَنَّات . وَيَجُوز عَلَى هَذَا التَّأْوِيل | جَنَّات | بِالْخَفْضِ بَدَلًا مِنْ | خَيْر | وَلَا يَجُوز ذَلِكَ عَلَى الْأَوَّل . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذِهِ الْآيَة وَاَلَّتِي قَبْلهَا نَظِير قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( تُنْكَح الْمَرْأَة لِأَرْبَعٍ لِمَالِهَا وَحَسَبهَا وَجَمَالهَا وَدِينهَا فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّين تَرِبَتْ يَدَاك ) خَرَّجَهُ مُسْلِم وَغَيْره . فَقَوْله ( فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّين ) مِثَال لِهَذِهِ الْآيَة . وَمَا قَبْل مِثَال لِلْأُولَى . فَذَكَرَ تَعَالَى هَذِهِ تَسْلِيَة عَنْ الدُّنْيَا وَتَقْوِيَة لِنُفُوسِ تَارِكِيهَا . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَة مَعَانِي أَلْفَاظ هَذِهِ الْآيَة . وَالرِّضْوَان مَصْدَر مِنْ الرِّضَا , وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا دَخَلَ أَهْل الْجَنَّة يَقُول اللَّه تَعَالَى لَهُمْ ( تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدكُمْ ) ؟ فَيَقُولُونَ : يَا رَبّنَا وَأَيّ شَيْء أَفْضَل مِنْ هَذَا ؟ فَيَقُول : ( رِضَايَ فَلَا أَسْخَط عَلَيْكُمْ بَعْده أَبْدًا ) خَرَّجَهُ مُسْلِم .|وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ|وَعْد وَوَعِيد .

الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ

| الَّذِينَ | بَدَل مِنْ قَوْله | لِلَّذِينَ اِتَّقَوْا | وَإِنْ شِئْت كَانَ رَفْعًا أَيْ هُمْ الَّذِينَ , أَوْ نَصْبًا عَلَى الْمَدْح .|رَبَّنَا|أَيْ يَا رَبّنَا .|إِنَّنَا آمَنَّا|أَيْ صَدَّقْنَا .|فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا|دُعَاء بِالْمَغْفِرَةِ .|وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ|أَصْل | قِنَا | وَقِنَا حُذِفَتْ الْوَاو كَمَا حُذِفَتْ فِي يَقِي وَيَشِي , لِأَنَّهَا بَيْنَ يَاء وَكَسْرَة , مِثْل يَعِد ; هَذَا قَوْل الْبَصْرِيِّينَ . وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ : حُذِفَتْ فَرْقًا بَيْن اللَّازِم وَالْمُتَعَدِّي . قَالَ مُحَمَّد بْن يَزِيد : هَذَا خَطَأ ; لِأَنَّ الْعَرَب تَقُول : وَرِمَ يَرِم ; فَيَحْذِفُونَ الْوَاو . وَالْمُرَاد بِالْآيَةِ الدُّعَاء فِي أَلَّا يَكُون الْمَرْء مِمَّنْ يَدْخُلهَا بِمَعَاصِيهِ وَتُخْرِجهُ الشَّفَاعَة . وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون دُعَاء مُؤَكِّدًا لِطَلَبِ دُخُول الْجَنَّة ; لِتَكُونَ الرَّغْبَة فِي مَعْنَى النَّجَاة وَالْفَوْز مِنْ الطَّرَفَيْنِ ; كَمَا قَالَ أَحَد الصَّحَابَة لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا إِنَّمَا أَقُول فِي دُعَائِي : اللَّهُمَّ أَدْخِلْنِي الْجَنَّة وَعَافِنِي مِنْ النَّار , وَلَا أَدْرِي مَا دَنْدَنَتك وَلَا دَنْدَنَة مُعَاذ . فَقَالَ لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( حَوْلهَا نُدَنْدِن ) خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنه وَابْن مَاجَهْ أَيْضًا .

الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ

يَعْنِي عَنْ الْمَعَاصِي وَالشَّهَوَات , وَقِيلَ : عَلَى الطَّاعَات .|وَالصَّادِقِينَ|أَيْ فِي الْأَفْعَال وَالْأَقْوَال|وَالْقَانِتِينَ|| الطَّائِعِينَ .|وَالْمُنْفِقِينَ|يَعْنِي فِي سَبِيل اللَّه . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَة هَذِهِ الْمَعَانِي عَلَى الْكَمَال . فَفَسَّرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَة أَحْوَال الْمُتَّقِينَ الْمَوْعُودِينَ بِالْجَنَّاتِ .|وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ|اُخْتُلِفَ فِي مَعْنَى قَوْله تَعَالَى : | وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ | فَقَالَ أَنَس بْن مَالِك : هُمْ السَّائِلُونَ الْمَغْفِرَة . قَتَادَة : الْمُصَلُّونَ .</p><p>قُلْت : وَلَا تَنَاقُض , فَإِنَّهُمْ يُصَلُّونَ وَيَسْتَغْفِرُونَ . وَخَصَّ السَّحَر بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ مَظَانّ الْقَبُول وَوَقْت إِجَابَة الدُّعَاء . قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ يَعْقُوب عَلَيْهِ السَّلَام لِبَنِيهِ : | سَوْفَ أَسْتَغْفِر لَكُمْ رَبِّي | [ يُوسُف : 98 ] : ( أَنَّهُ أَخَّرَ ذَلِكَ إِلَى السَّحَر ) خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيّ وَسَيَأْتِي . وَسَأَلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِبْرِيل ( أَيّ اللَّيْل أَسْمَع ) ؟ فَقَالَ : ( لَا أَدْرِي غَيْر أَنَّ الْعَرْش يَهْتَزّ عِنْد السَّحَر ) . يُقَال سَحَر وَسَحْر , بِفَتْحِ الْحَاء وَسُكُونهَا , وَقَالَ الزَّجَّاج : السَّحَر مِنْ حِين يُدْبِر اللَّيْل إِلَى أَنْ يَطْلُع الْفَجْر الثَّانِي , وَقَالَ اِبْن زَيْد : السَّحَر هُوَ سُدُس اللَّيْل الْآخِر .</p><p>قُلْت : أَصَحّ مِنْ هَذَا مَا رَوَى الْأَئِمَّة عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( يَنْزِل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ إِلَى سَمَاء الدُّنْيَا كُلّ لَيْلَة حِينَ يَمْضِي ثُلُث اللَّيْل الْأَوَّل فَيَقُول أَنَا الْمَلِك أَنَا الْمَلِك مَنْ ذَا الَّذِي يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيب لَهُ مَنْ ذَا الَّذِي يَسْأَلنِي فَأُعْطِيه مَنْ ذَا الَّذِي يَسْتَغْفِرنِي فَأغْفِر لَهُ فَلَا يَزَال كَذَلِكَ حَتَّى يَطْلُع الْفَجْر ) فِي رِوَايَة | حَتَّى يَنْفَجِر الصُّبْح | لَفْظ مُسْلِم . وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي تَأْوِيله ; وَأَوْلَى مَا قِيلَ فِيهِ مَا جَاءَ فِي كِتَاب النَّسَائِيّ مُفَسَّرًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَة وَأَبِي سَعِيد رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا قَالَا : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ يُمْهِل حَتَّى يَمْضِيَ شَطْر اللَّيْل الْأَوَّل ثُمَّ يَأْمُر مُنَادِيًا فَيَقُول هَلْ مِنْ دَاعٍ يُسْتَجَاب لَهُ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِر يُغْفَر لَهُ هَلْ مِنْ سَائِل يُعْطَى ) . صَحَّحَهُ أَبُو مُحَمَّد عَبْد الْحَقّ , وَهُوَ يَرْفَع الْإِشْكَال وَيُوَضِّح كُلّ اِحْتِمَال , وَأَنَّ الْأَوَّل مِنْ بَاب حَذْف الْمُضَاف , أَيْ يَنْزِل مَلَك رَبّنَا فَيَقُول . وَقَدْ رُوِيَ | يُنْزِل | بِضَمِّ الْيَاء , وَهُوَ يُبَيِّن مَا ذَكَرْنَا , وَبِاَللَّهِ تَوْفِيقنَا . وَقَدْ أَتَيْنَا عَلَى ذِكْره فِي | الْكِتَاب الْأَسْنَى فِي شَرْج أَسْمَاء اللَّه الْحُسْنَى وَصِفَاته الْعُلَى | .</p><p>مَسْأَلَة : الِاسْتِغْفَار مَنْدُوب إِلَيْهِ , وَقَدْ أَثْنَى اللَّه تَعَالَى عَلَى الْمُسْتَغْفِرِينَ فِي هَذِهِ الْآيَة وَغَيْرهَا فَقَالَ : | وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ | [ الذَّارِيَات : 18 ] . وَقَالَ أَنَس بْن مَالِك : أُمِرْنَا أَنْ نَسْتَغْفِر بِالسَّحَرِ سَبْعِينَ اسْتِغْفَارَة . وَقَالَ سُفْيَان الثَّوْرِيّ : بَلَغَنِي أَنَّهُ إِذَا كَانَ أَوَّل اللَّيْل نَادَى مُنَادٍ لِيُقِيمَ الْقَانِتُونَ فَيَقُومُونَ كَذَلِكَ يُصَلُّونَ إِلَى السَّحَر , فَإِذَا كَانَ عِنْد السَّحَر نَادَى مُنَادٍ : أَيْنَ الْمُسْتَغْفِرُونَ فَيَسْتَغْفِر أُولَئِكَ , وَيَقُوم آخَرُونَ فَيُصَلُّونَ فَيَلْحَقُونَ بِهِمْ . فَإِذَا طَلَعَ الْفَجْر نَادَى مُنَادٍ : أَلَا لِيَقُمْ الْغَافِلُونَ فَيَقُومُونَ مِنْ فُرُشهمْ كَالْمَوْتَى نُشِرُوا مِنْ قُبُورهمْ . وَرُوِيَ عَنْ أَنَس سَمِعْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( إِنَّ اللَّه يَقُول إِنِّي لَأَهُمّ بِعَذَابِ أَهْل الْأَرْض فَإِذَا نَظَرْت إِلَى عُمَّار بُيُوتِي وَإِلَى الْمُتَحَابِّينَ فِيَّ وَإِلَى الْمُتَهَجِّدِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ صَرَفْت عَنْهُمْ الْعَذَاب بِهِمْ ) . قَالَ مَكْحُول : إِذَا كَانَ فِي أُمَّة خَمْسَةَ عَشَرَ رَجُلًا يَسْتَغْفِرُونَ اللَّه كُلّ يَوْم خَمْسًا وَعِشْرِينَ مَرَّة لَمْ يُؤَاخِذ اللَّه تِلْكَ الْأُمَّة بِعَذَابِ الْعَامَّة . وَذَكَرَهُ أَبُو نُعَيْم فِي كِتَاب الْحِلْيَة لَهُ . وَقَالَ نَافِع : كَانَ اِبْن عُمَر يَحْيَى اللَّيْل ثُمَّ يَقُول : يَا نَافِع أَسْحَرْنَا ؟ فَأَقُول لَا . فَيُعَاوِد الصَّلَاة ثُمَّ يَسْأَل , فَإِذَا قُلْت نَعَمْ قَعَدَ يَسْتَغْفِر . وَرَوَى إِبْرَاهِيم بْن حَاطِب عَنْ أَبِيهِ قَالَ : سَمِعْت رَجُلًا فِي السَّحَر فِي نَاحِيَة الْمَسْجِد يَقُول : يَا رَبّ , أَمَرْتنِي فَأَطَعْتُك , وَهَذَا سَحَر فَاغْفِرْ لِي . فَنَظَرْت فَإِذَا هُوَ اِبْن مَسْعُود .</p><p>قُلْت : فَهَذَا كُلّه يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ اِسْتِغْفَار بِاللِّسَانِ مَعَ حُضُور الْقَلْب . لَا مَا قَالَ اِبْن زَيْد أَنَّ الْمُرَاد بِالْمُسْتَغْفِرِينَ الَّذِينَ يُصَلُّونَ صَلَاة الصُّبْح فِي جَمَاعَة . وَاَللَّه أَعْلَم . وَقَالَ لُقْمَان لِابْنِهِ : ( يَا بُنَيّ لَا يَكُنْ الدِّيك أَكْيَس مِنْك , يُنَادِي بِالْأَسْحَارِ وَأَنْتَ نَائِم ) . وَالْمُخْتَار مِنْ لَفْظ الِاسْتِغْفَار مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيّ عَنْ شَدَّاد بْن أَوْس , وَلَيْسَ لَهُ فِي الْجَامِع غَيْره , عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( سَيِّد الِاسْتِغْفَار أَنْ تَقُول اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إِلَه إِلَّا أَنْتَ خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدك وَأَنَا عَلَى عَهْدك وَوَعْدك مَا اِسْتَطَعْت أَعُوذ بِك مِنْ شَرّ مَا صَنَعْت أَبُوء لَك بِنِعْمَتِك عَلَيَّ وَأَبُوء بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِر الذُّنُوب إِلَّا أَنْتَ - قَالَ - وَمَنْ قَالَهَا مِنْ النَّهَار مُوقِنًا بِهَا فَمَاتَ مِنْ يَوْمه قَبْل أَنْ يُمْسِيَ فَهُوَ مِنْ أَهْل الْجَنَّة وَمَنْ قَالَهَا مِنْ اللَّيْل وَهُوَ مُوقِن بِهَا فَمَاتَ مِنْ لَيْله قَبْل أَنْ يُصْبِح فَهُوَ مِنْ أَهْل الْجَنَّة ) . وَرَوَى أَبُو مُحَمَّد عَبْد الْغَنِيّ بْن سَعِيد مِنْ حَدِيث اِبْن لَهِيعَة عَنْ أَبِي صَخْر عَنْ أَبِي مُعَاوِيَة عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر عَنْ أَبِي الصَّهْبَاء الْبَكْرِيّ عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ بِيَدِ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ ثُمَّ قَالَ : ( أَلَّا أُعَلِّمك كَلِمَات تَقُولهُنَّ لَوْ كَانَتْ ذُنُوبك كَمَدَبِّ النَّمْل - أَوْ كَمَدَبِّ الذَّرّ لَغَفَرَهَا اللَّه لَك عَلَى أَنَّهُ مَغْفُور لَك : اللَّهُمَّ لَا إِلَه إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانك عَمِلْت سُوءًا وَظَلَمْت نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِر الذُّنُوب إِلَّا أَنْتَ ) .

شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ

فِيهِ أَرْبَع مَسَائِل </subtitle>[ الْأُولَى ] قَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر : كَانَ حَوْل الْكَعْبَة ثَلَاثمِائَةٍ وَسِتُّونَ صَنَمًا , فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة خَرَرْنَ سُجَّدًا . وَقَالَ الْكَلْبِيّ : لَمَّا ظَهَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ قَدِمَ عَلَيْهِ حَبْرَانِ مِنْ أَحْبَار أَهْل الشَّام ; فَلَمَّا أَبْصَرَا الْمَدِينَة قَالَ أَحَدهمَا لِصَاحِبِهِ : مَا أَشْبَهَ هَذِهِ الْمَدِينَة بِصِفَةِ مَدِينَة النَّبِيّ الَّذِي يَخْرُج فِي آخِر الزَّمَان . فَلَمَّا دَخَلَا عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَفَاهُ بِالصِّفَةِ وَالنَّعْت , فَقَالَا لَهُ : أَنْتَ مُحَمَّد ؟ قَالَ ( نَعَمْ ) . قَالَا : وَأَنْتَ أَحْمَد ؟ قَالَ : ( نَعَمْ ) . قَالَا : نَسْأَلك عَنْ شَهَادَة , فَإِنْ أَنْتَ أَخْبَرْتنَا بِهَا آمَنَّا بِك وَصَدَّقْنَاك . فَقَالَ لَهُمَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( سَلَانِي ) . فَقَالَا : أَخْبِرْنَا عَنْ أَعْظَم شَهَادَة فِي كِتَاب اللَّه . فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى عَلَى نَبِيّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ | شَهِدَ اللَّه أَنَّهُ لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَة وَأُولُو الْعِلْم قَائِمًا بِالْقِسْطِ | فَأَسْلَمَ الرَّجُلَانِ وَصَدَّقَا بِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ الْمُرَاد بِأُولِي الْعِلْم الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِمْ السَّلَام . وَقَالَ اِبْن كَيْسَان : الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَار . مُقَاتِل : مُؤْمِنُو أَهْل الْكِتَاب السُّدِّيّ وَالْكَلْبِيّ : الْمُؤْمِنُونَ كُلّهمْ ; وَهُوَ الْأَظْهَر لِأَنَّهُ عَامّ . [ الثَّانِيَة ] فِي هَذِهِ الْآيَة دَلِيل عَلَى فَضْل الْعِلْم وَشَرَف الْعُلَمَاء وَفَضْلهمْ ; فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ أَحَد أَشْرَفَ مِنْ الْعُلَمَاء لَقَرَنَهُمْ اللَّه بِاسْمِهِ وَاسْم مَلَائِكَته كَمَا قَرَنَ اِسْم الْعُلَمَاء . وَقَالَ فِي شَرَف الْعِلْم لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : | وَقُلْ رَبّ زِدْنِي عِلْمًا | [ طَه : 114 ] . فَلَوْ كَانَ شَيْء أَشْرَف مِنْ الْعِلْم لَأَمَرَ اللَّه تَعَالَى نَبِيّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَسْأَلهُ الْمَزِيد مِنْهُ كَمَا أَمَرَ أَنْ يَسْتَزِيدهُ مِنْ الْعِلْم . وَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ الْعُلَمَاء وَرَثَة الْأَنْبِيَاء ) . وَقَالَ : ( الْعُلَمَاء أُمَنَاء اللَّه عَلَى خَلْقه ) . وَهَذَا شَرَف لِلْعُلَمَاءِ عَظِيم , وَمَحَلّ لَهُمْ فِي الدِّين خَطِير . وَخَرَّجَ أَبُو مُحَمَّد عَبْد الْغَنِيّ الْحَافِظ مِنْ حَدِيث بَرَكَة بْن نَشِيط - وَهُوَ عَنْكَل بْن حكارك وَتَفْسِيره بَرَكَة بْن نَشِيط - وَكَانَ حَافِظًا , حَدَّثَنَا عُمَر بْن الْمُؤَمَّل حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أَبِي الْخَصِيب حَدَّثَنَا عَنْكَل حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن إِسْحَاق حَدَّثَنَا شَرِيك عَنْ أَبِي إِسْحَاق عَنْ الْبَرَاء قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( الْعُلَمَاء وَرَثَة الْأَنْبِيَاء يُحِبّهُمْ أَهْل السَّمَاء وَيَسْتَغْفِر لَهُمْ الْحِيتَان فِي الْبَحْر إِذَا مَاتُوا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ) وَفَى هَذَا الْبَاب حَدِيث عَنْ أَبِي الدَّرْدَاء خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُد . [ الثَّالِثَة ] رَوَى غَالِب الْقَطَّان قَالَ : أَتَيْت الْكُوفَة فِي تِجَارَة فَنَزَلْت قَرِيبًا مِنْ الْأَعْمَش فَكُنْت أَخْتَلِف إِلَيْهِ . فَلَمَّا كَانَ لَيْلَة أَرَدْت أَنْ أَنْحَدِر إِلَى الْبَصْرَة قَامَ فَتَهَجَّدَ مِنْ اللَّيْل فَقَرَأَ بِهَذِهِ الْآيَة : | شَهِدَ اللَّه أَنَّهُ لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَة وَأُولُو الْعِلْم قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم . إِنَّ الدِّين عِنْد اللَّه الْإِسْلَام | [ آل عِمْرَان : 18 - 19 ] , قَالَ الْأَعْمَش : وَأَنَا أَشْهَدُ بِمَا شَهِدَ اللَّه بِهِ , وَأَسْتَوْدِع اللَّه هَذِهِ الشَّهَادَة , وَهِيَ لِي عِنْد اللَّه وَدِيعَة , وَإِنَّ الدِّين عِنْد اللَّه الْإِسْلَام - قَالَهَا مِرَارًا - فَغَدَوْت إِلَيْهِ وَوَدَّعْته ثُمَّ قُلْت : إِنِّي سَمِعْتُك تَقْرَأ هَذِهِ الْآيَة فَمَا بَلَغَك فِيهَا ؟ أَنَا عِنْدك مُنْذُ سَنَة لَمْ تُحَدِّثنِي بِهِ . قَالَ : وَاَللَّه لَا حَدَّثْتُك بِهِ سَنَة . قَالَ : فَأَقَمْت وَكَتَبْت عَلَى بَابه ذَلِكَ الْيَوْم , فَلَمَّا مَضَتْ السَّنَة قُلْت : يَا أَبَا مُحَمَّد قَدْ مَضَتْ السَّنَة . قَالَ : حَدَّثَنِي أَبُو وَائِل , عَنْ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يُجَاء بِصَاحِبِهَا يَوْم الْقِيَامَة فَيَقُول اللَّه تَعَالَى عَبْدِي عَهِدَ إِلَيَّ وَأَنَا أَحَقّ مَنْ وَفَّى أَدْخِلُوا عَبْدِي الْجَنَّة ) . قَالَ أَبُو الْفَرَج الْجَوْزِيّ : غَالِب الْقَطَّان هُوَ غَالِب بْن خَطَّاف الْقَطَّان , يَرْوِي عَنْ الْأَعْمَش حَدِيث ( شَهِدَ اللَّه ) وَهُوَ حَدِيث مُعْضَل . قَالَ اِبْن عَدِيّ الضَّعْف عَلَى حَدِيثه بَيِّن . وَقَالَ أَحْمَد بْن حَنْبَل : غَالِب بْن خَطَّاف الْقَطَّان ثِقَة ثِقَة . وَقَالَ اِبْن مَعِين : ثِقَة . وَقَالَ أَبُو حَاتِم : صَدُوق صَالِح . قُلْت : يَكْفِيك مِنْ عَدَالَته وَثِقَته أَنْ خَرَّجَ لَهُ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم فِي كِتَابَيْهِمَا , وَحَسْبك . وَرُوِيَ مِنْ حَدِيث أَنَس عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( مَنْ قَرَأَ شَهِدَ اللَّه أَنَّهُ لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَة وَأُولُو الْعِلْم قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم عِنْد مَنَامه خَلَقَ اللَّه لَهُ سَبْعِينَ أَلْف مَلَك يَسْتَغْفِرُونَ لَهُ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ) . وَيُقَال مَنْ أَقَرَّ بِهَذِهِ الشَّهَادَة عَنْ عَقْد مِنْ قَلْبه فَقَدْ قَامَ بِالْعَدْلِ . وَرُوِيَ عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر أَنَّهُ قَالَ : كَانَ حَوْل الْكَعْبَة ثَلَاثمِائَةِ وَسِتُّونَ صَنَمًا لِكُلِّ حَيّ مِنْ أَحْيَاء الْعَرَب صَنَم أَوْ صَنَمَانِ . فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة أَصْبَحَتْ الْأَصْنَام قَدْ خَرَّتْ سَاجِدَة لِلَّهِ . [ الرَّابِعَة ] قَوْله تَعَالَى : | شَهِدَ اللَّه | أَيْ بَيَّنَ وَأَعْلَمَ ; كَمَا يُقَال : شَهِدَ فُلَان عِنْد الْقَاضِي إِذَا بَيَّنَ وَأَعْلَمَ لِمَنْ الْحَقّ , أَوْ عَلَى مَنْ هُوَ . قَالَ الزَّجَّاج : الشَّاهِد هُوَ الَّذِي يَعْلَم الشَّيْء وَيُبَيِّنهُ ; فَقَدْ دَلَّنَا اللَّه تَعَالَى عَلَى وَحْدَانِيّته بِمَا خَلَقَ وَبَيَّنَ . وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة : | شَهِدَ اللَّه | بِمَعْنَى قَضَى اللَّه , أَيْ أَعْلَمَ . وَقَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا مَرْدُود مِنْ جِهَات . وَقَرَأَ الْكِسَائِيّ بِفَتْحِ | أَنَّ | فِي قَوْله | أَنَّهُ لَا إِلَه إِلَّا هُوَ | وَقَوْله | أَنَّ الدِّين | . قَالَ الْمُبَرِّد : التَّقْدِير : أَنَّ الدِّين عِنْد اللَّه الْإِسْلَام بِأَنَّهُ لَا إِلَه إِلَّا هُوَ , ثُمَّ حُذِفَتْ الْبَاء كَمَا قَالَ : أَمَرْتُك الْخَيْر . أَيْ بِالْخَيْرِ . قَالَ الْكِسَائِيّ : أَنْصِبهُمَا جَمِيعًا , بِمَعْنَى شَهِدَ اللَّه أَنَّهُ كَذَا , وَأَنَّ الَّذِينَ عِنْد اللَّه . قَالَ اِبْن كَيْسَان : | أَنَّ | الثَّانِيَة بَدَل مِنْ الْأُولَى ; لِأَنَّ الْإِسْلَام تَفْسِير الْمَعْنَى الَّذِي هُوَ التَّوْحِيد . وَقَرَأَ اِبْن عَبَّاس فِيمَا حَكَى الْكِسَائِيّ | شَهِدَ اللَّه إِنَّهُ | | بِالْكَسْرِ | | أَنَّ الدِّين | بِالْفَتْحِ . وَالتَّقْدِير : شَهِدَ اللَّه أَنَّ الدِّين الْإِسْلَام , ثُمَّ اِبْتِدَاء فَقَالَ : إِنَّهُ لَا إِلَه إِلَّا هُوَ . وَقَرَأَ أَبُو الْمُهْلِب وَكَانَ قَارِئًا - شُهَدَاء اللَّه بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَال , وَعَنْهُ | شُهَدَاء اللَّه | . وَرَوَى شُعْبَة عَنْ عَاصِم عَنْ زِرّ عَنْ أُبَيّ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأ | أَنَّ الدِّين عِنْد اللَّه الْحَنِيفِيَّة لَا الْيَهُودِيَّة وَلَا النَّصْرَانِيَّة وَلَا الْمَجُوسِيَّة | . قَالَ أَبُو بَكْر الْأَنْبَارِيّ : وَلَا يَخْفَى عَلَى ذِي تَمْيِيز أَنَّ هَذَا الْكَلَام مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جِهَة التَّفْسِير , أَدْخَلَهُ بَعْض مَنْ نَقَلَ الْحَدِيث فِي الْقُرْآن . و | قَائِمًا | نَصْب عَلَى الْحَال الْمُؤَكَّدَة مِنْ اِسْمه تَعَالَى فِي قَوْله | شَهِدَ اللَّه | أَوْ مِنْ قَوْله | إِلَّا هُوَ | . وَقَالَ الْفَرَّاء : هُوَ نَصْب عَلَى الْقَطْع , كَانَ أَصْله الْقَائِم , فَلَمَّا قُطِعَتْ الْأَلِف وَاللَّام نُصِبَ كَقَوْلِهِ : | وَلَهُ الدِّين وَاصِبًا | [ النَّحْل : 52 ] . وَفِي قِرَاءَة عَبْد اللَّه | الْقَائِم بِالْقِسْطِ | عَلَى النَّعْت , وَالْقِسْط الْعَدْل . | لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم | كَرَّرَ لِأَنَّ الْأُولَى حَلَّتْ مَحَلّ الدَّعْوَى , وَالشَّهَادَة الثَّانِيَة حَلَّتْ مَحَلّ الْحُكْم . وَقَالَ جَعْفَر الصَّادِق : الْأُولَى وَصْف وَتَوْحِيد , وَالثَّانِيَة رَسْم وَتَعْلِيم ; يَعْنِي قُولُوا لَا إِلَه إِلَّا اللَّه الْعَزِيز الْحَكِيم .

إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآَيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ

إِنَّ الدِّين عِنْد اللَّه الْإِسْلَام | الدِّين فِي هَذِهِ الْآيَة الطَّاعَة وَالْمِلَّة , وَالْإِسْلَام بِمَعْنَى الْإِيمَان وَالطَّاعَات ; قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَة , وَعَلَيْهِ جُمْهُور الْمُتَكَلِّمِينَ . وَالْأَصْل فِي مُسَمَّى الْإِيمَان وَالْإِسْلَام التَّغَايُر ; لِحَدِيثِ جِبْرِيل . وَقَدْ يَكُون بِمَعْنَى الْمُرَادَفَة . فَيُسَمَّى كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا بِاسْمِ الْآخَر ; كَمَا فِي حَدِيث وَفْد عَبْد الْقَيْس وَأَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَحْده وَقَالَ : ( هَلْ تَدْرُونَ مَا الْإِيمَان ) ؟ قَالُوا : اللَّه وَرَسُوله أَعْلَم . قَالَ : ( شَهَادَة أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّه وَإِقَام الصَّلَاة وَإِيتَاء الزَّكَاة وَصَوْم رَمَضَان وَأَنْ تُؤَدُّوا خُمُسًا مِنْ الْمَغْنَم ) الْحَدِيث . وَكَذَلِكَ قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( الْإِيمَان بِضْع وَسَبْعُونَ بَابًا فَأَدْنَاهَا إِمَاطَة الْأَذَى وَأَرْفَعهَا قَوْل لَا إِلَه إِلَّا اللَّه ) أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ . وَزَادَ مُسْلِم ( وَالْحَيَاء شُعْبَة مِنْ الْإِيمَان ) . وَيَكُون أَيْضًا بِمَعْنَى التَّدَاخُل وَهُوَ أَنْ يُطْلَق أَحَدهمَا وَيُرَاد بِهِ مُسَمَّاهُ فِي الْأَصْل وَمُسَمَّى الْآخَر , كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَة إِذْ قَدْ دَخَلَ فِيهَا التَّصْدِيق وَالْأَعْمَال ; وَمِنْهُ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( الْإِيمَان مَعْرِفَة بِالْقَلْبِ وَقَوْل بِاللِّسَانِ وَعَمَل بِالْأَرْكَانِ ) . أَخْرَجَهُ اِبْن مَاجَهْ , وَقَدْ تَقَدَّمَ وَالْحَقِيقَة هُوَ الْأَوَّل وَضْعًا وَشَرْعًا وَمَا عَدَاهُ مِنْ بَاب التَّوَسُّع وَاَللَّه أَعْلَم .|وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ|أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ اِخْتِلَاف أَهْل الْكِتَاب أَنَّهُ كَانَ عَلَى عِلْم مِنْهُمْ بِالْحَقَائِقِ , وَأَنَّهُ كَانَ بَغْيًا وَطَلَبًا لِلدُّنْيَا . قَالَ اِبْن عُمَر وَغَيْره . وَفِي الْكَلَام تَقْدِيم وَتَأْخِير , وَالْمَعْنَى : وَمَا اِخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب بَغْيًا بَيْنهمْ إِلَّا مِنْ بَعْد مَا جَاءَهُمْ الْعِلْم ; قَالَهُ الْأَخْفَش . قَالَ مُحَمَّد بْن جَعْفَر بْن الزُّبَيْر : الْمُرَاد بِهَذِهِ الْآيَة النَّصَارَى , وَهِيَ تَوْبِيخ لِنَصَارَى نَجْرَان . وَقَالَ الرَّبِيع بْن أَنَس : الْمُرَاد بِهَا الْيَهُود . وَلَفْظ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب يَعُمّ الْيَهُود وَالنَّصَارَى ; أَيْ | وَمَا اِخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب | يَعْنِي فِي نُبُوَّة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ|إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ|يَعْنِي بَيَان صِفَته وَنُبُوَّته فِي كُتُبهمْ . وَقِيلَ : أَيْ وَمَا اِخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْإِنْجِيل فِي أَمْر عِيسَى وَفَرَّقُوا فِيهِ الْقَوْل إِلَّا مِنْ بَعْد مَا جَاءَهُمْ الْعِلْم بِأَنَّ اللَّه إِلَه وَاحِد , وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّه وَرَسُوله .|بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ|نُصِبَ عَلَى الْمَفْعُول مِنْ أَجْله , أَوْ عَلَى الْحَال مِنْ ( الَّذِينَ ) وَاَللَّه تَعَالَى أَعْلَم .

فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ

أَيْ جَادَلُوك بِالْأَقَاوِيلِ الْمُزَوَّرَة وَالْمُغَالَطَات , فَأَسْنِدْ أَمْرك إِلَى مَا كُلِّفْت مِنْ الْإِيمَان وَالتَّبْلِيغ وَعَلَى اللَّه نَصْرك . وَقَوْله | وَجْهِي | بِمَعْنَى ذَاتِي ; وَمِنْهُ الْحَدِيث ( سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ وَصَوَّرَهُ ) . وَقِيلَ : الْوَجْه هُنَا بِمَعْنَى الْقَصْد ; كَمَا تَقُول : خَرَجَ فُلَان فِي وَجْه كَذَا . وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْبَقَرَة مُسْتَوْفًى ; وَالْأَوَّل أَوْلَى . وَعَبَّرَ بِالْوَجْهِ عَنْ سَائِر الذَّات إِذْ هُوَ أَشْرَف أَعْضَاء الشَّخْص وَأَجْمَعهَا لِلْحَوَاسِّ . وَقَالَ : <br>أَسْلَمْت وَجْهِي لِمَنْ أَسْلَمَتْ .......... لَهُ الْمُزْن تَحْمِل عَذْبًا زُلَالَا <br>وَقَدْ قَالَ حُذَّاق الْمُتَكَلِّمِينَ فِي قَوْله تَعَالَى : | وَيَبْقَى وَجْه رَبّك | [ الرَّحْمَن : 27 ] : إِنَّهَا عِبَارَة عَنْ الذَّات وَقِيلَ : الْعَمَل الَّذِي يُقْصَد بِهِ وَجْهه .|وَمَنِ اتَّبَعَنِ|| مِنْ | فِي مَحَلّ رَفْع عَطْفًا عَلَى التَّاء فِي قَوْله | أَسْلَمْت | أَيْ وَمَنْ اِتَّبَعَنِي أَسْلَمَ أَيْضًا , وَجَازَ الْعَطْف عَلَى الضَّمِير الْمَرْفُوع مِنْ غَيْر تَأْكِيد لِلْفَصْلِ بَيْنهمَا . وَأَثْبَتَ نَافِع وَأَبَا عَمْرو وَيَعْقُوب يَاء | اِتَّبَعَنِي | عَلَى الْأَصْل , وَحَذَفَ الْآخَرُونَ اِتِّبَاعًا لِلْمُصْحَفِ إِذْ وَقَعَتْ فِيهِ بِغَيْرِ يَاء . وَقَالَ الشَّاعِر : <br>لَيْسَ تُخْفِي يَسَارَتِي قَدْر يَوْم .......... وَلَقَدْ تُخْفِي شِيمَتِي إِعْسَارِي<br>|وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ|يَعْنِي الْيَهُود وَالنَّصَارَى | وَالْأُمِّيِّينَ | الَّذِينَ لَا كِتَاب لَهُمْ وَهُمْ مُشْرِكُو الْعَرَب . | أَأَسْلَمْتُمْ | اِسْتِفْهَام مَعْنَاهُ التَّقْرِير وَفِي ضِمْنه الْأَمْر , أَيْ أَسْلِمُوا ; كَذَا قَالَ الطَّبَرِيّ وَغَيْره . وَقَالَ الزَّجَّاج : | أَأَسْلَمْتُمْ | تَهْدِيد . وَهَذَا حَسَن لِأَنَّ الْمَعْنَى أَأَسْلَمْتُمْ أَمْ لَا . وَجَاءَتْ الْعِبَارَة فِي قَوْله | فَقَدْ اِهْتَدَوْا | بِالْمَاضِي مُبَالَغَة فِي الْإِخْبَار بِوُقُوعِ الْهَدْي لَهُمْ وَتَحْصِيله . و | الْبَلَاغ | مَصْدَر بَلَغَ بِتَخْفِيفِ عَيْن الْفِعْل , أَيْ إِنَّمَا عَلَيْك أَنْ تُبَلِّغ . وَقِيلَ : إِنَّهُ مِمَّا نُسِخَ بِالْجِهَادِ . وَقَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا يَحْتَاج إِلَى مَعْرِفَة تَارِيخ نُزُولهَا ; وَأَمَّا عَلَى ظَاهِر نُزُول هَذِهِ الْآيَات فِي وَفْد نَجْرَان فَإِنَّمَا الْمَعْنَى فَإِنَّمَا عَلَيْك أَنْ تُبَلِّغ مَا أُنْزِلَ إِلَيْك بِمَا فِيهِ مِنْ قِتَال وَغَيْره .

إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ

فِيهِ سِتّ مَسَائِل </subtitle>[ الْأُولَى ] قَوْله تَعَالَى : | إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّه وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ | قَالَ أَبُو الْعَبَّاس الْمُبَرِّد : كَانَ نَاس مِنْ بَنِي إِسْرَائِيل جَاءَهُمْ النَّبِيُّونَ يَدْعُونَهُمْ إِلَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فَقَتَلُوهُمْ , فَقَامَ أُنَاس مِنْ بَعْدهمْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فَأَمَرُوهُمْ بِالْإِسْلَامِ فَقَتَلُوهُمْ ; فَفِيهِمْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة . وَكَذَلِكَ قَالَ مَعْقِل بْن أَبِي مِسْكِين : كَانَتْ الْأَنْبِيَاء صَلَوَات اللَّه عَلَيْهِمْ تَجِيء إِلَى بَنِي إِسْرَائِيل بِغَيْرِ كِتَاب فَيَقْتُلُونَهُمْ , فَيَقُوم قَوْم مِمَّنْ اِتَّبَعَهُمْ فَيَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ , أَيْ بِالْعَدْلِ , فَيُقْتَلُونَ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ اِبْن مَسْعُود قَالَ قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( بِئْسَ الْقَوْم قَوْم يَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنْ النَّاس , بِئْسَ الْقَوْم قَوْم لَا يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا يَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَر , بِئْسَ الْقَوْم قَوْم يَمْشِي الْمُؤْمِن بَيْنهمْ بِالتَّقِيَّةِ ) وَرَوَى أَبُو عُبَيْدَة بْن الْجَرَّاح أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( قَتَلَتْ بَنُو إِسْرَائِيل ثَلَاثَة وَأَرْبَعِينَ نَبِيًّا مِنْ أَوَّل النَّهَار فِي سَاعَة وَاحِدَة فَقَامَ مِائَة رَجُل وَاثْنَا عَشَر رَجُلًا مِنْ عُبَّاد بَنِي إِسْرَائِيل فَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَر فَقُتِلُوا جَمِيعًا فِي آخِر النَّهَار مِنْ ذَلِكَ الْيَوْم وَهُمْ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ اللَّه فِي هَذِهِ الْآيَة ) . ذَكَرَهُ الْمَهْدَوِيّ وَغَيْره . وَرَوَى شُعْبَة عَنْ أَبِي إِسْحَاق عَنْ أَبِي عُبَيْدَة عَنْ عَبْد اللَّه قَالَ : كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيل تَقْتُل الْيَوْم سَبْعِينَ نَبِيًّا ثُمَّ تَقُوم سُوق بَقْلهمْ مِنْ آخِر النَّهَار .</p><p>فَإِنْ قَالَ قَائِل : الَّذِينَ وُعِظُوا بِهَذَا لَمْ يَقْتُلُوا نَبِيًّا . فَالْجَوَاب عَنْ هَذَا أَنَّهُمْ رَضُوا فِعْل مَنْ قَتَلَ فَكَانُوا بِمَنْزِلَتِهِ ; وَأَيْضًا فَإِنَّهُمْ قَاتَلُوا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابه وَهَمُّوا بِقَتْلِهِمْ ; قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : | وَإِذْ يَمْكُر بِك الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوك أَوْ يَقْتُلُوك | [ الْأَنْفَال : 30 ] . [ الثَّانِيَة ] دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَة عَلَى أَنَّ الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر كَانَ وَاجِبًا فِي الْأُمَم الْمُتَقَدِّمَة , وَهُوَ فَائِدَة الرِّسَالَة وَخِلَافَة النُّبُوَّة . قَالَ الْحَسَن قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ أَمَرَ بِالْمَعْرُوفِ أَوْ نَهَى عَنْ الْمُنْكَر فَهُوَ خَلِيفَة اللَّه فِي أَرْضه وَخَلِيفَة رَسُوله وَخَلِيفَة كِتَابه ) . وَعَنْ دُرَّة بِنْت أَبِي لَهَب قَالَتْ : جَاءَ رَجُل إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَر فَقَالَ : مَنْ خَيْر النَّاس يَا رَسُول اللَّه ؟ قَالَ : ( آمِرهمْ بِالْمَعْرُوفِ وَأَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنْكَر وَأَتْقَاهُمْ لِلَّهِ وَأَوْصَلهمْ لِرَحِمِهِ ) . وَفِي التَّنْزِيل : | الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَات بَعْضهمْ مِنْ بَعْض يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمَعْرُوف | [ التَّوْبَة : 67 ] ثُمَّ قَالَ : | وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَات بَعْضهمْ أَوْلِيَاء بَعْض يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَر | [ التَّوْبَة : 71 ] . فَجَعَلَ تَعَالَى الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر فَرْقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ ; فَدَلَّ عَلَى أَنَّ أَخَصّ أَوْصَاف الْمُؤْمِن الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر , وَرَأْسهَا الدُّعَاء إِلَى الْإِسْلَام وَالْقِتَال عَلَيْهِ . ثُمَّ إِنَّ الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ لَا يَلِيق بِكُلِّ أَحَد , وَإِنَّمَا يَقُوم بِهِ السُّلْطَان إِذْ كَانَتْ إِقَامَة الْحُدُود إِلَيْهِ , وَالتَّعْزِيز إِلَى رَأْيه , وَالْحَبْس وَالْإِطْلَاق لَهُ , وَالنَّفْي وَالتَّغْرِيب ; فَيَنْصِب فِي كُلّ بَلْدَة رَجُلًا صَالِحًا قَوِيًّا عَالِمًا أَمِينًا وَيَأْمُرهُ بِذَلِكَ , وَيُمْضِي الْحُدُود عَلَى وَجْههَا مِنْ غَيْر زِيَادَة . قَالَ اللَّه تَعَالَى : | الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهمْ فِي الْأَرْض أَقَامُوا الصَّلَاة وَآتَوْا الزَّكَاة وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَر | [ الْحَجّ : 41 ] . [ الثَّالِثَة ] وَلَيْسَ مِنْ شَرْط النَّاهِي أَنْ يَكُون عَدْلًا عِنْد أَهْل السُّنَّة , خِلَافًا لِلْمُبْتَدِعَةِ حَيْثُ تَقُول : لَا يُغَيِّرهُ إِلَّا عَدْل . وَهَذَا سَاقِط ; فَإِنَّ الْعَدَالَة مَحْصُورَة فِي الْقَلِيل مِنْ الْخَلْق , وَالْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر عَامّ فِي جَمِيع النَّاس . فَإِنْ تَشَبَّثُوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : | أَتَأْمُرُونَ النَّاس بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسكُمْ | [ الْبَقَرَة : 44 ] وَقَوْله : | كَبُرَ مَقْتًا عِنْد اللَّه أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ | [ الصَّفّ : 3 ] وَنَحْوه , قِيلَ لَهُمْ : إِنَّمَا وَقَعَ الذَّمّ هَاهُنَا عَلَى اِرْتِكَاب مَا نُهِيَ عَنْهُ لَا عَلَى نَهْيه عَنْ الْمُنْكَر . وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ النَّهْي عَنْهُ مِمَّنْ يَأْتِيه أَقْبَح مِمَّنْ لَا يَأْتِيه , وَلِذَلِكَ يَدُور فِي جَهَنَّم كَمَا يَدُور الْحِمَار بِالرَّحَى , كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي الْبَقَرَة عِنْد قَوْله تَعَالَى : | أَتَأْمُرُونَ النَّاس بِالْبِرِّ | [ الْبَقَرَة : 44 ] . [ الرَّابِعَة ] أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ فِيمَا ذُكِرَ اِبْن عَبْد الْبَرّ أَنَّ الْمُنْكَر وَاجِب تَغْيِيره عَلَى كُلّ مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ , وَإِنَّهُ إِذَا لَمْ يَلْحَقهُ بِتَغْيِيرِهِ إِلَّا اللَّوْم الَّذِي لَا يَتَعَدَّى إِلَى الْأَذَى فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَجِب أَنْ يَمْنَعهُ مِنْ تَغْيِيره ; فَإِنْ لَمْ يَقْدِر فَبِلِسَانِهِ , فَإِنْ لَمْ يَقْدِر فَبِقَلْبِهِ لَيْسَ عَلَيْهِ أَكْثَر مِنْ ذَلِكَ . وَإِذَا أَنْكَرَ بِقَلْبِهِ فَقَدْ أَدَّى مَا عَلَيْهِ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ سِوَى ذَلِكَ . قَالَ : وَالْأَحَادِيث عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَأْكِيد الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر كَثِيرَة جِدًّا وَلَكِنَّهَا مُقَيَّدَة بِالِاسْتِطَاعَةِ . قَالَ الْحَسَن : إِنَّمَا يُكَلَّم مُؤْمِن يُرْجَى أَوْ جَاهِل يُعَلَّم ; فَأَمَّا مَنْ وَضَعَ سَيْفه أَوْ سَوْطه فَقَالَ : اِتَّقِنِي اِتَّقِنِي فَمَا لَك وَلَهُ . وَقَالَ اِبْن مَسْعُود : بِحَسْب الْمَرْء إِذَا رَأَى مُنْكَرًا لَا يَسْتَطِيع تَغْيِيره أَنْ يَعْلَم اللَّه مِنْ قَلْبه أَنَّهُ لَهُ كَارِه . وَرَوَى اِبْن لَهِيعَة عَنْ الْأَعْرَج عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا يَحِلّ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يُذِلّ نَفْسه ) . قَالُوا : يَا رَسُول اللَّه وَمَا إِذْلَاله نَفْسه ؟ قَالَ : ( يَتَعَرَّض مِنْ الْبَلَاء لِمَا لَا يَقُوم لَهُ ) .</p><p>قُلْت : وَخَرَّجَهُ اِبْن مَاجَهْ عَنْ عَلِيّ بْن زَيْد بْن جُدْعَان عَنْ الْحَسَن بْن جُنْدُب عَنْ حُذَيْفَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَكِلَاهُمَا قَدْ تُكُلِّمَ فِيهِ . وَرُوِيَ عَنْ بَعْض الصَّحَابَة أَنَّهُ قَالَ : إِنَّ الرَّجُل إِذَا رَأَى مُنْكَرًا لَا يَسْتَطِيع النَّكِير عَلَيْهِ فَلْيَقُلْ ثَلَاث مَرَّات | اللَّهُمَّ إِنَّ هَذَا مُنْكَر | فَإِذَا قَالَ ذَلِكَ فَقَدْ فَعَلَ مَا عَلَيْهِ , وَزَعَمَ اِبْن الْعَرَبِيّ أَنَّ مَنْ رَجَا زَوَاله وَخَافَ عَلَى نَفْسه مِنْ تَغْيِيره الضَّرْب أَوْ الْقَتْل جَازَ لَهُ عِنْد أَكْثَر الْعُلَمَاء الِاقْتِحَام عِنْد هَذَا الْغَرَر , وَإِنْ لَمْ يَرْجُ زَوَاله فَأَيّ فَائِدَة عِنْده . قَالَ : وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّ النِّيَّة إِذَا خَلَصَتْ فَلْيَقْتَحِمْ كَيْفَ مَا كَانَ وَلَا يُبَالِي .</p><p>قُلْت : هَذَا خِلَاف مَا ذَكَرَهُ أَبُو عُمَر مِنْ الْإِجْمَاع . وَهَذِهِ الْآيَة تَدُلّ عَلَى جَوَاز الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر مَعَ خَوْف الْقَتْل . وَقَالَ تَعَالَى : | وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنْكَر وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَك | [ لُقْمَان : 17 ] . وَهَذَا إِشَارَة إِلَى الْإِذَايَة . [ الْخَامِسَة ] رَوَى الْأَئِمَّة عَنْ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ قَالَ : سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَف الْإِيمَان ) . قَالَ الْعُلَمَاء : الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ بِالْيَدِ عَلَى الْأُمَرَاء , وَبِاللِّسَانِ عَلَى الْعُلَمَاء , وَبِالْقَلْبِ عَلَى الضُّعَفَاء , يَعْنِي عَوَامّ النَّاس . فَالْمُنْكَر إِذَا أَمْكَنَتْ إِزَالَته بِاللِّسَانِ لِلنَّاهِي فَلْيَفْعَلْهُ , وَإِنْ لَمْ يُمْكِنهُ إِلَّا بِالْعُقُوبَةِ أَوْ بِالْقَتْلِ فَلْيَفْعَلْ , فَإِنْ زَالَ بِدُونِ الْقَتْل لَمْ يَجُزْ الْقَتْل ; وَهَذَا تُلُقِّيَ مِنْ قَوْل اللَّه تَعَالَى : | فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيء إِلَى أَمْر اللَّه | [ الْحُجُرَات : 9 ] . وَعَلَيْهِ بَنَى الْعُلَمَاء أَنَّهُ إِذَا دَفَعَ الصَّائِل عَلَى النَّفْس أَوْ عَلَى الْمَال عَنْ نَفْسه أَوْ عَنْ مَاله أَوْ نَفْس غَيْره فَلَهُ ذَلِكَ وَلَا شَيْء عَلَيْهِ . وَلَوْ رَأَى زَيْد عَمْرًا وَقَدْ قَصَدَ مَال بَكْر فَيَجِب عَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعهُ عَنْهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ صَاحِب الْمَال قَادِرًا عَلَيْهِ وَلَا رَاضِيًا بِهِ ; حَتَّى لَقَدْ قَالَ الْعُلَمَاء : لَوْ فَرَضْنَا قَوَدًا . وَقِيلَ : كُلّ بَلْدَة يَكُون فِيهَا أَرْبَعَة فَأَهْلهَا مَعْصُومُونَ مِنْ الْبَلَاء : إِمَام عَادِل لَا يَظْلِم , وَعَالِم عَلَى سَبِيل الْهُدَى , وَمَشَايِخ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَر وَيُحَرِّضُونَ عَلَى طَلَب الْعِلْم وَالْقُرْآن , وَنِسَاؤُهُمْ مَسْتُورَات لَا يَتَبَرَّجْنَ تَبَرُّج الْجَاهِلِيَّة الْأُولَى . [ السَّادِسَة ] رَوَى أَنَس بْن مَالِك قَالَ : قِيلَ يَا رَسُول اللَّه , مَتَى نَتْرُك الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر ؟ قَالَ : ( إِذَا ظَهَرَ فِيكُمْ مَا ظَهَرَ فِي الْأُمَم قَبْلكُمْ ) . قُلْنَا : يَا رَسُول اللَّه وَمَا ظَهَرَ فِي الْأُمَم قَبْلنَا ؟ قَالَ : ( الْمُلْك فِي صِغَاركُمْ وَالْفَاحِشَة فِي كِبَاركُمْ وَالْعِلْم فِي رُذَالَتكُمْ ) . قَالَ زَيْد : تَفْسِير مَعْنَى قَوْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( وَالْعِلْم فِي رُذَالَتكُمْ ) إِذَا كَانَ الْعِلْم فِي الْفُسَّاق . خَرَّجَهُ اِبْن مَاجَهْ . وَسَيَأْتِي لِهَذَا الْبَاب مَزِيد بَيَان فِي | الْمَائِدَة | وَغَيْرهَا إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى وَتَقَدَّمَ مَعْنَى | فَبَشِّرْهُمْ |

أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ

أَيْ بَطَلَتْ وَفَسَدَتْ ; وَمِنْهُ الْحَبَط وَهُوَ فَسَاد يَلْحَق الْمَوَاشِي فِي بُطُونهَا مِنْ كَثْرَة أَكْلهَا الْكَلَأ فَتَنْتَفِخ أَجْوَافهَا ,

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ

فِيهِ ثَلَاث مَسَائِل </subtitle>[ الْأُولَى ] قَالَ اِبْن عَبَّاس : هَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ بِسَبَبِ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ بَيْت الْمِدْرَاس عَلَى جَمَاعَة مِنْ يَهُود فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّه . فَقَالَ لَهُ نُعَيْم بْن عَمْرو وَالْحَارِث بْن زَيْد : عَلَى أَيِّ دِين أَنْتَ يَا مُحَمَّد ؟ فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنِّي عَلَى مِلَّة إِبْرَاهِيم ) . فَقَالَا : فَإِنَّ إِبْرَاهِيم كَانَ يَهُودِيًّا . فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( فَهَلُمُّوا إِلَى التَّوْرَاة فَهِيَ بَيْننَا وَبَيْنكُمْ ) . فَأَبَيَا عَلَيْهِ فَنَزَلَتْ الْآيَة . وَذَكَرَ النَّقَّاش أَنَّهَا نَزَلَتْ لِأَنَّ جَمَاعَة مِنْ الْيَهُود أَنْكَرُوا نُبُوَّة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَقَالَ لَهُمْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( هَلُمُّوا إِلَى التَّوْرَاة فَفِيهَا صِفَتِي ) فَأَبَوْا . وَقَرَأَ الْجُمْهُور | لِيَحْكُم | وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَر يَزِيد بْن الْقَعْقَاع | لِيُحْكَم | بِضَمِّ الْيَاء . وَالْقِرَاءَة الْأُولَى أَحْسَن ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى : | هَذَا كِتَابنَا يَنْطِق عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ | [ الْجَاثِيَة : 29 ] . [ الثَّانِيَة ] فِي هَذِهِ الْآيَة دَلِيل عَلَى وُجُوب اِرْتِفَاع الْمَدْعُوّ إِلَى الْحَاكِم لِأَنَّهُ دُعِيَ إِلَى كِتَاب اللَّه ; فَإِنْ لَمْ يَفْعَل كَانَ مُخَالِفًا يَتَعَيَّن عَلَيْهِ الزَّجْر بِالْأَدَبِ عَلَى قَدْر الْمُخَالِف وَالْمُخَالَف . وَهَذَا الْحُكْم جَارٍ عِنْدنَا بِالْأَنْدَلُسِ وَبِلَاد الْمَغْرِب وَلَيْسَ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّة . وَهَذَا الْحُكْم الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مُبَيَّن فِي التَّنْزِيل فِي سُورَة | النُّور | فِي قَوْله تَعَالَى : | وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّه وَرَسُوله لِيَحْكُم بَيْنهمْ إِذَا فَرِيق مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ | إِلَى قَوْله | بَلْ أُولَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ | [ النُّور : 48 - 49 - 50 ] . وَأَسْنَدَ الزُّهْرِيّ عَنْ الْحَسَن أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ دَعَاهُ خَصْمه إِلَى حَاكِم مِنْ حُكَّام الْمُسْلِمِينَ فَلَمْ يُجِب فَهُوَ ظَالِم وَلَا حَقّ لَهُ ) . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهَذَا حَدِيث بَاطِل . أَمَّا قَوْله | فَهُوَ ظَالِم | فَكَلَام صَحِيح . وَأَمَّا قَوْله | فَلَا حَقّ لَهُ | فَلَا يَصِحّ , وَيَحْتَمِل أَنْ يُرِيد أَنَّهُ عَلَى غَيْر الْحَقّ . قَالَ اِبْن خُوَيْز مَنْدَاد الْمَالِكِيّ : وَاجِب عَلَى كُلّ مَنْ دُعِيَ إِلَى مَجْلِس الْحَاكِم أَنْ يُجِيب مَا لَمْ يَعْلَم أَنَّ الْحَاكِم فَاسِق , أَوْ يَعْلَم عَدَاؤُهُ مِنْ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ . [ الثَّالِثَة ] وَفِيهَا دَلِيل عَلَى أَنَّ شَرَائِع مَنْ قَبْلنَا شَرِيعَة لَنَا إِلَّا مَا عَلِمْنَا نَسْخه , وَإِنَّهُ يَجِب عَلَيْنَا الْحُكْم بِشَرَائِع الْأَنْبِيَاء قَبْلنَا , عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه . وَإِنَّمَا لَا نَقْرَأ التَّوْرَاة وَلَا نَعْمَل بِمَا فِيهَا لِأَنَّ مَنْ هِيَ فِي يَده غَيْر أَمِين عَلَيْهَا وَقَدْ غَيَّرَهَا وَبَدَّلَهَا , وَلَوْ عَلِمْنَا أَنَّ شَيْئًا مِنْهَا لَمْ يَتَغَيَّر وَلَمْ يَتَبَدَّل جَازَ لَنَا قِرَاءَته . وَنَحْو ذَلِكَ رُوِيَ عَنْ عُمَر حَيْثُ قَالَ لِكَعْبٍ : إِنْ كُنْت تَعْلَم أَنَّهَا التَّوْرَاة الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّه عَلَى مُوسَى بْن عِمْرَان فَاقْرَأْهَا . وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَام عَالِمًا بِمَا لَمْ يُغَيَّر مِنْهَا فَلِذَلِكَ دَعَاهُمْ إِلَيْهَا وَإِلَى الْحُكْم بِهَا . وَسَيَأْتِي بَيَان هَذَا فِي | الْمَائِدَة | وَالْأَخْبَار الْوَارِدَة فِي ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ هَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ وَاَللَّه أَعْلَم .

ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ

إِشَارَة إِلَى التَّوَلِّي وَالْإِعْرَاض , وَاغْتِرَار مِنْهُمْ فِي قَوْلهمْ : | نَحْنُ أَبْنَاء اللَّه وَأَحِبَّاؤُهُ | [ الْمَائِدَة : 18 ] إِلَى غَيْر ذَلِكَ مِنْ أَقْوَالهمْ وَقَدْ مَضَى الْكَلَام فِي مَعْنَى قَوْلهمْ : | لَنْ تَمَسّنَا النَّار | فِي الْبَقَرَة .

فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ

خِطَاب لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّته عَلَى جِهَة التَّوْقِيف وَالتَّعَجُّب , أَيْ فَكَيْفَ يَكُون حَالهمْ أَوْ كَيْفَ يَصْنَعُونَ إِذَا حُشِرُوا يَوْم الْقِيَامَة وَاضْمَحَلَّتْ عَنْهُمْ تِلْكَ الزَّخَارِف الَّتِي اِدَّعَوْهَا فِي الدُّنْيَا , وَجُوزُوا بِمَا اِكْتَسَبُوهُ مِنْ كُفْرهمْ وَاجْتِرَائِهِمْ وَقَبِيح أَعْمَالهمْ . وَاللَّام فِي قَوْله | لِيَوْمٍ | بِمَعْنَى | فِي | ; قَالَ الْكِسَائِيّ , وَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ : الْمَعْنَى لِحِسَابِ يَوْم , الطَّبَرِيّ : لِمَا يَحْدُث فِي يَوْم .

قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ

قَالَ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَمَّا أَرَادَ اللَّه تَعَالَى أَنْ يُنَزِّل فَاتِحَة الْكِتَاب وَآيَة الْكُرْسِيّ وَشَهِدَ اللَّه وَقُلْ اللَّهُمَّ مَالِك الْمُلْك إِلَى قَوْله بِغَيْرِ حِسَاب تَعَلَّقْنَ بِالْعَرْشِ وَلَيْسَ بَيْنهنَّ وَبَيْنَ اللَّه حِجَاب وَقُلْنَ يَا رَبّ تَهْبِط بِنَا دَار الذُّنُوب وَإِلَى مَنْ يَعْصِيك فَقَالَ اللَّه تَعَالَى وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَا يَقْرَأكُنَّ عَقِب كُلّ صَلَاة مَكْتُوبَة إِلَّا أَسْكَنْته حَظِيرَة الْقُدُس عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ , وَإِلَّا نَظَرْت إِلَيْهِ بِعَيْنِي الْمَكْنُونَة فِي كُلّ يَوْم سَبْعِينَ نَظْرَة , وَإِلَّا قَضَيْت لَهُ فِي كُلّ يَوْم سَبْعِينَ حَاجَة أَدْنَاهَا الْمَغْفِرَة , وَإِلَّا أَعَذْته مِنْ كُلّ عَدُوّ وَنَصَرْته عَلَيْهِ وَلَا يَمْنَعهُ مِنْ دُخُول الْجَنَّة إِلَّا أَنْ يَمُوت ) . وَقَالَ مُعَاذ بْن جَبَل : اِحْتَبَسْت عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فَلَمْ أُصَلِّ مَعَهُ الْجُمُعَة فَقَالَ : ( يَا مُعَاذ مَا مَنَعَك مِنْ صَلَاة الْجُمُعَة ) ؟ قُلْت : يَا رَسُول اللَّه , كَانَ لِيُوحَنَّا بْن باريا الْيَهُودِيّ عَلَيَّ أُوقِيَّة مِنْ تِبْر وَكَانَ عَلَى بَابِي يَرْصُدنِي فَأَشْفَقْت أَنْ يَحْبِسنِي دُونك . قَالَ : ( أَتُحِبُّ يَا مُعَاذ أَنْ يَقْضِيَ اللَّه دَيْنك ) ؟ قُلْت نَعَمْ . قَالَ : ( قُلْ كُلّ يَوْم قُلْ اللَّهُمَّ مَالِك الْمُلْك - إِلَى قَوْله - بِغَيْرِ حِسَاب رَحْمَن الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَرَحِيمهمَا تُعْطِي مِنْهُمَا مَنْ تَشَاء وَتَمْنَع مِنْهُمَا مَنْ تَشَاء اِقْضِ عَنِّي دَيْنِي فَلَوْ كَانَ عَلَيْك مِلْء الْأَرْض ذَهَبًا لَأَدَّاهُ اللَّه عَنْك ) . خَرَّجَهُ أَبُو نُعَيْم الْحَافِظ , أَيْضًا عَنْ عَطَاء الْخُرَاسَانِيّ أَنَّ مُعَاذ بْن جَبَل قَالَ : عَلَّمَنِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آيَات مِنْ الْقُرْآن - أَوْ كَلِمَات - مَا فِي الْأَرْض مُسْلِم يَدْعُو بِهِنَّ وَهُوَ مَكْرُوب أَوْ غَارِم أَوْ ذُو دَيْن إِلَّا قَضَى اللَّه عَنْهُ وَفَرَّجَ هَمَّهُ , اِحْتَبَسْت عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَذَكَرَهُ . غَرِيب مِنْ حَدِيث عَطَاء أَرْسَلَهُ عَنْ مُعَاذ . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَأَنَس بْن مَالِك : لَمَّا اِفْتَتَحَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّة وَوَعَدَ أُمَّته مُلْك فَارِس وَالرُّوم قَالَ الْمُنَافِقُونَ وَالْيَهُود : هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ مِنْ أَيْنَ لِمُحَمَّدٍ مُلْك فَارِس وَالرُّوم هُمْ أَعَزّ وَأَمْنَع مِنْ ذَلِكَ , أَلَمْ يَكْفِ مُحَمَّدًا مَكَّة وَالْمَدِينَة حَتَّى طَمِعَ فِي مُلْك فَارِس وَالرُّوم ; فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْآيَة . وَقِيلَ : نَزَلَتْ دَامِغَة لِبَاطِلِ نَصَارَى أَهْل نَجْرَان فِي قَوْلهمْ : إِنَّ عِيسَى هُوَ اللَّه ; وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْأَوْصَاف تُبَيِّن لِكُلِّ صَحِيح الْفِطْرَة أَنَّ عِيسَى لَيْسَ فِي شَيْء مِنْهَا . قَالَ اِبْن إِسْحَاق : أَعْلَمَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فِي هَذِهِ الْآيَة بِعِنَادِهِمْ وَكُفْرهمْ , وَأَنَّ عِيسَى صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ كَانَ اللَّه تَعَالَى أَعْطَاهُ آيَات تَدُلّ عَلَى نُبُوَّته مِنْ إِحْيَاء الْمَوْتَى وَغَيْر ذَلِكَ فَإِنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ هُوَ الْمُنْفَرِد بِهَذِهِ الْأَشْيَاء ; مِنْ قَوْله : | تُؤْتِي الْمُلْك مَنْ تَشَاء وَتَنْزِع الْمُلْك مِمَّنْ تَشَاء وَتُعِزّ مَنْ تَشَاء وَتُذِلّ مَنْ تَشَاء | . وَقَوْله : | تُولِج اللَّيْل فِي النَّهَار وَتُولِج النَّهَار فِي اللَّيْل وَتُخْرِج الْحَيّ مِنْ الْمَيِّت وَتُخْرِج الْمَيِّت مِنْ الْحَيّ وَتَرْزُق مَنْ تَشَاء بِغَيْرِ حِسَاب | [ آل عِمْرَان : 27 ] فَلَوْ كَانَ عِيسَى إِلَهًا كَانَ هَذَا إِلَهًا ; فَكَانَ فِي ذَلِكَ اِعْتِبَار وَآيَة بَيِّنَة . | قُلْ اللَّهُمَّ | اِخْتَلَفَ النَّحْوِيُّونَ فِي تَرْكِيب لَفْظَة | اللَّهُمَّ | بَعْد إِجْمَاعهمْ أَنَّهَا مَضْمُومَة الْهَاء مُشَدَّدَة الْمِيم الْمَفْتُوحَة , وَأَنَّهَا مُنَادَى ; وَقَدْ جَاءَتْ مُخَفَّفَة الْمِيم فِي قَوْل الْأَعْشَى : <br>كَدَعْوَةٍ مِنْ أَبِي رَبَاح .......... يَسْمَعهَا اللَّهُمَ الْكُبَار <br>قَالَ الْخَلِيل وَسِيبَوَيْهِ وَجَمِيع الْبَصْرِيِّينَ : إِنَّ أَصْل اللَّهُمَّ يَا اللَّه , فَلَمَّا اُسْتُعْمِلَتْ الْكَلِمَة دُون حَرْف النِّدَاء الَّذِي هُوَ | يَا | جَعَلُوا بَدَله هَذِهِ الْمِيم الْمُشَدَّدَة , فَجَاءُوا بِحَرْفَيْنِ وَهُمَا الْمِيمَانِ عِوَضًا مِنْ حَرْفَيْنِ وَهُمَا الْيَاء وَالْأَلِف , وَالضَّمَّة فِي الْهَاء هِيَ ضَمَّة الِاسْم الْمُنَادَى الْمُفْرَد . وَذَهَبَ الْفَرَّاء وَالْكُوفِيُّونَ إِلَى أَنَّ الْأَصْل فِي اللَّهُمَّ يَا اللَّه أُمّنَا بِخَيْرٍ ; فَحَذَفَ وَخَلَطَ الْكَلِمَتَيْنِ , وَإِنَّ الضَّمَّة الَّتِي فِي الْهَاء هِيَ الضَّمَّة الَّتِي كَانَتْ فِي أُمّنَا لَمَّا حُذِفَتْ الْهَمْزَة اِنْتَقَلَتْ الْحَرَكَة . قَالَ النَّحَّاس : هَذَا عِنْد الْبَصْرِيِّينَ مِنْ الْخَطَإِ الْعَظِيم , وَالْقَوْل فِي هَذَا مَا قَالَ الْخَلِيل وَسِيبَوَيْهِ . قَالَ الزَّجَّاج : مُحَال أَنْ يُتْرَك الضَّمّ الَّذِي هُوَ دَلِيل عَلَى النِّدَاء الْمُفْرَد , وَأَنْ يُجْعَل فِي اِسْم اللَّه ضَمّة أُمّ , هَذَا إِلْحَاد فِي اِسْم اللَّه تَعَالَى . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا غُلُوّ مِنْ الزَّجَّاج , وَزَعَمَ أَنَّهُ مَا سُمِعَ قَطُّ يَا اللَّه أُمّ , وَلَا تَقُول الْعَرَب يَا اللَّهُمَّ . وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ : إِنَّهُ قَدْ يَدْخُل حَرْف النِّدَاء عَلَى | اللَّهُمَّ | وَأَنْشَدُوا عَلَى ذَلِكَ قَوْل الرَّاجِز : <br>غَفَرْتَ أَوْ عَذَّبْت يَا اللَّهُمَّا <br>آخَر : <br>وَمَا عَلَيْكِ أَنْ تَقُولِي كُلَّمَا .......... سَبَّحْت أَوْ هَلَّلْت يَا اللَّهُمَّا <br><br>اُرْدُدْ عَلَيْنَا شَيْخنَا مُسَلَّمَا .......... فَإِنَّنَا مِنْ خَيْره لَنْ نُعْدَمَا <br>آخَر : <br>إِنِّي إِذَا مَا حَدَثٌ أَلَمَّا .......... أَقُولُ يَا اللَّهُمَّ يَا اللَّهُمَّا <br>قَالُوا : فَلَوْ كَانَ الْمِيم عِوَضًا مِنْ حَرْف النِّدَاء لَمَّا اِجْتَمَعَا . قَالَ الزَّجَّاج : وَهَذَا شَاذّ وَلَا يُعْرَف قَائِله , وَلَا يُتْرَك لَهُ مَا كَانَ فِي كِتَاب اللَّه وَفِي جَمِيع دِيوَان الْعَرَب ; وَقَدْ وَرَدَ مِثْله فِي قَوْله : <br>هُمَا نَفَثَا فِي فِيَّ مِنْ فَمَوَيْهِمَا .......... مَا عَلَى النَّابِح الْعَاوِي أَشَدّ رِجَام <br>قَالَ الْكُوفِيُّونَ : وَإِنَّمَا تُزَاد الْمِيم مُخَفَّفَة فِي فَم وَاِبْنُم , وَأَمَّا مِيم مُشَدَّدَة فَلَا تُزَاد . وَقَالَ بَعْض النَّحْوِيِّينَ : مَا قَالَهُ الْكُوفِيُّونَ خَطَأ ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَمَا قَالُوا كَانَ يَجِب أَنْ يُقَال : | اللَّهُمَّ | وَيَقْتَصِر عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مَعَهُ دُعَاء . وَأَيْضًا فَقَدْ تَقُول : أَنْتَ اللَّهُمَّ الرَّزَّاق . فَلَوْ كَانَ كَمَا ادَّعَوْا لَكُنْت قَدْ فَصَلْت بِجُمْلَتَيْنِ بَيْنَ الِابْتِدَاء وَالْخَبَر . قَالَ النَّضْر بْن شُمَيْل : مَنْ قَالَ اللَّهُمَّ فَقَدْ دَعَا اللَّه تَعَالَى بِجَمِيعِ أَسْمَائِهِ كُلّهَا وَقَالَ الْحَسَن : اللَّهُمَّ تَجْمَع الدُّعَاء .|مَالِكَ الْمُلْكِ|قَالَ قَتَادَة : بَلَغَنِي أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُعْطِيَ أُمَّته مُلْك فَارِس فَأَنْزَلَ اللَّه هَذِهِ الْآيَة . وَقَالَ مُقَاتِل : سَأَلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَجْعَل اللَّه لَهُ مُلْك فَارِس وَالرُّوم فِي أُمَّته ; فَعَلَّمَهُ اللَّه تَعَالَى بِأَنْ يَدْعُوَ بِهَذَا الدُّعَاء . وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ . و | مَالِك | مَنْصُوب عِنْد سِيبَوَيْهِ عَلَى أَنَّهُ نِدَاء ثَانٍ ; وَمِثْله قَوْله تَعَالَى : | قُلْ اللَّهُمَّ فَاطِر السَّمَوَات وَالْأَرْض | [ الزُّمَر : 46 ] وَلَا يَجُوز عِنْده أَنْ يُوصَف اللَّهُمَّ لِأَنَّهُ قَدْ ضُمَّتْ إِلَيْهِ الْمِيم . وَخَالَفَهُ مُحَمَّد بْن يَزِيد وَإِبْرَاهِيم بْن السَّرِيّ الزَّجَّاج فَقَالَا : | مَالِك | فِي الْإِعْرَاب صِفَة لِاسْمِ اللَّه تَعَالَى , وَكَذَلِكَ | فَاطِر السَّمَوَات وَالْأَرْض | . قَالَ أَبُو عَلِيّ ; هُوَ مَذْهَب أَبِي الْعَبَّاس الْمُبَرِّد ; وَمَا قَالَهُ سِيبَوَيْهِ أَصْوَب وَأَبْيَن ; وَذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْأَسْمَاء الْمَوْصُوفَة شَيْء عَلَى حَدّ | اللَّهُمَّ | لِأَنَّهُ اِسْم مُفْرَد ضُمَّ إِلَيْهِ صَوْت , وَالْأَصْوَات لَا تُوصَف ; نَحْو غَاق وَمَا أَشْبَهَهُ . وَكَانَ حُكْم الِاسْم الْمُفْرَد أَلَّا يُوصَف وَإِنْ كَانُوا قَدْ وَصَفُوهُ فِي مَوَاضِع . فَلَمَّا ضُمَّ هُنَا مَا لَا يُوصَف إِلَى مَا كَانَ قِيَاسه أَلَّا يُوصَف صَارَ بِمَنْزِلَةِ صَوْت ضُمَّ إِلَى صَوْت ; نَحْو حَيْهَل فَلَمْ يُوصَف . و | الْمُلْك | هُنَا النُّبُوَّة ; عَنْ مُجَاهِد . وَقِيلَ , الْغَلَبَة . وَقِيلَ : الْمَال وَالْعَبِيد . الزَّجَّاج : الْمَعْنَى مَالِك الْعِبَاد وَمَا مَلَكُوا . وَقِيلَ : الْمَعْنَى مَالِك الدُّنْيَا وَالْآخِرَة .|تُؤْتِي الْمُلْكَ|أَيْ الْإِيمَان وَالْإِسْلَام . | مَنْ تَشَاء | أَيْ مَنْ تَشَاء أَنْ تُؤْتِيَهُ إِيَّاهُ , وَكَذَلِكَ مَا بَعْده , وَلَا بُدّ فِيهِ مِنْ تَقْدِير الْحَذْف , أَيْ وَتَنْزِع الْمُلْك مِمَّنْ تَشَاء أَنْ تَنْزِعهُ مِنْهُ , ثُمَّ حَذَفَ هَذَا , وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ : <br>أَلَا هَلْ لِهَذَا الدَّهْر مِنْ مُتَعَلَّلِ .......... عَلَى النَّاس مَهْمَا شَاءَ بِالنَّاسِ يَفْعَلِ <br>قَالَ الزَّجَّاج : مَهْمَا شَاءَ أَنْ يَفْعَل بِالنَّاسِ يَفْعَل .|مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ|أَيْ مَنْ تَشَاء أَنْ تُؤْتِيَهُ إِيَّاهُ , وَكَذَلِكَ مَا بَعْده , وَلَا بُدّ فِيهِ مِنْ تَقْدِير الْحَذْف , أَيْ وَتَنْزِع الْمُلْك مِمَّنْ تَشَاء أَنْ تَنْزِعهُ مِنْهُ , ثُمَّ حَذَفَ هَذَا , وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ : <br>أَلَا هَلْ لِهَذَا الدَّهْر مِنْ مُتَعَلَّل .......... عَلَى النَّاس مَهْمَا شَاءَ بِالنَّاسِ يَفْعَل <br>قَالَ الزَّجَّاج : مَهْمَا شَاءَ أَنْ يَفْعَل بِالنَّاسِ يَفْعَل .|وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ|يُقَال : عَزَّ إِذَا عَلَا وَقَهَرَ وَغَلَبَ ; وَمِنْهُ , | وَعَزَّنِي فِي الْخِطَاب | [ ص : 23 ] .|وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ|ذَلَّ يَذِلّ إِذَا غَلَبَ وَعَلَا وَقَهَرَ . قَالَ طَرَفَة : <br>بَطِيءٍ عَنْ الْجُلَّى سَرِيعٍ إِلَى الْخَنَا .......... ذَلِيلٍ بِأَجْمَاعِ الرِّجَالِ مُلَهَّدِ<br>|بِيَدِكَ الْخَيْرُ|أَيْ بِيَدِك الْخَيْر وَالشَّرّ فَحُذِفَ ; كَمَا قَالَ : | سَرَابِيل تَقِيكُمْ الْحَرّ | [ النَّحْل : 81 ] . وَقِيلَ : خَصَّ الْخَيْر لِأَنَّهُ مَوْضِع دُعَاء وَرَغْبَة فِي فَضْله . قَالَ النَّقَّاش : بِيَدِك الْخَيْر , أَيْ النَّصْر وَالْغَنِيمَة . وَقَالَ أَهْل الْإِشَارَات . كَانَ أَبُو جَهْل يَمْلِك الْمَال الْكَثِير , وَوَقَعَ فِي الرَّسّ يَوْم بَدْر , وَالْفُقَرَاء صُهَيْب وَبِلَال وَخَبَّاب لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَال , وَكَانَ مُلْكهمْ الْإِيمَان , | قُلْ اللَّهُمَّ مَالِك الْمُلْك تُؤْتِي الْمُلْك مَنْ تَشَاء | تُقِيم الرَّسُول يَتِيم أَبِي طَالِب عَلَى رَأْس الرَّسّ حَتَّى يُنَادِيَ أَبْدَانًا قَدْ اِنْقَلَبَتْ إِلَى الْقَلِيب : يَا عُتْبَة , يَا شَيْبَة تُعِزّ مَنْ تَشَاء وَتُذِلّ مَنْ تَشَاء . أَيْ صُهَيْب , أَيْ بِلَال , لَا تَعْتَقِدُوا أَنَّا مَنَعْنَاكُمْ مِنْ الدُّنْيَا بِبُغْضِكُمْ . بِيَدِك الْخَيْر مَا مَنْعكُمْ مِنْ عَجْز|إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ|إِنْعَام الْحَقّ عَامّ يَتَوَلَّى مَنْ يَشَاء .

تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ

قَالَ اِبْن عَبَّاس وَمُجَاهِد وَالْحَسَن وقَتَادَة وَالسُّدِّيّ فِي مَعْنَى قَوْله | تُولِج اللَّيْل فِي النَّهَار | الْآيَة , أَيْ تُدْخِل مَا نَقَصَ مِنْ أَحَدهمَا فِي الْآخَر , حَتَّى يَصِير النَّهَار خَمْس عَشْرَة سَاعَة وَهُوَ أَطْوَل مَا يَكُون , وَاللَّيْل تِسْع سَاعَات وَهُوَ أَقْصَر مَا يَكُون . وَكَذَا تُولِج النَّهَار فِي اللَّيْل وَهُوَ قَوْل الْكَلْبِيّ , وَرُوِيَ عَنْ اِبْن مَسْعُود . وَتَحْتَمِل أَلْفَاظ الْآيَة أَنْ يَدْخُل فِيهَا تَعَاقُب اللَّيْل وَالنَّهَار , كَأَنَّ زَوَال أَحَدهمَا وُلُوج فِي الْآخَر .|وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ|وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَى قَوْله تَعَالَى : | وَتُخْرِج الْحَيّ مِنْ الْمَيِّت | فَقَالَ الْحَسَن : مَعْنَاهُ تُخْرِج الْمُؤْمِن مِنْ الْكَافِر وَالْكَافِر مِنْ الْمُؤْمِن , وَرُوِيَ نَحْوه عَنْ سَلْمَان الْفَارِسِيّ . وَرَوَى مَعْمَر عَنْ الزُّهْرِيّ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى نِسَائِهِ فَإِذَا بِامْرَأَةٍ حَسَنَة الْهَيْئَة قَالَ : ( مَنْ هَذِهِ ) ؟ قُلْنَ إِحْدَى خَالَاتك . قَالَ : ( وَمَنْ هِيَ ) ؟ قُلْنَ : هِيَ خَالِدَة بِنْت الْأَسْوَد بْن عَبْد يَغُوث . فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( سُبْحَانَ الَّذِي يُخْرِج الْحَيّ مِنْ الْمَيِّت ) . وَكَانَتْ اِمْرَأَة صَالِحَة وَكَانَ أَبُوهَا كَافِرًا . فَالْمُرَاد عَلَى هَذَا الْقَوْل مَوْت قَلْب الْكَافِر وَحَيَاة قَلْب الْمُؤْمِن ; فَالْمَوْت وَالْحَيَاة مُسْتَعَارَانِ . وَذَهَبَ كَثِير مِنْ الْعُلَمَاء إِلَى أَنَّ الْحَيَاة وَالْمَوْت فِي الْآيَة حَقِيقَتَانِ ; فَقَالَ عِكْرِمَة : هِيَ إِخْرَاج الدَّجَاجَة وَهِيَ حَيَّة مِنْ الْبَيْضَة وَهِيَ مَيِّتَة , وَإِخْرَاج الْبَيْضَة وَهِيَ مَيِّتَة مِنْ الدَّجَاجَة وَهِيَ حَيَّة . وَقَالَ اِبْن مَسْعُود : هِيَ النُّطْفَة تَخْرُج مِنْ الرَّجُل وَهِيَ مَيِّتَة وَهُوَ حَيّ , وَيَخْرُج الرَّجُل مِنْهَا حَيًّا وَهِيَ مَيِّتَة . وَقَالَ عِكْرِمَة وَالسُّدِّيّ : هِيَ الْحَبَّة تَخْرُج مِنْ السُّنْبُلَة وَالسُّنْبُلَة تَخْرُج مِنْ الْحَبَّة , وَالنَّوَاة مِنْ النَّخْلَة وَالنَّخْلَة تَخْرُج مِنْ النَّوَاة ; وَالْحَيَاة فِي النَّخْلَة وَالسُّنْبُلَة تَشْبِيه .|وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ|أَيْ بِغَيْرِ تَضْيِيق وَلَا تَقْتِير ; كَمَا تَقُول : فُلَان يُعْطِي بِغَيْرِ حِسَاب ; كَأَنَّهُ لَا يَحْسِب مَا يُعْطِي .

لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ

قَالَ اِبْن عَبَّاس : نَهَى اللَّه الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُلَاطِفُوا الْكُفَّار فَيَتَّخِذُوهُمْ أَوْلِيَاء ; وَمِثْله | لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَة مِنْ دُونكُمْ | [ آل عِمْرَان 118 ] وَهُنَاكَ يَأْتِي بَيَان هَذَا الْمَعْنَى .|وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ|أَيْ فَلَيْسَ مِنْ حِزْب اللَّه وَلَا مِنْ أَوْلِيَائِهِ فِي شَيْء ; مِثْل | وَاسْأَلْ الْقَرْيَة | [ يُوسُف : 82 ] . وَحَكَى سِيبَوَيْهِ | هُوَ مِنِّي فَرْسَخَيْنِ | أَيْ مِنْ أَصْحَابِي وَمَعِي . ثُمَّ اِسْتَثْنَى فَقَالَ : | إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاة ||إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً|قَالَ مُعَاذ بْن جَبَل وَمُجَاهِد : كَانَتْ التَّقِيَّة فِي جِدَّة الْإِسْلَام قَبْل قُوَّة الْمُسْلِمِينَ ; فَأَمَّا الْيَوْم فَقَدْ أَعَزَّ اللَّه الْإِسْلَام أَنْ يَتَّقُوا مِنْ عَدُوّهُمْ . قَالَ اِبْن عَبَّاس : هُوَ أَنْ يَتَكَلَّم بِلِسَانِهِ وَقَلْبه مُطْمَئِنّ بِالْإِيمَانِ , وَلَا يُقْتَل وَلَا يَأْتِي مَأْثَمًا . وَقَالَ الْحَسَن : التَّقِيَّة جَائِزَة لِلْإِنْسَانِ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة , وَلَا تَقِيَّة فِي الْقَتْل . وَقَرَأَ جَابِر بْن زَيْد وَمُجَاهِد وَالضَّحَّاك : | إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تَقِيَّة | وَقِيلَ : إِنَّ الْمُؤْمِن إِذَا كَانَ قَائِمًا بَيْنَ الْكُفَّار فَلَهُ أَنْ يُدَارِيهِمْ بِاللِّسَانِ إِذَا كَانَ خَائِفًا عَلَى نَفْسه وَقَلْبه مُطْمَئِنّ بِالْإِيمَانِ وَالتَّقِيَّة لَا تَحِلّ إِلَّا مَعَ خَوْف الْقَتْل أَوْ الْقَطْع أَوْ الْإِيذَاء الْعَظِيم . وَمَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْر فَالصَّحِيح أَنَّ لَهُ أَنْ يَتَصَلَّب وَلَا يُجِيب إِلَى التَّلَفُّظ بِكَلِمَةِ الْكُفْر ; بَلْ يَجُوز لَهُ ذَلِكَ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه فِي [ النَّحْل ] إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَأَمَالَ حَمْزَة وَالْكِسَائِيّ | تُقَاة | , وَفَخَّمَ الْبَاقُونَ ; وَأَصْل | تُقَاة | وُقْيَة عَلَى وَزْن فُعْلَة ; مِثْل تُؤَدَة وَتُهْمَة , قُلِّبَتْ الْوَاو تَاء وَالْيَاء أَلِفًا . وَرَوَى الضَّحَّاك عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّ هَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ فِي عُبَادَة بْن الصَّامِت الْأَنْصَارِيّ وَكَانَ بَدْرِيًّا تَقِيًّا وَكَانَ لَهُ حِلْف مِنْ الْيَهُود ; فَلَمَّا خَرَجَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْم الْأَحْزَاب قَالَ عُبَادَة : يَا نَبِيّ اللَّه , إِنَّ مَعِي خَمْسمِائَةِ رَجُل مِنْ الْيَهُود , وَقَدْ رَأَيْت أَنْ يَخْرُجُوا مَعِي فَأَسْتَظْهِر بِهِمْ عَلَى الْعَدُوّ . فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى : | لَا يَتَّخِذ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِنْ دُون الْمُؤْمِنِينَ | الْآيَة . وَقِيلَ : إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَمَّار بْن يَاسِر حِينَ تَكَلَّمَ بِبَعْضِ مَا أَرَادَ مِنْهُ الْمُشْرِكُونَ , عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه فِي [ النَّحْل ] .|وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ|قَالَ الزَّجَّاج : أَيْ وَيُحَذِّركُمْ اللَّه إِيَّاهُ . ثُمَّ اِسْتَغْنُوا عَنْ ذَلِكَ بِذَا وَصَارَ الْمُسْتَعْمَل ; قَالَ تَعَالَى : | تَعْلَم مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَم مَا فِي نَفْسك | [ الْمَائِدَة : 116 ] فَمَعْنَاهُ تَعْلَم مَا عِنْدِي وَمَا فِي حَقِيقَتِي وَلَا أَعْلَم مَا عِنْدك وَلَا مَا فِي حَقِيقَتك . وَقَالَ غَيْره : الْمَعْنَى وَيُحَذِّركُمْ اللَّه عِقَابه ; مِثْل | وَاسْأَلْ الْقَرْيَة | . وَقَالَ : | تَعْلَم مَا فِي نَفْسِي | أَيْ مَغِيبِي , فَجُعِلَتْ النَّفْس فِي مَوْضِع الْإِضْمَار لِأَنَّهُ فِيهَا يَكُون .|وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ|أَيْ وَإِلَى جَزَاء اللَّه الْمَصِير . وَفِيهِ إِقْرَار بِالْبَعْثِ .

قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ

فَهُوَ الْعَالِم بِخَفِيَّاتِ الصُّدُور وَمَا اِشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ , وَبِمَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا اِحْتَوَتْ عَلَيْهِ , عَلَّام الْغُيُوب لَا يَعْزُب عَنْهُ مِثْقَال ذَرَّة وَلَا يَغِيب عَنْهُ شَيْء , سُبْحَانَهُ لَا إِلَه إِلَّا هُوَ عَالِم الْغَيْب وَالشَّهَادَة .

يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ

| يَوْم | مَنْصُوب مُتَّصِل بِقَوْلِهِ : | وَيُحَذِّركُمْ اللَّه نَفْسه . يَوْم تَجِد | . وَقِيلَ : هُوَ مُتَّصِل بِقَوْلِهِ : | وَإِلَى اللَّه الْمَصِير . يَوْم تَجِد | . وَقِيلَ : هُوَ مُتَّصِل بِقَوْلِهِ : | وَاَللَّه عَلَى كُلّ شَيْء قَدِير . يَوْم تَجِد | وَيَجُوز أَنْ يَكُون مُنْقَطِعًا عَلَى إِضْمَار اُذْكُرْ ; وَمِثْله قَوْله : | إِنَّ اللَّه عَزِيز ذُو اِنْتِقَام . يَوْم تُبَدَّل الْأَرْض | [ إِبْرَاهِيم : 47 , 48 ]|مُحْضَرًا|حَال مِنْ الضَّمِير الْمَحْذُوف مِنْ صِلَة | مَا | تَقْدِيره يَوْم تَجِد كُلّ نَفْس , مَا عَمِلْته مِنْ خَيْر مُحْضَرًا . هَذَا عَلَى أَنْ يَكُون | تَجِد | مِنْ وُجْدَان الضَّالَّة .|وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ|و | مَا | مِنْ قَوْله | وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوء | عَطْف عَلَى | مَا | الْأُولَى .|تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا|و | تَوَدّ | فِي مَوْضِع الْحَال مِنْ | مَا | الثَّانِيَة . وَإِنْ جُعِلَتْ | تَجِد | بِمَعْنَى تَعْلَم كَانَ | مَحْضَرًا | الْمَفْعُول الثَّانِي , وَكَذَلِكَ تَكُون | تَوَدّ | فِي مَوْضِع الْمَفْعُول الثَّانِي ; تَقْدِيره يَوْم تَجِد كُلّ نَفْس جَزَاء مَا عَمِلَتْ مُحْضَرًا . وَيَجُوز أَنْ تَكُون | مَا | الثَّانِيَة رَفْعًا بِالِابْتِدَاءِ , و | تَوَدّ | فِي مَوْضِع رَفْع عَلَى أَنَّهُ خَبَر الِابْتِدَاء , وَلَا يَصِحّ أَنْ تَكُون | مَا | بِمَعْنَى الْجَزَاء ; لِأَنَّ | تَوَدّ | مَرْفُوع , وَلَوْ كَانَ مَاضِيًا لَجَازَ أَنْ يَكُون جَزَاء , وَكَانَ يَكُون مَعْنَى الْكَلَام : وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوء وَدَّتْ لَوْ أَنَّ بَيْنهَا وَبَيْنه أَمَدًا بَعِيدًا ; أَيْ كَمَا بَيْنَ الْمَشْرِق وَالْمَغْرِب . وَلَا يَكُون الْمُسْتَقْبَل إِذَا جُعِلَتْ | مَا | لِلشَّرْطِ إِلَّا مَجْزُومًا ; إِلَّا أَنْ تَحْمِلهُ عَلَى تَقْدِير حَذْف الْفَاء , عَلَى تَقْدِير : وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوء فَهِيَ تَوَدّ . أَبُو عَلِيّ : هُوَ قِيَاس قَوْل الْفَرَّاء عِنْدِي ; لِأَنَّهُ قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى : | وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ | [ الْأَنْعَام : 121 ] : إِنَّهُ عَلَى حَذْف الْفَاء . وَالْأَمَد : الْغَايَة , وَجَمْعه آمَاد . وَيُقَال : اِسْتَوْلَى عَلَى الْأَمَد , أَيْ غَلَبَ سَابِقًا . قَالَ النَّابِغَة : <br>إِلَّا لِمِثْلِك أَوْ مَنْ أَنْتَ سَابِقه .......... سَبْق الْجَوَاد إِذَا اِسْتَوْلَى عَلَى الْأَمَد <br>وَالْأَمَد : الْغَضَب . يُقَال : أَمِدَ أَمَدًا , إِذَا غَضِبَ غَضَبًا .|وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ|قَالَ الزَّجَّاج : أَيْ وَيُحَذِّركُمْ اللَّه إِيَّاهُ . ثُمَّ اسْتَغْنَوْا عَنْ ذَلِكَ بِذَا وَصَارَ الْمُسْتَعْمَل ; قَالَ تَعَالَى : | تَعْلَم مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَم مَا فِي نَفْسك | [ الْمَائِدَة : 116 ] فَمَعْنَاهُ تَعْلَم مَا عِنْدِي وَمَا فِي حَقِيقَتِي وَلَا أَعْلَم مَا عِنْدك وَلَا مَا فِي حَقِيقَتك . وَقَالَ غَيْره : الْمَعْنَى وَيُحَذِّركُمْ اللَّه عِقَابه ; مِثْل | وَاسْأَلْ الْقَرْيَة | . وَقَالَ : | تَعْلَم مَا فِي نَفْسِي | أَيْ مَغِيبِي , فَجُعِلَتْ النَّفْس فِي مَوْضِع الْإِضْمَار لِأَنَّهُ فِيهَا يَكُون .

قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ

الْحُبّ : الْمَحَبَّة , وَكَذَلِكَ الْحِبّ بِالْكَسْرِ . وَالْحِبّ أَيْضًا الْحَبِيب ; مِثْل الْخِدْن وَالْخَدِين ; يُقَال أَحَبَّهُ فَهُوَ مُحِبّ , وَحَبَّهُ يَحِبّهُ ( بِالْكَسْرِ ) فَهُوَ مَحْبُوب . قَالَ الْجَوْهَرِيّ : وَهَذَا شَاذّ ; لِأَنَّهُ لَا يَأْتِي فِي الْمُضَاعَف يَفْعَل بِالْكَسْرِ . قَالَ أَبُو الْفَتْح : وَالْأَصْل فِيهِ حَبُبَ كَظَرُفَ , فَأُسْكِنَتْ الْبَاء وَأُدْغِمَتْ فِي الثَّانِيَة . قَالَ اِبْن الدَّهَّان سَعِيد : فِي حَبّ لُغَتَانِ : حَبّ وَأَحَبَّ , وَأَصْل | حَبّ | فِي هَذَا الْبِنَاء حَبُبَ كَظَرُفَ ; يَدُلّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلهمْ : حَبُبْت , وَأَكْثَر مَا وَرَدَ فَعِيل مِنْ فَعُلَ . قَالَ أَبُو الْفَتْح : وَالدَّلَالَة عَلَى أَحَبَّ قَوْله تَعَالَى : | يُحِبّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ | [ الْمَائِدَة : 54 ] بِضَمِّ الْيَاء . و | اِتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّه | [ آل عِمْرَان : 31 ] و | حَبّ | يَرِد عَلَى فَعُلَ لِقَوْلِهِمْ حَبِيب . وَعَلَى فَعُلَ كَقَوْلِهِمْ مَحْبُوب : وَلَمْ يَرِد اِسْم الْفَاعِل مِنْ حَبّ الْمُتَعَدِّي , فَلَا يُقَال : أَنَا حَابّ . وَلَمْ يَرِد اِسْم الْمَفْعُول مِنْ أَفْعَل إِلَّا قَلِيلًا ; كَقَوْلِهِ : <br>مِنِّي بِمَنْزِلَةِ الْمُحَبّ الْمُكْرَم <br>وَحَكَى أَبُو زَيْد : حَبَّبَتْهُ أُحِبّهُ . وَأَنْشَدَ : <br>فَوَاَللَّهِ لَوْلَا تَمْرُهُ مَا حَبَبْته .......... وَلَا كَانَ أَدْنَى مِنْ عُوَيْف وَهَاشِم <br>وَأَنْشَدَ : <br>لَعَمْرك إِنَّنِي وَطِلَابَ مِصْر .......... لَكَالْمُزْدَادِ مِمَّا حَبَّ بُعْدَا <br>وَحَكَى الْأَصْمَعِيّ فَتْح حَرْف الْمُضَارَعَة مَعَ الْيَاء وَحْدهَا . وَالْحُبّ الْخَابِيَة , فَارِسِيّ مُعَرَّب , وَالْجَمْع حِبَاب وَحِبَبَة ; حَكَاهُ الْجَوْهَرِيّ . وَالْآيَة نَزَلَتْ فِي وَفْد نَجْرَان إِذْ زَعَمُوا أَنَّ مَا اِدَّعَوْهُ فِي عِيسَى حِبّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ; قَالَهُ مُحَمَّد بْن جَعْفَر بْن الزُّبَيْر . وَقَالَ الْحَسَن وَابْن جُرَيْج : نَزَلَتْ فِي قَوْم مِنْ أَهْل الْكِتَاب قَالُوا : نَحْنُ الَّذِينَ نُحِبّ رَبّنَا . وَرُوِيَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَالُوا : يَا رَسُول اللَّه , وَاَللَّه إِنَّا لَنُحِبّ رَبّنَا ; فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : | قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّه فَاتَّبِعُونِي | . قَالَ اِبْن عَرَفَة : الْمَحَبَّة عِنْد الْعَرَب إِرَادَة الشَّيْء عَلَى قَصْد لَهُ . وَقَالَ الْأَزْهَرِيّ : مَحَبَّة الْعَبْد لِلَّهِ وَرَسُوله طَاعَته لَهُمَا وَاتِّبَاعه أَمْرهمَا ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : | قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّه فَاتَّبِعُونِي | . وَمَحَبَّة اللَّه لِلْعِبَادِ إِنْعَامه عَلَيْهِمْ بِالْغُفْرَانِ ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : | إِنَّ اللَّه لَا يُحِبّ الْكَافِرِينَ | [ آل عِمْرَان : 32 ] أَيْ لَا يَغْفِر لَهُمْ . وَقَالَ سَهْل بْن عَبْد اللَّه : عَلَامَة حُبّ اللَّه حُبّ الْقُرْآن , وَعَلَامَة حُبّ الْقُرْآن حُبّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَعَلَامَة حُبّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُبّ السُّنَّة ; وَعَلَامَة حُبّ اللَّه وَحُبّ الْقُرْآن وَحُبّ النَّبِيّ وَحُبّ السُّنَّة حُبّ الْآخِرَة , وَعَلَامَة حُبّ الْآخِرَة أَنْ يُحِبّ نَفْسه , وَعَلَامَة حُبّ نَفْسه أَنْ يُبْغِض الدُّنْيَا , وَعَلَامَة بُغْض الدُّنْيَا أَلَّا يَأْخُذ مِنْهَا إِلَّا الزَّاد وَالْبُلْغَة . وَرَوَى أَبُو الدَّرْدَاء عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْله تَعَالَى : | قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّه فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّه | قَالَ : ( عَلَى الْبِرّ وَالتَّقْوَى وَالتَّوَاضُع وَذِلَّة النَّفْس ) خَرَّجَهُ أَبُو عَبْد اللَّه التِّرْمِذِيّ . وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( مَنْ أَرَادَ أَنْ يُحِبّهُ اللَّه فَعَلَيْهِ بِصِدْقِ الْحَدِيث وَأَدَاء الْأَمَانَة وَأَلَّا يُؤْذِيَ جَاره ) . وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ اللَّه إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيل فَقَالَ إِنِّي أَحَبَّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ قَالَ فَيُحِبّهُ جِبْرِيل ثُمَّ يُنَادِي فِي السَّمَاء فَيَقُول إِنَّ اللَّه يُحِبّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ فَيُحِبّهُ أَهْل السَّمَاء - قَالَ - ثُمَّ يُوضَع لَهُ الْقَبُول فِي الْأَرْض , وَإِذَا أَبْغَضَ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيل فَيَقُول إِنِّي أُبْغِض فُلَانًا فَأَبْغِضْهُ قَالَ فَيُبْغِضهُ جِبْرِيل ثُمَّ يُنَادِي فِي أَهْل السَّمَاء إِنَّ اللَّه يُبْغِض فُلَانًا فَأَبْغِضُوهُ - قَالَ - فَيُبْغِضُونَهُ ثُمَّ تُوضَع لَهُ الْبَغْضَاء فِي الْأَرْض ) . وَسَيَأْتِي لِهَذَا مَزِيد بَيَان فِي آخِر سُورَة | مَرْيَم | إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَقَرَأَ أَبُو رَجَاء الْعُطَارِدِيّ ( فَاتْبَعُونِي ) بِفَتْحِ الْبَاء , | وَيَغْفِر لَكُمْ | عَطْف عَلَى | يُحْبِبْكُمْ | . وَرَوَى مَحْبُوب عَنْ أَبِي عَمْرو بْن الْعَلَاء أَنَّهُ أَدْغَمَ الرَّاء مِنْ | يَغْفِر | فِي اللَّام مِنْ | لَكُمْ | . قَالَ النَّحَّاس : لَا يُجِيز الْخَلِيل وَسِيبَوَيْهِ إِدْغَام الرَّاء فِي اللَّام , وَأَبُو عَمْرو أَجَلّ مِنْ أَنْ يَغْلَط فِي مِثْل هَذَا , وَلَعَلَّهُ كَانَ يُخْفِي الْحَرَكَة كَمَا يَفْعَل فِي أَشْيَاء كَثِيرَة .

قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ

فَأَمَرَ بِطَاعَتِهِ جَلَّ وَعَزَّ أَوَّلًا , وَهِيَ اِمْتِثَال أَوَامِره وَاجْتِنَاب نَوَاهِيه , ثُمَّ بِطَاعَةِ رَسُوله ثَانِيًا فِيمَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ | فَإِنْ تَوَلَّوْا | شَرْط , إِلَّا أَنَّهُ مَاضٍ لَا يُعْرَب . وَالتَّقْدِير فَإِنْ تَوَلَّوْا عَلَى كُفْرهمْ وَأَعْرَضُوا عَنْ طَاعَة اللَّه وَرَسُوله|فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ|أَيْ لَا يَرْضَى فِعْلهمْ وَلَا يَغْفِر لَهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ . وَقَالَ | فَإِنَّ اللَّه | وَلَمْ يَقُلْ | فَإِنَّهُ | لِأَنَّ الْعَرَب إِذَا عَظَّمَتْ الشَّيْء أَعَادَتْ ذِكْره ; وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ : <br>لَا أَرَى الْمَوْت يَسْبِق الْمَوْت شَيْء .......... نَغَّصَ الْمَوْت ذَا الْغِنَى وَالْفَقِيرَا<br>

إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ

اِصْطَفَى اِخْتَارَ , وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَة . وَتَقَدَّمَ فِيهَا اِشْتِقَاق آدَم وَكُنْيَته , وَالتَّقْدِير إِنَّ اللَّه اِصْطَفَى دِينهمْ وَهُوَ دِين الْإِسْلَام ; فَحَذَفَ الْمُضَاف . وَقَالَ الزَّجَّاج : اِخْتَارَهُمْ لِلنُّبُوَّةِ عَلَى عَالَمِي زَمَانهمْ . | وَنُوحًا | قِيلَ إِنَّهُ مُشْتَقّ مِنْ نَاحَ يَنُوح , وَهُوَ اِسْم أَعْجَمِيّ إِلَّا أَنَّهُ اِنْصَرَفَ لِأَنَّهُ عَلَى ثَلَاثَة أَحْرُف , وَهُوَ شَيْخ الْمُرْسَلِينَ , وَأَوَّل رَسُول بَعَثَهُ اللَّه إِلَى أَهْل الْأَرْض بَعْد آدَم عَلَيْهِ السَّلَام بِتَحْرِيمِ الْبَنَات وَالْأَخَوَات وَالْعَمَّات وَالْخَالَات وَسَائِر الْقَرَابَات , وَمَنْ قَالَ : إِنَّ إِدْرِيس كَانَ قَبْله مِنْ الْمُؤَرِّخِينَ فَقَدْ وَهِمَ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه فِي | الْأَعْرَاف | إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .|وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ|تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَة مَعْنَى الْآل وَعَلَى مَا يُطْلَق مُسْتَوْفًى . وَفِي الْبُخَارِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : آل إِبْرَاهِيم وَآل عِمْرَان الْمُؤْمِنُونَ مِنْ آل إِبْرَاهِيم وَآل عِمْرَان وَآل يَاسِين وَآل مُحَمَّد ; يَقُول اللَّه تَعَالَى : | إِنَّ أَوْلَى النَّاس بِإِبْرَاهِيم لِلَّذِينَ اِتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيّ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَاَللَّه وَلِيّ الْمُؤْمِنِينَ | [ آل عِمْرَان : 68 ] وَقِيلَ : آل إِبْرَاهِيم إِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق وَيَعْقُوب وَالْأَسْبَاط , وَإِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ آل إِبْرَاهِيم . وَقِيلَ : آل إِبْرَاهِيم نَفْسه , وَكَذَا آل عِمْرَان ; وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : | وَبَقِيَّة مِمَّا تَرَكَ آل مُوسَى وَآل هَارُون | [ الْبَقَرَة : 248 ] . وَفِي الْحَدِيث : ( لَقَدْ أُعْطِيَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِير آل دَاوُد ) ; وَقَالَ الشَّاعِر : <br>وَلَا تَبْكِ مَيْتًا بَعْد مَيْت أَحَبَّهُ .......... عَلِيّ وَعَبَّاس وَآل أَبِي بَكْر <br>وَقَالَ آخَر : <br>يُلَاقِي مِنْ تَذَكُّر آل لَيْلَى .......... كَمَا يَلْقَى السَّلِيمُ مِنْ الْعِدَاد <br>أَرَادَ مِنْ تَذَكُّر لَيْلَى نَفْسهَا . وَقِيلَ : آل عِمْرَان آل إِبْرَاهِيم ; كَمَا قَالَ : | ذُرِّيَّة بَعْضهَا مِنْ بَعْض | [ آل عِمْرَان : 34 ] . وَقِيلَ : الْمُرَاد عِيسَى , لِأَنَّ أُمّه اِبْنَة عِمْرَان . وَقِيلَ : نَفْسه كَمَا ذَكَرْنَا . قَالَ مُقَاتِل : هُوَ عِمْرَان أَبُو مُوسَى وَهَارُون , وَهُوَ عِمْرَان بْن يصهر بن فاهاث بْن لاوى بْن يَعْقُوب . وَقَالَ الْكَلْبِيّ : هُوَ عِمْرَان أَبُو مَرْيَم , وَهُوَ مِنْ وَلَد سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام . وَحَكَى السُّهَيْلِيّ : عِمْرَان بْن ماتان , وَامْرَأَته حَنَّة ( بِالنُّونِ ) . وَخُصَّ هَؤُلَاءِ بِالذِّكْرِ مِنْ بَيْن الْأَنْبِيَاء لِأَنَّ الْأَنْبِيَاء وَالرُّسُل بِقَضِّهِمْ وَقَضِيضهمْ مِنْ نَسْلهمْ . وَلَمْ يَنْصَرِف عِمْرَان لِأَنَّ فِي آخِره أَلِفًا وَنُونًا زَائِدَتَيْنِ . وَمَعْنَى قَوْله : | عَلَى الْعَالَمِينَ | أَيْ عَلَى عَالَمِي زَمَانهمْ , فِي قَوْل أَهْل التَّفْسِير . وَقَالَ التِّرْمِذِيّ الْحَكِيم أَبُو عَبْد اللَّه مُحَمَّد بْن عَلِيّ : جَمِيع الْخَلْق كُلّهمْ . وَقِيلَ | عَلَى الْعَالَمِينَ | : عَلَى جَمِيع الْخَلْق كُلّهمْ إِلَى يَوْم الصُّور , وَذَلِكَ أَنَّ هَؤُلَاءِ رُسُل وَأَنْبِيَاء فَهُمْ صَفْوَة الْخَلْق ; فَأَمَّا مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ جَازَتْ مَرْتَبَته الِاصْطِفَاء لِأَنَّهُ حَبِيب وَرَحْمَة . قَالَ اللَّه تَعَالَى : | وَمَا أَرْسَلْنَاك إِلَّا رَحْمَة لِلْعَالَمِينَ | [ الْأَنْبِيَاء : 107 ] فَالرُّسُل خُلِقُوا لِلرَّحْمَةِ , وَمُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُلِقَ بِنَفْسِهِ رَحْمَة , فَلِذَلِكَ صَارَ أَمَانًا لِلْخَلْقِ , لَمَّا بَعَثَهُ اللَّه أَمِنَ الْخَلْق الْعَذَاب إِلَى نَفْخَة الصُّور . وَسَائِر الْأَنْبِيَاء لَمْ يَحِلُّوا هَذَا الْمَحَلّ ; وَلِذَلِكَ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام : ( أَنَا رَحْمَة مُهْدَاة ) يُخْبِر أَنَّهُ بِنَفْسِهِ رَحْمَة لِلْخَلْقِ مِنْ اللَّه . وَقَوْله ( مُهْدَاة ) أَيْ هَدِيَّة مِنْ اللَّه لِلْخَلْقِ . وَيُقَال : اِخْتَارَ آدَم بِخَمْسَةِ أَشْيَاء : أَوَّلهَا أَنَّهُ خَلَقَهُ بِيَدِهِ فِي أَحْسَن صُورَة بِقُدْرَتِهِ , وَالثَّانِي أَنَّهُ عَلَّمَهُ الْأَسْمَاء كُلّهَا , وَالثَّالِث أَمَرَ الْمَلَائِكَة بِأَنْ يَسْجُدُوا لَهُ , وَالرَّابِع أَسْكَنَهُ الْجَنَّة , وَالْخَامِس جَعَلَهُ أَبَا الْبَشَر . وَاخْتَارَ نُوحًا بِخَمْسَةِ أَشْيَاء : أَوَّلهَا أَنَّهُ جَعَلَهُ أَبَا الْبَشَر ; لِأَنَّ النَّاس كُلّهمْ غَرِقُوا وَصَارَ ذُرِّيَّته هُمْ الْبَاقِينَ , وَالثَّانِي أَنَّهُ أَطَالَ عُمْره ; وَيُقَال : طُوبَى لِمَنْ طَالَ عُمْره وَحَسُنَ عَمَله , وَالثَّالِث أَنَّهُ اِسْتَجَابَ دُعَاءَهُ عَلَى الْكَافِرِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ , وَالرَّابِع أَنَّهُ حَمَلَهُ عَلَى السَّفِينَة , وَالْخَامِس أَنَّهُ كَانَ أَوَّل مَنْ نَسَخَ الشَّرَائِع ; وَكَانَ قَبْل ذَلِكَ لَمْ يَحْرُم تَزْوِيج الْخَالَات وَالْعَمَّات . وَاخْتَارَ إِبْرَاهِيم بِخَمْسَةِ أَشْيَاء : أَوَّلهَا أَنَّهُ جَعَلَهُ أَبَا الْأَنْبِيَاء ; لِأَنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ صُلْبه أَلْف نَبِيّ مِنْ زَمَانه إِلَى زَمَن النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَالثَّانِي أَنَّهُ اِتَّخَذَهُ خَلِيلًا , وَالثَّالِث أَنَّهُ أَنْجَاهُ مِنْ النَّار , وَالرَّابِع أَنَّهُ جَعَلَهُ إِمَامًا لِلنَّاسِ , وَالْخَامِس أَنَّهُ اِبْتَلَاهُ بِالْكَلِمَاتِ فَوَفَّقَهُ حَتَّى أَتَمَّهُنَّ . ثُمَّ قَالَ : | وَآل عِمْرَان | فَإِنْ كَانَ عِمْرَان أَبَا مُوسَى وَهَارُون فَإِنَّمَا اِخْتَارَهُمَا عَلَى الْعَالَمِينَ حَيْثُ بَعَثَ عَلَى قَوْمه الْمَنّ وَالسَّلْوَى وَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنْ الْأَنْبِيَاء فِي الْعَالَم . وَإِنْ كَانَ أَبَا مَرْيَم فَإِنَّهُ اِصْطَفَى لَهُ مَرْيَم بِوِلَادَةِ عِيسَى بِغَيْرِ أَب وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِأَحَدٍ فِي الْعَالَم . وَاَللَّه أَعْلَم .

ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ

تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَة مَعْنَى الذُّرِّيَّة وَاشْتِقَاقهَا . وَهِيَ نَصْب عَلَى الْحَال ; قَالَ الْأَخْفَش . أَيْ فِي حَال كَوْن بَعْضهمْ مِنْ بَعْض , أَيْ ذُرِّيَّة بَعْضهَا مِنْ وَلَد بَعْض . الْكُوفِيُّونَ : عَلَى الْقَطْع . الزَّجَّاج : بَدَل , أَيْ اِصْطَفَى ذُرِّيَّة بَعْضهَا مِنْ بَعْض , وَمَعْنَى بَعْضهَا مِنْ بَعْض , يَعْنِي فِي التَّنَاصُر فِي الدِّين ; كَمَا قَالَ : | الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَات بَعْضهمْ مِنْ بَعْض | [ التَّوْبَة : 67 ] يَعْنِي فِي الضَّلَالَة ; قَالَهُ الْحَسَن وقَتَادَة . وَقِيلَ : فِي الِاجْتِبَاء وَالِاصْطِفَاء وَالنُّبُوَّة . وَقِيلَ : الْمُرَاد بِهِ التَّنَاسُل , وَهَذَا أَضْعَفهَا .

إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ

قَالَ أَبُو عُبَيْدَة : | إِذْ | زَائِدَة . وَقَالَ مُحَمَّد بْن يَزِيد : التَّقْدِير اُذْكُرْ إِذْ . وَقَالَ الزَّجَّاج : الْمَعْنَى وَاصْطَفَى آل عِمْرَان إِذْ قَالَتْ اِمْرَأَة عِمْرَان . وَهِيَ حَنَّة ( بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَة وَالنُّون ) بِنْت فاقود بْن قنبل أُمّ مَرْيَم جَدَّة عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام , وَلَيْسَ بِاسْمٍ عَرَبِيّ وَلَا يُعْرَف فِي الْعَرَبِيَّة حَنَّة اِسْم اِمْرَأَة . وَفِي الْعَرَبِيَّة أَبُو حَنَّة الْبَدْرِيّ , وَيُقَال فِيهِ : أَبُو حَنَّة ( بِالْبَاءِ بِوَاحِدَةٍ ) وَهُوَ أَصَحّ , وَاسْمه عَامِر , وَدَيْر حَنَّة بِالشَّامِ , وَدَيْر آخَر أَيْضًا يُقَال لَهُ كَذَلِكَ ; قَالَ أَبُو نُوَاس : <br>يَا دَيْر حَنَّة مِنْ ذَات الْأُكَيْرَاحِ .......... مَنْ يَصْحُ عَنْك فَإِنِّي لَسْت بِالصَّاحِي <br>وَحَبَّة فِي الْعَرَب كَثِير , مِنْهُمْ أَبُو حَبَّة الْأَنْصَارِيّ , وَأَبُو السَّنَابِل بْن بَعْكك الْمَذْكُور فِي حَدِيث سُبَيْعَة حَبَّة , وَلَا يُعْرَف خُنَّة بِالْخَاءِ الْمَعْجَة إِلَّا بِنْت يَحْيَى بْن أَكْثَم الْقَاضِي , وَهِيَ أُمّ مُحَمَّد بْن نَصْر , وَلَا يُعْرَف جَنَّة ( بِالْجِيمِ ) إِلَّا أَبُو جَنَّة , وَهُوَ خَال ذِي الرُّمَّة الشَّاعِر . كُلّ هَذَا مِنْ كِتَاب اِبْن مَاكُولَا .|رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي|تَقَدَّمَ مَعْنَى النَّذْر , وَأَنَّهُ لَا يَلْزَم الْعَبْد إِلَّا بِأَنْ يَلْزَمهُ نَفْسه . وَيُقَال : إِنَّهَا لَمَّا حَمَلَتْ قَالَتْ : لَئِنْ نَجَّانِي اللَّه وَوَضَعْت مَا فِي بَطْنِي لَجَعَلْته مُحَرَّرًا . وَمَعْنَى | لَك | أَيْ لِعِبَادَتِك . | مُحَرَّرًا | نُصِبَ عَلَى الْحَال , وَقِيلَ : نَعْت لِمَفْعُولِ مَحْذُوف , أَيْ إِنِّي نَذَرْت لَك مَا فِي بَطْنِي غُلَامًا مُحَرَّرًا , وَالْأَوَّل أَوْلَى مِنْ جِهَة التَّفْسِير وَسِيَاق الْكَلَام وَالْإِعْرَاب : أَمَّا الْإِعْرَاب فَإِنَّ إِقَامَة النَّعْت مَقَام الْمَنْعُوت لَا يَجُوز فِي مَوَاضِع , وَيَجُوز عَلَى الْمَجَاز فِي أُخْرَى , وَأَمَّا التَّفْسِير فَقِيلَ إِنَّ سَبَب قَوْل اِمْرَأَة عِمْرَان هَذَا أَنَّهَا كَانَتْ كَبِيرَة لَا تَلِد , وَكَانُوا أَهْل بَيْت مِنْ اللَّه بِمَكَانٍ , وَإِنَّهَا كَانَتْ تَحْت شَجَرَة فَبَصُرَتْ بِطَائِرٍ يَزُقّ فَرْخًا فَتَحَرَّكَتْ نَفْسهَا لِذَلِكَ , وَدَعَتْ رَبّهَا أَنْ يَهَب لَهَا وَلَدًا , وَنَذَرَتْ إِنْ وَلَدَتْ أَنْ تَجْعَل وَلَدهَا مُحَرَّرًا : أَيْ عَتِيقًا خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى , خَادِمًا لِلْكَنِيسَةِ حَبِيسًا عَلَيْهَا , مُفَرَّغًا لِعِبَادَةِ اللَّه تَعَالَى . وَكَانَ ذَلِكَ جَائِزًا فِي شَرِيعَتهمْ , وَكَانَ عَلَى أَوْلَادهمْ أَنْ يُطِيعُوهُمْ . فَلَمَّا وَضَعَتْ مَرْيَم قَالَتْ : | رَبّ إِنِّي وَضَعْتهَا أُنْثَى | يَعْنِي أَنَّ الْأُنْثَى لَا تَصْلُح لِخِدْمَةِ الْكَنِيسَة . قِيلَ لِمَا يُصِيبهَا مِنْ الْحَيْض وَالْأَذَى . وَقِيلَ : لَا تَصْلُح لِمُخَالَطَةِ الرِّجَال . وَكَانَتْ تَرْجُو أَنْ يَكُون ذَكَرًا فَلِذَلِكَ حُرِّرَتْ .</p><p>قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : | لَا خِلَاف أَنَّ اِمْرَأَة عِمْرَان لَا يَتَطَرَّق إِلَى حَمْلهَا نَذْر لِكَوْنِهَا حُرَّة , فَلَوْ كَانَتْ اِمْرَأَته أَمَة فَلَا خِلَاف أَنَّ الْمَرْء لَا يَصِحّ لَهُ نَذْر فِي وَلَده وَكَيْفَمَا تَصَرَّفَتْ حَاله ; فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ النَّاذِر عَبْدًا فَلَمْ يَتَقَرَّر لَهُ قَوْل فِي ذَلِكَ ; وَإِنْ كَانَ حُرًّا فَلَا يَصِحّ أَنْ يَكُون مَمْلُوكًا لَهُ , وَكَذَلِكَ الْمَرْأَة مِثْله ; فَأَيّ وَجْه لِلنَّذْرِ فِيهِ ؟ وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ - وَاَللَّه أَعْلَم - أَنَّ الْمَرْء إِنَّمَا يُرِيد وَلَده لِلْأُنْسِ بِهِ وَالِاسْتِنْصَار وَالتَّسَلِّي , فَطَلَبَتْ هَذِهِ الْمَرْأَة الْوَلَد أُنْسًا بِهِ وَسُكُونًا إِلَيْهِ ; فَلَمَّا مَنَّ اللَّه تَعَالَى عَلَيْهَا بِهِ نَذَرَتْ أَنَّ حَظّهَا مِنْ الْأُنْس بِهِ مَتْرُوك فِيهِ , وَهُوَ عَلَى خِدْمَة اللَّه تَعَالَى مَوْقُوف , وَهَذَا نَذْر الْأَحْرَار مِنْ الْأَبْرَار . وَأَرَادَتْ بِهِ مُحَرَّرًا مِنْ جِهَتِي , مُحَرَّرًا مِنْ رَقِّ الدُّنْيَا وَأَشْغَالهَا ; وَقَدْ قَالَ رَجُل مِنْ الصُّوفِيَّة لِأُمِّهِ : يَا أُمّه : ذَرِينِي لِلَّهِ أَتَعَبَّد لَهُ وَأَتَعَلَّم الْعِلْم , فَقَالَتْ نَعَمْ . فَسَارَ حَتَّى تَبَصَّرَ ثُمَّ عَادَ إِلَيْهَا فَدَقَّ الْبَاب , فَقَالَتْ مَنْ ؟ فَقَالَ لَهَا : اِبْنك فُلَان , قَالَتْ : قَدْ تَرَكْنَاك لِلَّهِ وَلَا نَعُود فِيك .|مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ|مَأْخُوذ مِنْ الْحُرِّيَّة الَّتِي هِيَ ضِدّ الْعُبُودِيَّة ; مِنْ هَذَا تَحْرِير الْكِتَاب , وَهُوَ تَخْلِيصه مِنْ الِاضْطِرَاب وَالْفَسَاد . وَرَوَى خَصِيف عَنْ عِكْرِمَة وَمُجَاهِد : أَنَّ الْمُحَرَّر الْخَالِص لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَشُوبهُ شَيْء مِنْ أَمْر الدُّنْيَا . وَهَذَا مَعْرُوف فِي اللُّغَة أَنْ يُقَال لِكُلِّ مَا خُلِّصَ : حُرّ , وَمُحَرَّر بِمَعْنَاهُ ; قَالَ ذُو الرُّمَّة : <br>وَالْقُرْط فِي حُرَّة الذِّفْرَى مُعَلَّقه .......... تَبَاعَدَ الْحَبْل مِنْهُ فَهُوَ يَضْطَرِب <br>وَطِين حُرّ لَا رَمْل فِيهِ , وَبَاتَتْ فُلَانَة بِلَيْلَةٍ حُرَّة إِذَا لَمْ يَصِل إِلَيْهَا زَوْجهَا أَوَّل لَيْلَة ; فَإِنْ تَمَكَّنَ مِنْهَا فَهِيَ بِلَيْلَةٍ شَيْبَاء .

فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ

قَالَ اِبْن عَبَّاس : إِنَّمَا قَالَتْ هَذَا لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَقْبَل فِي النَّذْر إِلَّا الذُّكُور , فَقَبِلَ اللَّه مَرْيَم . | وَأُنْثَى | حَال , وَإِنْ شِئْت بَدَل . فَقِيلَ : إِنَّهَا رَبَّتهَا حَتَّى تَرَعْرَعَتْ وَحِينَئِذٍ أَرْسَلَتْهَا ; رَوَاهُ أَشْهَب عَنْ مَالِك : وَقِيلَ : لَفَّتْهَا فِي خِرْقَتهَا وَأَرْسَلَتْ بِهَا إِلَى الْمَسْجِد , فَوَفَّتْ بِنَذْرِهَا وَتَبَرَّأَتْ مِنْهَا . وَلَعَلَّ الْحِجَاب لَمْ يَكُنْ عِنْدهمْ كَمَا كَانَ فِي صَدْر الْإِسْلَام ; فَفِي الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم أَنَّ اِمْرَأَة سَوْدَاء كَانَتْ تَقُمّ الْمَسْجِد عَلَى عَهْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَاتَتْ . الْحَدِيث .|وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ|هُوَ عَلَى قِرَاءَة مَنْ قَرَأَ | وَضَعْت | بِضَمِّ التَّاء مِنْ جُمْلَة كَلَامهَا ; فَالْكَلَام مُتَّصِل . وَهِيَ قِرَاءَة أَبِي بَكْر وَابْن عَامِر , وَفِيهَا مَعْنَى التَّسْلِيم لِلَّهِ وَالْخُضُوع وَالتَّنْزِيه لَهُ أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْء , وَلَمْ تَقُلْهُ عَلَى طَرِيق الْإِخْبَار لِأَنَّ عِلْم اللَّه فِي كُلّ شَيْء قَدْ تَقَرَّرَ فِي نَفْس الْمُؤْمِن , وَإِنَّمَا قَالَتْهُ عَلَى طَرِيق التَّعْظِيم وَالتَّنْزِيه لِلَّهِ تَعَالَى . وَعَلَى قِرَاءَة الْجُمْهُور هُوَ مِنْ كَلَام اللَّه عَزَّ وَجَلَّ قَدِمَ , وَتَقْدِيره أَنْ يَكُون مُؤَخَّرًا بَعْد | وَإِنِّي أُعِيذهَا بِك وَذُرِّيَّتهَا مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيم | [ آل عِمْرَان : 36 ] وَاَللَّه أَعْلَم بِمَا وَضَعَتْ ; قَالَ الْمَهْدَوِيّ . وَقَالَ مَكِّيّ : هُوَ إِعْلَام مِنْ اللَّه تَعَالَى لَنَا عَلَى طَرِيق التَّثْبِيت فَقَالَ : وَاَللَّه أَعْلَم بِمَا وَضَعَتْ أُمّ مَرْيَم قَالَتْهُ أَوْ لَمْ تَقُلْهُ . وَيُقَوِّي ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنْ كَلَام أُمّ مَرْيَم لَكَانَ وَجْه الْكَلَام : وَأَنْتَ أَعْلَم بِمَا وَضَعْت ; لِأَنَّهَا نَادَتْهُ فِي أَوَّل الْكَلَام فِي قَوْلهَا : رَبّ إِنِّي وَضَعْتهَا أُنْثَى . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس | بِمَا وَضَعْت | بِكَسْرِ التَّاء , أَيْ قِيلَ لَهَا هَذَا .|وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى|اِسْتَدَلَّ بِهِ بَعْض الشَّافِعِيَّة عَلَى أَنَّ الْمُطَاوِعَة فِي نَهَار رَمَضَان لِزَوْجِهَا عَلَى الْوَطْء لَا تُسَاوِيه فِي وُجُوب الْكَفَّارَة عَلَيْهَا , اِبْن الْعَرَبِيّ , وَهَذِهِ مِنْهُ غَفْلَة , فَإِنَّ هَذَا خَبَر عَنْ شَرْع مَنْ قَبْلنَا وَهُمْ لَا يَقُولُونَ بِهِ , وَهَذِهِ الصَّالِحَة إِنَّمَا قَصَدَتْ بِكَلَامِهَا مَا تَشْهَد لَهُ بِهِ بَيِّنَة حَالهَا وَمَقْطَع كَلَامهَا , فَإِنَّهَا نَذَرَتْ خِدْمَة الْمَسْجِد فِي وَلَدهَا , فَلَمَّا رَأَتْهُ أُنْثَى لَا تَصْلُح وَأَنَّهَا عَوْرَة اِعْتَذَرَتْ إِلَى رَبّهَا مِنْ وُجُودهَا لَهَا عَلَى خِلَاف مَا قَصَدَتْهُ فِيهَا . وَلَمْ يَنْصَرِف | مَرْيَم | لِأَنَّهُ مُؤَنَّث مَعْرِفَة , وَهُوَ أَيْضًا أَعْجَمِيّ ; قَالَهُ النَّحَّاس . وَاَللَّه تَعَالَى أَعْلَم .|وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ|يَعْنِي خَادِم الرَّبّ فِي لُغَتهمْ .|وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ|يَعْنِي مَرْيَم .|وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ|يَعْنِي عِيسَى . وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ الذُّرِّيَّة قَدْ تَقَع عَلَى الْوَلَد خَاصَّة . وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَا مِنْ مَوْلُود يُولَد إِلَّا نَخَسَهُ الشَّيْطَان فَيَسْتَهِلّ صَارِخًا مِنْ نَخْسَة الشَّيْطَان إِلَّا اِبْن مَرْيَم وَأُمّه ) ثُمَّ قَالَ أَبُو هُرَيْرَة : اِقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ : | وَإِنِّي أُعِيذهَا بِك وَذُرِّيَّتهَا مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيم | . قَالَ عُلَمَاؤُنَا : فَأَفَادَ هَذَا الْحَدِيث أَنَّ اللَّه تَعَالَى اِسْتَجَابَ دُعَاء أُمّ مَرْيَم , فَإِنَّ الشَّيْطَان يَنْخُس جَمِيع وَلَد آدَم حَتَّى الْأَنْبِيَاء وَالْأَوْلِيَاء إِلَّا مَرْيَم وَابْنهَا . قَالَ قَتَادَة : كُلّ مَوْلُود يَطْعَن الشَّيْطَان فِي جَنْبه حِينَ يُولَد غَيْر عِيسَى وَأُمّه جُعِلَ بَيْنهمَا حِجَاب فَأَصَابَتْ الطَّعْنَة الْحِجَاب وَلَمْ يَنْفُذ لَهُمَا مِنْهُ شَيْء , قَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ بَطَلَتْ الْخُصُوصِيَّة بِهِمَا , وَلَا يَلْزَم مِنْ هَذَا أَنَّ نَخْس الشَّيْطَان يَلْزَم مِنْهُ إِضْلَال الْمَمْسُوس وَإِغْوَاؤُهُ فَإِنَّ ذَلِكَ ظَنّ فَاسِد ; فَكَمْ تَعَرَّضَ الشَّيْطَان لِلْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاء بِأَنْوَاعِ الْإِفْسَاد وَالْإِغْوَاء وَمَعَ ذَلِكَ فَعَصَمَهُمْ اللَّه مِمَّا يَرُومهُ الشَّيْطَان , كَمَا قَالَ تَعَالَى : | إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَك عَلَيْهِمْ سُلْطَان | [ الْحِجْر : 42 ] . هَذَا مَعَ أَنَّ كُلّ وَاحِد مِنْ بَنِي آدَم قَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينه مِنْ الشَّيَاطِين ; كَمَا قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَرْيَم وَابْنهَا وَإِنْ عُصِمَا مِنْ نَخْسه فَلَمْ يُعْصَمَا مِنْ مُلَازَمَته لَهَا وَمُقَارَنَته . وَاَللَّه أَعْلَم .

فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ

الْمَعْنَى : سَلَكَ بِهَا طَرِيق السُّعَدَاء ; عَنْ اِبْن عَبَّاس . وَقَالَ قَوْم : مَعْنَى التَّقَبُّل التَّكَفُّل فِي التَّرْبِيَة وَالْقِيَام بِشَأْنِهَا . وَقَالَ الْحَسَن : مَعْنَى التَّقَبُّل أَنَّهُ مَا عَذَّبَهَا سَاعَة قَطُّ مِنْ لَيْل وَلَا نَهَار .|وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا|يَعْنِي سَوَّى خَلْقهَا مِنْ غَيْر زِيَادَة وَلَا نُقْصَان , فَكَانَتْ تَنْبُت فِي الْيَوْم مَا يَنْبُت الْمَوْلُود فِي عَام وَاحِد . وَالْقَبُول وَالنَّبَات مَصْدَرَانِ عَلَى غَيْر الْمَصْدَر , وَالْأَصْل تَقَبُّلًا وَإِنْبَاتًا . قَالَ الشَّاعِر : <br>أَكُفْرًا بَعْد رَدّ الْمَوْت عَنِّي .......... وَبَعْد عَطَائِك الْمِائَة الرِّتَاعَا <br>أَرَادَ بَعْد إِعْطَائِك , لَكِنْ لَمَّا قَالَ | أَنْبَتَهَا | دَلَّ عَلَى نَبَتَ ; كَمَا قَالَ اِمْرُؤُ الْقَيْس : <br>فَصِرْنَا إِلَى الْحُسْنَى وَرَقَّ كَلَامنَا .......... وَرُضْت فَذَلَّتْ صَعْبَة أَيّ إِذْلَال <br>وَإِنَّمَا مَصْدَر ذَلَّتْ ذُلّ , وَلَكِنَّهُ رَدَّهُ عَلَى مَعْنَى أَذْلَلْت ; وَكَذَلِكَ كُلّ مَا يَرِد عَلَيْك فِي هَذَا الْبَاب . فَمَعْنَى تَقَبَّلَ وَقَبِلَ وَاحِد , فَالْمَعْنَى فَقِبَلهَا رَبّهَا بِقَبُولٍ حَسَن . وَنَظِيره قَوْل رُؤْبَة : <br>وَقَدْ تَطَوَّيْت اِنْطِوَاء الْحِضْب <br>الْأَفْعَى لِأَنَّ مَعْنَى تَطَوَّيْت وَانْطَوَيْت وَاحِد ; وَمِثْله قَوْل الْقَطَامِيّ : <br>وَخَيْر الْأَمْر مَا اِسْتَقْبَلْت مِنْهُ .......... وَلَيْسَ بِأَنْ تَتَبَّعَهُ اِتِّبَاعًا <br>لِأَنَّ تَتَبَّعْت وَاتَّبَعْت وَاحِد . وَفِي قِرَاءَة اِبْن مَسْعُود | وَأَنْزَلَ الْمَلَائِكَة تَنْزِيلًا | لِأَنَّ مَعْنَى نَزَّلَ وَأَنْزَلَ وَاحِد . وَقَالَ الْمُفَضَّل : مَعْنَاهُ وَأَنْبَتَهَا فَنَبَتَتْ نَبَاتًا حَسَنًا . وَمُرَاعَاة الْمَعْنَى أَوْلَى كَمَا ذَكَرْنَا . وَالْأَصْل فِي الْقَبُول الضَّمّ ; لِأَنَّهُ مَصْدَر مِثْل الدُّخُول وَالْخُرُوج , وَالْفَتْح جَاءَ فِي حُرُوف قَلِيلَة ; مِثْل الْوَلُوع وَالْوَزُوع ; هَذِهِ الثَّلَاثَة لَا غَيْر ; قَالَ أَبُو عُمَر وَالْكِسَائِيّ وَالْأَئِمَّة . وَأَجَازَ الزَّجَّاج | بِقُبُولٍ | بِضَمِّ الْقَاف عَلَى الْأَصْل .|وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا|أَيْ ضَمَّهَا إِلَيْهِ . أَبُو عُبَيْدَة : ضَمِنَ الْقِيَام بِهَا . وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ | وَكَفَّلَهَا | بِالتَّشْدِيدِ , فَهُوَ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ ; وَالتَّقْدِير وَكَفَّلَهَا رَبّهَا زَكَرِيَّا , أَيْ أَلْزَمَهُ كَفَالَتهَا وَقَدَّرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَيَسَّرَهُ لَهُ . وَفِي مُصْحَف أُبَيّ | وَكَفَّلَهَا | وَالْهَمْزَة كَالتَّشْدِيدِ فِي التَّعَدِّي ; وَأَيْضًا فَإِنَّ قَبْله | فَتَقَبَّلَهَا | , وَأَنْبَتَهَا | فَأَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ نَفْسه بِمَا فَعَلَ بِهَا ; فَجَاءَ | كَفَّلَهَا | بِالتَّشْدِيدِ عَلَى ذَلِكَ . وَخَفَّفَهُ الْبَاقُونَ عَلَى إِسْنَاد الْفِعْل إِلَى زَكَرِيَّا . فَأَخْبَرَ اللَّه تَعَالَى أَنَّهُ هُوَ الَّذِي تَوَلَّى كَفَالَتهَا وَالْقِيَام بِهَا ; بِدَلَالَةِ قَوْله : | أَيّهمْ يَكْفُل مَرْيَم | [ آل عِمْرَان : 44 ] . قَالَ مَكِّيّ : وَهُوَ الِاخْتِيَار ; لِأَنَّ التَّشْدِيد يَرْجِع إِلَى التَّخْفِيف , لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى إِذَا كَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كَفَلَهَا بِأَمْرِ اللَّه , وَلِأَنَّ زَكَرِيَّا إِذَا كَفَلَهَا فَعَنْ مَشِيئَة اللَّه وَقُدْرَته ; فَعَلَى ذَلِكَ فَالْقِرَاءَتَانِ مُتَدَاخِلَتَانِ . وَرَوَى عَمْرو بْن مُوسَى عَنْ عَبْد اللَّه بْن كَثِير وَأَبِي عَبْد اللَّه الْمُزَنِيّ | وَكَفِلَهَا | بِكَسْرِ الْفَاء . قَالَ الْأَخْفَش : يُقَال كَفَلَ يَكْفُل وَكَفِلَ يَكْفِل وَلَمْ أَسْمَع كَفُلَ , وَقَدْ ذَكَرْت . وَقَرَأَ مُجَاهِد | فَتَقَبَّلْهَا | بِإِسْكَانِ اللَّام عَلَى الْمَسْأَلَة وَالطَّلَب . | رَبّهَا | بِالنَّصْبِ نِدَاء مُضَاف . | وَأَنْبَتْهَا | بِإِسْكَانِ التَّاء | وَكَفَّلْهَا | بِإِسْكَانِ اللَّام | زَكَرِيَّاء | بِالْمَدِّ وَالنَّصْب . وَقَرَأَ حَفْص وَحَمْزَة وَالْكِسَائِيّ | زَكَرِيَّا | بِغَيْرِ مَدّ وَلَا هَمْزَة , وَمَدَّهُ الْبَاقُونَ وَهَمَزُوهُ . وَقَالَ الْفَرَّاء : أَهْل الْحِجَاز يَمُدُّونَ | زَكَرِيَّاءَ | وَيَقْصُرُونَهُ , وَأَهْل نَجْد يَحْذِفُونَ مِنْهُ الْأَلِف وَيَصْرِفُونَهُ فَيَقُولُونَ : زَكَرِيّ . قَالَ الْأَخْفَش : فِيهِ أَرْبَع لُغَات : الْمَدّ وَالْقَصْر , وَزَكَرِيّ بِتَشْدِيدِ الْيَاء وَالصَّرْف , وَزَكَر وَرَأَيْت زَكَرِيَّا . قَالَ أَبُو حَاتِم : زَكَرِيّ بِلَا صَرْف لِأَنَّهُ أَعْجَمِيّ وَهَذَا غَلَط ; لِأَنَّ مَا كَانَ فِيهِ | يَا | مِثْل هَذَا اِنْصَرَفَ مِثْل كُرْسِيّ وَيَحْيَى , وَلَمْ يَنْصَرِف زَكَرِيَّاءَ فِي الْمَدّ وَالْقَصْر لِأَنَّ فِيهِ أَلِف تَأْنِيث وَالْعُجْمَة وَالتَّعْرِيف .|كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا|الْمِحْرَاب فِي اللُّغَة أَكْرَم مَوْضِع فِي الْمَجْلِس . وَسَيَأْتِي لَهُ مَزِيد بَيَان فِي سُورَة | مَرْيَم | . وَجَاءَ فِي الْخَبَر : إِنَّهَا كَانَتْ فِي غَرْفَة كَانَ زَكَرِيَّا يَصْعَد إِلَيْهَا بِسُلَّمٍ . قَالَ وَضَّاح الْيَمَن : <br>رَبَّةُ مِحْرَابٍ إِذَا جِئْتهَا .......... لَمْ أَلْقَهَا حَتَّى اَرْتَقِي سُلَّمًا <br>أَيْ رَبَّة غَرْفَة . رَوَى أَبُو صَالِح عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : حَمَلَتْ اِمْرَأَة عِمْرَان بَعْد مَا أَسَنَّتْ فَنَذَرَتْ مَا فِي بَطْنهَا مُحَرَّرًا فَقَالَ لَهَا عِمْرَان : وَيْحك مَا صَنَعْت ؟ أَرَأَيْت إِنْ كَانَتْ أُنْثَى ؟ فَاغْتَمَّا لِذَلِكَ جَمِيعًا . فَهَلَكَ عِمْرَان وَحَنَّة حَامِل فَوَلَدَتْ أُنْثَى فَتَقَبَّلَهَا اللَّه بِقَبُولٍ حَسَن , وَكَانَ لَا يُحَرَّر إِلَّا الْغِلْمَان فَتَسَاهَمَ عَلَيْهَا الْأَحْبَار بِالْأَقْلَامِ الَّتِي يَكْتُبُونَ بِهَا الْوَحْي , عَلَى مَا يَأْتِي . فَكَفَلَهَا زَكَرِيَّا وَأَخَذَ لَهَا مَوْضِعًا فَلَمَّا أَسَنَّتْ جَعَلَ لَهَا مِحْرَابًا لَا يُرْتَقَى إِلَيْهِ إِلَّا بِسُلَّمٍ , وَاسْتَأْجَرَ لَهَا ظِئْرًا وَكَانَ يُغْلِق عَلَيْهَا بَابًا , وَكَانَ لَا يَدْخُل عَلَيْهَا إِلَّا زَكَرِيَّا حَتَّى كَبِرَتْ , فَكَانَتْ إِذَا حَاضَتْ أَخْرَجَهَا إِلَى مَنْزِله فَتَكُون عِنْد خَالَتهَا وَكَانَتْ خَالَتهَا اِمْرَأَة زَكَرِيَّا فِي قَوْل الْكَلْبِيّ . قَالَ مُقَاتِل : كَانَتْ أُخْتهَا اِمْرَأَة زَكَرِيَّا . وَكَانَتْ إِذَا طَهُرَتْ مِنْ حَيْضَتهَا وَاغْتَسَلَتْ رَدَّهَا إِلَى الْمِحْرَاب . وَقَالَ بَعْضهمْ : كَانَتْ لَا تَحِيض وَكَانَتْ مُطَهَّرَة مِنْ الْحَيْض . وَكَانَ زَكَرِيَّا إِذَا دَخَلَ عَلَيْهَا يَجِد عِنْدهَا فَاكِهَة الشِّتَاء فِي الْقَيْظ وَفَاكِهَة الْقَيْظ فِي الشِّتَاء فَقَالَ : يَا مَرْيَم أَنَّى لَك هَذَا ؟ فَقَالَتْ : هُوَ مِنْ عِنْد اللَّه . فَعِنْد ذَلِكَ طَمِعَ زَكَرِيَّا فِي الْوَلَد وَقَالَ : إِنَّ الَّذِي يَأْتِيهَا بِهَذَا قَادِر أَنْ يَرْزُقنِي وَلَدًا . و | كُلَّمَا | مَنْصُوب ب | وَجَدَ | , أَيْ كُلّ دَخْلَة .|قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ|وَمَعْنَى | أَنَّى | مِنْ أَيْنَ ; قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَة . قَالَ النَّحَّاس : وَهَذَا فِيهِ تَسَاهُل ; لِأَنَّ | أَيْنَ | سُؤَال عَنْ الْمَوَاضِع و | أَنَّى | سُؤَال عَنْ الْمَذَاهِب وَالْجِهَات . وَالْمَعْنَى مِنْ أَيّ الْمَذَاهِب وَمِنْ أَيّ الْجِهَات لَك هَذَا . وَقَدْ فَرَّقَ الْكُمَيْت بَيْنهمَا فَقَالَ : <br>أَنَّى وَمِنْ أَيْنَ آبَك الطَّرِب .......... مِنْ حَيْثُ لَا صَبْوَة وَلَا رِيَب<br>|هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ|قِيلَ : هُوَ مِنْ قَوْل مَرْيَم , وَيَجُوز أَنْ يَكُون مُسْتَأْنَفًا ; فَكَانَ ذَلِكَ سَبَب دُعَاء زَكَرِيَّا وَسُؤَاله الْوَلَد . وَقَالَ بَعْضهمْ : كَانَتْ لَا تَحِيض وَكَانَتْ مُطَهَّرَة مِنْ الْحَيْض . وَكَانَ زَكَرِيَّا إِذَا دَخَلَ عَلَيْهَا يَجِد عِنْدهَا فَاكِهَة الشِّتَاء فِي الْقَيْظ وَفَاكِهَة الْقَيْظ فِي الشِّتَاء فَقَالَ : يَا مَرْيَم أَنَّى لَك هَذَا ؟ فَقَالَتْ : هُوَ مِنْ عِنْد اللَّه . فَعِنْد ذَلِكَ طَمِعَ زَكَرِيَّا فِي الْوَلَد وَقَالَ : إِنَّ الَّذِي يَأْتِيهَا بِهَذَا قَادِر أَنْ يَرْزُقنِي وَلَدًا

هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ

هُنَالِكَ فِي مَوْضِع نَصْب ; لِأَنَّهُ ظَرْف يُسْتَعْمَل لِلزَّمَانِ وَالْمَكَان وَأَصْله لِلْمَكَانِ . وَقَالَ الْمُفَضَّل بْن سَلَمَة : | هُنَالِكَ | فِي الزَّمَان و | هُنَاكَ | فِي الْمَكَان , وَقَدْ يُجْعَل هَذَا مَكَان هَذَا .|قَالَ رَبِّ هَبْ لِي|أَعْطِنِي .|مِنْ لَدُنْكَ|مِنْ عِنْدك .|ذُرِّيَّةً|أَيْ نَسْلًا صَالِحًا . وَالذُّرِّيَّة تَكُون وَاحِدَة وَتَكُون جَمْعًا ذَكَرًا وَأُنْثَى , وَهُوَ هُنَا وَاحِد . يَدُلّ عَلَيْهِ قَوْله . | فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْك وَلِيًّا | [ مَرْيَم : 5 ] وَلَمْ يَقُلْ أَوْلِيَاء , وَإِنَّمَا أَنَّثَ | طَيِّبَة | لِتَأْنِيثِ لَفْظ الذُّرِّيَّة ; كَقَوْلِهِ : <br>أَبُوك خَلِيفَة وَلَدَتْهُ أُخْرَى .......... وَأَنْتَ خَلِيفَة ذَاكَ الْكَمَال <br>فَأَنَّثَ وَلَدَتْهُ لِتَأْنِيثِ لَفْظ الْخَلِيفَة .</p><p>وَرُوِيَ مِنْ حَدِيث أَنَس قَالَ : قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَيّ رَجُل مَاتَ وَتَرَك ذُرِّيَّة طَيِّبَة أَجْرَى اللَّه مِثْل أَجْر عَمَلهمْ وَلَمْ يَنْقُص مِنْ أُجُورهمْ شَيْئًا ) . وَقَدْ مَضَى فِي | الْبَقَرَة | اِشْتِقَاق الذُّرِّيَّة .|طَيِّبَةً|أَيْ صَالِحَة مُبَارَكَة .|إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ|أَيْ قَابِله ; وَمِنْهُ : سَمِعَ اللَّه لِمَنْ حَمِدَهُ .</p><p>دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَة عَلَى طَلَب الْوَلَد , وَهِيَ سُنَّة الْمُرْسَلِينَ وَالصِّدِّيقِينَ , قَالَ اللَّه تَعَالَى : | وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلك وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّة | [ الرَّعْد : 38 ] . وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ سَعْد بْن أَبِي وَقَّاص قَالَ : أَرَادَ عُثْمَان أَنْ يَتَبَتَّل فَنَهَاهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَلَوْ أَجَازَ لَهُ ذَلِكَ لَاخْتَصَيْنَا . وَخَرَّجَ اِبْن مَاجَهْ عَنْ عَائِشَة قَالَتْ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( النِّكَاح مِنْ سُنَّتِي فَمَنْ لَمْ يَعْمَل بِسُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي وَتَزَوَّجُوا فَإِنِّي مُكَاثِر بِكُمْ الْأُمَم وَمَنْ كَانَ ذَا طَوْل فَلْيَنْكِحْ وَمَنْ لَمْ يَجِد فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاء ) . وَفِي هَذَا رَدّ عَلَى بَعْض جُهَّال الْمُتَصَوِّفَة حَيْثُ قَالَ : الَّذِي يَطْلُب الْوَلَد أَحْمَق , وَمَا عَرَفَ أَنَّهُ هُوَ الْغَبِيّ الْأَخْرَق ; قَالَ اللَّه تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ إِبْرَاهِيم الْخَلِيل : | وَاجْعَلْ لِي لِسَان صِدْق فِي الْآخِرِينَ | [ الشُّعَرَاء : 84 ] وَقَالَ : | وَاَلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجنَا وَذُرِّيَّاتنَا قُرَّة أَعْيُن | [ الْفُرْقَان : 74 ] . وَقَدْ تَرْجَمَ الْبُخَارِيّ عَلَى هَذَا | بَاب طَلَب الْوَلَد | . وَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي طَلْحَة حِينَ مَاتَ اِبْنه : ( أَعْرَسْتُمْ اللَّيْلَة ) ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ : ( بَارَكَ اللَّه لَكُمَا فِي غَابِر لَيْلَتكُمَا ) . قَالَ فَحَمَلَتْ . فِي الْبُخَارِيّ : قَالَ سُفْيَان فَقَالَ رَجُل مِنْ الْأَنْصَار : فَرَأَيْت تِسْعَة أَوْلَاد كُلّهمْ قَدْ قَرَءُوا الْقُرْآن . وَتَرْجَمَ أَيْضًا | بَاب الدُّعَاء بِكَثْرَةِ الْوَلَد مَعَ الْبَرَكَة | وَسَاقَ حَدِيث أَنَس بْن مَالِك قَالَ : قَالَتْ أُمّ سَلِيم : يَا رَسُول اللَّه , خَادِمك أَنَس اُدْعُ اللَّه لَهُ . فَقَالَ : ( اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَاله وَوَلَده وَبَارِكْ لَهُ فِيمَا أَعْطَيْته ) . وَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( اللَّهُمَّ اِغْفِرْ لِأَبِي سَلَمَة وَارْفَعْ دَرَجَته فِي الْمَهْدِيِّينَ وَاخْلُفْهُ فِي عَقِبه فِي الْغَابِرِينَ ) . خَرَّجَهُ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم . وَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( تَزَوَّجُوا الْوَلُود الْوَدُود فَإِنِّي مُكَاثِر بِكُمْ الْأُمَم ) . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد . وَالْأَخْبَار فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَة تَحُثّ عَلَى طَلَب الْوَلَد وَتَنْدُب إِلَيْهِ ; لِمَا يَرْجُوهُ الْإِنْسَان مِنْ نَفْعه فِي حَيَاته وَبَعْد مَوْته . قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِذَا مَاتَ أَحَدكُمْ اِنْقَطَعَ عَمَله إِلَّا مِنْ ثَلَاث ) فَذَكَرَ ( أَوْ وَلَد صَالِح يَدْعُو لَهُ ) . وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا هَذَا الْحَدِيث لَكَانَ فِيهِ كِفَايَة .</p><p>فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَالْوَاجِب عَلَى الْإِنْسَان أَنْ يَتَضَرَّع إِلَى خَالِقه فِي هِدَايَة وَلَده وَزَوْجه بِالتَّوْفِيقِ لَهُمَا وَالْهِدَايَة وَالصَّلَاح وَالْعَفَاف وَالرِّعَايَة , وَأَنْ يَكُونَا مُعِينِينَ لَهُ عَلَى دِينه وَدُنْيَاهُ حَتَّى تَعْظُم مَنْفَعَته بِهِمَا فِي أُولَاهُ وَأُخْرَاهُ ; أَلَا تَرَى قَوْل زَكَرِيَّا : | وَاجْعَلْهُ رَبّ رَضِيًا | [ مَرْيَم : 6 ] وَقَالَ : | ذُرِّيَّة طَيِّبَة | . وَقَالَ : | هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجنَا وَذُرِّيَّاتنَا قُرَّة أَعْيُن | [ الْفُرْقَان : 74 ] . وَدَعَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَسٍ فَقَالَ : ( اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَاله وَوَلَده وَبَارِكْ لَهُ فِيهِ ) . خَرَّجَهُ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم , وَحَسْبك .

فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ

قَرَأَ حَمْزَة وَالْكِسَائِيّ | فَنَادَاهُ | بِالْأَلِفِ عَلَى التَّذْكِير وَيُمِيلَانِهَا لِأَنَّ أَصْلهَا الْيَاء , وَلِأَنَّهَا رَابِعَة . وَبِالْأَلِفِ قِرَاءَة اِبْن عَبَّاس وَابْن مَسْعُود , وَهُوَ اِخْتِيَار أَبِي عُبَيْد . وَرُوِيَ عَنْ جَرِير عَنْ مُغِيرَة عَنْ إِبْرَاهِيم قَالَ : كَانَ عَبْد اللَّه يُذَكِّر الْمَلَائِكَة فِي كُلّ الْقُرْآن . قَالَ أَبُو عُبَيْد : نَرَاهُ اِخْتَارَ ذَلِكَ خِلَافًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّهُمْ قَالُوا : الْمَلَائِكَة بَنَات اللَّه . قَالَ النَّحَّاس : هَذَا اِحْتَاجَ لَا يَحْصُل مِنْهُ شَيْء ; لِأَنَّ الْعَرَب تَقُول : قَالَتْ الرِّجَال , وَقَالَ الرِّجَال , وَكَذَا النِّسَاء , وَكَيْفَ يُحْتَجّ عَلَيْهِمْ بِالْقُرْآنِ , وَلَوْ جَازَ أَنْ يُحْتَجّ عَلَيْهِمْ بِالْقُرْآنِ بِهَذَا لَجَازَ أَنْ يَحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : | وَإِذْ قَالَتْ الْمَلَائِكَة | وَلَكِنَّ الْحُجَّة عَلَيْهِمْ فِي قَوْله عَزَّ وَجَلَّ : | أَشَهِدُوا خَلْقهمْ | [ الزُّخْرُف : 19 ] أَيْ فَلَمْ يُشَاهِدُوا , فَكَيْفَ يَقُولُونَ إِنَّهُمْ إِنَاث فَقَدْ عُلِمَ أَنَّ هَذَا ظَنّ وَهَوًى . وَأَمَّا | فَنَادَاهُ | فَهُوَ جَائِز عَلَى تَذْكِير الْجَمْع , | وَنَادَتْهُ | عَلَى تَأْنِيث الْجَمَاعَة . قَالَ مَكِّيّ : وَالْمَلَائِكَة مِمَّنْ يُعْقَل فِي التَّكْسِير فَجَرَى فِي التَّأْنِيث مَجْرَى مَا لَا يَعْقِل , تَقُول : هِيَ الرِّجَال , وَهِيَ الْجُذُوع , وَهِيَ الْجِمَال , وَقَالَتْ الْأَعْرَاب . وَيُقَوِّي ذَلِكَ قَوْله : | وَإِذْ قَالَتْ الْمَلَائِكَة | وَقَدْ ذَكَرَ فِي مَوْضِع آخَر فَقَالَ : | وَالْمَلَائِكَة بَاسِطُو أَيْدِيهمْ | [ الْأَنْعَام : 93 ] وَهَذَا إِجْمَاع . وَقَالَ تَعَالَى : | وَالْمَلَائِكَة يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلّ بَاب | [ الرَّعْد : 23 ] فَتَأْنِيث هَذَا الْجَمْع وَتَذْكِيره حَسَنَان . وَقَالَ السُّدِّيّ : نَادَاهُ جِبْرِيل وَحْده ; وَكَذَا فِي قِرَاءَة اِبْن مَسْعُود . وَفِي التَّنْزِيل | يُنَزِّل الْمَلَائِكَة بِالرُّوحِ مِنْ أَمْره | يَعْنِي جِبْرِيل , وَالرُّوح الْوَحْي . وَجَائِز فِي الْعَرَبِيَّة أَنْ يُخْبَر عَنْ الْوَاحِد بِلَفْظِ الْجَمْع . وَجَاءَ فِي التَّنْزِيل | الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاس | [ آل عِمْرَان : 173 ] يَعْنِي نُعَيْم بْن مَسْعُود , عَلَى مَا يَأْتِي . وَقِيلَ : نَادَاهُ جَمِيع الْمَلَائِكَة , وَهُوَ الْأَظْهَر . أَيْ جَاءَ النِّدَاء مِنْ قَبْلهمْ .|وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ|| وَهُوَ قَائِم | اِبْتِدَاء وَخَبَر | يُصَلِّي | فِي مَوْضِع رَفْع , وَإِنْ شِئْت كَانَ نَصْبًا عَلَى الْحَال مِنْ الْمُضْمَر . | أَنَّ اللَّه | أَيْ بِأَنَّ اللَّه . وَقَرَأَ حَمْزَة وَالْكِسَائِيّ | إِنَّ | أَيْ قَالَتْ إِنَّ اللَّه ; فَالنِّدَاء بِمَعْنَى الْقَوْل . | يُبَشِّرك | بِالتَّشْدِيدِ قِرَاءَة أَهْل الْمَدِينَة . وَقَرَأَ حَمْزَة | يُبَشِّرك | مُخَفَّفًا ; وَكَذَلِكَ حُمَيْد بْن الْقَيْس الْمَكِّيّ إِلَّا أَنَّهُ كَسَرَ الشِّين وَضَمَّ الْيَاء وَخَفَّفَ الْبَاء . قَالَ الْأَخْفَش : هِيَ ثَلَاث لُغَات بِمَعْنًى وَاحِد . دَلِيل الْأُولَى هِيَ قِرَاءَة الْجَمَاعَة أَنَّ مَا فِي الْقُرْآن مِنْ هَذَا مِنْ فِعْل مَاضٍ أَوْ أَمْر فَهُوَ بِالتَّثْقِيلِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى : | فَبَشِّرْ عِبَاد | [ الزُّمَر : 17 ] | فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ | [ يس : 11 ] | فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاق | [ هُود : 71 ] | قَالُوا بَشَّرْنَاك بِالْحَقِّ | [ الْحَجَر : 55 ] . وَأَمَّا الثَّانِيَة وَهِيَ قِرَاءَة عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود فَهِيَ مِنْ بَشَر يَبْشُر وَهِيَ لُغَة تِهَامَة ; وَمِنْهُ قَوْل الشَّاعِر : <br>بَشَرْت عِيَالِي إِذْ رَأَيْت صَحِيفَةً .......... أَتَتْك مِنْ الْحَجَّاجِ يُتْلَى كِتَابُهَا <br>وَقَالَ آخَر : <br>وَإِذَا رَأَيْت الْبَاهِشِينَ إِلَى النَّدَى .......... غُبْرًا أَكُفُّهُمُ بِقَاعٍ مُمْحِل <br><br>فَأَعِنْهُمُ وَابْشَرْ بِمَا بَشِرُوا بِهِ .......... وَإِذَا هُمُ نَزَلُوا بِضَنْكٍ فَانْزِلِ <br>وَأَمَّا الثَّالِثَة فَهِيَ مِنْ أَبْشَرَ يُبْشِر إِبْشَارًا قَالَ : <br>يَا أُمّ عَمْرو أَبْشِرِي بِالْبُشْرَى .......... مَوْت ذَرِيع وَجَرَاد عَظْلَى<br>|بِيَحْيَى|كَانَ اِسْمه فِي الْكِتَاب الْأَوَّل حَيَّا , وَكَانَ اِسْم سَارَة زَوْجَة إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام يَسَارَة , وَتَفْسِيره بِالْعَرَبِيَّةِ لَا تَلِد , فَلَمَّا بُشِّرَتْ بِإِسْحَاق قِيلَ لَهَا : سَارَة , سَمَّاهَا بِذَلِكَ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام . فَقَالَتْ : يَا إِبْرَاهِيم لِمَ نَقَصَ مِنْ اِسْمِي حَرْف ؟ فَقَالَ إِبْرَاهِيم ذَلِكَ لِجِبْرِيل عَلَيْهِمَا السَّلَام . فَقَالَ : ( إِنَّ ذَلِكَ الْحَرْف زِيدَ فِي اِسْم اِبْن لَهَا مِنْ أَفْضَل الْأَنْبِيَاء اِسْمه حَيّ وَسُمِّيَ بِيَحْيَى ) . ذَكَرَهُ النَّقَّاش . وَقَالَ قَتَادَة : سُمِّيَ بِيَحْيَى لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى أَحْيَاهُ بِالْإِيمَانِ وَالنُّبُوَّة . وَقَالَ بَعْضهمْ : سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى أَحْيَا بِهِ النَّاس بِالْهُدَى . وَقَالَ مُقَاتِل : اُشْتُقَّ اِسْمه مِنْ اِسْم اللَّه تَعَالَى حَيّ فَسُمِّيَ يَحْيَى . وَقِيلَ : لِأَنَّهُ أَحْيَا بِهِ رَحِمَ أُمّه .|مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ|يَعْنِي عِيسَى فِي قَوْل أَكْثَر الْمُفَسِّرِينَ . وَسُمِّيَ عِيسَى كَلِمَة لِأَنَّهُ كَانَ بِكَلِمَةِ اللَّه تَعَالَى الَّتِي هِيَ | كُنْ | فَكَانَ مِنْ غَيْر أَب . وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّال الْعَدَوِيّ | بِكِلْمَةِ | مَكْسُورَة الْكَاف سَاكِنَة اللَّام فِي جَمِيع الْقُرْآن , وَهِيَ لُغَة فَصِيحَة مِثْل كِتْف وَفَخْذ . وَقِيلَ : سُمِّيَ كَلِمَة لِأَنَّ النَّاس يَهْتَدُونَ بِهِ كَمَا يَهْتَدُونَ بِكَلَامِ اللَّه تَعَالَى . وَقَالَ أَبُو عُبَيْد : مَعْنَى | بِكَلِمَةِ مِنْ اللَّه | بِكِتَابِ مِنْ اللَّه . قَالَ : وَالْعَرَب تَقُول أَنْشَدَنِي كَلِمَة أَيْ قَصِيدَة ; كَمَا رُوِيَ أَنَّ الْحُوَيْدِرَة ذُكِرَ لِحَسَّانَ فَقَالَ : لَعَنَ اللَّه كَلِمَته , يَعْنِي قَصِيدَته . وَقِيلَ غَيْر هَذَا مِنْ الْأَقْوَال . وَالْقَوْل الْأَوَّل أَشْهَر وَعَلَيْهِ مِنْ الْعُلَمَاء الْأَكْثَر . و | يَحْيَى | أَوَّل مَنْ آمَنَ بِعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَام وَصَدَّقَهُ , وَكَانَ يَحْيَى أَكْبَر مِنْ عِيسَى بِثَلَاثِ سِنِينَ وَيُقَال بِسِتَّةِ أَشْهُر . وَكَانَا اِبْنَيْ خَالَة , فَلَمَّا سَمِعَ زَكَرِيَّا شَهَادَته قَامَ إِلَى عِيسَى فَضَمَّهُ إِلَيْهِ وَهُوَ فِي خِرْقَة . وَذَكَرَ الطَّبَرِيّ أَنَّ مَرْيَم لَمَّا حَمَلَتْ بِعِيسَى حَمَلَتْ أَيْضًا أُخْتهَا بِيَحْيَى ; فَجَاءَتْ أُخْتهَا زَائِرَة فَقَالَتْ : يَا مَرْيَم أَشَعَرْت أَنِّي حَمَلْت ؟ فَقَالَتْ لَهَا مَرْيَم : أَشَعَرْت أَنْتِ أَنِّي حَمَلْت ؟ فَقَالَتْ لَهَا : وَإِنِّي لَأَجِد مَا فِي بَطْنِي يَسْجُد لِمَا فِي بَطْنك . وَذَلِكَ أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّهَا أَحَسَّتْ جَنِينهَا يَخِرّ بِرَأْسِهِ إِلَى نَاحِيَة بَطْن مَرْيَم . قَالَ السُّدِّيّ : فَذَلِكَ قَوْل | مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنْ اللَّه | . | وَمُصَدِّقًا | نُصِبَ عَلَى الْحَال .|وَسَيِّدًا|السَّيِّد : الَّذِي يَسُود قَوْمه وَيُنْتَهَى إِلَى قَوْله , وَأَصْله سَيْوِد يُقَال : فُلَان أَسْوَد مِنْ فُلَان , أَفْعَل مِنْ السِّيَادَة ; فَفِيهِ دَلَالَة عَلَى جَوَاز تَسْمِيَة الْإِنْسَان سَيِّدًا كَمَا يَجُوز أَنْ يُسَمَّى عَزِيزًا أَوْ كَرِيمًا . وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِبَنِي قُرَيْظَة : ( قُومُوا إِلَى سَيِّدكُمْ ) . وَفِي الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي الْحَسَن : ( إِنَّ اِبْنِي هَذَا سَيِّد وَلَعَلَّ اللَّه يُصْلِح بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ) وَكَذَلِكَ كَانَ , فَإِنَّهُ لَمَّا قُتِلَ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ بَايَعَهُ أَكْثَر مِنْ أَرْبَعِينَ أَلْفًا وَكَثِير مِمَّنْ تَخَلَّفَ عَنْ أَبِيهِ وَمِمَّنْ نَكَثَ بَيْعَته , فَبَقِيَ نَحْو سَبْعَة أَشْهُر خَلِيفَة بِالْعِرَاقِ وَمَا وَرَاءَهَا مِنْ خُرَاسَان , ثُمَّ سَارَ إِلَى مُعَاوِيَة فِي أَهْل الْحِجَاز وَالْعِرَاق وَسَارَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَة فِي أَهْل الشَّام ; فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ بِمَوْضِعٍ يُقَال ل | مَسْكِن | مِنْ أَرْض السَّوَاد بِنَاحِيَةِ الْأَنْبَار كَرِهَ الْحَسَن الْقِتَال لِعِلْمِهِ أَنَّ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ لَا تَغْلِب حَتَّى تَهْلِك أَكْثَر الْأُخْرَى فَيَهْلِك الْمُسْلِمُونَ ; فَسَلَّمَ الْأَمْر إِلَى مُعَاوِيَة عَلَى شُرُوط شَرَطَهَا عَلَيْهِ , مِنْهَا أَنْ يَكُون الْأَمْر لَهُ مِنْ بَعْد مُعَاوِيَة , فَالْتَزَمَ كُلّ ذَلِكَ مُعَاوِيَة فَصَدَقَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( إِنَّ اِبْنِي هَذَا سَيِّد ) وَلَا أَسْوَد مِمَّنْ سَوَّدَهُ اللَّه تَعَالَى وَرَسُوله . قَالَ قَتَادَة فِي قَوْله تَعَالَى | وَسَيِّدًا | قَالَ : فِي الْعِلْم وَالْعِبَادَة . اِبْن جُبَيْر وَالضَّحَّاك : فِي الْعِلْم وَالْتُّقَى . مُجَاهِد : السَّيِّد الْكَرِيم . اِبْن زَيْد : الَّذِي لَا يَغْلِبهُ الْغَضَب . وَقَالَ الزَّجَّاج : السَّيِّد الَّذِي يَفُوق أَقْرَانه فِي كُلّ شَيْء مِنْ الْخَيْر . وَهَذَا جَامِع . وَقَالَ الْكِسَائِيّ : السَّيِّد مِنْ الْمَعْز الْمُسِنّ . وَفِي الْحَدِيث ( ثَنِيّ مِنْ الضَّأْن خَيْر مِنْ السَّيِّد الْمَعْز ) . قَالَ : <br>سَوَاء عَلَيْهِ شَاة عَام دَنَتْ لَهُ .......... لِيَذْبَحهَا لِلضَّيْفِ أَمْ شَاة سَيِّد<br>|وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ|أَصْله مِنْ الْحَصْر وَهُوَ الْحَبْس . حَصَرَنِي الشَّيْء وَأَحْصَرَنِي إِذَا حَبَسَنِي . قَالَ اِبْن مَيَّادَة : <br>وَمَا هَجْرُ لَيْلَى أَنْ تَكُون تَبَاعَدَتْ .......... عَلَيْك وَلَا أَنْ أَحْصَرَتْك شُغُول <br>وَنَاقَة حَصُور : ضَيِّقَة الإحليل . وَالْحَصُور الَّذِي لَا يَأْتِي النِّسَاء كَأَنَّهُ مُحْجِم عَنْهُنَّ ; كَمَا يُقَال : رَجُل حَصُور وَحَصِير إِذَا حَبَسَ رِفْده وَلَمْ يُخْرِج مَا يُخْرِجهُ النَّدَامَى . يُقَال : شَرِبَ الْقَوْم فَحَصِرَ عَلَيْهِمْ فُلَان , أَيْ بَخِلَ ; عَنْ أَبِي عَمْرو . قَالَ الْأَخْطَل : <br>وَشَارِب مُرْبِح بِالْكَأْسِ نَادَمَنِي .......... لَا بِالْحَصُورِ وَلَا فِيهَا بِسَوَّارِ <br>وَفِي التَّنْزِيل | وَجَعَلْنَا جَهَنَّم لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا | [ الْإِسْرَاء : 8 ] أَيْ مَحْبِسًا . وَالْحَصِير الْمَلِك لِأَنَّهُ مَحْجُوب . وَقَالَ لَبِيد : <br>وَقُمَاقِم غُلْب الرِّقَاب كَأَنَّهُمْ .......... جِنٌّ لَدَى بَاب الْحَصِير قِيَام <br>فَيَحْيَى عَلَيْهِ السَّلَام حَصُور , فَعُول بِمَعْنَى مَفْعُول لَا يَأْتِي النِّسَاء ; كَأَنَّهُ مَمْنُوع مِمَّا يَكُون فِي الرِّجَال ; عَنْ اِبْن مَسْعُود وَغَيْره . وَفَعُول بِمَعْنَى مَفْعُول كَثِير فِي اللُّغَة , مِنْ ذَلِكَ حَلُوب بِمَعْنَى مَحْلُوبَة ; قَالَ الشَّاعِر : <br>فِيهَا اِثْنَتَانِ وَأَرْبَعُونَ حَلُوبَة .......... سُودًا كَخَافِيَةِ الْغُرَاب الْأَسْحَم <br>وَقَالَ اِبْن مَسْعُود أَيْضًا وَابْن عَبَّاس وَابْن جُبَيْر وَقَتَادَة وَعَطَاء وَأَبُو الشَّعْثَاء وَالْحَسَن وَابْن زَيْد : هُوَ الَّذِي يَكُفّ عَنْ النِّسَاء وَلَا يَقْرَبهُنَّ مَعَ الْقُدْرَة . وَهَذَا أَصَحّ الْأَقْوَال لِوَجْهَيْنِ : أَحَدهمَا أَنَّهُ مَدْح وَثَنَاء عَلَيْهِ , وَالثَّنَاء إِنَّمَا يَكُون عَنْ الْفِعْل الْمُكْتَسَب دُون الْجِبِلَّة فِي الْغَالِب . الثَّانِي أَنَّ فَعُولًا فِي اللُّغَة مِنْ صِيَغ الْفَاعِلِينَ ; كَمَا قَالَ : <br>ضَرُوب بِنَصْلِ السَّيْف سُوقَ سِمَانِهَا .......... إِذَا عَدِمُوا زَادًا فَإِنَّك عَاقِرُ <br>فَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَحْصُر نَفْسه عَنْ الشَّهَوَات . وَلَعَلَّ هَذَا كَانَ شَرْعه ; فَأَمَّا شَرْعنَا فَالنِّكَاح , كَمَا تَقَدَّمَ . وَقِيلَ : الْحَصُور الْعِنِّين الَّذِي لَا ذَكَر لَهُ يَتَأَتَّى لَهُ بِهِ النِّكَاح وَلَا يُنْزِل ; عَنْ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا وَسَعِيد بْن الْمُسَيِّب وَالضَّحَّاك . وَرَوَى أَبُو صَالِح عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( كُلّ اِبْن آدَم يَلْقَى اللَّه بِذَنْبٍ قَدْ أَذْنَبَهُ يُعَذِّبهُ عَلَيْهِ إِنْ شَاءَ أَوْ يَرْحَمهُ إِلَّا يَحْيَى بْن زَكَرِيَّا فَإِنَّهُ كَانَ سَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنْ الصَّالِحِينَ ) - ثُمَّ أَهْوَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ إِلَى قَذَاة مِنْ الْأَرْض فَأَخَذَهَا وَقَالَ : ( كَانَ ذَكَرُهُ هَكَذَا مِثْل هَذِهِ الْقَذَاة ) . وَقِيلَ : مَعْنَاهُ الْحَابِس نَفْسه عَنْ مَعَاصِي اللَّه عَزَّ وَجَلَّ . و | نَبِيًّا مِنْ الصَّالِحِينَ | قَالَ الزَّجَّاج : الصَّالِح الَّذِي يُؤَدِّي لِلَّهِ مَا اِفْتَرَضَ عَلَيْهِ , وَإِلَى النَّاس حُقُوقهمْ . | قَالَ رَبّ | قِيلَ : الرَّبّ هُنَا جِبْرِيل , أَيْ قَالَ لِجِبْرِيل : رَبّ - أَيْ يَا سَيِّدِي - أَنَّى يَكُون لِي غُلَام ؟ يَعْنِي وَلَدًا ; وَهَذَا قَوْل الْكَلْبِيّ . وَقَالَ بَعْضهمْ : قَوْله | رَبّ | يَعْنِي اللَّه تَعَالَى .

قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ

| أَنَّى | بِمَعْنَى كَيْفَ , وَهُوَ فِي مَوْضِع نَصْب عَلَى الظَّرْف . وَفِي مَعْنَى هَذَا الِاسْتِفْهَام وَجْهَانِ : أَحَدهمَا أَنَّهُ سَأَلَ هَلْ يَكُون لَهُ الْوَلَد وَهُوَ وَامْرَأَته عَلَى حَالَيْهِمَا أَوْ يُرَدَّانِ إِلَى حَال مَنْ يَلِد ؟ . الثَّانِي سَأَلَ هَلْ يُرْزَق الْوَلَد مِنْ اِمْرَأَته الْعَاقِر أَوْ مِنْ غَيْرهَا . وَقِيلَ : الْمَعْنَى بِأَيِّ مَنْزِلَة أَسْتَوْجِب هَذَا وَأَنَا وَامْرَأَتِي عَلَى هَذِهِ الْحَال ; عَلَى وَجْه التَّوَاضُع . وَيُرْوَى أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ دُعَائِهِ وَالْوَقْت الَّذِي بُشِّرَ فِيهِ أَرْبَعُونَ سَنَة , وَكَانَ يَوْم بُشِّرَ اِبْن تِسْعِينَ سَنَة وَامْرَأَته قَرِيبَة السِّنّ مِنْهُ . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَالضَّحَّاك : كَانَ يَوْم بُشِّرَ اِبْن عِشْرِينَ وَمِائَة سَنَة وَكَانَتْ اِمْرَأَته بِنْت ثَمَان وَتِسْعِينَ سَنَة ; فَذَلِكَ قَوْله | وَامْرَأَتِي عَاقِر | أَيْ عَقِيم لَا تَلِد . يُقَال : رَجُل عَاقِر وَامْرَأَة عَاقِر بَيِّنَة الْعُقْر . وَقَدْ عَقُرَتْ وَعَقُرَ ( بِضَمِّ الْقَاف فِيهِمَا ) تَعْقُر عُقْرًا صَارَتْ عَاقِرًا , مِثْل حَسُنَتْ تَحْسُن حُسْنًا ; عَنْ أَبِي زَيْد . وَعُقَارَة أَيْضًا . وَأَسْمَاء الْفَاعِلِينَ مِنْ فَعُلَ فَعِيلَة , يُقَال : عَظُمَتْ فَهِيَ عَظِيمَة , وَظَرُفَتْ فَهِيَ ظَرِيفَة . وَإِنَّمَا قِيلَ عَاقِر لِأَنَّهُ يُرَاد بِهِ ذَات عُقْر عَلَى النَّسَب , وَلَوْ كَانَ عَلَى الْفِعْل لَقَالَ : عَقُرَتْ فَهِيَ عَقِيرَة كَأَنَّ بِهَا عُقْرًا , أَيْ كِبَرًا مِنْ السِّنّ يَمْنَعهَا مِنْ الْوَلَد . وَالْعَاقِر : الْعَظِيم مِنْ الرَّمْل لَا يَنْبُت شَيْئًا . وَالْعُقْر أَيْضًا مَهْر الْمَرْأَة إِذَا وُطِئَتْ عَلَى شُبْهَة . وَبَيْضَة الْعُقْر : زَعَمُوا هِيَ بَيْضَة الدِّيك ; لِأَنَّهُ يَبِيض فِي عُمْره بَيْضَة وَاحِدَة إِلَى الطُّول . وَعُقْر النَّار أَيْضًا وَسَطهَا وَمُعْظَمهَا . وَعُقْر الْحَوْض : مُؤَخَّره حَيْثُ تَقِف الْإِبِل إِذَا وَرَدَتْ ; يُقَال : عُقْر وَعُقُر مِثْل عُسْر وَعُسُر , وَالْجَمْع الْأَعْقَار فَهُوَ لَفْظ مُشْتَرَك|قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ|وَالْكَاف فِي قَوْله | كَذَلِكَ | فِي مَوْضِع نَصْب , أَيْ يَفْعَل اللَّه مَا يَشَاء مِثْل ذَلِكَ . وَالْغُلَام مُشْتَقّ مِنْ الْغُلْمَة وَهُوَ شِدَّة طَلَب النِّكَاح . وَاغْتَلَمَ الْفَحْل غُلْمَة هَاجَ مِنْ شَهْوَة الضِّرَاب . وَقَالَتْ لَيْلَى الْأَخْيَلِيَّة : <br>شَفَاهَا مِنْ الدَّاء الْعُضَال الَّذِي بِهَا .......... غُلَام إِذَا هَزَّ الْقَنَاة سَقَاهَا <br>وَالْغُلَام الطَّارّ الشَّابّ . وَهُوَ بَيْنَ الْغُلُومَة وَالْغُلُومِيَّة , وَالْجَمْع الْغُلْمَة وَالْغِلْمَان . وَيُقَال : إِنَّ الْغَيْلَم الشَّابّ وَالْجَارِيَة أَيْضًا . وَالْغَيْلَم : ذَكَر السُّلَحْفَاة . وَالْغَيْلَم : مَوْضِع . وَاغْتَلَمَ الْبَحْر : هَاجَ وَتَلَاطَمَتْ أَمْوَاجه .

قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ

| جَعَلَ | هُنَا بِمَعْنَى صَيَّرَ لِتَعَدِّيهِ إِلَى مَفْعُولَيْنِ . و | لِي | فِي مَوْضِع الْمَفْعُول الثَّانِي . وَلَمَّا بُشِّرَ بِالْوَلَدِ وَلَمْ يَبْعُد عِنْده هَذَا فِي قُدْرَة اللَّه تَعَالَى طَلَب آيَة - أَيْ عَلَامَة - يَعْرِف بِهَا صِحَّة هَذَا الْأَمْر وَكَوْنه مِنْ عِنْد اللَّه تَعَالَى ; فَعَاقَبَهُ اللَّه تَعَالَى بِأَنْ أَصَابَهُ السُّكُوت عَنْ كَلَام النَّاس لِسُؤَالِ الْآيَة بَعْد مُشَافَهَة الْمَلَائِكَة إِيَّاهُ ; قَالَ أَكْثَر الْمُفَسِّرِينَ . قَالُوا : وَكَذَلِكَ إِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ مَرَض خَرَس أَوْ نَحْوه فَفِيهِ عَلَى كُلّ حَال عِقَاب مَا . قَالَ اِبْن زَيْد : إِنَّ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَام لَمَّا حَمَلَتْ زَوْجه مِنْهُ بِيَحْيَى أَصْبَحَ لَا يَسْتَطِيع أَنْ يُكَلِّم أَحَدًا , وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَقْرَأ التَّوْرَاة وَيَذْكُر اللَّه تَعَالَى ; فَإِذَا أَرَادَ مُقَاوَلَة أَحَد لَمْ يُطِقْهُ . الثَّانِيَة : | قَالَ آيَتك أَلَّا تَكَلَّمَ النَّاس ثَلَاثَة أَيَّام إِلَّا رَمْزًا | الرَّمْز فِي اللُّغَة الْإِيمَاء بِالشَّفَتَيْنِ , وَقَدْ يُسْتَعْمَل فِي الْإِيمَاء بِالْحَاجِبَيْنِ وَالْعَيْنَيْنِ وَالْيَدَيْنِ ; وَأَصْله الْحَرَكَة . وَقِيلَ : طَلَب , تِلْكَ الْآيَة زِيَادَة طُمَأْنِينَة . الْمَعْنَى : تَمِّمْ النِّعْمَة بِأَنْ تَجْعَل لِي آيَة , وَتَكُون تِلْكَ الْآيَة زِيَادَة نِعْمَة وَكَرَامَة ; فَقِيلَ لَهُ : | آيَتك أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاس ثَلَاثَة أَيَّام | أَيْ تَمْنَع مِنْ الْكَلَام ثَلَاث لَيَالٍ ; دَلِيل هَذَا الْقَوْل قَوْله تَعَالَى بَعْد بُشْرَى الْمَلَائِكَة لَهُ . | وَقَدْ خَلَقْتُك مِنْ قَبْل وَلَمْ تَكُ شَيْئًا | [ مَرْيَم : 9 ] أَيْ أَوْجَدْتُك بِقُدْرَتِي فَكَذَلِكَ أُوجِد لَك الْوَلَد . وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْل النَّحَّاس وَقَالَ : قَوْل قَتَادَة إِنَّ زَكَرِيَّا عُوقِبَ بِتَرْكِ الْكَلَام قَوْل مَرْغُوب عَنْهُ ; لِأَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يُخْبِرنَا أَنَّهُ أَذْنَبَ وَلَا أَنَّهُ نَهَاهُ عَنْ هَذَا ; وَالْقَوْل فِيهِ أَنَّ الْمَعْنَى اِجْعَلْ لِي عَلَامَة تَدُلّ عَلَى كَوْن الْوَلَد , إِذْ كَانَ ذَلِكَ مُغَيَّبًا عَنِّي . و | رَمْزًا | نُصِبَ عَلَى الِاسْتِثْنَاء الْمُنْقَطِع ; قَالَهُ الْأَخْفَش . وَقَالَ الْكِسَائِيّ : رَمَزَ يَرْمِز وَيَرْمُز . وَقُرِئَ | إِلَّا رَمْزًا | بِفَتْحِ الْمِيم و | رُمُزًا | بِضَمِّهَا وَضَمّ الرَّاء , الْوَاحِدَة رَمْزَة .</p><p>الثَّالِثَة : فِي هَذِهِ الْآيَة دَلِيل عَلَى أَنَّ الْإِشَارَة تَنْزِل مَنْزِلَة الْكَلَام وَذَلِكَ مَوْجُود فِي كَثِير مِنْ السُّنَّة , وَآكَدُ الْإِشَارَات مَا حَكَمَ بِهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَمْر السَّوْدَاء حِينَ قَالَ لَهَا : ( أَيْنَ اللَّه ) ؟ فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا إِلَى السَّمَاء فَقَالَ : ( أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَة ) . فَأَجَازَ الْإِسْلَام بِالْإِشَارَةِ الَّذِي هُوَ أَصْل الدِّيَانَة الَّذِي يُحْرِز الدَّم وَالْمَال وَتُسْتَحَقّ بِهِ الْجَنَّة وَيُنَجَّى بِهِ مِنْ النَّار , وَحُكِمَ بِإِيمَانِهَا كَمَا يُحْكَم بِنُطْقِ مَنْ يَقُول ذَلِكَ ; فَيَجِب أَنْ تَكُون الْإِشَارَة عَامِلَة فِي سَائِر الدِّيَانَة , وَهُوَ قَوْل عَامَّة الْفُقَهَاء . وَرَوَى اِبْن الْقَاسِم عَنْ مَالِك أَنَّ الْأَخْرَس إِذَا أَشَارَ بِالطَّلَاقِ أَنَّهُ يَلْزَمهُ . وَقَالَ الشَّافِعِيّ فِي الرَّجُل يَمْرَض فَيَخْتَلّ لِسَانه فَهُوَ كَالْأَخْرَسِ فِي الرَّجْعَة وَالطَّلَاق . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : ذَلِكَ جَائِز إِذَا كَانَتْ إِشَارَته تُعْرَف , وَإِنْ شَكَّ فِيهَا فَهِيَ بَاطِل , وَلَيْسَ ذَلِكَ بِقِيَاسٍ وَإِنَّمَا هُوَ اِسْتِحْسَان . وَالْقِيَاس فِي هَذَا كُلّه أَنَّهُ بَاطِل ; لِأَنَّهُ لَا يَتَكَلَّم وَلَا تُعْقَل إِشَارَته . قَالَ أَبُو الْحَسَن بْن بَطَّال : وَإِنَّمَا حَمَلَ أَبَا حَنِيفَة . عَلَى قَوْله هَذَا أَنَّهُ لَمْ يَعْلَم السُّنَن الَّتِي جَاءَتْ بِجَوَازِ الْإِشَارَات فِي أَحْكَام مُخْتَلِفَة فِي الدِّيَانَة . وَلَعَلَّ الْبُخَارِيّ حَاوَلَ بِتَرْجَمَتِهِ | بَاب الْإِشَارَة فِي الطَّلَاق وَالْأُمُور | الرَّدّ عَلَيْهِ . وَقَالَ عَطَاء : أَرَادَ بِقَوْلِهِ | أَلَّا تُكَلِّم النَّاس | صَوْم ثَلَاثَة أَيَّام . وَكَانُوا إِذَا صَامُوا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا رَمْزًا . وَهَذَا فِيهِ بُعْد . وَاَللَّه أَعْلَم .</p><p>الرَّابِعَة : قَالَ بَعْض مَنْ يُجِيز نَسْخ الْقُرْآن بِالسُّنَّةِ : إِنَّ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَام مَنَعَ الْكَلَام وَهُوَ قَادِر عَلَيْهِ , وَإِنَّهُ مَنْسُوخ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( لَا صَمَتَ يَوْمًا إِلَى اللَّيْل ) . وَأَكْثَر الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمَنْسُوخٍ , وَأَنَّ زَكَرِيَّا إِنَّمَا مَنَعَ الْكَلَام بِآفَةٍ دَخَلَتْ عَلَيْهِ مَنَعَتْهُ إِيَّاهُ , وَتِلْكَ الْآفَة عَدَم الْقُدْرَة عَلَى الْكَلَام مَعَ الصِّحَّة ; كَذَلِكَ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ . وَذَهَبَ كَثِير مِنْ الْعُلَمَاء إِلَى أَنَّهُ ( لَا صَمَتَ يَوْمًا إِلَى اللَّيْل ) إِنَّمَا مَعْنَاهُ عَنْ ذِكْر اللَّه , وَأَمَّا عَنْ الْهَذَر وَمَا لَا فَائِدَة فِيهِ , فَالصَّمْت عَنْ ذَلِكَ حَسَن .|وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ|أَمَرَهُ بِأَلَّا يَتْرُك الذِّكْر فِي نَفْسه مَعَ اِعْتِقَال لِسَانه ; عَلَى الْقَوْل الْأَوَّل . وَقَدْ مَضَى فِي الْبَقَرَة مَعْنَى الذِّكْر . وَقَالَ مُحَمَّد بْن كَعْب الْقُرَظِيّ : لَوْ رُخِّصَ لِأَحَدٍ فِي تَرْك الذِّكْر لَرُخِّصَ لِزَكَرِيَّا بِقَوْلِ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : | أَلَّا تُكَلِّم النَّاس ثَلَاثَة أَيَّام إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبّك كَثِيرًا | وَلَرُخِّصَ لِلرَّجُلِ يَكُون فِي الْحَرْب بِقَوْلِ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : | إِذَا لَقِيتُمْ فِئَة فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّه كَثِيرًا | [ الْأَنْفَال : 45 ] . وَذَكَرَهُ الطَّبَرِيّ . | وَسَبِّحْ | أَيْ صَلِّ ; سُمِّيَتْ الصَّلَاة سُبْحَة لِمَا فِيهَا مِنْ تَنْزِيه اللَّه تَعَالَى عَنْ السُّوء . و | الْعَشِيّ | جَمْع عَشِيَّة . وَقِيلَ : هُوَ وَاحِد . وَذَلِكَ مِنْ حِين تَزُول الشَّمْس إِلَى أَنْ تَغِيب ; عَنْ مُجَاهِد . وَفِي الْمُوَطَّأ عَنْ الْقَاسِم بْن مُحَمَّد قَالَ : مَا أَدْرَكْت النَّاس إِلَّا وَهُمْ يُصَلُّونَ الظُّهْر بِعَشِيٍّ . | وَالْإِبْكَار | مِنْ طُلُوع الْفَجْر إِلَى وَقْت الضُّحَى .

وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ

أَيْ اِخْتَارَك , وَقَدْ تَقَدَّمَ .|اصْطَفَاكِ|أَيْ مِنْ الْكُفْر ; عَنْ مُجَاهِد وَالْحَسَن . الزَّجَّاج : مِنْ سَائِر الْأَدْنَاس مِنْ الْحَيْض وَالنِّفَاس وَغَيْرهمَا , وَاصْطَفَاك لِوِلَادَةِ عِيسَى .|وَطَهَّرَكِ|وَكَرَّرَ الِاصْطِفَاء لِأَنَّ مَعْنَى الْأَوَّل الِاصْطِفَاء لِعِبَادَتِهِ , وَمَعْنَى الثَّانِي لِوِلَادَةِ عِيسَى .|وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ|يَعْنِي عَالَمِي زَمَانهَا ; عَنْ الْحَسَن وَابْن جُرَيْج وَغَيْرهمَا . وَقِيلَ : | عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ | أَجْمَع إِلَى يَوْم الصُّور , وَهُوَ الصَّحِيح عَلَى مَا نُبَيِّنهُ , وَهُوَ قَوْل الزَّجَّاج وَغَيْره . وَرَوَى مُسْلِم عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( كَمُلَ مِنْ الرِّجَال كَثِير وَلَمْ يَكْمُل مِنْ النِّسَاء غَيْر مَرْيَم بِنْت عِمْرَان وَآسِيَة اِمْرَأَة فِرْعَوْن وَإِنَّ فَضْل عَائِشَة عَلَى النِّسَاء كَفَضْلِ الثَّرِيد عَلَى سَائِر الطَّعَام ) . قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَة اللَّه عَلَيْهِمْ : الْكَمَال هُوَ التَّنَاهِي وَالتَّمَام ; وَيُقَال فِي مَاضِيه | كَمُلَ | بِفَتْحِ الْمِيم وَضَمّهَا , وَيَكْمُل فِي مُضَارِعه بِالضَّمِّ , وَكَمَال كُلّ شَيْء بِحَسْبِهِ . وَالْكَمَال الْمُطْلَق إِنَّمَا هُوَ لِلَّهِ تَعَالَى خَاصَّة . وَلَا شَكَّ أَنَّ أَكْمَلَ نَوْع الْإِنْسَان الْأَنْبِيَاء ثُمَّ يَلِيهِمْ الْأَوْلِيَاء مِنْ الصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ . وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَقَدْ قِيلَ : إِنَّ الْكَمَال الْمَذْكُور فِي الْحَدِيث يَعْنِي بِهِ النُّبُوَّة فَيَلْزَم عَلَيْهِ أَنْ تَكُون مَرْيَم عَلَيْهَا السَّلَام وَآسِيَة نَبِيَّتَيْنِ , وَقَدْ قِيلَ بِذَلِكَ . وَالصَّحِيح أَنَّ مَرْيَم نَبِيَّة ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى أَوْحَى إِلَيْهَا بِوَاسِطَةِ الْمَلَك كَمَا أَوْحَى إِلَى سَائِر النَّبِيِّينَ حَسْب مَا تَقَدَّمَ وَيَأْتِي بَيَانه أَيْضًا فِي | مَرْيَم | . وَأَمَّا آسِيَة فَلَمْ يَرِد مَا يَدُلّ عَلَى نُبُوَّتهَا دَلَالَة وَاضِحَة بَلْ عَلَى صِدِّيقِيَّتهَا وَفَضْلهَا , عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه فِي | التَّحْرِيم | . وَرُوِيَ مِنْ طُرُق صَحِيحَة أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ أَبُو هُرَيْرَة : ( خَيْر نِسَاء الْعَالَمِينَ أَرْبَع مَرْيَم بِنْت عِمْرَان وَآسِيَة بِنْت مُزَاحِم اِمْرَأَة فِرْعَوْن وَخَدِيجَة بِنْت خُوَيْلِد وَفَاطِمَة بِنْت مُحَمَّد ) . وَمِنْ حَدِيث اِبْن عَبَّاس عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَفْضَل نِسَاء أَهْل الْجَنَّة خَدِيجَة بِنْت خُوَيْلِد وَفَاطِمَة بِنْت مُحَمَّد وَمَرْيَم بِنْت عِمْرَان وَآسِيَة بِنْت مُزَاحِم اِمْرَأَة فِرْعَوْن ) . وَفِي طَرِيق آخَر عَنْهُ : ( سَيِّدَة نِسَاء أَهْل الْجَنَّة بَعْد مَرْيَم فَاطِمَة وَخَدِيجَة ) . فَظَاهِر الْقُرْآن وَالْأَحَادِيث يَقْتَضِي أَنَّ مَرْيَم أَفْضَل مِنْ جَمِيع نِسَاء الْعَالَم مِنْ حَوَّاء إِلَى آخِر اِمْرَأَة تَقُوم عَلَيْهَا السَّاعَة ; فَإِنَّ الْمَلَائِكَة قَدْ بَلَّغَتْهَا الْوَحْي عَنْ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بِالتَّكْلِيفِ وَالْإِخْبَار وَالْبِشَارَة كَمَا بَلَّغَتْ سَائِر الْأَنْبِيَاء ; فَهِيَ إِذًا نَبِيَّة وَالنَّبِيّ أَفْضَل مِنْ الْوَلِيّ فَهِيَ أَفْضَل مِنْ كُلّ النِّسَاء : الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ مُطْلَقًا . ثُمَّ بَعْدهَا فِي الْفَضِيلَة فَاطِمَة ثُمَّ خَدِيجَة ثُمَّ آسِيَة . وَكَذَلِكَ رَوَاهُ مُوسَى بْن عُقْبَة عَنْ كُرَيْب عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( سَيِّدَة نِسَاء الْعَالَمِينَ مَرْيَم ثُمَّ فَاطِمَة ثُمَّ خَدِيجَة ثُمَّ آسِيَة ) . وَهَذَا حَدِيث حَسَن يَرْفَع الْإِشْكَال . وَقَدْ خَصَّ اللَّه مَرْيَم بِمَا لَمْ يُؤْتِهِ أَحَدًا مِنْ النِّسَاء ; وَذَلِكَ أَنَّ رُوح الْقُدُس كَلَّمَهَا وَظَهَرَ لَهَا وَنَفَخَ فِي دِرْعهَا وَدَنَا مِنْهَا لِلنَّفْخَةِ ; فَلَيْسَ هَذَا لِأَحَدٍ مِنْ النِّسَاء . وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبّهَا وَلَمْ تَسْأَل آيَة عِنْدَمَا بُشِّرَتْ كَمَا سَأَلَ زَكَرِيَّا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْآيَة ; وَلِذَلِكَ سَمَّاهَا اللَّه فِي تَنْزِيله صِدِّيقَة فَقَالَ : | وَأُمّه صِدِّيقَة | [ الْمَائِدَة : 75 ] . وَقَالَ : | وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبّهَا وَكُتُبه وَكَانَتْ مِنْ الْقَانِتِينَ | [ التَّحْرِيم : 12 ] فَشَهِدَ لَهَا بِالصِّدِّيقِيَّة وَشَهِدَ لَهَا بِالتَّصْدِيقِ لِكَلِمَاتِ الْبُشْرَى وَشَهِدَ لَهَا بِالْقُنُوتِ . وَإِنَّمَا بُشِّرَ زَكَرِيَّا بِغُلَامٍ فَلَحَظَ إِلَى كِبَر سِنّه وَعَقَامَة رَحِم اِمْرَأَته فَقَالَ : أَنَّى يَكُون لِي غُلَام وَامْرَأَتِي عَاقِر ; فَسَأَلَ آيَة ; وَبُشِّرَتْ مَرْيَم بِالْغُلَامِ فَلَحَظَتْ أَنَّهَا بِكْر وَلَمْ يَمْسَسْهَا بَشَر فَقِيلَ لَهَا : | كَذَلِكَ قَالَ رَبّك | [ مَرْيَم : 21 ] فَاقْتَصَرَتْ عَلَى ذَلِكَ , وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبّهَا وَلَمْ تَسْأَل آيَة مِمَّنْ يَعْلَم كُنْهُ هَذَا الْأَمْر , وَمَنْ لِامْرَأَةٍ فِي جَمِيع نِسَاء الْعَالَمِينَ مِنْ بَنَات آدَم مَا لَهَا مِنْ هَذِهِ الْمَنَاقِب . وَلِذَلِكَ رُوِيَ أَنَّهَا سَبَقَتْ السَّابِقِينَ مَعَ الرُّسُل إِلَى الْجَنَّة ; جَاءَ فِي الْخَبَر عَنْهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَوْ أَقْسَمْت لَبَرَرْت لَا يَدْخُل الْجَنَّة قَبْل سَابِقِي أُمَّتِي إِلَّا بِضْعَة عَشَر رَجُلًا مِنْهُمْ إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق وَيَعْقُوب وَالْأَسْبَاط وَمُوسَى وَعِيسَى وَمَرْيَم اِبْنَة عِمْرَان ) . وَقَدْ كَانَ يَحِقّ عَلَى مَنْ اِنْتَحَلَ عِلْم الظَّاهِر وَاسْتَدَلَّ بِالْأَشْيَاءِ الظَّاهِرَة عَلَى الْأَشْيَاء الْبَاطِنَة أَنْ يَعْرِف قَوْل رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( أَنَا سَيِّد وَلَد آدَم وَلَا فَخْر ) وَقَوْله حَيْثُ يَقُول : ( لِوَاء الْحَمْد يَوْم الْقِيَامَة بِيَدِي وَمَفَاتِيح الْكَرَم بِيَدِي وَأَنَا أَوَّل خَطِيب وَأَوَّل شَفِيع وَأَوَّل مُبَشِّر وَأَوَّل وَأَوَّل ) . فَلَمْ يَنَلْ هَذَا السُّؤْدُد فِي الدُّنْيَا عَلَى الرُّسُل إِلَّا لِأَمْرٍ عَظِيم فِي الْبَاطِن . وَكَذَلِكَ شَأْن مَرْيَم لَمْ تَنَلْ شَهَادَة اللَّه فِي التَّنْزِيل بِالصِّدِّيقِيَّة وَالتَّصْدِيق بِالْكَلِمَاتِ إِلَّا لِمَرْتَبَةٍ قَرِيبَة دَانِيَة . وَمَنْ قَالَ لَمْ تَكُنْ نَبِيَّة قَالَ : إِنَّ رُؤْيَتهَا لِلْمَلَكِ كَمَا رُئِيَ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام فِي صِفَة دِحْيَة الْكَلْبِيّ حِينَ سُؤَاله عَنْ الْإِسْلَام وَالْإِيمَان وَلَمْ تَكُنْ الصَّحَابَة بِذَلِكَ أَنْبِيَاء وَالْأَوَّل أَظْهَر وَعَلَيْهِ الْأَكْثَر . وَاَللَّه أَعْلَم .

يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ

أَيْ أَطِيلِي الْقِيَام فِي الصَّلَاة ; عَنْ مُجَاهِد . قَتَادَة : أَدِيمِي الطَّاعَة . وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْل فِي الْقُنُوت . قَالَ الْأَوْزَاعِيّ : لَمَّا قَالَتْ لَهَا الْمَلَائِكَة ذَلِكَ قَامَتْ فِي الصَّلَاة حَتَّى وَرِمَتْ قَدَمَاهَا وَسَالَتْ دَمًا وَقَيْحًا عَلَيْهَا السَّلَام .|لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي|قَدَّمَ السُّجُود هَاهُنَا عَلَى الرُّكُوع لِأَنَّ الْوَاو لَا تُوجِب التَّرْتِيب ; وَقَدْ تَقَدَّمَ الْخِلَاف فِي هَذَا فِي الْبَقَرَة عِنْد قَوْله تَعَالَى : | إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَة مِنْ شَعَائِر اللَّه | [ الْبَقَرَة : 158 ] . فَإِذَا قُلْت : قَامَ زَيْد وَعَمْرو جَازَ أَنْ يَكُون عَمْرو قَامَ قَبْل زَيْد , فَعَلَى هَذَا يَكُون الْمَعْنَى وَارْكَعِي وَاسْجُدِي . وَقِيلَ : كَانَ شَرْعهمْ السُّجُود قَبْل الرُّكُوع .|وَارْكَعِي مَعَ|قِيلَ : مَعْنَاهُ اِفْعَلِي كَفِعْلِهِمْ وَإِنْ لَمْ تُصَلِّي مَعَهُمْ . وَقِيلَ : الْمُرَاد بِهِ صَلَاة الْجَمَاعَة . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَة .

ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ

أَيْ الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ حَدِيث زَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَمَرْيَم عَلَيْهِمْ السَّلَام مِنْ أَخْبَار الْغَيْب .|نُوحِيهِ إِلَيْكَ|فِيهِ دَلَالَة عَلَى نُبُوَّة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ أُخْبِرَ عَنْ قِصَّة زَكَرِيَّا وَمَرْيَم وَلَمْ يَكُنْ قَرَأَ الْكُتُب ; وَأَخْبَرَ عَنْ ذَلِكَ وَصَدَّقَهُ أَهْل الْكِتَاب بِذَلِكَ ; فَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : نُوحِيه إِلَيْك | فَرَدَّ الْكِنَايَة إِلَى | ذَلِكَ | فَلِذَلِكَ ذُكِّرَ . وَالْإِيحَاء هُنَا الْإِرْسَال إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَالْوَحْي يَكُون إِلْهَامًا وَإِيمَاء وَغَيْر ذَلِكَ . وَأَصْله فِي اللُّغَة إِعْلَام فِي خَفَاء ; وَلِذَلِكَ صَارَ الْإِلْهَام يُسَمَّى وَحْيًا ; وَمِنْهُ | وَإِذْ أَوْحَيْت إِلَى الْحَوَارِيِّينَ | [ الْمَائِدَة : 111 ] وَقَوْله : | وَأَوْحَى رَبّك إِلَى النَّحْل | [ النَّحْل : 68 ] وَقِيلَ : مَعْنَى | أَوْحَيْت إِلَى الْحَوَارِيِّينَ | أَمَرْتهمْ ; يُقَال : وَحَى وَأَوْحَى , وَرَمَى وَأَرْمَى , بِمَعْنَاهُ . قَالَ الْعَجَّاج : <br>أَوْحَى لَهَا الْقَرَار فَاسْتَقَرَّتْ <br>أَيْ أَمَرَ الْأَرْض بِالْقَرَارِ .</p><p>وَفِي الْحَدِيث : ( الْوَحْي الْوَحْي ) وَهُوَ السُّرْعَة ; وَالْفِعْل مِنْهُ تَوَحَّيْت تَوَحِّيًا . قَالَ اِبْن فَارِس : الْوَحْي الْإِشَارَة وَالْكِتَابَة وَالرِّسَالَة , وَكُلّ مَا أَلْقَيْته إِلَى غَيْرك حَتَّى يَعْلَمهُ وَحْي كَيْفَ كَانَ . وَالْوَحْي : السَّرِيع . وَالْوَحَى : الصَّوْت ; وَيُقَال : اِسْتَوْحَيْنَاهُمْ أَيْ اِسْتَصْرَخْنَاهُمْ . قَالَ : <br>أَوْحَيْت مَيْمُونًا لَهَا وَالْأَرْزَاق<br>|وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ|أَيْ وَمَا كُنْت يَا مُحَمَّد لَدَيْهِمْ , أَيْ بِحَضْرَتِهِمْ وَعِنْدهمْ .|إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ|جَمْع قَلَم ; مِنْ قَلَمَهُ إِذَا قَطَعَهُ . قِيلَ : قِدَاحهمْ وَسِهَامهمْ . وَقِيلَ : أَقْلَامهمْ الَّتِي كَانُوا يَكْتُبُونَ بِهَا التَّوْرَاة , وَهُوَ أَجْوَد ; لِأَنَّ الْأَزْلَام قَدْ نَهَى اللَّه عَنْهَا فَقَالَ | ذَلِكُمْ فِسْق | [ الْمَائِدَة : 3 ] . إِلَّا أَنَّهُ يَجُوز أَنْ يَكُونُوا فَعَلُوا ذَلِكَ عَلَى غَيْر الْجِهَة الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهَا الْجَاهِلِيَّة تَفْعَلهَا .|أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ|أَيّ يَحْضُنهَا , فَقَالَ زَكَرِيَّا : أَنَا أَحَقّ بِهَا , خَالَتهَا عِنْدِي . وَكَانَتْ عِنْده أشيع بِنْت فاقود أُخْت حَنَّة بِنْت فاقود أُمّ مَرْيَم . وَقَالَ بَنُو إِسْرَائِيل : نَحْنُ أَحَقّ بِهَا , بِنْت عَالِمنَا . فَاقْتَرَعُوا عَلَيْهَا وَجَاءَ كُلّ وَاحِد بِقَلَمِهِ , وَاتَّفَقُوا أَنْ يَجْعَلُوا الْأَقْلَام فِي الْمَاء الْجَارِي فَمَنْ وَقَفَ قَلَمه وَلَمْ يَجُرّهُ الْمَاء فَهُوَ حَاضِنهَا . قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( فَجَرَتْ الْأَقْلَام وَعَالَ قَلَم زَكَرِيَّا ) . وَكَانَتْ آيَة لَهُ ; لِأَنَّهُ نَبِيّ تَجْرِي الْآيَات عَلَى يَدَيْهِ . وَقِيلَ غَيْر هَذَا . و | أَيّهمْ يَكْفُل مَرْيَم | اِبْتِدَاء وَخَبَر فِي مَوْضِع نَصْب بِالْفِعْلِ الْمُضْمَر الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَام ; التَّقْدِير : يَنْظُرُونَ أَيّهمْ يَكْفُل مَرْيَم . وَلَا يَعْمَل الْفِعْل فِي لَفْظ | أَيّ | لِأَنَّهَا اِسْتِفْهَام .</p><p>اِسْتَدَلَّ بَعْض عُلَمَائِنَا بِهَذِهِ الْآيَة عَلَى إِثْبَات الْقُرْعَة , وَهِيَ أَصْل فِي شَرْعنَا لِكُلِّ مَنْ أَرَادَ الْعَدْل فِي الْقِسْمَة , وَهِيَ سُنَّة عِنْد جُمْهُور الْفُقَهَاء فِي الْمُسْتَوِيِينَ فِي الْحُجَّة لِيَعْدِل بَيْنهمْ وَتَطْمَئِنّ قُلُوبهمْ وَتَرْتَفِع الظِّنَّة عَمَّنْ يَتَوَلَّى قِسْمَتهمْ , وَلَا يَفْضُل أَحَد مِنْهُمْ عَلَى صَاحِبه إِذَا كَانَ الْمَقْسُوم مِنْ جِنْس وَاحِد اِتِّبَاعًا لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّة . وَرَدَّ الْعَمَل بِالْقُرْعَةِ أَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه , وَرَدُّوا الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِيهَا , وَزَعَمُوا أَنَّهَا لَا مَعْنَى لَهَا وَأَنَّهَا تُشْبِه الْأَزْلَام الَّتِي نَهَى اللَّه عَنْهَا . وَحَكَى اِبْن الْمُنْذِر عَنْ أَبِي حَنِيفَة أَنَّهُ جَوَّزَهَا وَقَالَ : الْقُرْعَة فِي الْقِيَاس لَا تَسْتَقِيم , وَلَكِنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاس فِي ذَلِكَ وَأَخَذْنَا بِالْآثَارِ وَالسُّنَّة . قَالَ أَبُو عُبَيْد : وَقَدْ عَمِلَ بِالْقُرْعَةِ ثَلَاثَة مِنْ الْأَنْبِيَاء : يُونُس وَزَكَرِيَّا وَنَبِيّنَا مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر . وَاسْتِعْمَال الْقُرْعَة كَالْإِجْمَاعِ مِنْ أَهْل الْعِلْم فِيمَا يُقْسَم بَيْنَ الشُّرَكَاء , فَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ رَدَّهَا . وَقَدْ تَرْجَمَ الْبُخَارِيّ فِي آخِر كِتَاب الشَّهَادَات ( بَاب الْقُرْعَة فِي الْمُشْكِلَات وَقَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ | إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامهمْ | ) وَسَاقَ حَدِيث النُّعْمَان بْن بَشِير : ( مَثَل الْقَائِم عَلَى حُدُود اللَّه وَالْمُدْهِن فِيهَا مَثَل قَوْم اِسْتَهَمُّوا عَلَى سَفِينَة . .. ) الْحَدِيث . وَسَيَأْتِي فِي | الْأَنْفَال | إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى , وَفِي سُورَة | الزُّخْرُف | أَيْضًا بِحَوْلِ اللَّه سُبْحَانه , وَحَدِيث أُمّ الْعَلَاء , وَأَنَّ عُثْمَان بْن مَظْعُون طَارَ لَهُمْ سَهْمه فِي السُّكْنَى حِينَ اِقْتَرَعَتْ الْأَنْصَار سُكْنَى الْمُهَاجِرِينَ , الْحَدِيث , وَحَدِيث عَائِشَة قَالَتْ : كَانَ رَسُول اللَّه اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ فَأَيَّتهنَّ خَرَجَ سَهْمهَا خَرَجَ بِهَا ; وَذَكَرَ الْحَدِيث . وَقَدْ اِخْتَلَفَتْ الرِّوَايَة عَنْ مَالِك فِي ذَلِكَ ; فَقَالَ مَرَّة : يُقْرَع لِلْحَدِيثِ . وَقَالَ مَرَّة : يُسَافِر بِأَوْفَقِهِنَّ لَهُ فِي السَّفَر . وَحَدِيث أَبِي هُرَيْرَة أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( لَوْ يَعْلَم النَّاس مَا فِي النِّدَاء وَالصَّفّ الْأَوَّل ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لَاسْتَهَمُوا ) . وَالْأَحَادِيث فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَة . وَكَيْفِيَّة الْقُرْعَة مَذْكُورَة فِي كُتُب الْفِقْه وَالْخِلَاف . وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَة بِأَنْ قَالَ : إِنَّ الْقُرْعَة فِي شَأْن زَكَرِيَّا وَأَزْوَاج النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ مِمَّا لَوْ تَرَاضَوْا عَلَيْهِ دُونَ قُرْعَة لَجَازَ . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : | وَهَذَا ضَعِيف , لِأَنَّ الْقُرْعَة إِنَّمَا فَائِدَتهَا اِسْتِخْرَاج الْحُكْم الْخَفِيّ عِنْد التَّشَاحّ ; فَأَمَّا مَا يُخْرِجهُ التَّرَاضِي فِيهِ فَبَاب آخَر , وَلَا يَصِحّ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُول : إِنَّ الْقُرْعَة تَجْرِي مَعَ مَوْضِع التَّرَاضِي , فَإِنَّهَا لَا تَكُون أَبَدًا مَعَ التَّرَاضِي | وَإِنَّمَا تَكُون فِيمَا يَتَشَاحّ النَّاس فِيهِ وَيُضَنّ بِهِ . وَصِفَة الْقُرْعَة عِنْد الشَّافِعِيّ وَمَنْ قَالَ بِهَا : أَنْ تُقْطَع رِقَاع صِغَار مُسْتَوِيَة فَيُكْتَب فِي كُلّ رُقْعَة اِسْم ذِي السَّهْم ثُمَّ تُجْعَل فِي بَنَادِق طِين مُسْتَوِيَة لَا تَفَاوُت فِيهَا ثُمَّ تُجَفَّف قَلِيلًا ثُمَّ تُلْقَى فِي ثَوْب رَجُل لَمْ يَحْضُر ذَلِكَ وَيُغَطِّي عَلَيْهَا ثَوْبه ثُمَّ يُدْخِل وَيُخْرِج , فَإِذَا أَخْرَجَ اِسْم رَجُل أُعْطِيَ الْجُزْء الَّذِي أَقْرَعَ عَلَيْهِ .</p><p>وَدَلَّتْ الْآيَة أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْخَالَة أَحَقّ بِالْحَضَانَةِ مِنْ سَائِر الْقَرَابَات مَا عَدَا الْجَدَّة , وَقَدْ قَضَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي اِبْنَة حَمْزَة - وَاسْمهَا أَمَة اللَّه - لِجَعْفَرٍ وَكَانَتْ عِنْده خَالَتهَا , وَقَالَ : ( إِنَّمَا الْخَالَة بِمَنْزِلَةِ الْأُمّ ) وَقَدْ تَقَدَّمَتْ فِي الْبَقَرَة هَذِهِ الْمَسْأَلَة . وَخَرَّجَ أَبُو دَاوُد عَنْ عَلِيّ قَالَ : خَرَجَ زَيْد بْن حَارِثَة إِلَى مَكَّة فَقَدِمَ بِابْنَةِ حَمْزَة فَقَالَ جَعْفَر : أَنَا آخُذهَا أَنَا آخُذهَا أَنَا أَحَقّ بِهَا اِبْنَة عَمِّي وَخَالَتهَا عِنْدِي , وَإِنَّمَا الْخَالَة أُمّ . فَقَالَ عَلِيّ : أَنَا أَحَقّ بِهَا اِبْنَة عَمِّي وَعِنْدِي اِبْنَة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهِيَ أَحَقّ بِهَا . وَقَالَ زَيْد : أَنَا أَحَقّ بِهَا , أَنَا خَرَجْت إِلَيْهَا وَسَافَرْت وَقَدِمْت بِهَا ; فَخَرَجَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ حَدِيثًا قَالَ : ( وَأَمَّا الْجَارِيَة فَأَقْضِي بِهَا لِجَعْفَرٍ تَكُون مَعَ خَالَتهَا وَإِنَّمَا الْخَالَة أُمّ ) . وَذَكَرَ اِبْن أَبِي خَيْثَمَة أَنَّ زَيْد بْن حَارِثَة كَانَ وَصِيّ حَمْزَة , فَتَكُون الْخَالَة عَلَى هَذَا أَحَقّ مِنْ الْوَصِيّ وَيَكُون اِبْن الْعَمّ إِذَا كَانَ زَوْجًا غَيْر قَاطِع بِالْخَالَةِ فِي الْحَضَانَة وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَحْرَمًا لَهَا .

إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ

دَلِيل عَلَى نُبُوَّتهَا كَمَا تَقَدَّمَ . | وَإِذْ | مُتَعَلِّقَة ب | يَخْتَصِمُونَ | . وَيَجُوز أَنْ تَكُون مُتَعَلِّقَة بِقَوْلِهِ : | وَمَا كُنْت لَدَيْهِمْ | .|يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ|وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّان | بِكِلْمَةٍ مِنْهُ | يَعْنِي عِيسَى فِي قَوْل أَكْثَر الْمُفَسِّرِينَ . وَسُمِّيَ عِيسَى كَلِمَة لِأَنَّهُ كَانَ بِكَلِمَةِ اللَّه تَعَالَى الَّتِي هِيَ | كُنْ | فَكَانَ مِنْ غَيْر أَب . وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّال الْعَدَوِيّ | بِكِلْمَةٍ | مَكْسُورَة الْكَاف سَاكِنَة اللَّام فِي جَمِيع الْقُرْآن , وَهِيَ لُغَة فَصِيحَة مِثْل كِتْف وَفَخْذ . وَقِيلَ : سُمِّيَ كَلِمَة لِأَنَّ النَّاس يَهْتَدُونَ بِهِ كَمَا يَهْتَدُونَ بِكَلَامِ اللَّه تَعَالَى . وَقَالَ أَبُو عُبَيْد : مَعْنَى | بِكَلِمَةٍ مِنْ اللَّه | بِكِتَابٍ مِنْ اللَّه . قَالَ : وَالْعَرَب تَقُول أَنْشَدَنِي كَلِمَة أَيْ قَصِيدَة ; كَمَا رُوِيَ أَنَّ الْحُوَيْدِرَة ذُكِرَ لِحَسَّان فَقَالَ : لَعَنَ اللَّه كَلِمَته , يَعْنِي قَصِيدَته . وَقِيلَ غَيْر هَذَا مِنْ الْأَقْوَال . وَالْقَوْل الْأَوَّل أَشْهَر وَعَلَيْهِ مِنْ الْعُلَمَاء الْأَكْثَر .|مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ|وَلَمْ يَقُلْ اِسْمهَا لِأَنَّ مَعْنَى كَلِمَة مَعْنَى وَلَد . وَالْمَسِيح لَقَب لِعِيسَى وَمَعْنَاهُ الصِّدِّيق ; قَالَهُ إِبْرَاهِيم النَّخَعِيّ . وَهُوَ فِيمَا يُقَال مُعَرَّب وَأَصْله الشِّين وَهُوَ مُشْتَرَك . وَقَالَ اِبْن فَارِس : وَالْمَسِيح الْعِرْق , وَالْمَسِيح الصِّدِّيق , وَالْمَسِيح الدِّرْهَم الْأَطْلَس لَا نَقْش فِيهِ وَالْمَسْح الْجِمَاع ; يُقَال مَسَحَهَا . وَالْأَمْسَح : الْمَكَان الْأَمْلَس . وَالْمَسْحَاء الْمَرْأَة الرَّسْحَاء الَّتِي لَا اِسْت لَهَا . وَبِفُلَانٍ مَسْحَة مِنْ جَمَال . وَالْمَسَائِح قِسِيّ جِيَاد , وَاحِدَتهَا مَسِيحَة . قَالَ : <br>لَهَا مَسَائِح زُور فِي مَرَاكِضهَا .......... لِين وَلَيْسَ بِهَا وَهْنٌ وَلَا رَقَق <br>وَاخْتُلِفَ فِي الْمَسِيح اِبْن مَرْيَم مِمَّا ذَا أُخِذَ ; فَقِيلَ : لِأَنَّهُ مَسَحَ الْأَرْض , أَيْ ذَهَبَ فِيهَا فَلَمْ يَسْتَكِنَّ بِكِنٍّ . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ كَانَ لَا يَمْسَح ذَا عَاهَة إِلَّا بَرِئَ ; فَكَأَنَّهُ سُمِّيَ مَسِيحًا لِذَلِكَ , فَهُوَ عَلَى هَذَا فَعِيل بِمَعْنَى فَاعِل . وَقِيلَ : لِأَنَّهُ مَمْسُوح بِدُهْنِ الْبَرَكَة , كَانَتْ الْأَنْبِيَاء تَمْسَح بِهِ , طَيِّب الرَّائِحَة ; فَإِذَا مَسَحَ بِهِ عُلِمَ أَنَّهُ نَبِيّ . وَقِيلَ : لِأَنَّهُ كَانَ مَمْسُوح الْأَخْمَصَيْنِ . وَقِيلَ : لِأَنَّ الْجَمَال مَسَحَهُ , أَيْ أَصَابَهُ وَظَهَرَ عَلَيْهِ . وَقِيلَ : إِنَّمَا سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ مُسِحَ بِالطُّهْرِ مِنْ الذُّنُوب . وَقَالَ أَبُو الْهَيْثَم : الْمَسِيح ضِدّ الْمَسِيخ ; يُقَال : مَسَحَهُ اللَّه أَيْ خَلَقَهُ خَلْقًا حَسَنًا مُبَارَكًا , وَمَسَخَهُ أَيْ خَلَقَهُ خَلْقًا مَلْعُونًا قَبِيحًا . وَقَالَ اِبْن الْأَعْرَابِيّ : الْمَسِيح الصِّدِّيق , وَالْمَسِيخ الْأَعْوَر , وَبِهِ سُمِّيَ الدَّجَّال . وَقَالَ أَبُو عُبَيْد : الْمَسِيح أَصْله بِالْعِبْرَانِيَّةِ مَشِيحَا بِالشِّينِ فَعُرِّبَ كَمَا عُرِّبَ مُوشَى بِمُوسَى . وَأَمَّا الدَّجَّال فَسُمِّيَ مَسِيحًا لِأَنَّهُ مَمْسُوح إِحْدَى الْعَيْنَيْنِ . وَقَدْ قِيلَ فِي الدَّجَّال مِسِّيح بِكَسْرِ الْمِيم وَشَدّ السِّين . وَبَعْضهمْ يَقُول كَذَلِكَ بِالْخَاءِ الْمَنْقُوطَة . وَبَعْضهمْ يَقُول مَسِيخ بِفَتْحِ الْمِيم وَبِالْخَاءِ وَالتَّخْفِيف ; وَالْأَوَّل أَشْهَر . وَعَلَيْهِ الْأَكْثَر . سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُ يَسِيح فِي الْأَرْض أَيْ يَطُوفهَا وَيَدْخُل جَمِيع بُلْدَانهَا إِلَّا مَكَّة وَالْمَدِينَة وَبَيْت الْمَقْدِس ; فَهُوَ فَعِيل بِمَعْنَى فَاعِل , فَالدَّجَّال يَمْسَح الْأَرْض مِحْنَة , وَابْن مَرْيَم يَمْسَحهَا مِنْحَة . وَعَلَى أَنَّهُ مَمْسُوح الْعَيْن فَعِيل بِمَعْنَى مَفْعُول . وَقَالَ الشَّاعِر : <br>إِنَّ الْمَسِيحَ يَقْتُل الْمَسِيخَا <br>وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ أَنَس بْن مَالِك قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَيْسَ مِنْ بَلَد إِلَّا سَيَطَؤُهُ الدَّجَّال إِلَّا مَكَّة وَالْمَدِينَة ) الْحَدِيث . وَوَقَعَ فِي حَدِيث عَبْد اللَّه بْن عَمْرو ( إِلَّا الْكَعْبَة وَبَيْت الْمَقْدِس ) ذَكَرَهُ أَبُو جَعْفَر الطَّبَرِيّ . وَزَادَ أَبُو جَعْفَر الطَّحَاوِيّ ( وَمَسْجِد الطُّور ) ; رَوَاهُ مِنْ حَدِيث جُنَادَة بْن أَبِي أُمَيَّة عَنْ بَعْض أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَفِي حَدِيث أَبِي بَكْر بْن أَبِي شَيْبَة عَنْ سَمُرَة بْن جُنْدُب عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( وَأَنَّهُ سَيَظْهَرُ عَلَى الْأَرْض كُلّهَا إِلَّا الْحَرَم وَبَيْت الْمَقْدِس وَأَنَّهُ يَحْصُر الْمُؤْمِنِينَ فِي بَيْت الْمَقْدِس ) . وَذَكَرَ الْحَدِيث . وَفِي صَحِيح مُسْلِم : ( فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ اللَّه الْمَسِيح اِبْن مَرْيَم فَيَنْزِل عِنْد الْمَنَارَة الْبَيْضَاء شَرْقِيَّ دِمَشْق بَيْنَ مَهْرُودَتَيْنِ وَاضِعًا كَفَّيْهِ عَلَى أَجْنِحَة مَلَكَيْنِ إِذَا طَأْطَأَ رَأْسه قَطَرَ وَإِذَا رَفَعَهُ تَحَدَّرَ مِنْهُ جُمَان كَاللُّؤْلُؤِ فَلَا يَحِلّ لِكَافِرٍ يَجِد رِيح نَفَسه إِلَّا مَاتَ , وَنَفَسه يَنْتَهِي حَيْثُ يَنْتَهِي طَرْفه فَيَطْلُبهُ حَتَّى يُدْرِكهُ بِبَابٍ لُدّ فَيَقْتُلهُ ) الْحَدِيث بِطُولِهِ . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ الْمَسِيح اِسْم لِعِيسَى غَيْر مُشْتَقّ سَمَّاهُ اللَّه بِهِ . فَعَلَى هَذَا يَكُون عِيسَى بَدَلًا مِنْ الْمَسِيح مِنْ الْبَدَل الَّذِي هُوَ هُوَ . وَعِيسَى اِسْم أَعْجَمِيّ فَلِذَلِكَ لَمْ يَنْصَرِف وَإِنْ جَعَلْته عَرَبِيًّا لَمْ يَنْصَرِف فِي مَعْرِفَة وَلَا نَكِرَة ; لِأَنَّ فِيهِ أَلِف تَأْنِيث . وَيَكُون مُشْتَقًّا مِنْ عَاسَهُ يَعُوسهُ إِذَا سَاسَهُ وَقَامَ عَلَيْهِ .|مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا|أَيْ شَرِيفًا ذَا جَاه وَقَدْر , وَانْتَصَبَ عَلَى الْحَال ; قَالَهُ الْأَخْفَش .|وَالْآخِرَةِ وَمِنَ|عِنْد اللَّه تَعَالَى وَهُوَ مَعْطُوف عَلَى | وَجِيهًا | أَيْ وَمُقَرَّبًا ; قَالَهُ الْأَخْفَش . وَجَمْع وَجِيه وُجَهَاء وَوِجْهَاء .

وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ

عَطْف عُلَى | وَجِيهًا | قَالَهُ الْأَخْفَش أَيْضًا .|فِي الْمَهْدِ|مَضْجَع الصَّبِيّ فِي رَضَاعه . وَمَهَّدْت الْأَمْر هَيَّأْته وَوَطَّأْته . وَفِي التَّنْزِيل | فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ | [ الرُّوم : 44 ] . وَامْتَهَدَ الشَّيْء اِرْتَفَعَ كَمَا يُمْتَهَد سَنَام الْبَعِير .|وَكَهْلًا|الْكَهْل بَيْنَ حَال الْغُلُومَة وَحَال الشَّيْخُوخَة . وَامْرَأَة كَهْلَة . وَاكْتَهَلَتْ الرَّوْضَة إِذَا عَمّهَا النُّور . يَقُول : يُكَلِّم النَّاس فِي الْمَهْد آيَة , وَيُكَلِّمهُمْ كَهْلًا بِالْوَحْيِ وَالرِّسَالَة . وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس : كَلَّمَهُمْ فِي الْمَهْد حِينَ بَرَّأَ أُمّه فَقَالَ : | إِنِّي عَبْد اللَّه | [ مَرْيَم : 30 ] الْآيَة . وَأَمَّا كَلَامه وَهُوَ كَهْل فَإِذَا أَنْزَلَهُ اللَّه تَعَالَى مِنْ السَّمَاء أَنْزَلَهُ عَلَى صُورَة اِبْن ثَلَاث وَثَلَاثِينَ سَنَة وَهُوَ الْكَهْل فَيَقُول لَهُمْ : | إِنِّي عَبْد اللَّه | كَمَا قَالَ فِي الْمَهْد . فَهَاتَانِ آيَتَانِ وَحُجَّتَانِ . قَالَ الْمَهْدَوِيّ : وَفَائِدَة الْآيَة أَنَّهُ أَعْلَمَهُمْ أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام يُكَلِّمهُمْ فِي الْمَهْد وَيَعِيش إِلَى أَنْ يُكَلِّمهُمْ كَهْلًا , إِذْ كَانَتْ الْعَادَة أَنَّ مَنْ تَكَلَّمَ فِي الْمَهْد لَمْ يَعِشْ . قَالَ الزَّجَّاج : | وَكَهْلًا | بِمَعْنَى وَيُكَلِّم النَّاس كَهْلًا . وَقَالَ الْفَرَّاء وَالْأَخْفَش : هُوَ مَعْطُوف عَلَى | وَجِيهًا | . وَقِيلَ : الْمَعْنَى وَيُكَلِّم النَّاس صَغِيرًا وَكَهْلًا . وَرَوَى اِبْن جُرَيْج عَنْ مُجَاهِد قَالَ : الْكَهْل الْحَلِيم . قَالَ النَّحَّاس : هَذَا لَا يُعْرَف فِي اللُّغَة , وَإِنَّمَا الْكَهْل عِنْد أَهْل اللُّغَة مَنْ نَاهَزَ الْأَرْبَعِينَ . وَقَالَ بَعْضهمْ : يُقَال لَهُ حَدَث إِلَى سِتّ عَشْرَة سَنَة . ثُمَّ شَابّ إِلَى اِثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ . ثُمَّ يَكْتَهِل فِي ثَلَاث وَثَلَاثِينَ ; قَالَهُ الْأَخْفَش .|وَمِنَ الصَّالِحِينَ|عَطْف عَلَى | وَجِيهًا | أَيْ وَهُوَ مِنْ الْعُبَّاد الصَّالِحِينَ . ذَكَرَ أَبُو بَكْر بْن أَبِي شَيْبَة حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن إِدْرِيس عَنْ حُصَيْن عَنْ هِلَال بْن يِسَاف . قَالَ : لَمْ يَتَكَلَّم فِي الْمَهْد إِلَّا ثَلَاثَة : عِيسَى وَصَاحِب يُوسُف وَصَاحِب جُرَيْج , كَذَا قَالَ : | وَصَاحِب يُوسُف | . وَهُوَ فِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( لَمْ يَتَكَلَّم فِي الْمَهْد إِلَّا ثَلَاثَة عِيسَى اِبْن مَرْيَم وَصَاحِب جُرَيْج وَصَاحِب الْجَبَّار وَبَيْنَا صَبِيّ يَرْضَع مِنْ أُمّه ) وَذَكَرَ الْحَدِيث , بِطُولِهِ . وَقَدْ جَاءَ مِنْ حَدِيث صُهَيْب فِي قِصَّة الْأُخْدُود ( أَنَّ اِمْرَأَة جِيءَ بِهَا لِتُلْقَى فِي النَّار عَلَى إِيمَانهَا وَمَعَهَا صَبِيّ ) . فِي غَيْر كِتَاب مُسْلِم ( يَرْضَع فَتَقَاعَسَتْ أَنْ تَقَع فِيهَا فَقَالَ الْغُلَام يَا أُمّه اِصْبِرِي فَإِنَّك عَلَى الْحَقّ ) . وَقَالَ الضَّحَّاك : تَكَلَّمَ فِي الْمَهْد سِتَّة : شَاهِد يُوسُف وَصَبِيّ مَاشِطَة اِمْرَأَة فِرْعَوْن وَعِيسَى وَيَحْيَى وَصَاحِب جُرَيْج وَصَاحِب الْجَبَّار . وَلَمْ يَذْكُر الْأُخْدُود , فَأَسْقَطَ صَاحِب الْأُخْدُود وَبِهِ يَكُون الْمُتَكَلِّمُونَ سَبْعَة . وَلَا مُعَارَضَة بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( لَمْ يَتَكَلَّم فِي الْمَهْد إِلَّا ثَلَاثَة ) بِالْحَصْرِ فَإِنَّهُ أَخْبَرَ بِمَا كَانَ فِي عِلْمه مِمَّا أُوحِيَ إِلَيْهِ فِي تِلْكَ الْحَال , ثُمَّ بَعْد هَذَا أَعْلَمَهُ اللَّه تَعَالَى بِمَا شَاءَ مِنْ ذَلِكَ فَأَخْبَرَ بِهِ .</p><p>قُلْت : أَمَّا صَاحِب يُوسُف فَيَأْتِي الْكَلَام فِيهِ , وَأَمَّا صَاحِب جُرَيْج وَصَاحِب الْجَبَّار وَصَاحِب الْأُخْدُود فَفِي صَحِيح مُسْلِم . وَسَتَأْتِي قِصَّة الْأُخْدُود فِي سُورَة | الْبُرُوج | إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَأَمَّا صَبِيّ مَاشِطَة اِمْرَأَة فِرْعَوْن , فَذَكَرَ الْبَيْهَقِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَمَّا أُسْرِيَ بِي سِرْت فِي رَائِحَة طَيِّبَة فَقُلْت مَا هَذِهِ الرَّائِحَة قَالُوا مَاشِطَة اِبْنَة فِرْعَوْن وَأَوْلَادهَا سَقَطَ مُشْطهَا مِنْ يَدَيْهَا فَقَالَتْ : بِسْمِ اللَّه فَقَالَتْ اِبْنَة فِرْعَوْن : أَبِي ؟ قَالَتْ : رَبِّي وَرَبّك وَرَبّ أَبِيك . قَالَتْ : أَوَلَك رَبّ غَيْر أَبِي ؟ قَالَتْ : نَعَمْ رَبِّي وَرَبّك وَرَبّ أَبِيك اللَّه - قَالَ - فَدَعَاهَا فِرْعَوْن فَقَالَ : أَلَك رَبّ غَيْرِي ؟ قَالَتْ : نَعَمْ رَبِّي وَرَبّك اللَّه - قَالَ - فَأَمَرَ بِنُقْرَةٍ مِنْ نُحَاس فَأُحْمِيَتْ ثُمَّ أَمَرَ بِهَا لِتُلْقَى فِيهَا قَالَتْ : إِنَّ لِي إِلَيْك حَاجَة قَالَ : مَا هِيَ ؟ قَالَتْ : تَجْمَع عِظَامِي وَعِظَام وَلَدِي فِي مَوْضِع وَاحِد قَالَ : ذَاكَ لَك لِمَا لَك عَلَيْنَا مِنْ الْحَقّ . فَأَمَرَ بِهِمْ فَأُلْقُوا وَاحِدًا بَعْد وَاحِد حَتَّى بَلَغَ رَضِيعًا فِيهِمْ فَقَالَ قَعِي يَا أُمّه وَلَا تَقَاعَسِي فَإِنَّا عَلَى الْحَقّ - قَالَ - وَتَكَلَّمَ أَرْبَعَة وَهُمْ صِغَار : هَذَا وَشَاهِد يُوسُف وَصَاحِب جُرَيْج وَعِيسَى ابْن مَرْيَم .

قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ

أَيْ يَا سَيِّدِي . تُخَاطِب جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام ; لِأَنَّهُ لَمَّا تَمَثَّلَ لَهَا قَالَ لَهَا : إِنَّمَا أَنَا رَسُول رَبّك لِيَهَب لَك غُلَامًا زَكِيًّا . فَلَمَّا سَمِعَتْ ذَلِكَ مِنْ قَوْله اِسْتَفْهَمَتْ عَنْ طَرِيق الْوَلَد فَقَالَتْ : أَنَّى يَكُون لِي وَلَد وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَر ؟ أَيْ بِنِكَاحٍ . فِي سُورَتهَا | وَلَمْ أَكُ بَغْيًا | [ مَرْيَم : 20 ]|وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ|ذَكَرَتْ هَذَا تَأْكِيدًا ; لِأَنَّ قَوْلهَا | لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَر | يَشْمَل الْحَرَام وَالْحَلَال . تَقُول : الْعَادَة الْجَارِيَة الَّتِي أَجْرَاهَا اللَّه فِي خَلْقه أَنَّ الْوَلَد لَا يَكُون إِلَّا عَنْ نِكَاح أَوْ سِفَاح . وَقِيلَ : مَا اِسْتَبْعَدَتْ مِنْ قُدْرَة اللَّه تَعَالَى شَيْئًا , وَلَكِنْ أَرَادَتْ كَيْفَ يَكُون هَذَا الْوَلَد : أَمِنْ قِبَل زَوْج فِي الْمُسْتَقْبَل أَمْ يَخْلُقهُ اللَّه اِبْتِدَاء ؟|قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ|فَرُوِيَ أَنَّ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام حِينَ قَالَ لَهَا : | كَذَلِكَ اللَّه يَخْلُق مَا يَشَاء | قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبّك هُوَ عَلَيَّ هَيِّن | [ مَرْيَم : 9 ] . نَفَخَ فِي جَيْب دِرْعهَا وَكُمّهَا ; قَالَ اِبْن جُرَيْج . قَالَ اِبْن عَبَّاس : أَخَذَ جِبْرِيل رُدْن قَمِيصهَا بِأُصْبُعِهِ فَنَفَخَ فِيهِ فَحَمَلَتْ مِنْ سَاعَتهَا بِعِيسَى . وَقِيلَ غَيْر ذَلِكَ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه فِي سُورَتهَا إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَقَالَ بَعْضهمْ : وَقَعَ نَفْخ جِبْرِيل فِي رَحِمهَا فَعَلِقَتْ بِذَلِكَ . وَقَالَ بَعْضهمْ : لَا يَجُوز أَنْ يَكُون الْخَلْق مِنْ نَفْخ جِبْرِيل لِأَنَّهُ يَصِير الْوَلَد بَعْضه مِنْ الْمَلَائِكَة وَبَعْضه مِنْ الْإِنْس , وَلَكِنَّ سَبَب ذَلِكَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى لَمَّا خَلَقَ آدَم وَأَخَذَ الْمِيثَاق مِنْ ذُرِّيَّته فَجَعَلَ بَعْض الْمَاء فِي أَصْلَاب الْآبَاء وَبَعْضه فِي أَرْحَام الْأُمَّهَات فَإِذَا اِجْتَمَعَ الْمَاءَانِ صَارَا وَلَدًا , وَأَنَّ اللَّه تَعَالَى جَعَلَ الْمَاءَيْنِ جَمِيعًا فِي مَرْيَم بَعْضه فِي رَحِمهَا وَبَعْضه فِي صُلْبهَا , فَنَفَخَ فِيهِ جِبْرِيل لِتَهِيجَ شَهْوَتهَا ; لِأَنَّ الْمَرْأَة مَا لَمْ تَهِجْ شَهْوَتهَا لَا تَحْبَل , فَلَمَّا هَاجَتْ شَهْوَتهَا بِنَفْخِ جِبْرِيل وَقَعَ الْمَاء الَّذِي كَانَ فِي صُلْبهَا فِي رَحِمهَا فَاخْتَلَطَ الْمَاءَانِ فَعَلِقَتْ بِذَلِكَ ;|إِذَا قَضَى أَمْرًا|يَعْنِي إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْلُق خَلْقًا|فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ|قِيلَ : الْكَاف مِنْ كَيْنُونه , وَالنُّون مِنْ نُوره ; وَهِيَ الْمُرَاد بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( أَعُوذ بِكَلِمَاتِ اللَّه التَّامَّات مِنْ شَرّ مَا خَلَقَ ) . وَيُرْوَى : ( بِكَلِمَةِ اللَّه التَّامَّة ) عَلَى الْإِفْرَاد . فَالْجَمْع لَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْكَلِمَة فِي الْأُمُور كُلّهَا , فَإِذَا قَالَ لِكُلِّ أَمْر كُنْ , وَلِكُلِّ شَيْء كُنْ , فَهُنَّ كَلِمَات . يَدُلّ عَلَى هَذَا مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي ذَرّ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يُحْكَى عَنْ اللَّه تَعَالَى : ( عَطَائِي كَلَام وَعَذَابِي كَلَام ) . خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيّ فِي حَدِيث فِيهِ طُول . وَالْكَلِمَة عَلَى الْإِفْرَاد بِمَعْنَى الْكَلِمَات أَيْضًا ; لَكِنْ لَمَّا تَفَرَّقَتْ الْكَلِمَة الْوَاحِدَة فِي الْأُمُور فِي الْأَوْقَات صَارَتْ كَلِمَات وَمَرْجِعهنَّ إِلَى كَلِمَة وَاحِدَة . وَإِنَّمَا قِيلَ | تَامَّة | لِأَنَّ أَقَلّ الْكَلَام عِنْد أَهْل اللُّغَة عَلَى ثَلَاثَة أَحْرُف : حَرْف مُبْتَدَأ , وَحَرْف تُحْشَى بِهِ الْكَلِمَة , وَحَرْف يُسْكَت عَلَيْهِ . وَإِذَا كَانَ عَلَى حَرْفَيْنِ فَهُوَ عِنْدهمْ مَنْقُوص , كَيَدٍ وَدَم وَفَم ; وَإِنَّمَا نَقَصَ لِعِلَّةٍ . فَهِيَ مِنْ الْآدَمِيِّينَ الْمَنْقُوصَات لِأَنَّهَا عَلَى حَرْفَيْنِ ; وَلِأَنَّهَا كَلِمَة مَلْفُوظَة بِالْأَدَوَاتِ . وَمِنْ رَبّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى تَامَّة ; لِأَنَّهَا بِغَيْرِ الْأَدَوَات , تَعَالَى عَنْ شَبَه الْمَخْلُوقِينَ .|فَيَكُونُ|قُرِئَ بِرَفْعِ النُّون عَلَى الِاسْتِئْنَاف . قَالَ سِيبَوَيْهِ . فَهُوَ يَكُون , أَوْ فَإِنَّهُ يَكُون . وَقَالَ غَيْره : هُوَ مَعْطُوف عَلَى | يَقُول | ; فَعَلَى الْأَوَّل كَائِنًا بَعْد الْأَمْر , وَإِنْ كَانَ مَعْدُومًا فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْجُود إِذَا هُوَ عِنْده مَعْلُوم ; عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه . وَعَلَى الثَّانِي كَائِنًا مَعَ الْأَمْر ; وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيّ وَقَالَ : أَمْره لِلشَّيْءِ | بِكُنْ | لَا يَتَقَدَّم الْوُجُود وَلَا يَتَأَخَّر عَنْهُ ; فَلَا يَكُون الشَّيْء مَأْمُورًا بِالْوُجُودِ إِلَّا وَهُوَ مَوْجُود بِالْأَمْرِ , وَلَا مَوْجُودًا إِلَّا وَهُوَ مَأْمُور بِالْوُجُودِ , عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه . قَالَ : وَنَظِيره قِيَام النَّاس مِنْ قُبُورهمْ لَا يَتَقَدَّم دُعَاء اللَّه وَلَا يَتَأَخَّر عَنْهُ ; كَمَا قَالَ | ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَة مِنْ الْأَرْض إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ | [ الرُّوم : 25 ] . وَضَعَّفَ اِبْن عَطِيَّة هَذَا الْقَوْل وَقَالَ : هُوَ خَطَأ مِنْ جِهَة الْمَعْنَى ; لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ الْقَوْل مَعَ التَّكْوِين وَالْوُجُود . وَتَلْخِيص الْمُعْتَقَد فِي هَذِهِ الْآيَة : أَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَزَلْ آمِرًا لِلْمَعْدُومَاتِ بِشَرْطِ وُجُودهَا , قَادِرًا مَعَ تَأَخُّر الْمَقْدُورَات , عَالِمًا مَعَ تَأَخُّر الْمَعْلُومَات . فَكُلّ مَا فِي الْآيَة يَقْتَضِي الِاسْتِقْبَال فَهُوَ بِحَسْب الْمَأْمُورَات ; إِذْ الْمُحْدَثَات تَجِيء بَعْد أَنْ لَمْ تَكُنْ . وَكُلّ مَا يُسْنَد إِلَى اللَّه تَعَالَى مِنْ قُدْرَة وَعِلْم فَهُوَ قَدِيم وَلَمْ يَزَلْ . وَالْمَعْنَى الَّذِي تَقْتَضِيه عِبَارَة | كُنْ | : هُوَ قَدِيم قَائِم بِالذَّاتِ . وَقَالَ أَبُو الْحَسَن الْمَاوَرْدِيّ فَإِنْ قِيلَ : فَفِي أَيّ حَال يَقُول لَهُ كُنْ فَيَكُون ؟ أَفِي حَال عَدَمه , أَمْ فِي حَال وُجُوده ؟ فَإِنْ كَانَ فِي حَال عَدَمه اِسْتَحَالَ أَنْ يَأْمُر إِلَّا مَأْمُورًا ; كَمَا يَسْتَحِيل أَنْ يَكُون الْأَمْر إِلَّا مِنْ آمِر ; وَإِنْ كَانَ فِي حَال وُجُوده فَتِلْكَ حَال لَا يَجُوز أَنْ يَأْمُر فِيهَا بِالْوُجُودِ وَالْحُدُوث ; لِأَنَّهُ مَوْجُود حَادِث ؟ قِيلَ عَنْ هَذَا السُّؤَال أَجْوِبَة ثَلَاثَة : أَحَدهَا أَنَّهُ خَبَر مِنْ اللَّه تَعَالَى عَنْ نُفُوذ أَوَامِره فِي خَلْقه الْمَوْجُود , كَمَا أَمَرَ فِي بَنِي إِسْرَائِيل أَنْ يَكُونُوا قِرَدَة خَاسِئِينَ ; وَلَا يَكُون هَذَا وَارِدًا فِي إِيجَاد الْمَعْدُومَات . الثَّانِي أَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَالِم هُوَ كَائِن قَبْل كَوْنه ; فَكَانَتْ الْأَشْيَاء الَّتِي لَمْ تَكُنْ وَهِيَ كَائِنَة بِعِلْمِهِ قَبْل كَوْنهَا مُشَابَهَة لِلَّتِي هِيَ مَوْجُودَة ; فَجَازَ أَنْ يَقُول لَهَا : كُونِي . وَيَأْمُرهَا بِالْخُرُوجِ مِنْ حَال الْعَدَم إِلَى حَال الْوُجُود ; لِتَصَوُّرِ جَمِيعهَا لَهُ وَلِعِلْمِهِ بِهَا فِي حَال الْعَدَم . الثَّالِث : إِنَّ ذَلِكَ خَبَر مِنْ اللَّه تَعَالَى عَامّ عَنْ جَمِيع مَا يُحْدِثهُ وَيُكَوِّنهُ إِذَا أَرَادَ خَلْقه وَإِنْشَاءَهُ كَانَ , وَوُجِدَ مِنْ غَيْر أَنْ يَكُون هُنَاكَ قَوْل يَقُول , وَإِنَّمَا هُوَ قَضَاء يُرِيدهُ ; فَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْقَوْلِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَوْلًا ; كَقَوْلِ أَبِي النَّجْم : <br>قَدْ قَالَتْ الِاتِّسَاع لِلْبَطْنِ اُلْحِقَ <br>وَلَا قَوْل هُنَاكَ , وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ الظَّهْر قَدْ لَحِقَ بِالْبَطْنِ , وَكَقَوْلِ عَمْرو بْن حُمَمَة الدَّوْسِيّ : <br>فَأَصْبَحْت مِثْل النِّسْر طَارَتْ فِرَاخه .......... إِذَا رَامَ تَطَايُرًا يُقَال لَهُ قَعْ <br>وَكَمَا قَالَ الْآخَر : <br>قَالَتْ جَنَاحَاهُ لِسَاقَيْهِ اِلْحَقَا .......... وَنَجِّيَا لَحْمَكُمَا أَنْ يُمْزَقَا<br>

وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ

قَالَ اِبْن جُرَيْج : الْكِتَاب الْكِتَابَة وَالْخَطّ . وَقِيلَ : هُوَ كِتَاب غَيْر التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل عَلَّمَهُ اللَّه عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام .

وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِ

أَيْ وَنَجْعَلهُ رَسُولًا . أَوْ يُكَلِّمهُمْ رَسُولًا . وَقِيلَ : هُوَ مَعْطُوف عَلَى قَوْله | وَجِيهًا | . وَقَالَ الْأَخْفَش : وَإِنْ شِئْت جَعَلْت الْوَاو فِي قَوْله | وَرَسُولًا | مُقْحَمَة وَالرَّسُول حَالًا لِلْهَاءِ , تَقْدِيره وَيُعَلِّمهُ الْكِتَاب رَسُولًا . وَفِي حَدِيث أَبِي ذَرّ الطَّوِيل ( وَأَوَّل أَنْبِيَاء بَنِي إِسْرَائِيل مُوسَى وَآخِرهمْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام ) .|أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ|أَيْ أُصَوِّر وَأُقَدِّر لَكُمْ .|مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ|قَرَأَ الْأَعْرَج وَأَبُو جَعْفَر | كَهَيَّة | بِالتَّشْدِيدِ . الْبَاقُونَ بِالْهَمْزِ . وَالطَّيْر يُذَكَّر وَيُؤَنَّث .|فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ|أَيْ فِي الْوَاحِد مِنْهُ أَوْ مِنْهَا أَوْ فِي الطِّين فَيَكُون طَائِرًا . وَطَائِر وَطَيْر مِثْل تَاجِر وَتَجْر . قَالَ وَهْب : كَانَ يَطِير مَا دَامَ النَّاس يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ فَإِذَا غَابَ عَنْ أَعْيُنهمْ سَقَطَ مَيِّتًا لِيَتَمَيَّز فِعْل الْخَلْق مِنْ فِعْل اللَّه تَعَالَى . وَقِيلَ : لَمْ يَخْلُق غَيْر الْخُفَّاش لِأَنَّهُ أَكْمَل الطَّيْر خَلْقًا لِيَكُونَ أَبْلَغ فِي الْقُدْرَة لِأَنَّ لَهَا ثَدْيًا وَأَسْنَانًا وَأُذُنًا , وَهِيَ تَحِيض وَتَطْهُر وَتَلِد . وَيُقَال : إِنَّمَا طَلَبُوا خَلْق خُفَّاش لِأَنَّهُ أَعْجَب مِنْ سَائِر الْخَلْق ; وَمِنْ عَجَائِبه أَنَّهُ لَحْم وَدَم يَطِير بِغَيْرِ رِيش وَيَلِد كَمَا يَلِد الْحَيَوَان وَلَا يَبِيض كَمَا يَبِيض سَائِر الطُّيُور , فَيَكُون لَهُ الضَّرْع يَخْرُج مِنْهُ اللَّبَن , وَلَا يُبْصِر فِي ضَوْء النَّهَار وَلَا فِي ظُلْمَة اللَّيْل , وَإِنَّمَا يَرَى فِي سَاعَتَيْنِ : بَعْد غُرُوب الشَّمْس سَاعَة وَبَعْد طُلُوع الْفَجْر سَاعَة قَبْل أَنْ يُسْفِر جِدًّا , وَيَضْحَك كَمَا يَضْحَك الْإِنْسَان , وَيَحِيض كَمَا تَحِيض الْمَرْأَة . وَيُقَال : إِنَّ سُؤَالهمْ كَانَ لَهُ عَلَى وَجْه التَّعَنُّت فَقَالُوا : اِخْلُقْ لَنَا خُفَّاشًا وَاجْعَلْ فِيهِ رُوحًا إِنْ كُنْت صَادِقًا فِي مَقَالَتك ; فَأَخَذَ طِينًا وَجَعَلَ مِنْهُ خُفَّاشًا ثُمَّ نَفَخَ فِيهِ فَإِذَا هُوَ يَطِير بَيْنَ السَّمَاء وَالْأَرْض ; وَكَانَ تَسْوِيَة الطِّين وَالنَّفْخ مِنْ عِيسَى وَالْخَلْق مِنْ اللَّه , كَمَا أَنَّ النَّفْخ مِنْ جِبْرِيل وَالْخَلْق مِنْ اللَّه .|وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ|الْأَكَمَة : الَّذِي يُولَد أَعْمَى ; عَنْ اِبْن عَبَّاس . وَكَذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدَة قَالَ : هُوَ الَّذِي يُولَد أَعْمَى ; وَأَنْشَدَ لِرُؤْبَة : <br>فَارْتَدَّ اِرْتِدَاد الْأَكْمَه <br>وَقَالَ اِبْن فَارِس : الْكَمَه الْعَمَى يُولَد بِهِ الْإِنْسَان وَقَدْ يَعْرِض . قَالَ سُوَيْد : <br>كَمَهَتْ عَيْنَاهُ حَتَّى اِبْيَضَّتَا <br>مُجَاهِد : هُوَ الَّذِي يُبْصِر بِالنَّهَارِ وَلَا يُبْصِر بِاللَّيْلِ . عِكْرِمَة : هُوَ الْأَعْمَش , وَلَكِنَّهُ فِي اللُّغَة الْعَمَى ; يُقَال كَمِهَ يَكْمَه كَمَهًا وَكَمَّهْتهَا أَنَا إِذَا أَعْمَيْتهَا . وَالْبَرَص مَعْرُوف وَهُوَ بَيَاض يَعْتَرِي الْجِلْد , وَالْأَبْرَص الْقَمَر , وَسَامّ أَبْرَص مَعْرُوف , وَيُجْمَع عَلَى الْأَبَارِص . وَخُصَّ هَذَانِ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُمَا عَيَاءَانِ . وَكَانَ الْغَالِب عَلَى زَمَن عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام الطِّبّ فَأَرَاهُمْ اللَّه الْمُعْجِزَة مِنْ جِنْس ذَلِكَ . | وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّه | قِيلَ : أَحْيَا أَرْبَعَة أَنْفُس : الْعَاذِر : وَكَانَ صَدِيقًا لَهُ , وَابْن الْعَجُوز وَابْنَة الْعَاشِر وَسَام بْن نُوح ; فَاَللَّه أَعْلَم . فَأَمَّا الْعَاذِر فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ تُوُفِّيَ قَبْل ذَلِكَ بِأَيَّامٍ فَدَعَا اللَّه فَقَامَ بِإِذْنِ اللَّه وَوَدَكه يَقْطُر فَعَاشَ وَوُلِدَ لَهُ , وَأَمَّا اِبْن الْعَجُوز فَإِنَّهُ مَرَّ بِهِ يُحْمَل عَلَى سَرِيره فَدَعَا اللَّه فَقَامَ وَلَبِسَ ثِيَابه وَحَمَلَ السَّرِير عَلَى عُنُقه وَرَجَعَ إِلَى أَهْله . وَأَمَّا بِنْت الْعَاشِر فَكَانَ أَتَى عَلَيْهَا لَيْلَة فَدَعَا اللَّه فَعَاشَتْ بَعْد ذَلِكَ وَوُلِدَ لَهَا ; فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَالُوا : إِنَّك تُحْيِي مَنْ كَانَ مَوْته قَرِيبًا فَلَعَلَّهُمْ لَمْ يَمُوتُوا فَأَصَابَتْهُمْ سَكْتَة فَأَحْيِي لَنَا سَام بْن نُوح . فَقَالَ لَهُمْ : دُلُّونِي عَلَى قَبْره , فَخَرَجَ وَخَرَجَ الْقَوْم مَعَهُ , حَتَّى اِنْتَهَى إِلَى قَبْره فَدَعَا اللَّه فَخَرَجَ مِنْ قَبْره وَقَدْ شَابَ رَأْسه . فَقَالَ لَهُ عِيسَى : كَيْفَ شَابَ رَأْسك وَلَمْ يَكُنْ فِي زَمَانكُمْ شَيْب ؟ فَقَالَ : يَا رُوح اللَّه , إِنَّك دَعَوْتنِي فَسَمِعْت صَوْتًا يَقُول : أَجِبْ رُوح اللَّه , فَظَنَنْت أَنَّ الْقِيَامَة قَدْ قَامَتْ , فَمِنْ هَوْل ذَلِكَ شَابَ رَأْسِي . فَسَأَلَهُ عَنْ النَّزْع فَقَالَ : يَا رُوح اللَّه إِنَّ مَرَارَة النَّزْع لَمْ تَذْهَب عَنْ حَنْجَرَتِي ; وَقَدْ كَانَ مِنْ وَقْت مَوْته أَكْثَر مِنْ أَرْبَعَة آلَاف سَنَة , فَقَالَ لِلْقَوْمِ : صَدِّقُوهُ فَإِنَّهُ نَبِيّ ; فَآمَنَ بِهِ بَعْضهمْ وَكَذَّبَهُ بَعْضهمْ وَقَالُوا : هَذَا سِحْر . وَرُوِيَ مِنْ حَدِيث إِسْمَاعِيل بْن عَيَّاش قَالَ : حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن طَلْحَة عَنْ رَجُل أَنَّ عِيسَى ابْن مَرْيَم كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى صَلَّى رَكْعَتَيْنِ يَقْرَأ فِي الْأُولَى : | تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْك | [ الْمُلْك : 1 ] . وَفِي الثَّانِيَة | تَنْزِيل | [ السَّجْدَة : 2 ] فَإِذَا فَرَغَ حَمِدَ اللَّه وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ دَعَا بِسَبْعَةِ أَسْمَاء : يَا قَدِيم يَا خَفِيّ يَا دَائِم يَا فَرْد يَا وِتْر يَا أَحَد يَا صَمَد ; ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيّ وَقَالَ : لَيْسَ إِسْنَاده بِالْقَوِيِّ .|وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ|أَيْ بِاَلَّذِي تَأْكُلُونَهُ وَمَا تَدَّخِرُونَ . وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا أَحْيَا لَهُمْ الْمَوْتَى طَلَبُوا مِنْهُ آيَة أُخْرَى وَقَالُوا : أَخْبِرْنَا بِمَا نَأْكُل فِي بُيُوتنَا وَمَا نَدَّخِر لِلْغَدِ ; فَأَخْبَرَهُمْ فَقَالَ : يَا فُلَان أَنْتَ أَكَلْت كَذَا وَكَذَا , وَأَنْتَ أَكَلْت كَذَا وَكَذَا وَادَّخَرْت كَذَا وَكَذَا ; فَذَلِكَ قَوْله | وَأُنَبِّئكُمْ | الْآيَة . وَقَرَأَ مُجَاهِد وَالزُّهْرِيّ وَالسِّخْتِيَانِيّ | وَمَا تَذْخَرُونَ | بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة مُخَفَّفًا . وَقَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر وَغَيْره : كَانَ يُخْبِر الصِّبْيَان فِي الْكُتَّاب بِمَا يَدَّخِرُونَ حَتَّى مَنَعَهُمْ آبَاؤُهُمْ مِنْ الْجُلُوس مَعَهُ . قَتَادَة : أَخْبَرَهُمْ بِمَا أَكَلُوهُ مِنْ الْمَائِدَة وَمَا اِدَّخَرُوهُ مِنْهَا خُفْيَة .

وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ

عَطْف عَلَى قَوْله : | وَرَسُولًا | . وَقِيلَ : الْمَعْنَى وَجِئْتُكُمْ مُصَدِّقًا .|لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ|لِمَا قَبْلِي .|وَلِأُحِلَّ لَكُمْ|فِيهِ حَذْف , أَيْ وَلِأُحِلّ لَكُمْ جِئْتُكُمْ .|بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ|يَعْنِي مِنْ الْأَطْعِمَة . قِيلَ : إِنَّمَا أَحَلَّ لَهُمْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام مَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ بِذُنُوبِهِمْ وَلَمْ يَكُنْ فِي التَّوْرَاة , نَحْو أَكْل الشُّحُوم وَكُلّ ذِي ظُفُر . وَقِيلَ : إِنَّمَا أَحَلَّ لَهُمْ أَشْيَاء حَرَّمَتْهَا عَلَيْهِمْ الْأَحْبَار وَلَمْ تَكُنْ فِي التَّوْرَاة مُحَرَّمَة عَلَيْهِمْ . قَالَ أَبُو عُبَيْدَة : يَجُوز أَنْ يَكُون | بَعْض | بِمَعْنَى كُلّ ; وَأَنْشَدَ لَبِيد : <br>تَرَّاك أَمْكِنَة إِذَا لَمْ أَرْضهَا .......... أَوْ يَرْتَبِط بَعْض النُّفُوس حِمَامهَا <br>وَهَذَا الْقَوْل غَلَط عِنْد أَهْل النَّظَر مِنْ أَهْل اللُّغَة ; لِأَنَّ الْبَعْض وَالْجُزْء لَا يَكُونَانِ بِمَعْنَى الْكُلّ فِي هَذَا الْمَوْضِع , لِأَنَّ عِيسَى صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا أَحَلَّ لَهُمْ أَشْيَاء مِمَّا حَرَّمَهَا عَلَيْهِمْ مُوسَى مِنْ أَكْل الشُّحُوم وَغَيْرهَا وَلَمْ يُحِلّ لَهُمْ الْقَتْل وَلَا السَّرِقَة وَلَا فَاحِشَة . وَالدَّلِيل عَلَى هَذَا أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ قَتَادَة أَنَّهُ قَالَ : جَاءَهُمْ عِيسَى بِأَلْيَن مِمَّا جَاءَ بِهِ مُوسَى صَلَّى اللَّه عَلَيْهِمَا وَعَلَى نَبِيّنَا ; لِأَنَّ مُوسَى جَاءَهُمْ بِتَحْرِيمِ الْإِبِل وَأَشْيَاء مِنْ الشُّحُوم فَجَاءَهُمْ عِيسَى بِتَحْلِيلِ بَعْضهَا . وَقَرَأَ النَّخَعِيّ | بَعْض الَّذِي حَرُمَ عَلَيْكُمْ | مِثْل كَرُمَ , أَيْ صَارَ حَرَامًا . وَقَدْ يُوضَع الْبَعْض بِمَعْنَى الْكُلّ إِذَا اِنْضَمَّتْ إِلَيْهِ قَرِينَة تَدُلّ عَلَيْهِ ; كَمَا قَالَ الشَّاعِر : <br>أَبَا مُنْذِر أَفْنَيْت فَاسْتَبْقِ بَعْضنَا .......... حَنَانَيْكَ بَعْض الشَّرّ أَهْوَن مِنْ بَعْض <br>يُرِيد بَعْض الشَّرّ أَهْوَن مِنْ كُلّه .|وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ|إِنَّمَا وَحَّدَ وَهِيَ آيَات لِأَنَّهَا جِنْس وَاحِد فِي الدَّلَالَة عَلَى رِسَالَته .

إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ

فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ

أَيْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيل . وَأَحَسَّ مَعْنَاهُ عَلِمَ وَوَجَدَ قَالَهُ الزَّجَّاج . وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة : مَعْنَى | أَحَسَّ | عَرَفَ , وَأَصْل ذَلِكَ وُجُود الشَّيْء بِالْحَاسَّةِ . وَالْإِحْسَاس : الْعِلْم بِالشَّيْءِ ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : | هَلْ تُحِسّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَد | [ مَرْيَم : 98 ] وَالْحَسّ الْقَتْل ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : | إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ | [ آل عِمْرَان : 152 ] . وَمِنْهُ الْحَدِيث فِي الْجَرَاد ( إِذَا حَسَّهُ الْبَرْد ) .|مِنْهُمُ الْكُفْرَ|أَيْ الْكُفْر بِاَللَّهِ . وَقِيلَ : سَمِعَ مِنْهُمْ كَلِمَة الْكُفْر . وَقَالَ الْفَرَّاء : أَرَادُوا قَتْله .|قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ|اِسْتَنْصَرَ عَلَيْهِمْ . قَالَ السُّدِّيّ وَالثَّوْرِيّ وَغَيْرهمَا : الْمَعْنَى مَعَ اللَّه , فَإِلَى بِمَعْنَى مَعَ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى : | وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالهمْ إِلَى أَمْوَالكُمْ | [ النِّسَاء : 2 ] أَيْ مَعَ . وَاَللَّه أَعْلَم . وَقَالَ الْحَسَن : الْمَعْنَى مَنْ أَنْصَارِي فِي السَّبِيل إِلَى اللَّه ; لِأَنَّهُ دَعَاهُمْ إِلَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ . وَقِيلَ : الْمَعْنَى مَنْ يَضُمّ نُصْرَته إِلَى نُصْرَة اللَّه عَزَّ وَجَلَّ . فَإِلَى عَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ عَلَى بَابهَا , وَهُوَ الْجَيِّد . وَطَلَب النُّصْرَة لِيَحْتَمِيَ بِهَا مِنْ قَوْمه وَيُظْهِر الدَّعْوَة ; عَنْ الْحَسَن وَمُجَاهِد . وَهَذِهِ سُنَّة اللَّه فِي أَنْبِيَائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ . وَقَدْ قَالَ لُوط : | لَوْ أَنَّ لِي بِكَمْ قُوَّة أَوْ آوِي إِلَى رُكْن شَدِيد | [ هُود : 80 ] أَيْ عَشِيرَة وَأَصْحَاب يَنْصُرُونَنِي . | قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَار اللَّه | أَيْ أَنْصَار نَبِيّه وَدِينه . وَالْحَوَارِيُّونَ أَصْحَاب عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام , وَكَانُوا اثْنَيْ عَشَر رَجُلًا ; قَالَهُ الْكَلْبِيّ وَأَبُو رَوْق . وَاخْتُلِفَ فِي تَسْمِيَتهمْ بِذَلِكَ ; فَقَالَ اِبْن عَبَّاس : سُمُّوا بِذَلِكَ لِبَيَاضِ ثِيَابهمْ , وَكَانُوا صَيَّادِينَ . اِبْن أَبِي نَجِيح وَابْن أَرْطَاة : كَانُوا قَصَّارِينَ فَسُمُّوا بِذَلِكَ لِتَبْيِيضِهِمْ الثِّيَاب . قَالَ عَطَاء : أَسْلَمَتْ مَرْيَم عِيسَى إِلَى أَعْمَال شَتَّى , وَآخِر مَا دَفَعَتْهُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ وَكَانُوا قَصَّارِينَ وَصَبَّاغِينَ , فَأَرَادَ مُعَلِّم عِيسَى السَّفَر فَقَالَ لِعِيسَى : عِنْدِي ثِيَاب كَثِيرَة مُخْتَلِفَة الْأَلْوَان وَقَدْ عَلَّمْتُك الصِّبْغَة فَاصْبُغْهَا . فَطَبَخَ عِيسَى حُبًّا وَاحِدًا وَأَدْخَلَهُ جَمِيع الثِّيَاب وَقَالَ : كُونِي بِإِذْنِ اللَّه عَلَى مَا أُرِيد مِنْك . فَقَدِمَ الْحَوَارِيّ وَالثِّيَاب كُلّهَا فِي الْحُبّ فَلَمَّا رَآهَا قَالَ : قَدْ أَفْسَدْتهَا ; فَأَخْرَجَ عِيسَى ثَوْبًا أَحْمَر وَأَصْفَر وَأَخْضَر إِلَى غَيْر ذَلِكَ مِمَّا كَانَ عَلَى كُلّ ثَوْب مَكْتُوب عَلَيْهِ صِبْغَة ; فَعَجِبَ الْحَوَارِيّ , وَعَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ اللَّه وَدَعَا النَّاس إِلَيْهِ فَآمَنُوا بِهِ ; فَهُمْ الْحَوَارِيُّونَ . قَتَادَة وَالضَّحَّاك : سُمُّوا بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا خَاصَّة الْأَنْبِيَاء . يُرِيدَانِ لِنَقَاءِ قُلُوبهمْ . وَقِيلَ . كَانُوا مُلُوكًا , وَذَلِكَ أَنَّ الْمَلِك صَنَعَ طَعَامًا فَدَعَا النَّاس إِلَيْهِ فَكَانَ عِيسَى عَلَى قَصْعَة فَكَانَتْ لَا تَنْقُص , فَقَالَ الْمَلِك لَهُ : مَنْ أَنْتَ ؟ قَالَ : عِيسَى اِبْن مَرْيَم . قَالَ : إِنِّي أَتْرُك مُلْكِي هَذَا وَأَتَّبِعك . فَانْطَلَقَ بِمَنْ اِتَّبَعَهُ مَعَهُ , فَهُمْ الْحَوَارِيُّونَ ; قَالَهُ اِبْن عَوْن . وَأَصْل الْحَوَر فِي اللُّغَة الْبَيَاض , وَحَوَّرْت الثِّيَاب بَيَّضْتهَا , وَالْحَوَارِيّ مِنْ الطَّعَام مَا حُوِّرَ , أَيْ بُيِّضَ , وَاحْوَرَّ اِبْيَضَّ , وَالْجَفْنَة الْمُحَوَّرَة : الْمُبَيَّضَة بِالسَّنَامِ , وَالْحَوَارِيّ أَيْضًا النَّاصِر ; قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لِكُلِّ نَبِيّ حَوَارِيّ وَحَوَارِييّ الزُّبَيْر ) . وَالْحَوَارِيَّات : النِّسَاء لِبَيَاضِهِنَّ ; وَقَالَ : <br>فَقُلْ لِلْحَوَارِيَّاتِ يَبْكِينَ غَيْرنَا .......... وَلَا تَبْكِنَا إِلَّا الْكِلَاب النَّوَابِح<br>

رَبَّنَا آَمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ

أَيْ يَقُولُونَ رَبّنَا آمَنَّا .|بِمَا أَنْزَلْتَ|يَعْنِي فِي كِتَابك وَمَا أَظْهَرْته مِنْ حُكْمك .|وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ|يَعْنِي عِيسَى .|فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ|يَعْنِي أُمَّة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; عَنْ اِبْن عَبَّاس . وَالْمَعْنَى أَثْبِتْ أَسْمَاءَنَا مَعَ أَسْمَائِهِمْ وَاجْعَلْنَا مِنْ جُمْلَتهمْ . وَقِيلَ : الْمَعْنَى فَاكْتُبْنَا مَعَ الَّذِينَ شَهِدُوا لِأَنْبِيَائِك بِالصِّدْقِ .

وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ

يَعْنِي كُفَّار بَنِي إِسْرَائِيل الَّذِينَ أَحَسَّ مِنْهُمْ الْكُفْر , أَيْ قَتْله . وَذَلِكَ أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام لَمَّا أَخْرَجَهُ قَوْمه وَأُمّه مِنْ بَيْنِ أَظْهُرهمْ عَادَ إِلَيْهِمْ مَعَ الْحَوَارِيِّينَ وَصَاحَ فِيهِمْ بِالدَّعْوَةِ فَهَمُّوا بِقَتْلِهِ وَتَوَاطَئُوا عَلَى الْفَتْك بِهِ , فَذَلِكَ مَكْرهمْ . وَمَكْر اللَّه : اِسْتِدْرَاجه لِعِبَادِهِ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ ; عَنْ الْفَرَّاء وَغَيْره . قَالَ اِبْن عَبَّاس : كُلَّمَا أَحْدَثُوا خَطِيئَة جَدَّدْنَا لَهُمْ نِعْمَة . وَقَالَ الزَّجَّاج : مَكْر اللَّه مُجَازَاتهمْ عَلَى مَكْرهمْ ; فَسُمِّيَ الْجَزَاء بِاسْمِ الِابْتِدَاء ; كَقَوْلِهِ : | اللَّه يَسْتَهْزِئ بِهِمْ | [ الْبَقَرَة : 15 ] , | وَهُوَ خَادِعهمْ | [ النِّسَاء : 142 ] . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَة . وَأَصْل الْمَكْر فِي اللُّغَة الِاحْتِيَال وَالْخِدَاع . وَالْمَكْر : خَدَالَة السَّاق . وَامْرَأَة مَمْكُورَة السَّاقَيْنِ . وَالْمَكْر : ضَرْب مِنْ الثِّيَاب . وَيُقَال : بَلْ هُوَ الْمَغْرَة ; حَكَاهُ اِبْن فَارِس . وَقِيلَ : | مَكْر اللَّه | إِلْقَاء شَبَه عِيسَى عَلَى غَيْره وَرَفْع عِيسَى إِلَيْهِ , وَذَلِكَ أَنَّ الْيَهُود لَمَّا اِجْتَمَعُوا عَلَى قَتْل عِيسَى دَخَلَ الْبَيْت هَارِبًا مِنْهُمْ فَرَفَعَهُ جِبْرِيل مِنْ الْكُوَّة إِلَى السَّمَاء , فَقَالَ مَلِكهمْ لِرَجُلٍ مِنْهُمْ خَبِيث يُقَال لَهُ يَهُوذَا : اُدْخُلْ عَلَيْهِ فَاقْتُلْهُ , فَدَخَلَ الْخَوْخَة فَلَمْ يَجِد هُنَاكَ عِيسَى وَأَلْقَى اللَّه عَلَيْهِ شَبَه عِيسَى , فَلَمَّا خَرَجَ رَأَوْهُ عَلَى شَبَه عِيسَى فَأَخَذُوهُ وَقَتَلُوهُ وَصَلَبُوهُ . ثُمَّ قَالُوا : وَجْهه يُشْبِه وَجْه عِيسَى , وَبَدَنه يُشْبِه بَدَن صَاحِبنَا ; فَإِنْ كَانَ هَذَا صَاحِبنَا فَأَيْنَ عِيسَى وَإِنْ كَانَ هَذَا عِيسَى فَأَيْنَ صَاحِبنَا فَوَقَعَ بَيْنهمْ قِتَال فَقَتَلَ بَعْضهمْ بَعْضًا ; فَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : | وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّه | . وَقِيلَ غَيْر هَذَا عَلَى مَا يَأْتِي .|وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ|اِسْم فَاعِل مِنْ مَكَرَ يَمْكُر مَكْرًا . وَقَدْ عَدَّهُ بَعْض الْعُلَمَاء فِي أَسْمَاء اللَّه تَعَالَى فَيَقُول إِذَا دَعَا بِهِ : يَا خَيْر الْمَاكِرِينَ اُمْكُرْ لِي . وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَام يَقُول فِي دُعَائِهِ : ( اللَّهُمَّ اُمْكُرْ لِي وَلَا تَمْكُر عَلَيَّ ) . وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي الْكِتَاب الْأَسْنَى فِي شَرْح أَسْمَاء اللَّه الْحُسْنَى . وَاَللَّه أَعْلَم .

إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُم

الْعَامِل فِي | إِذْ | مَكَرُوا , أَوْ فِعْل مُضْمَر . وَقَالَ جَمَاعَة مِنْ أَهْل الْمَعَانِي مِنْهُمْ الضَّحَّاك وَالْفَرَّاء فِي قَوْله تَعَالَى : | إِنِّي مُتَوَفِّيك وَرَافِعك إِلَيَّ | عَلَى التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير ; لِأَنَّ الْوَاو لَا تُوجِب الرُّتْبَة . وَالْمَعْنَى : إِنَى رَافِعك إِلَيَّ وَمُطَهِّرك مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمُتَوَفِّيك بَعْد أَنْ تَنْزِل مِنْ السَّمَاء ; كَقَوْلِهِ : | وَلَوْلَا كَلِمَة سَبَقَتْ مِنْ رَبّك لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَل مُسَمًّى | [ طَه : 129 ] ; وَالتَّقْدِير وَلَوْلَا كَلِمَة سَبَقَتْ مِنْ رَبّك وَأَجَل مُسَمَّى لَكَانَ لِزَامًا . قَالَ الشَّاعِر : <br>أَلَا يَا نَخْلَة مِنْ ذَات عِرْق .......... عَلَيْك وَرَحْمَة اللَّه السَّلَام <br>أَيْ عَلَيْك السَّلَام وَرَحْمَة اللَّه . وَقَالَ الْحَسَن وَابْن جُرَيْج : مَعْنَى مُتَوَفِّيك قَابِضك وَرَافِعك إِلَى السَّمَاء مِنْ غَيْر مَوْت ; مِثْل تَوَفَّيْت مَالِي مِنْ فُلَان أَيْ قَبَضْته . وَقَالَ وَهْب بْن مُنَبِّه : تَوَفَّى اللَّه عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام ثَلَاث سَاعَات مِنْ نَهَار ثُمَّ رَفَعَهُ إِلَى السَّمَاء . وَهَذَا فِيهِ بُعْد ; فَإِنَّهُ صَحَّ فِي الْأَخْبَار عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُزُوله وَقَتْله الدَّجَّال عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي كِتَاب التَّذْكِرَة , وَفِي هَذَا الْكِتَاب حَسْب مَا تَقَدَّمَ , وَيَأْتِي . وَقَالَ اِبْن زَيْد : مُتَوَفِّيك قَابِضك , وَمُتَوَفِّيك وَرَافِعك وَاحِد وَلَمْ يَمُتْ بَعْدُ . وَرَوَى اِبْن طَلْحَة عَنْ اِبْن عَبَّاس مَعْنَى مُتَوَفِّيك مُمِيتك . الرَّبِيع بْن أَنَس : وَهِيَ وَفَاة نَوْم ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : | وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ | [ الْأَنْعَام : 60 ] أَيْ يُنِيمكُمْ لِأَنَّ النَّوْم أَخُو الْمَوْت ; كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سُئِلَ : أَفِي الْجَنَّة نَوْم ؟ قَالَ : ( لَا النَّوْم أَخُو الْمَوْت , وَالْجَنَّة لَا مَوْت فِيهَا ) . أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ . وَالصَّحِيح أَنَّ اللَّه تَعَالَى رَفَعَهُ إِلَى السَّمَاء مِنْ غَيْر وَفَاة وَلَا نَوْم كَمَا قَالَ الْحَسَن وَابْن زَيْد , وَهُوَ اِخْتِيَار الطَّبَرِيّ , وَهُوَ الصَّحِيح عَنْ اِبْن عَبَّاس , وَقَالَهُ الضَّحَّاك . قَالَ الضَّحَّاك : كَانَتْ الْقِصَّة لَمَّا أَرَادُوا قَتْل عِيسَى اِجْتَمَعَ الْحَوَارِيُّونَ فِي غُرْفَة وَهُمْ اِثْنَا عَشَر رَجُلًا فَدَخَلَ عَلَيْهِمْ الْمَسِيح مِنْ مِشْكَاة الْغَرْفَة , فَأَخْبَرَ إِبْلِيس جَمْع الْيَهُود فَرَكِبَ مِنْهُمْ أَرْبَعَة آلَاف رَجُل فَأَخَذُوا بَاب الْغَرْفَة . فَقَالَ الْمَسِيح لِلْحَوَارِيِّينَ : أَيّكُمْ يَخْرُج وَيُقْتَل وَيَكُون مَعِي فِي الْجَنَّة ؟ فَقَالَ رَجُل : أَنَا يَا نَبِيّ اللَّه ; فَأَلْقَى إِلَيْهِ مِدْرَعَة مِنْ صُوف وَعِمَامَة مِنْ صُوف وَنَاوَلَهُ عُكَّازه وَأَلْقَى عَلَيْهِ شَبَه عِيسَى , فَخَرَجَ عَلَى الْيَهُود فَقَتَلُوهُ وَصَلَبُوهُ . وَأَمَّا الْمَسِيح فَكَسَاهُ اللَّه الرِّيش وَأَلْبَسَهُ النُّور وَقَطَعَ عَنْهُ لَذَّة الْمَطْعَم وَالْمَشْرَب فَطَارَ مَعَ الْمَلَائِكَة . وَذَكَرَ أَبُو بَكْر بْن أَبِي شَيْبَة حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَة حَدَّثَنَا الْأَعْمَش عَنْ الْمِنْهَال عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : لَمَّا أَرَادَ اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنْ يَرْفَع عِيسَى إِلَى السَّمَاء خَرَجَ عَلَى أَصْحَابه وَهُمْ اِثْنَا عَشَرَ رَجُلًا مِنْ عَيْن فِي الْبَيْت وَرَأْسه يَقْطُر مَاء فَقَالَ لَهُمْ : أَمَا إِنَّ مِنْكُمْ مَنْ سَيَكْفُرُ بِي اِثْنَتَيْ عَشْرَة مَرَّة بَعْد أَنْ آمَنَ بِي , ثُمَّ قَالَ : أَيّكُمْ يُلْقَى عَلَيْهِ شَبَهِي فَيُقْتَل مَكَانِي وَيَكُون مَعِي فِي دَرَجَتِي ؟ فَقَامَ شَابّ مِنْ أَحْدَثهُمْ فَقَالَ أَنَا . فَقَالَ عِيسَى : اِجْلِسْ , ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِمْ فَقَامَ الشَّابّ فَقَالَ أَنَا . فَقَالَ عِيسَى : اِجْلِسْ . ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِمْ فَقَامَ الشَّابّ فَقَالَ أَنَا . فَقَالَ نَعَمْ أَنْتَ ذَاكَ . فَأَلْقَى اللَّه عَلَيْهِ شَبَه عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام . قَالَ : وَرَفَعَ اللَّه تَعَالَى عِيسَى مِنْ رَوْزَنَة كَانَتْ فِي الْبَيْت إِلَى السَّمَاء . قَالَ : وَجَاءَ الطَّلَب مِنْ الْيَهُود فَأَخَذُوا الشَّبِيه فَقَتَلُوهُ ثُمَّ صَلَبُوهُ , وَكَفَرَ بِهِ بَعْضهمْ اِثْنَتَيْ عَشْرَة مَرَّة بَعْد أَنْ آمَنَ بِهِ ; فَتَفَرَّقُوا ثَلَاث فِرَق : قَالَتْ فِرْقَة : كَانَ فِينَا اللَّه مَا شَاءَ ثُمَّ صَعِدَ إِلَى السَّمَاء , وَهَؤُلَاءِ الْيَعْقُوبِيَّة . وَقَالَتْ فِرْقَة : كَانَ فِينَا اِبْن اللَّه مَا شَاءَ اللَّه ثُمَّ رَفَعَهُ اللَّه إِلَيْهِ , وَهَؤُلَاءِ النَّسْطُورِيَّة . وَقَالَتْ فِرْقَة : كَانَ فِينَا عَبْد اللَّه وَرَسُوله مَا شَاءَ اللَّه ثُمَّ رَفَعَهُ إِلَيْهِ , وَهَؤُلَاءِ الْمُسْلِمُونَ . فَتَظَاهَرَتْ الْكَافِرَتَانِ عَلَى الْمُسْلِمَة فَقَتَلُوهَا , فَلَمْ يَزَلْ الْإِسْلَام طَامِسًا حَتَّى بَعَثَ اللَّه مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَتَلُوا ; فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى : | فَآمَنَتْ طَائِفَة مِنْ بَنِي إِسْرَائِيل وَكَفَرَتْ طَائِفَة فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا | [ الصَّفّ : 14 ] أَيْ آمَنَ آبَاؤُهُمْ فِي زَمَن عِيسَى | عَلَى عَدُوّهُمْ | بِإِظْهَارِ دِينهمْ عَلَى دِين الْكُفَّار | فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ | . وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَاَللَّه لَيَنْزِلَنَّ اِبْن مَرْيَم حَكَمًا عَادِلًا فَلَيَكْسِرَنَّ الصَّلِيب وَلَيَقْتُلَنَّ الْخِنْزِير وَلَيَضَعَنَّ الْجِزْيَة وَلَتُتْرَكَنَّ الْقِلَاص فَلَا يُسْعَى عَلَيْهَا وَلَتَذْهَبَنَّ الشَّحْنَاء وَالتَّبَاغُض وَالتَّحَاسُد وَلَيَدْعُوَنَّ إِلَى الْمَال فَلَا يَقْبَلهُ أَحَد ) . وَعَنْهُ أَيْضًا عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُهِلَّنَّ اِبْن مَرْيَم بِفَجِّ الرَّوْحَاء حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا أَوْ لَيُثَنِّينهمَا ) وَلَا يَنْزِل بِشَرْعٍ مُبْتَدَإٍ فَيَنْسَخ بِهِ شَرِيعَتنَا بَلْ يَنْزِل مُجَدِّدًا لِمَا دَرَسَ مِنْهَا مُتَّبِعًا . كَمَا فِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا نَزَلَ اِبْن مَرْيَم فِيكُمْ وَإِمَامكُمْ مِنْكُمْ ) . وَفِي رِوَايَة : ( فَأَمَّكُمْ مِنْكُمْ ) . قَالَ اِبْن أَبِي ذِئْب : تَدْرِي مَا أَمَّكُمْ مِنْكُمْ ؟ . قُلْت : تُخْبِرنِي . قَالَ : فَأَمَّكُمْ بِكِتَابِ رَبّكُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَسُنَّة نَبِيّكُمْ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَدْ زِدْنَا هَذَا الْبَاب بَيَانًا فِي كِتَاب ( التَّذْكِرَة ) وَالْحَمْد لِلَّهِ . و | مُتَوَفِّيك | أَصْله مُتَوَفِّيُك حُذِفَتْ الضَّمَّة اِسْتِثْقَالًا , وَهُوَ خَبَر إِنَّ . | وَرَافِعك | عَطْف عَلَيْهِ , وَكَذَا | مُطَهِّرك | وَكَذَا | وَجَاعِل الَّذِينَ اِتَّبَعُوك | . وَيَجُوز | وَجَاعِل الَّذِينَ | وَهُوَ الْأَصْل . وَقِيلَ : إِنَّ الْوَقْف التَّامّ عِنْد قَوْله : | وَمُطَهِّرك مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا | . قَالَ النَّحَّاس : وَهُوَ قَوْل حَسَن .|كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ|يَا مُحَمَّد|اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ|أَيْ بِالْحُجَّةِ وَإِقَامَة الْبُرْهَان . وَقِيلَ بِالْعِزِّ وَالْغَلَبَة . وَقَالَ الضَّحَّاك وَمُحَمَّد بْن أَبَان : الْمُرَاد الْحَوَارِيُّونَ . وَاَللَّه تَعَالَى أَعْلَم .

فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ

يَعْنِي بِالْقَتْلِ وَالصَّلْب وَالسَّبْي وَالْجِزْيَة , وَفِي الْآخِرَة بِالنَّارِ .

وَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ

ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنَ الْآَيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ

| ذَلِكَ | فِي مَوْضِع رَفْع بِالِابْتِدَاءِ وَخَبَره | نَتْلُوهُ | . وَيَجُوز : الْأَمْر ذَلِكَ , عَلَى إِضْمَار الْمُبْتَدَأ .

إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ

دَلِيل عَلَى صِحَّة الْقِيَاس . وَالتَّشْبِيه وَاقِع عَلَى أَنَّ عِيسَى خُلِقَ مِنْ غَيْر أَب كَآدَم , لَا عَلَى أَنَّهُ خُلِقَ مِنْ تُرَاب . وَالشَّيْء قَدْ يُشَبَّه بِالشَّيْءِ وَإِنْ كَانَ بَيْنهمَا فَرْق كَبِير بَعْد أَنْ يَجْتَمِعَا فِي وَصْف وَاحِد ; فَإِنَّ آدَم خُلِقَ مِنْ تُرَاب وَلَمْ يُخْلَق عِيسَى مِنْ تُرَاب فَكَانَ بَيْنهمَا فَرْق مِنْ هَذِهِ الْجِهَة , وَلَكِنْ شَبَه مَا بَيْنهمَا أَنَّهُمَا خَلْقُهُمَا مِنْ غَيْر أَب ; وَلِأَنَّ أَصْل خِلْقَتهمَا كَانَ مِنْ تُرَاب لِأَنَّ آدَم لَمْ يُخْلَق مِنْ نَفْس التُّرَاب , وَلَكِنَّهُ جَعَلَ التُّرَاب طِينًا ثُمَّ جَعَلَهُ صَلْصَالًا ثُمَّ خَلَقَهُ مِنْهُ , فَكَذَلِكَ عِيسَى حَوَّلَهُ مِنْ حَال إِلَى حَال , ثُمَّ جَعَلَهُ بَشَرًا مِنْ غَيْر أَب . وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة بِسَبَبِ وَفْد نَجْرَان حِينَ أَنْكَرُوا عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْله : ( إِنَّ عِيسَى عَبْد اللَّه وَكَلِمَته ) فَقَالُوا : أَرِنَا عَبْدًا خُلِقَ مِنْ غَيْر أَب ; فَقَالَ لَهُمْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( آدَم مَنْ كَانَ أَبُوهُ أَعَجِبْتُمْ مِنْ عِيسَى لَيْسَ لَهُ أَب ؟ فَآدَم عَلَيْهِ السَّلَام لَيْسَ لَهُ أَب وَلَا أُمّ ) . فَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : | وَلَا يَأْتُونَك بِمَثَلٍ | أَيْ فِي عِيسَى | إِلَّا جِئْنَاك بِالْحَقِّ | فِي آدَم | وَأَحْسَن تَفْسِيرًا | [ الْفُرْقَان : 33 ] . وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام لَمَّا دَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَام قَالُوا : قَدْ كُنَّا مُسْلِمِينَ قَبْلك . فَقَالَ : ( كَذَبْتُمْ يَمْنَعكُمْ مِنْ الْإِسْلَام ثَلَاث : قَوْلكُمْ اِتَّخَذَ اللَّه وَلَدًا , وَأَكْلكُمْ الْخِنْزِير , وَسُجُودكُمْ لِلصَّلِيبِ ) . فَقَالُوا : مَنْ أَبُو عِيسَى ؟ فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى : | إِنَّ مَثَل عِيسَى عِنْد اللَّه كَمَثَلِ آدَم خَلَقَهُ مِنْ تُرَاب | إِلَى قَوْله : | فَنَجْعَل لَعْنَة اللَّه عَلَى الْكَاذِبِينَ | [ آل عِمْرَان : 61 ] . فَدَعَاهُمْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَقَالَ بَعْضهمْ لِبَعْضٍ : إِنْ فَعَلْتُمْ اِضْطَرَمَ الْوَادِي عَلَيْكُمْ نَارًا . فَقَالُوا : أَمَا تَعْرِض عَلَيْنَا سِوَى هَذَا ؟ فَقَالَ : ( الْإِسْلَام أَوْ الْجِزْيَة أَوْ الْحَرْب ) فَأَقَرُّوا بِالْجِزْيَةِ عَلَى مَا يَأْتِي . وَتَمَّ الْكَلَام عِنْد قَوْله | آدَم | .|ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ|أَيْ فَكَانَ . وَالْمُسْتَقْبَل يَكُون فِي مَوْضِع الْمَاضِي إِذَا عُرِفَ الْمَعْنَى .

الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ

قَالَ الْفَرَّاء : | الْحَقّ مِنْ رَبّك | مَرْفُوع بِإِضْمَارِ هُوَ . أَبُو عُبَيْدَة : هُوَ اِسْتِئْنَاف كَلَام وَخَبَره فِي قَوْله | مِنْ رَبّك | . وَقِيلَ هُوَ فَاعِل , أَيْ جَاءَك الْحَقّ .|فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ|الْخِطَاب لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَاد أُمَّته ; لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ شَاكًّا فِي أَمْر عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام .

فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ

أَيْ جَادَلَك وَخَاصَمَك يَا مُحَمَّد | فِيهِ | , أَيْ فِي عِيسَى|مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ|بِأَنَّهُ عَبْد اللَّه وَرَسُوله .|فَقُلْ تَعَالَوْا|أَيْ أَقْبِلُوا . وُضِعَ لِمَنْ لَهُ جَلَالَة وَرِفْعَة ثُمَّ صَارَ فِي الِاسْتِعْمَال لِكُلِّ دَاعٍ إِلَى الْإِقْبَال , وَسَيَأْتِي لَهُ مَزِيد بَيَان فِي [ الْأَنْعَام ] .|نَدْعُ|فِي مَوْضِع جَزْم .|أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ|دَلِيل عَلَى أَنَّ أَبْنَاء الْبَنَات يُسَمَّوْنَ أَبْنَاء ; وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ بِالْحَسَنِ وَالْحُسَيْن وَفَاطِمَة تَمْشِي خَلْفه وَعَلِيّ خَلْفهَا وَهُوَ يَقُول لَهُمْ : ( إِنْ أَنَا دَعَوْت فَأَمِّنُوا ) .|وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ|أَيْ نَتَضَرَّع فِي الدُّعَاء ; عَنْ اِبْن عَبَّاس . أَبُو عُبَيْدَة وَالْكِسَائِيّ : نَلْتَعِن . وَأَصْل الِابْتِهَال الِاجْتِهَاد فِي الدُّعَاء بِاللَّعْنِ وَغَيْره . قَالَ لَبِيد : <br>فِي كُهُول سَادَة مِنْ قَوْمه .......... نَظَرَ الدَّهْر إِلَيْهِمْ فَابْتَهَلْ <br>أَيْ اِجْتَهَدَ فِي إِهْلَاكهمْ . يُقَال : بَهَلَهُ اللَّه أَيْ لَعَنَهُ . وَالْبَهْل : اللَّعْن . وَالْبَهْل : الْمَاء الْقَلِيل . وَأَبْهَلْته إِذَا خَلَّيْته وَإِرَادَته . وَبَهَلْته أَيْضًا . وَحَكَى أَبُو عُبَيْدَة : بَهَلَهُ اللَّه يُبْهِلهُ بَهْلَة أَيْ لَعَنَهُ .|ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ|قَالَ اِبْن عَبَّاس : هُمْ أَهْل نَجْرَان : السَّيِّد وَالْعَاقِب وَابْن الْحَارِث رُؤَسَاؤُهُمْ .</p><p>هَذِهِ الْآيَة مِنْ أَعْلَام نُبُوَّة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; لِأَنَّهُ دَعَاهُمْ إِلَى الْمُبَاهَلَة فَأَبَوْا مِنْهَا وَرَضُوا بِالْجِزْيَةِ بَعْد أَنْ أَعْلَمَهُمْ كَبِيرهمْ الْعَاقِب أَنَّهُمْ إِنْ بَاهَلُوهُ اِضْطَرَمَ عَلَيْهِمْ الْوَادِي نَارًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا نَبِيّ مُرْسَل , وَلَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ جَاءَكُمْ بِالْفَصْلِ فِي أَمْر عِيسَى ; فَتَرَكُوا الْمُبَاهَلَة وَانْصَرَفُوا إِلَى بِلَادهمْ عَلَى أَنْ يُؤَدُّوا فِي كُلّ عَام أَلْف حُلَّة فِي صَفَر وَأَلْف حُلَّة فِي رَجَب فَصَالَحَهُمْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ بَدَلًا مِنْ الْإِسْلَام .</p><p>قَالَ كَثِير مِنْ الْعُلَمَاء : إِنَّ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام فِي الْحَسَن وَالْحُسَيْن لَمَّا بَاهَلَ | نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ | وَقَوْله فِي الْحَسَن : ( إِنَّ اِبْنِي هَذَا سَيِّد ) مَخْصُوص بِالْحَسَنِ وَالْحُسَيْن أَنْ يُسَمَّيَا اِبْنَيْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُونَ غَيْرهمَا ; لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( كُلّ سَبَب وَنَسَب يَنْقَطِع يَوْم الْقِيَامَة إِلَّا نَسَبِي وَسَبَبِي ) وَلِهَذَا قَالَ بَعْض أَصْحَاب الشَّافِعِيّ فِيمَنْ أَوْصَى لِوَلَدِ فُلَان وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَد لِصُلْبِهِ وَلَهُ وَلَد اِبْن وَوَلَد اِبْنَة : إِنَّ الْوَصِيَّة لِوَلَدِ الِابْن دُونَ وَلَد الِابْنَة ; وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيّ . وَسَيَأْتِي لِهَذَا مَزِيد بَيَان فِي | الْأَنْعَام وَالزُّخْرُف | إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .

إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ

الْإِشَارَة فِي قَوْله | إِنَّ هَذَا | إِلَى الْقُرْآن وَمَا فِيهِ مِنْ الْأَقَاصِيص , سُمِّيَتْ قَصَصًا لِأَنَّ الْمَعَانِي تَتَابَعَ فِيهَا ; فَهُوَ مِنْ قَوْلهمْ : فُلَان يَقُصّ أَثَر فُلَان , أَيْ يَتَّبِعهُ .|وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ|| مِنْ | زَائِدَة لِلتَّوْكِيدِ , وَالْمَعْنَى وَمَا إِلَه إِلَّا اللَّه|وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ|أَيْ الَّذِي لَا يُغْلَب .|الْحَكِيمُ|ذُو الْحِكْمَة . وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْله وَالْحَمْد لِلَّهِ .

فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ

قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا م

الْخِطَاب فِي قَوْل الْحَسَن وَابْن زَيْد وَالسُّدِّيّ لِأَهْلِ نَجْرَان . وَفِي قَوْل قَتَادَة وَابْن جُرَيْج وَغَيْرهمَا لِيَهُودِ الْمَدِينَة , خُوطِبُوا بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا أَحْبَارهمْ فِي الطَّاعَة لَهُمْ كَالْأَرْبَابِ . وَقِيلَ : هُوَ لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى جَمِيعًا . وَفِي كِتَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى هِرَقْل | بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَن الرَّحِيم - مِنْ مُحَمَّد رَسُول اللَّه إِلَى هِرَقْل عَظِيم الرُّوم سَلَام عَلَى مَنْ اِتَّبَعَ الْهُدَى أَمَّا بَعْد فَإِنِّي أَدْعُوك بِدِعَايَةِ الْإِسْلَام أَسْلِمْ تَسْلَم وَأَسْلِمْ يُؤْتِيك اللَّه أَجْرك مَرَّتَيْنِ وَإِنْ تَوَلَّيْت فَإِنَّ عَلَيْك إِثْم الْأَرِيسِيِّينَ , وَيَا أَهْل الْكِتَاب تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَة سَوَاء بَيْننَا وَبَيْنكُمْ أَنْ لَا نَعْبُد إِلَّا اللَّه - إِلَى قَوْله : | فَقُولُوا اِشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ | . لَفْظ مُسْلِم . وَالسَّوَاء الْعَدْل وَالنَّصَفَة ; قَالَهُ قَتَادَة . وَقَالَ زُهَيْر : <br>أَرُونِي خُطَّة لَا ضَيْم فِيهَا .......... يُسَوِّي بَيْننَا فِيهَا السَّوَاء <br>الْفَرَّاء : وَيُقَال فِي مَعْنَى الْعَدْل سُوًى وَسِوًى , فَإِذَا فَتَحْت السِّين مَدَدْت وَإِذَا كَسَرْت أَوْ ضَمَمْت قَصَرْت ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى : | مَكَانًا سُوًى | [ طَه : 58 ] . قَالَ : وَفِي قِرَاءَة عَبْد اللَّه | إِلَى كَلِمَة عَدْل بَيْننَا وَبَيْنكُمْ | وَقَرَأَ قُعْنُب | كِلْمَة | بِإِسْكَانِ اللَّام , أَلْقَى حَرَكَة اللَّام عَلَى الْكَاف ; كَمَا يُقَال كِبْد . فَالْمَعْنَى أَجِيبُوا إِلَى مَا دُعِيتُمْ إِلَيْهِ , وَهُوَ الْكَلِمَة الْعَادِلَة الْمُسْتَقِيمَة الَّتِي لَيْسَ فِيهَا مَيْل عَنْ الْحَقّ .|وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ|فَمَوْضِع | أَنْ | خُفِضَ عَلَى الْبَدَل مِنْ | كَلِمَة | , أَوْ رُفِعَ عَلَى إِضْمَار مُبْتَدَأ , التَّقْدِير هِيَ أَنْ لَا نَعْبُد إِلَّا اللَّه . أَوْ تَكُون مُفَسِّرَة لَا مَوْضِع لَهَا , وَيَجُوز مَعَ ذَلِكَ فِي | نَعْبُد | وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ الرَّفْع وَالْجَزْم : فَالْجَزْم عَلَى أَنْ تَكُون | أَنْ | مُفَسِّرَة بِمَعْنَى أَيْ ; كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ : | أَنْ اِمْشُوا | [ ص : 6 ] وَتَكُون | لَا | جَازِمَة . هَذَا مَذْهَب سِيبَوَيْهِ . وَيَجُوز عَلَى هَذَا أَنْ تَرْفَع | نَعْبُد | وَمَا بَعْده يَكُون خَبَرًا . وَيَجُوز الرَّفْع بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا نَعْبُد ; وَمِثْله | أَلَّا يَرْجِع إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِك لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا | [ طَه : 89 ] . وَقَالَ الْكِسَائِيّ وَالْفَرَّاء : | وَلَا نُشْرِك بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذ | بِالْجَزْمِ عَلَى التَّوَهُّم أَنَّهُ لَيْسَ فِي أَوَّل الْكَلَام أَنْ .|شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ|أَيْ لَا نَتَّبِعهُ فِي تَحْلِيل شَيْء أَوْ تَحْرِيمه إِلَّا فِيمَا حَلَّلَهُ اللَّه تَعَالَى . وَهُوَ نَظِير قَوْله تَعَالَى : | اِتَّخَذُوا أَحْبَارهمْ وَرُهْبَانهمْ أَرْبَابًا مِنْ دُون اللَّه | [ التَّوْبَة : 31 ] مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ أَنْزَلُوهُمْ مَنْزِلَة رَبّهمْ فِي قَبُول تَحْرِيمهمْ وَتَحْلِيلهمْ لِمَا لَمْ يُحَرِّمهُ اللَّه وَلَمْ يُحِلّهُ اللَّه . وَهَذَا يَدُلّ عَلَى بُطْلَان الْقَوْل بِالِاسْتِحْسَانِ الْمُجَرَّد الَّذِي لَا يَسْتَنِد إِلَى دَلِيل شَرْعِيّ ; قَالَ إِلْكِيَا الطَّبَرِيّ : مِثْل اِسْتِحْسَانَات أَبِي حَنِيفَة فِي التَّقْدِيرَات الَّتِي قَدَّرَهَا دُون مُسْتَنَدَات بَيِّنَة . وَفِيهِ رَدّ عَلَى الرَّوَافِض الَّذِينَ يَقُولُونَ : يَجِب قَبُول قَوْل الْإِمَام دُون إِبَانَة مُسْتَنَد شَرْعِيّ , وَإِنَّهُ يُحِلّ مَا حَرَّمَهُ اللَّه مِنْ غَيْر أَنْ يُبَيِّن مُسْتَنَدًا مِنْ الشَّرِيعَة . وَأَرْبَاب جَمْع رَبّ . و | دُون | هُنَا بِمَعْنَى غَيْر . وَقَالَ عِكْرِمَة : مَعْنَى | يَتَّخِذ | يَسْجُد . وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ السُّجُود كَانَ إِلَى زَمَن النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ نَهَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَاذًا لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَسْجُد ; كَمَا مَضَى فِي الْبَقَرَة بَيَانه . وَرَوَى أَنَس بْن مَالِك قَالَ : قُلْنَا يَا رَسُول اللَّه , أَيَنْحَنِي بَعْضنَا لِبَعْضٍ ؟ قَالَ ( لَا ) قُلْنَا : أَيُعَانِقُ بَعْضنَا بَعْضًا ؟ قَالَ ( لَا وَلَكِنْ تَصَافَحُوا ) أَخْرَجَهُ اِبْن مَاجَهْ فِي سُنَنه . وَسَيَأْتِي لِهَذَا الْمَعْنَى زِيَادَة بَيَان فِي سُورَة | يُوسُف | إِنْ شَاءَ اللَّه , وَفِي | الْوَاقِعَة | مَسّ الْقُرْآن أَوْ بَعْضه عَلَى غَيْر طَهَارَة إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .|اللَّهِ فَإِنْ|أَيْ أَعْرَضُوا عَمَّا دُعُوا إِلَيْهِ .|تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا|أَيْ مُتَّصِفُونَ بِدِينِ الْإِسْلَام مُنْقَادُونَ لِأَحْكَامِهِ مُعْتَرِفُونَ بِمَا لِلَّهِ عَلَيْنَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمِنَن وَالْإِنْعَام , غَيْر مُتَّخِذِينَ أَحَدًا رَبًّا لَا عِيسَى وَلَا عُزَيْرًا وَلَا الْمَلَائِكَة ; لِأَنَّهُمْ بَشَر مِثْلنَا مُحْدَث كَحُدُوثِنَا , وَلَا نَقْبَل مِنْ الرُّهْبَان شَيْئًا بِتَحْرِيمِهِمْ عَلَيْنَا مَا لَمْ يُحَرِّمهُ اللَّه عَلَيْنَا , فَنَكُون قَدْ اِتَّخَذْنَاهُمْ أَرْبَابًا .

يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ

الْأَصْل | لِمَا | فَحُذِفَتْ الْأَلِف فَرْقًا بَيْنَ الِاسْتِفْهَام وَالْخَبَر . وَهَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ بِسَبَبِ دَعْوَى كُلّ فَرِيق مِنْ الْيَهُود وَالنَّصَارَى أَنَّ إِبْرَاهِيم كَانَ عَلَى دِينه , فَأَكْذَبَهُمْ اللَّه تَعَالَى بِأَنَّ الْيَهُودِيَّة وَالنَّصْرَانِيَّة إِنَّمَا كَانَتَا مِنْ بَعْده .|إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ|قَالَ الزَّجَّاج : هَذِهِ الْآيَة أَبْيَن حُجَّة عَلَى الْيَهُود وَالنَّصَارَى ; إِذْ التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل أُنْزِلَا مِنْ بَعْده وَلَيْسَ فِيهِمَا اِسْم لِوَاحِدٍ مِنْ الْأَدْيَان , وَاسْم الْإِسْلَام فِي كُلّ كِتَاب . وَيُقَال : كَانَ بَيْنَ إِبْرَاهِيم وَمُوسَى أَلْف سَنَة , وَبَيْنَ مُوسَى وَعِيسَى أَيْضًا أَلْف سَنَة .|بَعْدِهِ أَفَلَا|دَحُوض حُجَّتكُمْ وَبُطْلَان قَوْلكُمْ . وَاَللَّه أَعْلَم .

هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ

يَعْنِي فِي أَمْر مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْلَمُونَهُ فِيمَا يَجِدُونَ مِنْ نَعْته فِي كِتَابهمْ فَحَاجُّوا فِيهِ بِالْبَاطِلِ .|عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا|يَعْنِي دَعْوَاهُمْ فِي إِبْرَاهِيم أَنَّهُ كَانَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا . وَالْأَصْل فِي | هَا أَنْتُمْ | أَأَنْتُمْ فَأَبْدَلَ مِنْ الْهَمْزَة الْأُولَى هَاء لِأَنَّهَا أُخْتهَا ; عَنْ أَبِي عَمْرو بْن الْعَلَاء وَالْأَخْفَش . قَالَ النَّحَّاس : وَهَذَا قَوْل حَسَن . وَقَرَأَ قُنْبُل عَنْ اِبْن كَثِير | هَأَنْتُمْ | مِثْل هَعَنْتُمْ . وَالْأَحْسَن مِنْهُ أَنْ يَكُون الْهَاء بَدَلًا مِنْ هَمْزَة فَيَكُون أَصْله أَأَنْتُمْ . وَيَجُوز أَنْ تَكُون هَا لِلتَّنْبِيهِ دَخَلَتْ عَلَى | أَنْتُمْ | وَحُذِفَتْ الْأَلِف لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَال . وَفِي | هَؤُلَاءِ | لُغَتَانِ الْمَدّ وَالْقَصْر وَمِنْ الْعَرَب مَنْ يَقْصُرهَا . وَأَنْشَدَ أَبُو حَاتِم : <br>لَعَمْرك إِنَّا وَالْأَحَالِيف هَاؤَلَا .......... لَفِي مِحْنَة أَظْفَارهَا لَمْ تُقَلَّم <br>وَهَؤُلَاءِ هَاهُنَا فِي مَوْضِع النِّدَاء يَعْنِي يَا هَؤُلَاءِ . وَيَجُوز هَؤُلَاءِ خَبَر أَنْتُمْ , عَلَى أَنْ يَكُون أُولَاءِ بِمَعْنَى الَّذِينَ وَمَا بَعْده صِلَة لَهُ . وَيَجُوز أَنْ يَكُون خَبَر | أَنْتُمْ | حَاجَجْتُمْ . وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا فِي | الْبَقَرَة | وَالْحَمْد لِلَّهِ .</p><p>فِي الْآيَة دَلِيل عَلَى الْمَنْع مِنْ الْجِدَال لِمَنْ لَا عِلْم لَهُ , وَالْحَظْر عَلَى مَنْ لَا تَحْقِيق عِنْده فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ : | هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْم فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْم | . وَقَدْ وَرَدَ الْأَمْر بِالْجِدَالِ لِمَنْ عَلِمَ وَأَيْقَنَ فَقَالَ تَعَالَى : | وَجَادِلْهُمْ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَن | [ النَّحْل : 125 ] . وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَتَاهُ رَجُل أَنْكَرَ وَلَده فَقَالَ : يَا رَسُول اللَّه , إِنَّ اِمْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلَامًا أَسْوَد . فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( هَلْ لَك مِنْ إِبِل ) ؟ قَالَ نَعَمْ . قَالَ : ( مَا أَلْوَانهَا ) ؟ قَالَ : حُمْر : ( هَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَق ) ؟ قَالَ نَعَمْ . قَالَ : ( فَمِنْ أَيْنَ ذَلِكَ ) ؟ قَالَ : لَعَلَّ عِرْقًا نَزَعَهُ . فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَهَذَا الْغُلَام لَعَلَّ عِرْقًا نَزَعَهُ ) . وَهَذَا حَقِيقَة الْجِدَال وَنِهَايَة فِي تَبْيِين الِاسْتِدْلَال مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ

نَزَّهَهُ تَعَالَى مِنْ دَعَاوِيهمْ الْكَاذِبَة , وَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ عَلَى الْحَنِيفِيَّة الْإِسْلَامِيَّة وَلَمْ يَكُنْ مُشْرِكًا . وَالْحَنِيف : الَّذِي يُوَحِّد وَيَحُجّ وَيُضَحِّي وَيَخْتَتِن وَيَسْتَقْبِل الْقِبْلَة . وَقَدْ مَضَى فِي | الْبَقَرَة | اِشْتِقَاقه . وَالْمُسْلِم فِي اللُّغَة : الْمُتَذَلِّل لِأَمْرِ اللَّه تَعَالَى الْمُنْطَاع لَهُ . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي | الْبَقَرَة | مَعْنَى الْإِسْلَام مُسْتَوْفًى وَالْحَمْد لِلَّهِ .

إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ

قَالَ اِبْن عَبَّاس : قَالَ رُؤَسَاء الْيَهُود : وَاَللَّه يَا مُحَمَّد لَقَدْ عَلِمْت أَنَّا أَوْلَى النَّاس بِدِينِ إِبْرَاهِيم مِنْك وَمِنْ غَيْرك , فَإِنَّهُ كَانَ يَهُودِيًّا وَمَا بِك إِلَّا الْحَسَد ; فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْآيَة . | أَوْلَى | مَعْنَاهُ أَحَقّ , قِيلَ : بِالْمَعُونَةِ وَالنُّصْرَة . وَقِيلَ بِالْحُجَّةِ .|لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ|عَلَى مِلَّته وَسُنَّته .|وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا|أَفْرَدَ ذِكْره تَعْظِيمًا لَهُ ; كَمَا قَالَ | فِيهِمَا فَاكِهَة وَنَخْل وَرُمَّان | [ الرَّحْمَن : 68 ] وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي | الْبَقَرَة | هَذَا الْمَعْنَى مُسْتَوْفًى . و | هَذَا | فِي مَوْضِع رَفْع عَطْف عَلَى الَّذِينَ , و | النَّبِيّ | نَعْت لِهَذَا أَوْ عَطْف بَيَان , وَلَوْ نُصِبَ لَكَانَ جَائِزًا فِي الْكَلَام عَطْفًا عَلَى الْهَاء فِي | اِتَّبَعُوهُ | .|وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ|أَيْ نَاصِرهمْ . وَعَنْ اِبْن مَسْعُود أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِنَّ لِكُلِّ نَبِيّ وُلَاة مِنْ النَّبِيِّينَ وَإِنَّ وَلِيِّي مِنْهُمْ أَبِي وَخَلِيل رَبِّي ثُمَّ قَرَأَ - إِنَّ أَوْلَى النَّاس بِإِبْرَاهِيم لَلَّذِينَ اِتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيّ ) .

وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ

نَزَلَتْ فِي مُعَاذ بْن جَبَل وَحُذَيْفَة بْن الْيَمَن وَعَمَّار بْن يَاسِر حِينَ دَعَاهُمْ الْيَهُود مِنْ بَنِي النَّضِير وَقُرَيْظَة وَبَنِي قَيْنُقَاع إِلَى دِينهمْ . وَهَذِهِ الْآيَة نَظِير قَوْله تَعَالَى : | وَدَّ كَثِير مِنْ أَهْل الْكِتَاب لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْد إِيمَانكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا | [ الْبَقَرَة : 109 ] . و | مِنْ | عَلَى هَذَا الْقَوْل لِلتَّبْعِيضِ . وَقِيلَ : جَمِيع أَهْل الْكِتَاب , فَتَكُون | مِنْ | لِبَيَانِ الْجِنْس .|لَوْ يُضِلُّونَكُمْ|أَيْ يُكْسِبُونَكُمْ الْمَعْصِيَة بِالرُّجُوعِ عَنْ دِين الْإِسْلَام وَالْمُخَالَفَة لَهُ . وَقَالَ اِبْن جُرَيْج : | يُضِلُّونَكُمْ | أَيْ يُهْلِكُونَكُمْ ; وَمِنْهُ قَوْل الْأَخْطَل : <br>كُنْت الْقَدَى فِي مَوْج اَكْدَر مُزْبِد .......... قَذَفَ الْأَتِيّ بِهِ فَضَلَّ ضَلَالًا <br>أَيْ هَلَكَ هَلَاكًا .|وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ|نَفْي وَإِيجَاب .|وَمَا يَشْعُرُونَ|أَيْ يَفْطِنُونَ أَنَّهُمْ لَا يَصِلُونَ إِلَى إِضْلَال الْمُؤْمِنِينَ . وَقِيلَ : | وَمَا يَشْعُرُونَ | أَيْ لَا يَعْلَمُونَ بِصِحَّةِ الْإِسْلَام وَوَاجِب عَلَيْهِمْ أَنْ يَعْلَمُوا ; لِأَنَّ الْبَرَاهِين ظَاهِرَة وَالْحُجَج بَاهِرَة , وَاَللَّه أَعْلَم .

يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ

أَيْ بِصِحَّةِ الْآيَات الَّتِي عِنْدكُمْ فِي كُتُبكُمْ ; عَنْ قَتَادَة وَالسُّدِّيّ . وَقِيلَ : الْمَعْنَى وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ بِمِثْلِهَا مِنْ آيَات الْأَنْبِيَاء الَّتِي أَنْتُمْ مُقِرُّونَ بِهَا .

يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ

اللَّبْس الْخَلْط , وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَة . وَمَعْنَى هَذِهِ الْآيَة وَاَلَّتِي قَبْلهَا مَعْنَى ذَلِكَ .|بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ|وَيَجُوز | تَكْتُمُوا | عَلَى جَوَاب الِاسْتِفْهَام .|الْحَقَّ وَأَنْتُمْ|جُمْلَة فِي مَوْضِع الْحَال .

وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آَمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آَخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ

نَزَلَتْ فِي كَعْب بْن الْأَشْرَف وَمَالِك بْن الصَّيْف وَغَيْرهمَا , قَالُوا لِلسِّفْلَةِ مِنْ قَوْمهمْ : آمِنُوا بِاَلَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْه النَّهَار , يَعْنِي أَوَّله . وَسُمِّيَ وَجْهًا لِأَنَّهُ أَحْسَنه , وَأَوَّل مَا يُوَاجَه مِنْهُ أَوَّله . قَالَ الشَّاعِر : <br>وَتُضِيء فِي وَجْه النَّهَار مُنِيرَة .......... كَجُمَّانَةِ الْبَحْرِيّ سُلَّ نِظَامهَا <br>وَقَالَ آخَر : <br>مَنْ كَانَ مَسْرُورًا بِمَقْتَلِ مَالِك .......... فَلْيَأْتِ نِسْوَتنَا بِوَجْهِ نَهَار <br>وَهُوَ مَنْصُوب عَلَى الظَّرْف , وَكَذَلِكَ | آخِره | . وَمَذْهَب قَتَادَة أَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ لِيُشَكِّكُوا الْمُسْلِمِينَ . وَالطَّائِفَة : الْجَمَاعَة , مَنْ طَافَ يَطُوف , وَقَدْ يُسْتَعْمَل لِلْوَاحِدِ عَلَى مَعْنَى نَفْس طَائِفَة . وَمَعْنَى الْآيَة أَنَّ الْيَهُود قَالَ بَعْضهمْ لِبَعْضٍ : أَظْهِرُوا الْإِيمَان بِمُحَمَّدٍ فِي أَوَّل النَّهَار ثُمَّ اُكْفُرُوا بِهِ آخِره ; فَإِنَّكُمْ إِذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ ظَهَرَ لِمَنْ يَتَّبِعهُ اِرْتِيَاب فِي دِينه فَيَرْجِعُونَ عَنْ دِينه إِلَى دِينكُمْ , وَيَقُولُونَ إِنَّ أَهْل الْكِتَاب أَعْلَم بِهِ مِنَّا . وَقِيلَ : الْمَعْنَى آمِنُوا بِصَلَاتِهِ فِي أَوَّل النَّهَار إِلَى بَيْت الْمَقْدِس فَإِنَّهُ الْحَقّ , وَاكْفُرُوا بِصَلَاتِهِ آخِر النَّهَار إِلَى الْكَعْبَة لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ إِلَى قِبْلَتكُمْ ; عَنْ اِبْن عَبَّاس وَغَيْره . وَقَالَ مُقَاتِل : مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ جَاءُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّل النَّهَار وَرَجَعُوا مِنْ عِنْده فَقَالُوا لِلسِّفْلَةِ : هُوَ حَقّ فَاتَّبِعُوهُ , ثُمَّ قَالُوا : حَتَّى نَنْظُر فِي التَّوْرَاة ثُمَّ رَجَعُوا فِي آخِر النَّهَار فَقَالُوا : قَدْ نَظَرْنَا فِي التَّوْرَاة فَلَيْسَ هُوَ بِهِ . يَقُولُونَ إِنَّهُ لَيْسَ بِحَقٍّ , وَإِنَّمَا أَرَادُوا أَنْ يُلْبِسُوا عَلَى السِّفْلَة وَأَنْ يُشَكِّكُوا فِيهِ .

وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ

هَذَا نَهْي , وَهُوَ مِنْ كَلَام الْيَهُود بَعْضهمْ لِبَعْضٍ , أَيْ قَالَ ذَلِكَ الرُّؤَسَاء لِلسِّفْلَةِ . وَقَالَ السُّدِّيّ : مِنْ قَوْل يَهُود خَيْبَر لِيَهُودِ الْمَدِينَة . وَهَذِهِ الْآيَة أَشْكَل مَا فِي السُّورَة . فَرُوِيَ عَنْ الْحَسَن وَمُجَاهِد أَنَّ مَعْنَى الْآيَة وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينكُمْ , وَلَا تُؤْمِنُوا أَنْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْد رَبّكُمْ لِأَنَّهُمْ لَا حُجَّة لَهُمْ فَإِنَّكُمْ أَصَحّ مِنْهُمْ دِينًا . و | أَنْ | و | يُحَاجُّوكُمْ | فِي مَوْضِع خَفْض , أَيْ بِأَنْ يُحَاجُّوكُمْ أَيْ بِاحْتِجَاجِهِمْ , أَيْ لَا تُصَدِّقُوهُمْ فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ لَا حُجَّة لَهُمْ . | أَنْ يُؤْتَى أَحَد مِثْل مَا أُوتِيتُمْ | مِنْ التَّوْرَاة وَالْمَنّ وَالسَّلْوَى وَفَرْق الْبَحْر وَغَيْرهَا مِنْ الْآيَات وَالْفَضَائِل . فَيَكُون | أَنْ يُؤْتَى | مُؤَخَّرًا بَعْد | أَوْ يُحَاجُّوكُمْ | , وَقَوْله | إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّه | اِعْتِرَاض بَيْنَ كَلَامَيْنِ . وَقَالَ الْأَخْفَش : الْمَعْنَى وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينكُمْ وَلَا تُؤْمِنُوا أَنْ يُؤْتَى أَحَد مِثْل مَا أُوتِيتُمْ وَلَا تُصَدِّقُوا أَنْ يُحَاجُّوكُمْ ; يَذْهَب إِلَى أَنَّهُ مَعْطُوف . وَقِيلَ : الْمَعْنَى وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينكُمْ أَنْ يُؤْتَى أَحَد مِثْل مَا أُوتِيتُمْ ; فَالْمَدّ عَلَى الِاسْتِفْهَام أَيْضًا تَأْكِيد لِلْإِنْكَارِ الَّذِي قَالُوهُ أَنَّهُ لَا يُؤْتَى أَحَد مِثْل مَا أَتَوْهُ ; لِأَنَّ عُلَمَاء الْيَهُود قَالَتْ لَهُمْ : لَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينكُمْ أَنْ يُؤْتَى أَحَد مِثْل مَا أُوتِيتُمْ ; أَيْ لَا يُؤْتَى أَحَد مِثْل مَا أُوتِيتُمْ ; فَالْكَلَام عَلَى نَسَقه . و | أَنْ | فِي مَوْضِع رَفْع عَلَى قَوْل مَنْ رَفَعَ فِي قَوْلك أَزَيْد ضَرَبْته , وَالْخَبَر مَحْذُوف تَقْدِيره أَنْ يُؤْتَى أَحَد مِثْل مَا أُوتِيتُمْ تُصَدِّقُونَ أَوْ تُقِرُّونَ , أَيْ إِيتَاء مَوْجُود مُصَدِّق أَوْ مُقِرّ بِهِ , أَيْ لَا تُصَدِّقُونَ بِذَلِكَ . وَيَجُوز أَنْ تَكُون | أَنْ | فِي مَوْضِع نَصْب عَلَى إِضْمَار فِعْل ; كَمَا جَازَ فِي قَوْلك أَزَيْدًا ضَرَبْته , وَهَذَا أَقْوَى فِي الْعَرَبِيَّة لِأَنَّ الِاسْتِفْهَام بِالْفِعْلِ أَوْلَى , وَالتَّقْدِير أَتُقِرُّونَ أَنْ يُؤْتَى , أَوْ أَتُشِيعُونَ ذَلِكَ , أَوْ أَتَذْكُرُونَ ذَلِكَ وَنَحْوه . وَبِالْمَدِّ قَرَأَ اِبْن كَثِير وَابْن مُحَيْصِن وَحُمَيْد . وَقَالَ أَبُو حَاتِم : | أَنْ | مَعْنَاهُ | أَلِأَنْ | , فَحُذِفَتْ لَام الْجَرّ اِسْتِخْفَافًا وَأُبْدِلَتْ مَدَّة ; كَقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ | أَنْ كَانَ ذَا مَال | [ الْقَلَم : 14 ] أَيْ أَلِأَنْ . وَقَوْله | أَوْ يُحَاجُّوكُمْ | عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَة رُجُوع إِلَى خِطَاب الْمُؤْمِنِينَ ; أَوْ تَكُون | أَوْ | بِمَعْنَى | أَنْ | لِأَنَّهُمَا حَرْفَا شَكّ وَجَزَاء يُوضَع أَحَدهمَا مَوْضِع الْآخَر . وَتَقْدِير الْآيَة : وَأَنْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْد رَبّكُمْ يَا مَعْشَر الْمُؤْمِنِينَ , فَقُلْ : يَا مُحَمَّد إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّه وَنَحْنُ عَلَيْهِ . وَمَنْ قَرَأَ بِتَرْكِ الْمَدّ قَالَ : إِنَّ النَّفْي الْأَوَّل دَلَّ عَلَى إِنْكَارهمْ فِي قَوْلهمْ وَلَا تُؤْمِنُوا . فَالْمَعْنَى أَنَّ عُلَمَاء الْيَهُود قَالَتْ لَهُمْ : لَا تُصَدِّقُوا بِأَنْ يُؤْتَى أَحَد مِثْل مَا أُوتِيتُمْ , أَيْ لَا إِيمَان لَهُمْ وَلَا حُجَّة ; فَعَطَفَ عَلَى الْمَعْنَى مِنْ الْعِلْم وَالْحِكْمَة وَالْكِتَاب وَالْحُجَّة وَالْمَنّ وَالسَّلْوَى وَفَلْق الْبَحْر وَغَيْرهَا مِنْ الْفَضَائِل وَالْكَرَامَات , أَيْ أَنَّهَا لَا تَكُون إِلَّا فِيكُمْ فَلَا تُؤْمِنُوا أَنْ يُؤْتَى أَحَد مِثْل مَا أُوتِيتُمْ إِلَّا مَنْ تَبِعَ دِينكُمْ . فَالْكَلَام فِيهِ تَقْدِيم وَتَأْخِير عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَة وَاللَّام زَائِدَة . وَمَنْ اِسْتَثْنَى لَيْسَ مِنْ الْأَوَّل , وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ الْكَلَام . وَدَخَلَتْ | أَحَد | لِأَنَّ أَوَّل الْكَلَام نَفْي , فَدَخَلَتْ فِي صِلَة | أَنْ | لِأَنَّهُ مَفْعُول الْفِعْل الْمَنْفِيّ ; فَإِنْ فِي مَوْضِع نَصْب لِعَدَمِ الْخَافِض . وَقَالَ الْخَلِيل : ( أَنْ ) فِي مَوْضِع خَفْض بِالْخَافِضِ الْمَحْذُوف . وَقِيلَ : إِنَّ اللَّام لَيْسَتْ بِزَائِدَةٍ , و | تُؤْمِنُوا | مَحْمُول عَلَى تُقِرُّوا . وَقَالَ اِبْن جُرَيْج : الْمَعْنَى وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينكُمْ كَرَاهِيَة أَنْ يُؤْتَى أَحَد مِثْل مَا أُوتِيتُمْ . وَقِيلَ : الْمَعْنَى لَا تُخْبِرُوا بِمَا فِي كِتَابكُمْ مِنْ صِفَة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينكُمْ لِئَلَّا يَكُون طَرِيقًا إِلَى عَبَدَة الْأَوْثَان إِلَى تَصْدِيقه . وَقَالَ الْفَرَّاء : يَجُوز أَنْ يَكُون قَدْ اِنْقَطَعَ كَلَام الْيَهُود عِنْد قَوْله عَزَّ وَجَلَّ | إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينكُمْ | ثُمَّ قَالَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ | قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّه | .|قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ|أَيْ إِنَّ الْبَيَان الْحَقّ هُوَ بَيَان اللَّه عَزَّ وَجَلَّ|أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ|بَيَّنَ أَلَّا يُؤْتَى أَحَد مِثْل مَا أُوتِيتُمْ , و | لَا | مُقَدَّرَة بَعْد | أَنْ | أَيْ لِئَلَّا يُؤْتَى ; كَقَوْلِهِ | يُبَيِّن اللَّه لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا | [ النِّسَاء : 176 ] أَيْ لِئَلَّا تَضِلُّوا , فَلِذَلِكَ صَلُحَ دُخُول | أَحَد | فِي الْكَلَام . و | أَوْ | بِمَعْنَى | حَتَّى | و | إِلَّا أَنْ | ; كَمَا قَالَ اِمْرُؤُ الْقَيْس : <br>فَقُلْت لَهُ لَا تَبْكِ عَيْنك إِنَّمَا .......... نُحَاوِل مُلْكًا أَوْ نَمُوت فَنُعْذَرَا <br>وَقَالَ آخَر : <br>وَكُنْت إِذَا غَمَزْت قَنَاة قَوْم .......... كَسَرْت كُعُوبَهَا أَوْ تَسْتَقِيمَا <br>وَمِثْله قَوْلهمْ : لَا نَلْتَقِي أَوْ تَقُوم السَّاعَة , بِمَعْنَى | حَتَّى | أَوْ | إِلَى أَنْ | ; وَكَذَلِكَ مَذْهَب الْكِسَائِيّ . وَهِيَ عِنْد الْأَخْفَش عَاطِفَة عَلَى | وَلَا تُؤْمِنُوا | وَقَدْ تَقَدَّمَ . أَيْ لَا إِيمَان لَهُمْ وَلَا حُجَّة ; فَعَطَفَ عَلَى الْمَعْنَى . وَيَحْتَمِل أَنْ تَكُون الْآيَة كُلّهَا خِطَابًا لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ اللَّه تَعَالَى عَلَى جِهَة التَّثْبِيت لِقُلُوبِهِمْ وَالتَّشْحِيذ لِبَصَائِرِهِمْ ; لِئَلَّا يَشُكُّوا عِنْد تَلْبِيس الْيَهُود وَتَزْوِيرهمْ فِي دِينهمْ . وَالْمَعْنَى لَا تُصَدِّقُوا يَا مَعْشَر الْمُؤْمِنِينَ إِلَّا مَنْ تَبِعَ دِينكُمْ , وَلَا تُصَدِّقُوا أَنْ يُؤْتَى أَحَد مِثْل مَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْفَضْل وَالدِّين , وَلَا تُصَدِّقُوا أَنْ يُحَاجّكُمْ فِي دِينكُمْ عِنْد رَبّكُمْ مَنْ خَالَفَكُمْ أَوْ يَقْدِر عَلَى ذَلِكَ , فَإِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّه وَإِنَّ الْفَضْل بِيَدِ اللَّه . وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِغَيْرِ مَدّ عَلَى الْخَبَر . وَقَرَأَ سَعِيد بْن جُبَيْر | إِنْ يُؤْتَى | بِكَسْرِ الْهَمْزَة , عَلَى مَعْنَى النَّفْي ; وَيَكُون مِنْ كَلَام اللَّه تَعَالَى كَمَا قَالَ الْفَرَّاء . وَالْمَعْنَى : قُلْ يَا مُحَمَّد | إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّه إِنْ يُؤْتَى أَحَد مِثْل مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْد رَبّكُمْ | يَعْنِي الْيَهُود - بِالْبَاطِلِ فَيَقُولُونَ نَحْنُ أَفْضَل مِنْكُمْ . وَنَصَبَ | أَوْ يُحَاجُّوكُمْ | يَعْنِي بِإِضْمَارِ | أَنْ | و | أَوْ | تُضْمَر بَعْدهَا | أَنْ | إِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى | حَتَّى | و | إِلَّا أَنْ | . وَقَرَأَ الْحَسَن | أَنْ يُؤْتِيَ | بِكَسْرِ التَّاء وَيَاء مَفْتُوحَة , عَلَى مَعْنَى أَنْ يُؤْتِيَ أَحَدٌ أَحَدًا مِثْل مَا أُوتِيتُمْ , فَحَذَفَ الْمَفْعُول . قَوْله تَعَالَى : | قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّه | فِيهِ قَوْلَانِ : [ أَحَدهمَا ] إِنَّ الْهُدَى إِلَى الْخَيْر وَالدَّلَالَة إِلَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بِيَدِ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ يُؤْتِيه أَنْبِيَاءَهُ , فَلَا تُنْكِرُوا أَنْ يُؤْتَى أَحَد سِوَاكُمْ مِثْل مَا أُوتِيتُمْ , فَإِنْ أَنْكَرُوا ذَلِكَ فَقُلْ لَهُمْ : | إِنَّ الْفَضْل بِيَدِ اللَّه يُؤْتِيه مَنْ يَشَاء | . [ وَالْقَوْل الْآخَر ] قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّه الَّذِي آتَاهُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ التَّصْدِيق بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا غَيْره . وَقَالَ بَعْض أَهْل الْإِشَارَات فِي هَذِهِ الْآيَة : لَا تُعَاشِرُوا إِلَّا مَنْ يُوَافِقكُمْ عَلَى أَحْوَالكُمْ وَطَرِيقَتكُمْ فَإِنَّ مَنْ لَا يُوَافِقكُمْ لَا يُرَافِقكُمْ . وَاَللَّه أَعْلَم .|أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ|قَالَ الضَّحَّاك : إِنَّ الْيَهُود قَالُوا إِنَّا نُحَاجّ عِنْد رَبّنَا مَنْ خَالَفَنَا فِي دِيننَا ; فَبَيَّنَ اللَّه تَعَالَى أَنَّهُمْ هُمْ الْمُدْحَضُونَ الْمُعَذَّبُونَ وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ هُمْ الْغَالِبُونَ . وَمُحَاجَّتهمْ خُصُومَتهمْ يَوْم الْقِيَامَة . فَفِي الْخَبَر عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ الْيَهُود وَالنَّصَارَى يُحَاجُّونَا عِنْد رَبّنَا فَيَقُولُونَ أَعْطَيْتنَا أَجْرًا وَاحِدًا وَأَعْطَيْتهمْ أَجْرَيْنِ فَيَقُول هَلْ ظَلَمْتُكُمْ مِنْ حُقُوقكُمْ شَيْئًا قَالُوا لَا قَالَ فَإِنَّ ذَلِكَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاء ) . قَالَ عُلَمَاؤُنَا : فَلَوْ عَلِمُوا أَنَّ ذَلِكَ مِنْ فَضْل اللَّه لَمْ يُحَاجُّونَا عِنْد رَبّنَا ; فَأَعْلَمَ اللَّه نَبِيّه صَلَّى أَنَّهُمْ يُحَاجُّونَكُمْ يَوْم الْقِيَامَة عِنْد رَبّكُمْ , ثُمَّ قَالَ : قُلْ لَهُمْ الْآن | إِنَّ الْفَضْل بِيَدِ اللَّه يُؤْتِيه مَنْ يَشَاء وَاَللَّه وَاسِع عَلِيم | . وَقَرَأَ اِبْن كَثِير | آن يُؤْتَى | بِالْمَدِّ عَلَى الِاسْتِفْهَام ; كَمَا قَالَ الْأَعْشَى : <br>أَأَنْ رَأَتْ رَجُلًا أَعْشَى أَضَرّ بِهِ .......... رَيْب الْمَنُون وَدَهْر مُتْبِل خَبِلُ<br>|قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ|قَالَ الضَّحَّاك : إِنَّ الْيَهُود قَالُوا إِنَّا نُحَاجّ عِنْد رَبّنَا مَنْ خَالَفَنَا فِي دِيننَا ; فَبَيَّنَ اللَّه تَعَالَى أَنَّهُمْ هُمْ الْمُدْحَضُونَ الْمُعَذَّبُونَ وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ هُمْ الْغَالِبُونَ . وَمُحَاجَّتهمْ خُصُومَتهمْ يَوْم الْقِيَامَة . فَفِي الْخَبَر عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ الْيَهُود وَالنَّصَارَى يُحَاجُّونَا عِنْد رَبّنَا فَيَقُولُونَ أَعْطَيْتنَا أَجْرًا وَاحِدًا وَأَعْطَيْتهمْ أَجْرَيْنِ فَيَقُول هَلْ ظَلَمْتُكُمْ مِنْ حُقُوقكُمْ شَيْئًا قَالُوا لَا قَالَ فَإِنَّ ذَلِكَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاء ) . قَالَ عُلَمَاؤُنَا : فَلَوْ عَلِمُوا أَنَّ ذَلِكَ مِنْ فَضْل اللَّه لَمْ يُحَاجُّونَا عِنْد رَبّنَا ; فَأَعْلَمَ اللَّه نَبِيّه صَلَّى أَنَّهُمْ يُحَاجُّونَكُمْ يَوْم الْقِيَامَة عِنْد رَبّكُمْ , ثُمَّ قَالَ : قُلْ لَهُمْ الْآن | إِنَّ الْفَضْل بِيَدِ اللَّه يُؤْتِيه مَنْ يَشَاء وَاَللَّه وَاسِع عَلِيم | . وَقَرَأَ اِبْن كَثِير | آن يُؤْتَى | بِالْمَدِّ عَلَى الِاسْتِفْهَام ; كَمَا قَالَ الْأَعْشَى : <br>أَأَنْ رَأَتْ رَجُلًا أَعْشَى أَضَرّ بِهِ .......... رَيْب الْمَنُون وَدَهْر مُتْبِل خَبِل<br>

يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ

أَيْ بِنُبُوَّتِهِ وَهِدَايَته ; عَنْ الْحَسَن وَمُجَاهِد وَغَيْرهمَا . اِبْن جُرَيْج : بِالْإِسْلَامِ وَالْقُرْآن | مَنْ يَشَاء | . قَالَ أَبُو عُثْمَان : أَجْمَلَ الْقَوْل لِيَبْقَى مَعَهُ رَجَاء الرَّاجِي وَخَوْف الْخَائِف . | وَاَللَّه ذُو الْفَضْل الْعَظِيم | .

وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَق

مِثْل عَبْد اللَّه بْن سَلَام .|وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ|وَهُوَ فِنْحَاص بْن عازوراء الْيَهُودِيّ , أَوْدَعَهُ رَجُل دِينَارًا فَخَانَهُ . وَقِيلَ : كَعْب بْن الْأَشْرَف وَأَصْحَابه . وَقَرَأَ اِبْن وَثَّاب وَالْأَشْهَب الْعُقَيْلِيّ | مَنْ إِنْ تَيْمَنْهُ | عَلَى لُغَة مَنْ قَرَأَ | نِسْتَعِين | وَهِيَ لُغَة بَكْر وَتَمِيم . وَفِي حَرْف عَبْد اللَّه | مَالِك لَا تَيْمَنَّا عَلَى يُوسُف | وَالْبَاقُونَ بِالْأَلِفِ . وَقَرَأَ نَافِع وَالْكِسَائِيّ | يُؤَدِّ هِيَ | بِيَاءٍ فِي الْإِدْرَاج . قَالَ أَبُو عُبَيْد : وَاتَّفَقَ أَبُو عَمْرو وَالْأَعْمَش وَعَاصِم وَحَمْزَة فِي رِوَايَة أَبِي بَكْر عَلَى وَقْف الْهَاء , فَقَرَءُوا | يُؤَدِّهِ إِلَيْك | . قَالَ النَّحَّاس : بِإِسْكَانِ الْهَاء لَا يَجُوز إِلَّا فِي الشِّعْر عِنْد بَعْض النَّحْوِيِّينَ , وَبَعْضهمْ لَا يُجِيزهُ أَلْبَتَّةَ وَيَرَى أَنَّهُ غَلَط مِمَّنْ قَرَأَ بِهِ , وَإِنَّهُ تَوَهَّمَ أَنَّ الْجَزْم يَقَع عَلَى الْهَاء , وَأَبُو عَمْرو أَجَلّ مِنْ أَنْ يَجُوز عَلَيْهِ مِثْل هَذَا . وَالصَّحِيح عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَكْسِر الْهَاء ; وَهِيَ قِرَاءَة يَزِيد بْن الْقَعْقَاع . وَقَالَ الْفَرَّاء : مَذْهَب بَعْض الْعَرَب يَجْزِمُونَ الْهَاء إِذَا تَحَرَّكَ مَا قَبْلهَا , يَقُولُونَ : ضَرَبْتهْ ضَرْبًا شَدِيدًا ; كَمَا يُسَكِّنُونَ مِيم أَنْتُمْ وَقُمْتُمْ وَأَصْلهَا الرَّفْع ; كَمَا قَالَ الشَّاعِر : <br>لَمَّا رَأَى أَلَّا دَعَهْ وَلَا شِبَعْ .......... مَالَ إِلَى أَرْطَاة حِقْف فَاضْطَجَعْ <br>وَقِيلَ : إِنَّمَا جَازَ إِسْكَان الْهَاء فِي هَذَا الْمَوْضِع لِأَنَّهَا وَقَعَتْ فِي مَوْضِع الْجَزْم وَهِيَ الْيَاء الذَّاهِبَة . وَقَرَأَ أَبُو الْمُنْذِر سَلَام وَالزُّهْرِيّ | يُؤدّهُ | بِضَمِّ الْهَاء بِغَيْرِ وَاو . وَقَرَأَ قَتَادَة وَحُمَيْد وَمُجَاهِد | يُؤدِّهُو | بِوَاوٍ فِي الْإِدْرَاج , اُخْتِيرَ لَهَا الْوَاو لِأَنَّ الْوَاو مِنْ الشَّفَة وَالْهَاء بَعِيدَة الْمَخْرَج . قَالَ سِيبَوَيْهِ : الْوَاو فِي الْمُذَكَّر بِمَنْزِلَةِ الْأَلِف فِي الْمُؤَنَّث وَيُبْدَل مِنْهَا يَاء لِأَنَّ الْيَاء أَخَفّ إِذَا كَانَ قَبْلهَا كَسْرَة أَوْ يَاء , وَتُحْذَف الْيَاء وَتَبْقَى الْكَسْرَة لِأَنَّ الْيَاء قَدْ كَانَتْ تُحْذَف وَالْفِعْل مَرْفُوع فَأُثْبِتَتْ بِحَالِهَا .</p><p>أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ فِي أَهْل الْكِتَاب الْخَائِن وَالْأَمِين , وَالْمُؤْمِنُونَ لَا يُمَيِّزُونَ ذَلِكَ , فَيَنْبَغِي اِجْتِنَاب جَمِيعهمْ . وَخَصَّ أَهْل الْكِتَاب بِالذِّكْرِ وَإِنْ كَانَ الْمُؤْمِنُونَ كَذَلِكَ ; لِأَنَّ الْخِيَانَة فِيهِمْ أَكْثَر , فَخَرَجَ الْكَلَام عَلَى الْغَالِب . وَاَللَّه أَعْلَم . وَقَدْ مَضَى تَفْسِير الْقِنْطَار . وَأَمَّا الدِّينَار فَأَرْبَعَة وَعِشْرُونَ قِيرَاطًا وَالْقِيرَاط ثَلَاث حَبَّات مِنْ وَسَط الشَّعِير , فَمَجْمُوعه اِثْنَتَانِ وَسَبْعُونَ حَبَّة , وَهُوَ مُجْمَع عَلَيْهِ . وَمَنْ حَفِظَ الْكَثِير وَأَدَّاهُ فَالْقَلِيل أَوْلَى , وَمَنْ خَانَ فِي الْيَسِير أَوْ مَنَعَهُ فَذَلِكَ فِي الْكَثِير أَكْثَر . وَهَذَا أَدَلّ دَلِيل عَلَى الْقَوْل بِمَفْهُومِ الْخِطَاب . وَفِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاء خِلَاف كَثِير مَذْكُور فِي أُصُول الْفِقْه . وَذَكَرَ تَعَالَى قِسْمَيْنِ : مَنْ يُؤَدِّي وَمَنْ لَا يُؤَدِّي إِلَّا بِالْمُلَازَمَةِ عَلَيْهِ ; وَقَدْ يَكُون مِنْ النَّاس مَنْ لَا يُؤَدِّي وَإِنْ دُمْت عَلَيْهِ قَائِمًا . فَذَكَرَ تَعَالَى الْقِسْمَيْنِ لِأَنَّهُ الْغَالِب وَالْمُعْتَاد وَالثَّالِث نَادِر ; فَخَرَجَ الْكَلَام عَلَى الْغَالِب . وَقَرَأَ طَلْحَة بْن مُصَرِّف وَأَبُو عَبْد الرَّحْمَن السُّلَمِيّ وَغَيْرهمَا | دِمْت | بِكَسْرِ الدَّال وَهُمَا لُغَتَانِ , وَالْكَسْر لُغَة أَزْد السَّرَاة ; مِنْ | دِمْت تُدَام | مِثْل خِفْت تُخَاف . وَحَكَى الْأَخْفَش دِمْت تَدُوم , شَاذًّا .|إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا|اِسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَة عَلَى مَذْهَبه فِي مُلَازَمَة الْغَرِيم بِقَوْلِهِ تَعَالَى : | إِلَّا مَا دُمْت عَلَيْهِ قَائِمًا | وَأَبَاهُ سَائِر الْعُلَمَاء , وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَة . وَقَدْ اِسْتَدَلَّ بَعْض الْبَغْدَادِيِّينَ مِنْ عُلَمَائِنَا عَلَى حَبْس الْمِدْيَان بِقَوْلِهِ تَعَالَى : | وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْك إِلَّا مَا دُمْت عَلَيْهِ قَائِمًا | فَإِذَا كَانَ لَهُ مُلَازَمَته وَمَنْعه مِنْ التَّصَرُّف , جَازَ حَبْسه . وَقِيلَ : إِنَّ مَعْنَى | إِلَّا مَا دُمْت عَلَيْهِ قَائِمًا | أَيْ بِوَجْهِك فَيَهَابك وَيَسْتَحِي مِنْك , فَإِنَّ الْحَيَاء فِي الْعَيْنَيْنِ ; أَلَا تَرَى إِلَى قَوْل اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : لَا تَطْلُبُوا مِنْ الْأَعْمَى حَاجَة فَإِنَّ الْحَيَاء فِي الْعَيْنَيْنِ . وَإِذَا طَلَبْت مِنْ أَخِيك حَاجَة فَانْظُرْ إِلَيْهِ بِوَجْهِك حَتَّى يَسْتَحِيَ فَيَقْضِيهَا . وَيُقَال : | قَائِمًا | أَيْ مُلَازِمًا لَهُ ; فَإِنْ أَنْظَرْته أَنْكَرَك . وَقِيلَ : أَرَادَ بِالْقِيَامِ إِدَامَة الْمُطَالَبَة لَا عَيْن الْقِيَام . وَالدِّينَار أَصْله دِنَّار فَعُوِّضَتْ مِنْ إِحْدَى النُّونَيْنِ يَاء طَلَبًا لِلتَّخْفِيفِ لِكَثْرَةِ اِسْتِعْمَاله . يَدُلّ عَلَيْهِ أَنَّهُ يُجْمَع دَنَانِير وَيُصَغَّر دُنَيْنِير .</p><p>الْأَمَانَة عَظِيمَة الْقَدْر فِي الدِّين , وَمِنْ عِظَم قَدْرهَا أَنَّهَا تَقُوم هِيَ وَالرَّحِم عَلَى جَنْبَتَيْ الصِّرَاط ; كَمَا فِي صَحِيح مُسْلِم . فَلَا يُمَكَّن مِنْ الْجَوَاز إِلَّا مَنْ حَفِظَهُمَا . وَرَوَى مُسْلِم عَنْ حُذَيْفَة قَالَ : حَدَّثَنَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رَفْع الْأَمَانَة , قَالَ : ( يَنَام الرَّجُل النَّوْمَة فَتُقْبَض الْأَمَانَة مِنْ قَلْبه ) الْحَدِيث . وَقَدْ تَقَدَّمَ بِكَمَالِهِ أَوَّل الْبَقَرَة . وَرَوَى اِبْن مَاجَهْ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْمُصَفَّى حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن حَرْب عَنْ سَعِيد بْن سِنَان عَنْ أَبِي الزَّاهِرِيَّة عَنْ أَبِي شَجَرَة كَثِير بْن مُرَّة عَنْ اِبْن عُمَر أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُهْلِك عَبْدًا نَزَعَ مِنْهُ الْحَيَاء فَإِذَا نَزَعَ مِنْهُ الْحَيَاء لَمْ تَلْقَهُ إِلَّا مَقِيتًا مُمْقَتًا فَإِذَا لَمْ تَلْقَهُ إِلَّا مَقِيتًا مُمْقَتًا نُزِعَتْ مِنْهُ الْأَمَانَة فَإِذَا نُزِعَتْ مِنْهُ الْأَمَانَة لَمْ تَلْقَهُ إِلَّا خَائِنًا مُخَوَّنًا فَإِذَا لَمْ تَلْقَهُ إِلَّا خَائِنًا مُخَوَّنًا نُزِعَتْ مِنْهُ الرَّحْمَة فَإِذَا نُزِعَتْ مِنْهُ الرَّحْمَة لَمْ تَلْقَهُ إِلَّا رَجِيمًا مُلَعَّنًا فَإِذَا لَمْ تَلْقَهُ إِلَّا رَجِيمًا مُلَعَّنًا نُزِعَتْ مِنْهُ رِبْقَة الْإِسْلَام ) . وَقَدْ مَضَى فِي الْبَقَرَة مَعْنَى قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( أَدِّ الْأَمَانَة إِلَى مَنْ اِئْتَمَنَك وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَك ) . وَاَللَّه أَعْلَم .</p><p>لَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَة تَعْدِيل لِأَهْلِ الْكِتَاب وَلَا لِبَعْضِهِمْ خِلَافًا لِمَنْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ ; لِأَنَّ فُسَّاق الْمُسْلِمِينَ يُوجَد فِيهِمْ مَنْ يُؤَدِّي الْأَمَانَة وَيُؤْمَن عَلَى الْمَال الْكَثِير وَلَا يَكُونُونَ بِذَلِكَ عُدُولًا . فَطَرِيق الْعَدَالَة وَالشَّهَادَة لَيْسَ يُجْزِئ فِيهِ أَدَاء الْأَمَانَة فِي الْمَال مِنْ جِهَة الْمُعَامَلَة وَالْوَدِيعَة ; أَلَا تَرَى قَوْلهمْ : | لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيل | [ آل عِمْرَان : 75 ] فَكَيْفَ يُعَدَّل مَنْ يَعْتَقِد اِسْتِبَاحَة أَمْوَالنَا وَحَرِيمنَا بِغَيْرِ حَرَج عَلَيْهِ ; وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ كَافِيًا فِي تَعْدِيلهمْ لَسُمِعَتْ شَهَادَتهمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ .|ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا|يَعْنِي الْيَهُود|لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ|قِيلَ : إِنَّ الْيَهُود كَانُوا إِذَا بَايَعُوا الْمُسْلِمِينَ يَقُولُونَ : لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيل - أَيْ حَرَج فِي ظُلْمهمْ - لِمُخَالَفَتِهِمْ إِيَّانَا . وَادَّعَوْا أَنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابهمْ ; فَأَكْذَبَهُمْ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وَرَدَّ عَلَيْهِمْ فَقَالَ : | بَلَى | أَيْ بَلَى عَلَيْهِمْ سَبِيل الْعَذَاب بِكَذِبِهِمْ وَاسْتِحْلَالهمْ أَمْوَال الْعَرَب . قَالَ أَبُو إِسْحَاق الزَّجَّاج : وَتَمَّ الْكَلَام . ثُمَّ قَالَ : | مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى | [ آل عِمْرَان : 76 ] . وَيُقَال : إِنَّ الْيَهُود كَانُوا قَدْ اِسْتَدَانُوا مِنْ الْأَعْرَاب أَمْوَالًا فَلَمَّا أَسْلَمَ أَرْبَاب الْحُقُوق قَالَتْ الْيَهُود : لَيْسَ لَكُمْ عَلَيْنَا شَيْء , لِأَنَّكُمْ تَرَكْتُمْ دِينكُمْ فَسَقَطَ عَنَّا دَيْنكُمْ . وَادَّعَوْا أَنَّهُ حُكْم التَّوْرَاة فَقَالَ اللَّه تَعَالَى : | بَلَى | رَدًّا لِقَوْلِهِمْ | لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيل | . أَيْ لَيْسَ كَمَا تَقُولُونَ , ثُمَّ اِسْتَأْنَفَ فَقَالَ : | مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى | الشِّرْك فَلَيْسَ مِنْ الْكَاذِبِينَ بَلْ يُحِبّهُ اللَّه وَرَسُوله .</p><p>قَالَ رَجُل لِابْنِ عَبَّاس : إِنَّا نُصِيب فِي الْعَمْد مِنْ أَمْوَال أَهْل الذِّمَّة الدَّجَاجَة وَالشَّاة وَنَقُول : لَيْسَ عَلَيْنَا فِي ذَلِكَ بَأْس . فَقَالَ لَهُ : هَذَا كَمَا قَالَ أَهْل الْكِتَاب | لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيل | إِنَّهُمْ إِذَا أَدَّوْا الْجِزْيَة لَمْ تَحِلّ لَكُمْ أَمْوَالهمْ إِلَّا عَنْ طِيب أَنْفُسهمْ ; ذَكَرَهُ عَبْد الرَّزَّاق عَنْ مَعْمَر عَنْ أَبِي إِسْحَاق الْهَمْدَانِيّ عَنْ صَعْصَعَة أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِابْنِ عَبَّاس ; فَذَكَرَهُ .|وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ|يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْكَافِر لَا يُجْعَل أَهْلًا لِقَبُولِ شَهَادَته ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى وَصَفَهُ بِأَنَّهُ كَذَّاب . وَفِيهِ رَدّ عَلَى الْكَفَرَة الَّذِينَ يُحَرِّمُونَ وَيُحَلِّلُونَ غَيْر تَحْرِيم اللَّه وَتَحْلِيله وَيَجْعَلُونَ ذَلِكَ مِنْ الشَّرْع . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَمِنْ هَذَا يَخْرُج الرَّدّ عَلَى مَنْ يَحْكُم بِالِاسْتِحْسَانِ مِنْ غَيْر دَلِيل , وَلَسْت أَعْلَم أَحَدًا مِنْ أَهْل الْقِبْلَة قَالَهُ . وَفِي الْخَبَر : لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَا شَيْء كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّة إِلَّا وَهُوَ تَحْت قَدَمَيَّ إِلَّا الْأَمَانَة فَإِنَّهَا مُؤَدَّاة إِلَى الْبَرّ وَالْفَاجِر ) .

بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ

| مَنْ | رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ وَهُوَ شَرْط . و | أَوْفَى | فِي مَوْضِع جَزْم . و | اِتَّقَى | مَعْطُوف عَلَيْهِ , أَيْ وَاتَّقَى اللَّه وَلَمْ يَكْذِب وَلَمْ يَسْتَحِلّ مَا حَرَّمَ عَلَيْهِ . وَالْهَاء فِي قَوْله | بِعَهْدِهِ | رَاجِعَة إِلَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ . وَقَدْ جَرَى ذِكْره فِي قَوْله | وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّه الْكَذِب وَهُمْ يَعْلَمُونَ | وَيَجُوز أَنْ تَعُود عَلَى الْمُوَفِّي وَمُتَّقِي الْكُفْر وَالْخِيَانَة وَنَقْض الْعَهْد . وَالْعَهْد مَصْدَر يُضَاف إِلَى الْفَاعِل وَالْمَفْعُول .|فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ|أَيْ يُحِبّ أُولَئِكَ . وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى حُبّ اللَّه لِأَوْلِيَائِهِ .

إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ

رَوَى الْأَئِمَّة عَنْ الْأَشْعَث بْن قَيْس قَالَ : كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُل مِنْ الْيَهُود أَرْض فَجَحَدَنِي فَقَدَّمْته إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَقَالَ لِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( هَلْ لَك بَيِّنَة ) ؟ قُلْت لَا , قَالَ لِلْيَهُودِيِّ : ( اِحْلِفْ ) قُلْت : إِذًا يَحْلِف فَيَذْهَب بِمَالِي ; فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى : | إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّه وَأَيْمَانهمْ ثَمَنًا قَلِيلًا | إِلَى آخِر الْآيَة . وَرَوَى الْأَئِمَّة أَيْضًا عَنْ أَبِي أُمَامَة أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ اِقْتَطَعَ حَقّ اِمْرِئٍ مُسْلِم بِيَمِينِهِ فَقَدْ أَوْجَبَ اللَّه لَهُ النَّار وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّة ) . فَقَالَ لَهُ رَجُل : وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا يَا رَسُول اللَّه ؟ قَالَ : ( وَإِنْ كَانَ قَضِيبًا مِنْ أَرَاك ) .</p><p>وَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَة وَالْأَحَادِيث أَنْ حُكْم الْحَاكِم لَا يُحِلّ الْمَال فِي الْبَاطِن بِقَضَاءِ الظَّاهِر إِذَا عَلِمَ الْمَحْكُوم لَهُ بُطْلَانه ; وَقَدْ رَوَى الْأَئِمَّة عَنْ أُمّ سَلَمَة قَالَتْ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَإِنَّمَا أَنَا بَشَر وَلَعَلَّ بَعْضكُمْ أَنْ يَكُون أَلْحَن بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْض وَإِنَّمَا أَقْضِي بَيْنكُمْ عَلَى نَحْو مِمَّا أَسْمَع مِنْكُمْ فَمَنْ قَضَيْت لَهُ مِنْ حَقّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلَا يَأْخُذهُ فَإِنَّمَا أَقْطَع لَهُ قِطْعَة مِنْ النَّار يَأْتِي بِهَا يَوْم الْقِيَامَة ) . وَهَذَا لَا خِلَاف فِيهِ بَيْنَ الْأَئِمَّة , وَإِنَّمَا نَاقَضَ أَبُو حَنِيفَة وَغَلَا وَقَالَ : إِنَّ حُكْم الْحَاكِم الْمَبْنِيّ عَلَى الشَّهَادَة الْبَاطِلَة يُحِلّ الْفَرْج لِمَنْ كَانَ مُحَرَّمًا عَلَيْهِ ; كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَة . وَزَعَمَ أَنَّهُ لَوْ شَهِدَ شَاهِدَا زُور عَلَى رَجُل بِطَلَاقِ زَوْجَته وَحَكَمَ الْحَاكِم بِشَهَادَتِهِمَا فَإِنَّ فَرْجهَا يَحِلّ لِمُتَزَوِّجِهَا مِمَّنْ يَعْلَم أَنَّ الْقَضِيَّة بَاطِل . وَقَدْ شَنَّعَ عَلَيْهِ بِإِعْرَاضِهِ عَنْ هَذَا الْحَدِيث الصَّحِيح الصَّرِيح , وَبِأَنَّهُ صَانَ الْأَمْوَال وَلَمْ يَرَ اِسْتِبَاحَتهَا بِالْأَحْكَامِ الْفَاسِدَة , وَلَمْ يَصُنْ الْفُرُوج عَنْ ذَلِكَ , وَالْفُرُوج أَحَقّ أَنْ يُحْتَاط لَهَا وَتُصَان . وَسَيَأْتِي بُطْلَان قَوْله فِي آيَة اللِّعَان إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .|وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ|وَقَدْ مَضَى فِي الْبَقَرَة مَعْنَى | لَا يُكَلِّمهُمْ اللَّه وَلَا يَنْظُر إِلَيْهِمْ يَوْم الْقِيَامَة وَلَا يُزَكِّيهِمْ | .

وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ

يَعْنِي طَائِفَة مِنْ الْيَهُود . | يَلْوُونَ أَلْسِنَتهمْ بِالْكِتَابِ | وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَر وَشَيْبَة | يُلَوُّونَ | عَلَى التَّكْثِير . إِذَا أَمَالَهُ ; وَمِنْهُ وَالْمَعْنَى يُحَرِّفُونَ الْكَلِم وَيَعْدِلُونَ بِهِ عَنْ الْقَصْد . وَأَصْل اللَّيّ الْمَيْل . لَوَى بِيَدِهِ , وَلَوَى بِرَأْسِهِ قَوْله تَعَالَى : | لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ | [ النِّسَاء : 46 ] أَيْ عِنَادًا عَنْ الْحَقّ وَمَيْلًا عَنْهُ إِلَى غَيْره . وَمَعْنَى | وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَد | [ آل عِمْرَان : 153 ] أَيْ لَا تُعَرِّجُونَ عَلَيْهِ ; يُقَال لَوَى عَلَيْهِ إِذَا عَرَّجَ وَأَقَامَ . وَاللَّيّ الْمَطْل . لَوَاهُ بِدَيْنِهِ يَلْوِيه وَلِيَانًا مَطَلَهُ . قَالَ : <br>قَدْ كُنْت دَايَنْت بِهَا حَسَّانَا .......... مَخَافَة الْإِفْلَاس وَاللِّيَانَا <br><br>يَحْسُن بَيْع الْأَصْل وَالْعِيَانَا <br>وَقَالَ ذُو الرُّمَّة : <br>تُرِيدِينَ لِيَانِي وَأَنْتِ مَلِيَّة .......... وَأَحْسَن يَا ذَات الْوِشَاح التَّقَاضِيَا <br>وَفِي الْحَدِيث ( لَيّ الْوَاجِد يُحِلّ عِرْضه وَعُقُوبَته ) . وَأَلْسِنَة جَمْع لِسَان فِي لُغَة مَنْ ذَكَّرَ , وَمَنْ أَنَّثَ قَالَ أَلْسُن .

مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ

| مَا كَانَ | مَعْنَاهُ مَا يَنْبَغِي ; كَمَا قَالَ : | وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُل مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأ | [ النِّسَاء : 92 ] و | مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذ مِنْ وَلَد | [ مَرْيَم : 35 ] . و | مَا يَكُون لَنَا أَنْ نَتَكَلَّم بِهَذَا | [ النُّور : 16 ] يَعْنِي مَا يَنْبَغِي . وَالْبَشَر يَقَع لِلْوَاحِدِ وَالْجَمْع لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَصْدَر ; وَالْمُرَاد بِهِ هُنَا عِيسَى فِي قَوْل الضَّحَّاك وَالسُّدِّيّ . وَالْكِتَاب : الْقُرْآن . وَالْحُكْم : الْعِلْم وَالْفَهْم . وَقِيلَ أَيْضًا : الْأَحْكَام . أَيْ إِنَّ اللَّه لَا يَصْطَفِي لِنُبُوَّتِهِ الْكَذَبَة , وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ بَشَر لَسَلَبَهُ اللَّه آيَات النُّبُوَّة وَعَلَامَاتهَا .|ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ|وَنَصَبَ | ثُمَّ يَقُول | عَلَى الِاشْتِرَاك بَيْنَ | أَنْ يُؤْتِيه | وَبَيْنَ | يَقُول | أَيْ لَا يَجْتَمِع لِنَبِيٍّ إِتْيَان النُّبُوَّة|وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ|أَيْ وَلَكِنْ جَائِز أَنْ يَكُون النَّبِيّ يَقُول لَهُمْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ . وَهَذِهِ الْآيَة قِيلَ إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي نَصَارَى نَجْرَان . وَكَذَلِكَ رُوِيَ أَنَّ السُّورَة كُلّهَا إِلَى قَوْله | وَإِذْ غَدَوْت مِنْ أَهْلك | [ آل عِمْرَان : 121 ] كَانَ سَبَب نُزُولهَا نَصَارَى نَجْرَان وَلَكِنْ مَزَجَ مَعَهُمْ الْيَهُود ; لِأَنَّهُمْ فَعَلُوا مِنْ الْجَحْد وَالْعِنَاد فِعْلهمْ .</p><p>وَالرَّبَّانِيُّونَ وَاحِدهمْ رَبَّانِيّ مَنْسُوب إِلَى الرَّبّ . وَالرَّبَّانِيّ الَّذِي يُرَبِّي النَّاس بِصِغَارِ الْعِلْم قَبْل كِبَاره ; وَكَأَنَّهُ يَقْتَدِي بِالرَّبِّ سُبْحَانه فِي تَيْسِير الْأُمُور ; رُوِيَ مَعْنَاهُ عَنْ اِبْن عَبَّاس . قَالَ بَعْضهمْ : كَانَ فِي الْأَصْل رَبِّي فَأُدْخِلَتْ الْأَلِف وَالنُّون لِلْمُبَالَغَةِ ; كَمَا يُقَال لِلْعَظِيمِ اللِّحْيَة : لِحْيَانِيّ وَلِعَظِيمِ الْجُمَّة جُمَّانِيّ وَلِغَلِيظِ الرَّقَبَة رَقَبَانِيّ . وَقَالَ الْمُبَرِّد : الرَّبَّانِيُّونَ أَرْبَاب الْعِلْم , وَاحِدهمْ رَبَّانِ , مِنْ قَوْلهمْ : رَبَّهُ يَرُبّهُ فَهُوَ رَبَّان إِذَا دَبَّرَهُ وَأَصْلَحَهُ ; فَمَعْنَاهُ عَلَى هَذَا يُدَبِّرُونَ أُمُور النَّاس وَيُصْلِحُونَهَا . وَالْأَلِف وَالنُّون لِلْمُبَالَغَةِ كَمَا قَالُوا رَيَّان وَعَطْشَان , ثُمَّ ضُمَّتْ إِلَيْهَا يَاء النِّسْبَة كَمَا قِيلَ : لِحْيَانِيّ وَرَقَبَانِيّ وَجُمَّانِيّ . قَالَ الشَّاعِر : <br>لَوْ كُنْت مُرْتَهَنًا فِي الْجَوّ أَنْزَلَنِي .......... مِنْهُ الْحَدِيث وَرَبَّانِيّ أَحْبَارِي <br>فَمَعْنَى الرَّبَّانِيّ الْعَالِم بِدِينِ الرَّبّ الَّذِي يَعْمَل بِعِلْمِهِ ; لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَعْمَل بِعِلْمِهِ فَلَيْسَ بِعَالِمٍ . وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْبَقَرَة : وَقَالَ أَبُو رَزِين : الرَّبَّانِيّ هُوَ الْعَالِم الْحَكِيم . وَرَوَى شُعْبَة عَنْ عَاصِم عَنْ زِرّ عَنْ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود | وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ | قَالَ : حُكَمَاء عُلَمَاء . اِبْن جُبَيْر : حُكَمَاء أَتْقِيَاء . وَقَالَ الضَّحَّاك : لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَدَع حِفْظ الْقُرْآن جَهْده فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى يَقُول : | وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ | . وَقَالَ اِبْن زَيْد : الرَّبَّانِيُّونَ الْوُلَاة , وَالْأَحْبَار الْعُلَمَاء . وَقَالَ مُجَاهِد : الرَّبَّانِيُّونَ فَوْق الْأَحْبَار . قَالَ النَّحَّاس : وَهُوَ قَوْل حَسَن ; لِأَنَّ الْأَحْبَار هُمْ الْعُلَمَاء . وَالرَّبَّانِيّ الَّذِي يَجْمَع إِلَى الْعِلْم الْبَصَر بِالسِّيَاسَةِ ; مَأْخُوذ مِنْ قَوْل الْعَرَب : رَبَّ أَمْر النَّاس يَرُبّهُ إِذَا أَصْلَحَهُ وَقَامَ بِهِ , فَهُوَ رَابّ وَرَبَّانِيّ عَلَى التَّكْثِير . قَالَ أَبُو عُبَيْدَة : سَمِعْت عَالِمًا يَقُول : الرَّبَّانِيّ الْعَالِم بِالْحَلَالِ وَالْحَرَام وَالْأَمْر وَالنَّهْي , الْعَارِف بِأَنْبَاءِ الْأُمَّة وَمَا كَانَ وَمَا يَكُون . وَقَالَ مُحَمَّد بْن الْحَنَفِيَّة يَوْم مَاتَ أَبِي عَبَّاس : الْيَوْم مَاتَ رَبَّانِيّ هَذِهِ الْأُمَّة . وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( مَا مِنْ مُؤْمِن ذَكَر وَلَا أُنْثَى حُرّ وَلَا مَمْلُوك إِلَّا وَلِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ حَقّ أَنْ يَتَعَلَّم مِنْ الْقُرْآن وَيَتَفَقَّه فِي دِينه - ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَة - | وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ | الْآيَة . رَوَاهُ اِبْن عَبَّاس .|بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ|قَرَأَهُ أَبُو عَمْرو وَأَهْل الْمَدِينَة بِالتَّخْفِيفِ مِنْ الْعِلْم . وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَة أَبُو حَاتِم . قَالَ أَبُو عَمْرو : وَتَصْدِيقهَا | تَدْرُسُونَ | وَلَمْ يَقُلْ | تُدَرِّسُونَ | بِالتَّشْدِيدِ مِنْ التَّدْرِيس . وَقَرَأَ اِبْن عَامِر وَأَهْل الْكُوفَة | تُعَلِّمُونَ | بِالتَّشْدِيدِ مِنْ التَّعْلِيم ; وَاخْتَارَهَا أَبُو عُبَيْد . قَالَ : لِأَنَّهَا تَجْمَع الْمَعْنَيَيْنِ | تَعْلَمُونَ , وَتَدْرُسُونَ | . قَالَ مَكِّيّ : التَّشْدِيد أَبْلَغ , لِأَنَّ كُلّ مُعَلِّم عَالِم بِمَعْنَى يَعْلَم وَلَيْسَ كُلّ مَنْ عَلِمَ شَيْئًا مُعَلِّمًا , فَالتَّشْدِيد يَدُلّ عَلَى الْعِلْم وَالتَّعْلِيم , وَالتَّخْفِيف إِنَّمَا يَدُلّ عَلَى الْعِلْم فَقَطْ , فَالتَّعْلِيم أَبْلَغ وَأَمْدَح وَغَيْره أَبْلَغ فِي الذَّمّ . اِحْتَجَّ مَنْ رَجَّحَ قِرَاءَة التَّخْفِيف بِقَوْلِ اِبْن مَسْعُود | كُونُوا رَبَّانِيِّينَ | قَالَ : حُكَمَاء عُلَمَاء ; فَيَبْعُد أَنْ يُقَال كُونُوا فُقَهَاء حُكَمَاء عُلَمَاء بِتَعْلِيمِكُمْ . قَالَ الْحَسَن كُونُوا حُكَمَاء عُلَمَاء بِعِلْمِكُمْ . وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَة | تُدْرِسُونَ | مِنْ أَدْرَسَ يُدْرِس . وَقَرَأَ مُجَاهِد | تَعَلَّمُونَ | بِفَتْحِ التَّاء وَتَشْدِيد اللَّام , أَيْ تَتَعَلَّمُونَ .

وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ

قَرَأَ اِبْن عَامِر وَعَاصِم وَحَمْزَة بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى | أَنْ يُؤْتِيَهُ | . وَيُقَوِّيه أَنَّ الْيَهُود قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَتُرِيدُ أَنْ نَتَّخِذك يَا مُحَمَّد رَبًّا ؟ فَقَالَ اللَّه تَعَالَى : | مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيه اللَّه الْكِتَاب وَالْحُكْم وَالنُّبُوَّة - إِلَى قَوْله : وَلَا يَأْمُركُمْ | . وَفِيهِ ضَمِير الْبَشَر , أَيْ وَلَا يَأْمُركُمْ الْبَشَر يَعْنِي عِيسَى وَعُزَيْرًا . وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ عَلَى الِاسْتِئْنَاف وَالْقَطْع مِنْ الْكَلَام الْأَوَّل , وَفِيهِ ضَمِير اِسْم اللَّه عَزَّ وَجَلَّ , أَيْ وَلَا يَأْمُركُمْ اللَّه أَنْ تَتَّخِذُوا . وَيُقَوِّي هَذِهِ الْقِرَاءَة أَنَّ فِي مُصْحَف عَبْد اللَّه | وَلَنْ يَأْمُركُمْ | فَهَذَا يَدُلّ عَلَى الِاسْتِئْنَاف , وَالضَّمِير أَيْضًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ; ذَكَرَهُ مَكِّيّ , وَقَالَ سِيبَوَيْهِ وَالزَّجَّاج . وَقَالَ اِبْن جُرَيْج وَجَمَاعَة : وَلَا يَأْمُركُمْ مُحَمَّد عَلَيْهِ السَّلَام . وَهَذِهِ قِرَاءَة أَبِي عَمْرو وَالْكِسَائِيّ وَأَهْل الْحَرَمَيْنِ . | أَنْ تَتَّخِذُوا | أَيْ بِأَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَة وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا . وَهَذَا مَوْجُود فِي النَّصَارَى يُعَظِّمُونَ الْأَنْبِيَاء وَالْمَلَائِكَة حَتَّى يَجْعَلُوهُمْ لَهُمْ أَرْبَابًا .|أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ|عَلَى طَرِيق الْإِنْكَار وَالتَّعَجُّب ; فَحَرَّمَ اللَّه تَعَالَى عَلَى الْأَنْبِيَاء أَنْ يَتَّخِذُوا النَّاس عُبَّادًا يَتَأَلَّهُونَ لَهُمْ وَلَكِنْ أَلْزَمَ الْخَلْق حُرْمَتهمْ . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( لَا يَقُولَن أَحَدكُمْ عَبْدِي وَأَمَتِي وَلْيَقُلْ فَتَايَ وَفَتَاتِي وَلَا يَقُلْ أَحَدكُمْ رَبِّي وَلْيَقُلْ سَيِّدِي ) . وَفِي التَّنْزِيل | اُذْكُرْنِي عِنْد رَبّك | [ يُوسُف : 42 ] . وَهُنَاكَ يَأْتِي بَيَان هَذَا الْمَعْنَى إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .

وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَال

قِيلَ : أَخَذَ اللَّه تَعَالَى مِيثَاق الْأَنْبِيَاء أَنْ يُصَدِّق بَعْضهمْ بَعْضًا وَيَأْمُر بَعْضهمْ بِالْإِيمَانِ بَعْضًا ; فَذَلِكَ مَعْنَى النُّصْرَة بِالتَّصْدِيقِ . وَهَذَا قَوْل سَعِيد بْن جُبَيْر وَقَتَادَة وَطَاوُس وَالسُّدِّيّ وَالْحَسَن , وَهُوَ ظَاهِر الْآيَة . قَالَ طَاوُس : أَخَذَ اللَّه مِيثَاق الْأَوَّل مِنْ الْأَنْبِيَاء أَنْ يُؤْمِن بِمَا جَاءَ بِهِ الْآخَر . وَقَرَأَ اِبْن مَسْعُود | وَإِذْ أَخَذَ اللَّه مِيثَاق الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب | [ آل عِمْرَان : 187 ] . قَالَ الْكِسَائِيّ : يَجُوز أَنْ يَكُون | وَإِذْ أَخَذَ اللَّه مِيثَاق النَّبِيِّينَ | بِمَعْنَى وَإِذْ أَخَذَ اللَّه مِيثَاق الَّذِينَ مَعَ النَّبِيِّينَ . وَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ : إِذَا أَخَذَ اللَّه مِيثَاق النَّبِيِّينَ فَقَدْ أَخَذَ مِيثَاق الَّذِينَ مَعَهُمْ ; لِأَنَّهُمْ قَدْ اِتَّبَعُوهُمْ وَصَدَّقُوهُمْ . و | مَا | فِي قَوْله | لَمَا | بِمَعْنَى الَّذِي . قَالَ سِيبَوَيْهِ : سَأَلْت الْخَلِيل بْن أَحْمَد عَنْ قَوْله عَزَّ وَجَلَّ : | وَإِذْ أَخَذَ اللَّه مِيثَاق النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَاب وَحِكْمَة | فَقَالَ : لَمَا بِمَعْنَى الَّذِي قَالَ النَّحَّاس : التَّقْدِير عَلَى قَوْل الْخَلِيل لَلَّذِي آتَيْتُكُمُوهُ , ثُمَّ حَذَفَ الْهَاء لِطُولِ الِاسْم . و | الَّذِي | رَفْع بِالِابْتِدَاءِ وَخَبَره | مِنْ كِتَاب وَحِكْمَة | . و | مِنْ | لِبَيَانِ الْجِنْس . وَهَذَا كَقَوْلِ الْقَائِل : لَزَيْد أَفْضَل مِنْك ; وَهُوَ قَوْل الْأَخْفَش أَنَّهَا لَام الِابْتِدَاء . قَالَ الْمَهْدَوِيّ : وَقَوْله | ثُمَّ جَاءَكُمْ | وَمَا بَعْده جُمْلَة مَعْطُوفَة عَلَى الصِّلَة , وَالْعَائِد مِنْهَا عَلَى الْمَوْصُول مَحْذُوف ; وَالتَّقْدِير ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُول مُصَدِّق بِهِ .|ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ|الرَّسُول هُنَا مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْل عَلِيّ وَابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا . وَاللَّفْظ وَإِنْ كَانَ نَكِرَة فَالْإِشَارَة إِلَى مُعَيَّن ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى : | وَضَرَبَ اللَّه مَثَلًا قَرْيَة كَانَتْ آمِنَة مُطْمَئِنَّة | إِلَى قَوْله : | وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُول مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ | [ النَّحْل : 112 - 113 ]</p><p>فَأَخَذَ اللَّه مِيثَاق النَّبِيِّينَ أَجْمَعِينَ أَنْ يُؤْمِنُوا بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَام وَيَنْصُرُوهُ إِنْ أَدْرَكُوهُ , وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا بِذَلِكَ الْمِيثَاق عَلَى أُمَمهمْ . وَاللَّام مِنْ قَوْله | لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ | جَوَاب الْقَسَم الَّذِي هُوَ أَخَذَ الْمِيثَاق , إِذْ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِحْلَاف . وَهُوَ كَمَا تَقُول فِي الْكَلَام : أَخَذْت مِيثَاقك لَتَفْعَلَنَّ كَذَا , كَأَنَّك قُلْت أَسْتَحْلِفك , وَفَصَلَ بَيْنَ الْقَسَم وَجَوَابه بِحَرْفِ الْجَرّ الَّذِي هُوَ | لَمَا | فِي قِرَاءَة اِبْن كَثِير عَلَى مَا يَأْتِي . وَمَنْ فَتَحَهَا جَعَلَهَا مُتَلَقِّيَة لِلْقَسَمِ الَّذِي هُوَ أَخْذ الْمِيثَاق . وَاللَّام فِي | لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ | جَوَاب قَسَم مَحْذُوف , أَيْ وَاَللَّه لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ . وَقَالَ الْمُبَرِّد وَالْكِسَائِيّ وَالزَّجَّاج : | مَا | شَرْط دَخَلَتْ عَلَيْهَا لَام التَّحْقِيق كَمَا تَدْخُل عَلَى إِنَّ , وَمَعْنَاهُ لَمَهْمَا آتَيْتُكُمْ ; فَمَوْضِع | مَا | نَصْب , وَمَوْضِع | آتَيْتُكُمْ | جَزْم , و | ثُمَّ جَاءَكُمْ | مَعْطُوف عَلَيْهِ , | لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ | اللَّام فِي قَوْله | لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ | جَوَاب الْجَزَاء ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى : | وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ | [ الْإِسْرَاء : 86 ] وَنَحْوه . وَقَالَ الْكِسَائِيّ : لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ مُعْتَمَد الْقَسَم فَهُوَ مُتَّصِل بِالْكَلَامِ الْأَوَّل , وَجَوَاب الْجَزَاء قَوْله | فَمَنْ تَوَلَّى بَعْد ذَلِكَ | [ آل عِمْرَان : 82 ] . وَلَا يَحْتَاج عَلَى هَذَا الْوَجْه إِلَى تَقْدِير عَائِد . وَقَرَأَ أَهْل الْكُوفَة | لِمَا آتَيْتُكُمْ | بِكَسْرِ اللَّام , وَهِيَ أَيْضًا بِمَعْنَى الَّذِي وَهِيَ مُتَعَلِّقَة بِأَخَذَ , أَيْ أَخَذَ اللَّه مِيثَاقهمْ لِأَجْلِ الَّذِي آتَاهُمْ مِنْ كِتَاب وَحِكْمَة ثُمَّ إِنْ جَاءَكُمْ رَسُول مُصَدِّق لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ مِنْ بَعْد الْمِيثَاق ; لِأَنَّ أَخْذ الْمِيثَاق فِي مَعْنَى الِاسْتِحْلَاف كَمَا تَقَدَّمَ . قَالَ النَّحَّاس : وَلِأَبِي عُبَيْدَة فِي هَذَا قَوْل حَسَن . قَالَ : الْمَعْنَى وَإِذْ أَخَذَ اللَّه مِيثَاق الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ ذِكْر التَّوْرَاة . وَقِيلَ : فِي الْكَلَام حَذْف , وَالْمَعْنَى إِذْ أَخَذَ اللَّه مِيثَاق النَّبِيِّينَ لَتُعَلِّمُنَّ النَّاس لِمَا جَاءَكُمْ مِنْ كِتَاب وَحِكْمَة , وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى النَّاس أَنْ يُؤْمِنُوا . وَدَلَّ عَلَى هَذَا الْحَذْف | وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي | . وَقِيلَ : إِنَّ اللَّام فِي قَوْله | لِمَا | فِي قِرَاءَة مَنْ كَسَرَهَا بِمَعْنَى بَعْد , يَعْنِي بَعْد مَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَاب وَحِكْمَة ; كَمَا قَالَ النَّابِغَة : <br>تَوَهَّمْت آيَات لَهَا فَعَرَفْتهَا .......... لِسِتَّةِ أَعْوَام وَذَا الْعَام سَابِع <br>أَيْ بَعْد سِتَّة أَعْوَام . وَقَرَأَ سَعِيد بْن جُبَيْر | لَمَّا | بِالتَّشْدِيدِ , وَمَعْنَاهُ حِين آتَيْتُكُمْ . وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُون أَصْلهَا التَّخْفِيف فَزِيدَتْ | مِنْ | عَلَى مَذْهَب مَنْ يَرَى زِيَادَتهَا فِي الْوَاجِب فَصَارَتْ لِمَنْ مَا , وَقُلِبَتْ النُّون مِيمًا لِلْإِدْغَامِ فَاجْتَمَعَتْ ثَلَاث مِيمَات فَحُذِفَتْ الْأُولَى مِنْهُنَّ اِسْتِخْفَافًا . وَقَرَأَ أَهْل الْمَدِينَة | آتَيْنَاكُمْ | عَلَى التَّعْظِيم . وَالْبَاقُونَ | آتَيْتُكُمْ | عَلَى لَفْظ الْوَاحِد . ثُمَّ كُلّ الْأَنْبِيَاء لَمْ يُؤْتُوا الْكِتَاب وَإِنَّمَا أُوتِيَ الْبَعْض , وَلَكِنَّ الْغَلَبَة لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب . وَالْمُرَاد أَخْذ مِيثَاق جَمِيع الْأَنْبِيَاء فَمَنْ لَمْ يُؤْتَ الْكِتَاب فَهُوَ فِي حُكْم مَنْ أُوتِيَ الْكِتَاب لِأَنَّهُ أُوتِيَ الْحُكْم وَالنُّبُوَّة . وَأَيْضًا مَنْ لَمْ يُؤْتَ الْكِتَاب أُمِرَ بِأَنْ يَأْخُذ بِكِتَابِ مَنْ قَبْله فَدَخَلَ تَحْت صِفَة مَنْ أُوتِيَ الْكِتَاب .|قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا|| أَقْرَرْتُمْ | مِنْ الْإِقْرَار , وَالْإِصْر وَالْأَصْر لُغَتَانِ , وَهُوَ الْعَهْد . وَالْإِصْر فِي اللُّغَة الثِّقَل ; فَسُمِّيَ الْعَهْد إِصْرًا لِأَنَّهُ مَنْع وَتَشْدِيد .|قَالَ فَاشْهَدُوا|قَالَ فَاشْهَدُوا | أَيْ اِعْلَمُوا ; عَنْ اِبْن عَبَّاس . الزَّجَّاج : بَيِّنُوا لِأَنَّ الشَّاهِد هُوَ الَّذِي يُصَحِّح دَعْوَى الْمُدَّعِي . وَقِيلَ : الْمَعْنَى اِشْهَدُوا أَنْتُمْ عَلَى أَنْفُسكُمْ وَعَلَى أَتْبَاعكُمْ .|وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ|عَلَيْكُمْ وَعَلَيْهِمْ . وَقَالَ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب : قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لِلْمَلَائِكَةِ فَاشْهَدُوا عَلَيْهِمْ , فَتَكُون كِنَايَة عَنْ غَيْر مَذْكُور .

فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ

| مَنْ | شَرْط . فَمَنْ تَوَلَّى مِنْ أُمَم الْأَنْبِيَاء عَنْ الْإِيمَان بَعْد أَخْذ الْمِيثَاق | فَأُولَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ | أَيْ الْخَارِجُونَ عَنْ الْإِيمَان . وَالْفَاسِق الْخَارِج . وَقَدْ تَقَدَّمَ .

أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ

قَالَ الْكَلْبِيّ : إِنَّ كَعْب بْن الْأَشْرَف وَأَصْحَابه اِخْتَصَمُوا مَعَ النَّصَارَى إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا : أَيّنَا أَحَقّ بِدِينِ إِبْرَاهِيم ؟ فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( كَلَا الْفَرِيقَيْنِ بَرِيء مِنْ دِينه ) . فَقَالُوا : مَا نَرْضَى بِقَضَائِك وَلَا نَأْخُذ بِدِينِك ; فَنَزَلَ | أَفَغَيْر دِين اللَّه يَبْغُونَ | يَعْنِي يَطْلُبُونَ . وَنُصِبَتْ | غَيْر | بِيَبْغُونَ , أَيْ يَبْغُونَ غَيْر دِين اللَّه . وَقَرَأَ أَبُو عَمْرو وَحْده | يَبْغُونَ | بِالْيَاءِ عَلَى الْخَبَر | وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ | بِالتَّاءِ عَلَى الْمُخَاطَبَة . قَالَ : لِأَنَّ الْأَوَّل خَاصّ وَالثَّانِي عَامّ فَفَرَّقَ بَيْنهمَا لِافْتِرَاقِهِمَا فِي الْمَعْنَى . وَقَرَأَ حَفْص وَغَيْره | يَبْغُونَ , وَيَرْجِعُونَ | بِالْيَاءِ فِيهِمَا ; لِقَوْلِهِ : | فَأُولَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ | . وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّاءِ فِيهِمَا عَلَى الْخِطَاب ; لِقَوْلِهِ | لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَاب وَحِكْمَة | . وَاَللَّه أَعْلَم .|وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ|أَيْ اِسْتَسْلَمَ وَانْقَادَ وَخَضَعَ وَذَلَّ , وَكُلّ مَخْلُوق فَهُوَ مُنْقَاد مُسْتَسْلِم ; لِأَنَّهُ مَجْبُول عَلَى مَا لَا يَقْدِر أَنْ يَخْرُج عَنْهُ . قَالَ قَتَادَة : أَسْلَمَ الْمُؤْمِن طَوْعًا وَالْكَافِر عِنْد مَوْته كَرْهًا وَلَا يَنْفَعهُ ذَلِكَ ; لِقَوْلِهِ : | فَلَمْ يَكُ يَنْفَعهُمْ إِيمَانهمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسنَا | [ الْمُؤْمِن : 85 ] . قَالَ مُجَاهِد : إِسْلَام الْكَافِر كَرْهًا بِسُجُودِهِ لِغَيْرِ اللَّه وَسُجُود ظِلّه لِلَّهِ , | أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّه مِنْ شَيْء يَتَفَيَّأ ظِلَاله عَنْ الْيَمِين وَالشَّمَائِل سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ | [ النَّحْل : 48 ] | وَلِلَّهِ يَسْجُد مَنْ فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالهمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَال | [ الرَّعْد : 15 ] . وَقِيلَ : الْمَعْنَى أَنَّ اللَّه خَلَقَ الْخَلْق عَلَى مَا أَرَادَ مِنْهُمْ ; فَمِنْهُمْ الْحَسَن وَالْقَبِيح وَالطَّوِيل وَالْقَصِير وَالصَّحِيح وَالْمَرِيض وَكُلّهمْ مُنْقَادُونَ اِضْطِرَارًا , فَالصَّحِيح مُنْقَاد طَائِع مُحِبّ لِذَلِكَ ; وَالْمَرِيض مُنْقَاد خَاضِع وَإِنْ كَانَ كَارِهًا . وَالطَّوْع الِانْقِيَاد وَالِاتِّبَاع بِسُهُولَةٍ . وَالْكُرْه مَا كَانَ بِمَشَقَّةٍ وَإِبَاء مِنْ النَّفْس .|طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ|مَصْدَرَانِ فِي مَوْضِع الْحَال , أَيْ طَائِعِينَ وَمُكْرَهِينَ . وَرَوَى أَنَس بْن مَالِك قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْله عَزَّ وَجَلَّ : | وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض طَوْعًا وَكَرْهًا | قَالَ : ( الْمَلَائِكَة أَطَاعُوهُ فِي السَّمَاء وَالْأَنْصَار وَعَبْد الْقَيْس فِي الْأَرْض ) . وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام : ( لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَإِنَّ أَصْحَابِي أَسْلَمُوا مِنْ خَوْف اللَّه وَأَسْلَمَ النَّاس مِنْ خَوْف السَّيْف ) . وَقَالَ عِكْرِمَة : | طَوْعًا | مَنْ أَسْلَمَ مِنْ غَيْر مُحَاجَّة | وَكَرْهًا | مَنْ اِضْطَرَّتْهُ الْحُجَّة إِلَى التَّوْحِيد . يَدُلّ عَلَيْهِ قَوْله عَزَّ وَجَلَّ : | وَلَئِنْ سَأَلْتهمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّه | [ الزُّخْرُف : 87 ] | وَلَئِنْ سَأَلْتهمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَات وَالْأَرْض وَسَخَّرَ الشَّمْس وَالْقَمَر لَيَقُولُنَّ اللَّه | [ الْعَنْكَبُوت : 63 ] . قَالَ الْحَسَن : هُوَ عُمُوم مَعْنَاهُ الْخُصُوص . وَعَنْهُ : | أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَات | وَتَمَّ الْكَلَام . ثُمَّ قَالَ : | وَالْأَرْض طَوْعًا وَكَرْهًا | . قَالَ : وَالْكَارِه الْمُنَافِق لَا يَنْفَعهُ عَمَله . و | طَوْعًا وَكَرْهًا | مَصْدَرَانِ فِي مَوْضِع الْحَال . عَنْ مُجَاهِد عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : إِذَا اِسْتَصْعَبَتْ دَابَّة أَحَدكُمْ أَوْ كَانَتْ شَمُوسًا فَلْيَقْرَأْ فِي أُذُنهَا هَذِهِ الْآيَة : | أَفَغَيْر دِين اللَّه يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض طَوْعًا وَكَرْهًا | إِلَى آخِر الْآيَة .

قُلْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِ

وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ

| غَيْر | مَفْعُول بِيَبْتَغِ , | دِينًا | مَنْصُوب عَلَى التَّفْسِير , وَيَجُوز أَنْ يَنْتَصِب دِينًا بِيَبْتَغِ , وَيَنْتَصِب | غَيْر | عَلَى أَنَّهُ حَال مِنْ الدِّين . قَالَ مُجَاهِد وَالسُّدِّيّ : نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة فِي الْحَارِث بْن سُوَيْد أَخُو الْجُلَاس بْن سُوَيْد , وَكَانَ مِنْ الْأَنْصَار , اِرْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَام هُوَ وَاثْنَا عَشَر مَعَهُ وَلَحِقُوا بِمَكَّة كُفَّارًا , فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة , ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى أَخِيهِ يَطْلُب التَّوْبَة . وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ اِبْن عَبَّاس وَغَيْره . قَالَ اِبْن عَبَّاس : وَأَسْلَمَ بَعْد نُزُول الْآيَات .|وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ|قَالَ هِشَام : أَيْ وَهُوَ خَاسِر فِي الْآخِرَة مِنْ الْخَاسِرِينَ ; وَلَوْلَا هَذَا لَفُرِّقَتْ بَيْنَ الصِّلَة وَالْمَوْصُول . وَقَالَ الْمَازِنِيّ : الْأَلِف وَاللَّام مِثْلهَا فِي الرَّجُل . وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا فِي الْبَقَرَة عِنْد قَوْله : | وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَة لِمَنْ الصَّالِحِينَ | [ الْبَقَرَة : 130 ] .

كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ

قَالَ اِبْن عَبَّاس : إِنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَار أَسْلَمَ ثُمَّ اِرْتَدَّ وَلَحِقَ بِالشِّرْكِ ثُمَّ نَدِمَ ; فَأَرْسَلَ إِلَى قَوْمه : سَلُوا لِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ لِي مِنْ تَوْبَة ؟ فَجَاءَ قَوْمه إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا : هَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَة ؟ فَنَزَلَتْ | كَيْفَ يَهْدِي اللَّه قَوْمًا كَفَرُوا بَعْد إِيمَانهمْ | إِلَى قَوْله : | غَفُور رَحِيم | [ آل عِمْرَان : 89 ] . فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَأَسْلَمَ . أَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ . وَفِي رِوَايَة أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَار اِرْتَدَّ فَلَحِقَ بِالْمُشْرِكِينَ , فَأَنْزَلَ اللَّه | كَيْفَ يَهْدِي اللَّه قَوْمًا كَفَرُوا | إِلَى قَوْله : | إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا | [ آل عِمْرَان : 89 ] فَبَعَثَ بِهَا قَوْمه إِلَيْهِ , فَلَمَّا قُرِئَتْ عَلَيْهِ قَالَ : وَاَللَّه مَا كَذَبَنِي قَوْمِي عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَلَا أَكَذَبْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ اللَّه , وَاَللَّه عَزَّ وَجَلَّ أَصْدَق الثَّلَاثَة ; فَرَجَعَ تَائِبًا , فَقَبِلَ مِنْهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَرَكَهُ . وَقَالَ الْحَسَن : نَزَلَتْ فِي الْيَهُود لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُبَشِّرُونَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا ; فَلَمَّا بُعِثَ عَانَدُوا وَكَفَرُوا , فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : | أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَة اللَّه وَالْمَلَائِكَة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ | [ آل عِمْرَان : 87 ] . ثُمَّ قِيلَ : | كَيْفَ | لَفْظَة اِسْتِفْهَام وَمَعْنَاهُ الْجَحْد , أَيْ لَا يَهْدِي اللَّه . وَنَظِيره قَوْله : | كَيْفَ يَكُون لِلْمُشْرِكِينَ عَهْد عِنْد اللَّه وَعِنْد رَسُوله | [ التَّوْبَة : 7 ] أَيْ لَا يَكُون لَهُمْ عَهْد ; وَقَالَ الشَّاعِر : <br>كَيْفَ نَوْمِي عَلَى الْفِرَاش وَلَمَّا .......... يَشْمَل الْقَوْم غَارَة شَعْوَاء <br>أَيْ لَا نَوْم لِي .|وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ|يُقَال : ظَاهِر الْآيَة أَنَّ مَنْ كَفَرَ بَعْد إِسْلَامه لَا يَهْدِيه اللَّه وَمَنْ كَانَ ظَالِمًا , لَا يَهْدِيه اللَّه ; وَقَدْ رَأَيْنَا كَثِيرًا مِنْ الْمُرْتَدِّينَ قَدْ أَسْلَمُوا وَهَدَاهُمْ اللَّه , وَكَثِيرًا مِنْ الظَّالِمِينَ تَابُوا عَنْ الظُّلْم . قِيلَ لَهُ : مَعْنَاهُ لَا يَهْدِيهِمْ اللَّه مَا دَامُوا مُقِيمِينَ عَلَى كُفْرهمْ وَظُلْمهمْ وَلَا يُقْبِلُونَ عَلَى الْإِسْلَام ; فَأَمَّا إِذَا أَسْلَمُوا وَتَابُوا فَقَدْ وَفَّقَهُمْ اللَّه لِذَلِكَ . وَاَللَّه تَعَالَى أَعْلَم .

أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ

أَيْ إِنْ دَامُوا عَلَى كُفْرهمْ . وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى لَعْنَة اللَّه وَالنَّاس فِي | الْبَقَرَة | فَلَا مَعْنَى لِإِعَادَتِهِ .

خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ

أَيْ لَا يُؤَخَّرُونَ وَلَا يُؤَجَّلُونَ .

إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ

هُوَ الْحَارِث بْن سُوَيْد كَمَا تَقَدَّمَ . وَيَدْخُل فِي الْآيَة بِالْمَعْنَى كُلّ مَنْ رَاجَعَ الْإِسْلَام وَأَخْلَصَ .

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ

قَالَ قَتَادَة وَعَطَاء الْخُرَاسَانِيّ وَالْحَسَن : نَزَلَتْ فِي الْيَهُود كَفَرُوا بِعِيسَى وَالْإِنْجِيل , ثُمَّ اِزْدَادُوا كُفْرًا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقُرْآن . وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَة : نَزَلَتْ فِي الْيَهُود وَالنَّصَارَى كَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْد إِيمَانهمْ بِنَعْتِهِ وَصِفَته | ثُمَّ اِزْدَادُوا كُفْرًا | بِإِقَامَتِهِمْ عَلَى كُفْرهمْ . وَقِيلَ : | اِزْدَادُوا كُفْرًا | بِالذُّنُوبِ الَّتِي اِكْتَسَبُوهَا . وَهَذَا اِخْتِيَار الطَّبَرِيّ , وَهِيَ عِنْده فِي الْيَهُود . | لَنْ تُقْبَل تَوْبَتهمْ | مُشْكِل لِقَوْلِهِ : | وَهُوَ الَّذِي يَقْبَل التَّوْبَة عَنْ عِبَاده وَيَعْفُو عَنْ السَّيِّئَات | [ الشُّورَى : 25 ] فَقِيلَ : الْمَعْنَى لَنْ تُقْبَل تَوْبَتهمْ عِنْد الْمَوْت . قَالَ النَّحَّاس : وَهَذَا قَوْل حَسَن ; كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ : | وَلَيْسَتْ التَّوْبَة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَات حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدهمْ الْمَوْت قَالَ إِنِّي تُبْت الْآن | [ النِّسَاء : 18 ] . وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَن وَقَتَادَة وَعَطَاء . وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ اللَّه يَقْبَل تَوْبَة الْعَبْد مَا لَمْ يُغَرْغِر ) . وَسَيَأْتِي فِي | النِّسَاء | بَيَان هَذَا الْمَعْنَى . وَقِيلَ : | لَنْ تُقْبَل تَوْبَتهمْ | الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قَبْل أَنْ يَكْفُرُوا ; لِأَنَّ الْكُفْر قَدْ أَحْبَطَهَا . وَقِيلَ : | لَنْ تُقْبَل تَوْبَتهمْ | إِذَا تَابُوا مِنْ كُفْرهمْ إِلَى كُفْر آخَر ; وَإِنَّمَا تُقْبَل تَوْبَتهمْ إِذَا تَابُوا إِلَى الْإِسْلَام . وَقَالَ قُطْرُب : هَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ فِي قَوْم مِنْ أَهْل مَكَّة قَالُوا : نَتَرَبَّص بِمُحَمَّدٍ رَيْب الْمَنُون , فَإِنْ بَدَا لَنَا الرَّجْعَة رَجَعْنَا إِلَى قَوْمنَا . فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى : | إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْد إِيمَانهمْ ثُمَّ اِزْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَل تَوْبَتهمْ | أَيْ لَنْ تُقْبَل تَوْبَتهمْ وَهُمْ مُقِيمُونَ عَلَى الْكُفْر ; فَسَمَّاهَا تَوْبَة غَيْر مَقْبُولَة ; لِأَنَّهُ لَمْ يَصِحّ مِنْ الْقَوْم عَزْم , وَاَللَّه عَزَّ وَجَلَّ يَقْبَل التَّوْبَة كُلّهَا إِذَا صَحَّ الْعَزْم .

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ

الْمِلْء ( بِالْكَسْرِ ) مِقْدَار مَا يَمْلَأ الشَّيْء , وَالْمَلْء ( بِالْفَتْحِ ) مَصْدَر مَلَأْت الشَّيْء ; وَيُقَال : أَعْطِنِي مِلْأَهُ وَمِلْأَيْهِ وَثَلَاثَة أَمْلَائِهِ . وَالْوَاو فِي | لَوْ اِفْتَدَى بِهِ | قِيلَ : هِيَ مُقْحَمَة زَائِدَة ; الْمَعْنَى : فَلَنْ يُقْبَل مِنْ أَحَدهمْ مِلْء الْأَرْض ذَهَبًا لَوْ اِفْتَدَى بِهِ . وَقَالَ أَهْل النَّظَر مِنْ النَّحْوِيِّينَ : لَا يَجُوز أَنْ تَكُون الْوَاو مُقْحَمَة لِأَنَّهَا تَدُلّ عَلَى مَعْنَى . وَمَعْنَى الْآيَة : فَلَنْ يُقْبَل مِنْ أَحَدهمْ مِلْء الْأَرْض ذَهَبًا تَبَرُّعًا وَلَوْ اِفْتَدَى بِهِ . و | ذَهَبًا | نُصِبَ عَلَى التَّفْسِير فِي قَوْل الْفَرَّاء . قَالَ الْمُفَضَّل : شَرْط التَّفْسِير أَنْ يَكُون الْكَلَام تَامًّا وَهُوَ مُبْهَم ; كَقَوْلِك عِنْدِي عِشْرُونَ ; فَالْعَدَد مَعْلُوم وَالْمَعْدُود مُبْهَم ; فَإِذَا قُلْت دِرْهَمًا فَسَّرْت . وَإِنَّمَا نُصِبَ التَّمْيِيز لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مَا يَخْفِضهُ وَلَا مَا يَرْفَعهُ , وَكَانَ النَّصْب أَخَفّ الْحَرَكَات فَجُعِلَ لِكُلِّ مَا لَا عَامِل فِيهِ . وَقَالَ الْكِسَائِيّ : نُصِبَ عَلَى إِضْمَار مِنْ , أَيْ مِنْ ذَهَب ; كَقَوْلِهِ : | أَوْ عَدْل ذَلِكَ صِيَامًا | [ الْمَائِدَة : 95 ] أَيْ مِنْ صِيَام . وَفِي الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم عَنْ قَتَادَة عَنْ أَنَس بْن مَالِك أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( يُجَاء بِالْكَافِرِ يَوْم الْقِيَامَة فَيُقَال لَهُ أَرَأَيْت لَوْ كَانَ لَك مِلْء الْأَرْض ذَهَبًا أَكُنْت تَفْتَدِي بِهِ فَيَقُول نَعَمْ فَيُقَال لَهُ قَدْ كُنْت سُئِلَتْ مَا هُوَ أَيْسَر مِنْ ذَلِكَ ) . لَفْظ الْبُخَارِيّ . وَقَالَ مُسْلِم بَدَل ( قَدْ كُنْت ; كَذَبْت , قَدْ سُئِلَتْ ) .

لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ

رَوَى الْأَئِمَّة وَاللَّفْظ لِلنَّسَائِيِّ عَنْ أَنَس قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة : | لَنْ تَنَالُوا الْبِرّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ | قَالَ أَبُو طَلْحَة : إِنَّ رَبّنَا لَيَسْأَلنَا مِنْ أَمْوَالنَا فَأُشْهِدك يَا رَسُول اللَّه أَنِّي جَعَلْت أَرْضِي لِلَّهِ . فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( اِجْعَلْهَا فِي قَرَابَتك فِي حَسَّان بْن ثَابِت وَأُبَيّ بْن كَعْب ) . وَفِي الْمُوَطَّأ | وَكَانَتْ أَحَبّ أَمْوَاله إِلَيْهِ بِئْر حَاء , وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَة الْمَسْجِد , وَكَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلهَا وَيَشْرَب مِنْ مَاء فِيهَا طَيِّب | . وَذَكَرَ الْحَدِيث . فَفِي هَذِهِ الْآيَة دَلِيل عَلَى اِسْتِعْمَال ظَاهِر الْخِطَاب وَعُمُومه ; فَإِنَّ الصَّحَابَة رِضْوَان اللَّه عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ لَمْ يَفْهَمُوا مِنْ فَحْوَى الْخِطَاب حِينَ نَزَلَتْ الْآيَة غَيْر ذَلِكَ . أَلَا تَرَى أَبَا طَلْحَة حِينَ سَمِعَ | لَنْ تَنَالُوا الْبِرّ حَتَّى تُنْفِقُوا | الْآيَة , لَمْ يَحْتَجْ أَنْ يَقِف حَتَّى يَرُدّ الْبَيَان الَّذِي يُرِيد اللَّه أَنْ يُنْفِق مِنْهُ عِبَاده بِآيَةٍ أُخْرَى أَوْ سُنَّة مُبَيِّنَة لِذَلِكَ فَإِنَّهُمْ يُحِبُّونَ أَشْيَاء كَثِيرَة . وَكَذَلِكَ فَعَلَ زَيْد بْن حَارِثَة , عَمَدَ مِمَّا يُحِبّ إِلَى فَرَس يُقَال لَهُ ( سَبَل ) وَقَالَ : اللَّهُمَّ إِنَّك تَعْلَم أَنَّهُ لَيْسَ لِي مَال أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ فَرَسِي هَذِهِ ; فَجَاءَ بِهَا إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : هَذَا فِي سَبِيل اللَّه . فَقَالَ لِأُسَامَة بْن زَيْد ( اِقْبِضْهُ ) . فَكَأَنَّ زَيْدًا وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ فِي نَفْسه . فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ اللَّه قَدْ قَبِلَهَا مِنْك ) . ذَكَرَهُ أَسَد بْن مُوسَى . وَأَعْتَقَ اِبْن عُمَر نَافِعًا مَوْلَاهُ , وَكَانَ أَعْطَاهُ فِيهِ عَبْد اللَّه بْن جَعْفَر أَلْف دِينَار . قَالَتْ صَفِيَّة بِنْت أَبِي عُبَيْدَة : أَظُنّهُ تَأَوَّلَ قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : | لَنْ تَنَالُوا الْبِرّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ | . وَرَوَى شِبْل عَنْ أَبِي نَجِيح عَنْ مُجَاهِد قَالَ : كَتَبَ عُمَر بْن الْخَطَّاب إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ أَنْ يَبْتَاع لَهُ جَارِيَة مِنْ سَبْي جَلُولَاء يَوْم فَتْح مَدَائِن كِسْرَى ; فَقَالَ سَعْد بْن أَبِي وَقَّاص : فَدَعَا بِهَا عُمَر فَأَعْجَبَتْهُ , فَقَالَ إِنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ يَقُول : | لَنْ تَنَالُوا الْبِرّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ | فَأَعْتَقَهَا عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ . وَرُوِيَ عَنْ الثَّوْرِيّ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ أُمّ وَلَد الرَّبِيع بْن خَيْثَم قَالَتْ : كَانَ إِذَا جَاءَهُ السَّائِل يَقُول لِي : يَا فُلَانَة أَعْطِي السَّائِل سُكَّرًا , فَإِنَّ الرَّبِيع يُحِبّ السُّكَّر . قَالَ سُفْيَان : يَتَأَوَّل قَوْله جَلَّ وَعَزَّ : | لَنْ تَنَالُوا الْبِرّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ | . وَرُوِيَ عَنْ عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز أَنَّهُ كَانَ يَشْتَرِي أَعْدَالًا مِنْ سُكَّر وَيَتَصَدَّق بِهَا . فَقِيلَ لَهُ : هَلَّا تَصَدَّقْت بِقِيمَتِهَا ؟ فَقَالَ : لِأَنَّ السُّكَّر أَحَبّ إِلَيَّ فَأَرَدْت أَنْ أُنْفِق مِمَّا أُحِبّ . وَقَالَ الْحَسَن : إِنَّكُمْ لَنْ تَنَالُوا مَا تُحِبُّونَ إِلَّا بِتَرْكِ مَا تَشْتَهُونَ , وَلَا تُدْرِكُوا مَا تَأْمُلُونَ إِلَّا بِالصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُونَ .</p><p>وَاخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيل | الْبِرّ | فَقِيلَ الْجَنَّة ; عَنْ اِبْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس وَعَطَاء وَمُجَاهِد وَعَمْرو بْن مَيْمُون وَالسُّدِّيّ . وَالتَّقْدِير لَنْ تَنَالُوا ثَوَاب الْبِرّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ . وَالنَّوَال الْعَطَاء , مِنْ قَوْلك نَوَّلْته تَنْوِيلًا أَعْطَيْته . وَنَالَنِي مِنْ فُلَان مَعْرُوف يَنَالنِي , أَوْ وَصَلَ إِلَيَّ . فَالْمَعْنَى لَنْ تَصِلُوا إِلَى الْجَنَّة وَتُعْطَوْهَا حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ . وَقِيلَ : الْبِرّ الْعَمَل الصَّالِح . وَفِي الْحَدِيث الصَّحِيح : ( عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّهُ يَهْدِي إِلَى الْبِرّ وَإِنَّ الْبِرّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّة ) . وَقَدْ مَضَى فِي الْبَقَرَة . قَالَ عَطِيَّة الْعَوْفِيّ : يَعْنِي الطَّاعَة . عَطَاء : لَنْ تَنَالُوا شَرَف الدِّين وَالتَّقْوَى حَتَّى تَتَصَدَّقُوا وَأَنْتُمْ أَصِحَّاء أَشِحَّاء تَأْمُلُونَ الْعَيْش وَتَخْشَوْنَ الْفَقْر . وَعَنْ الْحَسَن | حَتَّى تُنْفِقُوا | هِيَ الزَّكَاة الْمَفْرُوضَة . مُجَاهِد وَالْكَلْبِيّ : هِيَ مَنْسُوخَة , نَسَخَتْهَا آيَة الزَّكَاة . وَقِيلَ : الْمَعْنَى حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ فِي سَبِيل الْخَيْر مِنْ صَدَقَة أَوْ غَيْرهَا مِنْ الطَّاعَات , وَهَذَا جَامِع . وَرَوَى النَّسَائِيّ عَنْ صَعْصَعَة بْن مُعَاوِيَة قَالَ : لَقِيت أَبَا ذَرّ قَالَ : قُلْت : حَدِّثْنِي قَالَ : نَعَمْ . قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَا مِنْ عَبْد مُسْلِم يُنْفِق مِنْ كُلّ مَاله زَوْجَيْنِ فِي سَبِيل اللَّه إِلَّا اِسْتَقْبَلَتْهُ حَجَبَة الْجَنَّة كُلّهمْ يَدْعُوهُ إِلَى مَا عِنْده ) . قُلْت : وَكَيْفَ ذَلِكَ ؟ قَالَ : إِنْ كَانَتْ إِبِلًا فَبَعِيرَيْنِ , وَإِنْ كَانَتْ بَقَرًا فَبَقَرَتَيْنِ . وَقَالَ أَبُو بَكْر الْوَرَّاق : دَلَّهُمْ بِهَذِهِ الْآيَة عَلَى الْفُتُوَّة . أَيْ لَنْ تَنَالُوا بِرِّي بِكُمْ إِلَّا بِبِرِّكُمْ بِإِخْوَانِكُمْ وَالْإِنْفَاق عَلَيْهِمْ مِنْ أَمْوَالكُمْ وَجَاهكُمْ ; فَإِذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ نَالَكُمْ بِرِّي وَعَطْفِي . قَالَ مُجَاهِد : وَهُوَ مِثْل قَوْله : | وَيُطْعِمُونَ الطَّعَام عَلَى حُبّه مِسْكِينًا | [ الْإِنْسَان : 8 ] .|وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ|أَيْ وَإِذَا عَلِمَ جَازَى عَلَيْهِ .

كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ

| حِلًّا | أَيْ حَلَالًا , ثُمَّ اِسْتَثْنَى فَقَالَ : | إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيل عَلَى نَفْسه | وَهُوَ يَعْقُوب عَلَيْهِ السَّلَام . فِي التِّرْمِذِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّ الْيَهُود قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَخْبِرْنَا , مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيل عَلَى نَفْسه ؟ قَالَ : ( كَانَ يَسْكُن الْبَدْو فَاشْتَكَى عِرْق النَّسَا فَلَمْ يَجِد شَيْئًا يُلَائِمهُ إِلَّا لُحُوم الْإِبِل وَأَلْبَانهَا فَلِذَلِكَ حَرَّمَهَا ) . قَالُوا : صَدَقْت . وَذَكَرَ الْحَدِيث . وَيُقَال : إِنَّهُ نَذَرَ إِنْ بَرَأَ مِنْهُ لَيَتْرُكَنَّ أَحَبّ الطَّعَام وَالشَّرَاب إِلَيْهِ , وَكَانَ أَحَبّ الطَّعَام وَالشَّرَاب إِلَيْهِ لُحُوم الْإِبِل وَأَلْبَانهَا . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَمُجَاهِد وَقَتَادَة وَالسُّدِّيّ : أَقْبَلَ يَعْقُوب عَلَيْهِ السَّلَام مِنْ حَرَّان يُرِيد بَيْت الْمَقْدِس حِين هَرَبَ مِنْ أَخِيهِ عيصو , وَكَانَ رَجُلًا بَطِشًا قَوِيًّا , فَلَقِيَهُ مَلَك فَظَنَّ يَعْقُوب أَنَّهُ لِصّ فَعَالَجَهُ أَنْ يَصْرَعهُ , فَغَمَزَ الْمَلَك فَخِذ يَعْقُوب عَلَيْهِ السَّلَام , ثُمَّ صَعِدَ الْمَلَك إِلَى السَّمَاء وَيَعْقُوب يَنْظُر إِلَيْهِ فَهَاجَ عَلَيْهِ عِرْق النَّسَا , وَلَقِيَ مِنْ ذَلِكَ بَلَاء شَدِيدًا , فَكَانَ لَا يَنَام اللَّيْل مِنْ الْوَجَع وَيَبِيت وَلَهُ زُقَاء أَيْ صِيَاح , فَحَلَفَ يَعْقُوب عَلَيْهِ السَّلَام إِنْ شَفَاهُ اللَّه جَلَّ وَعَزَّ أَلَّا يَأْكُل عِرْقًا , وَلَا يَأْكُل طَعَامًا فِيهِ عِرْق فَحَرَّمَهَا عَلَى نَفْسه ; فَجَعَلَ بَنُوهُ يَتَّبِعُونَ بَعْد ذَلِكَ الْعُرُوق فَيُخْرِجُونَهَا مِنْ اللَّحْم . وَكَانَ سَبَب غَمْز الْمَلَك لِيَعْقُوب أَنَّهُ كَانَ نَذَرَ إِنْ وَهَبَ اللَّه لَهُ اِثْنَيْ عَشَرَ وَلَدًا وَأَتَى بَيْت الْمَقْدِس صَحِيحًا أَنْ يَذْبَح آخِرهمْ . فَكَانَ ذَلِكَ لِلْمَخْرَجِ مِنْ نَذْره ; عَنْ الضَّحَّاك .</p><p>وَاخْتُلِفَ هَلْ كَانَ التَّحْرِيم مِنْ يَعْقُوب بِاجْتِهَادٍ مِنْهُ أَوْ بِإِذْنٍ مِنْ اللَّه تَعَالَى ؟ وَالصَّحِيح الْأَوَّل ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى أَضَافَ التَّحْرِيم إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : | إِلَّا مَا حَرَّمَ | وَأَنَّ النَّبِيّ إِذَا أَدَّاهُ اِجْتِهَاده إِلَى شَيْء كَانَ دِينًا يَلْزَمنَا اِتِّبَاعه لِتَقْرِيرِ اللَّه سُبْحَانه إِيَّاهُ عَلَى ذَلِكَ . وَكَمَا يُوحَى إِلَيْهِ وَيَلْزَم اِتِّبَاعه , كَذَلِكَ يُؤْذَن لَهُ وَيَجْتَهِد , وَيَتَعَيَّن مُوجِب اِجْتِهَاده إِذَا قُدِرَ عَلَيْهِ , وَلَوْلَا تَقَدُّم الْإِذْن لَهُ فِي تَحْرِيم ذَلِكَ مَا تَسَوَّرَ عَلَى التَّحْلِيل وَالتَّحْرِيم . وَقَدْ حَرَّمَ نَبِيّنَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَسَل عَلَى الرِّوَايَة الصَّحِيحَة , أَوْ خَادِمه مَارِيَة فَلَمْ يُقِرّ اللَّه تَحْرِيمه وَنَزَلَ : | لِمَ تُحَرِّم مَا أَحَلَّ اللَّه لَك | [ التَّحْرِيم : 1 ] عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه فِي | التَّحْرِيم | . قَالَ إِلْكِيَا الطَّبَرِيّ : فَيُمْكِن أَنْ يُقَال : مُطْلَق قَوْله تَعَالَى : | لِمَ تُحَرِّم مَا أَحَلَّ اللَّه | يَقْتَضِي أَلَّا يَخْتَصّ بِمَارِيَة ; وَقَدْ رَأَى الشَّافِعِيّ أَنَّ وُجُوب الْكَفَّارَة فِي ذَلِكَ غَيْر مَعْقُول الْمَعْنَى , فَجَعَلَهَا مَخْصُوصًا بِمَوْضِعِ النَّصّ , وَأَبُو حَنِيفَة رَأَى ذَلِكَ أَصْلًا فِي تَحْرِيم كُلّ مُبَاح وَأَجْرَاهُ مَجْرَى الْيَمِين .|قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ|قَالَ اِبْن عَبَّاس : لَمَّا أَصَابَ يَعْقُوب عَلَيْهِ السَّلَام عِرْق النَّسَا وَصَفَ الْأَطِبَّاء لَهُ أَنْ يَجْتَنِب لُحُوم الْإِبِل فَحَرَّمَهَا عَلَى نَفْسه . فَقَالَتْ الْيَهُود : إِنَّمَا نُحَرِّم عَلَى أَنْفُسنَا لُحُوم الْإِبِل ; لِأَنَّ يَعْقُوب حَرَّمَهَا وَأَنْزَلَ اللَّه تَحْرِيمهَا فِي التَّوْرَاة ; فَأَنْزَلَ اللَّه هَذِهِ الْآيَة . قَالَ الضَّحَّاك : فَكَذَّبَهُمْ اللَّه وَرَدَّ عَلَيْهِمْ فَقَالَ : يَا مُحَمَّد | قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ | فَلَمْ يَأْتُوا . فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ :

فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ

قَالَ الزَّجَّاج : فِي هَذِهِ الْآيَة أَعْظَم دَلَالَة لِنُبُوَّةِ مُحَمَّد نَبِيّنَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ لَيْسَ فِي كِتَابهمْ , وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَأَبَوْا ; يَعْنِي عَرَفُوا أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ بِالْوَحْيِ . وَقَالَ عَطِيَّة الْعَوْفِيّ : إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ حَرَامًا عَلَيْهِمْ بِتَحْرِيمِ يَعْقُوب ذَلِكَ عَلَيْهِمْ . وَذَلِكَ أَنَّ إِسْرَائِيل قَالَ حِين أَصَابَهُ عِرْق النَّسَا : وَاَللَّه لَئِنْ عَافَانِي اللَّه مِنْهُ لَا يَأْكُلهُ لِي وَلَد ; وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُحَرَّمًا عَلَيْهِمْ . وَقَالَ الْكَلْبِيّ : لَمْ يُحَرِّمهُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فِي التَّوْرَاة عَلَيْهِمْ وَإِنَّمَا حَرَّمَهُ بَعْد التَّوْرَاة بِظُلْمِهِمْ وَكُفْرهمْ , وَكَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيل إِذَا أَصَابُوا ذَنْبًا عَظِيمًا حَرَّمَ اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِمْ طَعَامًا طَيِّبًا , أَوْ صَبَّ عَلَيْهِمْ رِجْزًا وَهُوَ الْمَوْت ; فَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : | فَبِظُلْمٍ مِنْ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَات أُحِلَّتْ لَهُمْ | [ النِّسَاء : 160 ] الْآيَة . وَقَوْله : | وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلّ ذِي ظُفْر | الْآيَة - إِلَى قَوْله : | ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ | [ الْأَنْعَام : 146 ] .</p><p>تَرْجَمَ اِبْن مَاجَهْ فِي سُنَنه | دَوَاء عِرْق النَّسَا | حَدَّثَنَا هِشَام بْن عَمَّار وَرَاشِد بْن سَعِيد الرَّمْلِيّ قَالَا حَدَّثَنَا الْوَلِيد بْن مُسْلِم حَدَّثَنَا هِشَام بْن حَسَّان حَدَّثَنَا أَنَس بْن سِيرِينَ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَس بْن مَالِك يَقُول : سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( شِفَاء عِرْق النَّسَا أَلْيَة شَاة أَعْرَابِيَّة تُذَاب ثُمَّ تُجَزَّأ ثَلَاثَة أَجْزَاء ثُمَّ يُشْرَب عَلَى الرِّيق فِي كُلّ يَوْم جُزْء ) . وَأَخْرَجَهُ الثَّعْلَبِيّ فِي تَفْسِيره أَيْضًا مِنْ حَدِيث أَنَس بْن مَالِك قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عِرْق النَّسَا : ( تُؤْخَذ أَلْيَة كَبْش عَرَبِيّ لَا صَغِير وَلَا كَبِير فَتُقَطَّع صِغَارًا فَتُخْرَج إِهَالَته فَتَنْقَسِم ثَلَاثَة أَقْسَام فِي كُلّ يَوْم عَلَى رِيق النَّفَس ثُلُثًا ) قَالَ أَنَس : فَوَصَفْته لِأَكْثَر مِنْ مِائَة فَبَرَأَ بِإِذْنِ اللَّه تَعَالَى . شُعْبَة : حَدَّثَنِي شَيْخ فِي زَمَن الْحَجَّاج بْن يُوسُف فِي عِرْق النَّسَا : أُقْسِم لَك بِاَللَّهِ الْأَعْلَى لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَكْوِيَنَّك بِنَارٍ أَوْ لَأَحْلِقَنَّك بِمُوسَى . قَالَ شُعْبَة : قَدْ جَرَّبْته , تَقُولهُ , وَتَمْسَح عَلَى ذَلِكَ الْمَوْضِع .

قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ

أَيْ قُلْ يَا مُحَمَّد صَدَقَ اللَّه . إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي التَّوْرَاة مُحَرَّمًا .|فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا|أَمْر بِاتِّبَاعِ دِينه .|وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ|رَدّ عَلَيْهِمْ فِي دَعْوَاهُمْ الْبَاطِل كَمَا تَقَدَّمَ .

إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ

ثَبَتَ فِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ أَبِي ذَرّ قَالَ : سَأَلْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَوَّل مَسْجِد وُضِعَ فِي الْأَرْض قَالَ : ( الْمَسْجِد الْحَرَام ) . قُلْت : ثُمَّ أَيّ ؟ قَالَ : ( الْمَسْجِد الْأَقْصَى ) . قُلْت : كَمْ بَيْنهمَا ؟ قَالَ : ( أَرْبَعُونَ عَامًا ثُمَّ الْأَرْض لَك مَسْجِد فَحَيْثُمَا أَدْرَكَتْك الصَّلَاة فَصَلِّ ) . قَالَ مُجَاهِد وَقَتَادَة : لَمْ يُوضَع قَبْله بَيْت . قَالَ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : كَانَ قَبْل الْبَيْت بُيُوت كَثِيرَة , وَالْمَعْنَى أَنَّهُ أَوَّل بَيْت وُضِعَ لِلْعِبَادَةِ . وَعَنْ مُجَاهِد قَالَ : تَفَاخَرَ الْمُسْلِمُونَ وَالْيَهُود فَقَالَتْ الْيَهُود : بَيْت الْمَقْدِس أَفْضَل وَأَعْظَم مِنْ الْكَعْبَة ; لِأَنَّهُ مُهَاجَر الْأَنْبِيَاء وَفِي الْأَرْض الْمُقَدَّسَة . وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ : بَلْ الْكَعْبَة أَفْضَل ; فَأَنْزَلَ اللَّه هَذِهِ الْآيَة . وَقَدْ مَضَى فِي الْبَقَرَة بُنْيَان الْبَيْت وَأَوَّل مَنْ بَنَاهُ . قَالَ مُجَاهِد : خَلَقَ اللَّه مَوْضِع هَذَا الْبَيْت قَبْل أَنْ يَخْلُق شَيْئًا مِنْ الْأَرْض بِأَلْفَيْ سَنَة , وَأَنَّ قَوَاعِده لَفِي الْأَرْض السَّابِعَة السُّفْلَى . وَأَمَّا الْمَسْجِد الْأَقْصَى فَبَنَاهُ سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام ; كَمَا خَرَّجَهُ النَّسَائِيّ بِإِسْنَادٍ صَحِيح مِنْ حَدِيث عَبْد اللَّه بْن عَمْرو . وَعَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَنَّ سُلَيْمَان بْن دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام لَمَّا بَنَى بَيْت الْمَقْدِس سَأَلَ اللَّه خِلَالًا ثَلَاثَة سَأَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ حُكْمًا يُصَادِف حُكْمه فَأُوتِيَهُ , وَسَأَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْده فَأُوتِيَهُ , وَسَأَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ حِينَ فَرَغَ مِنْ بِنَاء الْمَسْجِد أَلَّا يَأْتِيه أَحَد لَا يَنْهَزهُ إِلَّا الصَّلَاة فِيهِ أَنْ يُخْرِجهُ مِنْ خَطِيئَته كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمّه فَأُوتِيَهُ ) . فَجَاءَ إِشْكَال بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ ; لِأَنَّ بَيْنَ إِبْرَاهِيم وَسُلَيْمَان آمَادًا طَوِيلَة . قَالَ أَهْل التَّوَارِيخ : أَكْثَر مِنْ أَلْف سَنَة . فَقِيلَ : إِنَّ إِبْرَاهِيم وَسُلَيْمَان عَلَيْهِمَا السَّلَام إِنَّمَا جَدَّدَا مَا كَانَ أَسَّسَهُ غَيْرهمَا . وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَوَّل مَنْ بَنَى الْبَيْت آدَم عَلَيْهِ السَّلَام كَمَا تَقَدَّمَ . فَيَجُوز أَنْ يَكُون غَيْره مِنْ وَلَده وَضَعَ بَيْت الْمَقْدِس مِنْ بَعْده بِأَرْبَعِينَ عَامًا , وَيَجُوز أَنْ تَكُون الْمَلَائِكَة أَيْضًا بَنَتْهُ بَعْد بِنَائِهَا الْبَيْت بِإِذْنِ اللَّه ; وَكُلّ مُحْتَمَل . وَاَللَّه أَعْلَم . وَقَالَ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : أَمَرَ اللَّه تَعَالَى الْمَلَائِكَة بِبِنَاءِ بَيْت فِي الْأَرْض وَأَنْ يَطَّوَّفُوا بِهِ ; وَكَانَ هَذَا قَبْل خَلْق آدَم , ثُمَّ إِنَّ آدَم بَنَى مِنْهُ مَا بَنَى وَطَافَ بِهِ , ثُمَّ الْأَنْبِيَاء بَعْده , ثُمَّ اِسْتَتَمَّ بِنَاءَهُ إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام .|لَلَّذِي بِبَكَّةَ|خَبَر | إِنَّ | وَاللَّام تَوْكِيد . و | بَكَّة | مَوْضِع الْبَيْت , وَمَكَّة سَائِر الْبَلَد ; عَنْ مَالِك بْن أَنَس . وَقَالَ مُحَمَّد بْن شِهَاب : بَكَّة الْمَسْجِد , وَمَكَّة الْحَرَم كُلّه , تَدْخُل فِيهِ الْبُيُوت . قَالَ مُجَاهِد : بَكَّة هِيَ مَكَّة . فَالْمِيم عَلَى هَذَا مُبْدَلَة مِنْ الْبَاء ; كَمَا قَالُوا : طِين لَازِب وَلَازِم . وَقَالَهُ الضَّحَّاك وَالْمُؤَرِّج . ثُمَّ قِيلَ : بَكَّة مُشْتَقَّة مِنْ الْبَكّ وَهُوَ الِازْدِحَام . تَبَاكَّ الْقَوْم اِزْدَحَمُوا . وَسُمِّيَتْ بَكَّة لِازْدِحَامِ النَّاس فِي مَوْضِع طَوَافهمْ . وَالْبَكّ : دَقّ الْعُنُق . وَقِيلَ : سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا كَانَتْ تَدُقّ رِقَاب الْجَبَابِرَة إِذَا أَلْحَدُوا فِيهَا بِظُلْمٍ . قَالَ عَبْد اللَّه بْن الزُّبَيْر : لَمْ يَقْصِدهَا جَبَّار قَطُّ بِسُوءٍ إِلَّا وَقَصَهُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ . وَأَمَّا مَكَّة فَقِيلَ إِنَّهَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِقِلَّةِ مَائِهَا وَقِيلَ : سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تَمُكّ الْمُخّ مِنْ الْعَظْم مِمَّا يَنَال قَاصِدهَا مِنْ الْمَشَقَّة ; مِنْ قَوْلهمْ : مَكَكْت الْعَظْم إِذَا أَخْرَجْت مَا فِيهِ . وَمَكَّ الْفَصِيل ضَرْع أُمّه وَامْتَكَّهُ إِذَا اِمْتَصَّ كُلّ مَا فِيهِ مِنْ اللَّبَن وَشَرِبَهُ ; قَالَ الشَّاعِر : <br>مَكَّتْ فَلَمْ تُبْقِ فِي أَجْوَافهَا دِرَرًا <br>وَقِيلَ : سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تَمُكّ مَنْ ظَلَمَ فِيهَا , أَيْ تُهْلِكهُ وَتُنْقِصهُ . وَقِيلَ : سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ النَّاس كَانُوا يَمُكُّونَ وَيُضْحَكُونَ فِيهَا ; مِنْ قَوْله : | وَمَا كَانَ صَلَاتهمْ عِنْد الْبَيْت إِلَّا مُكَاء وَتَصْدِيَة | [ الْأَنْفَال : 35 ] أَيْ تَصْفِيقًا وَتَصْفِيرًا . وَهَذَا لَا يُوجِبهُ التَّصْرِيف ; لِأَنَّ | مَكَّة | ثُنَائِيّ مُضَاعَف و | مُكَاء | ثُلَاثِيّ مُعْتَلّ .|مُبَارَكًا|جَعَلَهُ مُبَارَكًا لِتَضَاعُفِ الْعَمَل فِيهِ ; فَالْبَرَكَة كَثْرَة الْخَيْر , وَنُصِبَ عَلَى الْحَال مِنْ الْمُضْمَر فِي | وُضِعَ | أَوْ بِالظَّرْفِ مِنْ | بَكَّة | , الْمَعْنَى الَّذِي اِسْتَقَرَّ | بِبَكَّةَ مُبَارَكًا | وَيَجُوز فِي غَيْر الْقُرْآن | مُبَارَك | ; عَلَى أَنْ يَكُون خَبَرًا ثَانِيًا , أَوْ عَلَى الْبَدَل مِنْ الَّذِي , أَوْ عَلَى إِضْمَار مُبْتَدَأ .|وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ|عَطْف عَلَيْهِ , وَيَكُون بِمَعْنَى وَهُوَ هُدًى لِلْعَالَمِينَ . وَيَجُوز فِي غَيْر الْقُرْآن | مُبَارَك | بِالْخَفْضِ يَكُون نَعْتًا لِلْبَيْتِ .

فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ

رَفْع بِالِابْتِدَاءِ أَوْ بِالصِّفَةِ . وَقَرَأَ أَهْل مَكَّة وَابْن عَبَّاس وَمُجَاهِد وَسَعِيد بْن جُبَيْر | آيَة بَيِّنَة | عَلَى التَّوْحِيد , يَعْنِي مَقَام إِبْرَاهِيم وَحْده . قَالُوا : أَثَر قَدَمَيْهِ فِي الْمَقَام آيَة بَيِّنَة . وَفَسَّرَ مُجَاهِد مَقَام إِبْرَاهِيم بِالْحَرَمِ كُلّه ; فَذَهَبَ إِلَى أَنَّ مِنْ آيَاته الصَّفَا وَالْمَرْوَة وَالرُّكْن وَالْمَقَام . وَالْبَاقُونَ بِالْجَمْعِ . أَرَادُوا مَقَام إِبْرَاهِيم وَالْحَجَر الْأَسْوَد وَالْحَطِيم وَزَمْزَم وَالْمَشَاعِر كُلّهَا . قَالَ : أَبُو جَعْر النَّحَّاس : مَنْ قَرَأَ | آيَات بَيِّنَات | فَقِرَاءَته أَبْيَن ; لِأَنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَة مِنْ الْآيَات , وَمِنْهَا أَنَّ الطَّائِر لَا يَعْلُو الْبَيْت صَحِيحًا , وَمِنْهَا أَنَّ الْجَارِح يَطْلُب الصَّيْد فَإِذَا دَخَلَ الْحَرَم تَرَكَهُ , وَمِنْهَا أَنَّ الْغَيْث إِذَا كَانَ نَاحِيَة الرُّكْن الْيَمَانِيّ كَانَ الْخِصْب بِالْيَمَنِ , وَإِذَا كَانَ بِنَاحِيَةِ الشَّامِيّ كَانَ الْخِصْب بِالشَّامِ , وَإِذْ عَمَّ الْبَيْت كَانَ الْخِصْب فِي جَمِيع الْبُلْدَان , وَمِنْهَا أَنَّ الْجِمَار عَلَى مَا يُزَاد عَلَيْهَا تَرَى عَلَى قَدْر وَاحِد . وَالْمَقَام مِنْ قَوْلهمْ : قُمْت مَقَامًا , وَهُوَ الْمَوْضِع الَّذِي يُقَام فِيهِ . وَالْمَقَام مِنْ قَوْلك : أَقَمْت مَقَامًا . وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي الْبَقَرَة , وَمَضَى الْخِلَاف أَيْضًا فِي الْمَقَام وَالصَّحِيح مِنْهُ . وَارْتَفَعَ الْمَقَام عَلَى الِابْتِدَاء وَالْخَبَر مَحْذُوف ; وَالتَّقْدِير مِنْهَا مَقَام إِبْرَاهِيم ; قَالَهُ الْأَخْفَش . وَحُكِيَ عَنْ مُحَمَّد بْن يَزِيد أَنَّهُ قَالَ : | مَقَام | بَدَل مِنْ | آيَات | . وَفِيهِ قَوْل ثَالِث بِمَعْنَى هِيَ مَقَام إِبْرَاهِيم . وَقَوْل الْأَخْفَش مَعْرُوف فِي كَلَام الْعَرَب . كَمَا قَالَ زُهَيْر : <br>لَهَا مَتَاع وَأَعْوَان غَدَوْنَ بِهِ .......... قَتَب وَغَرْب إِذَا مَا أُفْرِغَ اِنْسَحَقَا <br>أَيْ مَضَى وَبَعُدَ سَيَلَانه . وَقَوْل أَبِي الْعَبَّاس : إِنَّ مَقَامًا بِمَعْنَى مَقَامَات ; لِأَنَّهُ مَصْدَر . قَالَ اللَّه تَعَالَى : | خَتَمَ اللَّه عَلَى قُلُوبهمْ وَعَلَى سَمْعهمْ | [ الْبَقَرَة : 7 ] . وَقَالَ الشَّاعِر : <br>إِنَّ الْعُيُون الَّتِي فِي طَرْفهَا حَوَر .......... قَتَلْنَنَا ثُمَّ لَمْ يُحْيِينَ قَتْلَانَا <br>أَيْ فِي أَطْرَافهَا . وَيُقَوِّي هَذَا الْحَدِيث الْمَرْوِيّ ( الْحَجّ كُلّه مَقَام إِبْرَاهِيم ) .|وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا|قَالَ قَتَادَة : ذَلِكَ أَيْضًا مِنْ آيَات الْحَرَم . قَالَ النَّحَّاس : وَهُوَ قَوْل حَسَن ; لِأَنَّ النَّاس كَانُوا يُتَخَطَّفُونَ مِنْ حَوَالَيْهِ , وَلَا يَصِل إِلَيْهِ جَبَّار , وَقَدْ وُصِلَ إِلَى بَيْت الْمَقْدِس وَخُرِّبَ , وَلَمْ يُوصَل إِلَى الْحَرَم . قَالَ اللَّه تَعَالَى : | أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبّك بِأَصْحَابِ الْفِيل | [ الْفِيل : 1 ] . وَقَالَ بَعْض أَهْل الْمَعَانِي : صُورَة الْآيَة خَبَر وَمَعْنَاهَا أَمْر , تَقْدِيرهَا وَمَنْ دَخَلَهُ فَأَمِّنُوهُ ; كَقَوْلِهِ : | فَلَا رَفَث وَلَا فُسُوق وَلَا جِدَال فِي الْحَجّ | [ الْبَقَرَة : 197 ] أَيْ لَا تَرْفُثُوا وَلَا تَفْسُقُوا وَلَا تَجَادَلُوا . وَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ الْإِمَام السَّابِق النُّعْمَان بْن ثَابِت : مَنْ اِقْتَرَفَ ذَنْبًا وَاسْتَوْجَبَ بِهِ حَدًّا ثُمَّ لَجَأَ إِلَى الْحَرَم عَصَمَهُ , لِقَوْلِهِ تَعَالَى : | وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا | ; فَأَوْجَبَ اللَّه سُبْحَانه الْأَمْن لِمَنْ دَخَلَهُ . وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَة مِنْ السَّلَف مِنْهُمْ اِبْن عَبَّاس وَغَيْره مِنْ النَّاس قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : | وَكُلّ مَنْ قَالَ هَذَا فَقَدْ وَهِمَ مِنْ جِهَتَيْنِ : إِحْدَاهُمَا أَنَّهُ لَمْ يَفْهَم مِنْ الْآيَة أَنَّهَا خَبَر عَمَّا مَضَى , وَلَمْ يَقْصِد بِهَا إِثْبَات حُكْم مُسْتَقْبَل , الثَّانِي أَنَّهُ لَمْ يَعْلَم أَنَّ ذَلِكَ الْأَمْن قَدْ ذَهَبَ وَأَنَّ الْقَتْل وَالْقِتَال قَدْ وَقَعَ بَعْد ذَلِكَ فِيهَا , وَخَبَر اللَّه لَا يَقَع بِخِلَافِ مَخْبَره ; فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي الْمَاضِي هَذَا . وَقَدْ نَاقَضَ أَبُو حَنِيفَة فَقَالَ , إِذَا لَجَأَ إِلَى الْحَرَم لَا يُطْعَم وَلَا يُسْقَى وَلَا يُعَامَل وَلَا يُكَلَّم حَتَّى يَخْرُج , فَاضْطِرَاره إِلَى الْخُرُوج لَيْسَ يَصِحّ مَعَهُ أَمْن . وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : يَقَع الْقِصَاص فِي الْأَطْرَاف فِي الْحَرَم وَلَا أَمْن أَيْضًا مَعَ هَذَا | . وَالْجُمْهُور مِنْ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ الْحُدُود تُقَام فِي الْحَرَم , وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِ اِبْن خَطَل وَهُوَ مُتَعَلِّق بِأَسْتَارِ الْكَعْبَة</p><p>قُلْت : وَرَوَى الثَّوْرِيّ عَنْ مَنْصُور عَنْ مُجَاهِد عَنْ اِبْن عَبَّاس : مَنْ أَصَابَ حَدًّا فِي الْحَرَم أُقِيمَ عَلَيْهِ فِيهِ , وَإِنْ أَصَابَهُ فِي الْحِلّ وَلَجَأَ إِلَى الْحَرَم لَمْ يُكَلَّم وَلَمْ يُبَايَع حَتَّى يَخْرُج مِنْ الْحَرَم فَيُقَام عَلَيْهِ الْحَدّ ; وَهُوَ قَوْل الشَّعْبِيّ . فَهَذِهِ حُجَّة الْكُوفِيِّينَ , وَقَدْ فَهِمَ اِبْن عَبَّاس ذَلِكَ مِنْ مَعْنَى الْآيَة , وَهُوَ حَبْر الْأُمَّة وَعَالِمهَا . وَالصَّحِيح أَنَّهُ قَصَدَ بِذَلِكَ تَعْدِيد النِّعَم عَلَى كُلّ مَنْ كَانَ بِهَا جَاهِلًا وَلَهَا مُنْكِرًا مِنْ الْعَرَب ; كَمَا قَالَ تَعَالَى : | أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّف النَّاس مِنْ حَوْلهمْ | [ الْعَنْكَبُوت : 67 ] فَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّة مَنْ دَخَلَهُ وَلَجَأَ إِلَيْهِ أَمِنَ مِنْ الْغَارَة وَالْقَتْل ; عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه فِي | الْمَائِدَة | إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . قَالَ قَتَادَة وَمَنْ دَخَلَهُ فِي الْجَاهِلِيَّة كَانَ آمِنًا . وَهَذَا حَسَن . وَرُوِيَ أَنَّ بَعْض الْمُلْحِدَة قَالَ لِبَعْضِ الْعُلَمَاء : أَلَيْسَ فِي الْقُرْآن | وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا | فَقَدْ دَخَلْنَاهُ وَفَعَلْنَا كَذَا وَكَذَا فَلَمْ يَأْمَن مَنْ كَانَ فِيهِ قَالَ لَهُ : أَلَسْت مِنْ الْعَرَب مَا الَّذِي يُرِيد الْقَائِل مَنْ دَخَلَ دَارِي كَانَ آمِنًا ؟ أَلَيْسَ أَنْ يَقُول لِمَنْ أَطَاعَهُ : كُفَّ عَنْهُ فَقَدْ أَمَّنْته وَكَفَفْت عَنْهُ ؟ قَالَ : بَلَى . قَالَ : فَكَذَلِكَ قَوْله | وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا | . وَقَالَ يَحْيَى بْن جَعْدَة : مَعْنَى | وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا | يَعْنِي مِنْ النَّار .</p><p>قُلْت : وَهَذَا لَيْسَ عَلَى عُمُومه ; لِأَنَّ فِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ حَدِيث الشَّفَاعَة الطَّوِيل | فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَد بِأَشَدّ مُنَاشَدَة لِلَّهِ فِي اِسْتِقْصَاء الْحَقّ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لِلَّهِ يَوْم الْقِيَامَة لِإِخْوَانِهِمْ الَّذِينَ فِي النَّار يَقُولُونَ رَبّنَا كَانُوا يَصُومُونَ مَعَنَا وَيَحُجُّونَ فَيُقَال لَهُمْ أَخْرِجُوا مَنْ عَرَفْتُمْ ) الْحَدِيث . وَإِنَّمَا يَكُون آمِنًا مِنْ النَّار مَنْ دَخَلَهُ لِقَضَاءِ النُّسُك مُعَظِّمًا لَهُ عَارِفًا بِحَقِّهِ مُتَقَرِّبًا إِلَى اللَّه تَعَالَى . قَالَ جَعْفَر الصَّادِق : مَنْ دَخَلَهُ عَلَى الصَّفَاء كَمَا دَخَلَهُ الْأَنْبِيَاء وَالْأَوْلِيَاء كَانَ آمِنًا مِنْ عَذَابه . وَهَذَا مَعْنَى قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُث وَلَمْ يَفْسُق خَرَجَ مِنْ ذُنُوبه كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمّه وَالْحَجّ الْمَبْرُور لَيْسَ لَهُ جَزَاء إِلَّا الْجَنَّة ) . قَالَ الْحَسَن : الْحَجّ الْمَبْرُور هُوَ أَنْ يَرْجِع زَاهِدًا فِي الدُّنْيَا رَاغِبًا فِي الْآخِرَة . وَأَنْشَدَ : <br>يَا كَعْبَة اللَّه دَعْوَة اللَّاجِي .......... دَعْوَة مُسْتَشْعِر وَمُحْتَاج <br><br>وَدَّعَ أَحْبَابه وَمَسْكَنه .......... فَجَاءَ مَا بَيْنَ خَائِف رَاجِي <br><br>إِنْ يَقْبَل اللَّه سَعْيه كَرَمًا .......... نَجَا , وَإِلَّا فَلَيْسَ بِالنَّاجِي <br><br>وَأَنْتَ مِمَّنْ تُرْجَى شَفَاعَته .......... فَاعْطِفْ عَلَى وَافِد بْن حَجَّاج <br>وَقِيلَ : الْمَعْنَى وَمَنْ دَخَلَهُ عَام عُمْرَة الْقَضَاء مَعَ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ آمِنًا . دَلِيله قَوْله تَعَالَى : | لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِد الْحَرَام إِنْ شَاءَ اللَّه آمِنِينَ | [ الْفَتْح : 27 ] . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ | مَنْ | هَاهُنَا لِمَنْ لَا يَعْقِل ; وَالْآيَة فِي أَمَان الصَّيْد ; وَهُوَ شَاذّ ; وَفِي التَّنْزِيل : | فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنه | [ النُّور : 45 ] الْآيَة .|وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ|| وَلِلَّهِ | اللَّام فِي قَوْله | وَلِلَّهِ | لَام الْإِيجَاب وَالْإِلْزَام , ثُمَّ أَكَّدَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : | عَلَى | الَّتِي هِيَ مِنْ أَوْكَد أَلْفَاظ الْوُجُوب عِنْد الْعَرَب ; فَإِذَا قَالَ الْعَرَبِيّ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ كَذَا ; فَقَدْ وَكَّدَهُ وَأَوْجَبَهُ . فَذَكَرَ اللَّه تَعَالَى الْحَجّ بِأَبْلَغ أَلْفَاظ الْوُجُوب تَأْكِيدًا لِحَقِّهِ وَتَعْظِيمًا لِحُرْمَتِهِ . وَلَا خِلَاف فِي فَرِيضَته , وَهُوَ أَحَد قَوَاعِد الْإِسْلَام , وَلَيْسَ يَجِب إِلَّا مَرَّة فِي الْعُمْر . وَقَالَ بَعْض النَّاس : يَجِب فِي كُلّ خَمْسَة أَعْوَام مَرَّة ; وَرَوَوْا فِي ذَلِكَ حَدِيثًا أَسْنَدُوهُ إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَالْحَدِيث بَاطِل لَا يَصِحّ , وَالْإِجْمَاع صَادّ فِي وُجُوههمْ .</p><p>قُلْت : وَذَكَرَ عَبْد الرَّزَّاق قَالَ : حَدَّثَنَا سُفْيَان الثَّوْرِيّ عَنْ الْعَلَاء بْن الْمُسَيِّب عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : | يَقُول الرَّبّ جَلَّ وَعَزَّ إِنَّ عَبْدًا أَوْسَعْت عَلَيْهِ فِي الرِّزْق فَلَمْ يَعُدْ إِلَيَّ فِي كُلّ أَرْبَعَة أَعْوَام لَمَحْرُومٌ ) مَشْهُور مِنْ حَدِيث الْعَلَاء بْن الْمُسَيِّب بْن رَافِع الْكَاهِلِيّ الْكُوفِيّ مِنْ أَوْلَاد الْمُحَدِّثِينَ , رَوَى عَنْهُ غَيْر وَاحِد , مِنْهُمْ مَنْ قَالَ : فِي كُلّ خَمْسَة أَعْوَام , وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : عَنْ الْعَلَاء عَنْ يُونُس بْن خَبَّاب عَنْ أَبِي سَعِيد , فِي غَيْر ذَلِكَ مِنْ الِاخْتِلَاف . وَأَنْكَرَتْ الْمُلْحِدَة الْحَجّ , فَقَالَتْ : إِنَّ فِيهِ تَجْرِيد الثِّيَاب وَذَلِكَ يُخَالِف الْحَيَاء , وَالسَّعْي وَهُوَ يُنَاقِض الْوَقَار , وَرَمْي الْجِمَار لِغَيْرِ مُرْمًى وَذَلِكَ يُضَادّ الْعَقْل ; فَصَارُوا إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَال كُلّهَا بَاطِلَة ; إِذْ لَمْ يَعْرِفُوا لَهَا حِكْمَة وَلَا عِلَّة , وَجَهِلُوا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرْط الْمَوْلَى مَعَ الْعَبْد , أَنْ يَفْهَم الْمَقْصُود بِجَمِيعِ مَا يَأْمُرهُ بِهِ , وَلَا أَنْ يَطَّلِع عَلَى فَائِدَة تَكْلِيفه , وَإِنَّمَا يَتَعَيَّن عَلَيْهِ الِامْتِثَال , وَيَلْزَمهُ الِانْقِيَاد مِنْ غَيْر طَلَب فَائِدَة وَلَا سُؤَال عَنْ مَقْصُود . وَلِهَذَا الْمَعْنَى كَانَ عَلَيْهِ السَّلَام يَقُول فِي تَلْبِيَته : ( لَبَّيْكَ حَقًّا حَقًّا تَعَبُّدًا وَرِقًّا لَبَّيْكَ إِلَه الْحَقّ ) . وَرَوَى الْأَئِمَّة عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : خَطَبَنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : ( أَيّهَا النَّاس قَدْ فُرِضَ اللَّه عَلَيْكُمْ الْحَجّ فَحُجُّوا ) . فَقَالَ رَجُل : كُلّ عَام يَا رَسُول اللَّه ؟ فَسَكَتَ , حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا , فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَوْ قُلْت نَعَمْ لَوَجَبَتْ وَلَمَا اِسْتَطَعْتُمْ ) ثُمَّ قَالَ : ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالهمْ وَاخْتِلَافهمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اِسْتَطَعْتُمْ وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْء فَدَعُوهُ ) لَفْظ مُسْلِم . فَبَيَّنَ هَذَا الْحَدِيث أَنَّ الْخِطَاب إِذَا تَوَجَّهَ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ بِفَرْضٍ أَنَّهُ يَكْفِي مِنْهُ فِعْل مَرَّة وَلَا يَقْتَضِي التَّكْرَار ; خِلَافًا لِلْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَق الْإِسْفِرَايِينِي وَغَيْره . وَثَبَتَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ أَصْحَابه : يَا رَسُول اللَّه , أَحَجّنَا لِعَامِنَا هَذَا أَمْ لِلْأَبَدِ ؟ فَقَالَ : ( لَا بَلْ لِلْأَبَدِ ) . وَهَذَا نَصّ فِي الرَّدّ عَلَى مَنْ قَالَ : يَجِب فِي كُلّ خَمْس سِنِينَ مَرَّة . وَقَدْ كَانَ الْحَجّ مَعْلُومًا عِنْد الْعَرَب مَشْهُورًا لَدَيْهِمْ , وَكَانَ مِمَّا يُرْغَب فِيهِ لِأَسْوَاقِهَا وَتَبَرُّرهَا وَتَحَنُّفهَا ; فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَام خُوطِبُوا بِمَا عَلِمُوا وَأُلْزِمُوا بِمَا عَرَفُوا . وَقَدْ حَجَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْل حَجّ الْفَرْض , وَقَدْ وَقَفَ بِعَرَفَة وَلَمْ يُغَيِّر مِنْ شَرْع إِبْرَاهِيم مَا غَيَّرُوا ; حِينَ كَانَتْ قُرَيْش تَقِف بِالْمَشْعَرِ الْحَرَام وَيَقُولُونَ : نَحْنُ أَهْل الْحَرَم فَلَا نَخْرُج مِنْهُ ; وَنَحْنُ الْحَمْس . حَسْب مَا تَقَدَّمَ بَيَانه فِي [ الْبَقَرَة ] .</p><p>قُلْت : مِنْ أَغْرَب مَا رَأَيْته أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجّ قَبْل الْهِجْرَة مَرَّتَيْنِ وَأَنَّ الْفَرْض سَقَطَ عَنْهُ بِذَلِكَ ; لِأَنَّهُ قَدْ أَجَابَ نِدَاء إِبْرَاهِيم حِينَ قِيلَ لَهُ : | وَأَذِّنْ فِي النَّاس بِالْحَجِّ | [ الْحَجّ : 27 ] . قَالَ إِلْكِيَا الطَّبَرِيّ : وَهَذَا بَعِيد ; فَإِنَّهُ إِذَا وَرَدَ فِي شَرْعه : | وَلِلَّهِ عَلَى النَّاس حِجّ الْبَيْت | فَلَا بُدّ مِنْ وُجُوبه عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْخِطَاب فِي شَرْعه . وَلَئِنْ قِيلَ : إِنَّمَا خَاطَبَ مَنْ لَمْ يَحُجّ , كَانَ تَحَكُّمًا وَتَخْصِيصًا لَا دَلِيل عَلَيْهِ , وَيَلْزَم عَلَيْهِ أَلَّا يَجِب بِهَذَا الْخِطَاب عَلَى مَنْ حَجّ عَلَى دِين إِبْرَاهِيم , وَهَذَا فِي غَايَة الْبُعْد .</p><p>وَدَلَّ الْكِتَاب وَالسُّنَّة عَلَى أَنَّ الْحَجّ عَلَى التَّرَاخِي لَا عَلَى الْفَوْر ; وَهُوَ تَحْصِيل مَذْهَب مَالِك فِيمَا ذَكَرَ اِبْن خُوَيْز مَنْدَاد , وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيّ وَمُحَمَّد بْن الْحَسَن وَأَبِي يُوسُف فِي رِوَايَة عَنْهُ . وَذَهَبَ بَعْض الْبَغْدَادِيِّينَ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْمَالِكِيِّينَ إِلَى أَنَّهُ عَلَى الْفَوْر , وَلَا يَجُوز تَأْخِيره مَعَ الْقُدْرَة عَلَيْهِ ; وَهُوَ قَوْل دَاوُد . وَالصَّحِيح الْأَوَّل ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ فِي سُورَة الْحَجّ : | وَأَذِّنْ فِي النَّاس بِالْحَجِّ يَأْتُوك رِجَالًا | [ الْحَجّ : 27 ] وَسُورَة الْحَجّ مَكِّيَّة . وَقَالَ تَعَالَى : | وَلِلَّهِ عَلَى النَّاس حِجّ الْبَيْت | الْآيَة . وَهَذِهِ السُّورَة نَزَلَتْ عَام أُحُد بِالْمَدِينَةِ سَنَة ثَلَاث مِنْ الْهِجْرَة وَلَمْ يَحُجّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى سَنَة عَشْر . أَمَّا السُّنَّة فَحَدِيث ضِمَام بْن ثَعْلَبَة السَّعْدِيّ مِنْ بَنِي سَعْد بْن بَكْر قَدِمَ عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ عَنْ الْإِسْلَام فَذَكَرَ الشَّهَادَة وَالصَّلَاة وَالزَّكَاة وَالصِّيَام وَالْحَجّ . رَوَاهُ اِبْن عَبَّاس وَأَبُو هُرَيْرَة وَأَنَس , وَفِيهَا كُلّهَا ذِكْر الْحَجّ , وَأَنَّهُ كَانَ مَفْرُوضًا , وَحَدِيث أَنَس أَحْسَنهَا سِيَاقًا وَأَتَمّهَا . وَاخْتُلِفَ فِي وَقْت قُدُومه ; فَقِيلَ : سَنَة خَمْس . وَقِيلَ : سَنَة سَبْع . وَقِيلَ : سَنَة تِسْع ; ذَكَرَهُ اِبْن هِشَام عَنْ أَبِي عُبَيْدَة الْوَاقِدِيّ عَام الْخَنْدَق بَعْد اِنْصِرَاف الْأَحْزَاب . قَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ : وَمِنْ الدَّلِيل عَلَى أَنَّ الْحَجّ عَلَى التَّرَاخِي إِجْمَاع الْعُلَمَاء عَلَى تَرْك تَفْسِيق الْقَادِر عَلَى الْحَجّ إِذَا أَخَّرَهُ الْعَام وَالْعَامَيْنِ وَنَحْوهمَا , وَأَنَّهُ إِذَا حَجَّ مِنْ بَعْد أَعْوَام مِنْ حِين اِسْتِطَاعَته فَقَدْ أَدَّى الْحَجّ الْوَاجِب عَلَيْهِ فِي وَقْته , وَلَيْسَ هُوَ عِنْد الْجَمِيع كَمَنْ فَاتَتْهُ الصَّلَاة حَتَّى خَرَجَ وَقْتهَا فَقَضَاهَا بَعْد خُرُوج وَقْتهَا , وَلَا كَمَنْ فَاتَهُ صِيَام رَمَضَان لِمَرَضٍ أَوْ سَفَر فَقَضَاهُ . وَلَا كَمَنْ أَفْسَدَ حَجّه فَقَضَاهُ , فَلَمَّا أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُقَال لِمَنْ حَجَّ بَعْد أَعْوَام مِنْ وَقْت اِسْتَطَاعَته : أَنْتَ قَاضٍ لِمَا وَجَبَ عَلَيْك ; عَلِمْنَا أَنَّ وَقْت الْحَجّ مُوَسَّع فِيهِ وَأَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي لَا عَلَى الْفَوْر . قَالَ أَبُو عُمَر : كُلّ مَنْ قَالَ بِالتَّرَاخِي لَا يَحُدّ فِي ذَلِكَ حَدًّا ; إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ سَحْنُون وَقَدْ سُئِلَ عَنْ الرَّجُل يَجِد مَا يَحُجّ بِهِ فَيُؤَخِّر ذَلِكَ إِلَى سِنِينَ كَثِيرَة مَعَ قُدْرَته عَلَى ذَلِكَ هَلْ يَفْسُق بِتَأْخِيرِهِ الْحَجّ وَتُرَدّ شَهَادَته ؟ قَالَ : لَا وَإِنْ مَضَى مِنْ عُمْره سِتُّونَ سَنَة , فَإِذَا زَادَ عَلَى السِّتِّينَ فَسَقَ وَرُدَّتْ شَهَادَته . وَهَذَا تَوْقِيف وَحَدّ , وَالْحُدُود فِي الشَّرْع لَا تُؤْخَذ إِلَّا عَمَّنْ لَهُ أَنْ يُشَرِّع .</p><p>قُلْت : وَحَكَاهُ اِبْن خُوَيْز مَنْدَاد عَنْ اِبْن الْقَاسِم . قَالَ اِبْن الْقَاسِم وَغَيْره : إِنْ أَخَّرَهُ سِتِّينَ سَنَة لَمْ يُحَرَّج , وَإِنْ أَخَّرَهُ بَعْد السِّتِّينَ حُرِّجَ ; لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( أَعْمَار أُمَّتِي مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إِلَى السَّبْعِينَ وَقَلَّ مَنْ يَتَجَاوَزهَا ) فَكَأَنَّهُ فِي هَذَا الْعَشْر قَدْ يَتَضَايَق عَلَيْهِ الْخِطَاب . قَالَ أَبُو عُمَر : وَقَدْ اِحْتَجَّ بَعْض النَّاس كَسَحْنُون بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مُعْتَرَك أُمَّتِي بَيْنَ السِّتِّينَ إِلَى السَّبْعِينَ وَقَلَّ مَنْ يُجَاوِز ذَلِكَ ) . وَلَا حُجَّة فِيهِ ; لِأَنَّهُ كَلَام خَرَجَ عَلَى الْأَغْلَب مِنْ أَعْمَار أُمَّته لَوْ صَحَّ الْحَدِيث . وَفِيهِ دَلِيل عَلَى التَّوْسِعَة إِلَى السَّبْعِينَ لِأَنَّهُ مِنْ الْأَغْلَب أَيْضًا , وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُقْطَع بِتَفْسِيقِ مَنْ صَحَّتْ عَدَالَته وَأَمَانَته بِمِثْلِ هَذَا مِنْ التَّأْوِيل الضَّعِيف . وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيق .</p><p>أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ الْخِطَاب بِقَوْلِهِ تَعَالَى : | وَلِلَّهِ عَلَى النَّاس حِجّ الْبَيْت | عَامّ فِي جَمِيعهمْ مُسْتَرْسِل عَلَى جُمْلَتهمْ . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : | وَإِنْ كَانَ النَّاس قَدْ اِخْتَلَفُوا فِي مُطْلَق الْعُمُومَات بَيْد أَنَّهُمْ اِتَّفَقُوا عَلَى حَمْل هَذِهِ الْآيَة عَلَى جَمِيع النَّاس ذَكَرهمْ وَأُنْثَاهُمْ , خَلَا الصَّغِير فَإِنَّهُ خَارِج بِالْإِجْمَاعِ عَنْ أُصُول التَّكْلِيف , وَكَذَلِكَ الْعَبْد لَمْ يَدْخُل فِيهِ ; لِأَنَّهُ أَخْرَجَهُ عَنْ مُطْلَق الْعُمُوم قَوْله تَعَالَى فِي التَّمَام : | مَنْ اِسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا | وَالْعَبْد غَيْر مُسْتَطِيع ; لِأَنَّ السَّيِّد يَمْنَعهُ لِحُقُوقِهِ عَنْ هَذِهِ الْعِبَادَة . وَقَدْ قَدَّمَ اللَّه سُبْحَانه حَقّ السَّيِّد عَلَى حَقّه رِفْقًا بِالْعِبَادِ وَمَصْلَحَة لَهُمْ . وَلَا خِلَاف فِيهِ بَيْنَ الْأُمَّة وَلَا بَيْنَ الْأَئِمَّة , فَلَا نَهْرِف بِمَا لَا نَعْرِف , وَلَا دَلِيل عَلَيْهِ إِلَّا الْإِجْمَاع . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : أَجْمَعَ عَامَّة أَهْل الْعِلْم إِلَّا مَنْ شَذَّ مِنْهُمْ مِمَّنْ لَا يُعَدّ خِلَافًا , عَلَى أَنَّ الصَّبِيّ إِذَا حَجَّ فِي حَال صِغَره , وَالْعَبْد إِذَا حَجَّ فِي حَال رَقِّهِ , ثُمَّ بَلَغَ الصَّبِيّ وَعَتَقَ الْعَبْد أَنَّ عَلَيْهِمَا حَجَّة الْإِسْلَام إِذَا وَجَدَا إِلَيْهَا سَبِيلًا . وَقَالَ أَبُو عُمَر : خَالَفَ دَاوُد جَمَاعَة فُقَهَاء الْأَمْصَار وَأَئِمَّة الْأَثَر فِي الْمَمْلُوك وَأَنَّهُ عِنْده مُخَاطَب بِالْحَجِّ , وَهُوَ عِنْد جُمْهُور الْعُلَمَاء خَارِج مِنْ الْخِطَاب الْعَامّ فِي قَوْله تَعَالَى : | وَلِلَّهِ عَلَى النَّاس حِجّ الْبَيْت مَنْ اِسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا | بِدَلِيلِ عَدَم التَّصَرُّف , وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَحُجّ بِغَيْرِ إِذْن سَيِّده ; كَمَا خَرَجَ مِنْ خِطَاب الْجُمْعَة وَهُوَ قَوْله تَعَالَى : | يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْم الْجُمْعَة | [ الْجُمْعَة : 9 ] الْآيَة - عِنْد عَامَّة الْعُلَمَاء إِلَّا مَنْ شَذَّ . وَكَمَا خَرَجَ مِنْ خِطَاب إِيجَاب الشَّهَادَة , قَالَ اللَّه تَعَالَى : | وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُوا | [ الْبَقَرَة : 282 ] فَلَمْ يَدْخُل فِي ذَلِكَ الْعَبْد . وَكَمَا جَازَ خُرُوج الصَّبِيّ مِنْ قَوْله : | وَلِلَّهِ عَلَى النَّاس حِجّ الْبَيْت | وَهُوَ مِنْ النَّاس بِدَلِيلِ رَفْع الْقَلَم عَنْهُ . وَخَرَجَتْ الْمَرْأَة مِنْ قَوْله : | يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ | وَهِيَ مِمَّنْ شَمَلَهُ اِسْم الْإِيمَان , وَكَذَلِكَ خُرُوج الْعَبْد مِنْ الْخِطَاب الْمَذْكُور . وَهُوَ قَوْل فُقَهَاء الْحِجَاز وَالْعِرَاق وَالشَّام وَالْمَغْرِب , وَمِثْلهمْ لَا يَجُوز عَلَيْهِمْ تَحْرِيف تَأْوِيل الْكِتَاب . فَإِنْ قِيلَ : إِذَا كَانَ حَاضِر الْمَسْجِد الْحَرَام وَأَذِنَ لَهُ سَيِّده فَلِمَ لَا يَلْزَمهُ الْحَجّ ؟ قِيلَ لَهُ : هَذَا سُؤَال عَلَى الْإِجْمَاع وَرُبَّمَا لَا يُعَلَّل ذَلِكَ , وَلَكِنْ إِذَا ثَبَتَ هَذَا الْحُكْم عَلَى الْإِجْمَاع اِسْتَدْلَلْنَا بِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَعْتَدّ بِحَجِّهِ فِي حَال الرِّقّ عَنْ حَجَّة الْإِسْلَام ; وَقَدْ رُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( أَيّمَا صَبِيّ حَجَّ ثُمَّ أَدْرَكَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجّ حَجَّة أُخْرَى وَأَيّمَا أَعْرَابِيّ حَجَّ ثُمَّ هَاجَرَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجّ حَجَّة أُخْرَى وَأَيّمَا عَبْد حَجَّ ثُمَّ أُعْتِقَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجّ حَجَّة أُخْرَى ) . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ . | وَقَدْ تَسَاهَلَ بَعْض عُلَمَائِنَا فَقَالَ : إِنَّمَا لَمْ يَثْبُت الْحَجّ عَلَى الْعَبْد وَإِنْ أَذِنَ لَهُ السَّيِّد لِأَنَّهُ كَانَ كَافِرًا فِي الْأَصْل وَلَمْ يَكُنْ حَجّ الْكَافِر مُعْتَدًّا بِهِ , فَلَمَّا ضُرِبَ عَلَيْهِ الرِّقّ ضَرْبًا مُؤَبَّدًا لَمْ يُخَاطَب بِالْحَجِّ ; وَهَذَا فَاسِد مِنْ ثَلَاثَة أَوْجُه فَاعْلَمُوهُ : أَحَدهَا : أَنَّ الْكُفَّار عِنْدنَا مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَة , وَلَا خِلَاف فِيهِ فِي قَوْل مَالِك . الثَّانِي : أَنَّ سَائِر الْعِبَادَات تَلْزَمهُ مِنْ صَلَاة وَصَوْم مَعَ كَوْنه رَقِيقًا , وَلَوْ فَعَلَهَا فِي حَال كُفْره لَمْ يَعْتَدّ بِهَا , فَوَجَبَ أَنْ يَكُون الْحَجّ مِثْلهَا . الثَّالِث : أَنَّ الْكُفْر قَدْ اِرْتَفَعَ بِالْإِسْلَامِ فَوَجَبَ اِرْتِفَاع حُكْمه . فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمُعْتَمَد مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَقَدَّمَ حُقُوق السَّيِّد ) . وَاَللَّه الْمُوَفِّق .|مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا|| مَنْ | فِي مَوْضِع خَفْض عَلَى بَدَل الْبَعْض مِنْ الْكُلّ ; هَذَا قَوْل أَكْثَر النَّحْوِيِّينَ . وَأَجَازَ الْكِسَائِيّ أَنْ يَكُون | مَنْ | فِي مَوْضِع رَفْع بِحَجِّ , التَّقْدِير أَنْ يَحُجّ الْبَيْت مَنْ . وَقِيلَ هِيَ شَرْط . و | اِسْتَطَاعَ | فِي مَوْضِع جَزْم , وَالْجَوَاب مَحْذُوف , أَيْ مَنْ اِسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا فَعَلَيْهِ الْحَجّ . رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : قِيلَ يَا رَسُول اللَّه الْحَجّ كُلّ عَام ؟ قَالَ : ( لَا بَلْ حَجَّة ) ؟ قِيلَ : فَمَا السَّبِيل , قَالَ : ( الزَّاد وَالرَّاحِلَة ) . وَرَوَاهُ عَنْ أَنَس وَابْن مَسْعُود وَابْن عُمَر وَجَابِر وَعَائِشَة وَعَمْرو بْن شُعَيْب عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّه . وَعَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاس حِجّ الْبَيْت مَنْ اِسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ) قَالَ فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَنْ تَجِد ظَهْر بَعِير ) . وَأَخْرَجَ حَدِيث اِبْن عُمَر أَيْضًا اِبْن مَاجَهْ فِي سُنَنه , وَأَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيّ فِي جَامِعه وَقَالَ : | حَدِيث حَسَن , وَالْعَمَل عَلَيْهِ عِنْد أَهْل الْعِلْم أَنَّ الرَّجُل إِذَا مَلَكَ زَادًا وَرَاحِلَة وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجّ . وَإِبْرَاهِيم بْن يَزِيد هُوَ الْخُوزِيّ الْمَكِّيّ , وَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ بَعْض أَهْل الْحَدِيث مِنْ قِبَل حِفْظه . وَأَخْرَجَاهُ عَنْ وَكِيع وَالدَّارَقُطْنِيّ عَنْ سُفْيَان بْن سَعِيد قَالُوا : حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن يَزِيد عَنْ مُحَمَّد بْن عَبَّاد عَنْ اِبْن عُمَر قَالَ : قَامَ رَجُل إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُول اللَّه , مَا يُوجِب الْحَجّ ؟ . قَالَ : ( الزَّاد وَالرَّاحِلَة ) قَالَ : يَا رَسُول اللَّه , فَمَا الْحَاجّ ؟ قَالَ : ( الشَّعِث التَّفِل ) . وَقَامَ آخَر فَقَالَ يَا رَسُول اللَّه وَمَا الْحَجّ ؟ قَالَ : ( الْعَجّ وَالثَّجّ ) . قَالَ وَكِيع : يَعْنِي بِالْعَجِّ الْعَجِيج بِالتَّلْبِيَةِ وَالثَّجّ نَحْر الْبُدْن ; لَفْظ اِبْن مَاجَهْ . وَمِمَّنْ قَالَ إِنَّ الزَّاد وَالرَّاحِلَة شَرْط فِي وُجُوب الْحَجّ : عُمَر بْن الْخَطَّاب وَابْنه عَبْد اللَّه وَعَبْد اللَّه بْن عَبَّاس وَالْحَسَن الْبَصْرِيّ وَسَعِيد بْن جُبَيْر وَعَطَاء وَمُجَاهِد . وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيّ وَالثَّوْرَيّ وَأَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَعَبْد الْعَزِيز بْن أَبِي سَلَمَة وَابْن حَبِيب , وَذَكَرَ عَبْدُوس مِثْله عَنْ سَحْنُون . قَالَ الشَّافِعِيّ : الِاسْتِطَاعَة وَجْهَانِ : أَحَدهمَا : أَنْ يَكُون مُسْتَطِيعًا بِبَدَنِهِ وَاجِدًا مِنْ مَاله مَا يُبَلِّغهُ الْحَجّ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُون مَعْضُوبًا فِي بَدَنه لَا يَثْبُت عَلَى مَرْكَبه وَهُوَ قَادِر عَلَى مَنْ يُطِيعهُ إِذَا أَمَرَهُ أَنْ يَحُجّ عَنْهُ بِأُجْرَةٍ وَبِغَيْرِ أُجْرَة , عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه . أَمَّا الْمُسْتَطِيع بِبَدَنِهِ فَإِنَّهُ يَلْزَمهُ فَرْض الْحَجّ بِالْكِتَابِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : | مَنْ اِسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا | . وَأَمَّا الْمُسْتَطِيع بِالْمَالِ فَقَدْ لَزِمَهُ فَرْض الْحَجّ بِالسُّنَّةِ بِحَدِيثِ الْخَثْعَمِيَّة عَلَى مَا يَأْتِي . وَأَمَّا الْمُسْتَطِيع بِنَفْسِهِ وَهُوَ الْقَوِيّ الَّذِي لَا تَلْحَقهُ مَشَقَّة غَيْر مُحْتَمَلَة فِي الرُّكُوب عَلَى الرَّاحِلَة ; فَإِنَّ هَذَا إِذَا مَلَك الزَّاد وَالرَّاحِلَة لَزِمَهُ فَرْض الْحَجّ بِنَفْسِهِ , وَإِنْ عَدِمَ الزَّاد وَالرَّاحِلَة أَوْ أَحَدهمَا سَقَطَ عَنْهُ فَرْض الْحَجّ ; فَإِنَّ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْمَشْي مُطِيقًا لَهُ وَوَجَدَ الزَّاد أَوْ قَدَرَ عَلَى كَسْب الزَّاد فِي طَرِيقه بِصَنْعَةٍ مِثْل الْخَرَز وَالْحِجَامَة أَوْ نَحْوهمَا فَالْمُسْتَحَبّ لَهُ أَنْ يَحُجّ مَاشِيًا رَجُلًا كَانَ أَوْ اِمْرَأَة . قَالَ الشَّافِعِيّ : وَالرَّجُل أَقَلّ عُذْرًا مِنْ الْمَرْأَة لِأَنَّهُ أَقْوَى . وَهَذَا عِنْدهمْ عَلَى طَرِيق الِاسْتِحْبَاب لَا عَلَى طَرِيق الْإِيجَاب , فَأَمَّا إِنْ قَدَرَ عَلَى الزَّاد بِمَسْأَلَةِ النَّاس فِي الطَّرِيق كَرِهْت لَهُ أَنْ يَحُجّ لِأَنَّهُ يَصِير كَلًّا عَلَى النَّاس . وَقَالَ مَالِك بْن أَنَس رَحِمَهُ اللَّه : إِذَا قَدَرَ عَلَى الْمَشْي وَوَجَدَ الزَّاد فَعَلَيْهِ فَرْض الْحَجّ , وَإِنْ لَمْ يَجِد الرَّاحِلَة وَقَدَرَ عَلَى الْمَشْي نُظِرَ ; فَإِنْ كَانَ مَالِكًا لِلزَّادِ وَجَبَ عَلَيْهِ فَرْض الْحَجّ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا لِلزَّادِ وَلَكِنَّهُ يَقْدِر عَلَى كَسْب حَاجَته مِنْهُ فِي الطَّرِيق نُظِرَ أَيْضًا ; فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْل الْمُرُوءَات مِمَّنْ لَا يَكْتَسِب بِنَفْسِهِ لَا يَجِب عَلَيْهِ , وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَكْتَسِب كِفَايَته بِتِجَارَةٍ أَوْ صِنَاعَة لَزِمَهُ فَرْض الْحَجّ , وَهَكَذَا إِنْ كَانَتْ عَادَته مَسْأَلَة النَّاس لَزِمَهُ فَرْض الْحَجّ . وَكَذَلِكَ أَوْجَبَ مَالِك عَلَى الْمُطِيق الْمَشْي الْحَجّ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ زَادَ وَرَاحِلَة . وَهُوَ قَوْل عَبْد اللَّه بْن الزُّبَيْر وَالشَّعْبِيّ وَعِكْرِمَة . وَقَالَ الضَّحَّاك : إِنْ كَانَ شَابًّا قَوِيًّا صَحِيحًا لَيْسَ لَهُ مَال فَعَلَيْهِ أَنْ يُؤَجِّر نَفْسه بِأَكْلِهِ أَوْ عُقْبه حَتَّى يَقْضِيَ حَجّه . فَقَالَ لَهُ مُقَاتِل : كَلَّفَ اللَّه النَّاس أَنْ يَمْشُوا إِلَى الْبَيْت ؟ فَقَالَ : لَوْ أَنَّ لِأَحَدِهِمْ مِيرَاثًا بِمَكَّة أَكَانَ تَارِكه ؟ بَلْ يَنْطَلِق إِلَيْهِ وَلَوْ حَبْوًا , كَذَلِكَ يَجِب عَلَيْهِ الْحَجّ . وَاحْتَجَّ هَؤُلَاءِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : | وَأَذِّنْ فِي النَّاس يَأْتُوك رِجَالًا | أَيْ مُشَاة . قَالُوا : وَلِأَنَّ الْحَجّ مِنْ عِبَادَات الْأَبْدَان مِنْ فَرَائِض الْأَعْيَان , فَوَجَبَ أَلَّا يَكُون الزَّاد مِنْ شُرُوط وُجُوبهَا وَلَا الرَّاحِلَة كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَام . قَالُوا : وَلَوْ صَحَّ حَدِيث الْخُوزِيّ الزَّاد وَالرَّاحِلَة لَحَمَلْنَاهُ عَلَى عُمُوم النَّاس وَالْغَالِب مِنْهُمْ فِي الْأَقْطَار الْبَعِيدَة . وَخُرُوج مُطْلَق الْكَلَام عَلَى غَالِب الْأَحْوَال كَثِير فِي الشَّرِيعَة وَفِي كَلَام الْعَرَب وَأَشْعَارهَا . وَقَدْ رَوَى اِبْن وَهْب وَابْن الْقَاسِم وَأَشْهَب عَنْ مَالِك أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَة فَقَالَ : النَّاس فِي ذَلِكَ عَلَى قَدْر طَاقَتهمْ وَيُسْرهمْ وَجَلَدهمْ . قَالَ أَشْهَب لِمَالِك : أَهُوَ الزَّاد وَالرَّاحِلَة ؟ . قَالَ : لَا وَاَللَّه , مَا ذَاكَ إِلَّا عَلَى قَدْر طَاقَة النَّاس , وَقَدْ يَجِد الزَّاد وَالرَّاحِلَة وَلَا يَقْدِر عَلَى السَّيْر , وَآخَر يَقْدِر أَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْهِ .</p><p>إِذَا وُجِدَتْ الِاسْتِطَاعَة وَتَوَجَّهَ فُرِضَ الْحَجّ فَقَدْ يَعْرِض مَا يَمْنَع مِنْهُ كَالْغَرِيمِ يَمْنَعهُ عَنْ الْخُرُوج حَتَّى يُؤَدِّيَ الدَّيْن ; وَلَا خِلَاف فِي ذَلِكَ . أَوْ يَكُون لَهُ عِيَال يَجِب عَلَيْهِ نَفَقَتهمْ فَلَا يَلْزَمهُ الْحَجّ حَتَّى يَكُون لَهُمْ نَفَقَتهمْ مُدَّة غَيْبَته لِذَهَابِهِ وَرُجُوعه , لِأَنَّ هَذَا الْإِنْفَاق فَرْض عَلَى الْفَوْر , وَالْحَجّ فَرْض عَلَى التَّرَاخِي , فَكَانَ تَقْدِيم الْعِيَال أَوْلَى . وَقَدْ قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّع مَنْ يَقُوت ) . وَكَذَلِكَ الْأَبَوَانِ يُخَاف الضَّيْعَة عَلَيْهِمَا وَعَدَم الْعِوَض فِي التَّلَطُّف بِهِمَا , فَلَا سَبِيل لَهُ إِلَى الْحَجّ ; فَإِنْ مَنَعَاهُ لِأَجْلِ الشَّوْق وَالْوَحْشَة فَلَا يَلْتَفِت إِلَيْهِ . وَالْمَرْأَة يَمْنَعهَا زَوْجهَا , وَقِيلَ لَا يَمْنَعهَا . وَالصَّحِيح الْمَنْع ; لَا سِيَّمَا إِذَا قُلْنَا إِنَّ الْحَجّ لَا يَلْزَمهُ عَلَى الْفَوْر . وَالْبَحْر لَا يَمْنَع الْوُجُوب إِذَا كَانَ غَالِبه السَّلَامَة - كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانه فِي الْبَقَرَة - وَيَعْلَم مِنْ نَفْسه أَنَّهُ لَا يَمِيد . فَإِنْ كَانَ الْغَالِب عَلَيْهِ الْعَطَب أَوْ الْمَيْد حَتَّى يُعَطِّل الصَّلَاة فَلَا . وَإِنْ كَانَ لَا يَجِد مَوْضِعًا لِسُجُودِهِ لِكَثْرَةِ الرَّاكِب وَضِيق الْمَكَان فَقَدْ قَالَ مَالِك : إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ الرُّكُوع وَالسُّجُود إِلَّا عَلَى ظَهْر أَخِيهِ فَلَا يَرْكَبهُ . ثُمَّ قَالَ : أَيَرْكَبُ حَيْثُ لَا يُصَلِّي وَيْل لِمَنْ تَرَكَ الصَّلَاة وَيَسْقُط الْحَجّ إِذَا كَانَ فِي الطَّرِيق عَدُوّ يَطْلُب الْأَنْفُس أَوْ يَطْلُب مِنْ الْأَمْوَال مَا لَمْ يَتَحَدَّد بِحَدٍّ مَخْصُوص أَوْ يَتَحَدَّد بِقَدْرٍ مُجْحِف . وَفِي سُقُوطه بِغَيْرِ الْمُجْحِف خِلَاف . وَقَالَ الشَّافِعِيّ : لَا يُعْطَى حَبَّة وَيَسْقُط فَرْض الْحَجّ . وَيَجِب عَلَى الْمُتَسَوِّل إِذَا كَانَتْ تِلْكَ عَادَته وَغَلَبَ عَلَى ظَنّه أَنَّهُ يَجِد مَنْ يُعْطِيه . وَقِيلَ لَا يَجِب , عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ مُرَاعَاة الِاسْتِطَاعَة .</p><p>إِذَا زَالَتْ الْمَوَانِع وَلَمْ يَكُنْ عِنْده مِنْ النَّاضّ مَا يَحُجّ بِهِ وَعِنْده عُرُوض فَيَلْزَمهُ أَنْ يَبِيع مِنْ عُرُوضه لِلْحَجِّ مَا يُبَاع عَلَيْهِ فِي الدَّيْن . وَسُئِلَ اِبْن الْقَاسِم عَنْ الرَّجُل تَكُون لَهُ الْقِرْبَة لَيْسَ لَهُ غَيْرهَا , أَيَبِيعُهَا فِي حَجَّة الْإِسْلَام وَيَتْرُك وَلَده وَلَا شَيْء لَهُمْ يَعِيشُونَ بِهِ ؟ . قَالَ : نَعَمْ , ذَلِكَ عَلَيْهِ وَيَتْرُك وَلَده فِي الصَّدَقَة . وَالصَّحِيح الْقَوْل الْأَوَّل ; لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّع مِنْ يَقُوت ) وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيّ . وَالظَّاهِر مِنْ مَذْهَبه أَنَّهُ لَا يَلْزَم الْحَجّ إِلَّا مَنْ لَهُ مَا يَكْفِيه مِنْ النَّفَقَة ذَاهِبًا وَرَاجِعًا - قَالَهُ فِي الْإِمْلَاء - وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَهْل وَعِيَال . وَقَالَ بَعْضهمْ : لَا يَعْتَبِر الرُّجُوع لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ كَبِير مَشَقَّة فِي تَرْكه الْقِيَام بِبَلَدِهِ ; لِأَنَّهُ لَا أَهْل لَهُ فِيهِ وَلَا عِيَال وَكُلّ الْبِلَاد لَهُ وَطَن . وَالْأَوَّل أَصْوَب ; لِأَنَّ الْإِنْسَان يَسْتَوْحِش لِفِرَاقِ وَطَنه كَمَا يَسْتَوْحِش لِفِرَاقِ سَكَنه . أَلَا تَرَى أَنَّ الْبِكْر إِذَا زَنَى جُلِدَ وَغُرِّبَ عَنْ بَلَده سَوَاء كَانَ لَهُ أَهْل أَوْ لَمْ يَكُنْ . قَالَ الشَّافِعِيّ فِي الْأُمّ : إِذَا كَانَ لَهُ مَسْكَن وَخَادِم وَلَهُ نَفَقَة أَهْله بِقَدْرِ غَيْبَته يَلْزَمهُ الْحَجّ . وَظَاهِر هَذَا أَنَّهُ اُعْتُبِرَ أَنْ يَكُون مَال الْحَجّ فَاضِلًا عَنْ الْخَادِم وَالْمَسْكَن ; لِأَنَّهُ قَدَّمَهُ عَلَى نَفَقَة أَهْله , فَكَأَنَّهُ قَالَ بَعْد هَذَا كُلّه . وَقَالَ أَصْحَابه : يَلْزَمهُ أَنْ يَبِيع الْمَسْكَن وَالْخَادِم وَيَكْتَرِي مَسْكَنًا وَخَادِمًا لِأَهْلِهِ , فَإِنْ كَانَ لَهُ بِضَاعَة يَتَّجِر بِهَا وَرِبْحهَا قَدْر كِفَايَته وَكِفَايَة عِيَاله عَلَى الدَّوَام , وَمَتَى أَنْفَقَ مِنْ أَصْل الْبِضَاعَة اِخْتَلَّ عَلَيْهِ رِبْحهَا وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ قَدْر كِفَايَته , فَهَلْ يَلْزَمهُ الْحَجّ مِنْ أَصْل الْبِضَاعَة أَمْ لَا ؟ قَوْلَانِ : الْأَوَّل لِلْجُمْهُورِ وَهُوَ الصَّحِيح الْمَشْهُور ; لِأَنَّهُ لَا خِلَاف فِي أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ عَقَار تَكْفِيه غَلَّته لَزِمَهُ أَنْ يَبِيع أَصْل الْعَقَار فِي الْحَجّ , فَكَذَلِكَ الْبِضَاعَة . وَقَالَ اِبْن شُرَيْح : لَا يَلْزَمهُ ذَلِكَ وَيُبْقِي الْبِضَاعَة وَلَا يَحُجّ مِنْ أَصْلهَا ; لِأَنَّ الْحَجّ إِنَّمَا يَجِب عَلَيْهِ فِي الْفَاضِل مِنْ كِفَايَته . فَهَذَا الْكَلَام فِي الِاسْتِطَاعَة بِالْبَدَنِ وَالْمَال .</p><p>الْمَرِيض وَالْمَعْضُوب , وَالْعَضْب الْقَطْع , وَمِنْهُ سُمِّيَ السَّيْف عَضْبًا , وَكَأَنَّ مَنْ اِنْتَهَى إِلَى أَلَّا يَقْدِر أَنْ يَسْتَمْسِك عَلَى الرَّاحِلَة وَلَا يَثْبُت عَلَيْهَا بِمَنْزِلَةِ مَنْ قُطِعَتْ أَعْضَاؤُهُ ; إِذْ لَا يَقْدِر عَلَى شَيْء . وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي حُكْمهمَا بَعْد إِجْمَاعهمْ أَنَّهُ لَا يَلْزَمهُمَا الْمَسِير إِلَى الْحَجّ ; لِأَنَّ الْحَجّ إِنَّمَا فَرْضه عَلَى الْمُسْتَطِيع إِجْمَاعًا , وَالْمَرِيض وَالْمَعْضُوب لَا اِسْتِطَاعَة لَهُمَا . فَقَالَ مَالِك : إِذَا كَانَ مَعْضُوبًا سَقَطَ عَنْهُ فَرْض الْحَجّ أَصْلًا , سَوَاء كَانَ قَادِرًا عَلَى مَنْ يَحُجّ عَنْهُ بِالْمَالِ أَوْ بِغَيْرِ الْمَال لَا يَلْزَمهُ فَرْض الْحَجّ . وَلَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجّ ثُمَّ عُضِبَ وَزَمِنَ سَقَطَ عَنْهُ فَرْض الْحَجّ ; وَلَا يَجُوز أَنْ يَحُجّ عَنْهُ فِي حَال حَيَاته بِحَالٍ , بَلْ إِنْ أَوْصَى أَنْ يُحَجّ عَنْهُ بَعْد مَوْته حَجّ عَنْهُ مِنْ الثُّلُث , وَكَانَ تَطَوُّعًا ; وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : | وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى | [ النَّجْم : 39 ] فَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ إِلَّا مَا سَعَى . فَمَنْ قَالَ : إِنَّهُ لَهُ سَعْي غَيْره فَقَدْ خَالَفَ ظَاهِر الْآيَة . وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى : | وَلِلَّهِ عَلَى النَّاس حِجّ الْبَيْت | وَهَذَا غَيْر مُسْتَطِيع ; لِأَنَّ الْحَجّ هُوَ قَصْد الْمُكَلَّف الْبَيْت بِنَفْسِهِ وَلِأَنَّهَا عِبَادَة لَا تَدْخُلهَا النِّيَابَة مَعَ الْعَجْز عَنْهَا كَالصَّلَاةِ . وَرَوَى مُحَمَّد بْن الْمُنْكَدِر عَنْ جَابِر قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لَيُدْخِل بِالْحَجَّةِ الْوَاحِدَة ثَلَاثَة الْجَنَّة الْمَيِّت وَالْحَاجّ عَنْهُ وَالْمُنَفِّذ ذَلِكَ ) . خَرَّجَهُ الطَّبَرَانِيّ أَبُو الْقَاسِم سُلَيْمَان بْن أَحْمَد قَالَ حَدَّثَنَا عَمْرو بْن حُصَيْن السَّدُوسِيّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو مَعْشَر عَنْ مُحَمَّد بْن الْمُنْكَدِر ; فَذَكَرَهُ .</p><p>قُلْت : أَبُو مَعْشَر اِسْمه نَجِيح وَهُوَ ضَعِيف عِنْدهمْ . وَقَالَ الشَّافِعِيّ : فِي الْمَرِيض الزَّمِن وَالْمَعْضُوب وَالشَّيْخ الْكَبِير يَكُون قَادِرًا عَلَى مَنْ يُطِيعهُ إِذَا أَمَرَهُ بِالْحَجِّ عَنْهُ فَهُوَ مُسْتَطِيع اِسْتِطَاعَة مَا . وَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدهمَا أَنْ يَكُون قَادِرًا عَلَى مَال يَسْتَأْجِر بِهِ مَنْ يَحُجّ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَلْزَمهُ فَرْض الْحَجّ ; وَهَذَا قَوْل عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ , رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِشَيْخٍ كَبِير لَمْ يَحُجّ : جَهِّزْ رَجُلًا يَحُجّ عَنْك . وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الثَّوْرِيّ وَأَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه وَابْن الْمُبَارَك وَأَحْمَد وَإِسْحَاق . وَالثَّانِي أَنْ يَكُون قَادِرًا عَلَى مَنْ يَبْذُل لَهُ الطَّاعَة وَالنِّيَابَة فَيَحُجّ عَنْهُ ; فَهَذَا أَيْضًا يَلْزَمهُ الْحَجّ عَنْهُ عِنْد الشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَابْن رَاهَوَيْهِ , وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : لَا يَلْزَم الْحَجّ بِبَذْلِ الطَّاعَة بِحَالٍ . اِسْتَدَلَّ الشَّافِعِيّ بِمَا رَوَاهُ اِبْن عَبَّاس أَنَّ اِمْرَأَة مِنْ خَثْعَم سَأَلَتْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ : يَا رَسُول اللَّه , إِنَّ فَرِيضَة اللَّه عَلَى عِبَاده فِي الْحَجّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَسْتَطِيع أَنْ يَثْبُت عَلَى الرَّاحِلَة , أَفَأَحُجُّ عَنْهُ قَالَ : ( نَعَمْ ) . وَذَلِكَ فِي حَجَّة الْوَدَاع . فِي رِوَايَة : لَا يَسْتَطِيع أَنْ يَسْتَوِيَ عَلَى ظَهْر بَعِيره . فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَحُجِّي عَنْهُ أَرَأَيْت لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيك دَيْن أَكُنْت قَاضِيَته ) ؟ قَالَتْ : نَعَمْ . قَالَ : ( فَدَيْن اللَّه أَحَقّ أَنْ يُقْضَى ) . فَأَوْجَبَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَجّ بِطَاعَةِ اِبْنَته إِيَّاهُ وَبَذْلهَا مِنْ نَفْسهَا لَهُ بِأَنْ تَحُجّ عَنْهُ ; فَإِذَا وَجَبَ ذَلِكَ بِطَاعَةِ الْبِنْت لَهُ كَانَ بِأَنْ يَجِب عَلَيْهِ بِقُدْرَتِهِ عَلَى الْمَال الَّذِي يَسْتَأْجِر بِهِ أَوْلَى . فَأَمَّا إِنْ بَذَلَ لَهُ الْمَال دُون الطَّاعَة فَالصَّحِيح أَنَّهُ لَا يَلْزَمهُ قَبُوله وَالْحَجّ بِهِ عَنْ نَفْسه وَلَا يَصِير بِبَذْلِ الْمَال لَهُ مُسْتَطِيعًا . وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : حَدِيث الْخَثْعَمِيَّة لَيْسَ مَقْصُوده الْإِيجَاب وَإِنَّمَا مَقْصُوده الْحَثّ عَلَى بِرّ الْوَالِدَيْنِ وَالنَّظَر فِي مَصَالِحهمَا دُنْيَا وَدِينًا وَجَلْب الْمَنْفَعَة إِلَيْهِمَا جِبِلَّة وَشَرْعًا ; فَلَمَّا رَأَى مِنْ الْمَرْأَة اِنْفِعَالًا وَطَوَاعِيَة ظَاهِرَة وَرَغْبَة صَادِقَة فِي بِرّهَا بِأَبِيهَا وَحِرْصًا عَلَى إِيصَال الْخَيْر وَالثَّوَاب إِلَيْهِ , وَتَأَسَّفَتْ أَنْ تَفُوتهُ بَرَكَة الْحَجّ أَجَابَهَا إِلَى ذَلِكَ . كَمَا قَالَ لِلْأُخْرَى الَّتِي قَالَتْ : إِنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجّ فَلَمْ تَحُجّ حَتَّى مَاتَتْ أَفَأَحُجُّ عَنْهَا ؟ قَالَ : ( حُجِّي عَنْهَا أَرَأَيْت لَوْ كَانَ عَلَى أُمّك دَيْن أَكُنْت قَاضِيَته ) ؟ قَالَتْ : نَعَمْ . فَفِي هَذَا مَا يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ بَاب التَّطَوُّعَات وَإِيصَال الْبِرّ وَالْخَيْرَات لِلْأَمْوَاتِ ; أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ شَبَّهَ فِعْل الْحَجّ بِالدَّيْنِ . وَبِالْإِجْمَاعِ لَوْ مَاتَ مَيِّت وَعَلَيْهِ دَيْن لَمْ يَجِب عَلَى وَلِيّه قَضَاؤُهُ مِنْ مَاله , فَإِنْ تَطَوَّعَ بِذَلِكَ تَأَدَّى الدَّيْن عَنْهُ . وَمِنْ الدَّلِيل عَلَى أَنَّ الْحَجّ فِي هَذَا الْحَدِيث لَيْسَ بِفَرْضٍ عَلَى أَبِيهَا مَا صَرَّحَتْ بِهِ هَذِهِ الْمَرْأَة بِقَوْلِهَا | لَا يَسْتَطِيع | وَمَنْ لَا يَسْتَطِيع لَا يَجِب عَلَيْهِ . وَهَذَا تَصْرِيح بِنَفْيِ الْوُجُوب وَمَنْع الْفَرِيضَة , فَلَا يَجُوز مَا اِنْتَفَى فِي أَوَّل الْحَدِيث قَطْعًا أَنْ يَثْبُت فِي آخِره ظَنًّا ; يُحَقِّقهُ قَوْله : ( فَدَيْن اللَّه أَحَقّ أَنْ يُقْضَى ) فَإِنَّهُ لَيْسَ عَلَى ظَاهِره إِجْمَاعًا ; فَإِنَّ دَيْن الْعَبْد أَوْلَى بِالْقَضَاءِ , وَبِهِ يُبْدَأ إِجْمَاعًا لِفَقْرِ الْآدَمِيّ وَاسْتِغْنَاء اللَّه تَعَالَى ; قَالَهُ اِبْن الْعَرَبِيّ . وَذَكَرَ أَبُو عُمَر بْن عَبْد الْبَرّ أَنَّ حَدِيث الْخَثْعَمِيَّة عِنْد مَالِك وَأَصْحَابه مَخْصُوص بِهَا . وَقَالَ آخَرُونَ : فِيهِ اِضْطِرَاب . وَقَالَ اِبْن وَهْب وَأَبُو مُصْعَب : هُوَ فِي حَقّ الْوَلَد خَاصَّة . وَقَالَ اِبْن حَبِيب : جَاءَتْ الرُّخْصَة فِي الْحَجّ عَنْ الْكَبِير الَّذِي لَا مَنْهَض لَهُ وَلَمْ يَحُجّ وَعَمَّنْ مَاتَ

قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ

قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ

أَيْ تَصْرِفُونَ عَنْ دِين اللَّه وَقَرَأَ الْحَسَن | تُصِدُّونَ | بِضَمِّ التَّاء وَكَسْر الصَّاد وَهُمَا لُغَتَانِ : صَدَّ وَأَصَدَّ ; مِثْل صَلَّ اللَّحْم وَأَصَلَّ إِذَا أَنْتَنَ , وَخَمَّ وَأَخَمَّ أَيْضًا إِذَا تَغَيَّرَ .|اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا|تَطْلُبُونَ لَهَا , فَحَذَفَ اللَّام ; مِثْل | وَإِذَا كَالُوهُمْ | [ الْمُطَفِّفِينَ : 3 ] . يُقَال : بَغَيْت لَهُ كَذَا أَيْ طَلَبْته . وَأَبْغَيْته كَذَا أَيْ أَعَنْته . وَالْعِوَج : الْمَيْل وَالزَّيْغ ( بِكَسْرِ الْعَيْن ) فِي الدِّين وَالْقَوْل وَالْعَمَل وَمَا خَرَجَ عَنْ طَرِيق الِاسْتِوَاء . و ( بِالْفَتْحِ ) فِي الْحَائِط وَالْجِدَار وَكُلّ شَخْص قَائِم ; عَنْ أَبِي عُبَيْدَة وَغَيْره . وَمَعْنَى قَوْله تَعَالَى : | يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَج لَهُ | [ طَه : 108 ] أَيْ لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يَعْوَجُّوا عَنْ دُعَائِهِ . وَعَاجَ بِالْمَكَانِ وَعَوَّجَ أَقَامَ وَوَقَفَ . وَالْعَائِج الْوَاقِف ; قَالَ الشَّاعِر : <br>هَلْ أَنْتُمْ عَائِجُونَ بِنَا لَعَنَّا .......... نَرَى الْعَرَصَات أَوْ أَثَر الْخِيَام <br>وَالرَّجُل الْأَعْوَج : السَّيِّئ الْخُلُق , وَهُوَ بَيِّن الْعِوَج . وَالْعُوج مِنْ الْخَيْل الَّتِي فِي أَرْجُلهَا تَحْنِيب . وَالْأَعْوَجِيَّة مِنْ الْخَيْل تُنْسَب إِلَى فَرَس كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّة سَابِقًا . وَيُقَال : فَرَس مُحَنَّب إِذَا كَانَ بَعِيد مَا بَيْنَ الرِّجْلَيْنِ بِغَيْرِ فَحَج , وَهُوَ مَدْح . وَيُقَال : الْحَنَب اِعْوِجَاج فِي السَّاقَيْنِ . قَالَ الْخَلِيل التَّحْنِيب يُوصَف فِي الشِّدَّة , وَلَيْسَ ذَلِكَ بِاعْوِجَاجٍ .|عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا|أَيْ عُقَلَاء . وَقِيلَ : شُهَدَاء أَنَّ فِي التَّوْرَاة مَكْتُوبًا أَنَّ دِين اللَّه الَّذِي لَا يَقْبَل غَيْره الْإِسْلَام , إِذْ فِيهِ نَعْت مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ

يَعْنِي الْأَوْس وَالْخَزْرَج .|آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا|يَعْنِي شَاسًا وَأَصْحَابه . نَزَلَتْ فِي يَهُودِيّ أَرَادَ تَجْدِيد الْفِتْنَة بَيْنَ الْأَوْس وَالْخَزْرَج بَعْد اِنْقِطَاعهَا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَجَلَسَ بَيْنهمْ وَأَنْشَدَهُمْ شِعْرًا قَالَهُ أَحَد الْحَيَّيْنِ فِي حَرْبهمْ . فَقَالَ الْحَيّ الْآخَر : قَدْ قَالَ شَاعِرنَا فِي يَوْم كَذَا وَكَذَا , فَكَأَنَّهُمْ دَخَلَهُمْ مِنْ ذَلِكَ شَيْء , فَقَالُوا : تَعَالَوْا نَرُدّ الْحَرْب جَذْعَاء كَمَا كَانَتْ . فَنَادَى هَؤُلَاءِ : يَا آل أَوْس . وَنَادَى هَؤُلَاءِ . يَا آل خَزْرَج ; فَاجْتَمَعُوا وَأَخَذُوا السِّلَاح وَاصْطَفُّوا لِلْقِتَالِ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة ; فَجَاءَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى وَقَفَ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ فَقَرَأَهَا وَرَفَعَ صَوْته , فَلَمَّا سَمِعُوا صَوْته أَنْصَتُوا لَهُ وَجَعَلُوا يَسْتَمِعُونَ , فَلَمَّا فَرَغَ أَلْقَوْا السِّلَاح وَعَانَقَ بَعْضهمْ بَعْضًا وَجَعَلُوا يَبْكُونَ ; عَنْ عِكْرِمَة وَابْن زَيْد وَابْن عَبَّاس . وَاَلَّذِي فَعَلَ ذَلِكَ شَاس بْن قَيْس الْيَهُودِيّ , دَسَّ عَلَى الْأَوْس وَالْخَزْرَج مَنْ يُذَكِّرهُمْ مَا كَانَ بَيْنهمْ مِنْ الْحُرُوب , وَأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَاهُمْ وَذَكَّرَهُمْ , فَعَرَفَ الْقَوْم أَنَّهَا نَزْغَة مِنْ الشَّيْطَان , وَكَيْد مِنْ عَدُوّهُمْ ; فَأَلْقَوْا السِّلَاح مِنْ أَيْدِيهمْ وَبَكَوْا وَعَانَقَ بَعْضهمْ بَعْضًا , ثُمَّ اِنْصَرَفُوا مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَامِعِينَ مُطِيعِينَ ;|الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ|قَالَ جَابِر بْن عَبْد اللَّه : مَا كَانَ طَالِع أَكْرَه إِلَيْنَا مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَأَوْمَأَ إِلَيْنَا بِيَدِهِ فَكَفَفْنَا وَأَصْلَحَ اللَّه تَعَالَى مَا بَيْننَا ; فَمَا كَانَ شَخْص أَحَبّ إِلَيْنَا مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَمَا رَأَيْت يَوْمًا أَقْبَح وَلَا أَوْحَش أَوَّلًا وَأَحْسَن آخِرًا مِنْ ذَلِكَ الْيَوْم .

وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آَيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ

قَالَهُ تَعَالَى عَلَى جِهَة التَّعَجُّب , أَيْ | وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَات اللَّه | يَعْنِي الْقُرْآن .|وَفِيكُمْ رَسُولُهُ|مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قَالَ اِبْن عَبَّاس : كَانَ بَيْنَ الْأَوْس وَالْخَزْرَج قِتَال وَشَرّ فِي الْجَاهِلِيَّة , فَذَكَرُوا مَا كَانَ بَيْنهمْ فَثَارَ بَعْضهمْ عَلَى بَعْض بِالسُّيُوفِ ; فَأَتَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَذَهَبَ إِلَيْهِمْ ; فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة | وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَات اللَّه وَفِيكُمْ رَسُوله - إِلَى قَوْله تَعَالَى : فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا | وَيَدْخُل فِي هَذِهِ الْآيَة مَنْ لَمْ يَرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; لِأَنَّ مَا فِيهِمْ مِنْ سُنَّته يَقُوم مَقَام رُؤْيَته . قَالَ الزَّجَّاج : يَجُوز أَنْ يَكُون هَذَا الْخِطَاب لِأَصْحَابِ مُحَمَّد خَاصَّة ; لِأَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِيهِمْ وَهُمْ يُشَاهِدُونَهُ . وَيَجُوز أَنْ يَكُون هَذَا الْخِطَاب لِجَمِيعِ الْأُمَّة ; لِأَنَّ آثَاره وَعَلَامَاته وَالْقُرْآن الَّذِي أُوتِيَ فِينَا مَكَان النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِينَا وَإِنْ لَمْ نُشَاهِدهُ . وَقَالَ قَتَادَة : فِي هَذِهِ الْآيَة عَلَمَانِ بَيِّنَانِ : كِتَاب اللَّه وَنَبِيّ اللَّه ; فَأَمَّا نَبِيّ اللَّه فَقَدْ مَضَى , وَأَمَّا كِتَاب اللَّه فَقَدْ أَبْقَاهُ بَيْنَ أَظْهُرهمْ رَحْمَة مِنْهُ وَنِعْمَة ; فِيهِ حَلَاله وَحَرَامه , وَطَاعَته وَمَعْصِيَته . | وَكَيْفَ | فِي مَوْضِع نَصْب , وَفُتِحَتْ الْفَاء عِنْد الْخَلِيل وَسِيبَوَيْهِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ , وَاخْتِيرَ لَهَا الْفَتْح لِأَنَّ مَا قَبْل الْفَاء يَاء فَثَقُلَ أَنْ يَجْمَعُوا بَيْنَ يَاء وَكَسْرَة .|وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ|أَيْ يَمْتَنِع وَيَتَمَسَّك بِدِينِهِ وَطَاعَته .|فَقَدْ هُدِيَ|وُفِّقَ وَأُرْشِدَ|إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ|اِبْن جُرَيْج | يَعْتَصِم بِاَللَّهِ | يُؤْمِن بِهِ . وَقِيلَ : الْمَعْنَى وَمَنْ يَعْتَصِم بِاَللَّهِ أَيْ يَتَمَسَّك بِحَبْلِ اللَّه , وَهُوَ الْقُرْآن . يُقَال : أَعْصَمَ بِهِ وَاعْتَصَمَ , وَتَمَسَّكَ وَاسْتَمْسَكَ إِذَا اِمْتَنَعَ بِهِ مِنْ غَيْره . وَاعْتَصَمْت فُلَانًا هَيَّأْت لَهُ مَا يَعْتَصِم بِهِ . وَكُلّ مُتَمَسِّك بِشَيْءٍ مُعْصِم وَمُعْتَصِم . وَكُلّ مَانِع شَيْئًا فَهُوَ عَاصِم ; قَالَ الْفَرَزْدَق : <br>أَنَا اِبْن الْعَاصِمَيْنِ بَنِي تَمِيم .......... إِذَا مَا أَعْظَم الْحَدَثَانِ نَابَا <br>قَالَ النَّابِغَة : <br>يَظَلّ مِنْ خَوْفه الْمَلَّاح مُعْتَصِمًا .......... بِالْخَيْزُرَانَةِ بَعْد الْأَيْن وَالنَّجَد <br>وَقَالَ آخَر : <br>فَأَشْرَطَ فِيهَا نَفْسه وَهْوَ مُعْصِم .......... وَأَلْقَى بِأَسْبَابٍ لَهُ وَتَوَكَّلَا <br>وَعَصَمَهُ الطَّعَام : مَنَعَ الْجُوع مِنْهُ ; تَقُول الْعَرَب : عَصَمَ فُلَانًا الطَّعَام أَيْ مَنَعَهُ مِنْ الْجُوع ; فَكَنَّوْا السَّوِيق بِأَبِي عَاصِم لِذَلِكَ . قَالَ أَحْمَد بْن يَحْيَى : الْعَرَب تُسَمِّي الْخُبْز عَاصِمًا وَجَابِرًا ; وَأَنْشَدَ : <br>فَلَا تَلُومِينِي وَلُومِي جَابِرًا .......... فَجَابِر كَلَّفَنِي الْهَوَاجِرَا <br>وَيُسَمُّونَهُ عَامِرًا . وَأَنْشَدَ : <br>أَبُو مَالِك يَعْتَادنِي بِالظَّهَائِرِ .......... يَجِيء فَيُلْقِي رَحْلَهُ عِنْد عَامِر <br>أَبُو مَالِك كَنِيَّةِ الْجُوع .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ

رَوَى الْبُخَارِيّ عَنْ مُرَّة عَنْ عَبْد اللَّه قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( حَقّ تُقَاته أَنْ يُطَاع فَلَا يُعْصَى وَأَنْ يُذْكَر فَلَا يُنْسَى وَأَنْ يُشْكَر فَلَا يُكْفَر . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : هُوَ أَلَّا يُعْصَى طَرْفَة عَيْن . وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة قَالُوا : يَا رَسُول اللَّه , مَنْ يَقْوَى عَلَى هَذَا ؟ وَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : | فَاتَّقُوا اللَّه مَا اِسْتَطَعْتُمْ | [ التَّغَابُن : 16 ] فَنَسَخَتْ هَذِهِ الْآيَة ; عَنْ قَتَادَة وَالرَّبِيع وَابْن زَيْد . قَالَ مُقَاتِل : وَلَيْسَ فِي آل عِمْرَان مِنْ الْمَنْسُوخ شَيْء إِلَّا هَذِهِ الْآيَة . وَقِيلَ : إِنَّ قَوْله | فَاتَّقُوا اللَّه مَا اِسْتَطَعْتُمْ | بَيَان لِهَذِهِ الْآيَة . وَالْمَعْنَى : فَاتَّقُوا اللَّه حَقّ تُقَاته مَا اِسْتَطَعْتُمْ , وَهَذَا أَصْوَب ; لِأَنَّ النَّسْخ إِنَّمَا يَكُون عِنْد عَدَم الْجَمْع وَالْجَمْع مُمْكِن فَهُوَ أَوْلَى . وَقَدْ رَوَى عَلِيّ بْن أَبِي طَلْحَة عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ | يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اللَّه حَقّ تُقَاته | لَمْ تُنْسَخ , وَلَكِنْ | حَقّ تُقَاته | أَنْ يُجَاهَد فِي سَبِيل اللَّه حَقّ جِهَاده , وَلَا تَأْخُذكُمْ فِي اللَّه لَوْمَة لَائِم , وَتَقُومُوا بِالْقِسْطِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسكُمْ وَأَبْنَائِكُمْ . قَالَ النَّحَّاس : وَكُلَّمَا ذُكِرَ فِي الْآيَة وَاجِب عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَسْتَعْمِلُوهُ وَلَا يَقَع فِيهِ نَسْخ .|تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ|إِيجَاز بَلِيغ . وَالْمَعْنَى : اِلْزَمُوا الْإِسْلَام وَدُومُوا عَلَيْهِ وَلَا تُفَارِقُوهُ حَتَّى تَمُوتُوا . فَأَتَى بِلَفْظٍ مُوجِز يَتَضَمَّن الْمَقْصُود , وَيَتَضَمَّن وَعْظًا وَتَذْكِيرًا بِالْمَوْتِ ; وَذَلِكَ أَنَّ الْمَرْء يَتَحَقَّق أَنَّهُ يَمُوت وَلَا يَدْرِي مَتَى ; فَإِذَا أُمِرَ بِأَمْرٍ لَا يَأْتِيه الْمَوْت إِلَّا وَهُوَ عَلَيْهِ , فَقَدْ تَوَجَّهَ الْخِطَاب مِنْ وَقْت الْأَمْر دَائِبًا لَازِمًا . | لَا | نَهْي | تَمُوتُنَّ | فِي مَوْضِع جَزْم بِالنَّهْيِ , أُكِّدَ بِالنُّونِ الثَّقِيلَة , وَحُذِفَتْ الْوَاو لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ . | إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ | اِبْتِدَاء وَخَبَر فِي مَوْضِع الْحَال ; أَيْ مُحْسِنُونَ بِرَبِّكُمْ الظَّنّ , وَقِيلَ مُخْلِصُونَ , وَقِيلَ مُفَوِّضُونَ , وَقِيلَ مُؤْمِنُونَ .

وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْ

الْعِصْمَة الْمَنَعَة ; وَمِنْهُ يُقَال لِلْبَذْرَقَةِ : عِصْمَة . وَالْبَذْرَقَة : الْخَفَارَة لِلْقَافِلَةِ , وَذَلِكَ بِأَنْ يُرْسِل مَعَهَا مَنْ يَحْمِيهَا مِمَّنْ يُؤْذِيهَا . قَالَ اِبْن خَالَوَيْهِ : الْبَذْرَقَة لَيْسَتْ بِعَرَبِيَّةٍ وَإِنَّمَا هِيَ كَلِمَة فَارِسِيَّة عَرَّبَتْهَا الْعَرَب ; يُقَال : بَعَثَ السُّلْطَان بَذْرَقَة مَعَ الْقَافِلَة . وَالْحَبْل لَفْظ مُشْتَرَك , وَأَصْله فِي اللُّغَة السَّبَب الَّذِي يُوصَل بِهِ إِلَى الْبُغْيَة وَالْحَاجَة . وَالْحَبْل : حَبْل الْعَاتِق . وَالْحَبْل : مُسْتَطِيل مِنْ الرَّمْل ; وَمِنْهُ الْحَدِيث : وَاَللَّه مَا تَرَكْت مِنْ حَبْل إِلَّا وَقَفْت عَلَيْهِ , فَهَلْ لِي مِنْ حَجّ ; وَالْحَبْل الرَّسَن . وَالْحَبْل الْعَهْد ; قَالَ الْأَعْشَى : <br>وَإِذَا تُجَوِّزهَا جِبَال قَبِيلَة .......... أَخَذَتْ مِنْ الْأُخْرَى إِلَيْك حِبَالهَا <br>يُرِيد الْأَمَان . وَالْحَبْل الدَّاهِيَة ; قَالَ كُثَيِّر : <br>فَلَا تَعْجَلِي يَا عَزُّ أَنْ تَتَفَهَّمِي .......... بِنُصْحٍ أَتَى الْوَاشُونَ أَمْ بِحُبُولِ <br>وَالْحِبَالَة : حِبَالَة الصَّائِد . وَكُلّهَا لَيْسَ مُرَادًا فِي الْآيَة إِلَّا الَّذِي بِمَعْنَى الْعَهْد ; عَنْ اِبْن عَبَّاس . وَقَالَ اِبْن مَسْعُود : حَبْل اللَّه الْقُرْآن . وَرَوَاهُ عَلِيّ وَأَبُو سَعِيد الْخُدْرِيّ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَعَنْ مُجَاهِد وَقَتَادَة مِثْل ذَلِكَ . وَأَبُو مُعَاوِيَة عَنْ الْهَجَرِيّ عَنْ أَبِي الْأَحْوَص عَنْ عَبْد اللَّه قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ هَذَا الْقُرْآن هُوَ حَبْل اللَّه ) . وَرَوَى تَقِيّ بْن مَخْلَد حَدَّثَنَا يَحْيَى بْن الْحَمِيد حَدَّثَنَا هُشَيْم عَنْ الْعَوَّام بْن حَوْشَب عَنْ الشَّعْبِيّ عَنْ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود | وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّه جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا | قَالَ : الْجَمَاعَة ; رُوِيَ عَنْهُ وَعَنْ غَيْره مِنْ وُجُوه , وَالْمَعْنَى كُلّه مُتَقَارِب مُتَدَاخِل ; فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى يَأْمُر بِالْأُلْفَةِ وَيَنْهَى عَنْ الْفُرْقَة فَإِنَّ الْفُرْقَة هَلَكَة وَالْجَمَاعَة نَجَاة . وَرَحِمَ اللَّه اِبْن الْمُبَارَك حَيْثُ قَالَ : <br>إِنَّ الْجَمَاعَة حَبْل اللَّه فَاعْتَصِمُوا .......... مِنْهُ بِعُرْوَتِهِ الْوُثْقَى لِمَنْ دَانَا<br>|وَلَا تَفَرَّقُوا|يَعْنِي فِي دِينكُمْ كَمَا اِفْتَرَقَتْ الْيَهُود وَالنَّصَارَى فِي أَدْيَانهمْ ; عَنْ اِبْن مَسْعُود وَغَيْره . وَيَجُوز أَنْ يَكُون مَعْنَاهُ وَلَا تَفَرَّقُوا مُتَابَعِينَ لِلْهَوَى وَالْأَغْرَاض الْمُخْتَلِفَة , وَكُونُوا فِي دِين اللَّه إِخْوَانًا ; فَيَكُون ذَلِكَ مَنْعًا لَهُمْ عَنْ التَّقَاطُع وَالتَّدَابُر ; وَدَلَّ عَلَيْهِ مَا بَعْده وَهُوَ قَوْله تَعَالَى : | وَاذْكُرُوا نِعْمَة اللَّه عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا | . وَلَيْسَ فِيهِ دَلِيل عَلَى تَحْرِيم الِاخْتِلَاف فِي الْفُرُوع ; فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ اِخْتِلَافًا إِذْ الِاخْتِلَاف مَا يَتَعَذَّر مَعَهُ الِائْتِلَاف وَالْجَمْع , وَأَمَّا حُكْم مَسَائِل الِاجْتِهَاد فَإِنَّ الِاخْتِلَاف فِيهَا بِسَبَبِ اِسْتِخْرَاج الْفَرَائِض وَدَقَائِق مَعَانِي الشَّرْع ; وَمَا زَالَتْ الصَّحَابَة يَخْتَلِفُونَ فِي أَحْكَام الْحَوَادِث , وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ مُتَآلِفُونَ . وَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( اِخْتِلَاف أُمَّتِي رَحْمَة ) وَإِنَّمَا مَنَعَ اللَّه اِخْتِلَافًا هُوَ سَبَب الْفَسَاد . رَوَى التِّرْمِذِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( تَفَرَّقَتْ الْيَهُود عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَة أَوْ اِثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَة وَالنَّصَارَى مِثْل ذَلِكَ وَتَفْتَرِق أُمَّتِي عَلَى ثَلَاث وَسَبْعِينَ فِرْقَة ) . قَالَ التِّرْمِذِيّ : هَذَا حَدِيث صَحِيح . وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا عَنْ اِبْن عُمَر قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ سَلَّمَ : ( لَيَأْتِيَنَّ عَلَى أُمَّتِي مَا أَتَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيل حَذْو النَّعْل بِالنَّعْلِ حَتَّى لَوْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَأْتِي أُمّه عَلَانِيَة لَكَانَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَصْنَع ذَلِكَ وَإِنَّ بَنِي إِسْرَائِيل تَفَرَّقَتْ اِثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّة وَتَفْتَرِق أُمَّتِي عَلَى ثَلَاث وَسَبْعِينَ مِلَّة كُلّهمْ فِي النَّار إِلَّا مِلَّة وَاحِدَة ) قَالُوا : مَنْ هِيَ يَا رَسُول اللَّه ؟ قَالَ : ( مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي ) . أَخْرَجَهُ مِنْ حَدِيث عَبْد اللَّه بْن زِيَاد الْإِفْرِيقِيّ , عَنْ عَبْد اللَّه بْن يَزِيد عَنْ اِبْن عُمَر , وَقَالَ : هَذَا حَدِيث حَسَن غَرِيب لَا نَعْرِفهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْه . قَالَ أَبُو عُمَر : وَعَبْد اللَّه الْإِفْرِيقِيّ ثِقَة وَثَّقَهُ قَوْمه وَأَثْنَوْا عَلَيْهِ , وَضَعَّفَهُ آخَرُونَ . وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنه مِنْ حَدِيث مُعَاوِيَة بْن أَبِي سُفْيَان عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( قَالَ أَلَا إِنَّ مَنْ قَبْلكُمْ مِنْ أَهْل الْكِتَاب اِفْتَرَقُوا عَلَى اِثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّة وَإِنَّ هَذِهِ الْمِلَّة سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلَاث وَسَبْعِينَ ثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّار وَوَاحِدَة فِي الْجَنَّة وَهِيَ الْجَمَاعَة وَإِنَّهُ سَيَخْرُجُ مِنْ أُمَّتِي أَفْوَاج تَجَارَى بِهِمْ تِلْكَ الْأَهْوَاء كَمَا يَتَجَارَى الْكَلْب بِصَاحِبِهِ لَا يَبْقَى مِنْهُ عِرْق وَلَا مَفْصِل إِلَّا دَخَلَهُ ) . وَفِي سُنَن اِبْن مَاجَهْ عَنْ أَنَس بْن مَالِك قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ فَارَقَ الدُّنْيَا عَلَى الْإِخْلَاص لِلَّهِ وَحْده وَعِبَادَته لَا شَرِيك لَهُ وَإِقَام الصَّلَاة وَإِيتَاء الزَّكَاة مَاتَ وَاَللَّه عَنْهُ رَاضٍ ) . قَالَ أَنَس : وَهُوَ دِين اللَّه الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الرُّسُل وَبَلَّغُوهُ عَنْ رَبّهمْ قَبْل هَرْج الْأَحَادِيث وَاخْتِلَاف الْأَهْوَاء , وَتَصْدِيق ذَلِكَ فِي كِتَاب اللَّه فِي آخِر مَا نَزَلَ , يَقُول اللَّه : | فَإِنْ تَابُوا | [ التَّوْبَة : 11 ] قَالَ : خَلَعُوا الْأَوْثَان وَعِبَادَتهَا | وَأَقَامُوا الصَّلَاة وَآتَوْا الزَّكَاة | , وَقَالَ فِي آيَة أُخْرَى : | فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاة وَآتَوْا الزَّكَاة فَإِخْوَانكُمْ فِي الدِّين | . أَخْرَجَهُ عَنْ نَصْر بْن عَلِيّ الْجَهْضَمِيّ عَنْ أَبِي أَحْمَد عَنْ أَبِي جَعْفَر الرَّازِيّ عَنْ الرَّبِيع بْن أَنَس عَنْ أَنَس . قَالَ أَبُو الْفَرَج الْجَوْزِيّ : فَإِنْ قِيلَ هَذِهِ الْفِرَق مَعْرُوفَة ; فَالْجَوَاب أَنَّا نَعْرِف الِافْتِرَاق وَأُصُول الْفِرَق وَأَنَّ كُلّ طَائِفَة مِنْ الْفِرَق اِنْقَسَمَتْ إِلَى فِرَق , وَإِنْ لَمْ نُحِطْ بِأَسْمَاءِ تِلْكَ الْفِرَق وَمَذَاهِبهَا , فَقَدْ ظَهَرَ لَنَا مِنْ أُصُول الْفِرَق الْحَرُورِيَّة وَالْقَدَرِيَّة وَالْجَهْمِيَّة وَالْمُرْجِئَة وَالرَّافِضَة وَالْجَبْرِيَّة . وَقَالَ بَعْض أَهْل الْعِلْم : أَصْل الْفِرَق الضَّالَّة هَذِهِ الْفِرَق السِّتّ , وَقَدْ اِنْقَسَمَتْ كُلّ فِرْقَة مِنْهَا اِثْنَتَيْ عَشْرَة فِرْقَة , فَصَارَتْ اِثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَة .</p><p>اِنْقَسَمَتْ الْحَرُورِيَّة اِثْنَتَيْ عَشْرَة فِرْقَة ; فَأَوَّلهمْ الْأَزْرَقِيَّة - قَالُوا : لَا نَعْلَم أَحَدًا مُؤْمِنًا ; وَكَفَّرُوا أَهْل الْقِبْلَة إِلَّا مَنْ دَانَ بِقَوْلِهِمْ . والْإِبَاضِيَّة - قَالُوا : مَنْ أَخَذَ بِقَوْلِنَا فَهُوَ مُؤْمِن , وَمَنْ أَعْرِض عَنْهُ فَهُوَ مُنَافِق . وَالثَّعْلَبِيَّة - قَالُوا : إِنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَقْضِ وَلَمْ يُقَدِّر . وَالْخَازِمِيَّة - قَالُوا : لَا نَدْرِي مَا الْإِيمَان , وَالْخَلْق كُلّهمْ مَعْذُورُونَ . وَالْخَلَفِيَّة - زَعَمُوا أَنَّ مَنْ تَرَكَ الْجِهَاد مِنْ ذَكَر أَوْ أُنْثَى كَفَرَ . والكوزية - قَالُوا : لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَمَسّ أَحَدًا , لِأَنَّهُ لَا يُعْرَف الطَّاهِر مِنْ النَّجَس وَلَا أَنْ يُؤَاكِلهُ حَتَّى يَتُوب وَيَغْتَسِل . وَالْكَنْزِيَّة - قَالُوا : لَا يَسَع أَحَدًا أَنْ يُعْطِي مَاله أَحَدًا ; لِأَنَّهُ رُبَّمَا لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقًّا بَلْ يَكْنِزهُ فِي الْأَرْض حَتَّى يَظْهَر أَهْل الْحَقّ . وَالشِّمْرَاخِيَّة - قَالُوا : لَا بَأْس بِمَسِّ النِّسَاء الْأَجَانِب لِأَنَّهُنَّ رَيَاحِين . وَالْأَخْنَسِيَّة - قَالُوا : لَا يَلْحَق الْمَيِّت بَعْد مَوْته خَيْر وَلَا شَرّ . وَالْحَكَمِيَّة - قَالُوا : مَنْ حَاكَمَ إِلَى مَخْلُوق فَهُوَ كَافِر . وَالْمُعْتَزِلَة - قَالُوا : اِشْتَبَهَ عَلَيْنَا أَمْر عَلِيّ وَمُعَاوِيَة فَنَحْنُ نَتَبَرَّأ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ . وَالْمَيْمُونِيَّة - قَالُوا : لَا إِمَام إِلَّا بِرِضَا أَهْل مَحَبَّتنَا .</p><p>وَانْقَسَمَتْ الْقَدَرِيَّة اِثْنَتَيْ عَشْرَة فِرْقَة : الْأَحْمَرِيَّة - وَهِيَ الَّتِي زَعَمَتْ أَنَّ فِي شَرْط الْعَدْل مِنْ اللَّه أَنْ يُمَلِّك عِبَاده أُمُورهمْ , وَيَحُول بَيْنهمْ وَبَيْنَ مَعَاصِيهمْ . وَالثَّنَوِيَّة - وَهِيَ الَّتِي زَعَمَتْ أَنَّ الْخَيْر مِنْ اللَّه وَالشَّرّ مِنْ الشَّيْطَان . وَالْمُعْتَزِلَة - وَهُمْ الَّذِينَ قَالُوا بِخَلْقِ الْقُرْآن وَجَحَدُوا صِفَات الرُّبُوبِيَّة . وَالْكَيْسَانِيَّة وَهُمْ الَّذِينَ قَالُوا : لَا نَدْرِي هَذِهِ الْأَفْعَال مِنْ اللَّه أَوْ مِنْ الْعِبَاد , وَلَا نَعْلَم أَيُثَابُ النَّاس بَعْد أَوْ يُعَاقَبُونَ وَالشَّيْطَانِيَّة - قَالُوا : إِنَّ اللَّه تَعَالَى لَمْ يَخْلُق الشَّيْطَان . وَالشَّرِيكِيَّة - قَالُوا : إِنَّ السَّيِّئَات كُلّهَا مُقَدَّرَة إِلَّا الْكُفْر . وَالْوَهْمِيَّة - قَالُوا : لَيْسَ لِأَفْعَالِ الْخَلْق وَكَلَامهمْ ذَات , وَلَا لِلْحَسَنَةِ وَالسَّيِّئَة ذَات . وَالزِّبْرِيَّة - قَالُوا : كُلّ كِتَاب نَزَلَ مِنْ عِنْد اللَّه فَالْعَمَل بِهِ حَقّ , نَاسِخًا كَانَ أَوْ مَنْسُوخًا .والمسعدية زَعَمُوا أَنَّ مَنْ عَصَى ثُمَّ تَابَ لَمْ تُقْبَل تَوْبَته . وَالنَّاكِثِيَّة - زَعَمُوا أَنَّ مَنْ نَكَثَ بَيْعَة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا إِثْم عَلَيْهِ وَالْقَاسِطِيَّة - تَبِعُوا إِبْرَاهِيم بْن النَّظَّام فِي قَوْله : مَنْ زَعَمَ أَنَّ اللَّه شَيْء فَهُوَ كَافِر . وَانْقَسَمَتْ الْجَهْمِيَّة اِثْنَتَيْ عَشْرَة فِرْقَة : الْمُعَطِّلَة - زَعَمُوا أَنَّ كُلّ مَا يَقَع عَلَيْهِ وَهْم الْإِنْسَان فَهُوَ مَخْلُوق . وَإِنَّ مَنْ اِدَّعَى أَنَّ اللَّه يَرَى فَهُوَ كَافِر . وَالْمَرِيسِيَّة قَالُوا : أَكْثَر صِفَات اللَّه تَعَالَى مَخْلُوقَة . وَالْمُلْتَزِقَة - جَعَلُوا الْبَارِي سُبْحَانه فِي كُلّ مَكَان . وَالْوَارِدِيَّة - قَالُوا لَا يَدْخُل النَّار مَنْ عَرَفَ رَبّه , وَمَنْ دَخَلَهَا لَمْ يَخْرُج مِنْهَا أَبَدًا وَالزَّنَادِقَة - قَالُوا : لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُثْبِت لِنَفْسِهِ رَبًّا ; لِأَنَّ الْإِثْبَات لَا يَكُون إِلَّا بَعْد إِدْرَاك الْحَوَاسّ . وَمَا لَا يُدْرَك لَا يُثْبَت . وَالْحَرْقِيَّة - زَعَمُوا أَنَّ الْكَافِر تَحْرُقهُ النَّار مَرَّة وَاحِدَة ثُمَّ يَبْقَى مُحْتَرِقًا أَبَدًا لَا يَجِد حَرّ النَّار . وَالْمَخْلُوقِيَّة - زَعَمُوا أَنَّ الْقُرْآن مَخْلُوق . وَالْفَانِيَة - زَعَمُوا أَنَّ الْجَنَّة وَالنَّار يَفْنَيَانِ , وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ لَمْ يُخْلَقَا . وَالْعَبْدِيَّة - جَحَدُوا الرُّسُل وَقَالُوا إِنَّمَا هُمْ حُكَمَاء . وَالْوَاقِفِيَّة - قَالُوا : لَا نَقُول إِنَّ الْقُرْآن مَخْلُوق وَلَا غَيْر مَخْلُوق . وَالْقَبْرِيَّة - يُنْكِرُونَ عَذَاب الْقَبْر وَالشَّفَاعَة . وَاللَّفْظِيَّة - قَالُوا لَفْظنَا بِالْقُرْآنِ مَخْلُوق .</p><p>وَانْقَسَمَتْ الْمُرْجِئَة اِثْنَتَيْ عَشْرَة فِرْقَة : التَّارِكِيَّة - قَالُوا لَيْسَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى خَلْقه فَرِيضَة سِوَى الْإِيمَان بِهِ , فَمَنْ آمَنَ بِهِ فَلْيَفْعَلْ مَا شَاءَ . وَالسَّائِبِيَّة - قَالُوا : إِنَّ اللَّه تَعَالَى سَيَّبَ خَلْقه لِيَفْعَلُوا مَا شَاءُوا . وَالرَّاجِيَة - قَالُوا : لَا يُسَمَّى الطَّائِع طَائِعًا وَلَا الْعَاصِي عَاصِيًا , لِأَنَّا لَا نَدْرِي مَا لَهُ عِنْد اللَّه تَعَالَى . وَالسَّالِبِيَّة - قَالُوا : الطَّاعَة لَيْسَتْ مِنْ الْإِيمَان . وَالْبَهْيَشِيَّة - قَالُوا : الْإِيمَان عِلْم وَمَنْ لَا يَعْلَم الْحَقّ مِنْ الْبَاطِل وَالْحَلَال مِنْ الْحَرَام فَهُوَ كَافِر . وَالْعَمَلِيَّة - قَالُوا : الْإِيمَان عَمَل . وَالْمَنْقُوصِيَّة - قَالُوا : الْإِيمَان لَا يَزِيد وَلَا يَنْقُص . وَالْمُسْتَثْنِيَة - قَالُوا : الِاسْتِثْنَاء مِنْ الْإِيمَان . وَالْمُشَبِّهَة - قَالُوا : بَصَر كَبَصَرٍ وَيَد كَيَدٍ . وَالْحَشْوِيَّة - قَالُوا : حُكْم الْأَحَادِيث كُلّهَا وَاحِد ; فَعِنْدهمْ أَنَّ تَارِك النَّفْل كَتَارِكِ الْفَرْض . وَالظَّاهِرِيَّة الَّذِينَ نَفَوْا الْقِيَاس . وَالْبِدْعِيَّة - أَوَّل مَنْ اِبْتَدَعَ هَذِهِ الْأَحْدَاث فِي هَذِهِ الْأُمَّة .</p><p>وَانْقَسَمَتْ الرَّافِضَة اِثْنَتَيْ عَشْرَة فِرْقَة : الْعَلَوِيَّة - قَالُوا : إِنَّ الرِّسَالَة كَانَتْ إِلَى عَلِيّ وَأَنَّ جِبْرِيل أَخْطَأَ . وَالْأَمِرِيَّة - قَالُوا : إِنَّ عَلِيًّا شَرِيك مُحَمَّد فِي أَمْرِهِ . وَالشِّيعَة - قَالُوا : إِنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَصِيّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَلِيّه مِنْ بَعْده , وَإِنَّ الْأُمَّة كَفَرَتْ بِمُبَايَعَةِ غَيْره . وَالْإِسْحَاقِيَّة - قَالُوا : إِنَّ النُّبُوَّة مُتَّصِلَة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة , وَكُلّ مَنْ يَعْلَم عِلْم أَهْل الْبَيْت فَهُوَ نَبِيّ . وَالنَّاوُوسِيَّة - قَالُوا : عَلِيّ أَفْضَل الْأُمَّة , فَمَنْ فَضَّلَ غَيْره عَلَيْهِ فَقَدْ كَفَرَ . وَالْإِمَامِيَّة - قَالُوا : لَا يُمْكِن أَنْ تَكُون الدُّنْيَا بِغَيْرِ إِمَام مِنْ وَلَد الْحُسَيْن , وَإِنَّ الْإِمَام يُعَلِّمهُ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام , فَإِذَا مَاتَ بَدَّلَ غَيْره مَكَانه . وَالزَّيْدِيَّة - قَالُوا : وَلَد الْحُسَيْن كُلّهمْ أَئِمَّة فِي الصَّلَوَات , فَمَتَى وُجِدَ مِنْهُمْ أَحَد لَمْ تَجُزْ الصَّلَاة خَلْف غَيْرهمْ , بَرّهمْ وَفَاجِرهمْ . وَالْعَبَّاسِيَّة - زَعَمُوا أَنَّ الْعَبَّاس كَانَ أَوْلَى بِالْخِلَافَةِ مِنْ غَيْره . وَالتَّنَاسُخِيَّة - قَالُوا : الْأَرْوَاح تَتَنَاسَخ ; فَمَنْ كَانَ مُحْسِنًا خَرَجَتْ رُوحه فَدَخَلَتْ فِي خَلْق يَسْعَد بِعَيْشِهِ . وَالرَّجْعِيَّة - زَعَمُوا أَنَّ عَلِيًّا وَأَصْحَابه يَرْجِعُونَ إِلَى الدُّنْيَا , وَيَنْتَقِمُونَ مِنْ أَعْدَائِهِمْ . وَاللَّاعِنَة - يَلْعَنُونَ عُثْمَان وَطَلْحَة وَالزُّبَيْر وَمُعَاوِيَة وَأَبَا مُوسَى وَعَائِشَة وَغَيْرهمْ وَالْمُتَرَبِّصَة - تَشَبَّهُوا بِزِيِّ النُّسَّاك وَنَصَبُوا فِي كُلّ عَصْر رَجُلًا يَنْسُبُونَ إِلَيْهِ الْأَمْر , يَزْعُمُونَ أَنَّهُ مَهْدِيّ هَذِهِ الْأُمَّة , فَإِذَا مَاتَ نَصَبُوا آخَر .</p><p>ثُمَّ اِنْقَسَمَتْ الْجَبْرِيَّة اِثْنَتَيْ عَشْرَة فِرْقَة : فَمِنْهُمْ الْمُضْطَرِّيَّة - قَالُوا : لَا فِعْل لِلْآدَمِيِّ , بَلْ اللَّه يَفْعَل الْكُلّ . وَالْأَفْعَالِيَّة - قَالُوا : لَنَا أَفْعَال وَلَكِنْ لَا اِسْتِطَاعَة لَنَا فِيهَا , وَإِنَّمَا نَحْنُ كَالْبَهَائِمِ نُقَاد بِالْحَبْلِ . وَالْمَفْرُوغِيَّة - قَالُوا : كُلّ الْأَشْيَاء قَدْ خُلِقَتْ , وَالْآن لَا يُخْلَق شَيْء . وَالنَّجَّارِيَّة - زَعَمَتْ أَنَّ اللَّه تَعَالَى يُعَذِّب النَّاس عَلَى فِعْله لَا عَلَى فِعْلهمْ . وَالْمَنَّانِيَّة - قَالُوا : عَلَيْك بِمَا يَخْطِر بِقَلْبِك , فَافْعَلْ مَا تَوَسَّمْت مِنْهُ الْخَيْر . وَالْكَسْبِيَّة - قَالُوا : لَا يَكْتَسِب الْعَبْد ثَوَابًا وَلَا عِقَابًا . وَالسَّابِقِيَّة - قَالُوا : مَنْ شَاءَ فَلْيَعْمَلْ وَمَنْ شَاءَ فَلَا يَعْمَل , فَإِنَّ السَّعِيد لَا تَضُرّهُ ذُنُوبه وَالشَّقِيّ لَا يَنْفَعهُ بِرّه . وَالْحِبِّيَّة - قَالُوا : مَنْ شَرِبَ كَأْس مَحَبَّة اللَّه تَعَالَى سَقَطَتْ عَنْهُ عِبَادَة الْأَرْكَان . وَالْخَوْفِيَّة - قَالُوا : مَنْ أَحَبَّ اللَّه تَعَالَى لَمْ يَسَعْهُ أَنْ يَخَافهُ , لِأَنَّ الْحَبِيب لَا يَخَاف حَبِيبه . وَالْفِكْرِيَّة - قَالُوا : مَنْ اِزْدَادَ عِلْمًا أُسْقِطَ عَنْهُ بِقَدْرِ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَادَة . وَالْخَشَبِيَّة - قَالُوا : الدُّنْيَا بَيْنَ الْعِبَاد سَوَاء , لَا تَفَاضُل بَيْنهمْ فِيمَا وَرَّثَهُمْ أَبُوهُمْ آدَم . وَالْمَنِّيَّة - قَالُوا : مِنَّا الْفِعْل وَلَنَا الِاسْتِطَاعَة . وَسَيَأْتِي بَيَان الْفِرْقَة الَّتِي زَادَتْ فِي هَذِهِ الْأُمَّة فِي آخِر سُورَة | الْأَنْعَام | إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس لِسِمَاك الْحَنَفِيّ : يَا حَنَفِيّ , الْجَمَاعَة الْجَمَاعَة ! ! فَإِنَّمَا هَلَكَتْ الْأُمَم الْخَالِيَة لِتَفَرُّقِهَا ; أَمَا سَمِعْت اللَّه عَزَّ وَجَلَّ يَقُول : | وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّه جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا | وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ اللَّه يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا وَيَكْرَه لَكُمْ ثَلَاثًا يَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّه جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَيَكْرَه لَكُمْ ثَلَاثًا قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَة السُّؤَال وَإِضَاعَة الْمَال ) . فَأَوْجَبَ تَعَالَى عَلَيْنَا التَّمَسُّك بِكِتَابِهِ وَسُنَّة نَبِيّه وَالرُّجُوع إِلَيْهِمَا عِنْد الِاخْتِلَاف , وَأَمَرَنَا بِالِاجْتِمَاعِ عَلَى الِاعْتِصَام بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّة اِعْتِقَادًا وَعَمَلًا ; وَذَلِكَ سَبَب اِتِّفَاق الْكَلِمَة وَانْتِظَام الشَّتَات الَّذِي يَتِمّ بِهِ مَصَالِح الدُّنْيَا وَالدِّين , وَالسَّلَامَة مِنْ الِاخْتِلَاف , وَأَمَرَ بِالِاجْتِمَاعِ وَنَهَى عَنْ الِافْتِرَاق الَّذِي حَصَلَ لِأَهْلِ الْكِتَابَيْنِ . هَذَا مَعْنَى الْآيَة عَلَى التَّمَام , وَفِيهَا دَلِيل عَلَى صِحَّة الْإِجْمَاع حَسْبَمَا هُوَ مَذْكُور فِي مَوْضِعه مِنْ أُصُول الْفِقْه وَاَللَّه أَعْلَم .|وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ|أَمَرَ تَعَالَى بِتَذَكُّرِ نِعَمه وَأَعْظَمهَا الْإِسْلَام وَاتِّبَاع نَبِيّه مُحَمَّد عَلَيْهِ السَّلَام ; فَإِنَّ بِهِ زَالَتْ الْعَدَاوَة وَالْفُرْقَة وَكَانَتْ الْمَحَبَّة وَالْأُلْفَة . وَالْمُرَاد الْأَوْس وَالْخَزْرَج ; وَالْآيَة تَعُمّ .|فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا|وَمَعْنَى | فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا | أَيْ صِرْتُمْ بِنِعْمَةِ الْإِسْلَام إِخْوَانًا فِي الدِّين . وَكُلّ مَا فِي الْقُرْآن | أَصْبَحْتُمْ | مَعْنَاهُ صِرْتُمْ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى : | إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا | [ الْمُلْك : 30 ] أَيْ صَارَ غَائِرًا . وَالْإِخْوَان جَمْع أَخ , وَسُمِّيَ أَخًا لِأَنَّهُ يَتَوَخَّى مَذْهَب أَخِيهِ , أَيْ يَقْصِدهُ .|وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ|وَشَفَا كُلّ شَيْء حَرْفه , وَكَذَلِكَ شَفِيره وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : | عَلَى شَفَا جُرُف هَار | [ التَّوْبَة : 109 ] . قَالَ الرَّاجِز : <br>نَحْنُ حَفَرْنَا لِلْحَجِيجِ سَجْلَهْ .......... نَابِتَة فَوْق شَفَاهَا بَقْلَهْ <br>وَأَشْفَى عَلَى الشَّيْء أَشْرَفَ عَلَيْهِ ; وَمِنْهُ أَشْفَى الْمَرِيض عَلَى الْمَوْت . وَمَا بَقِيَ مِنْهُ إِلَّا شَفًا أَيْ قَلِيل قَالَ اِبْن السِّكِّيت : يُقَال لِلرَّجُلِ عِنْد مَوْته وَلِلْقَمَرِ عِنْد إِمْحَاقه وَلِلشَّمْسِ عِنْد غُرُوبهَا : مَا بَقِيَ مِنْهُ إِلَّا شَفًا أَيْ قَلِيل . قَالَ الْعَجَّاج : <br>وَمَرْبَإٍ عَالٍ لِمَنْ تَشَرَّفَا .......... أَشْرَفْته بِلَا شَفًا أَوْ بِشَفَا <br>قَوْله | بِلَا شَفًا | أَيْ غَابَتْ الشَّمْس . | أَوْ بِشَفَا | وَقَدْ بَقِيَتْ مِنْهَا بَقِيَّة . وَهُوَ مِنْ ذَوَات الْيَاء , وَفِيهِ لُغَة أَنَّهُ مِنْ الْوَاو . وَقَالَ النَّحَّاس : الْأَصْل فِي شَفَا شَفَوَ , وَلِهَذَا يُكْتَب بِالْأَلِفِ وَلَا يُمَال . وَقَالَ الْأَخْفَش : لَمَّا لَمْ تَجُزْ فِيهِ الْإِمَالَة عُرِفَ أَنَّهُ مِنْ الْوَاو ; وَلِأَنَّ الْإِمَالَة بَيْنَ الْيَاء , وَتَثْنِيَته شَفَوَان . قَالَ الْمَهْدَوِيّ : وَهَذَا تَمْثِيل يُرَاد بِهِ خُرُوجهمْ مِنْ الْكُفْر إِلَى الْإِيمَان .

وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ

قَدْ مَضَى الْقَوْل فِي الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر فِي هَذِهِ السُّورَة . و | مِنْ | فِي قَوْله | مِنْكُمْ | لِلتَّبْعِيضِ , وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْآمِرِينَ يَجِب أَنْ يَكُونُوا عُلَمَاء وَلَيْسَ كُلّ النَّاس عُلَمَاء . وَقِيلَ : لِبَيَانِ الْجِنْس , وَالْمَعْنَى لِتَكُونُوا كُلّكُمْ كَذَلِكَ . قُلْت : الْقَوْل الْأَوَّل أَصَحّ ; فَإِنَّهُ يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر فَرْض عَلَى الْكِفَايَة , وَقَدْ عَيَّنَهُمْ اللَّه تَعَالَى بِقَوْلِهِ : | الَّذِينَ إِنْ مُكَنَّاهُمْ فِي الْأَرْض أَقَامُوا الصَّلَاة | [ الْحَجّ : 41 ] الْآيَة . وَلَيْسَ كُلّ النَّاس مُكِّنُوا . وَقَرَأَ اِبْن الزُّبَيْر : | وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّة يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْر وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَر وَيَسْتَعِينُونَ اللَّه عَلَى مَا أَصَابَهُمْ | قَالَ أَبُو بَكْر الْأَنْبَارِيّ : وَهَذِهِ الزِّيَادَة تَفْسِير مِنْ اِبْن الزُّبَيْر , وَكَلَام مِنْ كَلَامه غَلِطَ فِيهِ بَعْض النَّاقِلِينَ فَأَلْحَقَهُ بِأَلْفَاظِ الْقُرْآن ; يَدُلّ عَلَى صِحَّة مَا أَصِف الْحَدِيث الَّذِي حَدَّثَنِيهِ أَبِي حَدَّثَنَا حَسَن بْن عَرَفَة حَدَّثَنَا وَكِيع عَنْ أَبِي عَاصِم عَنْ أَبِي عَوْن عَنْ صُبَيْح قَالَ : سَمِعْت عُثْمَان بْن عَفَّان يَقْرَأ | وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَر وَيَسْتَعِينُونَ اللَّه عَلَى مَا أَصَابَهُمْ | فَمَا يَشُكّ عَاقِل فِي أَنَّ عُثْمَان لَا يَعْتَقِد هَذِهِ الزِّيَادَة مِنْ الْقُرْآن ; إِذْ لَمْ يَكْتُبهَا فِي مُصْحَفه الَّذِي هُوَ إِمَام الْمُسْلِمِينَ , وَإِنَّمَا ذَكَرَهَا وَاعِظًا بِهَا وَمُؤَكَّدًا مَا تَقَدَّمَهَا مِنْ كَلَام رَبّ الْعَالَمِينَ جَلَّ وَعَلَا .

وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ

يَعْنِي الْيَهُود وَالنَّصَارَى فِي قَوْل جُمْهُور الْمُفَسِّرِينَ . وَقَالَ بَعْضهمْ : هُمْ الْمُبْتَدِعَة مِنْ هَذِهِ الْأُمَّة . وَقَالَ أَبُو أُمَامَة : هُمْ الْحَرُورِيَّة ; وَتَلَا الْآيَة . وَقَالَ جَابِر بْن عَبْد اللَّه : | الَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْد مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَات | الْيَهُود وَالنَّصَارَى . | جَاءَهُمْ | مُذَكَّر عَلَى الْجَمْع , وَجَاءَتْهُمْ عَلَى الْجَمَاعَة .

يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ

يَعْنِي يَوْم الْقِيَامَة حِينَ يُبْعَثُونَ مِنْ قُبُورهمْ تَكُون وُجُوه الْمُؤْمِنِينَ مُبْيَضَّة وَوُجُوه الْكَافِرِينَ مُسْوَدَّة . وَيُقَال : إِنَّ ذَلِكَ عِنْد قِرَاءَة الْكِتَاب , إِذْ قَرَأَ الْمُؤْمِن كِتَابه فَرَأَى فِي كِتَابه حَسَنَاته اِسْتَبْشَرَ وَابْيَضَّ وَجْهه , وَإِذَا قَرَأَ الْكَافِر وَالْمُنَافِق كِتَابه فَرَأَى فِيهِ سَيِّئَاته اِسْوَدَّ وَجْهه . وَيُقَال : إِنَّ ذَلِكَ عِنْد الْمِيزَان إِذَا رَجَحَتْ حَسَنَاته اِبْيَضَّ وَجْهه , وَإِذَا رَجَحَتْ سَيِّئَاته اِسْوَدَّ وَجْهه . وَيُقَال : ذَلِكَ عِنْد قَوْله تَعَالَى : | وَامْتَازُوا الْيَوْم أَيّهَا الْمُجْرِمُونَ | [ يس : 59 ] . وَيُقَال : إِذَا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة يُؤْمَر كُلّ فَرِيق بِأَنْ يَجْتَمِع إِلَى مَعْبُوده , فَإِذَا اِنْتَهَوْا إِلَيْهِ حَزِنُوا وَاسْوَدَّتْ وُجُوههمْ , فَيَبْقَى الْمُؤْمِنُونَ وَأَهْل الْكِتَاب وَالْمُنَافِقُونَ ; فَيَقُول اللَّه تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ : | مَنْ رَبّكُمْ | ؟ فَيَقُولُونَ : رَبّنَا اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فَيَقُول لَهُمْ : | أَتَعْرِفُونَهُ إِذَا رَأَيْتُمُوهُ | . فَيَقُولُونَ : سُبْحَانه ! إِذَا اِعْتَرَفَ عَرَفْنَاهُ . فَيَرَوْنَهُ كَمَا شَاءَ اللَّه فَيَخِرّ الْمُؤْمِنُونَ سُجَّدًا لِلَّهِ تَعَالَى , فَتَصِير وُجُوههمْ مِثْل الثَّلْج بَيَاضًا , وَيَبْقَى الْمُنَافِقُونَ وَأَهْل الْكِتَاب لَا يَقْدِرُونَ عَلَى السُّجُود فَيَحْزَنُوا وَتَسْوَدّ وُجُوههمْ ; وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : | يَوْم تَبْيَضّ وُجُوه وَتَسْوَدّ وُجُوه | . وَيَجُوز | تِبْيَضّ وَتِسْوَدّ | بِكَسْرِ التَّائَيْنِ ; لِأَنَّك تَقُول : اِبْيَضَّتْ , فَتُكْسَر التَّاء كَمَا تُكْسَر الْأَلِف , وَهِيَ لُغَة تَمِيم وَبِهَا قَرَأَ يَحْيَى بْن وَثَّاب . وَقَرَأَ الزُّهْرِيّ | يَوْم تَبْيَاضّ وَتَسْوَادّ | وَيَجُوز كَسْر التَّاء أَيْضًا , وَيَجُوز | يَوْم يَبْيَضّ وُجُوه | بِالْيَاءِ عَلَى تَذْكِير الْجَمْع , وَيَجُوز | أَجْوُه | مِثْل | أَقْتُت | . وَابْيِضَاض الْوُجُوه إِشْرَاقهَا بِالنَّعِيمِ . وَاسْوِدَادهَا هُوَ مَا يُرْهِقهَا مِنْ الْعَذَاب الْأَلِيم .</p><p>وَاخْتَلَفُوا فِي التَّعْيِين ; فَقَالَ اِبْن عَبَّاس : تَبْيَضّ وُجُوه أَهْل السُّنَّة وَتَسْوَدّ وُجُوه أَهْل الْبِدْعَة . قُلْت : وَقَوْل اِبْن عَبَّاس هَذَا رَوَاهُ مَالِك بْن سُلَيْمَان الْهَرَوِيّ أَخُو غَسَّان عَنْ مَالِك بْن أَنَس عَنْ نَافِع عَنْ اِبْن عُمَر قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْل اللَّه تَعَالَى | يَوْم تَبْيَضّ وُجُوه وَتَسْوَدّ وُجُوه | قَالَ : ( يَعْنِي تَبْيَضّ وُجُوه أَهْل السُّنَّة وَتَسْوَدّ وُجُوه أَهْل الْبِدْعَة ) ذَكَرَهُ أَبُو بَكْر أَحْمَد بْن عَلِيّ بْن ثَابِت الْخَطِيب . وَقَالَ فِيهِ : مُنْكَر مِنْ حَدِيث مَالِك . قَالَ عَطَاء : تَبْيَضّ وُجُوه الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَار , وَتَسْوَدّ وُجُوه بَنِي قُرَيْظَة وَالنَّضِير . وَقَالَ أُبَيّ بْن كَعْب : الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوههمْ هُمْ الْكُفَّار , وَقِيلَ لَهُمْ : أَكَفَرْتُمْ بَعْد إِيمَانكُمْ لِإِقْرَارِكُمْ حِينَ أُخْرِجْتُمْ مِنْ ظَهْر آدَم كَالذَّرِّ . هَذَا اِخْتِيَار الطَّبَرِيّ . الْحَسَن : الْآيَة فِي الْمُنَافِقِينَ . قَتَادَة هِيَ فِي الْمُرْتَدِّينَ . عِكْرِمَة : هُمْ قَوْم مِنْ أَهْل الْكِتَاب كَانُوا مُصَدِّقِينَ بِأَنْبِيَائِهِمْ مُصَدِّقِينَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْل أَنْ يُبْعَث فَلَمَّا بُعِثَ عَلَيْهِ السَّلَام كَفَرُوا بِهِ ; فَذَلِكَ قَوْله : | أَكَفَرْتُمْ بَعْد إِيمَانكُمْ | وَهُوَ اِخْتِيَار الزَّجَّاج . مَالِك بْن أَنَس : هِيَ فِي أَهْل الْأَهْوَاء . أَبُو أُمَامَة الْبَاهِلِيّ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هِيَ فِي الْحَرُورِيَّة . وَفِي خَبَر آخَر أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ : ( هِيَ فِي الْقَدَرِيَّة ) . رَوَى التِّرْمِذِيّ عَنْ أَبِي غَالِب قَالَ : رَأَى أَبُو أُمَامَة رُءُوسًا مَنْصُوبَة عَلَى بَاب دِمَشْق , فَقَالَ أَبُو أُمَامَة : كِلَاب النَّار شَرّ قَتْلَى تَحْت أَدِيم السَّمَاء , خَيْر قَتْلَى مَنْ قَتَلُوهُ - ثُمَّ قَرَأَ - | يَوْم تَبْيَضّ وُجُوه وَتَسْوَدّ وُجُوه | إِلَى آخِر الْآيَة . قُلْت لِأَبِي أُمَامَة : أَنْتَ سَمِعْته مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَ : لَوْ لَمْ أَسْمَعهُ مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا مَرَّة أَوْ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا - حَتَّى عَدَّ سَبْعًا - مَا حَدَّثْتُكُمُوهُ . قَالَ : هَذَا حَدِيث حَسَن . وَفِي صَحِيح الْبُخَارِيّ عَنْ سَهْل بْن سَعْد قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنِّي فَرَطكُمْ عَلَى الْحَوْض مَنْ مَرَّ عَلَيَّ شَرِبَ وَمَنْ شَرِبَ لَمْ يَظْمَأ أَبَدًا لَيَرِدَنَّ عَلَيَّ أَقْوَام أَعْرِفهُمْ وَيَعْرِفُونِي ثُمَّ يُحَال بَيْنِي وَبَيْنهمْ ) . قَالَ أَبُو حَازِم : فَسَمِعَنِي النُّعْمَان بْن أَبِي عَيَّاش فَقَالَ : أَهَكَذَا سَمِعْت مِنْ سَهْل بْن سَعْد ؟ فَقُلْت : نَعَمْ . فَقَالَ : أَشْهَد عَلَى أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ لَسَمِعْته وَهُوَ يَزِيد فِيهَا : ( فَأَقُول إِنَّهُمْ مِنِّي فَيُقَال إِنَّك لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدك فَأَقُول سُحْقًا سُحْقًا لِمَنْ غَيَّرَ بَعْدِي ) . وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَة أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّث أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( يَرِد عَلَى الْحَوْض يَوْم الْقِيَامَة رَهْط مِنْ أَصْحَابِي فَيُجْلَوْنَ عَنْ الْحَوْض فَأَقُول يَا رَبّ أَصْحَابِي فَيَقُول إِنَّك لَا عِلْم لَك بِمَا أَحْدَثُوا بَعْدك إِنَّهُمْ اِرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارهمْ الْقَهْقَرَى ) . وَالْأَحَادِيث فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَة . فَمَنْ بَدَّلَ أَوْ غَيَّرَ أَوْ اِبْتَدَعَ فِي دِين اللَّه مَا لَا يَرْضَاهُ اللَّه وَلَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّه فَهُوَ مِنْ الْمَطْرُودِينَ عَنْ الْحَوْض الْمُبْتَدَعِينَ مِنْهُ الْمُسَوَّدِي الْوُجُوه , وَأَشَدّهمْ طَرْدًا وَإِبْعَادًا مَنْ خَالَفَ جَمَاعَة الْمُسْلِمِينَ وَفَارَقَ سَبِيلهمْ ; كَالْخَوَارِجِ عَلَى اِخْتِلَاف فِرَقهَا , وَالرَّوَافِض عَلَى تَبَايُن ضَلَالهَا , وَالْمُعْتَزِلَة عَلَى أَصْنَاف أَهْوَائِهَا ; فَهَؤُلَاءِ كُلّهمْ مُبَدِّلُونَ وَمُبْتَدِعُونَ , وَكَذَلِكَ الظَّلَمَة الْمُسْرِفُونَ فِي الْجَوْر وَالظُّلْم وَطَمْس الْحَقّ وَقَتْل أَهْله وَإِذْلَالهمْ , وَالْمُعْلِنُونَ بِالْكَبَائِرِ الْمُسْتَخِفُّونَ بِالْمَعَاصِي , وَجَمَاعَة أَهْل الزَّيْغ وَالْأَهْوَاء وَالْبِدَع ; كُلّ يُخَاف عَلَيْهِمْ أَنْ يَكُونُوا عُنُوا بِالْآيَةِ , وَالْخَبَر كَمَا بَيَّنَّا , وَلَا يُخَلَّد فِي النَّار إِلَّا كَافِر جَاحِد لَيْسَ فِي قَلْبه مِثْقَال حَبَّة خَرْدَل مِنْ إِيمَان . وَقَدْ قَالَ اِبْن الْقَاسِم : وَقَدْ يَكُون مِنْ غَيْر أَهْل الْأَهْوَاء مَنْ هُوَ شَرّ مِنْ أَهْل الْأَهْوَاء . وَكَانَ يَقُول : تَمَام الْإِخْلَاص تَجَنُّب الْمَعَاصِي .|فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ|فِي الْكَلَام حَذْف , أَيْ فَيُقَال لَهُمْ | أَكَفَرْتُمْ بَعْد إِيمَانكُمْ | يَعْنِي يَوْم الْمِيثَاق حِينَ قَالُوا بَلَى . وَيُقَال : هَذَا لِلْيَهُودِ وَكَانُوا مُؤْمِنِينَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْل أَنْ يَبْعَث فَلَمَّا بُعِثَ كَفَرُوا بِهِ . وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَة : هَذَا لِلْمُنَافِقِينَ , يُقَال : أَكَفَرْتُمْ فِي السِّرّ بَعْد إِقْرَاركُمْ فِي الْعَلَانِيَة . وَأَجْمَعَ أَهْل الْعَرَبِيَّة عَلَى أَنَّهُ لَا بُدّ مِنْ الْفَاء فِي جَوَاب ( أَمَّا ) لِأَنَّ الْمَعْنَى فِي قَوْلك : أَمَّا زَيْد فَمُنْطَلِق , مَهْمَا يَكُنْ مِنْ شَيْء فَزَيْد مُنْطَلِق .

وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ

هَؤُلَاءِ أَهْل طَاعَة اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وَالْوَفَاء بِعَهْدِهِ .|فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ|أَيْ فِي جَنَّته وَدَار كَرَامَته خَالِدُونَ بَاقُونَ . جَعَلَنَا اللَّه مِنْهُمْ وَجَنَّبَنَا طُرُق الْبِدَع وَالضَّلَالَات , وَوَفَّقَنَا لِطَرِيقِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات . آمِينَ .

تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ

اِبْتِدَاء وَخَبَر , يَعْنِي الْقُرْآن . | نَتْلُوهَا عَلَيْك | يَعْنِي نَنْزِل عَلَيْك جِبْرِيل فَيَقْرَؤُهَا عَلَيْك . | بِالْحَقِّ | أَيْ بِالصِّدْقِ . وَقَالَ الزَّجَّاج : | تِلْكَ آيَات اللَّه | الْمَذْكُورَة حِجَج اللَّه وَدَلَائِله . وَقِيلَ : | تِلْكَ | بِمَعْنَى هَذِهِ وَلَكِنَّهَا لَمَّا اِنْقَضَتْ صَارَتْ كَأَنَّهَا بَعُدَتْ فَقِيلَ | تِلْكَ | وَيَجُوز أَنْ تَكُون | آيَات اللَّه | بَدَلًا مِنْ | تِلْكَ | وَلَا تَكُون نَعْتًا ; لِأَنَّ الْمُبْهَم لَا يُنْعَت بِالْمُضَافِ .|وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ|يَعْنِي أَنَّهُ لَا يُعَذِّبهُمْ بِغَيْرِ ذَنْب .

وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ

قَالَ الْمَهْدَوِيّ : وَجْه اِتِّصَال هَذَا بِمَا قَبْله أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أَحْوَال الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ وَأَنَّهُ لَا يُرِيد ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ , وَصَلَهُ بِذِكْرِ اِتِّسَاع قُدْرَته وَغِنَاهُ عَنْ الظُّلْم لِكَوْنِ مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الْأَرْض فِي قَبْضَته , وَقِيلَ : هُوَ اِبْتِدَاء كَلَام , بَيَّنَ لِعِبَادِهِ أَنَّ جَمِيع مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الْأَرْض لَهُ حَتَّى يَسْأَلُوهُ وَيَعْبُدُوهُ وَلَا يَعْبُدُوا غَيْره .

كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ

رَوَى التِّرْمِذِيّ عَنْ بَهْز بْن حَكِيم عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّه أَنَّهُ سَمِعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول فِي قَوْله تَعَالَى : | كُنْتُمْ خَيْر أُمَّة أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ | قَالَ : ( أَنْتُمْ تُتِمُّونَ سَبْعِينَ أُمَّة أَنْتُمْ خَيْرهَا وَأَكْرَمهَا عِنْد اللَّه ) . وَقَالَ : هَذَا حَدِيث حَسَن . وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة : نَحْنُ خَيْر النَّاس لِلنَّاسِ نَسُوقهُمْ بِالسَّلَاسِلِ إِلَى الْإِسْلَام . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : هُمْ الَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ مَكَّة إِلَى الْمَدِينَة وَشَهِدُوا بَدْرًا وَالْحُدَيْبِيَة . وَقَالَ عُمَر بْن الْخَطَّاب : مَنْ فَعَلَ فِعْلهمْ كَانَ مِثْلهمْ . وَقِيلَ : هُمْ أُمَّة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , يَعْنِي الصَّالِحِينَ مِنْهُمْ وَأَهْل الْفَضْل . وَهُمْ الشُّهَدَاء عَلَى النَّاس يَوْم الْقِيَامَة ; كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَة . وَقَالَ مُجَاهِد : ( كُنْتُمْ خَيْر أُمَّة أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ | عَلَى الشَّرَائِط الْمَذْكُورَة فِي الْآيَة . وَقِيلَ : مَعْنَاهُ كُنْتُمْ فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ . وَقِيلَ : كُنْتُمْ مُذْ آمَنْتُمْ خَيْر أُمَّة . وَقِيلَ : جَاءَ ذَلِكَ لِتَقَدُّمِ الْبِشَارَة بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّته . فَالْمَعْنَى كُنْتُمْ عِنْد مَنْ تَقَدَّمَكُمْ مِنْ أَهْل الْكُتُب خَيْر أُمَّة . وَقَالَ الْأَخْفَش : يُرِيد أَهْل أُمَّة , أَيْ خَيْر أَهْل دِين ; وَأَنْشَدَ : <br>حَلَفْت فَلَمْ أَتْرُك لِنَفْسِك رِيبَة .......... وَهَلْ يَأْثَمْنَ ذُو أُمَّة وَهْوَ طَائِع <br>وَقِيلَ : هِيَ كَانَ التَّامَّة , وَالْمَعْنَى خُلِقْتُمْ وَوُجِدْتُمْ خَيْر أُمَّة . | فَخَيْر أُمَّة | حَال . وَقِيلَ : كَانَ زَائِدَة , وَالْمَعْنَى أَنْتُمْ خَيْر أُمَّة . وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ : <br>وَجِيرَانٍ لَنَا كَانُوا كِرَامٍ <br>وَمِثْله قَوْله تَعَالَى : | كَيْفَ نُكَلِّم مَنْ كَانَ فِي الْمَهْد صَبِيًّا | [ مَرْيَم : 29 ] . وَقَوْله : | وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ | [ الْأَعْرَاف : 86 ] . وَقَالَ فِي مَوْضِع آخَر : | وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيل | . وَرَوَى سُفْيَان عَنْ مَيْسَرَة الْأَشْجَعِيّ عَنْ أَبِي حَازِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة | كُنْتُمْ خَيْر أُمَّة أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ | قَالَ : تَجُرُّونَ النَّاس بِالسَّلَاسِلِ إِلَى الْإِسْلَام . قَالَ النَّحَّاس : وَالتَّقْدِير عَلَى هَذَا كُنْتُمْ لِلنَّاسِ خَيْر أُمَّة . وَعَلَى قَوْل مُجَاهِد : كُنْتُمْ خَيْر أُمَّة إِذْ كُنْتُمْ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَر . وَقِيلَ : إِنَّمَا صَارَتْ أُمَّة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْر أُمَّة لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ أَكْثَر , وَالْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر فِيهِمْ أَفْشَى . فَقِيلَ : هَذَا لِأَصْحَابِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( خَيْر النَّاس قَرْنِي ) أَيْ الَّذِينَ بُعِثْت فِيهِمْ . بُعِثْت فِيهِمْ . وَإِذَا ثَبَتَ بِنَصِّ التَّنْزِيل أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّة خَيْر الْأُمَم ; فَقَدْ رَوَى الْأَئِمَّة مِنْ حَدِيث عِمْرَان بْن حَصِين عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( خَيْر النَّاس قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ) . الْحَدِيث وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ أَوَّل هَذِهِ الْأُمَّة أَفْضَل مِمَّنْ بَعْدهمْ , وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ مُعْظَم الْعُلَمَاء , وَإِنَّ مَنْ صَحِبَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَآهُ وَلَوْ مَرَّة فِي عُمْره أَفْضَل مِمَّنْ يَأْتِي بَعْده , وَإِنَّ فَضِيلَة الصُّحْبَة لَا يَعْدِلهَا عَمَل . وَذَهَبَ أَبُو عُمَر بْن عَبْد الْبَرّ إِلَى أَنَّهُ قَدْ يَكُون فِيمَنْ يَأْتِي بَعْد الصَّحَابَة أَفْضَل مِمَّنْ كَانَ فِي جُمْلَة الصَّحَابَة , وَإِنَّ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( خَيْر النَّاس قَرْنِي ) لَيْسَ عَلَى عُمُومه بِدَلِيلِ مَا يَجْمَع الْقَرْن مِنْ الْفَاضِل وَالْمَفْضُول . وَقَدْ جَمَعَ قَرْنه جَمَاعَة مِنْ الْمُنَافِقِينَ الْمُظْهِرِينَ لِلْإِيمَانِ وَأَهْل الْكَبَائِر الَّذِينَ أَقَامَ عَلَيْهِمْ أَوْ عَلَى بَعْضهمْ الْحُدُود , وَقَالَ لَهُمْ : مَا تَقُولُونَ فِي السَّارِق وَالشَّارِب وَالزَّانِي . وَقَالَ مُوَاجَهَة لِمَنْ هُوَ فِي قَرْنه : ( لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي ) . وَقَالَ لِخَالِدِ بْن الْوَلِيد فِي عَمَّار : ( لَا تَسُبّ مَنْ هُوَ خَيْر مِنْك ) وَرَوَى أَبُو أُمَامَة أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( طُوبَى لِمَنْ رَآنِي وَآمَنَ بِي وَطُوبَى سَبْع مَرَّات لِمَنْ لَمْ يَرَنِي وَآمَنَ بِي ) . وَفِي مُسْنَد أَبِي دَاوُد الطَّيَالِسِيّ عَنْ مُحَمَّد بْن أَبِي حُمَيْد عَنْ زَيْد بْن أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَر . قَالَ : كُنْت جَالِسًا عِنْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : ( أَتَدْرُونَ أَيّ الْخَلْق أَفْضَل إِيمَانًا ) قُلْنَا الْمَلَائِكَة . قَالَ : ( وَحُقّ لَهُمْ بَلْ غَيْرهمْ ) قُلْنَا الْأَنْبِيَاء . قَالَ : ( وَحُقّ لَهُمْ بَلْ غَيْرهمْ ) ثُمَّ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَفْضَل الْخَلْق إِيمَانًا قَوْم فِي أَصْلَاب الرِّجَال يُؤْمِنُونَ بِي وَلَمْ يَرَوْنِي يَجِدُونَ وَرَقًا فَيَعْمَلُونَ بِمَا فِيهَا فَهُمْ أَفْضَل الْخَلْق إِيمَانًا ) . وَرَوَى صَالِح بْن جُبَيْر عَنْ أَبِي جُمْعَة قَالَ : قُلْنَا يَا رَسُول اللَّه , هَلْ أَحَد خَيْر مِنَّا ؟ قَالَ : ( نَعَمْ قَوْم يَجِيئُونَ مِنْ بَعْدكُمْ فَيَجِدُونَ كِتَابًا بَيْنَ لَوْحَيْنِ فَيُؤْمِنُونَ بِمَا فِيهِ وَيُؤْمِنُونَ بِي وَلَمْ يَرَوْنِي ) . وَقَالَ أَبُو عُمَر : وَأَبُو جُمْعَة لَهُ صُحْبَة وَاسْمه حَبِيب بْن سِبَاع , وَصَالِح بْن جُبَيْر مِنْ ثِقَات التَّابِعِينَ . وَرَوَى أَبُو ثَعْلَبَة الْخُشَنِيّ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( إِنَّ أَمَامكُمْ أَيَّامًا الصَّابِرُ فِيهَا عَلَى دِينه كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْر لِلْعَامِلِ فِيهَا أَجْر خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَل مِثْله عَمَله ) قِيلَ : يَا رَسُول اللَّه , مِنْهُمْ ؟ قَالَ : ( بَلْ مِنْكُمْ ) . قَالَ أَبُو عُمَر : وَهَذِهِ اللَّفْظَة | بَلْ مِنْكُمْ | قَدْ سَكَتَ عَنْهَا بَعْض الْمُحَدِّثِينَ فَلَمْ يَذْكُرهَا . وَقَالَ عُمَر بْن الْخَطَّاب فِي تَأْوِيل قَوْله : | كُنْتُمْ خَيْر أُمَّة أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ | قَالَ : مَنْ فَعَلَ مِثْل فِعْلكُمْ كَانَ مِثْلكُمْ . وَلَا تَعَارُض بَيْنَ الْأَحَادِيث ; لِأَنَّ الْأَوَّل عَلَى الْخُصُوص , وَاَللَّه الْمُوَفِّق . وَقَدْ قِيلَ فِي تَوْجِيه أَحَادِيث هَذَا الْبَاب : إِنَّ قَرْنه إِنَّمَا فُضِّلَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا غُرَبَاء فِي إِيمَانهمْ لِكَثْرَةِ الْكُفَّار وَصَبْرهمْ عَلَى أَذَاهُمْ وَتَمَسُّكهمْ بِدِينِهِمْ , وَإِنَّ أَوَاخِر هَذِهِ الْأُمَّة إِذَا أَقَامُوا الدِّين وَتَمَسَّكُوا بِهِ وَصَبَرُوا عَلَى طَاعَة رَبّهمْ فِي حِينِ ظُهُور الشَّرّ وَالْفِسْق وَالْهَرْج وَالْمَعَاصِي وَالْكَبَائِر كَانُوا عِنْد ذَلِكَ أَيْضًا غُرَبَاء , وَزَكَتْ أَعْمَالهمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْت كَمَا زَكَتْ أَعْمَال أَوَائِلهمْ , وَمِمَّا يَشْهَد لِهَذَا قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( بَدَأَ الْإِسْلَام غَرِيبًا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ ) . وَيَشْهَد لَهُ أَيْضًا حَدِيث أَبِي ثَعْلَبَة , وَيَشْهَد لَهُ أَيْضًا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أُمَّتِي كَالْمَطَرِ لَا يُدْرَى أَوَّله خَيْر أَمْ آخِره ) . ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ وَأَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيّ , وَرَوَاهُ هِشَام بْن عُبَيْد اللَّه الرَّازِيّ عَنْ مَالِك عَنْ الزُّهْرِيّ عَنْ أَنَس قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَثَل أُمَّتِي مَثَل الْمَطَر لَا يُدْرَى أَوَّله خَيْر أَمْ آخِره ) . ذَكَرَهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي مُسْنَد حَدِيث مَالِك . قَالَ أَبُو عُمَر : هِشَام بْن عُبَيْد اللَّه ثِقَة لَا يَخْتَلِفُونَ فِي ذَلِكَ . وَرُوِيَ أَنَّ عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز لَمَّا وَلِيَ الْخِلَافَة كَتَبَ إِلَى سَالِم بْن عَبْد اللَّه أَنْ اُكْتُبْ إِلَيَّ بِسِيرَةِ عُمَر بْن الْخَطَّاب لِأَعْمَل بِهَا ; فَكَتَبَ إِلَيْهِ سَالِم : إِنْ عَمِلْت بِسِيرَةِ عُمَر ; فَأَنْتَ أَفْضَل مِنْ عُمَر لِأَنَّ زَمَانك لَيْسَ كَزَمَانِ عُمَر , وَلَا رِجَالك كَرِجَالِ عُمَر . قَالَ : وَكَتَبَ إِلَى فُقَهَاء زَمَانه , فَكُلّهمْ كَتَبَ إِلَيْهِ بِمِثْلِ قَوْل سَالِم . وَقَدْ عَارَضَ بَعْض الْجِلَّة مِنْ الْعُلَمَاء قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( خَيْر النَّاس قَرْنِي ) بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( خَيْر النَّاس مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ وَشَرّ النَّاس مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَسَاءَ عَمَلُهُ ) . قَالَ أَبُو عُمَر : فَهَذِهِ الْأَحَادِيث تَقْتَضِي مَعَ تَوَاتُر طُرُقهَا وَحُسْنهَا التَّسْوِيَة بَيْنَ أَوَّل هَذِهِ الْأُمَّة وَآخِرهَا . وَالْمَعْنَى فِي ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْره مِنْ الْإِيمَان وَالْعَمَل الصَّالِح فِي الزَّمَان الْفَاسِد الَّذِي يُرْفَع فِيهِ مِنْ أَهْل الْعِلْم وَالدِّين , وَيَكْثُر فِيهِ الْفِسْق وَالْهَرْج , وَيَذِلّ الْمُؤْمِن وَيَعِزّ الْفَاجِر وَيَعُود الدِّين غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا وَيَكُون الْقَائِم فِيهِ كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْر , فَيَسْتَوِي حِينَئِذٍ أَوَّل هَذِهِ الْأُمَّة بِآخِرِهَا فِي فَضْل الْعَمَل إِلَّا أَهْل بَدْر وَالْحُدَيْبِيَة , وَمَنْ تَدَبَّرَ آثَار هَذَا الْبَاب بَانَ لَهُ الصَّوَاب , وَاَللَّه يُؤْتِي فَضْله مَنْ يَشَاء .|تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ|مَدْح لِهَذِهِ الْأُمَّة مَا أَقَامُوا ذَلِكَ وَاتَّصَفُوا بِهِ . فَإِذَا تَرَكُوا التَّغْيِير وَتَوَاطَئُوا عَلَى الْمُنْكَر زَالَ عَنْهُمْ اِسْم الْمَدْح وَلَحِقَهُمْ اِسْم الذَّمّ , وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِهَلَاكِهِمْ . وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَام فِي الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر فِي أَوَّل السُّورَة .|وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ|أَخْبَرَ أَنَّ إِيمَان أَهْل الْكِتَاب بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْر لَهُمْ , وَأَخْبَرَ أَنَّ مِنْهُمْ مُؤْمِنًا وَفَاسِقًا , وَأَنَّ الْفَاسِق أَكْثَر .

لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ

يَعْنِي كَذِبهمْ وَتَحْرِيفهمْ وَبُهْتهمْ ; لَا أَنَّهُ تَكُون لَهُمْ الْغَلَبَة ; عَنْ الْحَسَن وَقَتَادَة . فَالِاسْتِثْنَاء مُتَّصِل , وَالْمَعْنَى لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا ضَرًّا يَسِيرًا ; فَوَقَعَ الْأَذَى مَوْقِع الْمَصْدَر . فَالْآيَة وَعْد مِنْ اللَّه لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ , أَنَّ أَهْل الْكِتَاب لَا يَغْلِبُونَهُمْ وَأَنَّهُمْ مَنْصُورُونَ عَلَيْهِمْ لَا يَنَالهُمْ مِنْهُمْ اِصْطِلَام إِلَّا إِيذَاء بِالْبُهْتِ وَالتَّحْرِيف , وَأَمَّا الْعَاقِبَة فَتَكُون لِلْمُؤْمِنِينَ . وَقِيلَ : هُوَ مُنْقَطِع , وَالْمَعْنَى لَنْ يَضُرُّوكُمْ الْبَتَّة , لَكِنْ يُؤْذُونَكُمْ بِمَا يُسْمِعُونَكُمْ . قَالَ مُقَاتِل : إِنَّ رُءُوس الْيَهُود : كَعْب وَعَدِيّ وَالنُّعْمَان وَأَبُو رَافِع وَأَبُو يَاسِر وَكِنَانَة وَابْن صُورِيَّا عَمَدُوا إِلَى مُؤْمِنِيهِمْ : عَبْد اللَّه بْن سَلَام وَأَصْحَابه فَآذَوْهُمْ لِإِسْلَامِهِمْ ; فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى : | لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى | يَعْنِي بِاللِّسَانِ , وَتَمَّ الْكَلَام .|وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ|يَعْنِي مُنْهَزِمِينَ , وَتَمَّ الْكَلَام . | ثُمَّ لَا يَنْصُرُونَ | مُسْتَأْنِف ; فَلِذَلِكَ ثَبَتَتْ فِيهِ النُّون . وَفِي هَذِهِ الْآيَة مُعْجِزَة لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَام ; لِأَنَّ مَنْ قَاتَلَهُ مِنْ الْيَهُود وَلَّاهُ دُبُره .

ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاء

يَعْنِي الْيَهُود .|أَيْنَ مَا ثُقِفُوا|أَيْ وُجِدُوا وَلُقُوا , وَتَمَّ الْكَلَام . وَقَدْ مَضَى فِي الْبَقَرَة مَعْنَى ضَرْب الذِّلَّة عَلَيْهِمْ .|إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ|اِسْتِثْنَاء مُنْقَطِع لَيْسَ مِنْ الْأَوَّل . أَيْ لَكِنَّهُمْ يَعْتَصِمُونَ بِحَبْلٍ مِنْ اللَّه .|وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ|يَعْنِي الذِّمَّة الَّتِي لَهُمْ . وَالنَّاس : مُحَمَّد وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤَدُّونَ إِلَيْهِمْ الْخَرَاج فَيُؤْمِنُونَهُمْ . وَفِي الْكَلَام اِخْتِصَار , وَالْمَعْنَى : إِلَّا أَنْ يَعْتَصِمُوا بِحَبْلٍ مِنْ اللَّه , فَحَذَفَ ; قَالَهُ الْفَرَّاء .|وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ|أَيْ رَجَعُوا . وَقِيلَ اِحْتَمَلُوا . وَأَصْله فِي اللُّغَة أَنَّهُ لَزِمَهُمْ , وَقَدْ مَضَى فِي الْبَقَرَة . ثُمَّ أَخْبَرَ لِمَ فَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ .|وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ|مَعْطُوف عَلَى | يَكْفُرُونَ | وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَن | يَقْتُلُونَ | وَعَنْهُ أَيْضًا كَالْجَمَاعَةِ . وَقَرَأَ نَافِع | النَّبِيِّينَ | بِالْهَمْزِ حَيْثُ وَقَعَ فِي الْقُرْآن إِنَّ فِي مَوْضِعَيْنِ : فِي سُورَة الْأَحْزَاب : | إِنْ وَهَبَتْ نَفْسهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ | [ الْأَحْزَاب : 50 ] . و | لَا تَدْخُلُوا بُيُوت النَّبِيّ إِلَّا | [ الْأَحْزَاب : 53 ] فَإِنَّهُ قَرَأَ بِلَا مَدّ وَلَا هَمْز . وَإِنَّمَا تَرَكَ هَمْز هَذَيْنِ لِاجْتِمَاعِ هَمْزَتَيْنِ مَكْسُورَتَيْنِ . وَتَرَكَ الْهَمْز فِي جَمِيع ذَلِكَ الْبَاقُونَ . فَأَمَّا مَنْ هَمَزَ فَهُوَ عِنْده مِنْ أَنْبَأَ إِذَا أَخَّرَ ; وَاسْم فَاعِله مُنْبِئ . وَجَمْع نَبِيء أَنْبِيَاء , وَقَدْ جَاءَ فِي جَمْع نَبِيّ نُبَآء ; قَالَ الْعَبَّاس بْن مِرْدَاس السُّلَمِيّ يَمْدَح النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : <br>يَا خَاتِم النُّبَآء إِنَّك مُرْسَل .......... بِالْحَقِّ كُلّ هُدَى السَّبِيل هُدَاكَا <br>هَذَا مَعْنَى قِرَاءَة الْهَمْز . وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِتَرْكِ الْهَمْز ; فَمِنْهُمْ مَنْ اُشْتُقَّ اِشْتِقَاق مَنْ هَمَزَ , ثُمَّ سَهَّلَ الْهَمْز . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : هُوَ مُشْتَقّ مِنْ نَبَا يَنْبُو إِذَا ظَهَرَ . فَالنَّبِيّ مِنْ النُّبُوَّة وَهُوَ الِارْتِفَاع ; فَمَنْزِلَة النَّبِيّ رَفِيعَة . وَالنَّبِيّ بِتَرْكِ الْهَمْز أَيْضًا الطَّرِيق , فَسُمِّيَ الرَّسُول نَبِيًّا لِاهْتِدَاءِ الْخَلْق بِهِ كَالطَّرِيقِ , قَالَ الشَّاعِر : <br>لَأَصْبَحَ رَتْمًا دِقَاق الْخُصَى .......... مَكَان النَّبِيّ مِنْ الْكَاثِب <br>رَتَمْت الشَّيْء : كَسَرْته ; يُقَال : رَتَمَ أَنْفه وَرَثْمه , بِالتَّاءِ وَالثَّاء جَمِيعًا . وَالرَّتْم أَيْضًا الْمَرْتُوم أَيْ الْمَكْسُور . وَالْكَاثِب اِسْم جَبَل . فَالْأَنْبِيَاء لَنَا كَالسُّبُلِ فِي الْأَرْض . وَيُرْوَى أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : السَّلَام عَلَيْك يَا نَبِيء اللَّه ; وَهَمَزَ . فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَسْت بِنَبِيءِ اللَّه وَهَمَزَ وَلَكِنِّي نَبِيّ اللَّه ) وَلَمْ يَهْمِز . قَالَ أَبُو عَلِيّ : ضُعِّفَ سَنَد هَذَا الْحَدِيث ; وَمِمَّا يُقَوِّي ضَعْفه أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام قَدْ أَنْشَدَهُ الْمَادِح : <br>يَا خَاتَم النُّبَآء . .. <br>وَلَمْ يُؤْثَر فِي ذَلِكَ إِنْكَار .|بِغَيْرِ حَقٍّ|تَعْظِيم لِلشَّنْعَةِ وَالذَّنْب الَّذِي أَتَوْهُ</p><p>فَإِنْ قِيلَ : هَذَا دَلِيل عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَصِحّ أَنْ يُقْتَلُوا بِالْحَقِّ ; وَمَعْلُوم أَنَّ الْأَنْبِيَاء مَعْصُومُونَ مِنْ أَنْ يَصْدُر مِنْهُمْ مَا يُقْتَلُونَ بِهِ . قِيلَ لَهُ : لَيْسَ كَذَلِكَ ; وَإِنَّمَا خَرَجَ هَذَا مَخْرَج الصِّفَة لِقَتْلِهِمْ أَنَّهُ ظُلْم وَلَيْسَ بِحَقٍّ ; فَكَانَ هَذَا تَعْظِيمًا لِلشَّنْعَةِ عَلَيْهِمْ ; وَمَعْلُوم أَنَّهُ لَا يُقْتَل نَبِيّ بِحَقٍّ , وَلَكِنْ يُقْتَل عَلَى الْحَقّ ; فَصَرَّحَ قَوْله : | بِغَيْرِ الْحَقّ | عَنْ شُنْعَة الذَّنْب وَوُضُوحه ; وَلَمْ يَأْتِ نَبِيّ قَطُّ بِشَيْءٍ يُوجِب قَتْله .</p><p>فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ جَازَ أَنْ يُخَلَّى بَيْنَ الْكَافِرِينَ وَقَتْل الْأَنْبِيَاء قِيلَ : ذَلِكَ كَرَامَة لَهُمْ وَزِيَادَة فِي مَنَازِلهمْ ; كَمَثَلِ مَنْ يُقْتَل فِي سَبِيل اللَّه مِنْ الْمُؤْمِنِينَ , وَلَيْسَ ذَلِكَ بِخِذْلَانٍ لَهُمْ . قَالَ اِبْن عَبَّاس وَالْحَسَن : لَمْ يُقْتَل نَبِيّ قَطُّ مِنْ الْأَنْبِيَاء إِلَّا مَنْ لَمْ يُؤْمَر بِقِتَالٍ , وَكُلّ مَنْ أُمِرَ بِقِتَالٍ نُصِرَ .|ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ|ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ | | ذَلِكَ | رَدّ عَلَى الْأَوَّل وَتَأْكِيد لِلْإِشَارَةِ إِلَيْهِ . وَالْبَاء فِي | بِمَا | بَاء السَّبَب . قَالَ الْأَخْفَش : أَيْ بِعِصْيَانِهِمْ . وَالْعِصْيَان : خِلَاف الطَّاعَة . وَاعْتَصْت النَّوَاة إِذَا اِشْتَدَّتْ . وَالِاعْتِدَاء : تَجَاوُز الْحَدّ فِي كُلّ شَيْء ; وَعُرْف فِي ذَلِكَ وَالْمَعَاصِي .

لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آَيَاتِ اللَّهِ آَنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ

تَمَّ الْكَلَام . وَالْمَعْنَى : لَيْسَ أَهْل الْكِتَاب وَأُمَّة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَوَاء ; عَنْ اِبْن مَسْعُود . وَقِيلَ : الْمَعْنَى لَيْسَ الْمُؤْمِنُونَ وَالْكَافِرُونَ مِنْ أَهْل الْكِتَاب سَوَاء . وَذَكَرَ أَبُو خَيْثَمَة زُهَيْر بْن حَرْب حَدَّثَنَا هَاشِم بْن الْقَاسِم حَدَّثَنَا شَيْبَان عَنْ عَاصِم عَنْ زِرّ عَنْ اِبْن مَسْعُود قَالَ : أَخَّرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَة صَلَاة الْعِشَاء ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْمَسْجِد فَإِذَا النَّاس يَنْتَظِرُونَ الصَّلَاة فَقَالَ : ( إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْل الْأَدْيَان أَحَد يَذْكُر اللَّه تَعَالَى فِي هَذِهِ السَّاعَة غَيْركُمْ ) قَالَ : أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَة | لَيْسُوا سَوَاء مِنْ أَهْل الْكِتَاب أُمَّة قَائِمَة - إِلَى قَوْله : وَاَللَّه عَلِيم بِالْمُتَّقِينَ | وَرَوَى اِبْن وَهْب مِثْله . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ|مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ|مَنْ آمَنَ مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَالَ اِبْن إِسْحَاق عَنْ اِبْن عَبَّاس لَمَّا أَسْلَمَ عَبْد اللَّه بْن سَلَام , وَثَعْلَبَة بْن سَعْيَة , وَأُسَيْد بْن سُعَيَّة , وَأُسَيْد بْن عُبَيْد , وَمَنْ أَسْلَمَ مِنْ يَهُود ; فَآمَنُوا وَصَدَّقُوا وَرَغِبُوا فِي الْإِسْلَام وَرَسَخُوا فِيهِ , قَالَتْ أَحْبَار يَهُود وَأَهْل الْكُفْر مِنْهُمْ : مَا آمَنَ بِمُحَمَّدٍ وَلَا تَبِعَهُ إِلَّا شِرَارنَا , وَلَوْ كَانُوا مِنْ خِيَارنَا مَا تَرَكُوا دِين آبَائِهِمْ وَذَهَبُوا إِلَى غَيْره ; فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلهمْ : | لَيْسُوا سَوَاء مِنْ أَهْل الْكِتَاب أُمَّة قَائِمَة يَتْلُونَ آيَات اللَّه آنَاء اللَّيْل وَهُمْ يَسْجُدُونَ . إِلَى قَوْله : وَأُولَئِكَ مِنْ الصَّالِحِينَ | . وَقَالَ الْأَخْفَش : التَّقْدِير مِنْ أَهْل الْكِتَاب ذُو أُمَّة , أَيْ ذُو طَرِيقَة حَسَنَة . وَأَنْشَدَ : <br>وَهَلْ يَأْمَمَنْ ذُو أُمَّة وَهْوَ طَائِع <br>وَقِيلَ : فِي الْكَلَام حَذْف ; وَالتَّقْدِير مِنْ أَهْل الْكِتَاب أُمَّة قَائِمَة وَأُخْرَى غَيْر قَائِمَة , فَتَرَكَ الْأُخْرَى اِكْتِفَاء بِالْأُولَى ; كَقَوْلِ أَبِي ذُؤَيْب : <br>عَصَانِي إِلَيْهَا الْقَلْب إِنِّي لِأَمْرِهِ .......... مُطِيع فَمَا أَدْرِي أَرُشْد طِلَابهَا <br>أَرَادَ : أَرُشْد أَمْ غَيّ , فَحَذَفَ . قَالَ الْفَرَّاء : | أُمَّة | رَفْع ب | سَوَاء | , وَالتَّقْدِير : لَيْسَ يَسْتَوِي أُمَّة مِنْ أَهْل الْكِتَاب قَائِمَة يَتْلُونَ آيَات اللَّه وَأُمَّة كَافِرَة . قَالَ النَّحَّاس : هَذَا قَوْل خَطَأ مِنْ جِهَات : إِحْدَاهَا أَنَّهُ يَرْفَع | أُمَّة | ب | سَوَاء | فَلَا يَعُود عَلَى اِسْم لَيْسَ بِشَيْءٍ , وَيَرْفَع بِمَا لَيْسَ جَارِيًا عَلَى الْفِعْل وَيُضْمِر مَا لَا يَحْتَاج إِلَيْهِ ; لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْر الْكَافِر فَلَيْسَ لِإِضْمَارِ هَذَا وَجْه . وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة : هَذَا مِثْل قَوْلهمْ : أَكَلُونِي الْبَرَاغِيث , وَذَهَبُوا أَصْحَابك . قَالَ النَّحَّاس : وَهَذَا غَلَط ; لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرهمْ , وَأَكَلُونِي الْبَرَاغِيث لَمْ يَتَقَدَّم لَهُمْ ذِكْر . و | آنَاءَ اللَّيْل | سَاعَاته . وَأَحَدهَا إِنًى وَأَنًى وَإِنْي , وَهُوَ مَنْصُوب عَلَى الظَّرْف . و | يَسْجُدُونَ | يُصَلُّونَ ; عَنْ الْفَرَّاء وَالزَّجَّاج ; لِأَنَّ التِّلَاوَة لَا تَكُون فِي الرُّكُوع وَالسُّجُود . نَظِيره قَوْله : | وَلَهُ يَسْجُدُونَ | أَيْ يُصَلُّونَ . وَفِي [ الْفُرْقَان ] : | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اُسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ | [ الْفُرْقَان : 60 ] وَفِي النَّجْم | فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا | [ النَّجْم : 62 ] . وَقِيلَ : يُرَاد بِهِ السُّجُود الْمَعْرُوف خَاصَّة . وَسَبَب النُّزُول يَرُدّهُ , وَأَنَّ الْمُرَاد صَلَاة الْعَتَمَة كَمَا ذَكَرْنَا عَنْ اِبْن مَسْعُود ; فَعَبَدَة الْأَوْثَان نَامُوا حَيْثُ جَنَّ عَلَيْهِمْ اللَّيْل , وَالْمُوَحِّدُونَ قِيَام بَيْنَ يَدَيْ اللَّه تَعَالَى فِي صَلَاة الْعِشَاء يَتْلُونَ آيَات اللَّه ; أَلَا تَرَى لَمَّا ذَكَرَ قِيَامهمْ قَالَ | وَهُمْ يَسْجُدُونَ | أَيْ مَعَ الْقِيَام أَيْضًا . الثَّوْرِيّ : هِيَ الصَّلَاة بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ . وَقِيلَ : هِيَ فِي قِيَام اللَّيْل . وَعَنْ رَجُل مِنْ بَنِي شَيْبَة كَانَ يَدْرُس الْكُتُب قَالَ : إِنَّا نَجِد كَلَامًا مِنْ كَلَام الرَّبّ عَزَّ وَجَلَّ : أَيَحْسِبُ رَاعِي إِبِل أَوْ رَاعِي غَنَم إِذَا جَنَّهُ اللَّيْل اِنْخَذَلَ كَمَنْ هُوَ قَائِم وَسَاجِد آنَاء اللَّيْل . | يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ | يَعْنِي يُقِرُّونَ بِاَللَّهِ وَيُصَدِّقُونَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ

قِيلَ : هُوَ عُمُوم . وَقِيلَ : يُرَاد بِهِ الْأَمْر بِاتِّبَاعِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .|وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ|وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر النَّهْي عَنْ مُخَالَفَته .|وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ|الَّتِي يَعْمَلُونَهَا مُبَادِرِينَ غَيْر مُتَثَاقِلِينَ لِمَعْرِفَتِهِمْ بِقَدْرِ ثَوَابهمْ . وَقِيلَ : يُبَادِرُونَ بِالْعَمَلِ قَبْل الْفَوْت .|وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ|أَيْ مَعَ الصَّالِحِينَ , وَهُمْ أَصْحَاب مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجَنَّة .

وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ

قَرَأَ الْأَعْمَش وَابْن وَثَّاب وَحَمْزَة وَالْكِسَائِيّ وَحَفْص وَخَلَف بِالْيَاءِ فِيهِمَا ; إِخْبَارًا عَنْ الْأُمَّة الْقَائِمَة , وَهِيَ قِرَاءَة اِبْن عَبَّاس وَاخْتِيَار أَبِي عُبَيْد . وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّاءِ فِيهِمَا عَلَى الْخِطَاب ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى : | كُنْتُمْ خَيْر أُمَّة أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ | [ آل عِمْرَان : 110 ] . وَهِيَ اِخْتِيَار أَبِي حَاتِم , وَكَانَ أَبُو عَمْرو يَرَى الْقِرَاءَتَيْنِ جَمِيعًا الْيَاء وَالتَّاء . وَمَعْنَى الْآيَة : وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْر فَإِنْ تَجْحَدُوا ثَوَابه بَلْ يُشْكَر لَكُمْ وَتُجَازَوْنَ عَلَيْهِ .

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ

مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ

مَا تَصْلُح أَنْ تَكُون مَصْدَرِيَّة , وَتَصْلُح أَنْ تَكُون بِمَعْنَى الَّذِي وَالْعَائِد مَحْذُوف , أَيْ مَثَل مَا يُنْفِقُونَهُ . وَمَعْنَى | كَمَثَلِ رِيح | كَمَثَلِ مَهَبّ رِيح . قَالَ اِبْن عَبَّاس : وَالصِّرّ : الْبَرْد الشَّدِيد . قِيلَ : أَصْله مِنْ الصَّرِير الَّذِي هُوَ الصَّوْت , فَهُوَ صَوْت الرِّيح الشَّدِيدَة . الزَّجَّاج : هُوَ صَوْت لَهَب النَّار الَّتِي كَانَتْ فِي تِلْكَ الرِّيح . وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْبَقَرَة . وَفِي الْحَدِيث : إِنَّهُ نَهَى عَنْ الْجَرَاد الَّذِي قَتَلَهُ الصِّرّ . وَمَعْنَى الْآيَة : مَثَل نَفَقَة الْكَافِرِينَ فِي بُطْلَانهَا وَذَهَابهَا وَعَدَم مَنْفَعَتهَا كَمَثَلِ زَرْع أَصَابَهُ رِيح بَارِدَة أَوْ نَار فَأَحْرَقَتْهُ وَأَهْلَكَتْهُ , فَلَمْ يَنْتَفِع أَصْحَابه بِشَيْءٍ بَعْد مَا كَانُوا يَرْجُونَ فَائِدَته وَنَفْعه .|أَصَابَتْ|بِذَلِكَ|حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ|بِالْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَة وَمَنْع حَقّ اللَّه تَعَالَى . وَقِيلَ : ظَلَمُوا أَنْفُسهمْ بِأَنْ زَرَعُوا فِي غَيْر وَقْت الزِّرَاعَة أَوْ فِي غَيْر مَوْضِعهَا فَأَدَّبَهُمْ اللَّه تَعَالَى ; لِوَضْعِهِمْ الشَّيْء فِي غَيْر مَوْضِعه ; حَكَاهُ الْمَهْدَوِيّ .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِل

فِيهِ سِتّ مَسَائِل :</p><p>الْأُولَى : أَكَّدَ اللَّه تَعَالَى الزَّجْر عَنْ الرُّكُون إِلَى الْكُفَّار . وَهُوَ مُتَّصِل بِمَا سَبَقَ مِنْ قَوْله : | إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب | [ آل عِمْرَان : 100 ] . وَالْبِطَانَة مَصْدَر , يُسَمَّى بِهِ الْوَاحِد وَالْجَمْع . وَبِطَانَة الرَّجُل خَاصَّته الَّذِينَ يَسْتَبْطِنُونَ أَمْرَهُ , وَأَصْله مِنْ الْبَطْن الَّذِي هُوَ خِلَاف الظَّهْر . وَبَطَنَ فُلَان بِفُلَانٍ يَبْطُن بُطُونًا وَبِطَانَة إِذَا كَانَ خَاصًّا بِهِ . قَالَ الشَّاعِر : <br>أُولَئِكَ خُلَصَائِي نَعَمْ وَبِطَانَتِي .......... وَهُمْ عَيْبَتِي مِنْ دُون كُلّ قَرِيب <br>الثَّانِيَة : نَهَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ الْمُؤْمِنِينَ بِهَذِهِ الْآيَة أَنْ يَتَّخِذُوا مِنْ الْكُفَّار وَالْيَهُود وَأَهْل الْأَهْوَاء دُخَلَاء وَوُلَجَاء , يُفَاوِضُونَهُمْ فِي الْآرَاء , وَيُسْنِدُونَ إِلَيْهِمْ أُمُورهمْ . وَيُقَال : كُلّ مَنْ كَانَ عَلَى خِلَاف مَذْهَبك وَدِينك فَلَا يَنْبَغِي لَك أَنْ تُحَادِثهُ ; قَالَ الشَّاعِر : <br>عَنْ الْمَرْء لَا تَسْأَل وَسَلْ عَنْ قَرِينه .......... فَكُلّ قَرِين بِالْمُقَارِنِ يَقْتَدِي <br>وَفِي سُنَن أَبِي دَاوُد عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( الْمَرْء عَلَى دِين خَلِيله فَلْيَنْظُرْ أَحَدكُمْ مَنْ يُخَالِلْ ) . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن مَسْعُود أَنَّهُ قَالَ : اِعْتَبِرُوا النَّاس بِإِخْوَانِهِمْ . ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ نَهَى عَنْ الْمُوَاصَلَة فَقَالَ : | لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا | يَقُول فَسَادًا . يَعْنِي لَا يَتْرُكُونَ الْجَهْد فِي فَسَادكُمْ , يَعْنِي أَنَّهُمْ وَإِنْ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الظَّاهِر فَإِنَّهُمْ لَا يَتْرُكُونَ الْجَهْد فِي الْمَكْر وَالْخَدِيعَة , عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه . وَرُوِيَ عَنْ أَبِي أُمَامَة عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْل اللَّه تَعَالَى : | يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَة مِنْ دُونكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا | قَالَ : ( هُمْ الْخَوَارِج ) . وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيّ اِسْتَكْتَبَ ذِمِّيًّا فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَر يُعَنِّفهُ وَتَلَا عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَة . وَقَدِمَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ عَلَى عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا بِحِسَابٍ فَرَفَعَهُ إِلَى عُمَر فَأَعْجَبَهُ , وَجَاءَ عُمَر كِتَاب فَقَالَ لِأَبِي مُوسَى : أَيْنَ كَاتِبك يَقْرَأ هَذَا الْكِتَاب عَلَى النَّاس ؟ فَقَالَ : إِنَّهُ لَا يَدْخُل الْمَسْجِد . فَقَالَ لِمَ ! أَجْنَبَ هُوَ ؟ قَالَ : إِنَّهُ نَصْرَانِيّ ; فَانْتَهَرَهُ وَقَالَ : لَا تُدْنِهِمْ وَقَدْ أَقْصَاهُمْ اللَّه , وَلَا تُكْرِمهُمْ وَقَدْ أَهَانَهُمْ اللَّه , وَلَا تَأْمَنهُمْ وَقَدْ خَوَّنَهُمْ اللَّه . وَعَنْ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : لَا تَسْتَعْمِلُوا أَهْل الْكِتَاب فَإِنَّهُمْ يَسْتَحِلُّونَ الرِّشَا , وَاسْتَعِينُوا عَلَى أُمُوركُمْ وَعَلَى رَعِيَّتكُمْ بِاَلَّذِينَ يَخْشَوْنَ اللَّه تَعَالَى . وَقِيلَ لِعُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : إِنَّ هَهُنَا رَجُلًا مِنْ نَصَارَى الْحِيرَة لَا أَحَد أَكْتَب مِنْهُ وَلَا أَخَطّ بِقَلَمٍ أَفَلَا يَكْتُب عَنْك ؟ فَقَالَ : لَا آخُذ بِطَانَة مِنْ دُون الْمُؤْمِنِينَ . فَلَا يَجُوز اِسْتِكْتَاب أَهْل الذِّمَّة , وَلَا غَيْر ذَلِكَ مِنْ تَصَرُّفَاتهمْ فِي الْبَيْع وَالشِّرَاء وَالِاسْتِنَابَة إِلَيْهِمْ . قُلْت : وَقَدْ اِنْقَلَبَتْ الْأَحْوَال فِي هَذِهِ الْأَزْمَان بِاِتِّخَاذِ أَهْل الْكِتَاب كَتَبَة وَأُمَنَاء وَتَسْوَدُّوا بِذَلِكَ عِنْد الْجَهَلَة الْأَغْبِيَاء مِنْ الْوُلَاة وَالْأُمَرَاء . رَوَى الْبُخَارِيّ عَنْ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَا بَعَثَ اللَّه مِنْ نَبِيّ وَلَا اِسْتَخْلَفَ مِنْ خَلِيفَة إِلَّا كَانَتْ لَهُ بِطَانَتَانِ بِطَانَة تَأْمُرهُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَحُضّهُ عَلَيْهِ وَبِطَانَة تَأْمُرهُ بِالشَّرِّ وَتَحُضّهُ عَلَيْهِ فَالْمَعْصُوم مَنْ عَصَمَ اللَّهُ تَعَالَى ) . وَرَوَى أَنَس بْن مَالِك قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا تَسْتَضِيئُوا بِنَارِ الْمُشْرِكِينَ وَلَا تَنْقُشُوا فِي خَوَاتِيمكُمْ غَرِيبًا ) . فَسَّرَهُ الْحَسَن بْن أَبِي الْحَسَن فَقَالَ : أَرَادَ عَلَيْهِ السَّلَام لَا تَسْتَشِيرُوا الْمُشْرِكِينَ فِي شَيْء مِنْ أُمُوركُمْ , وَلَا تَنْقُشُوا فِي خَوَاتِيمكُمْ مُحَمَّدًا . قَالَ الْحَسَن : وَتَصْدِيق ذَلِكَ فِي كِتَاب اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : | يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَة مِنْ دُونكُمْ | الْآيَة .</p><p>الثَّالِثَة : قَوْله تَعَالَى : | مِنْ دُونكُمْ | أَيْ مِنْ سِوَاكُمْ . قَالَ الْفَرَّاء : | وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُون ذَلِكَ | أَيْ سِوَى ذَلِكَ . وَقِيلَ : | مِنْ دُونكُمْ | يَعْنِي فِي السَّيْر وَحُسْن الْمَذْهَب . وَمَعْنَى | لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا | لَا يُقَصِّرُونَ فِيمَا فِيهِ الْفَسَاد عَلَيْكُمْ . وَهُوَ فِي مَوْضِع الصِّفَة ل | بِطَانَة مِنْ دُونكُمْ | . يُقَال : لَا آلُو جَهْدًا أَيْ لَا أُقَصِّر . وَأَلَوْت أَلْوًا قَصَّرْت ; قَالَ امْرُؤُ الْقَيْس : <br>وَمَا الْمَرْء مَا دَامَتْ حُشَاشَة نَفْسه .......... بِمُدْرِكٍ اَطْرَافَ الْخُطُوب وَلَا آل <br>وَالْخَبَال : الْخَبَل . وَالْخَبَل : الْفَسَاد ; وَقَدْ يَكُون ذَلِكَ فِي الْأَفْعَال وَالْأَبْدَان وَالْعُقُول . وَفِي الْحَدِيث : ( مَنْ أُصِيبَ بِدَمٍ أَوْ خَبَل ) أَيْ جُرْح يُفْسِد الْعُضْو . وَالْخَبَل : فَسَاد الْأَعْضَاء , وَرَجُل خَبَل وَمُخْتَبِل , وَخَبَلَهُ الْحُبّ أَيْ أَفْسَدَهُ . قَالَ أَوْس : <br>أَبَنِي لُبَيْنَى لَسْتُمْ بِيَدٍ .......... إِلَّا يَدًا مَخْبُولَة الْعَضُد <br>أَيْ فَاسِدَة الْعَضُد . وَأَنْشَدَ الْفَرَّاء : <br>نَظَرَ اِبْن سَعْد نَظْرَة وَبَّتْ بِهَا .......... كَانَتْ لِصُحْبِك وَالْمَطِيّ خَبَالَا <br>أَيْ فَسَاد . وَانْتَصَبَ ( خَبَالًا ) بِالْمَفْعُولِ الثَّانِي ; لِأَنَّ الْأَلْو يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ , وَإِنْ شِئْت عَلَى الْمَصْدَر , أَيْ يَخْبِلُونَكُمْ خَبَالًا : وَإِنْ شِئْت بِنَزْعِ الْخَافِض , أَيْ بِالْخَبَالِ ; كَمَا قَالُوا : أَوْجَعْته ضَرْبًا : | وَمَا | فِي قَوْله : | وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ | مَصْدَرِيَّة , أَيْ وَدُّوا عَنَتكُمْ . أَيْ مَا يَشُقّ عَلَيْكُمْ . وَالْعَنَت الْمَشَقَّة , وَقَدْ مَضَى فِي | الْبَقَرَة | مَعْنَاهُ .</p><p>الرَّابِعَة : قَوْله تَعَالَى : | قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاههمْ | يَعْنِي ظَهَرَتْ الْعَدَاوَة وَالتَّكْذِيب لَكُمْ مِنْ أَفْوَاههمْ . وَالْبَغْضَاء : الْبُغْض , وَهُوَ ضِدّ الْحُبّ . وَالْبَغْضَاء مَصْدَر مُؤَنَّث . وَخَصَّ تَعَالَى الْأَفْوَاه بِالذِّكْرِ دُون الْأَلْسِنَة إِشَارَة إِلَى تَشَدُّقهمْ وَثَرْثَرَتهمْ فِي أَقْوَالهمْ هَذِهِ , فَهُمْ فَوْق الْمُتَسَتِّر الَّذِي تَبْدُو الْبَغْضَاء فِي عَيْنَيْهِ . وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى نَهْيه عَلَيْهِ السَّلَام أَنْ يَشْتَحِيَ الرَّجُل فَاهُ فِي عِرْض أَخِيهِ . مَعْنَاهُ أَنْ يَفْتَح ; يُقَال : شَحَى الْحِمَار فَاهُ بِالنَّهِيقِ , وَشَحَى الْفَم نَفْسه . وَشَحَى اللِّجَام فَم الْفَرَس شَحْيًا , وَجَاءَتْ الْخَيْل شَوَاحِي : فَاتِحَات أَفْوَاههَا . وَلَا يُفْهَم مِنْ هَذَا الْحَدِيث دَلِيل خِطَاب عَلَى الْجَوَاز فَيَأْخُذ أَحَد فِي عِرْض أَخِيهِ هَمْسًا ; فَإِنَّ ذَلِكَ يَحْرُم بِاتِّفَاقٍ مِنْ الْعُلَمَاء . وَفِي التَّنْزِيل | وَلَا يَغْتَبْ بَعْضكُمْ بَعْضًا | [ الْحُجُرَات : 12 ] الْآيَة . وَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالكُمْ وَأَعْرَاضكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَام ) . فَذِكْر الشَّحْو إِنَّمَا هُوَ إِشَارَة إِلَى التَّشَدُّق وَالِانْبِسَاط , فَاعْلَمْ .</p><p>الْخَامِسَة : وَفِي هَذِهِ الْآيَة دَلِيل عَلَى أَنَّ شَهَادَة الْعَدُوّ عَلَى عَدُوّهُ لَا يَجُوز , وَبِذَلِكَ قَالَ أَهْل الْمَدِينَة وَأَهْل الْحِجَاز ; وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَة جَوَاز ذَلِكَ . وَحَكَى اِبْن بَطَّال عَنْ اِبْن شَعْبَان أَنَّهُ قَالَ : أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّهُ لَا تَجُوز شَهَادَة الْعَدُوّ عَلَى عَدُوّهُ فِي شَيْء وَإِنْ كَانَ عَدْلًا , وَالْعَدَاوَة تُزِيل الْعَدَالَة فَكَيْفَ بِعَدَاوَةِ كَافِر .</p><p>السَّادِسَة : قَوْله تَعَالَى : | وَمَا تُخْفِي صُدُورهمْ أَكْبَر | إِخْبَار وَإِعْلَام بِأَنَّهُمْ يُبْطِنُونَ مِنْ الْبَغْضَاء أَكْثَر مِمَّا يُظْهِرُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ . وَقَرَأَ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود : | قَدْ بَدَأَ الْبَغْضَاء | بِتَذْكِيرِ الْفِعْل ; لَمَّا كَانَتْ الْبَغْضَاء بِمَعْنَى الْبُغْض .

هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُو

يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ ; دَلِيله قَوْله | وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا | ; قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَة وَمُقَاتِل . وَالْمَحَبَّة هُنَا بِمَعْنَى الْمُصَافَاة , أَيْ أَنْتُمْ أَيّهَا الْمُسْلِمُونَ تُصَافُونَهُمْ وَلَا يُصَافُونَكُمْ لِنِفَاقِهِمْ . وَقِيلَ : الْمَعْنَى تُرِيدُونَ لَهُمْ الْإِسْلَام وَهُمْ يُرِيدُونَ لَكُمْ الْكُفْر . وَقِيلَ : الْمُرَاد الْيَهُود ; قَالَهُ الْأَكْثَر . وَالْكِتَاب اِسْم جِنْس ; قَالَ اِبْن عَبَّاس : يَعْنِي بِالْكُتُبِ . وَالْيَهُود يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْضِ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى : | وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّه قَالُوا نُؤْمِن بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ | [ الْبَقَرَة : 91 ] .|كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا|أَيْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَأَنَّهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .|آمَنَّا وَإِذَا|فِيمَا بَيْنهمْ|خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ|يَعْنِي أَطْرَاف الْأَصَابِع|الْأَنَامِلَ مِنَ|وَالْحَنَق عَلَيْكُمْ ; فَيَقُول بَعْضهمْ لِبَعْضٍ : أَلَا تَرَوْنَ إِلَى هَؤُلَاءِ ظَهَرُوا وَكَثُرُوا . وَالْعَضّ عِبَارَة عَنْ شِدَّة الْغَيْظ مَعَ عَدَم الْقُدْرَة عَلَى إِنْفَاذه ; وَمِنْهُ قَوْل أَبِي طَالِب : <br>يَعَضُّونَ غَيْظًا خَلْفنَا بِالْأَنَامِلِ <br>وَقَالَ آخَر : <br>إِذَا رَأَوْنِي أَطَالَ اللَّه غَيْظَهُمُ .......... عَضُّوا مِنْ الْغَيْظ أَطْرَاف الْأَبَاهِيم <br>يُقَال : عَضَّ يَعَضّ عَضًّا وَعَضِيضًا . وَالْعُضّ ( بِضَمِّ الْعَيْن ) : عَلَف دَوَابّ أَهْل الْأَمْصَار مِثْل الْكُسْب وَالنَّوَى الْمَرْضُوخ ; يُقَال مِنْهُ : أَعَضَّ الْقَوْم , إِذَا أَكَلَتْ إِبِلهمْ الْعُضّ . وَبَعِير عُضَاضِيّ , أَيْ سَمِين كَأَنَّهُ مَنْسُوب إِلَيْهِ . وَالْعِضّ ( بِالْكَسْرِ ) : الدَّاهِي مِنْ الرِّجَال وَالْبَلِيغ الْمَكْر . وَعَضّ الْأَنَامِل مِنْ فِعْل الْمُغْضَب الَّذِي فَاتَهُ مَا لَا يَقْدِر عَلَيْهِ , أَوْ نَزَلَ بِهِ مَا لَا يَقْدِر عَلَى تَغْيِيره . وَهَذَا الْعَضّ هُوَ بِالْأَسْنَانِ كَعَضِّ الْيَد عَلَى فَائِت قَرِيب الْفَوَات . وَكَقَرْعِ السِّنّ النَّادِمَة , إِلَى غَيْر ذَلِكَ مِنْ عَدّ الْحَصَى وَالْخَطّ فِي الْأَرْض لِلْمَهْمُومِ . وَيَكْتُب هَذَا الْعَضّ بِالضَّادِ السَّاقِطَة , وَعَظّ الزَّمَان بِالظَّاءِ الْمُشَالَة ; كَمَا قَالَ : <br>وَعَظُّ زَمَان يَا اِبْن مَرْوَان لَمْ يَدَع .......... مِنْ الْمَال إِلَّا مُسْحَتًا أَوْ مُجَلَّفَا <br>وَوَاحِد الْأَنَامِل أُنْمُلَة ( بِضَمِّ الْمِيم ) وَيُقَال بِفَتْحِهَا , وَالضَّمّ أَشْهَر . وَكَانَ أَبُو الْجَوْزَاء إِذَا تَلَا هَذِهِ الْآيَة قَالَ : هُمْ الْإِبَاضِيَّة . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذِهِ الصِّفَة قَدْ تَتَرَتَّب فِي كَثِير مِنْ أَهْل الْبِدَع إِلَى يَوْم الْقِيَامَة .|الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ|إِنْ قِيلَ : كَيْفَ لَمْ يَمُوتُوا وَاَللَّه تَعَالَى إِذَا قَالَ لِشَيْءٍ : كُنْ فَيَكُون . قِيلَ عَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدهمَا : قَالَ فِيهِ الطَّبَرِيّ وَكَثِير مِنْ الْمُفَسِّرِينَ : هُوَ دُعَاء عَلَيْهِمْ . أَيْ قُلْ يَا مُحَمَّد أَدَامَ اللَّه غَيْظكُمْ إِلَى أَنْ تَمُوتُوا . فَعَلَى هَذَا يَتَّجِه أَنْ يَدْعُو عَلَيْهِمْ بِهَذَا مُوَاجَهَة وَغَيْر مُوَاجَهَة بِخِلَافِ اللَّعْنَة . الثَّانِي : إِنَّ الْمَعْنَى أَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ لَا يُدْرِكُونَ مَا يُؤَمِّلُونَ , فَإِنَّ الْمَوْت دُونَ ذَلِكَ . فَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى زَالَ مَعْنَى الدُّعَاء وَبَقِيَ مَعْنَى التَّقْرِيع وَالْإِغَاظَة . وَيَجْرِي هَذَا الْمَعْنَى مَعَ قَوْل مُسَافِر بْن أَبِي عَمْرو : <br>وَيَتَمَنَّى فِي أَرُومَتنَا .......... وَنَفْقَأ عَيْن مَنْ حَسَدَا <br>وَيَنْظُر إِلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْله تَعَالَى : | مَنْ كَانَ يَظُنّ أَنْ لَنْ يَنْصُرهُ اللَّه فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاء ثُمَّ لِيَقْطَع | [ الْحَجّ : 15 ] .

إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ

قَرَأَ السُّلَمِيّ بِالْيَاءِ وَالْبَاقُونَ بِالتَّاءِ . وَاللَّفْظ عَامّ فِي كُلّ مَا يَحْسُن وَيَسُوء . وَمَا ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ مِنْ الْخِصْب وَالْجَدْب وَاجْتِمَاع الْمُؤْمِنِينَ وَدُخُول الْفُرْقَة بَيْنهمْ إِلَى غَيْر ذَلِكَ مِنْ الْأَقْوَال أَمْثِلَة وَلَيْسَ بِاخْتِلَافٍ . وَالْمَعْنَى فِي الْآيَة : أَنَّ مَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِفَته مِنْ شِدَّة الْعَدَاوَة وَالْحِقْد وَالْفَرَح بِنُزُولِ الشَّدَائِد عَلَى الْمُؤْمِنِينَ , لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِأَنْ يُتَّخَذ بِطَانَة , لَا سِيَّمَا فِي هَذَا الْأَمْر الْجَسِيم مِنْ الْجِهَاد الَّذِي هُوَ مِلَاك الدُّنْيَا وَالْآخِرَة ; وَلَقَدْ أَحْسَنَ الْقَائِل فِي قَوْله : <br>كُلّ الْعَدَاوَة قَدْ تُرْجَى إِفَاقَتهَا .......... إِلَّا عَدَاوَة مَنْ عَادَاك مِنْ حَسَد<br>|وَإِنْ تَصْبِرُوا|أَيْ عَلَى أَذَاهُمْ وَعَلَى الطَّاعَة وَمُوَالَاة الْمُؤْمِنِينَ .|وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ|يُقَال : ضَارَّهُ يَضُورهُ وَيَضِيرهُ ضَيْرًا وَضَوْرًا ; فَشَرَطَ تَعَالَى نَفْي ضَرَرهمْ بِالصَّبْرِ وَالتَّقْوَى , فَكَانَ ذَلِكَ تَسْلِيَة لِلْمُؤْمِنِينَ وَتَقْوِيَة لِنُفُوسِهِمْ . قُلْت : قَرَأَ الْحَرَمِيَّان وَأَبُو عَمْرو | لَا يَضِرْكُمْ | مِنْ ضَارَّ يُضِير كَمَا ذَكَرْنَا ; وَمِنْهُ قَوْله | لَا ضَيْر | , وَحُذِفَتْ الْيَاء لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ ; لِأَنَّك لَمَّا حَذَفْت الضَّمَّة مِنْ الرَّاء بَقِيَتْ الرَّاء سَاكِنَة وَالْيَاء سَاكِنَة فَحُذِفَتْ الْيَاء , وَكَانَتْ أَوْلَى بِالْحَذْفِ ; لِأَنَّ قَبْلهَا مَا يَدُلّ عَلَيْهَا . وَحَكَى الْكِسَائِيّ أَنَّهُ سَمِعَ | ضَارَّهُ يَضُورهُ | وَأَجَازَ | لَا يَضُرْكُمْ | وَزَعَمَ أَنَّ فِي قِرَاءَة أُبَيّ بْن كَعْب | لَا يَضْررْكُمْ | . قَرَأَ الْكُوفِيُّونَ : | لَا يَضُرّكُمْ | بِضَمِّ الرَّاء وَتَشْدِيدهَا مِنْ ضَرَّ يَضُرّ . وَيَجُوز أَنْ يَكُون مَرْفُوعًا عَلَى تَقْدِير إِضْمَار الْفَاء ; وَالْمَعْنَى : فَلَا يَضُرّكُمْ , وَمِنْهُ قَوْل الشَّاعِر : <br>مَنْ يَفْعَل الْحَسَنَات اللَّه يَشْكُرُهَا <br>هَذَا قَوْل الْكِسَائِيّ وَالْفَرَّاء , أَوْ يَكُون مَرْفُوعًا عَلَى نِيَّة التَّقْدِيم ; وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ : <br>إِنَّك إِنْ يُصْرَعْ أَخُوك تُصْرَعُ <br>أَيْ لَا يَضُرّكُمْ أَنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا . وَيَجُوز أَنْ يَكُون مَجْزُومًا , وَضُمَّتْ الرَّاء لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ عَلَى إِتْبَاع الضَّمّ . وَكَذَلِكَ قِرَاءَة مَنْ فَتَحَ الرَّاء عَلَى أَنَّ الْفِعْل مَجْزُوم , وَفَتَحَ | يَضُرّكُمْ | لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ لِخِفَّةِ الْفَتْح ; رَوَاهُ أَبُو زَيْد عَنْ الْمُفَضَّل عَنْ عَاصِم , حَكَاهُ الْمَهْدَوِيّ . وَحَكَى النَّحَّاس : وَزَعَمَ الْمُفَضَّل الضَّبِّيّ عَنْ عَاصِم | لَا يَضُرِّكُمْ | بِكَسْرِ الرَّاء لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ .

وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ

الْعَامِل فِي | إِذْ | فِعْل مُضْمَر تَقْدِيره : وَاذْكُرْ إِذْ غَدَوْت , يَعْنِي خَرَجْت بِالصَّبَاحِ . | مِنْ أَهْلك | مِنْ مَنْزِلك مِنْ عِنْد عَائِشَة .|تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ|هَذِهِ غَزْوَة أُحُد وَفِيهَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة كُلّهَا . وَقَالَ مُجَاهِد وَالْحَسَن وَمُقَاتِل وَالْكَلْبِيّ : هِيَ غَزْوَة الْخَنْدَق . وَعَنْ الْحَسَن أَيْضًا يَوْم بَدْر . وَالْجُمْهُور عَلَى أَنَّهَا غَزْوَة أُحُد ; يَدُلّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى : | إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا | [ آل عِمْرَان : 122 ] وَهَذَا إِنَّمَا كَانَ يَوْم أُحُد , وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ قَصَدُوا الْمَدِينَة فِي ثَلَاثَة آلَاف رَجُل لِيَأْخُذُوا بِثَأْرِهِمْ فِي يَوْم بَدْر ; فَنَزَلُوا عِنْد أُحُد عَلَى شَفِير الْوَادِي بِقَنَاةٍ مُقَابِل الْمَدِينَة , يَوْم الْأَرْبِعَاء الثَّانِي عَشَر مِنْ شَوَّال سَنَة ثَلَاث مِنْ الْهِجْرَة , عَلَى رَأْس أَحَد وَثَلَاثِينَ شَهْرًا مِنْ الْهِجْرَة , فَأَقَامُوا هُنَالِكَ يَوْم الْخَمِيس وَالنَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ , فَرَأَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَنَامه أَنَّ فِي سَيْفه ثُلْمَة , وَأَنَّ بَقَرًا لَهُ تُذْبَح , وَأَنَّهُ أَدْخَلَ يَده فِي دِرْع حَصِينَة ; فَتَأَوَّلَهَا أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابه يُقْتَلُونَ , وَأَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْل بَيْته يُصَاب , وَأَنَّ الدِّرْع الْحَصِينَة الْمَدِينَة . أَخْرَجَهُ مُسْلِم . فَكَانَ كُلّ ذَلِكَ عَلَى مَا هُوَ مَعْرُوف مَشْهُور مِنْ تِلْكَ الْغَزَاة . وَأَصْل التَّبَوُّء اِتِّخَاذ الْمَنْزِل , بَوَّأْته مَنْزِلًا إِذَا أَسْكَنْته إِيَّاهُ ; وَمِنْهُ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَده مِنْ النَّار ) أَيْ لِيَتَّخِذ فِيهَا مَنْزِلًا . فَمَعْنَى | تُبَوِّئ الْمُؤْمِنِينَ | تَتَّخِذ لَهُمْ مَصَافّ . وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيّ مِنْ حَدِيث أَنَس أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( رَأَيْت فِيمَا يَرَى النَّائِم كَأَنِّي مُرْدِف كَبْشًا وَكَأَنَّ ضَبَّة سَيْفِي اِنْكَسَرَتْ فَأَوَّلْت أَنِّي أَقْتُل كَبْش الْقَوْم وَأَوَّلْت كَسْر ضَبَّة سَيْفِي قَتْل رَجُل مِنْ عِتْرَتِي ) فَقُتِلَ حَمْزَة وَقَتَلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَلْحَة , وَكَانَ صَاحِب اللِّوَاء . وَذَكَرَ مُوسَى بْن عُقْبَة عَنْ اِبْن شِهَاب : وَكَانَ حَامِل لِوَاء الْمُهَاجِرِينَ رَجُل مِنْ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : أَنَا عَاصِم إِنْ شَاءَ اللَّه لِمَا مَعِي ; فَقَالَ لَهُ طَلْحَة بْن عُثْمَان أَخُو سَعِيد بْن عُثْمَان اللَّخْمِيّ : هَلْ لَك يَا عَاصِم فِي الْمُبَارَزَة ؟ قَالَ نَعَمْ ; فَبَدَرَهُ ذَلِكَ الرَّجُل . فَضَرَبَ بِالسَّيْفِ عَلَى رَأْس طَلْحَة حَتَّى وَقَعَ السَّيْف فِي لِحْيَته فَقَتَلَهُ ; فَكَانَ قَتْل صَاحِب اللِّوَاء تَصْدِيقًا لِرُؤْيَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( كَأَنِّي مُرْدِف كَبْشًا ) .

إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ

الْعَامِل فِي | إِذْ - تُبَوِّئ | أَوْ | سَمِيع عَلِيم | . وَالطَّائِفَتَانِ : بَنُو سَلِمَة مِنْ الْخَزْرَج , وَبَنُو - حَارِثَة مِنْ الْأَوْس , وَكَانَا جَنَاحَيْ الْعَسْكَر يَوْم أُحُد . وَمَعْنَى | أَنْ تَفْشَلَا | أَنْ تَجْبُنَا . وَفِي الْبُخَارِيّ عَنْ جَابِر قَالَ : فِينَا نَزَلَتْ | إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاَللَّه وَلِيّهمَا | قَالَ : نَحْنُ الطَّائِفَتَانِ : بَنُو حَارِثَة وَبَنُو سَلِمَة , وَمَا نُحِبّ أَنَّهَا لَمْ تَنْزِل ; لِقَوْلِ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : | وَاَللَّه وَلِيّهمَا | . وَقِيلَ : هُمْ بَنُو الْحَارِث وَبَنُو الْخَزْرَج وَبَنُو النَّبِيت , وَالنَّبِيت هُوَ عَمْرو بْن مَالِك مِنْ بَنِي الْأَوْس . وَالْفَشَل عِبَارَة عَنْ الْجُبْن ; وَكَذَلِكَ هُوَ فِي اللُّغَة . وَالْهَمّ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ كَانَ بَعْد الْخُرُوج لَمَّا رَجَعَ عَبْد اللَّه بْن أُبَيّ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُنَافِقِينَ فَحَفِظَ اللَّه قُلُوبهمْ فَلَمْ يَرْجِعُوا ; فَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : | وَاَللَّه وَلِيّهمَا | يَعْنِي قُلُوبهمَا عَنْ تَحْقِيق هَذَا الْهَمّ . وَقِيلَ : أَرَادُوا التَّقَاعُد عَنْ الْخُرُوج , وَكَانَ ذَلِكَ صَغِيرَة مِنْهُمْ . وَقِيلَ : كَانَ ذَلِكَ حَدِيث نَفْس مِنْهُمْ خَطَرَ بِبَالِهِمْ فَأَطْلَعَ اللَّه نَبِيّه عَلَيْهِ السَّلَام عَلَيْهِ فَازْدَادُوا بَصِيرَة ; وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْخَوَر مُكْتَسَبًا لَهُمْ فَعَصَمَهُمْ اللَّه , وَذَمَّ بَعْضهمْ بَعْضًا , وَنَهَضُوا مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَضَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَطَلَّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ , وَكَانَ خُرُوجه مِنْ الْمَدِينَة فِي أَلْف , فَرَجَعَ عَنْهُ عَبْد اللَّه بْن أُبَيّ بْن سَلُول بِثَلَاثِمِائَةِ رَجُل مُغَاضِبًا ; إِذْ خُولِفَ رَأْيه حِينَ أَشَارَ بِالْقُعُودِ وَالْقِتَال فِي الْمَدِينَة إِنْ نَهَضَ إِلَيْهِمْ الْعَدُوّ , وَكَانَ رَأْيه وَافَقَ رَأْي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَأَبَى ذَلِكَ أَكْثَر الْأَنْصَار , وَسَيَأْتِي . وَنَهَضَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمُسْلِمِينَ فَاسْتُشْهِدَ مِنْهُمْ مَنْ أَكْرَمَهُ اللَّه بِالشَّهَادَةِ . قَالَ مَالِك رَحِمَهُ اللَّه : قُتِلَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ يَوْم أُحُد أَرْبَعَة , وَمِنْ الْأَنْصَار سَبْعُونَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ . وَالْمَقَاعِد : جَمْع مَقْعَد وَهُوَ مَكَان الْقُعُود , وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ مَوَاقِف , وَلَكِنَّ لَفْظ الْقُعُود دَالّ عَلَى الثُّبُوت ; وَلَا سِيَّمَا أَنَّ الرُّمَاة كَانُوا قُعُودًا . هَذَا مَعْنَى حَدِيث غَزَاة أُحُد عَلَى الِاخْتِصَار , وَسَيَأْتِي مِنْ تَفْصِيلهَا مَا فِيهِ شِفَاء . وَكَانَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمئِذٍ مِائَة فَرَس عَلَيْهَا خَالِد بْن الْوَلِيد , وَلَمْ يَكُنْ مَعَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمئِذٍ فَرَس . وَفِيهَا جُرِحَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَجْهه وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَته الْيُمْنَى السُّفْلَى بِحَجَرٍ وَهُشِّمَتْ الْبَيْضَة مِنْ عَلَى رَأْسه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَجَزَاهُ عَنْ أُمَّته بِأَفْضَل مَا جَزَى بِهِ نَبِيًّا مِنْ أَنْبِيَائِهِ عَلَى صَبْره . وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى ذَلِكَ مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمْرو بْن قَمِيئَة اللَّيْثِيّ , وَعُتْبَة بْن أَبِي وَقَّاص . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ عَبْد اللَّه بْن شِهَاب جَدّ الْفَقِيه مُحَمَّد بْن مُسْلِم بْن شِهَاب هُوَ الَّذِي شَجَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَبْهَته . قَالَ الْوَاقِدِيّ : وَالثَّابِت عِنْدنَا أَنَّ الَّذِي رَمَى فِي وَجْه النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِبْن قَمِيئَة , وَاَلَّذِي أَدْمَى شَفَته وَأَصَابَ رَبَاعِيَته عُتْبَة بْن أَبِي وَقَّاص . قَالَ الْوَاقِدِيّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ نَافِع بْن جُبَيْر قَالَ : سَمِعْت رَجُلًا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ يَقُول : شَهِدْت أُحُدًا فَنَظَرْت إِلَى النَّبْل تَأْتِي مِنْ كُلّ نَاحِيَة وَرَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَطهَا كُلّ ذَلِكَ يُصْرَف عَنْهُ . وَلَقَدْ رَأَيْت عَبْد اللَّه بْن شِهَاب الزُّهْرِيّ يَقُول يَوْمئِذٍ دُلُّونِي عَلَى مُحَمَّد دُلُّونِي عَلَى مُحَمَّد , فَلَا نَجَوْت إِنْ نَجَا . وَإِنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى جَنْبه مَا مَعَهُ أَحَد ثُمَّ جَاوَزَهُ , فَعَاتَبَهُ فِي ذَلِكَ صَفْوَان فَقَالَ : وَاَللَّه مَا رَأَيْته , أَحْلِف بِاَللَّهِ إِنَّهُ مِنَّا مَمْنُوع ! خَرَجْنَا أَرْبَعَة فَتَعَاهَدْنَا وَتَعَاقَدْنَا عَلَى قَتْله فَلَمْ نَخْلُص إِلَى ذَلِكَ . وَأَكَبَّتْ الْحِجَارَة عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى سَقَطَ فِي حُفْرَة , كَانَ أَبُو عَامِر الرَّاهِب قَدْ حَفَرَهَا مَكِيدَة لِلْمُسْلِمِينَ , فَخَرَّ عَلَيْهِ السَّلَام عَلَى جَنْبه وَاحْتَضَنَهُ طَلْحَة حَتَّى قَامَ , وَمَصَّ مَالِك بْن سِنَان وَالِد أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ مِنْ جُرْح رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدَّم , وَنَشِبَتْ حَلْقَتَانِ مِنْ دِرْع الْمِغْفَر فِي وَجْهه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَانْتَزَعَهُمَا أَبُو عُبَيْدَة بْن الْجَرَّاح وَعَضَّ عَلَيْهِمَا بِثَنِيَّتِهِ فَسَقَطَتَا ; فَكَانَ أَهْتَم يَزِيِنهُ هَتَمُهُ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ . وَفِي هَذِهِ الْغَزَاة قُتِلَ حَمْزَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ , قَتَلَهُ وَحْشِيّ , وَكَانَ وَحْشِيّ مَمْلُوكًا لِجُبَيْرِ بْن مُطْعِم . وَقَدْ كَانَ جُبَيْر قَالَ لَهُ : إِنْ قَتَلْت مُحَمَّدًا جَعَلْنَا لَك أَعِنَّة الْخَيْل , وَإِنْ أَنْتَ قَتَلْت عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب جَعَلْنَا لَك مِائَة نَاقَة كُلّهَا سُود الْحَدَق , وَإِنْ أَنْتَ قَتَلْت حَمْزَة فَأَنْتَ حُرّ . فَقَالَ وَحْشِيّ : أَمَّا مُحَمَّد فَعَلَيْهِ حَافِظ مِنْ اللَّه لَا يَخْلُص إِلَيْهِ أَحَد . وَأَمَّا عَلِيّ مَا بَرَزَ إِلَيْهِ أَحَد إِلَّا قَتَلَهُ . وَأَمَّا حَمْزَة فَرَجُل شُجَاع , وَعَسَى أَنْ أُصَادِفهُ فَأَقْتُلهُ . وَكَانَتْ هِنْد كُلَّمَا تَهَيَّأَ وَحْشِيّ أَوْ مَرَّتْ بِهِ قَالَتْ : إِيهًا أَبَا دَسَمَة اِشْفِ وَاسْتَشْفِ . فَكَمَنَ لَهُ خَلْف صَخْرَة , وَكَانَ حَمْزَة حَمَلَ عَلَى الْقَوْم مِنْ الْمُشْرِكِينَ ; فَلَمَّا رَجَعَ مِنْ حَمْلَته وَمَرَّ بِوَحْشِيٍّ زَرَقَهُ بِالْمِزْرَاقِ فَأَصَابَهُ فَسَقَطَ مَيِّتًا رَحِمَهُ اللَّه وَرَضِيَ عَنْهُ . قَالَ اِبْن إِسْحَاق : فَبَقَرَتْ هِنْد عَنْ كَبِد حَمْزَة فَلَاكَتْهَا وَلَمْ تَسْتَطِعْ أَنْ تَسِيغهَا فَلَفَظَتْهَا ثُمَّ عَلَتْ عَلَى صَخْرَة مُشْرِفَة فَصَرَخَتْ بِأَعْلَى صَوْتهَا فَقَالَتْ : <br>نَحْنُ جَزَيْنَاكُمْ بِيَوْمِ بَدْر .......... وَالْحَرْب بَعْد الْحَرْب ذَات سُعْر <br><br>مَا كَانَ عَنْ عُتْبَة لِي مِنْ صَبْر .......... وَلَا أَخِي وَعَمّه وَبَكْرِي <br><br>شَفَيْت نَفْسِي وَقَضَيْت نَذْرِي .......... شَفَيْتَ وَحْشِيُّ غَلِيل صَدْرِي <br><br>فَشُكْر وَحْشِيّ عَلَيَّ عُمْرِي .......... حَتَّى تَرِمَّ أَعْظُمِي فِي قَبْرِي <br>فَأَجَابَتْهَا هِنْد بِنْت أَثَاثَة بْن عَبَّاد بْن عَبْد الْمُطَّلِب فَقَالَتْ : <br>خَزِيتِ فِي بَدْر وَبَعْد بَدْر .......... يَا بِنْت وَقَّاع عَظِيم الْكُفْر <br><br>صَبَّحَك اللَّه غَدَاة الْفَجْر .......... مِلْهَاشِمِيِّينَ الطِّوَال الزُّهْر <br><br>بِكُلِّ قَطَّاع حُسَام يَفْرِي .......... حَمْزَة لَيْثِي وَعَلِيّ صَقْرِي <br><br>إِذْ رَامَ شَيْب وَأَبُوك غَدْرِي .......... فَخَضَبَا مِنْهُ ضَوَاحِي النَّحْر <br><br>وَنَذْرك السُّوء فَشَرّ نَذْر <br>وَقَالَ عَبْد اللَّه بْن رَوَاحَة يَبْكِي حَمْزَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : <br>بَكَتْ عَيْنِي وَحُقَّ لَهَا بُكَاهَا .......... وَمَا يُغْنِي الْبُكَاءُ وَلَا الْعَوِيلُ <br><br>عَلَى أَسَد الْإِلَهِ غَدَاةَ قَالُوا .......... أَحَمْزَةُ ذَاكُمُ الرَّجُلُ الْقَتِيلُ <br><br>أُصِيبَ الْمُسْلِمُونَ بِهِ جَمِيعًا .......... هُنَاكَ وَقَدْ أُصِيبَ بِهِ الرَّسُولُ <br><br>أَبَا يَعْلَى لَك الْأَرْكَان هُدَّتْ .......... وَأَنْتَ الْمَاجِدُ الْبَرُّ الْوَصُولُ <br><br>عَلَيْك سَلَام رَبّك فِي جِنَان .......... مُخَالِطهَا نَعِيمٌ لَا يَزُولُ <br><br>أَلَا يَا هَاشِمَ الْأَخْيَارِ صَبْرًا .......... فَكُلّ فِعَالكُمْ حَسَنٌ جَمِيلُ <br><br>رَسُولُ اللَّهِ مُصْطَبِرٌ كَرِيمُ .......... بِأَمْرِ اللَّه يَنْطِق إِذْ يَقُولُ <br><br>أَلَا مَنْ مُبْلِغٌ عَنِّي لُؤَيًّا .......... فَبَعْدَ الْيَوْمِ دَائِلَةٌ تَدُولُ <br><br>وَقَبْلَ الْيَوْمِ مَا عَرَفُوا وَذَاقُوا .......... وَقَائِعَنَا بِهَا يُشْفَى الْغَلِيل <br><br>نَسِيتُمْ ضَرْبنَا بِقَلِيبِ بَدْرٍ .......... غَدَاة أَتَاكُمُ الْمَوْتُ الْعَجِيلُ <br><br>غَدَاةَ ثَوَى أَبُو جَهْلٍ صَرِيعًا .......... عَلَيْهِ الطَّيْر حَائِمَةٌ تَجُولُ <br><br>وَعُتْبَة وَابْنه خَرَّا جَمِيعًا .......... وَشَيْبَة عَضَّهُ السَّيْفُ الصَّقِيلُ <br><br>وَمَتْرَكُنَا أُمَيَّةَ مُجْلَعِبًّا .......... وَفِي حَيْزُومِهِ لَدْنٌ نَبِيل <br><br>وَهَامَ بَنِي رَبِيعَة سَائِلُوهَا .......... فَفِي أَسْيَافِهَا مِنْهَا فُلُولُ <br><br>أَلَا يَا هِنْدُ لَا تُبْدِي شَمَاتًا .......... بِحَمْزَة إِنَّ عِزّكُمُ ذَلِيل <br><br>أَلَا يَا هِنْدُ فَابْكِي لَا تَمَلِّي .......... فَأَنْتِ الْوَالِهُ الْعَبْرَى الْهَبُول <br>وَرَثَتْهُ أَيْضًا أُخْته صَفِيَّةُ , وَذَلِكَ مَذْكُور فِي السِّيرَة , رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ .|وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ|فِيهِ مَسْأَلَة وَاحِدَة , وَهِيَ بَيَان التَّوَكُّل . وَالتَّوَكُّل فِي اللُّغَة إِظْهَار الْعَجْز وَالِاعْتِمَاد عَلَى الْغَيْر . وَوَاكَلَ فُلَان إِذَا ضَيَّعَ أَمْره مُتَّكِلًا عَلَى غَيْره . وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي حَقِيقَة التَّوَكُّل ; فَسُئِلَ عَنْهُ سَهْل بْن عَبْد اللَّه فَقَالَ : قَالَتْ فِرْقَة الرِّضَا بِالضَّمَانِ , وَقَطَعَ الطَّمَع مِنْ الْمَخْلُوقِينَ . وَقَالَ قَوْم : التَّوَكُّل تَرْك الْأَسْبَاب وَالرُّكُون إِلَى مُسَبَّب الْأَسْبَاب ; فَإِذَا شَغَلَهُ السَّبَب عَنْ الْمُسَبِّب زَادَ عَنْهُ اِسْم التَّوَكُّل . قَالَ سَهْل : مَنْ قَالَ إِنَّ التَّوَكُّل يَكُون بِتَرْكِ السَّبَب فَقَدْ طَعَنَ فِي سُنَّة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; لِأَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ يَقُول : | فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا | [ الْأَنْفَال : 69 ] فَالْغَنِيمَة اِكْتِسَاب . وَقَالَ تَعَالَى : | فَاضْرِبُوا فَوْق الْأَعْنَاق وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلّ بَنَان | [ الْأَنْفَال : 12 ] فَهَذَا عَمَل . وَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( إِنَّ اللَّه يُحِبّ الْعَبْد الْمُحْتَرِف ) . وَكَانَ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقْرِضُونَ عَلَى السَّرِيَّة . وَقَالَ غَيْره : وَهَذَا قَوْل عَامَّة الْفُقَهَاء , وَأَنَّ التَّوَكُّل عَلَى اللَّه هُوَ الثِّقَة بِاَللَّهِ وَالْإِيقَان بِأَنَّ قَضَاءَهُ مَاضٍ , وَاتِّبَاع سُنَّة نَبِيّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السَّعْي فِيمَا لَا بُدّ مِنْهُ مِنْ الْأَسْبَاب مِنْ مَطْعَم وَمَشْرَب وَتَحَرُّز مِنْ عَدُوّ وَإِعْدَاد الْأَسْلِحَة وَاسْتِعْمَال مَا تَقْتَضِيه سُنَّة اللَّه تَعَالَى الْمُعْتَادَة . وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ مُحَقِّقُو الصُّوفِيَّة , لَكِنَّهُ لَا يَسْتَحِقّ اِسْم التَّوَكُّل عِنْدهمْ مَعَ الطُّمَأْنِينَة إِلَى تِلْكَ الْأَسْبَاب وَالِالْتِفَات إِلَيْهَا بِالْقُلُوبِ ; فَإِنَّهَا لَا تَجْلِب نَفْعًا وَلَا تَدْفَع ضُرًّا , بَلْ السَّبَب وَالْمُسَبِّب فِعْل اللَّه تَعَالَى , وَالْكُلّ مِنْهُ وَبِمَشِيئَتِهِ ; وَمَتَى وَقَعَ مِنْ الْمُتَوَكِّل رُكُون إِلَى تِلْكَ الْأَسْبَاب فَقَدْ اِنْسَلَخَ عَنْ ذَلِكَ الِاسْم . ثُمَّ الْمُتَوَكِّلُونَ عَلَى حَالَيْنِ : الْأَوَّل : حَال الْمُتَمَكِّن فِي التَّوَكُّل فَلَا يَلْتَفِت إِلَى شَيْء مِنْ تِلْكَ الْأَسْبَاب بِقَلْبِهِ , وَلَا يَتَعَاطَاهُ إِلَّا بِحُكْمِ الْأَمْر . الثَّانِي : حَال غَيْر الْمُتَمَكِّن وَهُوَ الَّذِي يَقَع لَهُ الِالْتِفَات إِلَى تِلْكَ الْأَسْبَاب أَحْيَانًا غَيْر أَنَّهُ يَدْفَعهَا عَنْ نَفْسه بِالطُّرُقِ الْعِلْمِيَّة , وَالْبَرَاهِين الْقَطْعِيَّة , وَالْأَذْوَاق الْحَالِيَّة ; فَلَا يَزَال كَذَلِكَ إِلَى أَنْ يُرَقِّيَهُ اللَّه بِجُودِهِ إِلَى مَقَام الْمُتَوَكِّلِينَ الْمُتَمَكِّنِينَ , وَيُلْحِقهُ بِدَرَجَاتِ الْعَارِفِينَ .

وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ

قَوْله تَعَالَى : | وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّه بِبَدْرٍ | كَانَتْ بَدْر يَوْم سَبْعَة عَشَرَ مِنْ رَمَضَان , يَوْم جُمْعَة لِثَمَانِيَة عَشَرَ شَهْرًا مِنْ الْهِجْرَة , وَبَدْر مَاء هُنَالِكَ وَبِهِ سُمِّيَ الْمَوْضِع . وَقَالَ الشَّعْبِيّ : كَانَ ذَلِكَ الْمَاء لِرَجُلٍ مِنْ جُهَيْنَة يُسَمَّى بَدْرًا , وَبِهِ سُمِّيَ الْمَوْضِع . وَالْأَوَّل أَكْثَر . وَقَالَ الْوَاقِدِيّ وَغَيْره : بَدْر اِسْم لِمَوْضِعٍ غَيْر مَنْقُول . وَسَيَأْتِي فِي قِصَّة بَدْر فِي | الْأَنْفَال | إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . و | أَذِلَّة | مَعْنَاهَا قَلِيلُونَ ; وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا ثَلَاثمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ أَوْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا . وَكَانَ عَدَدهمْ مَا بَيْنَ التِّسْعمِائَةِ إِلَى الْأَلْف . و | أَذِلَّة | جَمْع ذَلِيل . وَاسْم الذُّلّ فِي هَذَا الْمَوْضِع مُسْتَعَار , وَلَمْ يَكُونُوا فِي أَنْفُسهمْ إِلَّا أَعِزَّة , وَلَكِنْ نِسْبَتهمْ إِلَى عَدُوّهُمْ وَإِلَى جَمِيع الْكُفَّار فِي أَقْطَار الْأَرْض تَقْتَضِي عِنْد التَّأَمُّل ذِلَّتهمْ وَأَنَّهُمْ يُغْلَبُونَ . وَالنَّصْر الْعَوْن ; فَنَصَرَهُمْ اللَّه يَوْم بَدْر , وَقَتَلَ فِيهِ صَنَادِيد الْمُشْرِكِينَ , وَعَلَى ذَلِكَ الْيَوْم اُبْتُنِيَ الْإِسْلَام , وَكَانَ أَوَّل قِتَال قَاتَلَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ بُرَيْدَة قَالَ : غَزَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْع عَشْرَة غَزْوَة , قَاتَلَ فِي ثَمَان مِنْهُنَّ . وَفِيهِ عَنْ اِبْن إِسْحَاق قَالَ : لَقِيت زَيْد بْن أَرْقَم فَقُلْت لَهُ : كَمْ غَزَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَ تِسْع عَشْرَة غَزْوَة . فَقُلْت : فَكَمْ غَزَوْت أَنْتَ مَعَهُ ؟ فَقَالَ : سَبْع عَشْرَة غَزْوَة . قَالَ فَقُلْت : فَمَا أَوَّل غَزْوَة غَزَاهَا ؟ قَالَ : ذَات الْعَسِير أَوْ الْعَشِير . وَهَذَا كُلّه مُخَالِف لِمَا عَلَيْهِ أَهْل التَّوَارِيخ وَالسِّيَر . قَالَ مُحَمَّد بْن سَعْد فِي كِتَاب الطَّبَقَات لَهُ : إِنَّ غَزَوَات رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْع وَعِشْرُونَ غَزْوَة , وَسَرَايَاهُ سِتّ وَخَمْسُونَ , وَفِي رِوَايَة سِتّ وَأَرْبَعُونَ , وَاَلَّتِي قَاتَلَ فِيهَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَدْر وَأُحُد وَالْمُرَيْسِيع وَالْخَنْدَق وَخَيْبَر وَقُرَيْظَة وَالْفَتْح وَحُنَيْن وَالطَّائِف . قَالَ اِبْن سَعْد : هَذَا الَّذِي اِجْتَمَعَ لَنَا عَلَيْهِ . وَفِي بَعْض الرِّوَايَات أَنَّهُ قَاتَلَ فِي بَنِي النَّضِير وَفِي وَادِي الْقُرَى مُنْصَرِفه مِنْ خَيْبَر وَفِي الْغَابَة . وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَنَقُول : زَيْد وَبُرَيْدَة إِنَّمَا أَخْبَرَ كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا بِمَا فِي عِلْمه أَوْ شَاهَدَهُ . وَقَوْل زَيْد : | إِنَّ أَوَّل غَزَاة غَزَاهَا ذَات الْعَسِيرَة | مُخَالِف أَيْضًا لِمَا قَالَ أَهْل التَّوَارِيخ وَالسِّيَر . قَالَ مُحَمَّد بْن سَعْد : كَانَ قَبْل غَزْوَة الْعَشِيرَة ثَلَاث غَزَوَات , يَعْنِي غَزَاهَا بِنَفْسِهِ . وَقَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ فِي كِتَاب الدُّرَر فِي الْمَغَازِي وَالسِّيَر . أَوَّل غَزَاة غَزَاهَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزْوَة وَدَّان غَزَاهَا بِنَفْسِهِ فِي صَفَر ; وَذَلِكَ أَنَّهُ وَصَلَ إِلَى الْمَدِينَة لِاثْنَتَيْ عَشْرَة لَيْلَة خَلَتْ مِنْ رَبِيع الْأَوَّل , أَقَامَ بِهَا بَقِيَّة رَبِيع الْأَوَّل , وَبَاقِي الْعَام كُلّه . إِلَى صَفَر مِنْ سَنَة اِثْنَتَيْنِ مِنْ الْهِجْرَة : ثُمَّ خَرَجَ فِي صَفَر الْمَذْكُور وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَة سَعْد بْن عُبَادَة حَتَّى بَلَغَ وَدَّان فَوَادَعَ بَنِي ضَمْرَة , ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَة وَلَمْ يَلْقَ حَرْبًا , وَهِيَ الْمُسَمَّاة بِغَزْوَةِ الْأَبْوَاء . ثُمَّ أَقَامَ بِالْمَدِينَةِ إِلَى شَهْر رَبِيع الْآخَر مِنْ السَّنَة الْمَذْكُورَة , ثُمَّ خَرَجَ فِيهَا وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَة السَّائِب بْن عُثْمَان بْن مَظْعُون حَتَّى بَلَغَ بَوَاطٍ مِنْ نَاحِيَة رَضْوَى , ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَة وَلَمْ يَلْقَ حَرْبًا , ثُمَّ أَقَامَ بِهَا بَقِيَّة رَبِيع الْآخَر وَبَعْض جُمَادَى الْأُولَى , ثُمَّ خَرَجَ غَازِيًا وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَة أَبَا سَلَمَة بْن عَبْد الْأَسَد , وَأَخَذَ عَلَى طَرِيق مِلْك إِلَى الْعُسَيْرَة .</p><p>قُلْت : ذَكَرَ اِبْن إِسْحَاق عَنْ عَمَّار بْن يَاسِر قَالَ : كُنْت أَنَا وَعَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَفِيقَيْنِ فِي غَزْوَة الْعَشِيرَة مِنْ بَطْن يَنْبُع فَلَمَّا نَزَلَهَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَامَ بِهَا شَهْرًا فَصَالَحَ بِهَا بَنِي مُدْلِج وَحُلَفَاءَهُمْ مِنْ بَنِي ضَمْرَة فَوَادَعَهُمْ ; فَقَالَ لِي عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب : هَلْ لَك أَبَا الْيَقْظَان أَنْ تَأْتِيَ هَؤُلَاءِ ؟ نَفَر مِنْ بَنِي مُدْلِج يَعْمَلُونَ فِي عَيْن لَهُمْ نَنْظُر كَيْفَ يَعْمَلُونَ . فَأَتَيْنَاهُمْ فَنَظَرْنَا إِلَيْهِمْ سَاعَة ثُمَّ غَشِيَنَا النَّوْم فَعَمَدْنَا إِلَى صُور مِنْ النَّخْل فِي دَقْعَاء مِنْ الْأَرْض فَنِمْنَا فِيهِ ; فَوَاَللَّهِ مَا أَهَبَنَّا إِلَّا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَدَمِهِ ; فَجَلَسْنَا وَقَدْ تَتَرَّبْنَا مِنْ تِلْكَ الدَّقْعَاء فَيَوْمئِذٍ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ : ( مَا بَالك يَا أَبَا تُرَاب ) ; فَأَخْبَرْنَاهُ بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرنَا فَقَالَ : ( أَلَا أُخْبِركُمْ بِأَشْقَى النَّاس رَجُلَيْنِ ) قُلْنَا : بَلَى يَا رَسُول اللَّه ; فَقَالَ : ( أُحَيْمِر ثَمُود الَّذِي عَقَرَ النَّاقَة , وَاَلَّذِي يَضْرِبك يَا عَلِيّ عَلَى هَذِهِ - وَوَضَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَده عَلَى رَأْسه - حَتَّى يَبُلّ مِنْهَا هَذِهِ ) وَوَضَعَ يَده عَلَى لِحْيَته . فَقَالَ أَبُو عُمَر : فَأَقَامَ بِهَا بَقِيَّة جُمَادَى الْأُولَى وَلَيَالِيَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَة , وَوَادَعَ فِيهَا بَنِي مُدْلِج ثُمَّ رَجَعَ وَلَمْ يَلْقَ حَرْبًا . ثُمَّ كَانَتْ بَعْد ذَلِكَ غَزْوَة بَدْر الْأُولَى بِأَيَّامٍ قَلَائِل , هَذَا الَّذِي لَا يَشُكّ فِيهِ أَهْل التَّوَارِيخ وَالسِّيَر , فَزَيْد بْن أَرْقَم إِنَّمَا أَخْبَرَ عَمَّا عِنْده . وَاَللَّه أَعْلَم . وَيُقَال : ذَات الْعُسَيْر بِالسِّينِ وَالشِّين , وَيُزَاد عَلَيْهَا هَاء فَيُقَال : الْعُشَيْرَة . ثُمَّ غَزْوَة بَدْر الْكُبْرَى وَهِيَ أَعْظَم الْمَشَاهِد فَضْلًا لِمَنْ شَهِدَهَا , وَفِيهَا أَمَدَّ اللَّه بِمَلَائِكَتِهِ نَبِيّه وَالْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْل جَمَاعَة الْعُلَمَاء , وَعَلَيْهِ يَدُلّ ظَاهِر الْآيَة , لَا فِي يَوْم أُحُد . وَمَنْ قَالَ : إِنَّ ذَلِكَ كَانَ يَوْم أُحُد جَعَلَ قَوْله تَعَالَى : | وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّه بِبَدْرٍ | إِلَى قَوْله : | تَشْكُرُونَ | اِعْتِرَاضًا بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ . هَذَا قَوْل عَامِر الشَّعْبِيّ , وَخَالَفَهُ النَّاس .

إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ

وَتَظَاهَرَتْ الرِّوَايَات بِأَنَّ الْمَلَائِكَة حَضَرَتْ يَوْم بَدْر وَقَاتَلَتْ ; وَمِنْ ذَلِكَ قَوْل أَبِي أُسَيْد بْن مَالِك بْن رَبِيعَة وَكَانَ شَهِيد بَدْر : لَوْ كُنْت مَعَكُمْ الْآن بِبَدْرٍ وَمَعِي بَصَرِي لَأَرَيْتُكُمْ الشِّعْب الَّذِي خَرَجَتْ مِنْهُ الْمَلَائِكَة , لَا أَشُكّ وَلَا أَمْتَرِي . رَوَاهُ عُقَيْل عَنْ الزُّهْرِيّ عَنْ أَبِي حَازِم سَلَمَة بْن دِينَار . قَالَ اِبْن أَبِي حَاتِم : لَا يُعْرَف لِلزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي حَازِم غَيْر هَذَا الْحَدِيث الْوَاحِد , وَأَبُو أُسَيْد يُقَال إِنَّهُ آخِر مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْل بَدْر ; ذَكَرَهُ أَبُو عُمَر فِي الِاسْتِيعَاب وَغَيْره . وَفِي صَحِيح مُسْلِم مِنْ حَدِيث عُمَر بْن الْخَطَّاب قَالَ : لَمَّا كَانَ يَوْم بَدْر نَظَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْف , وَأَصْحَابه ثَلَاثمِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا , فَاسْتَقْبَلَ نَبِيّ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِبْلَة ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَهْتِف بِرَبِّهِ : ( اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتنِي اللَّهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتنِي اللَّهُمَّ إِنْ تَهْلِك هَذِهِ الْعِصَابَة مِنْ أَهْل الْإِسْلَام لَا تُعْبَد فِي الْأَرْض ) فَمَا زَالَ يَهْتِف بِرَبِّهِ مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِل الْقِبْلَة حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ , فَأَتَاهُ أَبُو بَكْر فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ , ثُمَّ اِلْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ وَقَالَ : يَا نَبِيّ اللَّه , كَفَاك مُنَاشَدَتك رَبّك , فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَك مَا وَعَدَك ; فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : | إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلَائِكَة مُرْدِفِينَ | [ الْأَنْفَال : 9 ] فَأَمَدَّهُ اللَّه تَعَالَى بِالْمَلَائِكَةِ . قَالَ أَبُو زُمَيْل : فَحَدَّثَنِي اِبْن عَبَّاس قَالَ : بَيْنَمَا رَجُل مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَوْمئِذٍ يَشْتَدّ فِي أَثَر رَجُل مِنْ الْمُشْرِكِينَ أَمَامه إِذْ سَمِعَ ضَرْبَة بِالسَّوْطِ فَوْقه وَصَوْت الْفَارِس يَقُول : أَقْدِمْ حَيْزُوم ; فَنَظَرَ إِلَى الْمُشْرِك أَمَامه فَخَرَّ مُسْتَلْقِيًا , فَنَظَرَ إِلَيْهِ فَإِذَا هُوَ قَدْ خُطِمَ أَنْفه وَشُقَّ وَجْهه كَضَرْبَةِ السَّوْط فَاخْضَرَّ ذَلِكَ أَجْمَع . فَجَاءَ الْأَنْصَارِيّ فَحَدَّثَ بِذَلِكَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : ( صَدَقْت ذَلِكَ مِنْ مَدَد السَّمَاء الثَّالِثَة ) فَقَتَلُوا يَوْمئِذٍ سَبْعِينَ وَأَسَرُوا سَبْعِينَ . وَذَكَرَ الْحَدِيث . وَسَيَأْتِي تَمَامه فِي آخِر | الْأَنْفَال | إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . فَتَظَاهَرَتْ السُّنَّة وَالْقُرْآن عَلَى مَا قَالَهُ الْجُمْهُور , وَالْحَمْد لِلَّهِ . وَعَنْ خَارِجَة بْن إِبْرَاهِيم عَنْ أَبِيهِ قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِجِبْرِيل : ( مَنْ الْقَائِل يَوْم بَدْر مِنْ الْمَلَائِكَة أَقْدِمْ حَيْزُوم ) ؟ فَقَالَ جِبْرِيل : ( يَا مُحَمَّد مَا كُلّ أَهْل السَّمَاء أَعْرِف ) . وَعَنْ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ خَطَبَ النَّاس فَقَالَ : بَيْنَا أَنَا أَمْتَح مِنْ قَلِيب بَدْر جَاءَتْ رِيحًا شَدِيدَة لَمْ أَرَ مِثْلهَا قَطُّ , ثُمَّ ذَهَبَتْ , ثُمَّ جَاءَتْ رِيح شَدِيدَة لَمْ أَرَ مِثْلهَا قَطُّ إِلَّا الَّتِي كَانَتْ قَبْلهَا . قَالَ : وَأَظُنّهُ ذَكَرَ : ثُمَّ جَاءَتْ رِيح شَدِيدَة , فَكَانَتْ الرِّيح الْأُولَى جِبْرِيل نَزَلَ فِي أَلْف مِنْ الْمَلَائِكَة مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَكَانَتْ الرِّيح الثَّانِيَة مِيكَائِيل نَزَلَ فِي أَلْف مِنْ الْمَلَائِكَة عَنْ يَمِين رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ أَبُو بَكْر عَنْ يَمِينه , وَكَانَتْ الرِّيح الثَّالِثَة إِسْرَافِيل نَزَلَ فِي أَلْف مِنْ الْمَلَائِكَة عَنْ مَيْسَرَة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا فِي الْمَيْسَرَة . وَعَنْ سَهْل بْن حُنَيْف رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : لَقَدْ رَأَيْتنَا يَوْم بَدْر وَأَنَّ أَحَدنَا يُشِير بِسَيْفِهِ إِلَى رَأْس الْمُشْرِك فَيَقَع رَأْسه عَنْ جَسَده قَبْل أَنْ يَصِل إِلَيْهِ . وَعَنْ الرَّبِيع بْن أَنَس قَالَ : كَانَ النَّاس يَوْم بَدْر يَعْرِفُونَ قَتْلَى الْمَلَائِكَة مِمَّنْ قَتَلُوهُمْ بِضَرْبِ فَوْق الْأَعْنَاق وَعَلَى الْبَنَان مِثْل سِمَة النَّار قَدْ أَحْرَقَ بِهِ ; ذَكَرَ جَمِيعه الْبَيْهَقِيّ رَحِمَهُ اللَّه . وَقَالَ بَعْضهمْ : إِنَّ الْمَلَائِكَة كَانُوا يُقَاتِلُونَ وَكَانَتْ عَلَامَة ضَرْبهمْ فِي الْكُفَّار ظَاهِرَة ; لِأَنَّ كُلّ مَوْضِع أَصَابَتْ ضَرْبَتهمْ اِشْتَعَلَتْ النَّار فِي ذَلِكَ الْمَوْضِع , حَتَّى إِنَّ أَبَا جَهْل قَالَ لِابْنِ مَسْعُود : أَنْتَ قَتَلْتنِي ؟ ! إِنَّمَا قَتَلَنِي الَّذِي لَمْ يَصِل سِنَانِي إِلَى سُنْبُك فَرَسه وَإِنْ اِجْتَهَدْت . وَإِنَّمَا كَانَتْ الْفَائِدَة فِي كَثْرَة الْمَلَائِكَة لَتَسْكِين قُلُوب الْمُؤْمِنِينَ ; وَلِأَنَّ اللَّه تَعَالَى جَعَلَ أُولَئِكَ الْمَلَائِكَة مُجَاهِدِينَ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ; فَكُلّ عَسْكَر صَبَرَ وَاحْتَسَبَ تَأْتِيهِمْ الْمَلَائِكَة وَيُقَاتِلُونَ مَعَهُمْ . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَمُجَاهِد : لَمْ تُقَاتِل الْمَلَائِكَة إِلَّا يَوْم بَدْر , وَفِيمَا سِوَى ذَلِكَ يَشْهَدُونَ وَلَا يُقَاتِلُونَ إِنَّمَا يَكُونُونَ عَدَدًا أَوْ مَدَدًا . وَقَالَ بَعْضهمْ : إِنَّمَا كَانَتْ الْفَائِدَة فِي كَثْرَة الْمَلَائِكَة أَنَّهُمْ كَانُوا يَدْعُونَ وَيُسَبِّحُونَ , وَيُكَثِّرُونَ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ يَوْمئِذٍ ; فَعَلَى هَذَا لَمْ تُقَاتِل الْمَلَائِكَة يَوْم بَدْر وَإِنَّمَا حَضَرُوا لِلدُّعَاءِ بِالتَّثْبِيتِ , وَالْأَوَّل أَكْثَر .</p><p>قَالَ قَتَادَة : كَانَ هَذَا يَوْم بَدْر , أَمَدَّهُمْ اللَّه بِأَلْفٍ ثُمَّ صَارُوا ثَلَاثَة آلَاف , ثُمَّ صَارُوا خَمْسَة آلَاف ; فَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : | إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلَائِكَة مُرْدِفِينَ | وَقَوْله : | أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدّكُمْ رَبّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَاف مِنْ الْمَلَائِكَة مُنْزِلِينَ | [ آل عِمْرَان : 124 ] وَقَوْله : | بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرهمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَاف مِنْ الْمَلَائِكَة مُسَوِّمِينَ | [ آل عِمْرَان : 125 ] فَصَبَرَ الْمُؤْمِنُونَ يَوْم بَدْر وَاتَّقَوُا اللَّه فَأَمَدَّهُمْ اللَّه بِخَمْسَةِ آلَاف مِنْ الْمَلَائِكَة عَلَى مَا وَعَدَهُمْ ; فَهَذَا كُلّه يَوْم بَدْر . وَقَالَ الْحَسَن : فَهَؤُلَاءِ الْخَمْسَة آلَاف رِدْء لِلْمُؤْمِنِينَ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة . قَالَ الشَّعْبِيّ : بَلَغَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابه يَوْم بَدْر أَنَّ كُرْز بْن جَابِر الْمُحَارِبِيّ يُرِيد أَنْ يُمِدّ الْمُشْرِكِينَ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ ; فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى : | أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ إِلَى قَوْله : مُسَوِّمِينَ | فَبَلَغَ كُرْزًا الْهَزِيمَة فَلَمْ يُمِدّهُمْ وَرَجَعَ , فَلَمْ يُمِدّهُمْ اللَّه أَيْضًا بِالْخَمْسَةِ آلَاف , وَكَانُوا قَدْ مُدُّوا بِأَلْفٍ . وَقِيلَ : إِنَّمَا وَعَدَ اللَّه الْمُؤْمِنِينَ يَوْم بَدْر إِنْ صَبَرُوا عَلَى طَاعَته , وَاتَّقُوا مَحَارِمه أَنْ يُمِدّهُمْ أَيْضًا فِي حُرُوبهمْ كُلّهَا , فَلَمْ يَصْبِرُوا وَلَمْ يَتَّقُوا مَحَارِمه إِلَّا فِي يَوْم الْأَحْزَاب , فَأَمَدَّهُمْ حِينَ حَاصَرُوا قُرَيْظَة . وَقِيلَ : إِنَّمَا كَانَ هَذَا يَوْم أُحُد , وَعَدَهُمْ اللَّه الْمَدَد إِنْ صَبَرُوا , فَمَا صَبَرُوا فَلَمْ يُمِدّهُمْ بِمَلَكٍ وَاحِد , وَلَوْ أُمِدُّوا لَمَا هُزِمُوا ; قَالَهُ عِكْرِمَة وَالضَّحَّاك . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ سَعْد بْن أَبِي وَقَّاص أَنَّهُ قَالَ : رَأَيْت عَنْ يَمِين رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ يَسَاره يَوْم بَدْر رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا ثِيَاب بِيض يُقَاتِلَانِ عَنْهُ أَشَدّ الْقِتَال , مَا رَأَيْتهمَا قَبْل وَلَا بَعْد . قِيلَ لَهُ : لَعَلَّ هَذَا مُخْتَصّ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , خَصَّهُ بِمَلَكَيْنِ يُقَاتِلَانِ عَنْهُ , وَلَا يَكُون هَذَا إِمْدَادًا لِلصَّحَابَةِ . وَاَللَّه أَعْلَم .</p><p>نُزُول الْمَلَائِكَة سَبَب مِنْ أَسْبَاب النَّصْر لَا يَحْتَاج إِلَيْهِ الرَّبّ تَعَالَى , وَإِنَّمَا يَحْتَاج إِلَيْهِ الْمَخْلُوق فَلْيُعَلِّقْ الْقَلْب بِاَللَّهِ وَلْيَثِقْ بِهِ , فَهُوَ النَّاصِر بِسَبَبٍ وَبِغَيْرِ سَبَب ; | إِنَّمَا أَمْره إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُول لَهُ كُنْ فَيَكُون [ يس : 82 ] . وَلَكِنْ أَخْبَرَ بِذَلِكَ لِيَمْتَثِل الْخَلْق مَا أَمَرَهُمْ بِهِ مِنْ الْأَسْبَاب الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْل , | وَلَنْ تَجِد لِسُنَّةِ اللَّه تَبْدِيلًا | [ الْأَحْزَاب : 62 ] , وَلَا يَقْدَح ذَلِكَ فِي التَّوَكُّل . وَهُوَ رَدّ عَلَى مَنْ قَالَ : إِنَّ الْأَسْبَاب إِنَّمَا سُنَّتْ فِي حَقّ الضُّعَفَاء لَا لِلْأَقْوِيَاءِ ; فَإِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابه كَانُوا الْأَقْوِيَاء وَغَيْرهمْ هُمْ الضُّعَفَاء ; وَهَذَا وَاضِح . و | مَدَّ | فِي الشَّرّ و | أَمَدَّ | فِي الْخَيْر . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَة . وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَة | مُنْزِلِينَ | بِكَسْرِ الزَّاي مُخَفَّفًا , يَعْنِي مُنْزِلِينَ النَّصْر . وَقَرَأَ اِبْن عَامِر مُشَدَّدَة الزَّاي مَفْتُوحَة عَلَى التَّكْثِير .

بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ

ثُمَّ قَالَ : | بَلَى | وَتَمَّ الْكَلَام . | وَإِنْ تَصْبِرُوا | شَرْط , أَيْ عَلَى لِقَاء الْعَدُوّ . | وَتَتَّقُوا | عَطْف عَلَيْهِ , أَيْ مَعْصِيَته . وَالْجَوَاب | يُمْدِدْكُمْ | . وَمَعْنَى | مِنْ فَوْرهمْ | مِنْ وَجْههمْ . هَذَا عَنْ عِكْرِمَة وَقَتَادَة وَالْحَسَن وَالرَّبِيع وَالسُّدِّيّ وَابْن زَيْد . وَقِيلَ : مِنْ غَضَبهمْ ; عَنْ مُجَاهِد وَالضَّحَّاك . كَانُوا قَدْ غَضِبُوا يَوْم أُحُد لِيَوْمِ بَدْر مِمَّا لَقُوا . وَأَصْل الْفَوْر الْقَصْد إِلَى الشَّيْء وَالْأَخْذ فِيهِ بِجِدٍّ ; وَهُوَ مِنْ قَوْلهمْ : فَارَتْ الْقَدْر تَفُور فَوْرًا وَفَوَرَانًا إِذَا غَلَتْ . وَالْفَوْر الْغَلَيَان . وَفَارَ غَضَبه إِذَا جَاشَ . وَفَعَلَهُ مِنْ فَوْره أَيْ قَبْل أَنْ يَسْكُن . وَالْفَوَّارَة مَا يَفُور مِنْ الْقِدْر . وَفِي التَّنْزِيل | وَفَارَ التَّنُّور | [ هُود : 40 ] . قَالَ الشَّاعِر : <br>تَفُور عَلَيْنَا قِدْرُهُمْ فَنُدِيمُهَا <br>قَوْله تَعَالَى : | مُسَوَّمِينَ | بِفَتْحِ الْوَاو اِسْم مَفْعُول , وَهِيَ قِرَاءَة اِبْن عَامِر وَحَمْزَة وَالْكِسَائِيّ وَنَافِع . أَيْ مُعَلَّمِينَ بِعَلَامَاتٍ . و | مُسَوِّمِينَ | بِكَسْرِ الْوَاو اِسْم فَاعِل , وَهِيَ قِرَاءَة أَبِي عَمْرو وَابْن كَثِير وَعَاصِم ; فَيَحْتَمِل مِنْ الْمَعْنَى مَا تَقَدَّمَ , أَيْ قَدْ أَعْلَمُوا أَنْفُسهمْ بِعَلَامَةٍ , وَأَعْلَمُوا خَيْلهمْ . وَرَجَّحَ الطَّبَرِيّ وَغَيْره هَذِهِ الْقِرَاءَة . وَقَالَ كَثِير مِنْ الْمُفَسِّرِينَ : مُسَوِّمِينَ أَيْ مُرْسِلِينَ خَيْلهمْ فِي الْغَارَة . وَذَكَرَ الْمَهْدَوِيّ هَذَا الْمَعْنَى فِي | مُسَوَّمِينَ | بِفَتْحِ الْوَاو , أَيْ أَرْسَلَهُمْ اللَّه تَعَالَى عَلَى الْكُفَّار . وَقَالَهُ اِبْن فَوْرَك أَيْضًا . وَعَلَى الْقِرَاءَة الْأُولَى اِخْتَلَفُوا فِي سِيمَا الْمَلَائِكَة ; فَرُوِيَ عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب وَابْن عَبَّاس وَغَيْرهمَا أَنَّ الْمَلَائِكَة اِعْتَمَّتْ بِعَمَائِم بِيض قَدْ أَرْسَلُوهَا بَيْنَ أَكْتَافهمْ ; ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس وَحَكَاهُ الْمَهْدَوِيّ عَنْ الزَّجَّاج . إِلَّا جِبْرِيل فَإِنَّهُ كَانَ بِعِمَامَةٍ صَفْرَاء عَلَى مِثَال الزُّبَيْر بْن الْعَوَّام , وَقَالَهُ اِبْن إِسْحَاق . وَقَالَ الرَّبِيع : كَانَتْ سِيمَاهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى خَيْل بُلْق . قُلْت : ذَكَرَ الْبَيْهَقِيّ عَنْ سُهَيْل بْن عَمْرو رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : لَقَدْ رَأَيْت يَوْم بَدْر رِجَالًا بِيضًا عَلَى خَيْل بُلْق بَيْنَ السَّمَاء وَالْأَرْض مُعَلَّمِينَ يَقْتُلُونَ وَيَأْسِرُونَ . فَقَوْله : | مُعَلَّمِينَ | دَلَّ عَلَى أَنَّ الْخَيْل الْبُلْق لَيْسَتْ السِّيمَا . وَاَللَّه أَعْلَم . وَقَالَ مُجَاهِد : كَانَتْ خَيْلهمْ مَجْزُوزَة الْأَذْنَاب وَالْأَعْرَاف مُعَلَّمَة النَّوَاصِي وَالْأَذْنَاب بِالصُّوفِ وَالْعِهْن . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس : تَسَوَّمَتْ الْمَلَائِكَة يَوْم بَدْر بِالصُّوفِ الْأَبْيَض فِي نَوَاصِي الْخَيْل وَأَذْنَابهَا . وَقَالَ عَبَّاد بْن عَبْد اللَّه بْن الزُّبَيْر وَهِشَام بْن عُرْوَة وَالْكَلْبِيّ : نَزَلَتْ الْمَلَائِكَة فِي سِيَّمَا الزُّبَيْر عَلَيْهِمْ عَمَائِم صُفْر عَلَى أَكْتَافهمْ . وَقَالَ ذَلِكَ عَبْد اللَّه وَعُرْوَة اِبْنَا الزُّبَيْر . وَقَالَ عَبْد اللَّه : كَانَتْ مُلَاءَة صَفْرَاء اعْتَمَّ بِهَا الزُّبَيْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ . قُلْت</p><p>و دَلَّتْ الْآيَة عَلَى اِتِّخَاذ الشَّارَة وَالْعَلَامَة لِلْقَبَائِلِ وَالْكَتَائِب يَجْعَلهَا السُّلْطَان لَهُمْ ; لِتَتَمَيَّز كُلّ قَبِيلَة وَكَتِيبَة مِنْ غَيْرهَا عِنْد الْحَرْب , وَعَلَى فَضْل الْخَيْل الْبُلْق لِنُزُولِ الْمَلَائِكَة عَلَيْهَا . قُلْت : - وَلَعَلَّهَا نَزَلَتْ عَلَيْهَا مُوَافِقَة لِفَرَسِ الْمِقْدَاد ; فَإِنَّهُ كَانَ أَبْلَق وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ فَرَس غَيْره , فَنَزَلَتْ الْمَلَائِكَة عَلَى الْخَيْل الْبُلْق إِكْرَامًا لِلْمِقْدَادِ ; كَمَا نَزَلَ جِبْرِيل مُعْتَجِرًا بِعِمَامَةٍ صَفْرَاء عَلَى مِثَال الزُّبَيْر . وَاَللَّه أَعْلَم</p><p>وَدَلَّتْ الْآيَة أَيْضًا عَلَى لِبَاس الصُّوف وَقَدْ لَبِسَهُ الْأَنْبِيَاء وَالصَّالِحُونَ . وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَهْ وَاللَّفْظ لَهُ عَنْ أَبِي بُرْدَة عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ لِي أَبِي : لَوْ شَهِدْتنَا وَنَحْنُ مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَصَابَتْنَا السَّمَاء لَحَسِبْت أَنَّ رِيحنَا رِيح الضَّأْن . وَلَبِسَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُبَّة رُومِيَّة مِنْ صُوف ضَيِّقَة الْكُمَّيْنِ ; رَوَاهُ الْأَئِمَّة . وَلَبِسَهَا يُونُس عَلَيْهِ السَّلَام ; رَوَاهُ مُسْلِم . وَسَيَأْتِي لِهَذَا الْمَعْنَى مَزِيد بَيَان فِي | النَّحْل | إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .</p><p>قُلْت : وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مُجَاهِد مِنْ أَنَّ خَيْلهمْ كَانَتْ مَجْزُوزَة الْأَذْنَاب وَالْأَعْرَاف فَبَعِيد ; فَإِنَّ فِي مُصَنَّف أَبِي دَاوُد عَنْ عُتْبَة بْن عَبْد السُّلَمِيّ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( لَا تَقُصُّوا نَوَاصِي الْخَيْل وَلَا مَعَارِفهَا وَلَا أَذْنَابهَا فَإِنَّ أَذْنَابهَا مَذَابّهَا وَمَعَارِفهَا دِفَاؤُهَا وَنَوَاصِيهَا مَعْقُود فِيهَا الْخَيْر ) . فَيَقُول مُجَاهِد يَحْتَاج إِلَى تَوْقِيف مِنْ أَنَّ خَيْل الْمَلَائِكَة كَانَتْ عَلَى تِلْكَ الصِّفَة . وَاَللَّه أَعْلَم . وَدَلَّتْ الْآيَة عَلَى حُسْن الْأَبْيَض وَالْأَصْفَر مِنْ الْأَلْوَان لِنُزُولِ الْمَلَائِكَة بِذَلِكَ , وَقَدْ قَالَ اِبْن عَبَّاس : مَنْ لَبِسَ نَعْلًا أَصْفَر قُضِيَتْ حَاجَته . وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام : ( اِلْبَسُوا مِنْ ثِيَابكُمْ الْبَيَاض فَإِنَّهُ مِنْ خَيْر ثِيَابكُمْ وَكَفِّنُوا فِيهِ مَوْتَاكُمْ وَأَمَّا الْعَمَائِم فَتِيجَان الْعَرَب وَلِبَاسهَا ) . وَرَوَى رُكَانَة - وَكَانَ صَارَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَرَعَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ رُكَانَة : وَسَمِعْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( فَرْق مَا بَيْننَا وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ الْعَمَائِم عَلَى الْقَلَانِس ) أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد . قَالَ الْبُخَارِيّ : إِسْنَاده مَجْهُول لَا يُعْرَف سَمَاع بَعْضه مِنْ بَعْض .

وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ

الْهَاء لِلْمَدَدِ , وَهُوَ الْمَلَائِكَة أَوْ الْوَعْد أَوْ الْإِمْدَاد , وَيَدُلّ عَلَيْهِ | يُمْدِدْكُمْ | أَوْ لِلتَّسْوِيمِ أَوْ لِلْإِنْزَالِ أَوْ الْعَدَد عَلَى الْمَعْنَى ; لِأَنَّ خَمْسَة آلَاف عَدَد .|وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ|اللَّام لَام كَيْ , أَيْ وَلِتَطْمَئِنّ قُلُوبكُمْ بِهِ جَعَلَهُ ; كَقَوْلِهِ : | وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيح وَحِفْظًا | [ فُصِّلَتْ : 12 ] أَيْ وَحِفْظًا لَهَا جَعَلَ ذَلِكَ .|وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ|يَعْنِي نَصْر الْمُؤْمِنِينَ , وَلَا يَدْخُل فِي ذَلِكَ نَصْر الْكَافِرِينَ ; لِأَنَّ مَا وَقَعَ لَهُمْ مِنْ غَلَبَة إِنَّمَا هُوَ إِمْلَاء مَحْفُوف بِخِذْلَانٍ وَسُوء عَاقِبَة وَخُسْرَان .

لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ

أَيْ بِالْقَتْلِ . وَنَظْم الْآيَة : وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّه بِبَدْرٍ لِيَقْطَع . وَقِيلَ : الْمَعْنَى وَمَا النَّصْر إِلَّا مِنْ عِنْد اللَّه لِيَقْطَع . وَيَجُوز أَنْ يَكُون مُتَعَلِّقًا ب | يُمْدِدْكُمْ | , أَيْ يُمْدِدْكُمْ لِيَقْطَع . وَالْمَعْنَى : مَنْ قُتِلَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ يَوْم بَدْر , عَنْ الْحَسَن وَغَيْره . السُّدِّيّ : يَعْنِي بِهِ مَنْ قُتِلَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ يَوْم أُحُد وَكَانُوا ثَمَانِيَةَ عَشَرَ رَجُلًا . وَمَعْنَى|أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ|يُحْزِنهُمْ ; وَالْمَكْبُوت الْمَحْزُون . وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ إِلَى أَبِي طَلْحَة فَرَأَى اِبْنه مَكْبُوتًا فَقَالَ : ( مَا شَأْنه ) ؟ . فَقِيلَ : مَاتَ بَعِيره . وَأَصْله فِيمَا ذَكَرَ بَعْض أَهْل اللُّغَة | يَكْبِدهُمْ | أَيْ يُصِيبهُمْ بِالْحُزْنِ وَالْغَيْظ فِي أَكْبَادهمْ , فَأُبْدِلَتْ الدَّال تَاء , كَمَا قُلِبَتْ فِي سَبَتَ رَأْسه وَسَبَدَهُ أَيْ حَلَقَهُ . كَبَتَ اللَّه الْعَدُوّ كَبْتًا إِذَا صَرَفَهُ وَأَذَلَّهُ , كَبَدَهُ , أَصَابَهُ فِي كَبِده ; يُقَال : قَدْ أَحْرَقَ الْحُزْن كَبِده , وَأَحْرَقَتْ الْعَدَاوَة كَبِده . وَتَقُول الْعَرَب لِلْعَدُوِّ : أَسْوَد الْكَبِد ; قَالَ الْأَعْشَى : <br>فَمَا أَجْشَمْتِ مِنْ إِتْيَانِ قَوْمٍ .......... هُمُ الْأَعْدَاءُ وَالْأَكْبَادُ سُودُ <br>كَأَنَّ الْأَكْبَاد لَمَّا اِحْتَرَقَتْ بِشِدَّةِ الْعَدَاوَة اِسْوَدَّتْ . وَقَرَأَ أَبُو مِجْلَز | أَوْ يُكَبِّدهُمْ | بِالدَّالِ . وَالْخَائِب : الْمُنْقَطِع الْأَمَل . خَابَ يَخِيب إِذَا لَمْ يَنَلْ مَا طَلَبَ . وَالْخَيَّاب : الْقَدْح لَا يُورِي .

لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ

فِيهِ ثَلَاث مَسَائِل :</p><p>الْأُولَى</p><p>ثَبَتَ فِي صَحِيح مُسْلِم أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُسِرَتْ رَبَاعِيَته يَوْم أُحُد , وَشُجَّ فِي رَأْسه , فَجَعَلَ يَسْلُب الدَّم عَنْهُ وَيَقُول : ( كَيْفَ يُفْلِح قَوْم شَجُّوا رَأْس نَبِيّهمْ وَكَسَرُوا رَبَاعِيَته وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّه تَعَالَى ) فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى : | لَيْسَ لَك مِنْ الْأَمْر شَيْء ) . الضَّحَّاك : هَمَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَدْعُوَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى : | لَيْسَ لَك مِنْ الْأَمْر شَيْء | . وَقِيلَ : اِسْتَأْذَنَ فِي أَنْ يَدْعُو فِي اِسْتِئْصَالهمْ , فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة عَلِمَ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ سَيُسْلِمُ وَقَدْ آمَنَ كَثِير مِنْهُمْ خَالِد بْن الْوَلِيد وَعَمْرو بْن الْعَاص وَعِكْرِمَة بْن أَبِي جَهْل وَغَيْرهمْ . وَرَوَى التِّرْمِذِيّ عَنْ اِبْن عُمَر قَالَ : وَكَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو عَلَى أَرْبَعَة نَفَر فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : | لَيْسَ لَك مِنْ الْأَمْر شَيْء | فَهَدَاهُمْ اللَّه لِلْإِسْلَامِ وَقَالَ : هَذَا حَدِيث حَسَن غَرِيب صَحِيح . وَقَوْله تَعَالَى : | أَوْ يَتُوب عَلَيْهِمْ | قِيلَ : هُوَ مَعْطُوف عَلَى | لِيَقْطَع طَرَفًا | . وَالْمَعْنَى : لِيَقْتُل طَائِفَة مِنْهُمْ , أَوْ يُحْزِنهُمْ بِالْهَزِيمَةِ أَوْ يَتُوب عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبهُمْ . وَقَدْ تَكُون | أَوْ | هَاهُنَا بِمَعْنَى | حَتَّى | و | إِلَّا أَنْ | . قَالَ امْرُؤُ الْقَيْس : <br>أَوْ نَمُوتَ فَنُعْذَرَا <br>قَالَ عُلَمَاؤُنَا : قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( كَيْفَ يُفْلِح قَوْم شَجُّوا رَأْس نَبِيّهمْ ) اِسْتِبْعَاد لِتَوْفِيقِ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِهِ . وَقَوْله تَعَالَى : | لَيْسَ لَك مِنْ الْأَمْر شَيْء | تَقْرِيب لِمَا اِسْتَبْعَدَهُ وَإِطْمَاع فِي إِسْلَامهمْ , وَلَمَّا أُطْمِعَ فِي ذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( اللَّهُمَّ اِغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ) كَمَا فِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ اِبْن مَسْعُود قَالَ : كَأَنِّي أَنْظُر إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْكِي نَبِيًّا مِنْ الْأَنْبِيَاء ضَرَبَهُ قَوْمه وَهُوَ يَمْسَح الدَّم عَنْ وَجْهه وَيَقُول : ( رَبّ اِغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ) . قَالَ عُلَمَاؤُنَا : فَالْحَاكِي فِي حَدِيث اِبْن مَسْعُود هُوَ الرَّسُول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام , وَهُوَ الْمَحْكِيّ عَنْهُ ; بِدَلِيلِ مَا قَدْ جَاءَ صَرِيحًا مُبَيَّنًا أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لَمَّا كُسِرَتْ رَبَاعِيَته وَشُجَّ وَجْهه يَوْم أُحُد شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابه شَقًّا شَدِيدًا وَقَالُوا : لَوْ دَعَوْت عَلَيْهِمْ ! فَقَالَ : ( إِنِّي لَمْ أُبْعَث لَعَّانًا وَلَكِنِّي بُعِثْت دَاعِيًا وَرَحْمَة , اللَّهُمَّ اِغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ) . فَكَأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام أَوْحَى إِلَيْهِ بِذَلِكَ قَبْل وُقُوع قَضِيَّة أُحُد , وَلَمْ يُعَيِّن لَهُ ذَلِكَ النَّبِيّ ; فَلَمَّا وَقَعَ لَهُ ذَلِكَ تَعَيَّنَ أَنَّهُ الْمَعْنِيّ بِذَلِكَ بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَا . وَبَيَّنَهُ أَيْضًا مَا قَالَهُ عُمَر لَهُ فِي بَعْض كَلَامه : بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُول اللَّه ! لَقَدْ دَعَا نُوح عَلَى قَوْمه فَقَالَ : | رَبّ لَا تَذَر عَلَى الْأَرْض مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا | [ نُوح : 26 ] الْآيَة . وَلَوْ دَعَوْت عَلَيْنَا مِثْلهَا لَهَلَكْنَا مِنْ عِنْد آخِرنَا ; فَقَدْ وُطِئَ ظَهْرك وَأُدْمِيَ وَجْهك وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتك فَأَبَيْت أَنْ تَقُول إِلَّا خَيْرًا , فَقُلْت : ( رَبّ اِغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ) . وَقَوْله : ( اشْتَدَّ غَضَب اللَّه عَلَى قَوْم كَسَرُوا رَبَاعِيَة نَبِيّهمْ ) يَعْنِي بِذَلِكَ الْمُبَاشِر لِذَلِكَ , وَقَدْ ذَكَرْنَا اِسْمه عَلَى اِخْتِلَاف فِي ذَلِكَ , وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهُ خُصُوص فِي الْمُبَاشِر ; لِأَنَّهُ قَدْ أَسْلَمَ جَمَاعَة مِمَّنْ شَهِدَ أُحُدًا وَحَسُنَ إِسْلَامهمْ .</p><p>الثَّانِيَة</p><p>زَعَمَ بَعْض الْكُوفِيِّينَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَة نَاسِخَة لِلْقُنُوتِ الَّذِي كَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلهُ بَعْد الرُّكُوع فِي الرَّكْعَة الْأَخِيرَة مِنْ الصُّبْح , وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ اِبْن عُمَر أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول فِي صَلَاة الْفَجْر بَعْد رَفْع رَأْسه مِنْ الرُّكُوع فَقَالَ : ( اللَّهُمَّ رَبّنَا وَلَك الْحَمْد فِي الْآخِرَة - ثُمَّ قَالَ - اللَّهُمَّ اِلْعَنْ فُلَانًا وَفُلَانًا ) فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ | لَيْسَ لَك مِنْ الْأَمْر شَيْء أَوْ يَتُوب عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبهُمْ | الْآيَة . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ , وَأَخْرَجَهُ مُسْلِم أَيْضًا مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة أَتَمّ مِنْهُ . وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِع نَسْخ وَإِنَّمَا نَبَّهَ اللَّه تَعَالَى عَلَى نَبِيّه عَلَى أَنَّ الْأَمْر لَيْسَ إِلَيْهِ , وَأَنَّهُ لَا يَعْلَم مِنْ الْغَيْب شَيْئًا إِلَّا مَا أَعْلَمَهُ , وَأَنَّ الْأَمْر كُلّه لِلَّهِ يَتُوب عَلَى مَنْ يَشَاء وَيُعَجِّل الْعُقُوبَة لِمَنْ يَشَاء . وَالتَّقْدِير : لَيْسَ لَك مِنْ الْأَمْر شَيْء وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الْأَرْض دُونك وَدُونهمْ يَغْفِر لِمَنْ يَشَاء وَيَتُوب عَلَى مَنْ يَشَاء . فَلَا نَسْخ , وَاَللَّه أَعْلَم . وَبَيَّنَ بِقَوْلِهِ : | لَيْسَ لَك مِنْ الْأَمْر شَيْء | أَنَّ الْأُمُور بِقَضَاءِ اللَّه وَقَدَره رَدًّا عَلَى الْقَدَرِيَّة وَغَيْرهمْ .</p><p>الثَّالِثَة</p><p>وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْقُنُوت فِي صَلَاة الْفَجْر وَغَيْرهَا ; فَمَنَعَ الْكُوفِيُّونَ مِنْهُ فِي الْفَجْر وَغَيْرهَا . وَهُوَ مَذْهَب اللَّيْث وَيَحْيَى بْن يَحْيَى اللَّيْثِيّ الْأَنْدَلُسِيّ صَاحِب مَالِك , وَأَنْكَرَهُ الشَّعْبِيّ . وَفِي الْمُوَطَّأ عَنْ اِبْن عُمَر : أَنَّهُ كَانَ لَا يَقْنُت فِي شَيْء مِنْ الصَّلَاة . وَرَوَى النَّسَائِيّ أَنْبَأَنَا قُتَيْبَة عَنْ خَلَف عَنْ أَبِي مَالِك الْأَشْجَعِيّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : صَلَّيْت خَلْف النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَقْنُت , وَصَلَّيْت خَلْف أَبِي بَكْر فَلَمْ يَقْنُت , وَصَلَّيْت خَلْف عُمَر فَلَمْ يَقْنُت , وَصَلَّيْت خَلْف عُثْمَان فَلَمْ يَقْنُت وَصَلَّيْت خَلْف عَلِيّ فَلَمْ يَقْنُت ; ثُمَّ قَالَ : يَا بُنَيّ إِنَّهَا بِدْعَة . وَقِيلَ : يَقْنُت فِي الْفَجْر دَائِمًا وَفِي سَائِر الصَّلَوَات إِذَا نَزَلَ بِالْمُسْلِمِينَ نَازِلَة ; قَالَهُ الشَّافِعِيّ وَالطَّبَرِيّ . وَقِيلَ : هُوَ مُسْتَحَبّ فِي صَلَاة الْفَجْر , وَرُوِيَ عَنْ الشَّافِعِيّ . وَقَالَ الْحَسَن وَسَحْنُون : إِنَّهُ سُنَّة . وَهُوَ مُقْتَضَى رِوَايَة عَلِيّ بْن زِيَاد عَنْ مَالِك بِإِعَادَةِ تَارِكه لِلصَّلَاةِ عَمْدًا . وَحَكَى الطَّبَرِيّ الْإِجْمَاع عَلَى أَنَّ تَرْكه غَيْر مُفْسِد لِلصَّلَاةِ . وَعَنْ الْحَسَن : فِي تَرْكه سُجُود السَّهْو ; وَهُوَ أَحَد قَوْلَيْ الشَّافِعِيّ . وَذَكَر الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ سَعِيد بْن عَبْد الْعَزِيز فِيمَنْ نَسِيَ الْقُنُوت فِي صَلَاة الصُّبْح قَالَ : يَسْجُد سَجْدَتَيْ السَّهْو . وَاخْتَارَ مَالِك قَبْل الرُّكُوع ; وَهُوَ قَوْل إِسْحَاق . وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ مَالِك بَعْد الرُّكُوع , وَرُوِيَ عَنْ الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة , وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاق أَيْضًا . وَرَوَى عَنْ جَمَاعَة مِنْ الصَّحَابَة التَّخْيِير فِي ذَلِكَ . وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ بِإِسْنَادٍ صَحِيح عَنْ أَنَس أَنَّهُ قَالَ : مَا زَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْنُت فِي صَلَاة الْغَدَاة حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا . وَذَكَرَ أَبُو دَاوُد فِي الْمَرَاسِيل عَنْ خَالِد بْن أَبِي عِمْرَان قَالَ : بَيْنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو عَلَى مُضَر إِذْ جَاءَهُ جِبْرِيل فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ أَنْ اُسْكُتْ فَسَكَتَ ; فَقَالَ : ( يَا مُحَمَّد إِنَّ اللَّه لَمْ يَبْعَثك سَبَّابًا وَلَا لَعَّانًا وَإِنَّمَا بَعَثَك رَحْمَة وَلَمْ يَبْعَثك عَذَابًا , لَيْسَ لَك مِنْ الْأَمْر شَيْء أَوْ يَتُوب عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ) قَالَ : ثُمَّ عَلَّمَهُ هَذَا الْقُنُوت فَقَالَ : ( اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْتَعِينك وَنَسْتَغْفِرك وَنُؤْمِن بِك وَنَخْنَع لَك وَنَخْلَع وَنَتْرُك مَنْ يَكْفُرك اللَّهُمَّ إِيَّاكَ نَعْبُد وَلَك نُصَلِّي وَنَسْجُد وَإِلَيْك نَسْعَى وَنَحْفِد وَنَرْجُو رَحْمَتك وَنَخَاف عَذَابك الْجَدّ إِنَّ عَذَابك بِالْكَافِرِينَ مُلْحِق ) .

وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ

هَذَا النَّهْي عَنْ أَكْل الرِّبَا اِعْتِرَاض بَيْنَ أَثْنَاء قِصَّة أُحُد . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَلَا أَحْفَظ فِي ذَلِكَ شَيْئًا مَرْوِيًّا . قُلْت : قَالَ مُجَاهِد : كَانُوا يَبِيعُونَ الْبَيْع إِلَى أَجَل , فَإِذَا حَلَّ الْأَجَل زَادُوا فِي الثَّمَن عَلَى أَنْ يُؤَخِّرُوا ; فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : | يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَة | قُلْت وَإِنَّمَا خَصَّ الرِّبَا مِنْ بَيْنِ سَائِر الْمَعَاصِي ; لِأَنَّهُ الَّذِي أَذِنَ اللَّه فِيهِ بِالْحَرْبِ فِي قَوْله : | فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّه وَرَسُوله | [ الْبَقَرَة : 279 ] وَالْحَرْب يُؤْذِن بِالْقَتْلِ ; فَكَأَنَّهُ يَقُول : إِنْ لَمْ تَتَّقُوا الرِّبَا هُزِمْتُمْ وَقُتِلْتُمْ . فَأَمَرَهُمْ بِتَرْكِ الرِّبَا ; لِأَنَّهُ كَانَ مَعْمُولًا بِهِ عِنْدهمْ . وَاَللَّه أَعْلَم . و | أَضْعَافًا | نُصِبَ عَلَى الْحَال و | مُضَاعَفَة | نَعْته . وَقُرِئَ | مُضَعَّفَة | وَمَعْنَاهُ : الرِّبَا الَّذِي كَانَتْ الْعَرَب تُضَعِّف فِيهِ الدَّيْن فَكَانَ الطَّالِب يَقُول : أَتَقْضِي أَمْ تُرْبِي ؟ كَمَا تَقَدَّمَ فِي | الْبَقَرَة | . و | مُضَاعَفَة | إِشَارَة إِلَى تَكْرَار التَّضْعِيف عَامًا بَعْد عَام كَمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ; فَدَلَّتْ هَذِهِ الْعِبَارَة الْمُؤَكَّدَة عَلَى شُنْعَة فِعْلهمْ وَقُبْحه , وَلِذَلِكَ ذُكِرَتْ حَالَة التَّضْعِيف خَاصَّة .|مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ|أَيْ فِي أَمْوَال الرِّبَا فَلَا تَأْكُلُوهَا .

وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ

قَالَ كَثِير مِنْ الْمُفَسِّرِينَ : وَهَذَا الْوَعِيد لِمَنْ اِسْتَحَلَّ الرِّبَا , وَمَنْ اِسْتَحَلَّ الرِّبَا فَإِنَّهُ يَكْفُر وَيُكَفَّر . وَقِيلَ : مَعْنَاهُ اِتَّقُوا الْعَمَل الَّذِي يَنْزِع مِنْكُمْ الْإِيمَان فَتَسْتَوْجِبُونَ النَّار ; لِأَنَّ مِنْ الذُّنُوب مَا يَسْتَوْجِب بِهِ صَاحِبه نَزْع الْإِيمَان وَيُخَاف عَلَيْهِ ; مِنْ ذَلِكَ عُقُوق الْوَالِدَيْنِ . وَقَدْ جَاءَ فِي ذَلِكَ أَثَرُ أَنَّ رَجُلًا كَانَ عَاقًّا لِوَالِدَيْهِ يُقَال لَهُ عَلْقَمَة ; فَقِيلَ لَهُ عَنْ الْمَوْت : قُلْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه , فَلَمْ يَقْدِر عَلَى ذَلِكَ حَتَّى جَاءَتْهُ أُمّه فَرَضِيَتْ عَنْهُ . وَمِنْ ذَلِكَ قَطِيعَة الرَّحِم وَأَكْل الرِّبَا وَالْخِيَانَة فِي الْأَمَانَة وَذَكَرَ أَبُو بَكْر الْوَرَّاق عَنْ أَبِي حَنِيفَة أَنَّهُ قَالَ : أَكْثَر مَا يُنْزَع الْإِيمَان مِنْ الْعَبْد عِنْد الْمَوْت . ثُمَّ قَالَ أَبُو بَكْر : فَنَظَرْنَا فِي الذُّنُوب الَّتِي تَنْزِع الْإِيمَان فَلَمْ نَجِد شَيْئًا أَسْرَعَ نَزْعًا لِلْإِيمَانِ مِنْ ظُلْم الْعِبَاد . وَفِي هَذِهِ الْآيَة دَلِيل عَلَى أَنَّ النَّار مَخْلُوقَة رَدًّا عَلَى الْجَهْمِيَّة ; لِأَنَّ الْمَعْدُوم لَا يَكُون مُعَدًّا .

وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ

يَعْنِي أَطِيعُوا اللَّه فِي الْفَرَائِض|وَالرَّسُولَ|فِي السُّنَن : وَقِيلَ : | أَطِيعُوا اللَّه | فِي تَحْرِيم الرِّبَا | وَالرَّسُول | فِيمَا بَلَّغَكُمْ مِنْ التَّحْرِيم .|لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ|أَيْ كَيْ يَرْحَمكُمْ اللَّه . وَقَدْ تَقَدَّمَ .

وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ

قَوْله تَعَالَى : | وَسَارِعُوا | قَرَأَ نَافِع وَابْن عَامِر | سَارِعُوا | بِغَيْرِ وَاو ; وَكَذَلِكَ هِيَ فِي مَصَاحِف أَهْل الْمَدِينَة وَأَهْل الشَّام . وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَة | وَسَارِعُوا | . وَقَالَ أَبُو عَلِيّ : كِلَا الْأَمْرَيْنِ شَائِع مُسْتَقِيم , فَمَنْ قَرَأَ بِالْوَاوِ فَلِأَنَّهُ عَطَفَ الْجُمْلَة عَلَى الْجُمْلَة , وَمَنْ تَرَكَ الْوَاو فَلِأَنَّ الْجُمْلَة الثَّانِيَة مُلْتَبِسَة بِالْأُولَى مُسْتَغْنِيَة بِذَلِكَ عَنْ الْعَطْف بِالْوَاوِ . وَالْمُسَارَعَة الْمُبَادَرَة , وَهِيَ مُفَاعَلَة . وَفِي الْآيَة حَذْف . أَيْ سَارِعُوا إِلَى مَا يُوجِب الْمَغْفِرَة وَهِيَ الطَّاعَة . قَالَ أَنَس بْن مَالِك وَمَكْحُول فِي تَفْسِير | سَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَة مِنْ رَبّكُمْ | : مَعْنَاهُ إِلَى تَكْبِيرَة الْإِحْرَام . وَقَالَ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب : إِلَى أَدَاء الْفَرَائِض . عُثْمَان بْن عَفَّان : إِلَى الْإِخْلَاص . الْكَلْبِيّ : إِلَى التَّوْبَة مِنْ الرِّبَا . وَقِيلَ : إِلَى الثَّبَات فِي الْقِتَال . وَقِيلَ غَيْر هَذَا . وَالْآيَة عَامَّة فِي الْجَمِيع , وَمَعْنَاهَا مَعْنِيّ | فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَات | [ الْبَقَرَة : 148 ] وَقَدْ تَقَدَّمَ .</p><p>قَوْله تَعَالَى : | وَجَنَّة عَرْضهَا السَّمَوَات وَالْأَرْض | تَقْدِيره كَعَرْضِ فَحَذَفَ الْمُضَاف ; كَقَوْلِهِ : | مَا خَلْقكُمْ وَلَا بَعْثكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَة | [ لُقْمَان : 28 ] أَيْ إِلَّا كَخَلْقِ نَفْس وَاحِدَة وَبَعْثهَا . قَالَ الشَّاعِر : <br>حَسِبْت بُغَامَ رَاحِلَتِي عَنَاقًا .......... وَمَا هِيَ وَيْب غَيْرك بِالْعَنَاقِ <br>يُرِيد صَوْت عَنَاق . نَظِيره فِي سُورَة الْحَدِيد | وَجَنَّة عَرْضهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْض | [ الْحَدِيد : 21 ] وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي تَأْوِيله ; فَقَالَ اِبْن عَبَّاس : تُقْرَن السَّمَوَات وَالْأَرْض بَعْضهَا إِلَى بَعْض كَمَا تُبْسَط الثِّيَاب وَيُوصَل بَعْضهَا بِبَعْضٍ ; فَذَلِكَ عَرْض الْجَنَّة , وَلَا يَعْلَم طُولهَا إِلَّا اللَّه . وَهَذَا قَوْل الْجُمْهُور , وَذَلِكَ لَا يُنْكَر ; فَإِنَّ فِي حَدِيث أَبِي ذَرّ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( مَا السَّمَوَات السَّبْع وَالْأَرَضُونَ السَّبْع فِي الْكُرْسِيّ إِلَّا كَدَرَاهِم أُلْقِيَتْ فِي فَلَاة مِنْ الْأَرْض وَمَا الْكُرْسِيّ فِي الْعَرْش إِلَّا كَحَلْقَةٍ أُلْقِيَتْ فِي فَلَاة مِنْ الْأَرْض ) . فَهَذِهِ مَخْلُوقَات أَعْظَم بِكَثِيرٍ جِدًّا مِنْ السَّمَوَات وَالْأَرْض , وَقُدْرَة اللَّه أَعْظَم مِنْ ذَلِكَ كُلّه . وَقَالَ الْكَلْبِيّ : الْجِنَان أَرْبَعَة : جَنَّة عَدْن وَجَنَّة الْمَأْوَى وَجَنَّة الْفِرْدَوْس وَجَنَّة النَّعِيم , وَكُلّ جَنَّة مِنْهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْض لَوْ وُصِلَ بَعْضهَا بِبَعْضٍ . وَقَالَ إِسْمَاعِيل السُّدِّيّ : لَوْ كُسِرَتْ السَّمَوَات وَالْأَرْض وَصِرْنَ خَرْدَلًا , فَكُلّ خَرْدَلَة جَنَّة عَرْضهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْض . وَفِي الصَّحِيح : ( إِنَّ أَدْنَى أَهْل الْجَنَّة مَنْزِلَة مَنْ يَتَمَنَّى وَيَتَمَنَّى حَتَّى إِذَا اِنْقَطَعَتْ بِهِ الْأَمَانِيّ قَالَ اللَّه تَعَالَى : لَك ذَلِكَ وَعَشْرَة أَمْثَاله ) رَوَاهُ أَبُو سَعِيد الْخُدْرِيّ , خَرَّجَهُ مُسْلِم وَغَيْره . وَقَالَ يَعْلَى بْن أَبِي مُرَّة : لَقِيت التَّنُوخِيّ رَسُول هِرَقْل إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحِمْصَ شَيْخًا كَبِيرًا قَالَ : قَدِمْت عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكِتَابٍ هِرَقْل , فَنَاوَلَ الصَّحِيفَة رَجُلًا عَنْ يَسَاره ; قَالَ : فَقُلْت مَنْ صَاحِبكُمْ الَّذِي يَقْرَأ ؟ قَالُوا : مُعَاوِيَة ; فَإِذَا كِتَاب صَاحِبِي : إِنَّك كَتَبْت تَدْعُونِي إِلَى جَنَّة عَرْضهَا السَّمَوَات وَالْأَرْض فَأَيْنَ النَّار ؟ فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( سُبْحَان اللَّه فَأَيْنَ اللَّيْل إِذَا جَاءَ النَّهَار ) . وَبِمِثْلِ هَذِهِ الْحُجَّة اِسْتَدَلَّ الْفَارُوق عَلَى الْيَهُود حِين قَالُوا لَهُ : أَرَأَيْت قَوْلكُمْ | وَجَنَّة عَرَضَهَا السَّمَوَات وَالْأَرْض | فَأَيْنَ النَّار ؟ فَقَالُوا لَهُ : لَقَدْ نَزَعْت بِمَا فِي التَّوْرَاة . وَنَبَّهَ تَعَالَى بِالْعَرْضِ عَلَى الطُّول لِأَنَّ الْغَالِب أَنَّ الطُّول يَكُون أَكْثَر مِنْ الْعَرْض , وَالطُّول إِذَا ذُكِرَ لَا يَدُلّ عَلَى قَدْر الْعَرْض . قَالَ الزُّهْرِيّ : إِنَّمَا وَصَفَ عَرْضهَا , فَأَمَّا طُولهَا فَلَا يَعْلَمهُ إِلَّا اللَّه ; وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى : | مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُش بَطَائِنهَا مِنْ إِسْتَبْرَق | [ الرَّحْمَن : 54 ] فَوَصَفَ الْبِطَانَة بِأَحْسَن مَا يُعْلَم مِنْ الزِّينَة , إِذْ مَعْلُوم أَنَّ الظَّوَاهِر تَكُون أَحْسَن وَأَتْقَنَ مِنْ الْبَطَائِن . وَتَقُول الْعَرَب : بِلَاد عَرِيضَة , وَفَلَاة عَرِيضَة , أَيْ وَاسِعَة ; قَالَ الشَّاعِر : <br>كَأَنَّ بِلَادَ اللَّهِ وَهْيَ عَرِيضَةٌ .......... عَلَى الْخَائِفِ الْمَطْلُوبِ كِفَّةُ حَابِلِ <br>وَقَالَ قَوْم : الْكَلَام جَارٍ عَلَى مَقْطَع الْعَرَب مِنْ الِاسْتِعَارَة ; فَلَمَّا كَانَتْ الْجَنَّة مِنْ الِاتِّسَاع وَالِانْفِسَاح فِي غَايَة قُصْوَى حَسُنَتْ الْعِبَارَة عَنْهَا بِعَرْضِ السَّمَوَات وَالْأَرْض ; كَمَا تَقُول لِلرَّجُلِ : هَذَا بَحْر , وَلِشَخْصٍ كَبِير مِنْ الْحَيَوَان : هَذَا جَبَل . وَلَمْ تَقْصِد الْآيَة تَحْدِيد الْعَرْض , وَلَكِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهَا أَوْسَع شَيْء رَأَيْتُمُوهُ . وَعَامَّة الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ الْجَنَّة مَخْلُوقَة مَوْجُودَة : لِقَوْلِهِ | أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ | وَهُوَ نَصّ حَدِيث الْإِسْرَاء وَغَيْره فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرهمَا . وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَة : إِنَّهُمَا غَيْر مَخْلُوقَتَيْنِ فِي وَقْتنَا , وَإِنَّ اللَّه تَعَالَى إِذَا طَوَى السَّمَوَات وَالْأَرْض اِبْتَدَأَ خَلْق الْجَنَّة وَالنَّار حَيْثُ شَاءَ ; لِأَنَّهُمَا دَار جَزَاء بِالثَّوَابِ وَالْعِقَاب , فَخُلِقَتَا بَعْد التَّكْلِيف فِي وَقْت الْجَزَاء ; لِئَلَّا تَجْتَمِع دَار التَّكْلِيف وَدَار الْجَزَاء فِي الدُّنْيَا , كَمَا لَمْ يَجْتَمِعَا فِي الْآخِرَة . وَقَالَ اِبْن فُورك : الْجَنَّة يُزَاد فِيهَا يَوْم الْقِيَامَة . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَفِي هَذَا مُتَعَلَّقٌ لِمُنْذِرِ بْن سَعِيد وَغَيْره مِمَّنْ قَالَ : إِنَّ الْجَنَّة لَمْ تُخْلَق بَعْد . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَقَوْل اِبْن فُورك | يُزَاد فِيهَا | إِشَارَة إِلَى مَوْجُود , لَكِنَّهُ يَحْتَاج إِلَى سَنَد يَقْطَع الْعُذْر فِي الزِّيَادَة قُلْت : صَدَقَ اِبْن عَطِيَّة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فِيمَا قَالَ : وَإِذَا كَانَتْ السَّمَوَات السَّبْع وَالْأَرْضُونَ السَّبْع بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْكُرْسِيّ كَدَرَاهِم أُلْقِيَتْ فِي فَلَاة مِنْ الْأَرْض , وَالْكُرْسِيّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَرْش كَحَلْقَةٍ مُلْقَاة بِأَرْضٍ فَلَاة ; فَالْجَنَّة الْآن عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَة عَرْضهَا كَعَرْضِ السَّمَوَات وَالْأَرْض ; إِذْ الْعَرْش سَقْفهَا , حَسْب مَا وَرَدَ فِي صَحِيح مُسْلِم . وَمَعْلُوم أَنَّ السَّقْف يَحْتَوِي عَلَى مَا تَحْته وَيَزِيد . وَإِذَا كَانَتْ الْمَخْلُوقَات كُلّهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ كَالْحَلْقَةِ فَمَنْ ذَا الَّذِي يُقَدِّرهُ وَيَعْلَم طُوله وَعَرْضه إِلَّا اللَّه خَالِقه الَّذِي لَا نِهَايَة لِقُدْرَتِهِ , وَلَا غَايَة لِسَعَةِ مَمْلَكَته , سُبْحَانه وَتَعَالَى .

الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ

هَذَا مِنْ صِفَة الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ أُعِدَّتْ لَهُمْ الْجَنَّة , وَظَاهِر الْآيَة أَنَّهَا مَدْح بِفِعْلِ الْمَنْدُوب إِلَيْهِ .|فِي السَّرَّاءِ|الْيُسْر|وَالضَّرَّاءِ|الْعُسْر ; قَالَهُ اِبْن عَبَّاس وَالْكَلْبِيّ وَمُقَاتِل . وَقَالَ عُبَيْد بْن عُمَيْر وَالضَّحَّاك : السَّرَّاء وَالضَّرَّاء الرَّخَاء وَالشِّدَّة . وَيُقَال فِي حَال الصِّحَّة وَالْمَرَض . وَقِيلَ : فِي السَّرَّاء فِي الْحَيَاة , وَفِي الضَّرَّاء يَعْنِي يُوصِي بَعْد الْمَوْت . وَقِيلَ : فِي السَّرَّاء فِي الْعُرْس وَالْوَلَائِم , وَفِي الضَّرَّاء فِي النَّوَائِب وَالْمَآتِم . وَقِيلَ : فِي السَّرَّاء النَّفَقَة الَّتِي تَسُرُّكُمْ ; مِثْل النَّفَقَة عَلَى الْأَوْلَاد وَالْقَرَابَات , وَالضَّرَّاء عَلَى الْأَعْدَاء . وَيُقَال : فِي السَّرَّاء مَا يُضِيف بِهِ الْفَتَى وَيُهْدَى إِلَيْهِ . وَالضَّرَّاء مَا يُنْفِقهُ عَلَى أَهْل الضُّرّ وَيَتَصَدَّق بِهِ عَلَيْهِمْ . قُلْت : - وَالْآيَة تَعُمّ .|وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ|رَدُّهُ فِي الْجَوْف ; يُقَال : كَظَمَ غَيْظه أَيْ سَكَتَ عَلَيْهِ وَلَمْ يُظْهِرهُ مَعَ قُدْرَته عَلَى إِيقَاعه بِعَدُوِّهِ , وَكَظَمْت السِّقَاء أَيْ مَلَأْته وَسَدَدْت عَلَيْهِ , وَالْكِظَامَة مَا يُسَدّ بِهِ مَجْرَى الْمَاء ; وَمِنْهُ الْكِظَام لِلسَّيْرِ الَّذِي يُسَدّ بِهِ فَم الزِّقّ وَالْقِرْبَة . وَكَظَمَ الْبَعِير جِرَّته إِذَا رَدَّهَا فِي جَوْفه ; وَقَدْ يُقَال لِحَبْسِهِ الْجِرَّة قَبْل أَنْ يُرْسِلهَا إِلَى فِيهِ : كَظَمَ ; حَكَاهُ الزَّجَّاج . يُقَال : كَظَمَ الْبَعِير وَالنَّاقَة إِذَا لَمْ يَجْتَرَّا ; وَمِنْهُ قَوْل الرَّاعِي : <br>فَأَفَضْنَ بَعْد كُظُومِهِنَّ بِجِرَّةٍ .......... مِنْ ذِي الْأَبَارِق إِذْ رَعَيْنَ حَقِيلَا <br>الْحَقِيل : مَوْضِع . وَالْحَقِيل : نَبْت . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّهَا تَفْعَل ذَلِكَ عِنْد الْفَزَع وَالْجَهْد فَلَا تَجْتَرّ ; قَالَ أَعْشَى بَاهِلَة يَصِف رَجُلًا نَحَّارًا لِلْإِبِلِ فَهِيَ تَفْزَع مِنْهُ : <br>قَدْ تَكْظِمُ الْبُزْلُ مِنْهُ حِين تُبْصِرُهُ .......... حَتَّى تَقَطَّعَ فِي أَجْوَافِهَا الْجِرَرُ <br>وَمِنْهُ : رَجُل كَظِيم وَمَكْظُوم إِذَا كَانَ مُمْتَلِئًا غَمًّا وَحُزْنًا . وَفِي التَّنْزِيل : | وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنْ الْحُزْن فَهُوَ كَظِيم | [ يُوسُف : 84 ] . | ظَلَّ وَجْهه مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيم | [ النَّحْل : 58 ] . | إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُوم | [ الْقَلَم : 48 ] . وَالْغَيْظ أَصْل الْغَضَب , وَكَثِيرًا مَا يَتَلَازَمَانِ لَكِنَّ فُرْقَانَ مَا بَيْنهمَا , أَنَّ الْغَيْظ لَا يَظْهَر عَلَى الْجَوَارِح , بِخِلَافِ الْغَضَب فَإِنَّهُ يَظْهَر فِي الْجَوَارِح مَعَ فِعْلٍ مَا وَلَا بُدّ ; وَلِهَذَا جَاءَ إِسْنَاد الْغَضَب إِلَى اللَّه تَعَالَى إِذْ هُوَ عِبَارَة عَنْ أَفْعَاله فِي الْمَغْضُوب عَلَيْهِمْ . وَقَدْ فَسَّرَ بَعْض النَّاس الْغَيْظ بِالْغَضَبِ ; وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ . وَاَللَّه أَعْلَم .|وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ|الْعَفْو عَنْ النَّاس أَجَلُّ ضُرُوب فِعْل الْخَيْر ; حَيْثُ يَجُوز لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَعْفُو وَحَيْثُ يَتَّجِه حَقّه . وَكُلّ مَنْ اِسْتَحَقَّ عُقُوبَة فَتُرِكَتْ لَهُ فَقَدْ عُفِيَ عَنْهُ . وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى | عَنْ النَّاس | ; فَقَالَ أَبُو الْعَالِيَة وَالْكَلْبِيّ وَالزَّجَّاج : | وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاس | يُرِيد عَنْ الْمَمَالِيك . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا حَسَن عَلَى جِهَة الْمِثَال ; إِذْ هُمْ الْخَدَمَةُ فَهُمْ يُذْنِبُونَ كَثِيرًا وَالْقُدْرَة عَلَيْهِمْ مُتَيَسِّرَة , وَإِنْفَاذ الْعُقُوبَة سَهْل ; فَلِذَلِكَ مِثْل هَذَا الْمُفَسَّرِ بِهِ . وَرُوِيَ عَنْ مَيْمُون بْن مِهْرَان أَنَّ جَارِيَته جَاءَتْ ذَات يَوْم بِصَحْفَةٍ فِيهَا مَرَقَة حَارَّة , وَعِنْده أَضْيَاف فَعَثَرَتْ فَصَبَّتْ الْمَرَقَة عَلَيْهِ , فَأَرَادَ مَيْمُون أَنْ يَضْرِبهَا , فَقَالَتْ الْجَارِيَة : يَا مَوْلَايَ , اِسْتَعْمَلَ قَوْله تَعَالَى : | وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظ | قَالَ لَهَا : قَدْ فَعَلْت . فَقَالَتْ : اِعْمَلْ بِمَا بَعْده | وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاس | . فَقَالَ : قَدْ عَفَوْت عَنْك . فَقَالَتْ الْجَارِيَة : | وَاَللَّه يُحِبّ الْمُحْسِنِينَ | . قَالَ مَيْمُون : قَدْ أَحْسَنْت إِلَيْك , فَأَنْتِ حُرَّة لِوَجْهِ اللَّه تَعَالَى . وَرُوِيَ عَنْ الْأَحْنَف بْن قَيْس مِثْله . وَقَالَ زَيْد بْن أَسْلَمَ : | وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاس | عَنْ ظُلْمهمْ وَإِسَاءَتهمْ . وَهَذَا عَامّ , وَهُوَ ظَاهِر الْآيَة . وَقَالَ مُقَاتِل بْن حَيَّان فِي هَذِهِ الْآيَة : بَلَغَنَا أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ عِنْد ذَلِكَ : ( إِنَّ هَؤُلَاءِ مِنْ أُمَّتِي قَلِيل إِلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّه وَقَدْ كَانُوا كَثِيرًا فِي الْأُمَم الَّتِي مَضَتْ ) . فَمَدَحَ اللَّه تَعَالَى الَّذِينَ يَغْفِرُونَ عِنْد الْغَضَب وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ فَقَالَ : | وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ | [ الشُّورَى : 37 ] , وَأَثْنَى عَلَى الْكَاظِمِينَ الْغَيْظ بِقَوْلِهِ : | وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاس | , وَأَخْبَرَ أَنَّهُ يُحِبّهُمْ بِإِحْسَانِهِمْ فِي ذَلِكَ . وَوَرَدَتْ فِي كَظَمَ الْغَيْظ وَالْعَفْو عَنْ النَّاس وَمِلْك النَّفْس عِنْد الْغَضَب أَحَادِيث ; وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَم الْعِبَادَة وَجِهَاد النَّفْس ; فَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَيْسَ الشَّدِيد بِالصُّرَعَةِ وَلَكِنَّ الشَّدِيد الَّذِي يَمْلِك نَفْسه عِنْد الْغَضَب ) . وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام ( مَا مِنْ جَرْعَة يَتَجَرَّعهَا الْعَبْد خَيْر لَهُ وَأَعْظَم أَجْرًا مِنْ جَرْعَة غَيْظ فِي اللَّه ) . وَرَوَى أَنَس أَنَّ رَجُلًا قَالَ : يَا رَسُول اللَّه , مَا أَشَدّ مِنْ كُلّ شَيْء ؟ قَالَ : ( غَضَب اللَّه ) . قَالَ فَمَا يُنَجِّي مِنْ غَضَب اللَّه ؟ قَالَ : ( لَا تَغْضَب ) . قَالَ الْعَرَجِيّ : <br>وَإِذَا غَضِبْتَ فَكُنْ وَقُورًا كَاظِمًا .......... لِلْغَيْظِ تُبْصِرُ مَا تَقُولُ وَتَسْمَعُ <br><br>فَكَفَى بِهِ شَرَفًا تَبَصُّرُ سَاعَةٍ .......... يَرْضَى بِهَا عَنْك الْإِلَهُ وَتُرْفَعُ <br>وَقَالَ عُرْوَة بْن الزُّبَيْر فِي الْعَفْو : <br>لَنْ يَبْلُغ الْمَجْدَ أَقْوَامٌ وَإِنْ شَرُفُوا .......... حَتَّى يَذِلُّوا وَإِنْ عَزُّوا لِأَقْوَامِ <br><br>وَيُشْتَمُوا فَتَرَى الْأَلْوَانَ مُشْرِقَةً .......... لَا عَفْوَ ذُلٍّ وَلَكِنْ عَفْوَ إِكْرَامِ <br>وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَأَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيّ عَنْ سَهْل بْن مُعَاذ بْن أَنَس الْجُهَنِيّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ يَسْتَطِيع أَنْ يُنْفِذهُ دَعَاهُ اللَّه يَوْم الْقِيَامَة عَلَى رُءُوس الْخَلَائِق حَتَّى يُخَيِّرهُ فِي أَيّ الْحُور شَاءَ ) قَالَ : هَذَا حَدِيث حَسَن غَرِيب . وَرَوَى أَنَس عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( إِذَا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة نَادَى مُنَادٍ مَنْ كَانَ أَجْره عَلَى اللَّه فَلْيَدْخُلْ الْجَنَّة فَيُقَال مَنْ ذَا الَّذِي أَجْره عَلَى اللَّه فَيَقُوم الْعَافُونَ عَنْ النَّاس يَدْخُلُونَ الْجَنَّة بِغَيْرِ حِسَاب ) . ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيّ . وَقَالَ اِبْن الْمُبَارَك : كُنْت عِنْد الْمَنْصُور جَالِسًا فَأَمَرَ بِقَتْلِ رَجُل ; فَقُلْت : يَا أَمِير الْمُؤْمِنِينَ , قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِذَا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة نَادَى مُنَادٍ بَيْنَ يَدَيْ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ مَنْ كَانَتْ لَهُ يَد عِنْد اللَّه فَلْيَتَقَدَّمْ فَلَا يَتَقَدَّم إِلَّا مَنْ عَفَا عَنْ ذَنْب ) ; فَأَمَرَ بِإِطْلَاقِهِ .|وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ|أَيْ يُثْنِيهِمْ عَلَى إِحْسَانهمْ . قَالَ سَرِيّ السَّقْطِيّ : الْإِحْسَان أَنْ تُحْسِن وَقْت الْإِمْكَان , فَلَيْسَ كُلّ وَقْت يُمْكِنك الْإِحْسَان ; قَالَ الشَّاعِر : <br>بَادِرْ بِخَيْرٍ إِذْ مَا كُنْت مُقْتَدِرًا .......... فَلَيْسَ فِي كُلِّ وَقْتٍ أَنْتَ مُقْتَدِرُ <br>وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس الْجُمَّانِيّ فَأَحْسَنَ : <br>لَيْسَ فِي كُلِّ سَاعَةٍ وَأَوَانِ .......... تَتَهَيَّأْ صَنَائِعُ الْإِحْسَانِ <br><br>وَإِذَا أُمْكِنْتَ فَبَادِرْ إِلَيْهَا .......... حَذَرًا مِنْ تَعَذُّرِ الْإِمْكَانِ <br>وَقَدْ مَضَى فِي | الْبَقَرَة | الْقَوْل فِي الْمُحْسِن وَالْإِحْسَان فَلَا مَعْنَى لِلْإِعَادَةِ .

وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ

ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَة صِنْفًا , هُمْ دُون الصِّنْف الْأَوَّل فَأَلْحَقَهُمْ بِهِ بِرَحْمَتِهِ وَمِنْهُ ; فَهَؤُلَاءِ هُمْ التَّوَّابُونَ . قَالَ اِبْن عَبَّاس فِي رِوَايَة عَطَاء : نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة فِي نَبْهَان التَّمَّار - وَكُنْيَته أَبُو مُقْبِل - أَتَتْهُ اِمْرَأَة حَسْنَاء بَاعَ مِنْهَا تَمْرًا , فَضَمَّهَا إِلَى نَفْسه وَقَبَّلَهَا فَنَدِمَ عَلَى ذَلِكَ , فَأَتَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ ; فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة . وَذَكَرَ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ فِي مُسْنَده عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : حَدَّثَنِي أَبُو بَكْر - وَصَدَقَ أَبُو بَكْر - أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَا مِنْ عَبْد يُذْنِب ذَنْبًا ثُمَّ يَتَوَضَّأ وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ يَسْتَغْفِر اللَّه إِلَّا غُفِرَ لَهُ ) - ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَة - | وَاَلَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَة أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسهمْ ذَكَرُوا اللَّه فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ | - الْآيَة , وَالْآيَة الْأُخْرَى - | وَمَنْ يَعْمَل سُوءًا أَوْ يَظْلِم نَفْسه | [ النِّسَاء : 110 ] . وَخَرَّجَهُ التِّرْمِذِيّ وَقَالَ : حَدِيث حَسَن . وَهَذَا عَامّ . وَقَدْ تَنْزِل الْآيَة بِسَبَبٍ خَاصّ ثُمَّ تَتَنَاوَل جَمِيع مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَر مِنْهُ . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ سَبَب نُزُولهَا أَنَّ ثَقِيفِيًّا خَرَجَ فِي غَزَاة وَخَلَّفَ صَاحِبًا لَهُ أَنْصَارِيًّا عَلَى أَهْله , فَخَانَهُ فِيهَا بِأَنْ اِقْتَحَمَ عَلَيْهَا فَدَفَعَتْ عَنْ نَفْسهَا فَقَبَّلَ يَدَهَا , فَنَدِمَ عَلَى ذَلِكَ فَخَرَجَ يَسِيحُ فِي الْأَرْض نَادِمًا تَائِبًا ; فَجَاءَ الثَّقَفِيّ فَأَخْبَرَتْهُ زَوْجَته بِفِعْلِ صَاحِبه , فَخَرَجَ فِي طَلَبه فَأَتَى بِهِ إِلَى أَبِي بَكْر وَعُمْر رَجَاء أَنْ يَجِد عِنْدهمَا فَرَجًا فَوَبَّخَاهُ ; فَأَتَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ بِفِعْلِهِ ; فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة . وَالْعُمُوم أَوْلَى لِلْحَدِيثِ . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن مَسْعُود أَنَّ الصَّحَابَة قَالُوا : يَا رَسُول اللَّه , كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيل أَكْرَم عَلَى اللَّه مِنَّا , حَيْثُ كَانَ الْمُذْنِب مِنْهُمْ تُصْبِح عُقُوبَته مَكْتُوبَة عَلَى بَاب دَاره , وَفِي رِوَايَة : كَفَّارَة ذَنْبه مَكْتُوبَة عَلَى عَتَبَة دَاره : اِجْدَعْ أَنْفك , اِقْطَعْ أُذُنك , اِفْعَلْ كَذَا ; فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْآيَة تَوْسِعَة وَرَحْمَة وَعِوَضًا مِنْ ذَلِكَ الْفِعْل بِبَنِي إِسْرَائِيل . وَيُرْوَى أَنَّ إِبْلِيس بَكَى حِين نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة . وَالْفَاحِشَة تُطْلَق عَلَى كُلّ مَعْصِيَة , وَقَدْ كَثُرَ اِخْتِصَاصهَا بِالزِّنَا حَتَّى فَسَّرَ جَابِر بْن عَبْد اللَّه وَالسُّدِّيّ هَذِهِ الْآيَة بِالزِّنَا . و | أَوْ | فِي قَوْله : | أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسهمْ | قِيلَ هِيَ بِمَعْنَى الْوَاو ; وَالْمُرَاد مَا دُون الْكَبَائِر .|ذَكَرُوا اللَّهَ|مَعْنَاهُ بِالْخَوْفِ مِنْ عِقَابه وَالْحَيَاء مِنْهُ . الضَّحَّاك : ذَكَرُوا الْعَرْض الْأَكْبَر عَلَى اللَّه . وَقِيلَ تَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسهمْ أَنَّ اللَّه سَائِلهمْ عَنْهُ ; قَالَهُ الْكَلْبِيّ وَمُقَاتِل . وَعَنْ مُقَاتِل أَيْضًا : ذَكَرُوا اللَّه بِاللِّسَانِ عِنْد الذُّنُوب .|فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ|أَيْ طَلَبُوا الْغُفْرَان لِأَجْلِ ذُنُوبهمْ . وَكُلّ دُعَاء فِيهِ هَذَا الْمَعْنَى أَوْ لَفْظه فَهُوَ اِسْتِغْفَار . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي صَدْر هَذِهِ السُّورَة سَيِّد الِاسْتِغْفَار , وَأَنَّ وَقْته الْأَسْحَار . فَالِاسْتِغْفَار عَظِيم وَثَوَابه جَسِيم , حَتَّى لَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيّ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( مَنْ قَالَ أَسْتَغْفِر اللَّه الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْحَيّ الْقَيُّوم وَأَتُوب إِلَيْهِ غُفِرَ لَهُ . وَإِنْ كَانَ قَدْ فَرَّ مِنْ الزَّحْف ) . وَرَوَى مَكْحُول عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : مَا رَأَيْت أَكْثَر اِسْتِغْفَارًا مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَالَ مَكْحُول : مَا رَأَيْت أَكْثَر اِسْتِغْفَارًا مِنْ أَبِي هُرَيْرَة . وَكَانَ مَكْحُول كَثِير الِاسْتِغْفَار . قَالَ عُلَمَاؤُنَا : الِاسْتِغْفَار الْمَطْلُوب هُوَ الَّذِي يَحُلُّ عُقَد الْإِصْرَار وَيَثْبُت مَعْنَاهُ فِي الْجَنَان , لَا التَّلَفُّظ بِاللِّسَانِ . فَأَمَّا مَنْ قَالَ بِلِسَانِهِ : أَسْتَغْفِر اللَّه , وَقَلْبه مُصِرّ عَلَى مَعْصِيَته فَاسْتِغْفَاره ذَلِكَ يَحْتَاج إِلَى اِسْتِغْفَار , وَصَغِيرَته لَاحِقَة بِالْكَبَائِرِ . وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَن الْبَصْرِيّ أَنَّهُ قَالَ : اِسْتِغْفَارنَا يَحْتَاج إِلَى اِسْتِغْفَار . قُلْت : هَذَا يَقُولهُ فِي زَمَانه , فَكَيْفَ فِي زَمَاننَا هَذَا الَّذِي يَرَى فِيهِ الْإِنْسَان مُكِبًّا عَلَى الظُّلْم ! حَرِيصًا عَلَيْهِ لَا يُقْلِع , وَالسُّبْحَة فِي يَده زَاعِمًا أَنَّهُ يَسْتَغْفِر اللَّه مِنْ ذَنْبه وَذَلِكَ اِسْتِهْزَاء مِنْهُ وَاسْتِخْفَاف . وَفِي التَّنْزِيل | وَلَا تَتَّخِذُوا آيَات اللَّه هُزُوًا | [ الْبَقَرَة : 231 ] . وَقَدْ تَقَدَّمَ .|وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ|أَيْ لَيْسَ أَحَد يَغْفِر الْمَعْصِيَة وَلَا يُزِيل عُقُوبَتهَا إِلَّا اللَّه .|وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا|أَيْ وَلَمْ يَثْبُتُوا وَيَعْزِمُوا عَلَى مَا فَعَلُوا . وَقَالَ مُجَاهِد : أَيْ وَلَمْ يَمْضُوا . وَقَالَ مَعْبَد بْن صُبَيْح : صَلَّيْت خَلْف عُثْمَانَ وَعَلِيٌّ إِلَى جَانِبِي , فَأَقْبَلَ عَلَيْنَا فَقَالَ : صَلَّيْت بِغَيْرِ وُضُوء ثُمَّ ذَهَبَ فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى . | وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ | . الْإِصْرَار هُوَ الْعَزْم بِالْقَلْبِ عَلَى الْأَمْر وَتَرْك الْإِقْلَاع عَنْهُ . وَمِنْهُ صَرُّ الدَّنَانِير أَيْ الرَّبْط عَلَيْهَا ; قَالَ الْحُطَيْئَة يَصِف الْخَيْل : <br>عَوَابِس بِالشُّعْثِ الْكُمَاة إِذَا اِبْتَغَوْا .......... عُلَالَتهَا بِالْمُحْصَدَات أَصَرَّتِ <br>أَيْ ثَبَتَتْ عَلَى عَدْوهَا . وَقَالَ قَتَادَة : الْإِصْرَار الثُّبُوت عَلَى الْمَعَاصِي ; قَالَ الشَّاعِر : <br>يُصِرُّ بِاللَّيْلِ مَا تُخْفِي شَوَاكِله .......... يَا وَيْحَ كُلّ مُصِرِّ الْقَلْبِ خَتَّارِ <br>قَالَ سَهْل بْن عَبْد اللَّه : الْجَاهِل مَيِّت , وَالنَّاسِي نَائِم , وَالْعَاصِي سَكْرَان , وَالْمُصِرّ هَالِك , وَالْإِصْرَار هُوَ التَّسْوِيف , وَالتَّسْوِيف أَنْ يَقُول : أَتُوب غَدًا ; وَهَذَا دَعْوَى النَّفْس , كَيْفَ يَتُوب غَدًا لَا يَمْلِكهُ ! . وَقَالَ غَيْر سَهْل : الْإِصْرَار هُوَ أَنْ يَنْوِي أَلَّا يَتُوب فَإِذَا نَوَى التَّوْبَة النَّصُوح خَرَجَ عَنْ الْإِصْرَار . وَقَوْل سَهْل أَحْسَن . وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( لَا تَوْبَة مَعَ إِصْرَار ) . الثَّالِثَة : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : الْبَاعِث عَلَى التَّوْبَة وَحَلّ الْإِصْرَار إِدَامَة الْفِكْر فِي كِتَاب اللَّه الْعَزِيز الْغَفَّار , وَمَا ذَكَرَهُ اللَّه سُبْحَانه مِنْ تَفَاصِيل الْجَنَّة وَوَعَدَ بِهِ الْمُطِيعِينَ , وَمَا وَصَفَهُ مِنْ عَذَاب النَّار وَتَهَدَّدَ بِهِ الْعَاصِينَ , وَدَامَ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى قَوِيَ خَوْفه وَرَجَاؤُهُ فَدَعَا اللَّه رَغَبًا وَرَهَبًا ; وَالرَّغْبَة وَالرَّهْبَة ثَمَرَة الْخَوْف وَالرَّجَاء , يَخَاف مِنْ الْعِقَاب وَيَرْجُو الثَّوَاب , وَاَللَّه الْمُوَفِّق لِلصَّوَابِ . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ الْبَاعِث عَلَى ذَلِكَ تَنْبِيه إِلَهِيّ يُنَبِّه بِهِ مَنْ أَرَادَ سَعَادَته ; لِقُبْحِ الذُّنُوب وَضَرَرهَا إِذْ هِيَ سَمُوم مُهْلِكَة . قُلْت : وَهَذَا خِلَاف فِي اللَّفْظ لَا فِي الْمَعْنَى , فَإِنَّ الْإِنْسَان لَا يَتَفَكَّر فِي وَعْد اللَّه وَوَعِيده إِلَّا بِتَنْبِيهِهِ ; فَإِذَا نَظَرَ الْعَبْد بِتَوْفِيقِ اللَّه تَعَالَى إِلَى نَفْسه فَوَجَدَهَا مَشْحُونَة بِذُنُوبٍ اِكْتَسَبَهَا وَسَيِّئَات اِقْتَرَفَهَا , وَانْبَعَثَ مِنْهُ النَّدَم عَلَى مَا فَرَّطَ , وَتَرَكَ مِثْل مَا سَبَقَ مَخَافَة عُقُوبَة اللَّه تَعَالَى صَدَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَائِب , فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَانَ مُصِرًّا عَلَى الْمَعْصِيَة وَمُلَازِمًا لِأَسْبَابِ الْهَلَكَة . قَالَ سَهْل بْن عَبْد اللَّه : عَلَامَة التَّائِب أَنْ يَشْغَلهُ الذَّنْب عَلَى الطَّعَام وَالشَّرَاب ; كَالثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا .|وَهُمْ يَعْلَمُونَ|فِيهِ أَقْوَال . فَقِيلَ : أَيْ يَذْكُرُونَ ذُنُوبهمْ فَيَتُوبُونَ مِنْهَا . قَالَ النَّحَّاس : وَهَذَا قَوْل حَسَن . وَقِيلَ : | وَهُمْ يَعْلَمُونَ | أَنِّي أُعَاقِب عَلَى الْإِصْرَار . وَقَالَ عَبْد اللَّه بْن عُبَيْد بْن عُمَيْر : | وَهُمْ يَعْلَمُونَ | أَنَّهُمْ إِنْ تَابُوا تَابَ اللَّه عَلَيْهِمْ . وَقِيلَ : | يَعْلَمُونَ | أَنَّهُمْ إِنْ اِسْتَغْفِرُوا غُفِرَ لَهُمْ . وَقِيلَ : | يَعْلَمُونَ | بِمَا حَرَّمْت عَلَيْهِمْ ; قَالَ اِبْن إِسْحَاق . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَالْحَسَن وَمُقَاتِل وَالْكَلْبِيّ : | وَهُمْ يَعْلَمُونَ | أَنَّ الْإِصْرَار ضَارٌّ , وَأَنَّ تَرْكه خَيْر مِنْ التَّمَادِي . وَقَالَ الْحَسَن بْن الْفَضْل : | وَهُمْ يَعْلَمُونَ | أَنَّ لَهُمْ رَبًّا يَغْفِر الذَّنْب . قُلْت : وَهَذَا أَخَذَهُ مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَحْكِي عَنْ رَبّه عَزَّ وَجَلَّ قَالَ : ( أَذْنَبَ عَبْدٌ ذَنْبًا فَقَالَ اللَّهُمَّ اِغْفِرْ لِي ذَنْبِي فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَذْنَبَ عَبْدِي فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِر الذَّنْب وَيَأْخُذ بِالذَّنْبِ ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ فَقَالَ أَيْ رَبّ اِغْفِرْ لِي ذَنْبِي - فَذَكَرَ مِثْله مَرَّتَيْنِ , وَفِي آخِره : اِعْمَلْ مَا شِئْت فَقَدْ غَفَرْت لَك ) أَخْرَجَهُ مُسْلِم . وَفِيهِ دَلِيل عَلَى صِحَّة التَّوْبَة بَعْد نَقْضِهَا بِمُعَاوَدَةِ الذَّنْب ; لِأَنَّ التَّوْبَة الْأُولَى طَاعَة وَقَدْ اِنْقَضَتْ وَصَحَّتْ , وَهُوَ مُحْتَاج بَعْد مُوَاقَعَة الذَّنْب الثَّانِي إِلَى تَوْبَة أُخْرَى مُسْتَأْنَفَة , وَالْعَوْد إِلَى الذَّنْب وَإِنْ كَانَ أَقْبَح مِنْ اِبْتِدَائِهِ ; لِأَنَّهُ أَضَافَ إِلَى الذَّنْب نَقْض التَّوْبَة , فَالْعَوْد إِلَى التَّوْبَة أَحْسَن مِنْ اِبْتِدَائِهَا ; لِأَنَّهُ أَضَافَ إِلَيْهَا مُلَازَمَة الْإِلْحَاح بِبَابِ الْكَرِيم , وَإِنَّهُ لَا غَافِر لِلذُّنُوبِ سِوَاهُ . وَقَوْله فِي آخِر الْحَدِيث ( اِعْمَلْ مَا شِئْت ) أَمْر مَعْنَاهُ الْإِكْرَام فِي أَحَد الْأَقْوَال ; فَيَكُون مِنْ بَاب قَوْله : | اُدْخُلُوهَا بِسَلَامٍ | [ الْحِجْر : 46 ] . وَآخِر الْكَلَام خَبَر عَنْ حَال الْمُخَاطَب بِأَنَّهُ مَغْفُور لَهُ مَا سَلَف مِنْ ذَنْبه , وَمَحْفُوظ إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى فِيمَا يَسْتَقْبِل مِنْ شَأْنه . وَدَلَّتْ الْآيَة وَالْحَدِيث عَلَى عَظِيم فَائِدَة الِاعْتِرَاف بِالذَّنْبِ وَالِاسْتِغْفَار مِنْهُ , قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ الْعَبْد إِذَا اِعْتَرَفَ بِذَنْبِهِ ثُمَّ تَابَ إِلَى اللَّه تَابَ اللَّه عَلَيْهِ ) أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ . وَقَالَ : <br>يَسْتَوْجِبُ الْعَفْوَ الْفَتَى إِذَا اِعْتَرَفْ .......... بِمَا جَنَى مِنْ الذُّنُوبِ وَاقْتَرَفْ <br>وَقَالَ آخَر : <br>أَقْرِرْ بِذَنْبِكَ ثُمَّ اُطْلُبْ تَجَاوُزَهُ .......... إِنَّ الْجُحُودَ جُحُودُ الذَّنْبِ ذَنْبَانِ <br>وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّه بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ وَيَسْتَغْفِرُونَ فَيُغْفَر لَهُمْ ) . وَهَذِهِ فَائِدَة اِسْم اللَّه تَعَالَى الْغَفَّار وَالتَّوَّاب , عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي الْكِتَاب الْأَسْنَى فِي شَرْح أَسْمَاء اللَّه الْحُسْنَى . الْخَامِسَة : الذُّنُوب الَّتِي يُتَاب مِنْهَا إِمَّا كُفْر أَوْ غَيْره , فَتَوْبَة الْكَافِر إِيمَانه مَعَ نَدَمه عَلَى مَا سَلَفَ مِنْ كُفْره , وَلَيْسَ مُجَرَّد الْإِيمَان نَفْس تَوْبَة , وَغَيْر الْكُفْر إِمَّا حَقّ لِلَّهِ تَعَالَى , وَإِمَّا حَقّ لِغَيْرِهِ , فَحَقّ اللَّه تَعَالَى يَكْفِي فِي التَّوْبَة مِنْهُ التَّرْك ; غَيْر أَنَّ مِنْهَا مَا لَمْ يَكْتَفِ الشَّرْع فِيهَا بِمُجَرَّدِ التَّرْك بَلْ أَضَافَ إِلَى ذَلِكَ فِي بَعْضهَا قَضَاء كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْم , وَمِنْهَا مَا أَضَافَ إِلَيْهَا كَفَّارَة كَالْحِنْثِ فِي الْأَيْمَان وَالظِّهَار وَغَيْر ذَلِكَ , وَأَمَّا حُقُوق الْآدَمِيِّينَ فَلَا بُدّ مِنْ إِيصَالهَا إِلَى مُسْتَحَقِّيهَا , فَإِنْ لَمْ يُوجَدُوا تَصَدَّقَ عَنْهُمْ , وَمَنْ لَمْ يَجِد السَّبِيل لِخُرُوجِ مَا عَلَيْهِ لِإِعْسَارٍ فَعَفْو اللَّه مَأْمُول , وَفَضْله مَبْذُول ; فَكَمْ ضَمِنَ مِنْ التَّبَعَات وَبَدَّلَ مِنْ السَّيِّئَات بِالْحَسَنَاتِ . وَسَتَأْتِي زِيَادَة بَيَان لِهَذَا الْمَعْنَى . السَّادِسَة : لَيْسَ عَلَى الْإِنْسَان إِذَا لَمْ يَذْكُر ذَنْبه وَيَعْلَمهُ أَنْ يَتُوب مِنْهُ بِعَيْنِهِ , وَلَكِنْ يَلْزَمهُ إِذَا ذَكَرَ ذَنْبًا تَابَ مِنْهُ . وَقَدْ تَأَوَّلَ كَثِير مِنْ النَّاس فِيمَا ذَكَرَ شَيْخنَا أَبُو مُحَمَّد عَبْد الْمُعْطِي الْإسْكَنْدَرَانِي رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّ الْإِمَام الْمُحَاسِبِيّ رَحِمَهُ اللَّه يَرَى أَنَّ التَّوْبَة مِنْ أَجْنَاس الْمَعَاصِي لَا تَصِحّ , وَأَنَّ النَّدَم عَلَى جُمْلَتهَا لَا يَكْفِي , بَلْ لَا بُدّ أَنْ يَتُوب مِنْ كُلّ فِعْل بِجَارِحَتِهِ وَكُلّ عَقْد بِقَلْبِهِ عَلَى التَّعْيِين . ظَنُّوا ذَلِكَ مِنْ قَوْله , وَلَيْسَ هَذَا مُرَاده , وَلَا يَقْتَضِيه كَلَامه , بَلْ حُكْم الْمُكَلَّف إِذَا عُرِفَ حُكْم أَفْعَاله , وَعَرَفَ , الْمَعْصِيَة مِنْ غَيْرهَا , صِحْت مِنْهُ التَّوْبَة مِنْ جُمْلَة مَا عَرَفَ ; فَإِنَّهُ إِنْ لَمْ يَعْرِف كَوْن فِعْله الْمَاضِي مَعْصِيَة لَا يُمْكِنهُ أَنْ يَتُوب مِنْهُ لَا عَلَى الْجُمْلَة وَلَا عَلَى التَّفْصِيل ; وَمِثَاله رَجُل كَانَ يَتَعَاطَى بَابًا مِنْ أَبْوَاب الرِّبَا وَلَا يَعْرِف أَنَّهُ رِبًا فَإِذَا سَمِعَ كَلَام اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : | يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اللَّه وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ . فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّه وَرَسُوله | [ الْبَقَرَة : 279 ] عَظُمَ عَلَيْهِ هَذَا التَّهْدِيد , وَظَنَّ أَنَّهُ سَالِم مِنْ الرِّبَا , فَإِذَا عَلِمَ حَقِيقَة الرِّبَا الْآن , ثُمَّ تَفَكَّرَ فِيمَا مَضَى مِنْ أَيَّامه وَعِلْم أَنَّهُ لَابِس مِنْهُ شَيْئًا كَثِيرًا فِي أَوْقَات مُتَقَدِّمَة , صَحَّ أَنْ يَنْدَم عَلَيْهِ الْآن جُمْلَة , وَلَا يَلْزَمهُ تَعْيِين أَوْقَاته , وَهَكَذَا كُلّ مَا وَاقَعَ مِنْ الذُّنُوب وَالسَّيِّئَات كَالْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَة وَغَيْر ذَلِكَ مِنْ الْمُحَرَّمَات الَّتِي لَمْ يَعْرِف كَوْنهَا مُحَرَّمَة , فَإِذَا فَقِهَ الْعَبْد وَتَفَقَّدَ مَا مَضَى مِنْ كَلَامه تَابَ مِنْ ذَلِكَ جُمْلَة , وَنَدِمَ عَلَى مَا فَرَّطَ فِيهِ مِنْ حَقّ اللَّه تَعَالَى , وَإِذَا اِسْتَحَلَّ مَنْ كَانَ ظَلَمَهُ فَحَالَلَهُ عَلَى الْجُمْلَة وَطَابَتْ نَفْسه بِتَرْكِ حَقّه جَازَ ; لِأَنَّهُ مِنْ بَاب هِبَة الْمَجْهُول , هَذَا مَعَ شُحّ الْعَبْد وَحِرْصه عَلَى طَلَب حَقّه , فَكَيْفَ بِأَكْرَم الْأَكْرَمِينَ الْمُتَفَضِّل بِالطَّاعَاتِ وَأَسْبَابهَا وَالْعَفْو عَنْ الْمَعَاصِي صِغَارهَا وَكِبَارهَا . قَالَ شَيْخنَا رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى : هَذَا مُرَاد الْإِمَام , وَاَلَّذِي يَدُلّ عَلَيْهِ كَلَامه لِمَنْ تَفَقَّدَهُ , وَمَا ظَنَّهُ بِهِ الظَّانّ مِنْ أَنَّهُ لَا يَصِحّ النَّدَم إِلَّا عَلَى فِعْلٍ فِعْلٍ وَحَرَكَةٍ حَرَكَةٍ وَسَكَنَةٍ سَكَنَةٍ عَلَى التَّعْيِين هُوَ مِنْ بَاب تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق , الَّذِي لَمْ يَقَع شَرْعًا وَإِنْ جَازَ عَقْلًا , وَيَلْزَم عَنْهُ أَنْ يَعْرِف كَمْ جَرْعَة جَرَعَهَا فِي شُرْب الْخَمْر , وَكَمْ حَرَكَة تَحَرَّكَهَا فِي الزِّنَا , وَكَمْ خُطْوَة مَشَاهَا إِلَى مُحَرَّم , وَهَذَا مَا لَا يُطِيقهُ أَحَد , وَلَا تَتَأَتَّى مِنْهُ تَوْبَة عَلَى التَّفْصِيل . وَسَيَأْتِي لِهَذَا الْبَاب مَزِيد بَيَان مِنْ أَحْكَام التَّوْبَة وَشُرُوطهَا فِي | النِّسَاء | وَغَيْرهَا إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . السَّابِعَة : فِي قَوْله تَعَالَى : | وَلَمْ يُصِرُّوا | حُجَّة وَاضِحَة وَدَلَالَة قَاطِعَة لِمَا قَالَهُ سَيْف السُّنَّة | , وَلِسَان الْأُمَّة الْقَاضِي أَبُو بَكْر بْن الطَّيِّب : أَنَّ الْإِنْسَان يُؤَاخَذ بِمَا وَطَّنَ عَلَيْهِ بِضَمِيرِهِ , وَعَزَمَ عَلَيْهِ بِقَلْبِهِ مِنْ الْمَعْصِيَة . قُلْت : وَفِي التَّنْزِيل : | وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَاب أَلِيم | [ الْحَجّ : 25 ] وَقَالَ : | فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ | [ الْقَلَم : 20 ] . فَعُوقِبُوا قَبْل فِعْلهمْ بِعَزْمِهِمْ وَسَيَأْتِي بَيَانه . وَفِي الْبُخَارِيّ ( إِذَا اِلْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِل وَالْمَقْتُول فِي النَّار ) قَالُوا : يَا رَسُول اللَّه هَذَا الْقَاتِل , فَمَا بَال الْمَقْتُول ؟ قَالَ : ( إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْل صَاحِبه ) . فَعَلَّقَ الْوَعِيد عَلَى الْحِرْص وَهُوَ الْعَزْم وَأَلْغَى إِظْهَار السِّلَاح , وَأَنَصُّ مِنْ هَذَا مَا خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيّ مِنْ حَدِيث أَبِي كَبْشَة الْأَنْمَارِيّ وَصَحَّحَهُ مَرْفُوعًا ( إِنَّمَا الدُّنْيَا لِأَرْبَعَةِ نَفَر رَجُل أَعْطَاهُ اللَّه مَالًا وَعِلْمًا فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبّه وَيَصِل فِيهِ رَحِمه وَيَعْلَم لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فَهَذَا بِأَفْضَل الْمَنَازِل , وَرَجُل آتَاهُ اللَّه عِلْمًا وَلَمْ يُؤْتِهِ مَالًا فَهُوَ صَادِق النِّيَّة يَقُول لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْت فِيهِ بِعَمَلِ فُلَان فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَأَجْرهمَا سَوَاء , وَرَجُل آتَاهُ اللَّه مَالًا وَلَمْ يُؤْتِهِ عِلْمًا فَهُوَ يَخْبِط فِي مَاله بِغَيْرِ عِلْم لَا يَتَّقِي فِيهِ رَبّه وَلَا يَصِل بِهِ رَحِمَهُ وَلَا يَعْلَم لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فَهَذَا بِأَخْبَث الْمَنَازِل , وَرَجُل لَمْ يُؤْتِهِ اللَّه مَالًا وَلَا عِلْمًا فَهُوَ يَقُول لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْت فِيهِ بِعَمَلِ فُلَان فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَوِزْرهمَا سَوَاء ) . وَهَذَا الَّذِي صَارَ إِلَيْهِ الْقَاضِي هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ عَامَّة السَّلَف وَأَهْل الْعِلْم مِنْ الْفُقَهَاء وَالْمُحَدِّثِينَ وَالْمُتَكَلِّمِينَ , وَلَا يُلْتَفَت إِلَى خِلَاف مَنْ زَعَمَ أَنَّ مَا يَهُمّ الْإِنْسَان بِهِ وَإِنْ وَطَّنَ عَلَيْهِ لَا يُؤَاخَذ بِهِ . وَلَا حُجَّة لَهُ فِي قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( مَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلهَا لَمْ تُكْتَب عَلَيْهِ فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ سَيِّئَة وَاحِدَة ) لِأَنَّ مَعْنَى ( فَلَمْ يَعْمَلهَا ) فَلَمْ يَعْزِم عَلَى عَمَلهَا بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَا , وَمَعْنَى ( فَإِنْ عَمِلَهَا ) أَيْ أَظْهَرَهَا أَوْ عَزَمَ عَلَيْهَا بِدَلِيلِ مَا وَصَفْنَا . وَبِاَللَّهِ تَوْفِيقنَا .

أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ

رَتَّبَ تَعَالَى بِفَضْلِهِ وَكَرَمه غُفْرَان الذُّنُوب لِمَنْ أَخْلَصَ فِي تَوْبَته وَلَمْ يُصِرّ عَلَى ذَنْبه . وَيُمْكِن أَنْ يَتَّصِل هَذَا بِقِصَّةِ أُحُد , أَيْ مَنْ فَرَّ ثُمَّ تَابَ وَلَمْ يُصِرَّ فَلَهُ مَغْفِرَة اللَّه .

قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ

هَذَا تَسْلِيَة مِنْ اللَّه تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ , وَالسُّنَن جَمْع سُنَّة وَهِيَ الطَّرِيق الْمُسْتَقِيم . وَفُلَان عَلَى السُّنَّة أَيْ عَلَى طَرِيق الِاسْتِوَاء لَا يَمِيل إِلَى شَيْء مِنْ الْأَهْوَاء , قَالَ الْهُذَلِيّ : <br>فَلَا تَجْزَعَنْ مِنْ سُنَّةٍ أَنْتَ سِرْتَهَا .......... فَأَوَّلُ رَاضٍ سُنَّةً مَنْ يَسِيرُهَا <br>وَالسُّنَّة : الْإِمَام الْمُتَّبَع الْمُؤْتَمّ بِهِ , يُقَال : سَنَّ فُلَان سُنَّة حَسَنَة وَسَيِّئَة إِذَا عَمِلَ عَمَلًا اُقْتُدِيَ بِهِ فِيهِ مِنْ خَيْر أَوْ شَرّ , قَالَ لَبِيد : <br>مِنْ مَعْشَر سَنَّتْ لَهُمْ آبَاؤُهُمْ .......... وَلِكُلِّ قَوْم سُنَّة وَإِمَامهَا <br>وَالسُّنَّة الْأُمَّة , وَالسُّنَن الْأُمَم ; عَنْ الْمُفَضَّل . وَأَنْشَدَ : <br>مَا عَايَنَ النَّاسُ مِنْ فَضْلٍ كَفَضْلِهِمُ .......... وَلَا رَأَوْا مِثْلَهُمْ فِي سَالِفِ السُّنَنِ <br>وَقَالَ الزَّجَّاج : وَالْمَعْنَى أَهْل سُنَن , فَحَذَفَ الْمُضَاف . وَقَالَ أَبُو زَيْد : أَمْثَال . عَطَاء : شَرَائِع . مُجَاهِد : الْمَعْنَى | قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلكُمْ سُنَن | يُعْنَى بِالْهَلَاكِ فِيمَنْ كَذَّبَ قَبْلكُمْ كَعَادٍ وَثَمُود . وَالْعَاقِبَة : آخِر الْأَمْر , وَهَذَا فِي يَوْم أُحُد . يَقُول فَأَنَا أُمْهِلهُمْ وَأُمْلِي لَهُمْ وَأَسْتَدْرِجهُمْ حَتَّى يَبْلُغ الْكِتَاب أَجَله , يَعْنِي بِنُصْرَةِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ وَهَلَاك أَعْدَائِهِمْ الْكَافِرِينَ .

هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ

يَعْنِي الْقُرْآن , عَنْ الْحَسَن وَغَيْره . وَقِيلَ : هَذَا إِشَارَة إِلَى قَوْله : | قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلكُمْ سُنَن | . وَالْمَوْعِظَة الْوَعْظ . وَقَدْ تَقَدَّمَ .

وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ

عَزَّاهُمْ وَسَلَّاهُمْ بِمَا نَالَهُمْ يَوْم أُحُد مِنْ الْقَتْل وَالْجِرَاح , وَحَثَّهُمْ عَلَى قِتَال عَدُوّهُمْ وَنَهَاهُمْ عَنْ الْعَجْز وَالْفَشَل فَقَالَ | وَلَا تَهِنُوا | أَيْ لَا تَضْعُفُوا وَلَا تَجْبُنُوا يَا أَصْحَاب مُحَمَّد عَنْ جِهَاد أَعْدَائِكُمْ لِمَا أَصَابَكُمْ .|وَلَا تَحْزَنُوا|عَلَى ظُهُورهمْ , وَلَا عَلَى مَا أَصَابَكُمْ مِنْ الْهَزِيمَة وَالْمُصِيبَة .|وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ|أَيْ لَكُمْ تَكُون الْعَاقِبَة بِالنَّصْرِ وَالظَّفَر | إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ | أَيْ بِصِدْقِ وَعْدِي . وَقِيلَ : | إِنْ | بِمَعْنَى | إِذْ | . قَالَ اِبْن عَبَّاس : اِنْهَزَمَ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْم أَحَد فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ أَقْبَلَ خَالِد بْن الْوَلِيد بِخَيْلٍ , مِنْ الْمُشْرِكِينَ , يُرِيد أَنْ يَعْلُو عَلَيْهِمْ الْجَبَل ; فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( اللَّهُمَّ لَا يَعْلُنَّ عَلَيْنَا اللَّهُمَّ لَا قُوَّة لَنَا إِلَّا بِك اللَّهُمَّ لَيْسَ يَعْبُدك بِهَذِهِ الْبَلْدَة غَيْر هَؤُلَاءِ النَّفَر ) . فَأَنْزَلَ اللَّه هَذِهِ الْآيَات . وَثَابَ نَفَر مِنْ الْمُسْلِمِينَ رُمَاة فَصَعِدُوا الْجَبَل وَرَمَوْا خَيْل الْمُشْرِكِينَ حَتَّى هَزَمُوهُمْ ; فَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : | وَأَنْتُمْ الْأَعْلَوْنَ | يَعْنِي الْغَالِبِينَ عَلَى الْأَعْدَاء بَعْد أُحُد . فَلَمْ يَخْرُجُوا بَعْد ذَلِكَ عَسْكَرًا إِلَّا ظَفِرُوا فِي كُلّ عَسْكَر كَانَ فِي عَهْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَفِي كُلّ عَسْكَر كَانَ بَعْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ فِيهِ وَاحِد مِنْ الصَّحَابَة كَانَ الظَّفَر لَهُمْ , وَهَذِهِ الْبُلْدَان كُلّهَا إِنَّمَا اُفْتُتِحَتْ عَلَى عَهْد أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; ثُمَّ بَعْد اِنْقِرَاضهمْ مَا اُفْتُتِحَتْ بَلْدَة عَلَى الْوَجْه كَمَا كَانُوا يَفْتَتِحُونَ فِي ذَلِكَ الْوَقْت . وَفِي هَذِهِ الْآيَة بَيَان فَضْل هَذِهِ الْأُمَّة ; لِأَنَّهُ خَاطَبَهُمْ بِمَا خَاطَبَ بِهِ أَنْبِيَاءَهُ ; لِأَنَّهُ قَالَ لِمُوسَى : | إِنَّك أَنْتَ الْأَعْلَى | [ طَه : 68 ] وَقَالَ لِهَذِهِ الْأُمَّة : | وَأَنْتُمْ الْأَعْلَوْنَ | . وَهَذِهِ اللَّفْظَة مُشْتَقَّة مِنْ اِسْمه الْأَعْلَى فَهُوَ سُبْحَانه الْعَلِيّ , وَقَالَ لِلْمُؤْمِنِينَ : | وَأَنْتُمْ الْأَعْلَوْنَ | .

إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ

الْقَرْح الْجُرْح . وَالضَّمّ وَالْفَتْح فِيهِ لُغَتَانِ عَنْ الْكِسَائِيّ</p><p>وَالْأَخْفَش ; مِثْل عُقْر وَعَقْر . الْفَرَّاء : هُوَ بِالْفَتْحِ الْجُرْح , وَبِالضَّمِّ أَلَمه . وَالْمَعْنَى : إِنْ يَمْسَسْكُمْ يَوْم أُحُد قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْم يَوْم بَدْر قَرْحٌ مِثْله . وَقَرَأَ مُحَمَّد بْن السَّمَيْقَع | قَرَحٌ | بِفَتْحِ الْقَاف وَالرَّاء عَلَى الْمَصْدَر .|وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ|قِيلَ : هَذَا فِي الْحَرْب , تَكُون مَرَّة لِلْمُؤْمِنِينَ لِيَنْصُر اللَّه عَزَّ وَجَلَّ دِينه , وَمَرَّة لِلْكَافِرِينَ إِذَا عَصَى الْمُؤْمِنُونَ لِيَبْتَلِيَهُمْ وَيُمَحِّصَ ذُنُوبهمْ ; فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَعْصُوا فَإِنَّ حِزْب اللَّه هُمْ الْغَالِبُونَ . وَقِيلَ : | نُدَاوِلهَا بَيْن النَّاس | مِنْ فَرَح وَغَمّ وَصِحَّة وَسَقَم وَغِنًى وَفَقْر . وَالدَّوْلَة الْكَرَّة ; قَالَ الشَّاعِر : <br>فَيَوْمٌ لَنَا وَيَوْمٌ عَلَيْنَا .......... وَيَوْمٌ نُسَاءُ وَيَوْمٌ نُسَرُّ<br>|وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا|مَعْنَاهُ , وَإِنَّمَا كَانَتْ هَذِهِ الْمُدَاوَلَة لِيَرَى الْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْمُنَافِق فَيَمِيزُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْض ; كَمَا قَالَ : | وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْم اِلْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّه وَلِيَعْلَم الْمُؤْمِنِينَ . وَلِيَعْلَم الَّذِينَ نَافَقُوا | [ آل عِمْرَان : 166 - 167 ] . وَقِيلَ : لِيَعْلَم صَبْر الْمُؤْمِنِينَ , الْعِلْم الَّذِي يَقَع عَلَيْهِ الْجَزَاء كَمَا عَلِمَهُ غَيْبًا قَبْل أَنْ كَلَّفَهُمْ . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي | الْبَقَرَة | هَذَا الْمَعْنَى .|وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ|فِيهِ ثَلَاث مَسَائِل :</p><p>الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى | وَيَتَّخِذ مِنْكُمْ شُهَدَاء | أَيْ يُكْرِمكُمْ بِالشَّهَادَةِ ; أَيْ لِيُقْتَلَ قَوْم فَيَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاس بِأَعْمَالِهِمْ . وَقِيلَ : لِهَذَا قِيلَ شَهِيد : وَقِيلَ : سُمِّيَ شَهِيدًا لِأَنَّهُ مَشْهُود لَهُ بِالْجَنَّةِ وَقِيلَ : سُمِّيَ شَهِيدًا لِأَنَّ أَرْوَاحهمْ اِحْتَضَرَتْ دَار السَّلَام , لِأَنَّهُمْ أَحْيَاء عِنْد رَبّهمْ , وَأَرْوَاح غَيْرهمْ لَا تَصِل إِلَى الْجَنَّة ; فَالشَّهِيد بِمَعْنَى الشَّاهِد أَيْ الْحَاضِر لِلْجَنَّةِ , وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح عَلَى مَا يَأْتِي وَالشَّهَادَة فَضْلهَا عَظِيم , وَيَكْفِيك فِي فَضْلهَا قَوْله تَعَالَى : | إِنَّ اللَّه اِشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسهمْ | [ التَّوْبَة : 111 ] الْآيَة . | يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلّكُمْ عَلَى تِجَارَة تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَاب أَلِيم . تُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَرَسُوله وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيل اللَّه بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسكُمْ | إِلَى قَوْله : | ذَلِكَ الْفَوْز الْعَظِيم | [ الصَّفّ : 10 - 11 - 12 ] وَفِي صَحِيح الْبُسْتِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَا يَجِد الشَّهِيد مِنْ الْقَتْل إِلَّا كَمَا يَجِد أَحَدكُمْ مِنْ الْقُرْحَة ) . وَرَوَى النَّسَائِيّ عَنْ رَاشِد بْن سَعْد عَنْ رَجُل مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ : يَا رَسُول اللَّه , مَا بَال الْمُؤْمِنِينَ يُفْتَنُونَ فِي قُبُورهمْ إِلَّا الشَّهِيد ؟ قَالَ : ( كَفَى بِبَارِقَةِ السُّيُوف عَلَى رَأْسه فِتْنَة ) . وَفِي الْبُخَارِيّ : | مَنْ قُتِلَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَوْم أُحُد | مِنْهُمْ حَمْزَة وَالْيَمَان وَالنَّضْر بْن أَنَس وَمُصْعَب بْن عُمَيْر , حَدَّثَنِي عَمْرو بْن عَلِيٍّ أَنَّ مُعَاذ بْن هِشَام قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ قَتَادَة قَالَ : مَا نَعْلَم حَيًّا مِنْ أَحْيَاء الْعَرَب أَكْثَر شَهِيدًا أَعَزّ يَوْم الْقِيَامَة مِنْ الْأَنْصَار . قَالَ قَتَادَة : وَحَدَّثَنَا أَنَس بْن مَالِك أَنَّهُ قُتِلَ مِنْهُمْ يَوْم أَحَد سَبْعُونَ , وَيَوْم بِئْر مَعُونَة سَبْعُونَ , وَيَوْم الْيَمَامَة سَبْعُونَ . قَالَ : وَكَانَ بِئْر مَعُونَة عَلَى عَهْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَيَوْم الْيَمَامَة عَلَى عَهْد أَبِي بَكْر يَوْم مُسَيْلِمَة الْكَذَّاب . وَقَالَ أَنَس : أَتَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَلِيٍّ بْن أَبِي طَالِب وَبِهِ نَيِّف وَسِتُّونَ جِرَاحَة مِنْ طَعْنَة وَضَرْبَة وَرَمْيَة , فَجَعَلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْسَحهَا وَهِيَ تَلْتَئِم بِإِذْنِ اللَّه تَعَالَى كَأَنْ لَمْ تَكُنْ . الثَّانِيَة : فِي قَوْله تَعَالَى : | وَيَتَّخِذ مِنْكُمْ شُهَدَاء | دَلِيل عَلَى أَنَّ الْإِرَادَة غَيْر الْأَمْر كَمَا يَقُول أَهْل السُّنَّة ; فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى نَهَى الْكُفَّار عَنْ قَتْل الْمُؤْمِنِينَ : حَمْزَة وَأَصْحَابه وَأَرَادَ قَتْلهمْ , وَنَهَى آدَم عَنْ أَكْل الشَّجَرَة وَأَرَادَهُ فَوَاقَعَهُ آدَم , وَعَكْسه أَنَّهُ أَمَرَ إِبْلِيس بِالسُّجُودِ وَلَمْ يُرِدْهُ فَامْتَنَعَ مِنْهُ ; وَعَنْهُ وَقَعَتْ الْإِشَارَة بِقَوْلِهِ الْحَقّ : | وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّه اِنْبِعَاثهمْ فَثَبَّطَهُمْ | [ التَّوْبَة : 46 ] . وَإِنْ كَانَ قَدْ أَمَرَ جَمِيعهمْ بِالْجِهَادِ , وَلَكِنَّهُ خَلَقَ الْكَسَل وَالْأَسْبَاب الْقَاطِعَة عَنْ الْمَسِير فَقَعَدُوا . الثَّالِثَة : رُوِيَ عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : جَاءَ جِبْرِيل إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْم بَدْر فَقَالَ لَهُ : ( خَيِّرْ أَصْحَابك فِي الْأُسَارَى إِنْ شَاءُوا الْقَتْل وَإِنْ شَاءُوا الْفِدَاء عَلَى أَنْ يُقْتَل مِنْهُمْ عَام الْمُقْبِل مِثْلهمْ فَقَالُوا الْفِدَاء وَيُقْتَل مِنَّا ) أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ وَقَالَ : حَدِيث حَسَن . فَأَنْجَزَ اللَّه وَعْده بِشَهَادَةِ أَوْلِيَائِهِ بَعْد أَنْ خَيَّرَهُمْ فَاخْتَارُوا الْقَتْل . | وَاَللَّه لَا يُحِبّ الظَّالِمِينَ | أَيْ الْمُشْرِكِينَ , أَيْ وَإِنْ أَنَال الْكُفَّار مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ لَا يُحِبّهُمْ , وَإِنْ أَحَلَّ أَلَمًا بِالْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّهُ يُحِبّ الْمُؤْمِنِينَ .

وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ

فِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال : يُمَحِّص : يَخْتَبِر . الثَّانِي : يُطَهِّر ; أَيْ مِنْ ذُنُوبهمْ فَهُوَ عَلَى حَذْف مُضَاف . الْمَعْنَى : وَلِيُمَحِّص اللَّه ذُنُوب الَّذِينَ آمَنُوا ; قَالَ الْفَرَّاء . الثَّالِث : يُمَحِّص يُخَلِّص ; فَهَذَا أَغْرَبهَا . قَالَ الْخَلِيل : يُقَال مَحِصَ الْحَبْل يَمْحَص مَحْصًا إِذَا اِنْقَطَعَ وَبَره ; وَمِنْهُ ( اللَّهُمَّ مَحِّصْ عَنَّا ذُنُوبنَا ) أَيْ خَلِّصْنَا مِنْ عُقُوبَتهَا . وَقَالَ أَبُو إِسْحَاق الزَّجَّاج : قَرَأْت عَلَى مُحَمَّد بْن يَزِيد عَنْ الْخَلِيل : التَّمْحِيص التَّخْلِيص . يُقَال : مَحَّصَهُ يُمَحِّصهُ مَحْصًا إِذَا خَلَّصَهُ ; فَالْمَعْنَى عَلَيْهِ لِيَبْتَلِيَ الْمُؤْمِنِينَ لِيُثِيبَهُمْ وَيُخَلِّصهُمْ مِنْ ذُنُوبهمْ . | وَيَمْحَق الْكَافِرِينَ | أَيْ يَسْتَأْصِلهُمْ بِالْهَلَاكِ .

أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ

| أَمْ | بِمَعْنَى بَلْ . وَقِيلَ : الْمِيم زَائِدَة , وَالْمَعْنَى أَحَسِبْتُمْ يَا مَنْ اِنْهَزَمَ يَوْم أُحُد أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّة كَمَا دَخَلَ الَّذِينَ قُتِلُوا وَصَبَرُوا عَلَى أَلَم الْجِرَاح وَالْقَتْل مِنْ غَيْر أَنْ تَسْلُكُوا طَرِيقهمْ وَتَصْبِرُوا صَبْرهمْ لَا ; حَتَّى | يَعْلَم اللَّه الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ | أَيْ عِلْم شَهَادَة حَتَّى يَقَع عَلَيْهِ الْجَزَاء . وَالْمَعْنَى : وَلَمْ تُجَاهِدُوا فَيَعْلَم ذَلِكَ مِنْكُمْ ; فَلَمَّا بِمَعْنَى لَمْ . وَفَرَّقَ سِيبَوَيْهِ بَيْنَ | لَمْ | و | لَمَّا | فَزَعَمَ أَنَّ | لَمْ يَفْعَل | نَفْي فَعَلَ , وَأَنَّ : | لَمَّا يَفْعَل | . نَفْي قَدْ فَعَلَ . | وَيَعْلَم الصَّابِرِينَ | مَنْصُوب بِإِضْمَارِ أَنْ ; عَنْ الْخَلِيل . وَقَرَأَ الْحَسَن وَيَحْيَى بْن يَعْمَر | يَعْلَم الصَّابِرِينَ | بِالْجَزْمِ عَلَى النَّسَق . وَقُرِئَ بِالرَّفْعِ عَلَى الْقَطْع , أَيْ وَهُوَ يَعْلَم . وَرَوَى هَذِهِ الْقِرَاءَة عَبْد الْوَارِث عَنْ أَبِي عَمْرو . وَقَالَ الزَّجَّاج . الْوَاو هُنَا بِمَعْنَى حَتَّى , أَيْ وَلَمَّا يَعْلَم اللَّه الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ حَتَّى يَعْلَم صَبْرهمْ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا .

وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ

أَيْ الشَّهَادَة مِنْ قَبْل أَنْ تَلْقَوْهُ . وَقَرَأَ الْأَعْمَش | مِنْ قَبْل أَنْ تُلَاقُوهُ | أَيْ مِنْ قَبْل الْقَتْل . وَقِيلَ : مِنْ قَبْل أَنْ تَلْقَوْا أَسْبَاب الْمَوْت وَذَلِكَ أَنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ لَمْ يَحْضُرُوا بَدْرًا كَانُوا يَتَمَنَّوْنَ يَوْمًا يَكُون فِيهِ قِتَال , فَلَمَّا كَانَ يَوْم أُحُد اِنْهَزَمُوا , وَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ تَجَلَّدَ حَتَّى قُتِلَ , وَمِنْهُمْ أَنَس بْن النَّضْر عَمّ أَنَس بْن مَالِك , فَإِنَّهُ قَالَ لَمَّا اِنْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ : اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأ إِلَيْك مِمَّا جَاءَ بِهِ هَؤُلَاءِ , وَبَاشَرَ الْقِتَال وَقَالَ : إِيهًا إِنَّهَا رِيح الْجَنَّة ! إِنِّي لِأَجِدهَا , وَمَضَى حَتَّى اُسْتُشْهِدَ . قَالَ أَنَس : فَمَا عَرَفْنَاهُ إِلَّا بِبَنَانِهِ وَوَجَدْنَا فِيهِ بِضْعًا وَثَمَانِينَ جِرَاحَة . وَفِيهِ وَفِي أَمْثَاله نَزَلَ | رِجَال صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّه عَلَيْهِ | [ الْأَحْزَاب : 23 ] . فَالْآيَة عِتَاب فِي حَقّ مَنْ اِنْهَزَمَ , لَا سِيَّمَا وَكَانَ مِنْهُمْ حَمْل لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْخُرُوج مِنْ الْمَدِينَة , وَسَيَأْتِي . وَتَمَنِّي الْمَوْت يَرْجِع مِنْ الْمُسْلِمِينَ إِلَى تَمَنِّي الشَّهَادَة الْمَبْنِيَّة عَلَى الثَّبَات وَالصَّبْر عَلَى الْجِهَاد , لَا إِلَى قَتْل الْكُفَّار لَهُمْ ; لِأَنَّهُ مَعْصِيَة وَكُفْر وَلَا يَجُوز إِرَادَة الْمَعْصِيَة , وَعَلَى هَذَا يُحْمَل سُؤَال الْمُسْلِمِينَ مِنْ اللَّه أَنْ يَرْزُقهُمْ الشَّهَادَة , فَيَسْأَلُونَ الصَّبْر عَلَى الْجِهَاد وَإِنْ أَدَّى إِلَى الْقَتْل .|فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ|قَالَ الْأَخْفَش : هُوَ تَكْرِير بِمَعْنَى التَّأَكُّد لِقَوْلِهِ : | فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ | مِثْل | وَلَا طَائِر يَطِير بِجَنَاحَيْهِ | [ الْأَنْعَام : 38 ] . وَقِيلَ : مَعْنَاهُ وَأَنْتُمْ بُصَرَاء لَيْسَ فِي أَعْيُنكُمْ عِلَل ; كَمَا تَقُول : قَدْ رَأَيْت كَذَا وَكَذَا وَلَيْسَ فِي عَيْنَيْك عِلَّة , أَيْ فَقَدْ رَأَيْته رُؤْيَة حَقِيقِيَّة ; وَهَذَا رَاجِع إِلَى مَعْنَى التَّوْكِيد . وَقَالَ بَعْضهمْ : | وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ | إِلَى مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَفِي الْآيَة إِضْمَار , أَيْ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ فَلِمَ اِنْهَزَمْتُمْ ؟ .

وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ

فِيهِ خَمْس مَسَائِل : الْأُولَى</p><p>رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ بِسَبَبِ اِنْهِزَام الْمُسْلِمِينَ يَوْم أُحُد حِين صَاحَ الشَّيْطَان : قَدْ قُتِلَ مُحَمَّد . قَالَ عَطِيَّة الْعَوْفِيّ : فَقَالَ بَعْض النَّاس : قَدْ أُصِيبَ مُحَمَّد فَأَعْطُوهُمْ بِأَيْدِيكُمْ فَإِنَّمَا هُمْ إِخْوَانكُمْ . وَقَالَ بَعْضهمْ : إِنْ كَانَ مُحَمَّد قَدْ أُصِيبَ أَلَا تَمْضُونَ عَلَى مَا مَضَى عَلَيْهِ نَبِيّكُمْ حَتَّى تَلْحَقُوا بِهِ ; فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى فِي ذَلِكَ | وَمَا مُحَمَّد إِلَّا رَسُول قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْله الرُّسُل | إِلَى قَوْله : | فَآتَاهُمْ اللَّه ثَوَاب الدُّنْيَا | [ آل عِمْرَان : 148 ] . وَمَا نَافِيَة , وَمَا بَعْدهَا اِبْتِدَاء وَخَبَر , وَبَطَلَ عَمَل | مَا | . وَقَرَأَ اِبْن عَبَّاس | قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْله رُسُلٌ | بِغَيْرِ أَلِف وَلَام . فَأَعْلَم اللَّه تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَة أَنَّ الرُّسُل لَيْسَتْ بِبَاقِيَةٍ فِي قَوْمهَا أَبَدًا , وَأَنَّهُ يَجِب التَّمَسُّك بِمَا أَتَتْ بِهِ الرُّسُل وَإِنْ فُقِدَ الرَّسُول بِمَوْتٍ أَوْ قَتْل . وَأَكْرَمَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَفِيَّهُ بِاسْمَيْنِ مُشْتَقَّيْنِ مِنْ اِسْمه : مُحَمَّد وَأَحْمَد , وَتَقُول الْعَرَب : رَجُل مَحْمُود وَمُحَمَّد إِذَا كَثُرَتْ خِصَاله الْمَحْمُودَة , قَالَ الشَّاعِر : <br>إِلَى الْمَاجِد الْقَرْمِ الْجَوَادِ الْمُحَمَّدِ <br>وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي الْفَاتِحَة . وَقَالَ عَبَّاس بْن مِرْدَاس : <br>يَا خَاتِم النُّبَآء إِنَّك مُرْسَل .......... بِالْخَيْرِ كُلّ هُدَى السَّبِيل هُدَاكَا <br><br>إِنَّ الْإِلَه بَنَى عَلَيْك مَحَبَّة .......... فِي خَلْقه وَمُحَمَّدًا سَمَّاكَا <br>فَهَذِهِ الْآيَة مِنْ تَتِمَّة الْعِتَاب مَعَ الْمُنْهَزِمِينَ , أَيْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ الِانْهِزَام وَإِنْ قُتِلَ مُحَمَّد , وَالنُّبُوَّة لَا تَدْرَأ الْمَوْت , وَالْأَدْيَان لَا تَزُول بِمَوْتِ الْأَنْبِيَاء . وَاَللَّه أَعْلَم .</p><p>الثَّانِيَة</p><p>هَذِهِ الْآيَة أَدَلّ دَلِيل عَلَى شُجَاعَة الصِّدِّيق وَجَرَاءَته , فَإِنَّ الشَّجَاعَة وَالْجُرْأَة حَدّهمَا ثُبُوت الْقَلْب عِنْد حُلُول الْمَصَائِب , وَلَا مُصِيبَة أَعْظَم مِنْ مَوْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانه فِي | الْبَقَرَة | فَظَهَرَتْ عِنْده شُجَاعَته وَعِلْمه . قَالَ النَّاس : لَمْ يَمُتْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , مِنْهُمْ عُمَر , وَخَرِسَ عُثْمَان , وَاسْتَخْفَى عَلِيّ , وَاضْطَرَبَ الْأَمْر فَكَشَفَهُ الصِّدِّيق بِهَذِهِ الْآيَة حِين قُدُومه مِنْ مَسْكَنِهِ بِالسُّنْحِ , الْحَدِيث ; كَذَا فِي الْبُخَارِيّ . وَفِي سُنَن اِبْن مَاجَهْ عَنْ عَائِشَة قَالَتْ : لَمَّا قُبِضَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْر عِنْد اِمْرَأَته اِبْنَة خَارِجَة بِالْعَوَالِي , فَجَعَلُوا يَقُولُونَ : لَمْ يَمُتْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا هُوَ بَعْض مَا كَانَ يَأْخُذهُ عِنْد الْوَحْي . فَجَاءَ أَبُو بَكْر فَكَشَفَ عَنْ وَجْهه وَقَبَّلَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَقَالَ : أَنْتَ أَكْرَمُ عَلَى اللَّه مِنْ أَنْ يُمِيتك ! مَرَّتَيْنِ . قَدْ وَاَللَّه مَاتَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعُمْر فِي نَاحِيَة الْمَسْجِد يَقُول : وَاَللَّه مَا مَاتَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَلَا يَمُوت حَتَّى يَقْطَع أَيْدِي أُنَاس مِنْ الْمُنَافِقِينَ كَثِير وَأَرْجُلهمْ . فَقَامَ أَبُو بَكْر فَصَعِدَ الْمِنْبَر فَقَالَ : مَنْ كَانَ يَعْبُد اللَّه فَإِنَّ اللَّه حَيّ لَمْ يَمُتْ , وَمَنْ كَانَ يَعْبُد مُحَمَّدًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ | وَمَا مُحَمَّد إِلَّا رَسُول قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْله الرُّسُل أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ اِنْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرّ اللَّه شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّه الشَّاكِرِينَ | . قَالَ عُمَر : | فَلَكَأَنِّي لَمْ أَقْرَأهَا إِلَّا يَوْمَئِذٍ | . وَرَجَعَ عَنْ مَقَالَته الَّتِي قَالَهَا فِيمَا ذَكَرَ الْوَائِلِيّ أَبُو نَصْر عُبَيْد اللَّه فِي كِتَابه الْإِبَانَة : عَنْ أَنَس بْن مَالِك أَنَّهُ سَمِعَ عُمَر بْن الْخَطَّاب حِين بُويِعَ أَبُو بَكْر فِي مَسْجِد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَوَى عَلَى مِنْبَر رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَشَهَّدَ قَبْل أَبِي بَكْر فَقَالَ : أَمَّا بَعْد فَإِنِّي قُلْت لَكُمْ أَمْس مَقَالَة وَإِنَّهَا لَمْ تَكُنْ كَمَا قُلْت , وَإِنِّي وَاَللَّه مَا وَجَدْت الْمَقَالَة الَّتِي قُلْت لَكُمْ فِي كِتَاب أَنْزَلَهُ اللَّه وَلَا فِي عَهْد عَهِدَهُ إِلَيَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَلَكِنِّي كُنْت أَرْجُو أَنْ يَعِيش رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يَدْبُرَنَا - يُرِيد أَنْ يَقُول حَتَّى يَكُون آخِرنَا مَوْتًا - فَاخْتَارَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لِرَسُولِهِ الَّذِي عِنْده عَلَى الَّذِي عِنْدكُمْ , وَهَذَا الْكِتَاب الَّذِي هَدَى اللَّه بِهِ رَسُوله فَخُذُوا بِهِ تَهْتَدُوا لِمَا هُدِيَ لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قَالَ الْوَائِلِيّ أَبُو نَصْر الْمَقَالَة الَّتِي قَالَهَا ثُمَّ رَجَعَ عَنْهَا هِيَ | أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَمُتْ وَلَنْ يَمُوت حَتَّى يَقْطَع أَيْدِي رِجَال وَأَرْجُلهمْ | وَكَانَ قَالَ ذَلِكَ لِعَظِيمِ مَا وَرَدَ عَلَيْهِ , وَخَشِيَ الْفِتْنَة وَظُهُور الْمُنَافِقِينَ , فَلَمَّا شَاهَدَ قُوَّة يَقِين الصِّدِّيق الْأَكْبَر أَبِي بَكْر , وَتَفَوُّهَهُ بِقَوْلِ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : - | كُلّ نَفْس ذَائِقَة الْمَوْت | [ آل عِمْرَان : 185 ] وَقَوْله : | إِنَّك مَيِّت وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ | [ الزُّمَر : 30 ] وَمَا قَالَهُ ذَلِكَ الْيَوْم - تَنْبِيه وَتَثْبِيت وَقَالَ : كَأَنِّي لَمْ أَسْمَع بِالْآيَةِ إِلَّا مِنْ أَبِي بَكْر . وَخَرَجَ النَّاس يَتْلُونَهَا فِي سِكَك الْمَدِينَة , كَأَنَّهَا لَمْ تَنْزِل قَطُّ إِلَّا ذَلِكَ الْيَوْم وَمَاتَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْم الِاثْنَيْنِ بِلَا اِخْتِلَاف , فِي وَقْت دُخُوله الْمَدِينَة فِي هِجْرَته حِين اِشْتَدَّ الضَّحَاء , وَدُفِنَ يَوْم الثُّلَاثَاء , وَقِيلَ لَيْلَة الْأَرْبِعَاء . وَقَالَتْ صَفِيَّة بِنْت عَبْد الْمُطَّلِب تَرِثِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : <br>أَلَا يَا رَسُول اللَّه كُنْت رَجَاءَنَا .......... وَكُنْت بِنَا بَرًّا وَلَمْ تَكُ جَافِيَا <br><br>وَكُنْت رَحِيمًا هَادِيًا وَمُعَلِّمًا .......... لِيَبْكِ عَلَيْك الْيَوْمَ مَنْ كَانَ بَاكِيَا <br><br>لَعَمْرُكَ مَا أَبْكِي النَّبِيَّ لِفَقْدِهِ .......... وَلَكِنْ لِمَا أَخْشَى مِنْ الْهَرْجِ آتِيَا <br><br>كَأَنَّ عَلَى قَلْبِي لِذِكْرِ مُحَمَّدٍ .......... وَمَا خِفْت مِنْ بَعْد النَّبِيِّ الْمَكَاوِيَا <br><br>أَفَاطِمُ صَلَّى اللَّه رَبُّ مُحَمَّد .......... عَلَى جَدَثٍ أَمْسَى بِيَثْرِبَ ثَاوِيًا <br><br>فِدًى لِرَسُولِ اللَّه أُمِّي وَخَالَتِي .......... وَعَمِّي وَآبَائِي وَنَفْسِي وَمَالِيَا <br><br>صَدَقْتَ وَبَلَّغْتَ الرِّسَالَةَ صَادِقًا .......... وَمُتَّ صَلِيبَ الْعُودِ أَبْلَجَ صَافِيَا <br><br>فَلَوْ أَنَّ رَبَّ النَّاسِ أَبْقَى نَبِيّنَا .......... سَعِدْنَا وَلَكِنْ أَمْرُهُ كَانَ مَاضِيَا <br><br>عَلَيْك مِنْ اللَّهِ السَّلَامُ تَحِيَّةً .......... وَأُدْخِلْتَ جَنَّاتٍ مِنْ الْعَدْنِ رَاضِيَا <br><br>أَرَى حَسَنًا أَيْتَمْتَهُ وَتَرَكْتَهُ .......... يُبَكِّي وَيَدْعُو جَدَّهُ الْيَوْمَ نَاعِيَا <br>الثَّالِثَة</p><p>فَلِمَ أُخِّرَ دَفْن رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ قَالَ لِأَهْلِ بَيْت أَخَّرُوا دَفْن مَيِّتهمْ : ( عَجِّلُوا دَفْن جِيفَتكُمْ وَلَا تُؤَخِّرُوهَا ) . فَالْجَوَاب مِنْ ثَلَاثَة أَوْجُه : الْأَوَّل : مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ عَدَم اِتِّفَاقهمْ عَلَى مَوْته . الثَّانِي : لِأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ حَيْثُ يَدْفِنُونَهُ . قَالَ قَوْم فِي الْبَقِيع , وَقَالَ آخَرُونَ فِي الْمَسْجِد , وَقَالَ قَوْم : يُحْبَس حَتَّى يُحْمَل إِلَى أَبِيهِ إِبْرَاهِيم . حَتَّى قَالَ الْعَالِم الْأَكْبَر : سَمِعْته يَقُول : ( مَا دُفِنَ نَبِيّ إِلَّا حَيْثُ يَمُوت ) ذَكَرَهُ اِبْن مَاجَهْ وَالْمُوَطَّأ وَغَيْرهمَا . الثَّالِث : أَنَّهُمْ اِشْتَغَلُوا بِالْخِلَافِ الَّذِي وَقَعَ بَيْن الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَار فِي الْبَيْعَة , فَنَظَرُوا فِيهَا حَتَّى اِسْتَتَبَّ الْأَمْر وَانْتَظَمَ الشَّمْل وَاسْتَوْثَقَتْ الْحَال , وَاسْتَقَرَّتْ الْخِلَافَة فِي نِصَابهَا فَبَايَعُوا أَبَا بَكْر , ثُمَّ بَايَعُوهُ مِنْ الْغَد بَيْعَة أُخْرَى عَنْ مَلَأ مِنْهُمْ وَرِضًا ; فَكَشَفَ اللَّه بِهِ الْكُرْبَة مِنْ أَهْل الرِّدَّة , وَقَامَ بِهِ الدِّين , وَالْحَمْد لِلَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ . ثُمَّ رَجَعُوا بَعْد ذَلِكَ إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَظَرُوا فِي دَفْنه وَغَسَّلُوهُ وَكَفَّنُوهُ . وَاَللَّه أَعْلَم .</p><p>الرَّابِعَة</p><p>وَاخْتُلِفَ هَلْ صُلِّيَ عَلَيْهِ أَمْ لَا , فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ أَحَد , وَإِنَّمَا وَقَفَ كُلّ وَاحِد يَدْعُو , لِأَنَّهُ كَانَ أَشْرَفَ مِنْ أَنْ يُصَلَّى عَلَيْهِ . وَقَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهَذَا كَلَام ضَعِيف ; لِأَنَّ السُّنَّة تُقَام بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ فِي الْجِنَازَة , كَمَا تُقَام بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ فِي الدُّعَاء , فَيَقُول : اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد إِلَى يَوْم الْقِيَامَة , وَذَلِكَ مَنْفَعَة لَنَا . وَقِيلَ : لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ إِمَام . وَهَذَا ضَعِيف لِأَنَّ الَّذِي كَانَ يُقِيم بِهِمْ الصَّلَاة الْفَرِيضَة هُوَ الَّذِي كَانَ يَؤُمّ بِهِمْ فِي الصَّلَاة . وَقِيلَ : صَلَّى عَلَيْهِ النَّاس أَفْذَاذًا ; لِأَنَّهُ كَانَ آخِر الْعَهْد بِهِ , فَأَرَادُوا أَنْ يَأْخُذ كُلّ أَحَد بَرَكَته مَخْصُوصًا دُون أَنْ يَكُون فِيهَا تَابِعًا لِغَيْرِهِ . وَاَللَّه أَعْلَم بِصِحَّةِ ذَلِكَ . قُلْت : قَدْ خَرَّجَ اِبْن مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ حَسَن بَلْ صَحِيح مِنْ حَدِيث اِبْن عَبَّاس وَفِيهِ : فَلَمَّا فَرَغُوا مِنْ جِهَازه يَوْم الثُّلَاثَاء وُضِعَ عَلَى سَرِيره فِي بَيْته , ثُمَّ دَخَلَ النَّاس عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَالًا يُصَلُّونَ عَلَيْهِ , حَتَّى إِذَا فَرَغُوا أَدْخَلُوا النِّسَاء , حَتَّى إِذَا فَرَغْنَ أَدْخَلُوا الصِّبْيَان , وَلَمْ يَؤُمَّ النَّاسَ عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدٌ . خَرَّجَهُ عَنْ نَصْر بْن عَلِيّ الْجَهْضَمِيّ أَنْبَأَنَا وَهْب بْن جَرِير حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ مُحَمَّد بْن إِسْحَاق . قَالَ حَدَّثَنِي حُسَيْن بْن عَبْد اللَّه عَنْ عِكْرِمَة عَنْ اِبْن عَبَّاس , الْحَدِيث بِطُولِهِ . الْخَامِسَة : فِي تَغْيِير الْحَال بَعْد مَوْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , عَنْ أَنَس قَالَ : لَمَّا كَانَ الْيَوْم الَّذِي دَخَلَ فِيهِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَة أَضَاءَ مِنْهَا كُلّ شَيْء , فَلَمَّا كَانَ الْيَوْم الَّذِي مَاتَ فِيهِ أَظْلَمَ مِنْهَا كُلّ شَيْء , وَمَا نَفَضْنَا عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَيْدِي حَتَّى أَنْكَرْنَا قُلُوبنَا . أَخْرَجَهُ اِبْن مَاجَهْ , وَقَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن بَشَّار أَخْبَرْنَا عَبْد الرَّحْمَن بْن مَهْدِيّ حَدَّثَنَا سُفْيَان عَنْ عَبْد اللَّه بْن دِينَار عَنْ اِبْن عُمَر قَالَ : كُنَّا نَتَّقِي الْكَلَام وَالِانْبِسَاط إِلَى نِسَائِنَا عَلَى عَهْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَخَافَة أَنْ يَنْزِل فِينَا الْقُرْآن , فَلَمَّا مَاتَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَكَلَّمْنَا . وَأَسْنَدَ عَنْ أُمّ سَلَمَة بِنْت أَبِي أُمَيَّة زَوْج النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا قَالَتْ : كَانَ النَّاس فِي عَهْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَامَ الْمُصَلِّي يُصَلِّي لَمْ يَعْدُ بَصَرُ أَحَدهمْ مَوْضِع قَدَمَيْهِ , فَلَمَّا تُوُفِّيَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ أَبُو بَكْر , فَكَانَ النَّاس إِذَا قَامَ أَحَدهمْ يُصَلِّي لَمْ يَعْدُ بَصَرُ أَحَدِهِمْ مَوْضِع جَبِينه , فَتُوُفِّيَ أَبُو بَكْر وَكَانَ عُمَر , فَكَانَ النَّاس إِذَا قَامَ أَحَدهمْ يُصَلِّي لَمْ يَعْدُ بَصَرُ أَحَدِهِمْ مَوْضِع الْقِبْلَة , فَكَانَ عُثْمَان بْن عَفَّان فَكَانَتْ الْفِتْنَة فَتَلَفَّتَ النَّاس فِي الصَّلَاة يَمِينًا وَشِمَالًا .|أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ|| أَفَإِنْ مَاتَ | شَرْط | أَوْ قُتِلَ | عَطْف عَلَيْهِ , وَالْجَوَاب | اِنْقَلَبْتُمْ | . وَدَخَلَ حَرْف الِاسْتِفْهَام عَلَى حَرْف الْجَزَاء لِأَنَّ الشَّرْط قَدْ اِنْعَقَدَ بِهِ وَصَارَ جُمْلَة وَاحِدَة وَخَبَرًا وَاحِدًا . وَالْمَعْنَى : أَفَتَنْقَلِبُونَ عَلَى أَعْقَابكُمْ إِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ ؟ وَكَذَلِكَ كُلّ اِسْتِفْهَام دَخَلَ عَلَى حَرْف الْجَزَاء ; فَإِنَّهُ فِي غَيْر مَوْضِعه , وَمَوْضِعه أَنْ يَكُون قَبْل جَوَاب الشَّرْط . وَقَوْله | اِنْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابكُمْ | تَمْثِيل , وَمَعْنَاهُ اِرْتَدَدْتُمْ كُفَّارًا بَعْد إِيمَانكُمْ , قَالَ قَتَادَة وَغَيْره . وَيُقَال لِمَنْ عَادَ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ : اِنْقَلَبَ عَلَى عَقِبَيْهِ . وَمِنْهُ | نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ | . وَقِيلَ : الْمُرَاد بِالِانْقِلَابِ هُنَا الِانْهِزَام , فَهُوَ حَقِيقَة لَا مَجَاز . وَقِيلَ : الْمَعْنَى فَعَلْتُمْ فِعْل الْمُرْتَدِّينَ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ رِدَّة .|وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ|بَلْ يَضُرّ نَفْسه وَيُعَرِّضهَا لِلْعِقَابِ بِسَبَبِ الْمُخَالَفَة , وَاَللَّه تَعَالَى لَا تَنْفَعهُ الطَّاعَة وَلَا تَضُرّهُ الْمَعْصِيَة لِغِنَاهُ . | وَسَيَجْزِي اللَّه الشَّاكِرِينَ | , أَيْ الَّذِينَ صَبَرُوا وَجَاهَدُوا وَاسْتُشْهِدُوا . وَجَاءَ | وَسَيَجْزِي اللَّه الشَّاكِرِينَ | بَعْد قَوْله : | فَلَنْ يَضُرّ اللَّه شَيْئًا | فَهُوَ اِتِّصَال وَعْد بِوَعِيدٍ .

وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآَخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ

هَذَا حَضّ عَلَى الْجِهَاد , وَإِعْلَام أَنَّ الْمَوْت لَا بُدّ مِنْهُ وَأَنَّ كُلّ إِنْسَان مَقْتُول أَوْ غَيْر مَقْتُول مَيِّت إِذَا بَلَغَ أَجَله الْمَكْتُوب لَهُ ; لِأَنَّ مَعْنَى | مُؤَجَّلًا | إِلَى أَجَل . وَمَعْنَى | بِإِذْنِ اللَّه | بِقَضَاءِ اللَّه وَقَدَره . و | كِتَابًا | نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَر , أَيْ كَتَبَ اللَّه كِتَابًا مُؤَجَّلًا . وَأَجَل الْمَوْت هُوَ الْوَقْت الَّذِي فِي مَعْلُومه سُبْحَانه , أَنَّ رُوح الْحَيّ تُفَارِق جَسَده , وَمَتَى قُتِلَ الْعَبْد عَلِمْنَا أَنَّ ذَلِكَ أَجَله . وَلَا يَصِحّ أَنْ يُقَال : لَوْ لَمْ يُقْتَل لَعَاشَ . وَالدَّلِيل عَلَى قَوْله : | كِتَابًا مُؤَجَّلًا | إِذَا جَاءَ أَجَلهمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَة وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ | [ الْأَعْرَاف : 34 ] | إِنَّ أَجَل اللَّه لَآتٍ | [ الْعَنْكَبُوت : 5 ] | لِكُلِّ أَجَل كِتَاب | [ الرَّعْد : 38 ] . وَالْمُعْتَزِلِيّ يَقُول : يَتَقَدَّم الْأَجَل وَيَتَأَخَّر , وَإِنَّ مَنْ قُتِلَ فَإِنَّمَا يَهْلِك قَبْل أَجَله , وَكَذَلِكَ كُلّ مَا ذُبِحَ مِنْ الْحَيَوَان كَانَ هَلَاكه قَبْل أَجَله ; لِأَنَّهُ يَجِب عَلَى الْقَاتِل الضَّمَان وَالدِّيَة . وَقَدْ بَيَّنَ اللَّه تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَة أَنَّهُ لَا تَهْلِك نَفْس قَبْل أَجَلهَا . وَسَيَأْتِي لِهَذَا مَزِيد بَيَان فِي | الْأَعْرَاف | إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَفِيهِ دَلِيل عَلَى كَتْب الْعِلْم وَتَدْوِينه . وَسَيَأْتِي بَيَانه فِي | طَه | عِنْد قَوْله . | قَالَ عِلْمهَا عِنْد رَبِّي فِي كِتَاب | [ طَه : 52 ] إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .|وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا|يَعْنِي الْغَنِيمَة . نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ تَرَكُوا الْمَرْكَز طَلَبًا لِلْغَنِيمَةِ .</p><p>وَقِيلَ : هِيَ عَامَّة فِي كُلّ مَنْ أَرَادَ الدُّنْيَا دُون الْآخِرَة ; وَالْمَعْنَى نُؤْتِهِ مِنْهَا مَا قُسِمَ لَهُ . وَفِي التَّنْزِيل : | مَنْ كَانَ يُرِيد الْعَاجِلَة عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَنْ نُرِيد | [ الْإِسْرَاء : 18 ] .|وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا|أَيْ نُؤْتِهِ جَزَاء عَمَله , عَلَى مَا وَصَفَ اللَّه تَعَالَى مِنْ تَضْعِيف الْحَسَنَات لِمَنْ يَشَاء . وَقِيلَ : الْمُرَاد مِنْهَا عَبْد اللَّه بْن جُبَيْر وَمَنْ لَزِمَ الْمَرْكَز مَعَهُ حَتَّى قُتِلُوا .|وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ|أَيْ نُؤْتِيهِمْ الثَّوَاب الْأَبَدِيّ جَزَاء لَهُمْ عَلَى تَرْك الِانْهِزَام , فَهُوَ تَأْكِيد مَا تَقَدَّمَ مِنْ إِيتَاء مَزِيد الْآخِرَة . وَقِيلَ : | وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ | مِنْ الرِّزْق فِي الدُّنْيَا لِئَلَّا يُتَوَهَّم أَنَّ الشَّاكِر يُحْرَم مَا قَسَمَ لَهُ مِمَّا يَنَالهُ الْكَافِر .

وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ

قَالَ الزُّهْرِيّ : صَاحَ الشَّيْطَان يَوْم أُحُد : قُتِلَ مُحَمَّد ; فَانْهَزَمَ جَمَاعَة مِنْ الْمُسْلِمِينَ . قَالَ , كَعْب بْن مَالِك : فَكُنْت أَوَّل مَنْ عَرَفَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , رَأَيْت عَيْنَيْهِ مِنْ تَحْت الْمِغْفَر تُزْهِرَانِ , فَنَادَيْت بِأَعْلَى صَوْتِي : هَذَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَأَوْمَأَ إِلَيَّ أَنْ اسْكُتْ , فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : | وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِير فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيل اللَّه وَمَا ضَعُفُوا | الْآيَة . و | كَأَيِّنْ | بِمَعْنَى كَمْ . قَالَ الْخَلِيل وَسِيبَوَيْهِ : هِيَ أَيْ دَخَلَتْ عَلَيْهَا كَاف التَّشْبِيه وَبُنِيَتْ مَعَهَا فَصَارَ فِي الْكَلَام مَعْنَى وَكَمْ وَصُوِّرَتْ فِي الْمُصْحَف نُونًا ; لِأَنَّهَا كَلِمَة . نُقِلَتْ عَنْ أَصْلهَا فَغُيِّرَ لَفْظهَا لِتَغَيُّرِ مَعْنَاهَا , ثُمَّ كَثُرَ اِسْتِعْمَالهَا فَتَلَعَّبَتْ بِهَا الْعَرَب وَتَصَرَّفَتْ فِيهَا بِالْقَلْبِ وَالْحَذْف , فَحَصَلَ فِيهَا لُغَات أَرْبَع قُرِئَ بِهَا . وَقَرَأَ اِبْن كَثِير | وَكَائِنْ | مِثْل وَكَاعِنْ , عَلَى وَزْن فَاعِل , وَأَصْله كَيْءٍ فَقُلِبَتْ الْيَاء أَلِفًا , كَمَا قُلِبَتْ فِي يَيْأَس فَقِيلَ يَائِس ; قَالَ الشَّاعِر : <br>وَكَائِنْ بِالْأَبَاطِحِ مِنْ صَدِيق .......... يَرَانِي لَوْ أُصِبْت هُوَ الْمُصَابَا <br>وَقَالَ آخَر : <br>وَكَائِنْ رَدَدْنَا عَنْكُمُ مِنْ مُدَجَّجٍ .......... يَجِيءُ أَمَامَ الرَّكْبِ يَرْدِي مُقَنَّعَا <br>وَقَالَ آخَر : <br>وَكَائِنْ فِي الْمَعَاشِرِ مِنْ أُنَاس .......... أَخُوهُمْ فَوْقَهُمْ وَهُمُ كِرَامُ <br>وَقَرَأَ اِبْن مُحَيْصِن | وَكَئِنْ | مَهْمُوزًا مَقْصُورًا مِثْل وَكَعِن , وَهُوَ مِنْ كَائِنْ حُذِفَتْ أَلِفه . وَعَنْهُ أَيْضًا | وَكَأْيِن | مِثْل وَكَعْيِن وَهُوَ مَقْلُوب كَيْء الْمُخَفَّف . وَقَرَأَ الْبَاقُونَ | كَأَيِّنْ | بِالتَّشْدِيدِ مِثْل كَعَيِّن وَهُوَ الْأَصْل , قَالَ الشَّاعِر : <br>كَأَيِّنْ مِنْ أُنَاس لَمْ يَزَالُوا .......... أَخُوهُمْ فَوْقَهُمْ وَهُمُ كِرَام <br>وَقَالَ آخَر : <br>كَأَيِّنْ أَبَدْنَا مِنْ عَدُوٍّ بِعِزِّنَا .......... وَكَائِنْ أَجَرْنَا مِنْ ضَعِيف وَخَائِفِ <br>فَجَمَعَ بَيْن لُغَتَيْنِ : كَأَيِّنْ وَكَائِنْ , وَلُغَة خَامِسَة كَيْئِنْ مِثْل كَيْعِنْ , وَكَأَنَّهُ مُخَفَّف مِنْ كَيْء مَقْلُوب كَأَيِّنْ . وَلَمْ يَذْكُر الْجَوْهَرِيّ غَيْر لُغَتَيْنِ : كَائِن مِثْل كَاعِن , وَكَأَيِّنْ مِثْل كَعَيِّنِ ; تَقُول كَأَيِّنْ رَجُلًا لَقِيت ; بِنَصْبِ مَا بَعْد كَأَيِّنْ عَلَى التَّمْيِيز . وَتَقُول أَيْضًا : كَأَيِّنْ مِنْ رَجُل لَقِيت ; وَإِدْخَال مِنْ بَعْد كَأَيِّنْ أَكْثَر مِنْ النَّصْب بِهَا وَأَجْوَد . وَبِكَأَيِّنْ تَبِيع هَذَا الثَّوْب ؟ أَيْ بِكَمْ تَبِيع ; قَالَ ذُو الرُّمَّة : <br>وَكَائِنْ ذَعَرْنَا مِنْ مَهَاة وَرَامِح .......... بِلَاد الْعِدَا لَيْسَتْ لَهُ بِبِلَادِ <br>قَالَ النَّحَّاس : وَوَقَفَ أَبُو عَمْرو | وَكَأَيْ | بِغَيْرِ نُون ; لِأَنَّهُ تَنْوِينٌ . وَرَوَى ذَلِكَ سَوْرَة بْن الْمُبَارَك عَنْ الْكِسَائِيّ . وَوَقَفَ الْبَاقُونَ بِالنُّونِ اِتِّبَاعًا لِخَطِّ الْمُصْحَف . وَمَعْنَى الْآيَة تَشْجِيع الْمُؤْمِنِينَ , وَالْأَمْر بِالِاقْتِدَاءِ بِمَنْ تَقَدَّمَ مِنْ خِيَار أَتْبَاع الْأَنْبِيَاء ; أَيْ كَثِير مِنْ الْأَنْبِيَاء قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِير , أَوْ كَثِير مِنْ الْأَنْبِيَاء قُتِلُوا فَمَا اِرْتَدَّ أُمَمهمْ ; قَوْلَانِ : الْأَوَّل لِلْحَسَنِ وَسَعِيد بْن جُبَيْر . قَالَ الْحَسَن : مَا قُتِلَ نَبِيّ فِي حَرْب قَطُّ . وَقَالَ اِبْن جُبَيْر : مَا سَمِعْنَا أَنَّ نَبِيًّا قُتِلَ فِي الْقِتَال . وَالثَّانِي عَنْ قَتَادَة وَعِكْرِمَة . وَالْوَقْف - عَلَى هَذَا الْقَوْل - عَلَى | قُتِلَ | جَائِز , وَهِيَ قِرَاءَة نَافِع وَابْن جُبَيْر وَأَبِي عَمْرو وَيَعْقُوب . وَهِيَ قِرَاءَة اِبْن عَبَّاس وَاخْتَارَهَا أَبُو حَاتِم . وَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدهمَا أَنْ يَكُون | قُتِلَ | وَاقِعًا عَلَى النَّبِيّ وَحْده , وَحِينَئِذٍ يَكُون تَمَام الْكَلَام عِنْد قَوْله | قُتِلَ | وَيَكُون فِي الْكَلَام إِضْمَار , أَيْ وَمَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِير ; كَمَا يُقَال : قُتِلَ الْأَمِير مَعَهُ جَيْش عَظِيم , أَيْ وَمَعَهُ جَيْش . وَخَرَجَتْ مَعِي تِجَارَة ; أَيْ وَمَعِي . الْوَجْه الثَّانِي أَنْ يَكُون الْقَتْل نَالَ النَّبِيّ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الرِّبِّيِّينَ , وَيَكُون وَجْه الْكَلَام قُتِلَ بَعْض مَنْ كَانَ مَعَهُ ; تَقُول الْعَرَب : قَتَلْنَا بَنِي تَمِيم وَبَنِي سَلِيم , وَإِنَّمَا قَتَلُوا بَعْضهمْ . وَيَكُون قَوْله | فَمَا وَهَنُوا | رَاجِعًا إِلَى مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ . قُلْت : وَهَذَا الْقَوْل أَشْبَه بِنُزُولِ الْآيَة وَأَنْسَب , فَإِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُقْتَل , وَقُتِلَ مَعَهُ جَمَاعَة مِنْ أَصْحَابه . وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ وَابْن عَامِر | قَاتَلَ | وَهِيَ قِرَاءَة اِبْن مَسْعُود ; وَاخْتَارَهَا أَبُو عُبَيْد وَقَالَ . إِنَّ اللَّه إِذَا حَمِدَ مَنْ قَاتَلَ كَانَ مَنْ قُتِلَ دَاخِلًا فِيهِ , وَإِذَا حَمِدَ مَنْ قُتِلَ لَمْ يَدْخُل فِيهِ غَيْرهمْ ; فَقَاتَلَ أَعَمّ وَأَمْدَح . و | الرِّبِّيُّونَ | بِكَسْرِ الرَّاء قِرَاءَة الْجُمْهُور . وَقِرَاءَة عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ بِضَمِّهَا . وَابْن عَبَّاس بِفَتْحِهَا ; ثَلَاث لُغَات . وَالرِّبِّيُّونَ الْجَمَاعَات الْكَثِيرَة ; عَنْ مُجَاهِد . وَقَتَادَة وَالضَّحَّاك وَعِكْرِمَة , وَاحِدهمْ رُبِّي بِضَمِّ الرَّاء وَكَسْرهَا ; مَنْسُوب إِلَى الرِّبَّة بِكَسْرِ الرَّاء أَيْضًا وَضَمّهَا , وَهِيَ الْجَمَاعَة . وَقَالَ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود : الرِّبِّيُّونَ الْأُلُوف الْكَثِيرَة . وَقَالَ اِبْن زَيْد : الرِّبِّيُّونَ الْأَتْبَاع . وَالْأَوَّل أَعْرَف فِي اللُّغَة ; وَمِنْهُ يُقَال لِلْخِرْقَةِ الَّتِي تُجْمَع فِيهَا الْقِدَاح : رِبَّة وَرُبَّة . وَالرِّبَاب قَبَائِل تَجَمَّعَتْ . وَقَالَ أَبَان بْن ثَعْلَب : الرِّبِّيّ عَشْرَة آلَاف . وَقَالَ الْحَسَن : هُمْ الْعُلَمَاء الصُّبُر . اِبْن عَبَّاس وَمُجَاهِد وَقَتَادَة وَالرَّبِيع وَالسُّدِّيّ : الْجَمْع الْكَثِير ; قَالَ حَسَّان : <br>وَإِذَا مَعْشَر تَجَافَوْا عَنْ الْحَقّ .......... حَمَلْنَا عَلَيْهِمْ رُبِّيَا <br>وَقَالَ الزَّجَّاج : هَاهُنَا قِرَاءَتَانِ | رُبِّيُّونَ | بِضَمِّ الرَّاء | وَرِبِّيُّونَ | بِكَسْرِ الرَّاء ; أَمَّا الرُّبِّيُّونَ ( بِالضَّمِّ ) : الْجَمَاعَات الْكَثِيرَة . وَيُقَال : عَشْرَة آلَاف . قُلْت : وَقَدْ رُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس | رَبِّيُّونَ | بِفَتْحِ الرَّاء مَنْسُوب إِلَى الرَّبّ . قَالَ الْخَلِيل : الرِّبِّيّ الْوَاحِد مِنْ الْعُبَّاد الَّذِينَ صَبَرُوا مَعَ الْأَنْبِيَاء . وَهُمْ الرَّبَّانِيُّونَ نُسِبُوا إِلَى التَّأَلُّه وَالْعِبَادَة وَمَعْرِفَة الرُّبُوبِيَّة لِلَّهِ تَعَالَى . وَاَللَّه أَعْلَم .|فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ|| وَهَنُوا | أَيْ ضَعُفُوا , وَقَدْ تَقَدَّمَ . وَالْوَهْن اِنْكِسَار الْجِدّ بِالْخَوْفِ . وَقَرَأَ الْحَسَن وَأَبُو الْحَسَن وَأَبُو السَّمَّال | وَهِنُوا | بِكَسْرِ الْهَاء وَضَمّهَا , لُغَتَانِ عَنْ أَبِي زَيْد . وَهَنَ الشَّيْء يَهِن وَهْنًا . وَأَوْهَنْته أَنَا وَوَهَّنْته ضَعَّفْته . وَالْوَاهِنَة : أَسْفَل الْأَضْلَاع وَقِصَارهَا . وَالْوَهَن مِنْ الْإِبِل : الْكَثِيف . وَالْوَهْن : سَاعَة تَمْضِي مِنْ اللَّيْل , وَكَذَلِكَ الْمَوْهِن . وَأَوْهَنَّا صِرْنَا فِي تِلْكَ السَّاعَة ; أَيْ مَا وَهَنُوا لِقَتْلِ نَبِيّهمْ , أَوْ لِقَتْلِ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ , أَيْ مَا وَهَنَ بَاقِيهمْ ; فَحَذَفَ الْمُضَاف .|وَمَا ضَعُفُوا|أَيْ عَنْ عَدُوّهُمْ .|وَمَا اسْتَكَانُوا|أَيْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي الْجِهَاد . وَالِاسْتِكَانَة : الذِّلَّة وَالْخُضُوع ; وَأَصْلهَا | اِسْتَكَنُوا | عَلَى اِفْتَعَلُوا ; فَأُشْبِعَتْ فَتْحَة الْكَاف فَتَوَلَّدَتْ مِنْهَا أَلِف . وَمَنْ جَعَلَهَا مِنْ الْكَوْن فَهِيَ اِسْتَفْعَلُوا ; وَالْأَوَّل أَشْبَه بِمَعْنَى الْآيَة . وَقُرِئَ | فَمَا وَهْنُوا وَمَا ضَعْفُوا | بِإِسْكَانِ الْهَاء وَالْعَيْن . وَحَكَى الْكِسَائِيّ | ضَعَفُوا | بِفَتْحِ الْعَيْن . ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْهُمْ بَعْد أَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ أَوْ قُتِلَ نَبِيّهمْ بِأَنَّهُمْ صَبَرُوا وَلَمْ يَفِرُّوا وَوَطَّنُوا أَنْفُسهمْ عَلَى الْمَوْت , وَاسْتَغْفِرُوا لِيَكُونَ مَوْتهمْ عَلَى التَّوْبَة مِنْ الذُّنُوب إِنْ رُزِقُوا الشَّهَادَة , وَدَعَوْا فِي الثَّبَات حَتَّى لَا يَنْهَزِمُوا , وَبِالنَّصْرِ عَلَى أَعْدَائِهِمْ . وَخَصُّوا الْأَقْدَام بِالثَّبَاتِ دُون غَيْرهَا مِنْ الْجَوَارِح لِأَنَّ الِاعْتِمَاد عَلَيْهَا . يَقُول : فَهَلَّا فَعَلْتُمْ وَقُلْتُمْ مِثْل ذَلِكَ يَا أَصْحَاب مُحَمَّد ؟ فَأَجَابَ دُعَاءَهُمْ وَأَعْطَاهُمْ النَّصْر وَالظَّفَر وَالْغَنِيمَة فِي الدُّنْيَا وَالْمَغْفِرَة فِي الْآخِرَة إِذَا صَارُوا إِلَيْهَا . وَهَكَذَا يَفْعَل اللَّه مَعَ عِبَاده الْمُخْلِصِينَ التَّائِبِينَ الصَّادِقِينَ النَّاصِرِينَ لِدِينِهِ , الثَّابِتِينَ عِنْد لِقَاء عَدُوّهُ بِوَعْدِهِ الْحَقّ , وَقَوْله الصِّدْق .|وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ|وَاَللَّه يُحِبّ الصَّابِرِينَ | يَعْنِي الصَّابِرِينَ عَلَى الْجِهَاد . وَقَرَأَ بَعْضهمْ | وَمَا كَانَ قَوْلهمْ | بِالرَّفْعِ ; جَعَلَ الْقَوْل اِسْمًا لَكَانَ ; فَيَكُون مَعْنَاهُ وَمَا كَانَ قَوْلهمْ إِلَّا قَوْلهمْ

وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ

وَمَنْ قَرَأَ بِالنَّصْبِ جَعَلَ الْقَوْل خَبَر كَانَ . وَاسْمهَا | إِلَّا أَنْ قَالُوا | . رَبّنَا اِغْفِرْ لَنَا ذُنُوبنَا | يَعْنِي الصَّغَائِر | وَإِسْرَافنَا | يَعْنِي الْكَبَائِر . وَالْإِسْرَاف : الْإِفْرَاط فِي الشَّيْء وَمُجَاوَزَة الْحَدّ . وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاء ( اللَّهُمَّ اِغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي وَمَا أَنْتَ أَعْلَم بِهِ مِنِّي ) وَذَكَرَ الْحَدِيث . فَعَلَى الْإِنْسَان أَنْ يَسْتَعْمِل مَا فِي كِتَاب اللَّه وَصَحِيح السُّنَّة مِنْ الدُّعَاء وَيَدَع مَا سِوَاهُ , وَلَا يَقُول أَخْتَار كَذَا ; فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى قَدْ اِخْتَارَ لِنَبِيِّهِ وَأَوْلِيَائِهِ وَعَلَّمَهُمْ كَيْفَ يَدْعُونَ .

فَآَتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ

| فَآتَاهُمْ اللَّه | أَيْ أَعْطَاهُمْ | ثَوَاب الدُّنْيَا | , يَعْنِي النَّصْر وَالظَّفَر عَلَى عَدُوّهُمْ . | وَحُسْن ثَوَاب الْآخِرَة | يَعْنِي الْجَنَّة . وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيّ | فَأَثَابَهُمْ اللَّه | مِنْ الثَّوَاب . | وَاَللَّه يُحِبّ الْمُحْسِنِينَ | تَقَدَّمَ .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ

لَمَّا أَمَرَ اللَّه تَعَالَى بِالِاقْتِدَاءِ بِمَنْ تَقَدَّمَ مِنْ أَنْصَار الْأَنْبِيَاء حَذَّرَ طَاعَة الْكَافِرِينَ ; يَعْنِي مُشْرِكِي الْعَرَب : أَبَا سُفْيَان وَأَصْحَابه . وَقِيلَ : الْيَهُود وَالنَّصَارَى . وَقَالَ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ فِي قَوْلهمْ لِلْمُؤْمِنِينَ عِنْد الْهَزِيمَة : اِرْجِعُوا إِلَى دِين آبَائِكُمْ .|كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى|أَيْ إِلَى الْكُفْر .|أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا|أَيْ فَتَرْجِعُوا مَغْبُونِينَ .

بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ

أَيْ مُتَوَلِّي نَصْركُمْ وَحِفْظكُمْ إِنْ أَطَعْتُمُوهُ . وَقُرِئَ | بَلْ اللَّه | بِالنَّصْبِ , عَلَى تَقْدِير بَلْ وَأَطِيعُوا اللَّه مَوْلَاكُمْ .

سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ

نَظِيره | وَقَذَفَ فِي قُلُوبهمْ الرُّعْب | . وَقَرَأَ اِبْن عَامِر وَالْكِسَائِيّ | الرُّعُب | بِضَمِّ الْعَيْن ; وَهُمَا لُغَتَانِ . وَالرُّعْب : الْخَوْف ; يُقَال : رَعَبْته رُعْبًا وَرُعُبًا , فَهُوَ مَرْعُوب . وَيَجُوز أَنْ يَكُون الرُّعْب مَصْدَرًا , وَالرُّعْب الِاسْم . وَأَصْله مِنْ الْمَلْء ; يُقَال سَيْل رَاعِب يَمْلَأ الْوَادِي . وَرَعَبْت الْحَوْض مَلَأْته . وَالْمَعْنَى : سَنَمْلَأُ قُلُوب الْمُشْرِكِينَ خَوْفًا وَفَزَعًا . وَقَرَأَ السَّخْتِيَانِيّ | سَيُلْقِي | بِالْيَاءِ , وَالْبَاقُونَ بِنُونِ الْعَظَمَة . قَالَ السُّدِّيّ وَغَيْره : لَمَّا اِرْتَحَلَ أَبُو سُفْيَان وَالْمُشْرِكُونَ يَوْم أُحُد مُتَوَجِّهِينَ إِلَى مَكَّة اِنْطَلَقُوا حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيق نَدِمُوا وَقَالُوا : بِئْسَ مَا صَنَعْنَا ! قَتَلْنَاهُمْ حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلَّا الشَّرِيد تَرَكْنَاهُمْ , اِرْجِعُوا فَاسْتَأْصِلُوهُمْ ; فَلَمَّا عَزَمُوا عَلَى ذَلِكَ أَلْقَى اللَّه فِي قُلُوبهمْ الرُّعْب حَتَّى رَجَعُوا عَمَّا هَمُّوا بِهِ . وَالْإِلْقَاء يُسْتَعْمَل حَقِيقَة فِي الْأَجْسَام ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : | وَأَلْقَى الْأَلْوَاح | [ الْأَعْرَاف : 150 ] | فَالْقَوْا حِبَالهمْ وَعِصِيّهمْ | [ الشُّعَرَاء : 44 ] | فَأَلْقَى عَصَاهُ | [ الْأَعْرَاف : 107 ] . قَالَ الشَّاعِر : <br>فَأَلْقَتْ عَصَاهَا وَاسْتَقَرَّ بِهَا النَّوَى <br>ثُمَّ قَدْ يُسْتَعْمَل مَجَازًا كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَة , وَقَوْله : | وَأَلْقَيْت عَلَيْك مَحَبَّة مِنِّي | [ طَه : 39 ] . وَأُلْقِي عَلَيْك مَسْأَلَة .|بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ|تَعْلِيل ; أَيْ كَانَ سَبَب إِلْقَاء الرُّعْب فِي قُلُوبهمْ إِشْرَاكهمْ ; فَمَا لِلْمَصْدَرِ . وَيُقَال أَشْرَكَ بِهِ أَيْ عَدَلَ بِهِ غَيْره لِيَجْعَلهُ شَرِيكًا .|مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ|حُجَّة وَبَيَانًا , وَعُذْرًا وَبُرْهَانًا ; وَمِنْ هَذَا قِيلَ , لِلْوَالِي سُلْطَان ; لِأَنَّهُ حُجَّة اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فِي الْأَرْض . وَيُقَال : إِنَّهُ مَأْخُوذ مِنْ السَّلِيط وَهُوَ مَا يُضَاء بِهِ السِّرَاج , وَهُوَ دُهْن السِّمْسِم ; قَالَ امْرُؤُ الْقَيْس : <br>أَمَالَ السَّلِيط بِالذُّبَالِ الْمُفَتَّلِ <br>فَالسُّلْطَان يُسْتَضَاء بِهِ فِي إِظْهَار الْحَقّ وَقَمْع الْبَاطِل . وَقِيلَ السَّلِيط الْحَدِيد . وَالسَّلَاطَة الْحِدَّة . وَالسَّلَاطَة مِنْ التَّسْلِيط وَهُوَ الْقَهْر ; وَالسُّلْطَان مِنْ ذَلِكَ , فَالنُّون زَائِدَة . فَأَصْل السُّلْطَان الْقُوَّة , فَإِنَّهُ يُقْهَرُ بِهَا كَمَا يُقْهَرُ بِالسُّلْطَانِ . وَالسَّلِيطَة الْمَرْأَة الصَّاخِبَة . وَالسَّلِيط الرَّجُل الْفَصِيح اللِّسَان . وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهُ لَمْ تَثْبُت عِبَادَة الْأَوْثَان فِي شَيْء مِنْ الْمِلَل . وَلَمْ يَدُلّ عَقْل عَلَى جَوَاز ذَلِكَ . ثُمَّ أَخْبَرَ اللَّه تَعَالَى عَنْ مَصِيرهمْ وَمَرْجِعهمْ فَقَالَ : | وَمَأْوَاهُمْ النَّار | ثُمَّ ذَمَّهُ فَقَالَ : | وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ | وَالْمَثْوَى : الْمَكَان الَّذِي يُقَام فِيهِ ; يُقَال : ثَوَى يَثْوِي ثَوَاء . وَالْمَأْوَى : كُلّ مَكَان يَرْجِع إِلَيْهِ شَيْء لَيْلًا أَوْ نَهَارًا .

وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَ

قَالَ مُحَمَّد بْن كَعْب الْقُرَظِيّ : لَمَّا رَجَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَة بَعْد أُحُد وَقَدْ أُصِيبُوا قَالَ بَعْضهمْ لِبَعْضٍ : مِنْ أَيْنَ أَصَابَنَا هَذَا وَقَدْ وَعَدَنَا اللَّه النَّصْر ! فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة . وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَتَلُوا صَاحِب لِوَاء الْمُشْرِكِينَ وَسَبْعَة نَفَر مِنْهُمْ بَعْده عَلَى اللِّوَاء , وَكَانَ الظَّفَر اِبْتِدَاء لِلْمُسْلِمِينَ غَيْر أَنَّهُمْ اِشْتَغَلُوا بِالْغَنِيمَةِ , وَتَرَكَ بَعْض الرُّمَاة أَيْضًا مَرْكَزهمْ طَلَبًا لِلْغَنِيمَةِ فَكَانَ ذَلِكَ سَبَب الْهَزِيمَة . رَوَى الْبُخَارِيّ عَنْ الْبَرَاء بْن عَازِب قَالَ : لَمَّا كَانَ يَوْم أُحُد وَلَقِينَا الْمُشْرِكِينَ أَجْلَسَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُنَاسًا مِنْ الرُّمَاة وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَبْد اللَّه بْن جُبَيْر وَقَالَ لَهُمْ : ( لَا تَبْرَحُوا مِنْ مَكَانكُمْ إِنْ رَأَيْتُمُونَا ظَهَرْنَا عَلَيْهِمْ فَلَا تَبْرَحُوا وَإِنْ رَأَيْتُمُوهُمْ قَدْ ظَهَرُوا عَلَيْنَا فَلَا تُعِينُونَا عَلَيْهِمْ ) قَالَ : فَلَمَّا اِلْتَقَى الْقَوْم وَهَزَمَهُمْ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى نَظَرْنَا إِلَى النِّسَاء يَشْتَدِدْنَ فِي الْجَبَل , وَقَدْ رَفَعْنَ عَنْ سُوقهنَّ قَدْ بَدَتْ خَلَاخِلهنَّ فَجَعَلُوا يَقُولُونَ : الْغَنِيمَة الْغَنِيمَة . فَقَالَ لَهُمْ عَبْد اللَّه : أَمْهِلُوا ! أَمَا عَهِدَ إِلَيْكُمْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . أَلَّا تَبْرَحُوا , فَانْطَلَقُوا فَلَمَّا أَتَوْهُمْ صَرَفَ اللَّه وُجُوههمْ وَقُتِلَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ سَبْعُونَ رَجُلًا . ثُمَّ إِنَّ أَبَا سُفْيَان بْن حَرْب أَشْرَفَ عَلَيْنَا وَهُوَ فِي نَشَز فَقَالَ : أَفِي الْقَوْم مُحَمَّد ؟ فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا تُجِيبُوهُ ) حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا . ثُمَّ قَالَ : أَفِي الْقَوْم اِبْن أَبِي قُحَافَة ؟ ثَلَاثًا , فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا تُجِيبُوهُ ) ثُمَّ قَالَ : أَفِي الْقَوْم عُمَر بْن الْخَطَّاب ؟ ثَلَاثًا , فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا تُجِيبُوهُ ) ثُمَّ اِلْتَفَتَ إِلَى أَصْحَابه فَقَالَ : أَمَّا هَؤُلَاءِ فَقَدْ قُتِلُوا . فَلَمْ يَمْلِك عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ نَفْسه دُون أَنْ قَالَ : كَذَبْت يَا عَدُوّ اللَّه ! قَدْ أَبْقَى اللَّه لَك مَنْ يُخْزِيك بِهِ . فَقَالَ : اُعْلُ هُبَل ; مَرَّتَيْنِ . فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَجِيبُوهُ ) فَقَالُوا : مَا نَقُول يَا رَسُول اللَّه ؟ قَالَ : ( قُولُوا اللَّه أَعْلَى وَأَجَلّ ) . قَالَ أَبُو سُفْيَان : لَنَا الْعُزَّى وَلَا عُزَّى لَكُمْ . فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , ( أَجِيبُوهُ ) . قَالُوا : مَا نَقُول يَا رَسُول اللَّه ؟ قَالَ : قُولُوا ( اللَّه مَوْلَانَا وَلَا مَوْلَى لَكُمْ ) . قَالَ أَبُو سُفْيَان : يَوْم بِيَوْمِ بَدْر , وَالْحَرْب سِجَال , أَمَّا إِنَّكُمْ سَتَجِدُونَ فِي الْقَوْم مُثْلَة لَمْ آمُر بِهَا وَلَمْ تَسُؤْنِي . وَفِي الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم عَنْ سَعْد بْن أَبِي وَقَّاص قَالَ : رَأَيْت عَنْ يَمِين رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ شِمَاله يَوْم أُحُد رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا ثِيَاب بِيض يُقَاتِلَانِ عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتَدَّ الْقِتَال . وَفِي رِوَايَة عَنْ سَعْد : عَلَيْهِمَا ثِيَاب بِيض مَا رَأَيْتهمَا قَبْل وَلَا بَعْد . يَعْنِي جِبْرِيل وَمِيكَائِيل . وَفِي رِوَايَة أُخْرَى : يُقَاتِلَانِ عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَدّ الْقِتَال مَا رَأَيْتهمَا قَبْل ذَلِكَ الْيَوْم وَلَا بَعْده . وَعَنْ مُجَاهِد قَالَ : لَمْ تُقَاتِل الْمَلَائِكَة مَعَهُمْ يَوْمَئِذٍ , وَلَا قَبْله وَلَا بَعْده إِلَّا يَوْم بَدْر . قَالَ الْبَيْهَقِيّ : إِنَّمَا أَرَادَ مُجَاهِد أَنَّهُمْ لَمْ يُقَاتِلُوا يَوْم أُحُد عَنْ الْقَوْم حِين عَصَوْا الرَّسُول وَلَمْ يَصْبِرُوا عَلَى مَا أَمَرَهُمْ بِهِ . وَعَنْ عُرْوَة بْن الزُّبَيْر قَالَ : وَكَانَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وَعَدَهُمْ عَلَى الصَّبْر وَالتَّقْوَى أَنْ يُمِدّهُمْ بِخَمْسَةِ آلَاف مِنْ الْمَلَائِكَة مُسَوِّمِينَ : وَكَانَ قَدْ فَعَلَ ; فَلَمَّا عَصَوْا أَمْرَ الرَّسُول وَتَرَكُوا مَصَافَّهُمْ وَتَرَكُوا الرُّمَاة عَهِدَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ أَلَّا يَبْرَحُوا مِنْ مَنَازِلهمْ , وَأَرَادُوا الدُّنْيَا , رَفَعَ عَنْهُمْ مَدَّة الْمَلَائِكَة , وَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى : | وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّه وَعْده إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ | [ آل عِمْرَان : 152 ] فَصَدَقَ اللَّه وَعْده وَأَرَاهُمْ الْفَتْح , فَلَمَّا عَصَوْا أَعْقَبَهُمْ الْبَلَاء . وَعَنْ عُمَيْر بْن إِسْحَاق قَالَ : لَمَّا كَانَ يَوْم أُحُد اِنْكَشَفُوا عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَعْد يَرْمِي بَيْنَ يَدَيْهِ , وَفَتًى يُنَبِّل لَهُ , كُلَّمَا ذَهَبَتْ نَبْلَة أَتَاهُ بِهَا . قَالَ اِرْمِ أَبَا إِسْحَاق . فَلَمَّا فَرَغُوا نَظَرُوا مَنْ الشَّابّ ؟ فَلَمْ يَرَوْهُ وَلَمْ يَعْرِفُوهُ . وَقَالَ مُحَمَّد بْن كَعْب : وَلَمَّا قُتِلَ صَاحِب لِوَاء الْمُشْرِكِينَ وَسَقَطَ لِوَاؤُهُمْ , رَفَعَتْهُ عَمْرَة بِنْت عَلْقَمَة الْحَارِثِيَّة ; وَفِي ذَلِكَ يَقُول حَسَّان : <br>فَلَوْلَا لِوَاء الْحَارِثِيَّة أَصْبَحُوا .......... يُبَاعُونَ فِي الْأَسْوَاق بَيْعَ الْجَلَائِبِ<br>|إِذْ تَحُسُّونَهُمْ|مَعْنَاهُ تَقْتُلُونَهُمْ وَتَسْتَأْصِلُونَهُمْ ; قَالَ الشَّاعِر : <br>حَسَسْنَاهُمُ بِالسَّيْفِ حَسًّا فَأَصْبَحَتْ .......... بَقِيَّتُهُمْ قَدْ شُرِّدُوا وَتَبَدَّدُوا <br>وَقَالَ جَرِير : <br>تَحُسُّهُمُ السُّيُوفُ كَمَا تَسَامَى .......... حَرِيقُ النَّارِ فِي الْأَجَمِ الْحَصِيدِ <br>قَالَ أَبُو عُبَيْد : الْحَسّ الِاسْتِئْصَال بِالْقَتْلِ ; يُقَال : جَرَاد مَحْسُوس إِذَا قَتَلَهُ الْبَرْد . وَالْبَرْد مُحَسَّة لِلنَّبْتِ . أَيْ مَحْرَقَةً لَهُ ذَاهِبَة بِهِ . وَسَنَة حَسُوس أَيْ جَدْبَة تَأْكُل كُلّ شَيْء ; قَالَ رُؤْبَة : <br>إِذَا شَكَوْنَا سَنَة حَسُوسَا .......... تَأْكُلُ بَعْدَ الْأَخْضَرِ الْيَبِيسَا <br>وَأَصْله مِنْ الْحِسّ الَّذِي هُوَ الْإِدْرَاك بِالْحَاسَّةِ . فَمَعْنَى حَسَّهُ أَذْهَبَ حِسَّهُ بِالْقَتْلِ .|بِإِذْنِهِ|بِعِلْمِهِ , أَوْ بِقَضَائِهِ وَأَمْره .|حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ|أَيْ جَبُنْتُمْ وَضَعُفْتُمْ . يُقَال فَشِلَ يَفْشَل فَهُوَ فَشْل وَفَشِل . وَجَوَاب | حَتَّى | مَحْذُوف , أَيْ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ اُمْتُحِنْتُمْ . وَمِثْل هَذَا جَائِز كَقَوْلِهِ : | فَإِنْ اِسْتَطَعْت أَنْ تَبْتَغِي نَفَقًا فِي الْأَرْض أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاء | [ الْأَنْعَام : 35 ] فَافْعَلْ . وَقَالَ الْفَرَّاء : جَوَاب | حَتَّى | , | وَتَنَازَعْتُمْ | وَالْوَاو مُقْحَمَة زَائِدَة ; كَقَوْلِهِ | فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ . وَنَادَيْنَاهُ | [ الصَّافَّات : 103 - 104 ] أَيْ نَادَيْنَاهُ . وَقَالَ اِمْرُؤُ الْقَيْس : <br>فَلَمَّا أَجَزْنَا سَاحَةَ الْحَيِّ وَانْتَحَى <br>أَيْ اِنْتَحَى . وَعِنْد هَؤُلَاءِ يَجُوز إِقْحَام الْوَاو مِنْ | وَعَصَيْتُمْ | . أَيْ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ عَصَيْتُمْ . وَعَلَى هَذَا فِيهِ تَقْدِيم وَتَأْخِير , أَيْ حَتَّى إِذَا تَنَازَعْتُمْ وَعَصَيْتُمْ فَشِلْتُمْ . وَقَالَ أَبُو عَلِيّ : يَجُوز أَنْ يَكُون الْجَوَاب | صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ | , | ثُمَّ | زَائِدَة , وَالتَّقْدِير حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ وَعَصَيْتُمْ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ وَقَدْ أَنْشَدَ بَعْض النَّحْوِيِّينَ فِي زِيَادَتهَا قَوْل الشَّاعِر <br>أَرَانِي إِذَا مَا بِتُّ بِتُّ عَلَى هَوَى .......... فَثُمَّ إِذَا أَصْبَحْت أَصْبَحْت عَادِيًا <br>وَجَوَّزَ الْأَخْفَش أَنْ تَكُون زَائِدَة ; كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى : | حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ الْأَرْض بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسهمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأ مِنْ اللَّه إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ | [ التَّوْبَة : 118 ] . وَقِيلَ : | حَتَّى | بِمَعْنَى | إِلَى | وَحِينَئِذٍ لَا جَوَاب لَهُ ; أَيْ صَدَقَكُمْ اللَّه وَعْده إِلَى أَنْ فَشِلْتُمْ , أَيْ كَانَ ذَلِكَ الْوَعْد بِشَرْطِ الثَّبَات .|وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ|اِخْتَلَفْتُمْ ; يَعْنِي الرُّمَاة حِين قَالَ بَعْضهمْ لِبَعْضٍ : نَلْحَق الْغَنَائِم . وَقَالَ بَعْضهمْ : بَلْ نَثْبُت فِي مَكَاننَا الَّذِي أَمَرَنَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالثُّبُوتِ فِيهِ .|وَعَصَيْتُمْ|أَيْ خَالَفْتُمْ أَمْر الرَّسُول فِي الثُّبُوت .|مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ|يَعْنِي مِنْ الْغَلَبَة الَّتِي كَانَتْ لِلْمُسْلِمِينَ يَوْم أُحُد أَوَّل أَمْرهمْ ; وَذَلِكَ حِين صُرِعَ صَاحِب لِوَاء الْمُشْرِكِينَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ , وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا صُرِعَ اِنْتَشَرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابه وَصَارُوا كَتَائِبِ مُتَفَرِّقَة فَحَاسُوا الْعَدُوّ ضَرْبًا حَتَّى أَجْهَضُوهُمْ عَنْ أَثْقَالهمْ . وَحَمَلَتْ خَيْل الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ثَلَاث مَرَّات كُلّ ذَلِكَ تُنْضَح بِالنَّبْلِ فَتَرْجِع مَغْلُوبَة , وَحَمَلَ الْمُسْلِمُونَ فَنَهَكُوهُمْ قَتْلًا . فَلَمَّا أَبْصَرَ الرُّمَاة الْخَمْسُونَ أَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ قَدْ فَتَحَ لِإِخْوَانِهِمْ قَالُوا : وَاَللَّه مَا نَجْلِس هَهُنَا لِشَيْءٍ , قَدْ أَهْلَكَ اللَّه الْعَدُوّ وَإِخْوَاننَا فِي عَسْكَر الْمُشْرِكِينَ . وَقَالَ طَوَائِف مِنْهُمْ : عَلَامَ نَقِف وَقَدْ هَزَمَ اللَّه الْعَدُوّ ؟ فَتَرَكُوا مَنَازِلهمْ الَّتِي عَهِدَ إِلَيْهِمْ النَّبِيّ صَلِّي اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَّا يَتْرُكُوهَا , وَتَنَازَعُوا وَفَشِلُوا وَعَصَوْا الرَّسُول فَأَوْجَفَتْ الْخَيْل فِيهِمْ قَتْلًا . وَأَلْفَاظ الْآيَة تَقْتَضِي التَّوْبِيخ لَهُمْ , وَوَجْه التَّوْبِيخ لَهُمْ أَنَّهُمْ رَأَوْا مَبَادِئ النَّصْر , فَكَانَ الْوَاجِب أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ تَمَام النَّصْر فِي الثَّبَات لَا فِي الِانْهِزَام . ثُمَّ بَيَّنَ سَبَب التَّنَازُع .|مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا|يَعْنِي الْغَنِيمَة . قَالَ اِبْن مَسْعُود : مَا شَعَرْنَا أَنَّ أَحَدًا مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيد الدُّنْيَا وَعَرَضَهَا حَتَّى كَانَ يَوْم أُحُد .|وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ|وَهُمْ الَّذِينَ ثَبَتُوا فِي مَرْكَزهمْ , وَلَمْ يُخَالِفُوا أَمْر نَبِيّهمْ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَمِيرهمْ عَبْد اللَّه بْن جُبَيْر ; فَحَمَلَ خَالِد بْن الْوَلِيد وَعِكْرِمَة بْن أَبِي جَهْل عَلَيْهِ , وَكَانَا يَوْمَئِذٍ كَافِرَيْنِ فَقَتَلُوهُ مَعَ مَنْ بَقِيَ , رَحِمَهُمْ اللَّه . وَالْعِتَاب مَعَ مَنْ اِنْهَزَمَ لَا مَعَ مَنْ ثَبَتَ , فَإِنَّ مَنْ ثَبَتَ فَازَ بِالثَّوَابِ , وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ إِذَا حَلَّ بِقَوْمِ عُقُوبَة عَامَّة فَأَهْل الصَّلَاح وَالصِّبْيَان يَهْلِكُونَ ; وَلَكِنْ لَا يَكُون مَا حَلَّ بِهِمْ عُقُوبَة , بَلْ هُوَ سَبَب الْمَثُوبَة . وَاَللَّه أَعْلَم .|ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ|أَيْ بَعْد أَنْ اِسْتَوْلَيْتُمْ عَلَيْهِمْ رَدَّكُمْ عَنْهُمْ بِالِانْهِزَامِ .</p><p>وَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْمَعْصِيَة مَخْلُوقَة لِلَّهِ تَعَالَى . وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَة : الْمَعْنَى ثُمَّ اِنْصَرَفْتُمْ ; فَإِضَافَته إِلَى اللَّه تَعَالَى بِإِخْرَاجِهِ الرُّعْب مِنْ قُلُوب الْكَافِرِينَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ اِبْتِلَاء لَهُمْ . قَالَ الْقُشَيْرِيّ : وَهَذَا لَا يُغْنِيهِمْ ; لِأَنَّ إِخْرَاج الرُّعْب مِنْ قُلُوب الْكَافِرِينَ حَتَّى يَسْتَخِفُّوا بِالْمُسْلِمِينَ قَبِيح وَلَا يَجُوز عِنْدهمْ , أَنْ يَقَع مِنْ اللَّه قَبِيح , فَلَا يَبْقَى لِقَوْلِهِ : | ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ | مَعْنَى . وَقِيلَ : مَعْنَى | صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ | أَيْ لَمْ يُكَلِّفكُمْ طَلَبهمْ .|وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ|أَيْ لَمْ يَسْتَأْصِلكُمْ بَعْد الْمَعْصِيَة وَالْمُخَالَفَة . وَالْخِطَاب قِيلَ هُوَ لِلْجَمِيعِ . وَقِيلَ : هُوَ لِلرُّمَاةِ الَّذِينَ خَالَفُوا مَا أُمِرُوا بِهِ , وَاخْتَارَهُ النَّحَّاس . وَقَالَ أَكْثَر الْمُفَسِّرِينَ : وَنَظِير هَذِهِ الْآيَة قَوْله : | ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ | [ الْبَقَرَة : 52 ] . | وَاَللَّه ذُو فَضْل عَلَى الْمُؤْمِنِينَ | بِالْعَفْوِ وَالْمَغْفِرَة . وَعَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : مَا نُصِرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَوْطِن كَمَا نُصِرَ يَوْم أُحُد , قَالَ : وَأَنْكَرْنَا ذَلِكَ , فَقَالَ اِبْن عَبَّاس : بَيْنِي وَبَيْنَ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ كِتَاب اللَّه عَزَّ وَجَلَّ , إِنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ يَقُول فِي يَوْم أُحُد : | وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّه وَعْده إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ - يَقُول اِبْن عَبَّاس : وَالْحَسّ الْقَتْل - حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْر وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْد مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيد الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيد الْآخِرَة ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاَللَّه ذُو فَضْل عَلَى الْمُؤْمِنِينَ | وَإِنَّمَا عَنَى بِهَذَا الرُّمَاة . وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَامَهُمْ فِي مَوْضِع ثُمَّ قَالَ : ( اِحْمُوا ظُهُورنَا فَإِنْ رَأَيْتُمُونَا نُقْتَل فَلَا تَنْصُرُونَا وَإِنْ رَأَيْتُمُونَا قَدْ غَنِمْنَا فَلَا تَشْرَكُونَا ) . فَلَمَّا غَنِمَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَاحُوا عَسْكَر الْمُشْرِكِينَ اِنْكَفَأَتْ الرُّمَاة جَمِيعًا فَدَخَلُوا فِي الْعَسْكَر يَنْتَهِبُونَ , وَقَدْ اِلْتَقَتْ صُفُوف أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَهُمْ هَكَذَا - وَشَبَّكَ أَصَابِع يَدَيْهِ - وَالْتَبَسُوا . فَلَمَّا أَخَلَّ الرُّمَاة تِلْكَ الْخَلَّة الَّتِي كَانُوا فِيهَا دَخَلَتْ الْخَيْل مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِع عَلَى أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضَرَبَ بَعْضهمْ بَعْضًا وَالْتَبَسُوا , وَقُتِلَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ نَاس كَثِير , وَقَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابه أَوَّل النَّهَار حَتَّى قُتِلَ مِنْ أَصْحَاب لِوَاء الْمُشْرِكِينَ سَبْعَة أَوْ تِسْعَة , وَجَالَ الْمُسْلِمُونَ نَحْو الْجَبَل , وَلَمْ يَبْلُغُوا حَيْثُ يَقُول النَّاس : الْغَار , إِنَّمَا كَانُوا تَحْت الْمِهْرَاس وَصَاحَ الشَّيْطَان : قُتِلَ مُحَمَّد . فَلَمْ يَشُكّ فِيهِ أَنَّهُ حَقّ , فَمَا زِلْنَا كَذَلِكَ مَا نَشُكّ أَنَّهُ قُتِلَ حَتَّى طَلَعَ عَلَيْنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ السَّعْدَيْنِ , نَعْرِفهُ بِتَكَفُّئِهِ إِذَا مَشَى . قَالَ : فَفَرِحْنَا حَتَّى كَأَنَّا لَمْ يُصِبْنَا مَا أَصَابَنَا . قَالَ : فَرَقِيَ نَحْونَا وَهُوَ يَقُول : ( اِشْتَدَّ غَضَب اللَّه عَلَى قَوْم دَمَّوْا وَجْه نَبِيّهمْ ) . وَقَالَ كَعْب بْن مَالِك : أَنَا كُنْت أَوَّل مَنْ عَرَفَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ; عَرَفْته بِعَيْنَيْهِ مِنْ تَحْت الْمِغْفَر تُزْهِرَانِ فَنَادَيْت بِأَعْلَى صَوْتِي : يَا مَعْشَر الْمُسْلِمِينَ ! أَبْشِرُوا , هَذَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَقْبَلَ . فَأَشَارَ إِلَيَّ أَنْ اُسْكُتْ .

إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ

| إِذْ | مُتَعَلِّق بِقَوْلِهِ : | وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ | . وَقِرَاءَة الْعَامَّة | تُصْعِدُونَ | بِضَمِّ التَّاء وَكَسْر الْعَيْن . وَقَرَأَ أَبُو رَجَاء الْعُطَارِدِيّ وَأَبُو عَبْد الرَّحْمَن السُّلَمِيّ وَالْحَسَن وَقَتَادَة بِفَتْحِ التَّاء وَالْعَيْن , يَعْنِي تَصْعَدُونَ الْجَبَل . وَقَرَأَ اِبْن مُحَيْصِن وَشِبْل | إِذْ يَصْعَدُونَ وَلَا يَلْوُونَ | بِالْيَاءِ فِيهِمَا . وَقَرَأَ الْحَسَن | تَلُونَ | بِوَاوٍ وَاحِدَة . وَرَوَى أَبُو بَكْر بْن عَيَّاش عَنْ عَاصِم | وَلَا تُلْوُونَ | بِضَمِّ التَّاء ; وَهِيَ لُغَة شَاذَّة ذَكَرَهَا النَّحَّاس . وَقَالَ أَبُو حَاتِم : أَصْعَدْت إِذَا مَضَيْت حِيَال وَجْهك , وَصَعِدْت إِذَا اِرْتَقَيْت فِي جَبَل أَوْ غَيْره . فَالْإِصْعَاد : السَّيْر فِي مُسْتَوٍ مِنْ الْأَرْض وَبُطُون الْأَوْدِيَة وَالشِّعَاب . وَالصُّعُود : الِارْتِفَاع عَلَى الْجِبَال وَالسُّطُوح وَالسَّلَالِيم وَالدَّرَج . فَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون صُعُودهمْ فِي الْجَبَل بَعْد إِصْعَادهمْ فِي الْوَادِي ; فَيَصِحّ الْمَعْنَى عَلَى قِرَاءَة | تُصْعِدُونَ | و | تَصْعَدُونَ | . قَالَ قَتَادَة وَالرَّبِيع : أَصَعَدُوا يَوْم أُحُد فِي الْوَادِي . وَقِرَاءَة أُبَيّ | إِذْ تُصْعِدُونَ فِي الْوَادِي | . قَالَ اِبْن عَبَّاس : صَعِدُوا فِي أُحُدٍ فِرَارًا . فَكِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ صَوَاب ; كَانَ يَوْمَئِذٍ مِنْ الْمُنْهَزِمِينَ مُصْعَد وَصَاعِد . وَاَللَّه أَعْلَم . قَالَ الْقُتَبِيّ وَالْمُبَرِّد : أَصْعَدَ إِذَا أَبْعَدَ فِي الذَّهَاب وَأَمْعَنَ فِيهِ ; فَكَأَنَّ الْإِصْعَاد إِبْعَاد فِي الْأَرْض كَإِبْعَادِ الِارْتِفَاع ; قَالَ الشَّاعِر : <br>أَلَا أَيُّهَذَا السَّائِلِي أَيْنَ أُصْعِدَتْ .......... فَإِنّ لَهَا مِنْ بَطْنِ يَثْرِبَ مَوْعِدَا <br>وَقَالَ الْفَرَّاء : الْإِصْعَاد الِابْتِدَاء فِي السَّفَر , وَالِانْحِدَار الرُّجُوع مِنْهُ ; يُقَال : أَصْعَدنَا مِنْ بَغْدَاد إِلَى مَكَّة وَإِلَى خُرَاسَان وَأَشْبَاه ذَلِكَ إِذَا خَرَجْنَا إِلَيْهَا وَأَخَذْنَا فِي السَّفَر , وَانْحَدَرْنَا إِذَا رَجَعْنَا . وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدَة : <br>قَدْ كُنْت تَبْكِينَ عَلَى الْإِصْعَاد .......... فَالْيَوْم سُرِّحْتِ وَصَاحَ الْحَادِي <br>وَقَالَ الْمُفَضَّل : صَعِدَ وَأَصْعَد وَصَعَّدَ بِمَعْنًى وَاحِد . وَمَعْنَى | تَلْوُونَ | تُعَرِّجُونَ وَتُقِيمُونَ , أَيْ لَا يَلْتَفِت بَعْضكُمْ إِلَى بَعْض هَرَبًا ; فَإِنَّ الْمُعَرِّج عَلَى الشَّيْء يَلْوِي إِلَيْهِ عُنُقه أَوْ عَنَان دَابَّته . | عَلَى أَحَد | يُرِيد مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; قَالَهُ الْكَلْبِيّ .|وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ|أَيْ فِي آخِركُمْ ; يُقَال : جَاءَ فُلَان فِي آخِر النَّاس وَأَخَرَةَ النَّاس وَأُخْرَى النَّاس وَأُخْرَيَات النَّاس . وَفِي الْبُخَارِيّ | أُخْرَاكُمْ | تَأْنِيث آخِركُمْ : حَدَّثَنَا عَمْرو بْن خَالِد حَدَّثَنَا زُهَيْر حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاق قَالَ : سَمِعْت الْبَرَاء بْن عَازِب قَالَ : جَعَلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الرَّجَّالَة يَوْم أُحُد عَبْد اللَّه بْن جُبَيْر وَأَقْبَلُوا مُنْهَزِمِينَ فَذَاكَ إِذْ يَدْعُوهُمْ الرَّسُول فِي أُخْرَاهُمْ . وَلَمْ يَبْقَ مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْر اِثْنَيْ عَشَر رَجُلًا . قَالَ اِبْن عَبَّاس وَغَيْره : كَانَ دُعَاء النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَيْ عِبَاد اللَّه اِرْجِعُوا ) وَكَانَ دُعَاءَهُ تَغْيِيرًا لِلْمُنْكَرِ , وَمُحَال أَنْ يَرَى عَلَيْهِ السَّلَام الْمُنْكَر وَهُوَ الِانْهِزَام ثُمَّ لَا يَنْهَى عَنْهُ . قُلْت : هَذَا عَلَى أَنْ يَكُون الِانْهِزَام مَعْصِيَة وَلَيْسَ كَذَلِكَ , عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .|فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ|الْغَمّ فِي اللُّغَة : التَّغْطِيَة . غَمَّمْت الشَّيْء غَطَّيْته . وَيَوْم غَمّ وَلَيْلَة غَمَّة إِذَا كَانَا مُظْلِمَيْنِ . وَمِنْهُ غُمَّ الْهِلَال إِذَا لَمْ يُرَ , وَغَمَّنِي الْأَمْر يَغُمّنِي . قَالَ مُجَاهِد وَقَتَادَة وَغَيْرهمَا : الْغَمّ الْأَوَّل الْقَتْل وَالْجِرَاح , وَالْغَمّ الثَّانِي الْإِرْجَاف بِقَتْلِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; إِذْ صَاحَ بِهِ الشَّيْطَان . وَقِيلَ : الْغَمّ الْأَوَّل مَا فَاتَهُمْ مِنْ الظَّفَر وَالْغَنِيمَة , وَالثَّانِي مَا أَصَابَهُمْ مِنْ الْقَتْل وَالْهَزِيمَة . وَقِيلَ : الْغَمّ الْأَوَّل الْهَزِيمَة , وَالثَّانِي إِشْرَاف أَبِي سُفْيَان وَخَالِد عَلَيْهِمْ فِي الْجَبَل ; فَلَمَّا نَظَر إِلَيْهِمْ الْمُسْلِمُونَ غَمَّهُمْ ذَلِكَ , وَظَنُّوا أَنَّهُمْ يَمِيلُونَ عَلَيْهِمْ فَيَقْتُلُونَهُمْ فَأَنْسَاهُمْ هَذَا مَا نَالَهُمْ ; فَعِنْد ذَلِكَ قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( اللَّهُمَّ لَا يَعْلُنَّ عَلَيْنَا ) كَمَا تَقَدَّمَ . وَالْبَاء فِي | بِغَمٍّ | عَلَى هَذَا بِمَعْنَى عَلَى . وَقِيلَ : هِيَ عَلَى بَابهَا , وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ غَمُّوا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمُخَالَفَتِهِمْ إِيَّاهُ , فَأَثَابَهُمْ بِذَلِكَ غَمّهمْ بِمَنْ أُصِيبَ مِنْهُمْ . وَقَالَ الْحَسَن : | فَأَثَابَكُمْ غَمًّا | يَوْم أُحُد | بِغَمٍّ | يَوْم بَدْر لِلْمُشْرِكِينَ . وَسُمِّيَ الْغَمّ ثَوَابًا كَمَا سُمِّيَ جَزَاء الذَّنْب ذَنْبًا . وَقِيلَ : وَقَفَهُمْ اللَّه عَلَى ذَنْبهمْ فَشُغِلُوا بِذَلِكَ عَمَّا أَصَابَهُمْ .|لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ|اللَّام مُتَعَلِّقَة بِقَوْلِهِ : | وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ | وَقِيلَ : هِيَ مُتَعَلِّقَة بِقَوْلِهِ : | فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ | أَيْ كَانَ هَذَا الْغَمّ بَعْد الْغَمّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَ مِنْ الْغَنِيمَة , وَلَا مَا أَصَابَكُمْ مِنْ الْهَزِيمَة . وَالْأَوَّل أَحْسَن . و | مَا | فِي قَوْله | مَا أَصَابَكُمْ | فِي مَوْضِع خَفْض . وَقِيلَ : | لَا | صِلَة . أَيْ لِكَيْ تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَمَا أَصَابَكُمْ عُقُوبَة لَكُمْ عَلَى مُخَالَفَتكُمْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَهُوَ مِثْل قَوْله : | مَا مَنَعَك أَلَّا تَسْجُد إِذْ أَمَرْتُك | [ الْأَعْرَاف : 12 ] أَيْ أَنْ تَسْجُد . وَقَوْله | لِئَلَّا يَعْلَم أَهْل الْكِتَاب | [ الْحَدِيد : 29 ] أَيْ لِيَعْلَم , وَهَذَا قَوْل الْمُفَضَّل . وَقِيلَ : أَرَادَ بِقَوْلِهِ | فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ | أَيْ تَوَالَتْ عَلَيْكُمْ الْغُمُوم , لِكَيْلَا تَشْتَغِلُوا بَعْد هَذَا بِالْغَنَائِمِ . | وَاَللَّه خَبِير بِمَا تَعْمَلُونَ | فِيهِ مَعْنَى التَّحْذِير وَالْوَعِيد .

ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ

الْأَمَنَة وَالْأَمْن سَوَاء . وَقِيلَ : الْأَمَنَة إِنَّمَا تَكُون مَعَ أَسْبَاب الْخَوْف , وَالْأَمْن مَعَ عَدَمه . وَهِيَ مَنْصُوبَة ب | أَنْزَلَ | , و | نُعَاسًا | بَدَل مِنْهَا . وَقِيلَ : نُصِبَ عَلَى الْمَفْعُول لَهُ ; كَأَنَّهُ قَالَ : أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ لِلْأَمَنَةِ نُعَاسًا . وَقَرَأَ اِبْن مُحَيْصِن | أَمْنَة | بِسُكُونِ الْمِيم . تَفَضَّلَ اللَّه تَعَالَى عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بَعْد هَذِهِ الْغُمُوم فِي يَوْم أُحُد بِالنُّعَاسِ حَتَّى نَامَ أَكْثَرهمْ ; وَإِنَّمَا يَنْعَس مَنْ يَأْمَن وَالْخَائِف لَا يَنَام . رَوَى الْبُخَارِيّ عَنْ أَنَس أَنَّ أَبَا طَلْحَة قَالَ : غَشِيَنَا النُّعَاس وَنَحْنُ فِي مَصَافّنَا يَوْم أُحُد , قَالَ : فَجَعَلَ سَيْفِي يَسْقُط مِنْ يَدِي وَآخُذهُ , وَيَسْقُط وَآخُذهُ .|يَغْشَى|قُرِئَ بِالْيَاءِ وَالتَّاء . الْيَاء لِلنُّعَاسِ , . وَالتَّاء لِلْأَمَنَةِ|طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ|وَالطَّائِفَة تُطْلَق عَلَى الْوَاحِد وَالْجَمَاعَة . يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ : مُعَتِّب بْن قُشَيْر وَأَصْحَابه , وَكَانُوا خَرَجُوا طَمَعًا فِي الْغَنِيمَة وَخَوْف الْمُؤْمِنِينَ فَلَمْ يَغْشَهُمْ النُّعَاس وَجَعَلُوا يَتَأَسَّفُونَ عَلَى الْحُضُور , وَيَقُولُونَ الْأَقَاوِيل . وَمَعْنَى | قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسهمْ | حَمَلَتْهُمْ عَلَى الْهَمّ , وَالْهَمّ مَا هَمَمْت بِهِ ; يُقَال : أَهَمَّنِي الشَّيْء أَيْ كَانَ مِنْ هَمِّي . وَأَمْر مُهِمّ : شَدِيد . وَأَهَمَّنِي الْأَمْر : أَقْلَقَنِي : وَهَمَّنِي : أَذَابَنِي . وَالْوَاو فِي قَوْله | وَطَائِفَة | وَاو الْحَال بِمَعْنَى إِذْ , أَيْ إِذْ طَائِفَة يَظُنُّونَ أَنَّ أَمْر مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَاطِل , وَأَنَّهُ لَا يُنْصَر .|يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ|أَيْ ظَنَّ أَهْل الْجَاهِلِيَّة , فَحُذِفَ .|يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ|لَفْظه اِسْتِفْهَام وَمَعْنَاهُ الْجَحْد , أَيْ مَا لَنَا شَيْء مِنْ الْأَمْر , أَيْ مِنْ أَمْر الْخُرُوج , وَإِنَّمَا خَرَجْنَا كُرْهًا ; يَدُلّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْهُمْ : | لَوْ كَانَ لَنَا مِنْ الْأَمْر شَيْء مَا قُلْنَا هَاهُنَا | . قَالَ الزُّبَيْر : أُرْسِلَ عَلَيْنَا النَّوْم ذَلِكَ الْيَوْم , وَإِنِّي لَأَسْمَع قَوْل مُعَتِّب بْن قُشَيْر وَالنُّعَاس يَغْشَانِي يَقُول : لَوْ كَانَ لَنَا مِنْ الْأَمْر شَيْء مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا . وَقِيلَ : الْمَعْنَى يَقُول لَيْسَ لَنَا مِنْ الظَّفَر الَّذِي وَعَدَنَا بِهِ مُحَمَّد شَيْء . وَاَللَّه أَعْلَم .|قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ|قَرَأَ أَبُو عَمْرو وَيَعْقُوب | كُلّه | بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاء , وَخَبَره | لِلَّهِ | ,</p><p>وَالْجُمْلَة خَبَر | إِنَّ | . وَهُوَ كَقَوْلِهِ : | وَيَوْم الْقِيَامَة تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّه وُجُوههمْ مُسْوَدَّة | [ الزُّمَر : 60 ] . وَالْبَاقُونَ بِالنَّصْبِ ; كَمَا تَقُول : إِنَّ الْأَمْر أَجْمَعَ لِلَّهِ . فَهُوَ تَوْكِيد , وَهُوَ بِمَعْنَى أَجْمَع فِي الْإِحَاطَة وَالْعُمُوم , وَأَجْمَع لَا يَكُون إِلَّا تَوْكِيدًا . وَقِيلَ : نَعْت لِلْأَمْرِ . وَقَالَ الْأَخْفَش : بَدَل ; أَيْ النَّصْر بِيَدِ اللَّه يَنْصُر مَنْ يَشَاء وَيَخْذُل مَنْ يَشَاء . وَقَالَ جُوَيْبِر عَنْ الضَّحَّاك عَنْ اِبْن عَبَّاس فِي قَوْله | يَظُنُّونَ بِاَللَّهِ غَيْر الْحَقّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّة | يَعْنِي التَّكْذِيب بِالْقَدَرِ . وَذَلِكَ أَنَّهُمْ تَكَلَّمُوا فِيهِ , فَقَالَ اللَّه تَعَالَى : | قُلْ إِنَّ الْأَمْر كُلّه لِلَّهِ | يَعْنِي الْقَدَر خَيْره وَشَرّه مِنْ اللَّه .|يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ|أَيْ مِنْ الشِّرْك وَالْكُفْر وَالتَّكْذِيب .|مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ|يُظْهِرُونَ لَك .|يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَا|أَيْ مَا قُتِلَ عَشَائِرنَا . فَقِيلَ : إِنَّ الْمُنَافِقِينَ قَالُوا لَوْ كَانَ لَنَا عَقْل مَا خَرَجْنَا إِلَى قِتَال أَهْل مَكَّة , وَلَمَا قُتِلَ رُؤَسَاؤُنَا . فَرَدَّ اللَّه عَلَيْهِمْ فَقَالَ|هُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ|أَيْ لَخَرَجَ .|الَّذِينَ|أَيْ فُرِضَ .|كُتِبَ عَلَيْهِمُ|يَعْنِي فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ .|الْقَتْلُ إِلَى|أَيْ مَصَارِعهمْ . وَقِيلَ : | كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْل | أَيْ فُرِضَ عَلَيْهِمْ الْقِتَال , فَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْقَتْلِ ; لِأَنَّهُ قَدْ يَؤُول إِلَيْهِ . وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَة | لَبُرِّزَ | بِضَمِّ الْبَاء وَشَدَّ الرَّاء ; بِمَعْنَى يُجْعَل يُخْرَج . وَقِيلَ : لَوْ تَخَلَّفْتُمْ أَيّهَا الْمُنَافِقُونَ لَبَرَزْتُمْ إِلَى مَوْطِن آخَر غَيْره تُصْرَعُونَ فِيهِ حَتَّى يَبْتَلِي اللَّه مَا فِي الصُّدُور وَيُظْهِرهُ لِلْمُؤْمِنِينَ . وَالْوَاو فِي قَوْله|مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي|مُقْحَمَةٌ كَقَوْلِهِ : | وَلِيَكُونَ مِنْ الْمُوقِنِينَ | [ الْأَنْعَام : 75 ] أَيْ لِيَكُونَ , وَحُذِفَ الْفِعْل الَّذِي مَعَ لَام كَيْ . وَالتَّقْدِير | وَلِيَبْتَلِيَ اللَّه مَا فِي صُدُوركُمْ وَلِيُمَحِّص مَا فِي قُلُوبكُمْ | فَرَضَ اللَّه عَلَيْكُمْ الْقِتَال وَالْحَرْب وَلَمْ يَنْصُركُمْ يَوْم أُحُد لِيَخْتَبِر صَبْركُمْ وَلِيُمَحِّص عَنْكُمْ سَيِّئَاتكُمْ إِنْ تُبْتُمْ وَأَخْلَصْتُمْ . وَقِيلَ : مَعْنَى | لِيَبْتَلِيَ | لِيُعَامِلكُمْ مُعَامَلَة الْمُخْتَبِر . وَقِيلَ : لِيَقَع مِنْكُمْ مُشَاهَدَة مَا عَلِمَهُ غَيْبًا . وَقِيلَ : هُوَ عَلَى حَذْف مُضَاف , وَالتَّقْدِير لِيَبْتَلِيَ أَوْلِيَاء اللَّه تَعَالَى . وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى التَّمْحِيص .|قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ|أَيْ مَا فِيهَا مِنْ خَيْر وَشَرّ . وَقِيلَ : ذَات الصُّدُور هِيَ الصُّدُور ; لِأَنَّ ذَات الشَّيْء نَفْسه .

إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ

وَالْمُرَاد مَنْ تَوَلَّى عَنْ الْمُشْرِكِينَ يَوْم أُحُد ; عَنْ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَغَيْره . السُّدِّيّ : يَعْنِي مَنْ هَرَبَ إِلَى الْمَدِينَة فِي وَقْت الْهَزِيمَة دُون مَنْ صَعِدَ الْجَبَل . وَقِيلَ : هِيَ فِي قَوْم بِأَعْيَانِهِمْ تَخَلَّفُوا عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَقْت هَزِيمَتهمْ ثَلَاثَة أَيَّام ثُمَّ اِنْصَرَفُوا .|إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا|هَذِهِ الْجُمْلَة هِيَ خَبَر | إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا | وَمَعْنَى | اِسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَان | اِسْتَدْعَى زَلَلهمْ بِأَنْ ذَكَرَهُمْ خَطَايَا سَلَفَتْ مِنْهُمْ , فَكَرِهُوا الثُّبُوت لِئَلَّا يُقْتَلُوا . وَهُوَ مَعْنَى | بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا | وَقِيلَ : | اِسْتَزَلَّهُمْ | حَمَلَهُمْ عَلَى الزَّلَل , وَهُوَ اِسْتَفْعَلَ مِنْ الزَّلَّة وَهِيَ الْخَطِيئَة . وَقِيلَ : زَلَّ وَأَزَلّ بِمَعْنًى وَاحِدٍ . ثُمَّ قِيلَ : كَرِهُوا الْقِتَال قَبْل إِخْلَاص التَّوْبَة , فَإِنَّمَا تَوَلَّوْا لِهَذَا , وَهَذَا عَلَى الْقَوْل الْأَوَّل . وَعَلَى الثَّانِي بِمَعْصِيَتِهِمْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَرْكهمْ الْمَرْكَز وَمَيْلهمْ إِلَى الْغَنِيمَة . وَقَالَ الْحَسَن : | مَا كَسَبُوا | قَبُولهمْ مِنْ إِبْلِيس مَا وَسْوَسَ إِلَيْهِمْ . وَقَالَ الْكَلْبِيّ : زَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَان أَعْمَالهمْ . وَقِيلَ : لَمْ يَكُنْ الِانْهِزَام مَعْصِيَة ; لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا التَّحَصُّن بِالْمَدِينَةِ , فَيَقْطَع الْعَدُوّ طَمَعه فِيهِمْ لَمَّا سَمِعُوا أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُتِلَ . وَيَجُوز أَنْ يُقَال : لَمْ يَسْمَعُوا دُعَاء النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْهَوْلِ الَّذِي كَانُوا فِيهِ . وَيَجُوز أَنْ يُقَال : زَادَ عَدَد الْعَدُوّ عَلَى الضِّعْف ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا سَبْعمِائَةِ وَالْعَدُوّ ثَلَاثَة آلَاف . وَعِنْد هَذَا يَجُوز الِانْهِزَام وَلَكِنَّ الِانْهِزَام عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَأ لَا يَجُوز , وَلَعَلَّهُمْ تَوَهَّمُوا أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِنْحَازَ إِلَى الْجَبَل أَيْضًا . وَأَحْسَنهَا الْأَوَّل . وَعَلَى الْجُمْلَة فَإِنْ حُمِلَ الْأَمْر عَلَى ذَنْب مُحَقَّق فَقَدْ عَفَا اللَّه عَنْهُ , وَإِنْ حُمِلَ عَلَى اِنْهِزَام مُسَوَّغ فَالْآيَة فِيمَنْ أَبْعَد فِي الْهَزِيمَة وَزَادَ عَلَى الْقَدْر الْمُسَوَّغ . وَذَكَرَ أَبُو اللَّيْث السَّمَرْقَنْدِيّ نَصْر بْن مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيم قَالَ : حَدَّثَنَا الْخَلِيل بْن أَحْمَد قَالَ حَدَّثَنَا السِّرَاج قَالَ حَدَّثَنَا قُتَيْبَة قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْن غَيْلَان عَنْ جَرِير : أَنَّ عُثْمَان كَانَ بَيْنه وَبَيْنَ عَبْد الرَّحْمَن بْن عَوْف كَلَام , فَقَالَ لَهُ عَبْد الرَّحْمَن بْن عَوْف : أَتَسُبُّنِي وَقَدْ شَهِدْت بَدْرًا وَلَمْ تَشْهَد , وَقَدْ بَايَعْت تَحْت شَجَرَة وَلَمْ تُبَايِع , وَقَدْ كُنْت تَوَلَّى مَعَ مَنْ تَوَلَّى يَوْم الْجَمْع , يَعْنِي يَوْم أُحُد . فَرَدَّ عَلَيْهِ عُثْمَان فَقَالَ : أَمَّا قَوْلك : أَنَا شَهِدْت بَدْرًا وَلَمْ تَشْهَد , فَإِنِّي لَمْ أَغِبْ عَنْ شَيْء شَهِدَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , إِلَّا أَنَّ بِنْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ مَرِيضَة وَكُنْت مَعَهَا أُمَرِّضهَا , فَضَرَبَ لِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَهْمًا فِي سِهَام الْمُسْلِمِينَ , وَأَمَّا بَيْعَة الشَّجَرَة فَإِنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَنِي رَبِيئَة عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّة - الرَّبِيئَة هُوَ النَّاظِر - فَضَرَبَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمِينه عَلَى شِمَاله فَقَالَ : ( هَذِهِ لِعُثْمَان ) فَيَمِين رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشِمَاله خَيْر لِي مِنْ يَمِينِي وَشِمَالِي . وَأَمَّا يَوْم الْجَمْع فَقَالَ|وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ|فَكُنْت فِيمَنْ عَفَا اللَّه عَنْهُمْ . فَحَجَّ عُثْمَانُ عَبْدَ الرَّحْمَن . قُلْت : وَهَذَا الْمَعْنَى صَحِيح أَيْضًا عَنْ اِبْن عُمَر , كَمَا فِي صَحِيح الْبُخَارِيّ قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدَانِ أَخْبَرْنَا أَبُو حَمْزَة عَنْ عُثْمَان بْن مُوهِب قَالَ : جَاءَ رَجُل حَجّ الْبَيْت فَرَأَى قَوْمًا جُلُوسًا فَقَالَ : مَنْ هَؤُلَاءِ الْقُعُود ؟ قَالُوا : هَؤُلَاءِ قُرَيْش . قَالَ : مَنْ الشَّيْخ ؟ قَالُوا : اِبْن عُمَر ; فَأَتَاهُ فَقَالَ : إِنِّي سَائِلك عَنْ شَيْء أَتُحَدِّثُنِي ؟ قَالَ : أَنْشُدك بِحُرْمَةِ هَذَا الْبَيْت , أَتَعْلَمُ أَنَّ عُثْمَان بْن عَفَّان فَرَّ يَوْم أَحَد ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ : فَتَعْلَمهُ تَغَيَّبَ عَنْ بَدْر فَلَمْ يَشْهَدهَا ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ : فَتَعْلَم أَنَّهُ تَخَلَّفَ عَنْ بَيْعَة الرِّضْوَان فَلَمْ يَشْهَدهَا ؟ قَالَ نَعَمْ . قَالَ : فَكَبَّرَ . قَالَ اِبْن عُمَر : تَعَالَ لَأُخْبِرَك وَلِأُبَيِّن لَك عَمَّا سَأَلْتنِي عَنْهُ ; أَمَّا فِرَاره يَوْم أُحُد فَأَشْهَد أَنَّ اللَّه عَفَا عَنْهُ . وَأَمَّا تَغَيُّبه عَنْ بَدْر فَإِنَّهُ كَانَ تَحْته بِنْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَتْ مَرِيضَة , فَقَالَ لَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( إِنَّ لَك أَجْرَ رَجُلٍ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا وَسَهْمَهُ ) . وَأَمَّا تَغَيُّبه عَنْ بَيْعَة الرِّضْوَان فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ أَحَد أَعَزّ بِبَطْنِ مَكَّة مِنْ عُثْمَان بْن عَفَّان لَبَعَثَهُ مَكَانه , فَبَعَثَ عُثْمَان وَكَانَتْ بَيْعَة الرِّضْوَان بَعْد مَا ذَهَبَ عُثْمَان إِلَى مَكَّة ; فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ الْيُمْنَى : ( هَذِهِ يَد عُثْمَان ) فَضَرَبَ بِهَا عَلَى يَده فَقَالَ : ( هَذِهِ لِعُثْمَان ) . اِذْهَبْ بِهَذَا الْآن مَعَك . قُلْت : وَنَظِير هَذِهِ الْآيَة تَوْبَة اللَّه عَلَى آدَم عَلَيْهِ السَّلَام . وَقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى ) أَيْ غَلَبَهُ بِالْحُجَّةِ ; وَذَلِكَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام أَرَادَ تَوْبِيخ آدَم وَلَوْمه فِي إِخْرَاج نَفْسه وَذُرِّيَّته مِنْ الْجَنَّة بِسَبَبِ أَكْله مِنْ الشَّجَرَة ; فَقَالَ لَهُ آدَم : ( أَفَتَلُومنِي عَلَى أَمْر قَدَّرَهُ اللَّه تَعَالَى عَلَيَّ قَبْل أَنْ أُخْلَق بِأَرْبَعِينَ سَنَة تَابَ عَلَيَّ مِنْهُ وَمَنْ تَابَ عَلَيْهِ فَلَا ذَنْب لَهُ وَمَنْ لَا ذَنْب لَهُ لَا يَتَوَجَّه عَلَيْهِ لَوْم ) . وَكَذَلِكَ مَنْ عَفَا اللَّه عَنْهُ . وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا لِإِخْبَارِهِ تَعَالَى بِذَلِكَ , وَخَبَره صِدْق . وَغَيْرهمَا مِنْ الْمُذْنِبِينَ التَّائِبِينَ يَرْجُونَ رَحْمَته وَيَخَافُونَ عَذَابه , فَهُمْ عَلَى وَجَل وَخَوْف أَلَّا تُقْبَل تَوْبَتهمْ , وَإِنْ قُبِلَتْ فَالْخَوْف أَغْلَب عَلَيْهِمْ إِذْ لَا عِلْم لَهُمْ بِذَلِكَ . فَاعْلَمْ .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُ

يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ .|كَفَرُوا وَقَالُوا|يَعْنِي فِي النِّفَاق أَوْ فِي النَّسَب فِي السَّرَايَا الَّتِي بَعَثَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بِئْر مَعُونَة . | لَوْ كَانُوا عِنْدنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا | فَنُهِيَ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَقُولُوا مِثْل قَوْلهمْ .|لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي|هُوَ لِمَا مَضَى ; أَيْ إِذْ ضَرَبُوا ; لِأَنَّ فِي الْكَلَام مَعْنَى الشَّرْط مِنْ حَيْثُ كَانَ | الَّذِينَ | مُبْهَمًا غَيْر مُوَقَّت , فَوَقَعَ | إِذَا | مَوْقِع | إِذْ | كَمَا يَقَع الْمَاضِي فِي الْجَزَاء مَوْضِع الْمُسْتَقْبَل . وَمَعْنَى | ضَرَبُوا فِي الْأَرْض | سَافَرُوا فِيهَا وَسَارُوا لِتِجَارَةِ أَوْ غَيْرهَا فَمَاتُوا .|الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا|غُزَاة فَقُتِلُوا . وَالْغُزَّى جَمْع مَنْقُوص لَا يَتَغَيَّر لَفْظهَا فِي رَفْع وَخَفْض , وَاحِدهمْ غَازٍ , كَرَاكِعٍ وَرُكَّع , وَصَائِم وَصُوَّم , وَنَائِم وَنُوَّم , وَشَاهِد وَشُهَّد , وَغَائِب وَغُيَّب . وَيَجُوز فِي الْجَمْع غُزَاة مِثْل قُضَاة , وَغُزَّاء بِالْمَدِّ مِثْل ضَرَّاب وَصَوَّام . وَيُقَال : غُزًّى جَمْع الْغُزَاة . قَالَ الشَّاعِر : <br>قُلْ لِلْقَوَافِلِ وَالْغُزَّى إِذَا غَزَوْا <br>وَرُوِيَ عَنْ الزُّهْرِيّ أَنَّهُ قَرَأَهُ | غُزًى | بِالتَّخْفِيفِ . وَالْمُغْزِيَة الْمَرْأَة الَّتِي غَزَا زَوْجهَا . وَأَتَان مُغْزَيَة مُتَأَخِّرَة النِّتَاج ثُمَّ تُنْتَجُ . وَأَغْزَتْ النَّاقَة إِذَا عَسُرَ لِقَاحهَا . وَالْغَزْو قَصْد الشَّيْء . وَالْمَغْزَى الْمَقْصِد . وَيُقَال فِي النَّسَب إِلَى الْغَزْو : غَزَوِيّ .|غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا|فَنُهِيَ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَقُولُوا مِثْل قَوْلهمْ .|قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي|يَعْنِي ظَنّهمْ وَقَوْلهمْ . وَاللَّام مُتَعَلِّقَة بِقَوْلِهِ | قَالُوا | أَيْ لِيَجْعَل ظَنّهمْ أَنَّهُمْ لَوْ لَمْ يَخْرُجُوا مَا قُتِلُوا . | حَسْرَة | أَيْ نَدَامَة | فِي قُلُوبهمْ | . وَالْحَسْرَة الِاهْتِمَام عَلَى فَائِت لَمْ يُقْدَر بُلُوغه ; قَالَ الشَّاعِر : <br>فَوَاحَسْرَتِي لَمْ أَقْضِ مِنْهَا لُبَانَتِي .......... وَلَمْ أَتَمَتَّعْ بِالْجِوَارِ وَبِالْقُرْبِ <br>وَقِيلَ : هِيَ مُتَعَلِّقَة بِمَحْذُوفٍ . وَالْمَعْنَى : لَا تَكُونُوا مِثْلهمْ | لِيَجْعَل اللَّه ذَلِكَ | الْقَوْل | حَسْرَة فِي قُلُوبهمْ | لِأَنَّهُمْ ظَهَرَ نِفَاقهمْ . وَقِيلَ : الْمَعْنَى لَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تَلْتَفِتُوا إِلَيْهِمْ ; فَكَانَ ذَلِكَ حَسْرَة فِي قُلُوبهمْ . وَقِيلَ : | لِيَجْعَل اللَّه ذَلِكَ حَسْرَة فِي قُلُوبهمْ | يَوْم الْقِيَامَة لِمَا هُمْ فِيهِ مِنْ الْخِزْي وَالنَّدَامَة , وَلِمَا فِيهِ الْمُسْلِمُونَ مِنْ النَّعِيم وَالْكَرَامَة .|قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي|أَيْ يَقْدِر عَلَى أَنْ يُحْيِيَ مَنْ يَخْرُج إِلَى الْقِتَال , وَيُمِيت مَنْ أَقَامَ فِي أَهْله .|وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ|قُرِئَ بِالْيَاءِ وَالتَّاء . ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ الْقَتْل فِي سَبِيل اللَّه وَالْمَوْت فِيهِ خَيْر مِنْ جَمِيع الدُّنْيَا .

وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ

جَوَاب الْجَزَاء مَحْذُوف , اُسْتُغْنِيَ عَنْهُ بِجَوَابِ الْقَسَم فِي قَوْله : | لَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّه وَرَحْمَة | وَكَانَ الِاسْتِغْنَاء بِجَوَابِ الْقَسَم أَوْلَى ; لِأَنَّ لَهُ صَدْر الْكَلَام , وَمَعْنَاهُ لَيَغْفِرَنَّ لَكُمْ . وَأَهْل الْحِجَاز يَقُولُونَ : مِتُّمْ , بِكَسْرِ الْمِيم مِثْل نِمْتُمْ , مِنْ مَاتَ يُمَات مِثْل خِفْت يُخَاف . وَسُفْلَى مُضَر يَقُولُونَ : مُتُّمْ , بِضَمِّ الْمِيم مِثْل صُمْتُمْ , مِنْ مَاتَ يَمُوت . كَقَوْلِك كَانَ يَكُون , وَقَالَ يَقُول . هَذَا قَوْل الْكُوفِيِّينَ وَهُوَ حَسَن .

وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ

وَعْظ . وَعَظَهُمْ اللَّه بِهَذَا الْقَوْل , أَيْ لَا تَفِرُّوا مِنْ الْقِتَال وَمِمَّا أَمَرَكُمْ بِهِ , بَلْ فِرُّوا مِنْ عِقَابه وَأَلِيم عَذَابه , فَإِنَّ مَرَدّكُمْ إِلَيْهِ لَا يَمْلِك لَكُمْ أَحَد ضَرًّا وَلَا نَفْعًا غَيْره . وَاَللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى أَعْلَم .

فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِ

| مَا | صِلَة فِيهَا مَعْنَى التَّأْكِيد , أَيْ فَبِرَحْمَةٍ ; كَقَوْلِهِ : | عَمَّا قَلِيل | [ الْمُؤْمِنُونَ : 40 ] | فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقهمْ | [ النِّسَاء : 155 ] | جُنْد مَا هُنَالِكَ مَهْزُوم | [ ص : 11 ] . وَلَيْسَتْ بِزَائِدَةٍ عَلَى الْإِطْلَاق , وَإِنَّمَا أَطْلَقَ عَلَيْهَا سِيبَوَيْهِ مَعْنَى الزِّيَادَة مِنْ حَيْثُ زَالَ عَمَلهَا . . اِبْن كَيْسَان : | مَا | نَكِرَة فِي مَوْضِع جَرّ بِالْبَاءِ | وَرَحْمَة | بَدَل مِنْهَا . وَمَعْنَى الْآيَة : أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام لَمَّا رَفَقَ بِمَنْ تَوَلَّى يَوْم أُحُد وَلَمْ يُعَنِّفهُمْ بَيَّنَ الرَّبّ تَعَالَى أَنَّهُ إِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ بِتَوْفِيقِ اللَّه تَعَالَى إِيَّاهُ . وَقِيلَ : | مَا | اِسْتِفْهَام . وَالْمَعْنَى : فَبِأَيِّ رَحْمَة مِنْ اللَّه لِنْت لَهُمْ ; فَهُوَ تَعْجِيب . وَفِيهِ بُعْد ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ | فَبِمَ | بِغَيْرِ أَلِف . | لِنْت | مِنْ لَانَ يَلِين لِينًا وَلَيَانًا بِالْفَتْحِ . وَالْفَظّ الْغَلِيظ الْجَافِي . فَظِظْتَ تَفِظّ فَظَاظَة وَفَظَاظًّا فَأَنْتَ فَظّ . وَالْأُنْثَى فَظَّة وَالْجَمْع أَفْظَاظ . وَفِي صِفَة النَّبِيّ عَلَيْهِ السَّلَام لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظ وَلَا صَخَّاب فِي الْأَسْوَاق ; وَأَنْشَدَ الْمُفَضَّل فِي الْمُذَكَّر : <br>وَلَيْسَ بِفَظٍّ فِي الْأَدَانِيّ وَالْأُولَى .......... يَؤُمُّونَ جَدْوَاهُ وَلَكِنَّهُ سَهْل <br><br>وَفَظّ عَلَى أَعْدَائِهِ يَحْذَرُونَهُ .......... فَسَطْوَتُهُ حَتْفٌ وَنَائِلُهُ جَزْلُ <br>وَقَالَ آخَر فِي الْمُؤَنَّث : <br>أَمُوت مِنْ الضُّرّ فِي مَنْزِلِي .......... وَغَيْرِي يَمُوت مِنْ الْكِظَّهْ <br><br>وَدُنْيَا تَجُود عَلَى الْجَاهِلِيـ .......... نَ وَهْيَ عَلَى ذِي النُّهَى فَظَّهْ <br>وَغِلَظ الْقَلْب عِبَارَة عَنْ تَجَهُّم الْوَجْه , وَقِلَّة الِانْفِعَال فِي الرَّغَائِب , وَقِلَّة الْإِشْفَاق وَالرَّحْمَة , وَمِنْ ذَلِكَ قَوْل الشَّاعِر : <br>يُبْكَى عَلَيْنَا وَلَا نَبْكِي عَلَى أَحَد .......... لَنَحْنُ أَغْلَظ أَكْبَادًا مِنْ الْإِبِل <br>وَمَعْنَى | لَانْفَضُّوا | لَتَفَرَّقُوا ; فَضَضْتُهُمْ فَانْفَضُّوا , أَيْ فَرَّقْتهمْ فَتَفَرَّقُوا ; وَمِنْ ذَلِكَ قَوْل أَبِي النَّجْم يَصِف إِبِلًا : <br>مُسْتَعْجِلَات الْقَيْض غَيْر جُرْد .......... يَنْفَضُّ عَنْهُنَّ الْحَصَى بِالصَّمَدِ <br>وَأَصْل الْفَضّ الْكَسْر ; وَمِنْهُ قَوْلهمْ : لَا يَفْضُضْ اللَّهُ فَاك . وَالْمَعْنَى : يَا مُحَمَّد لَوْلَا رِفْقك لَمَنَعَهُمْ الِاحْتِشَام وَالْهَيْبَة مِنْ الْقُرْب مِنْك بَعْد مَا كَانَ مِنْ تَوَلِّيهمْ .|فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ|قَالَ الْعُلَمَاء : أَمَرَ اللَّه تَعَالَى نَبِيّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذِهِ الْأَوَامِر الَّتِي هِيَ بِتَدْرِيجٍ بَلِيغ ; وَذَلِكَ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِأَنْ يَعْفُو عَنْهُمْ مَا لَهُ فِي خَاصَّته عَلَيْهِمْ مِنْ تَبِعَة ; فَلَمَّا صَارُوا فِي هَذِهِ الدَّرَجَة أَمَرَهُ أَنْ يَسْتَغْفِر فِيمَا لِلَّهِ عَلَيْهِمْ مِنْ تَبِعَة أَيْضًا , فَإِذَا صَارُوا فِي هَذِهِ الدَّرَجَة صَارُوا أَهْلًا لِلِاسْتِشَارَةِ فِي الْأُمُور . قَالَ أَهْل اللُّغَة : الِاسْتِشَارَة مَأْخُوذَة مِنْ قَوْل الْعَرَب : شُرْت الدَّابَّة وَشَوَّرْتهَا إِذَا عَلِمْت خَبَرهَا بِجَرِّي أَوْ غَيْره . وَيُقَال لِلْمَوْضِعِ الَّذِي تَرْكُض فِيهِ : مِشْوَار . وَقَدْ يَكُون مِنْ قَوْلهمْ : شُرْت الْعَسَل وَاشْتَرْته فَهُوَ مَشُور وَمُشْتَار إِذَا أَخَذْته مِنْ مَوْضِعه , قَالَ عَدِيّ بْن زَيْد <br>فِي سَمَاع يَأْذَن الشَّيْخ لَهُ .......... وَحَدِيث مِثْل مَاذِيّ مُشَار <br>قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَالشُّورَى مِنْ قَوَاعِد الشَّرِيعَة وَعَزَائِم الْأَحْكَام ; مَنْ لَا يَسْتَشِير أَهْل الْعِلْم وَالدِّين فَعَزْله وَاجِب . هَذَا مَا لَا خِلَاف فِيهِ . وَقَدْ مَدَحَ اللَّه الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ : | وَأَمْرهمْ شُورَى بَيْنهمْ | [ الشُّورَى : 38 ] . قَالَ أَعْرَابِيّ : مَا غُبِنْت قَطُّ حَتَّى يُغْبَن قَوْمِي ; قِيلَ : وَكَيْفَ ذَلِكَ ؟ قَالَ لَا أَفْعَل شَيْئًا حَتَّى أُشَاوِرهُمْ . وَقَالَ اِبْن خُوَيْز مَنْدَاد : وَاجِب عَلَى الْوُلَاة مُشَاوَرَة الْعُلَمَاء فِيمَا لَا يَعْلَمُونَ , وَفِيمَا أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ أُمُور الدِّين , وَوُجُوه الْجَيْش فِيمَا يَتَعَلَّق بِالْحَرْبِ , وَوُجُوه النَّاس فِيمَا يَتَعَلَّق بِالْمَصَالِحِ , وَوُجُوه الْكُتَّاب وَالْوُزَرَاء وَالْعُمَّال فِيمَا يَتَعَلَّق بِمَصَالِح الْبِلَاد وَعِمَارَتهَا . وَكَانَ يُقَال : مَا نَدِمَ مَنْ اِسْتَشَارَ . وَكَانَ يُقَال : مَنْ أُعْجِبَ بِرَأْيِهِ ضَلَّ .</p><p>قَوْله تَعَالَى : | وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْر | يَدُلّ عَلَى جَوَاز الِاجْتِهَاد فِي الْأُمُور وَالْأَخْذ بِالظُّنُونِ مَعَ إِمْكَان الْوَحْي ; فَإِنَّ اللَّه أَذِنَ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ . وَاخْتَلَفَ أَهْل التَّأْوِيل فِي الْمَعْنَى الَّذِي أَمَرَ اللَّه نَبِيّه عَلَيْهِ السَّلَام أَنْ يُشَاوِر فِيهِ أَصْحَابه ; فَقَالَتْ طَائِفَة : ذَلِكَ فِي مَكَائِد الْحُرُوب , وَعِنْد لِقَاء الْعَدُوّ , وَتَطْيِيبًا لِنُفُوسِهِمْ , وَرَفْعًا لِأَقْدَارِهِمْ , وَتَأَلُّفًا عَلَى دِينهمْ , وَإِنْ كَانَ اللَّه تَعَالَى قَدْ أَغْنَاهُ عَنْ رَأْيهمْ بِوَحْيِهِ . رُوِيَ هَذَا عَنْ قَتَادَة وَالرَّبِيع وَابْن إِسْحَاق وَالشَّافِعِيّ . قَالَ الشَّافِعِيّ : هُوَ كَقَوْلِهِ ( وَالْبِكْر تُسْتَأْمَر ) تَطْيِبًا لِقَلْبِهَا ; لَا أَنَّهُ وَاجِب . وَقَالَ مُقَاتِل وَقَتَادَة وَالرَّبِيع : كَانَتْ سَادَات الْعَرَب إِذَا لَمْ يُشَاوَرُوا فِي الْأَمْر شَقَّ عَلَيْهِمْ : فَأَمَرَ اللَّه تَعَالَى ; نَبِيّه عَلَيْهِ السَّلَام أَنْ يُشَاوِرهُمْ فِي الْأَمْر : فَإِنَّ ذَلِكَ أَعْطَف لَهُمْ عَلَيْهِ وَأَذْهَب لِأَضْغَانِهِمْ , وَأَطْيَب لِنُفُوسِهِمْ . فَإِذَا شَاوَرَهُمْ عَرَفُوا إِكْرَامه لَهُمْ . وَقَالَ آخَرُونَ : ذَلِكَ فِيمَا لَمْ يَأْتِهِ فِيهِ وَحْي . رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَن الْبَصْرِيّ وَالضَّحَّاك قَالَا : مَا أَمَرَ اللَّه تَعَالَى نَبِيّه بِالْمُشَاوَرَةِ لِحَاجَةٍ مِنْهُ إِلَى رَأْيهمْ , وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يُعَلِّمهُمْ مَا فِي الْمُشَاوَرَة مِنْ الْفَضْل , وَلِتَقْتَدِيَ بِهِ أُمَّته مِنْ بَعْده . وَفِي قِرَاءَة اِبْن عَبَّاس : | وَشَاوِرْهُمْ فِي بَعْض الْأَمْر | وَلَقَدْ أَحْسَنَ الْقَائِل : <br>شَاوِرْ صِدِّيقك فِي الْخَفِيّ الْمُشْكِلِ .......... وَاقْبَلْ نَصِيحَة نَاصِح مُتَفَضِّلِ <br><br>فَاَللَّهُ قَدْ أَوْصَى بِذَاكَ نَبِيَّهُ .......... فِي قَوْله : ( شَاوِرْهُمُ ) و ( تَوَكَّلِ ) <br>جَاءَ فِي مُصَنَّف أَبِي دَاوُد عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( الْمُسْتَشَار مُؤْتَمَن ) . قَالَ الْعُلَمَاء : وَصِفَة الْمُسْتَشَار إِنْ كَانَ فِي الْأَحْكَام أَنْ يَكُون عَالِمًا دَيِّنًا , وَقَلَّمَا يَكُون ذَلِكَ إِلَّا فِي عَاقِل . قَالَ الْحَسَن : مَا كَمُلَ دِين اِمْرِئٍ مَا لَمْ يَكْمُل عَقْله . فَإِذَا اُسْتُشِيرَ مَنْ هَذِهِ صِفَته وَاجْتَهَدَ فِي الصَّلَاح وَبَذَلَ جَهْده فَوَقَعَتْ الْإِشَارَة خَطَأ فَلَا غَرَامَة عَلَيْهِ ; قَالَهُ الْخَطَّابِيّ وَغَيْره .</p><p>وَصِفَة الْمُسْتَشَار فِي أُمُور الدُّنْيَا أَنْ يَكُون عَاقِلًا مُجَرِّبًا وَادًّا فِي الْمُسْتَشِير . قَالَ : <br>شَاوِرْ صِدِّيقك فِي الْخَفِيّ الْمُشْكِل <br>وَقَدْ تَقَدَّمَ . وَقَالَ آخَر : <br>وَإِنْ بَابُ أَمْرٍ عَلَيْك اِلْتَوَى .......... فَشَاوِرْ لَبِيبًا وَلَا تَعْصِهِ <br>فِي أَبْيَات . وَالشُّورَى بَرَكَة . وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام : ( مَا نَدِمَ مَنْ اِسْتَشَارَ وَلَا خَابَ مَنْ اِسْتَخَارَ ) . وَرَوَى سَهْل بْن سَعْد السَّاعِدِيّ عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( مَا شَقِيَ قَطُّ عَبْد بِمَشُورَةٍ وَمَا سَعِدَ بِاسْتِغْنَاءِ رَأْيٍ ) . وَقَالَ بَعْضهمْ : شَاوِرْ مَنْ جَرَّبَ الْأُمُور ; فَإِنَّهُ يُعْطِيك مِنْ رَأْيه مَا وَقَعَ عَلَيْهِ غَالِيًا وَأَنْتَ تَأْخُذهُ مَجَّانًا . وَقَدْ جَعَلَ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ الْخِلَافَة - وَهِيَ أَعْظَم النَّوَازِل - شُورَى . قَالَ الْبُخَارِيّ : وَكَانَتْ الْأَئِمَّة بَعْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَشِيرُونَ الْأُمَنَاء مِنْ أَهْل الْعِلْم فِي الْأُمُور الْمُبَاحَة لِيَأْخُذُوا بِأَسْهَلِهَا . وَقَالَ سُفْيَان الثَّوْرِيّ : لِيَكُنْ أَهْل مَشُورَتك أَهْل التَّقْوَى وَالْأَمَانَة , وَمَنْ يَخْشَى اللَّه تَعَالَى . وَقَالَ الْحَسَن : وَاَللَّه مَا تَشَاوَرَ قَوْم بَيْنهمْ إِلَّا هَدَاهُمْ لِأَفْضَل مَا يَحْضُر بِهِمْ . وَرُوِيَ عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَا مِنْ قَوْم كَانَتْ لَهُمْ مَشُورَة فَحَضَرَ مَعَهُمْ مَنْ اِسْمه أَحْمَد أَوْ مُحَمَّد فَأَدْخَلُوهُ فِي مَشُورَتهمْ إِلَّا خِيرَ لَهُمْ ) .</p><p>وَالشُّورَى مَبْنِيَّة عَلَى اِخْتِلَاف الْآرَاء , وَالْمُسْتَشِير يَنْظُر فِي ذَلِكَ الْخِلَاف , وَيَنْظُر أَقْرَبهَا قَوْلًا إِلَى الْكِتَاب وَالسُّنَّة إِنْ أَمْكَنَهُ , فَإِذَا أَرْشَدَهُ اللَّه تَعَالَى إِلَى مَا شَاءَ مِنْهُ عَزَمَ عَلَيْهِ وَأَنْفَذه مُتَوَكِّلًا عَلَيْهِ , إِذْ هَذِهِ غَايَة الِاجْتِهَاد الْمَطْلُوب ; وَبِهَذَا أَمَرَ اللَّه تَعَالَى نَبِيّه فِي هَذِهِ الْآيَة .|فَإِذَا عَزَمْتَ|قَالَ قَتَادَة : أَمَرَ اللَّه تَعَالَى نَبِيّه عَلَيْهِ السَّلَام إِذَا عَزَمَ عَلَى أَمْر أَنْ يَمْضِيَ فِيهِ وَيَتَوَكَّل عَلَى اللَّه , لَا عَلَى مُشَاوَرَتهمْ . وَالْعَزْم هُوَ الْأَمْر الْمُرَوَّى الْمُنَقَّح , وَلَيْسَ رُكُوب الرَّأْي دُون رَوِيَّة عَزْمًا , إِلَّا عَلَى مَقْطَع الْمُشِيحِينَ مِنْ فُتَّاك الْعَرَب ; كَمَا قَالَ : <br>إِذَا هَمَّ أَلْقَى بَيْن عَيْنَيْهِ عَزْمَهُ .......... وَنَكَّبَ عَنْ ذِكْر الْعَوَاقِب جَانِبَا <br><br>وَلَمْ يَسْتَشِرْ فِي رَأْيه غَيْرَ نَفْسِهِ .......... وَلَمْ يَرْضَ إِلَّا قَائِمَ السَّيْف صَاحِبَا <br>وَقَالَ النَّقَّاش : الْعَزْم وَالْحَزْم وَاحِد , وَالْحَاء مُبْدَلَة مِنْ الْعَيْن . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا خَطَأ ; فَالْحَزْم جَوْدَة النَّظَر فِي الْأَمْر وَتَنْقِيحه وَالْحَذَر مِنْ الْخَطَأ فِيهِ . وَالْعَزْم قَصْد الْإِمْضَاء ; وَاَللَّه تَعَالَى يَقُول : | وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْر فَإِذَا عَزَمْت | . فَالْمُشَاوَرَة وَمَا كَانَ فِي مَعْنَاهَا هُوَ الْحَزْم . وَالْعَرَب تَقُول : قَدْ أَحْزُمُ لَوْ أَعْزِمُ . وَقَرَأَ جَعْفَر الصَّادِق وَجَابِر بْن زَيْد : | فَإِذَا عَزَمْتُ | بِضَمِّ التَّاء . نَسَبَ الْعَزْم إِلَى نَفْسه سُبْحَانه إِذْ هُوَ بِهِدَايَتِهِ وَتَوْفِيقه ; كَمَا قَالَ : | وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّه رَمَى | [ الْأَنْفَال : 17 ] . وَمَعْنَى الْكَلَام أَيْ عَزَمْت لَك وَوَفَّقْتُك وَأَرْشَدْتُك | فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّه | . وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِ التَّاء . قَالَ الْمُهَلَّبُ : وَامْتَثَلَ هَذَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَمْر رَبّه فَقَالَ : ( لَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ يَلْبَس لَأْمَته أَنْ يَضَعهَا حَتَّى يَحْكُم اللَّه ) . أَيْ لَيْسَ يَنْبَغِي لَهُ إِذَا عَزَمَ أَنْ يَنْصَرِف ; لِأَنَّهُ نَقْض لِلتَّوَكُّلِ الَّذِي شَرَطَهُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ مَعَ الْعَزِيمَة . فَلُبْسه لَأْمَته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِين أَشَارَ عَلَيْهِ بِالْخُرُوجِ يَوْم أُحُد مَنْ أَكْرَمَهُ اللَّه بِالشَّهَادَةِ فِيهِ , وَهُمْ صُلَحَاء الْمُؤْمِنِينَ مِمَّنْ كَانَ فَاتَتْهُ بَدْر : يَا رَسُول اللَّه اُخْرُجْ بِنَا إِلَى عَدُوّنَا ; دَالّ عَلَى الْعَزِيمَة . وَكَانَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَارَ بِالْقُعُودِ , وَكَذَلِكَ عَبْد اللَّه بْن أُبَيّ أَشَارَ بِذَلِكَ وَقَالَ : أَقِمْ يَا رَسُول اللَّه وَلَا تَخْرُج إِلَيْهِمْ بِالنَّاسِ , فَإِنْ هُمْ أَقَامُوا أَقَامُوا بِشَرِّ مَجْلِس , وَإِنْ جَاءُونَا إِلَى الْمَدِينَة قَاتَلْنَاهُمْ فِي الْأَفْنِيَة وَأَفْوَاه السِّكَك , وَرَمَاهُمْ النِّسَاء وَالصِّبْيَان بِالْحِجَارَةِ مِنْ الْآطَام , فَوَاَللَّهِ مَا حَارَبَنَا قَطُّ عَدُوّ فِي هَذِهِ الْمَدِينَة إِلَّا غَلَبْنَاهُ , وَلَا خَرَجْنَا مِنْهَا إِلَى عَدُوّ إِلَّا غَلَبْنَا . وَأَبَى هَذَا الرَّأْي مَنْ ذَكَرْنَا , وَشَجَّعُوا النَّاس وَدَعَوْا إِلَى الْحَرْب . فَصَلَّى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجُمْعَة , وَدَخَلَ إِثْر صَلَاته بَيْته وَلَبِسَ سِلَاحه , فَنَدِمَ أُولَئِكَ الْقَوْم وَقَالُوا : أَكْرَهْنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَلَمَّا خَرَجَ عَلَيْهِمْ فِي سِلَاحه قَالُوا : يَا رَسُول اللَّه , أَقِمْ إِنْ شِئْت فَإِنَّا لَا نُرِيد أَنْ نُكْرِهك , فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ إِذَا لَبِسَ سِلَاحه أَنْ يَضَعهَا حَتَّى يُقَاتِل ) .|فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ|التَّوَكُّل : الِاعْتِمَاد عَلَى اللَّه مَعَ إِظْهَار الْعَجْز , وَالِاسْم التُّكْلَان . يُقَال مِنْهُ : اِتَّكَلْتُ عَلَيْهِ فِي أَمْرِي , وَأَصْله : | اِوْتَكَلْتُ | قُلِبَتْ الْوَاو يَاء لِانْكِسَارِ مَا قَبْلهَا , ثُمَّ أُبْدِلَتْ مِنْهَا التَّاء وَأُدْغِمَتْ فِي تَاء الِافْتِعَال . وَيُقَال : وَكَلْته بِأَمْرِي تَوْكِيلًا , وَالِاسْم الْوِكَالَة بِكَسْرِ الْوَاو وَفَتْحهَا . وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي التَّوَكُّل ; فَقَالَتْ طَائِفَة مِنْ الْمُتَصَوِّفَة : لَا يَسْتَحِقّهُ إِلَّا مَنْ لَمْ يُخَالِط قَلْبه خَوْف غَيْر اللَّه مِنْ سَبُع أَوْ غَيْره , وَحَتَّى يَتْرُك السَّعْي فِي طَلَب الرِّزْق لِضَمَانِ اللَّه تَعَالَى . وَقَالَ عَامَّة الْفُقَهَاء : مَا تَقَدَّمَ ذِكْره عِنْد قَوْله تَعَالَى : | وَعَلَى اللَّه فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ | [ آل عِمْرَان : 160 ] . وَهُوَ الصَّحِيح كَمَا بَيَّنَّاهُ . وَقَدْ خَافَ مُوسَى وَهَارُون بِإِخْبَارِ اللَّه تَعَالَى عَنْهُمَا فِي قَوْله | لَا تَخَافَا | . وَقَالَ : | فَأَوْجَسَ فِي نَفْسه خِيفَة مُوسَى 0 قُلْنَا لَا تَخَفْ | [ طَه : 67 - 68 ] . وَأَخْبَرَ عَنْ إِبْرَاهِيم بِقَوْلِهِ : | فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيهمْ لَا تَصِل إِلَيْهِ نَكِرهمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَة قَالُوا لَا تَخَفْ | [ هُود : 70 ] . فَإِذَا كَانَ الْخَلِيل وَمُوسَى الْكَلِيم قَدْ خَافَا - وَحَسْبك بِهِمَا - فَغَيْرهمَا أَوْلَى . وَسَيَأْتِي بَيَان هَذَا الْمَعْنَى .

إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ

أَيْ عَلَيْهِ تَوَكَّلُوا فَإِنَّهُ إِنْ يُعِنْكُمْ وَيَمْنَعكُمْ مِنْ عَدُوّكُمْ لَنْ تُغْلَبُوا .|وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ|يَتْرُككُمْ مِنْ مَعُونَته .|فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ|أَيْ لَا يَنْصُركُمْ أَحَد مِنْ بَعْده , أَيْ مِنْ بَعْد خِذْلَانه إِيَّاكُمْ ; لِأَنَّهُ قَالَ : | وَإِنْ يَخْذُلكُمْ | وَالْخِذْلَان تَرْك الْعَوْن . وَالْمَخْذُول : الْمَتْرُوك لَا يُعْبَأ بِهِ . وَخَذَلَتْ الْوَحْشِيَّة أَقَامَتْ عَلَى وَلَدهَا فِي الْمَرْعَى وَتَرَكَتْ صَوَاحِبَاتهَا ; فَهِيَ خَذُول . قَالَ طَرَفَة : <br>خَذُول تُرَاعِي رَبْرَبًا بِخَمِيلَةٍ .......... تَنَاوَلُ أَطْرَافَ الْبَرِيرِ وَتَرْتَدِي <br>وَقَالَ أَيْضًا : <br>نَظَرَتْ إِلَيْك بِعَيْنِ جَارِيَة .......... خَذَلَتْ صَوَاحِبهَا عَلَى طِفْل <br>وَقِيلَ : هَذَا مِنْ الْمَقْلُوب ; لِأَنَّهَا هِيَ الْمَخْذُولَة إِذَا تُرِكَتْ . وَتَخَاذَلَتْ رِجْلَاهُ إِذَا ضَعُفَتَا . قَالَ : وَخَذُول الرِّجْل مِنْ غَيْر كَسْح وَرِجْل خُذَلَة لِلَّذِي لَا يَزَال يُخْذَل . وَاَللَّه أَعْلَم .

وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ

لَمَّا أَخَلَّ الرُّمَاة يَوْم أُحُد بِمَرَاكِزِهِمْ - عَلَى مَا تَقَدَّمَ - خَوْفًا مِنْ أَنْ يَسْتَوْلِي الْمُسْلِمُونَ عَلَى الْغَنِيمَة فَلَا يُصْرَف إِلَيْهِمْ شَيْء , بَيَّنَ اللَّه سُبْحَانه أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَجُور فِي الْقِسْمَة ; فَمَا كَانَ مِنْ حَقّكُمْ أَنْ تَتَّهِمُوهُ . وَقَالَ الضَّحَّاك : بَلْ السَّبَب أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ طَلَائِع فِي بَعْض غَزَوَاته ثُمَّ غَنِمَ قَبْل مَجِيئُهُمْ ; فَقَسَمَ لِلنَّاسِ وَلَمْ يَقْسِم لِلطَّلَائِعِ ; فَأَنْزَلَ اللَّه عَلَيْهِ عِتَابًا : | وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلّ وَمَنْ يَغْلُلْ | أَيْ يَقْسِم لِبَعْضٍ وَيَتْرُك بَعْضًا . وَرُوِيَ نَحْو هَذَا الْقَوْل عَنْ اِبْن عَبَّاس . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا وَعِكْرِمَة وَابْن جُبَيْر وَغَيْرهمْ : نَزَلَتْ بِسَبَبِ قَطِيفَة حَمْرَاء فُقِدَتْ فِي الْمَغَانِم يَوْم بَدْر ; فَقَالَ بَعْض مَنْ كَانَ مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَعَلَّ أَنْ يَكُون النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَهَا , فَنَزَلَتْ الْآيَة أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَقَالَ : هَذَا حَدِيث حَسَن غَرِيب . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : قِيلَ كَانَتْ هَذِهِ الْمَقَالَة مِنْ مُؤْمِنِينَ لَمْ يَظُنُّوا أَنَّ فِي ذَلِكَ حَرَجًا . وَقِيلَ : كَانَتْ مِنْ الْمُنَافِقِينَ . وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الْمَفْقُود كَانَ سَيْفًا . وَهَذِهِ الْأَقْوَال تُخَرَّجُ عَلَى قِرَاءَة | يَغُلّ | بِفَتْحِ الْيَاء وَضَمّ الْغَيْن . وَرَوَى أَبُو صَخْر عَنْ مُحَمَّد بْن كَعْب | وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلّ | قَالَ : تَقُول وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكْتُم شَيْئًا مِنْ كِتَاب اللَّه . وَقِيلَ : اللَّام فِيهِ مَنْقُولَة , أَيْ وَمَا كَانَ نَبِيٌّ لِيَغُلّ ; كَقَوْلِهِ : | مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذ مِنْ وَلَد سُبْحَانه | [ مَرْيَم : 35 ] . أَيْ مَا كَانَ اللَّه لِيَتَّخِذ وَلَدًا . وَقُرِئَ | يُغَلّ | بِضَمِّ الْيَاء وَفَتْح الْغَيْن . وَقَالَ اِبْن السِّكِّيت : لَمْ نَسْمَع فِي الْمَغْنَم إِلَّا غَلَّ غُلُولًا , وَقُرِئَ وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلّ وَيُغَلّ . قَالَ : فَمَعْنَى | يَغُلّ | يَخُون , وَمَعْنَى | يُغَلَّ | يَخُون , وَيَحْتَمِل مَعْنَيَيْنِ : أَحَدهمَا يُخَان أَيْ يُؤْخَذ مِنْ غَنِيمَته , وَالْآخَر يَخُون أَنْ يُنْسَب إِلَى الْغُلُول : ثُمَّ قِيلَ : إِنَّ كُلّ مَنْ غَلَّ شَيْئًا فِي خَفَاء فَقَدْ غَلَّ يَغُلّ غُلُولًا : قَالَ اِبْن عَرَفَة : سُمِّيَتْ غُلُولًا لِأَنَّ الْأَيْدِي مَغْلُولَة مِنْهَا , أَيْ مَمْنُوعَة . وَقَالَ أَبُو عُبَيْد : الْغُلُول مِنْ الْمَغْنَم خَاصَّة , وَلَا نَرَاهُ مِنْ الْخِيَانَة وَلَا مِنْ الْحِقْد . وَمِمَّا يُبَيِّن ذَلِكَ أَنَّهُ يُقَال مِنْ الْخِيَانَة : أَغَلَّ يُغِلّ , وَمِنْ الْحِقْد : غَلَّ يَغِلّ بِالْكَسْرِ , وَمِنْ الْغُلُول : غَلَّ يَغُلّ بِالضَّمِّ . وَغَلَّ الْبَعِير أَيْضًا يَغَلّ غَلَّة إِذَا لَمْ يَقْضِ رِيّه وَأَغَلَّ الرَّجُل خَانَ , قَالَ النَّمِر : <br>جَزَى اللَّه عَنَّا حَمْزَة اِبْنَة نَوْفَل .......... جَزَاء مُغِلٍّ بِالْأَمَانَةِ كَاذِب <br>وَفِي الْحَدِيث : ( لَا إِغْلَال وَلَا إِسْلَال ) أَيْ لَا خِيَانَة وَلَا سَرِقَة , وَيُقَال : لَا رِشْوَة . وَقَالَ شُرَيْح : لَيْسَ عَلَى الْمُسْتَعِير غَيْر الْمُغِلّ ضَمَان . وَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( ثَلَاث لَا يُغَلّ عَلَيْهِنَّ قَلْب مُؤْمِن ) مِنْ رَوَاهُ بِالْفَتْحِ فَهُوَ مِنْ الضَّغَن . وَغَلَّ دَخَلَ يَتَعَدَّى وَلَا يَتَعَدَّى ; يُقَال : غَلَّ فُلَان الْمَفَاوِز , أَيْ دَخَلَهَا وَتَوَسَّطَهَا . وَغَلَّ مِنْ الْمَغْنَم غُلُولًا , أَيْ خَانَ . وَغَلَّ الْمَاء بَيْنَ الْأَشْجَار إِذَا جَرَى فِيهَا ; يَغُلّ بِالضَّمِّ فِي جَمِيع ذَلِكَ . وَقِيلَ : الْغُلُول فِي اللُّغَة أَنْ يَأْخُذ مِنْ الْمَغْنَم شَيْئًا يَسْتُرهُ عَنْ أَصْحَابه ; وَمِنْهُ تَغَلْغَلَ الْمَاء فِي الشَّجَر إِذَا تَخَلَّلَهَا . وَالْغَلَل : الْمَاء الْجَارِي فِي أُصُول الشَّجَر , لِأَنَّهُ مُسْتَتِر بِالْأَشْجَارِ , كَمَا قَالَ : <br>لَعِبَ السُّيُول بِهِ فَأَصْبَحَ مَاؤُهُ .......... غَلَلًا يُقَطَّعُ فِي أُصُول الْخِرْوَع <br>وَمِنْهُ الْغِلَالَة لِلثَّوْبِ الَّذِي يُلْبَس تَحْت الثِّيَاب . وَالْغَالّ : أَرْض مُطْمَئِنَّة ذَات شَجَر . وَمَنَابِت السَّلْم وَالطَّلْح يُقَال لَهَا : غَالّ . وَالْغَالّ أَيْضًا نَبْت , وَالْجَمْع غُلَّانِ بِالضَّمِّ . وَقَالَ بَعْض النَّاس : إِنَّ مَعْنَى | يَغُلّ | يُوجَد غَالًّا ; كَمَا تَقُول : أَحَمِدَتْ الرَّجُل وَجَدْته مَحْمُودًا . فَهَذِهِ الْقِرَاءَة عَلَى هَذَا التَّأْوِيل تَرْجِع إِلَى مَعْنَى | يَغُلّ | بِفَتْحِ الْيَاء وَضَمَّ الْغَيْن . وَمَعْنَى | يَغُلّ | عِنْد جُمْهُور أَهْل الْعِلْم أَيْ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَغُلّهُ , أَيْ يَخُونهُ فِي الْغَنِيمَة . فَالْآيَة فِي مَعْنَى نَهْي النَّاس عَنْ الْغُلُول فِي الْغَنَائِم , وَالتَّوَعُّد عَلَيْهِ . وَكَمَا لَا يَجُوز أَنْ يُخَان النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَجُوز أَنْ يُخَان غَيْره , وَلَكِنْ خَصَّهُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ الْخِيَانَة مَعَهُ أَشَدّ وَقْعًا وَأَعْظَم وِزْرًا ; لِأَنَّ الْمَعَاصِي تَعْظُم بِحَضْرَتِهِ لِتَعَيُّنِ تَوْقِيره . وَالْوُلَاة إِنَّمَا هُمْ عَلَى أَمْر النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَهُمْ حَظّهمْ مِنْ التَّوْقِير . وَقِيلَ : مَعْنَى | يَغُلّ | أَيْ مَا غَلَّ نَبِيّ قَطُّ , وَلَيْسَ الْغَرَض النَّهْي .|وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ|أَيْ يَأْتِي بِهِ حَامِلًا لَهُ عَلَى ظَهْره وَرَقَبَته , مُعَذَّبًا بِحَمْلِهِ وَثِقَله , وَمَرْعُوبًا بِصَوْتِهِ , وَمُوَبَّخًا بِإِظْهَارِ خِيَانَته عَلَى رُءُوس الْأَشْهَاد ; عَلَى مَا يَأْتِي . وَهَذِهِ الْفَضِيحَة الَّتِي يُوقِعهَا اللَّه تَعَالَى بِالْغَالِّ نَظِير الْفَضِيحَة الَّتِي تُوقَع بِالْغَادِرِ , فِي أَنْ يُنْصَب لَهُ لِوَاء عِنْد اِسْته بِقَدْرِ غَدْرَتِهِ . وَجَعَلَ اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْمُعَاقَبَات حَسْبَمَا يَعْهَدهُ الْبَشَر وَيَفْهَمُونَهُ ; أَلَا تَرَى إِلَى قَوْل الشَّاعِر : <br>أَسُمَيُّ وَيْحَكِ هَلْ سَمِعْت بِغَدْرَةٍ .......... رُفِعَ اللِّوَاء لَنَا بِهَا فِي الْمَجْمَع <br>وَكَانَتْ الْعَرَب تَرْفَع لِلْغَادِرِ لِوَاء , وَكَذَلِكَ يُطَاف بِالْجَانِي مَعَ جِنَايَته . وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : قَامَ فِينَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَات يَوْم فَذَكَرَ الْغُلُول فَعَظَّمَهُ وَعَظَّمَ أَمْره ثُمَّ قَالَ : ( لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيء يَوْم الْقِيَامَة عَلَى رَقَبَته بَعِير لَهُ رُغَاء يَقُول يَا رَسُول اللَّه أَغِثْنِي فَأَقُول لَا أَمْلِك لَك شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُك لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدكُمْ يَجِيء يَوْم الْقِيَامَة عَلَى رَقَبَته فَرَس لَهُ حَمْحَمَة فَيَقُول يَا رَسُول اللَّه أَغِثْنِي فَأَقُول لَا أَمْلِك لَك شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُك لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدكُمْ يَجِيء يَوْم الْقِيَامَة عَلَى رَقَبَته شَاة لَهَا ثُغَاء يَقُول يَا رَسُول اللَّه أَغِثْنِي فَأَقُول لَا أَمْلِك لَك شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُك لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدكُمْ يَجِيء يَوْم الْقِيَامَة عَلَى رَقَبَته نَفْس لَهَا صِيَاح فَيَقُول يَا رَسُول اللَّه أَغِثْنِي فَأَقُول لَا أَمْلِك لَك شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُك لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدكُمْ يَجِيء يَوْم الْقِيَامَة عَلَى رَقَبَته رِقَاع تَخْفِق فَيَقُول يَا رَسُول اللَّه أَغِثْنِي فَأَقُول لَا أَمْلِك لَك شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُك لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدكُمْ يَجِيء يَوْم الْقِيَامَة عَلَى رَقَبَته صَامِت فَيَقُول يَا رَسُول اللَّه أَغِثْنِي فَأَقُول لَا أَمْلِك لَك شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُك ) وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ سَمُرَة بْن جُنْدُب قَالَ : كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَصَابَ غَنِيمَة أَمَرَ بِلَالًا فَنَادَى فِي النَّاس فَيَجِيئُونَ بِغَنَائِمِهِمْ فَيُخَمِّسهُ وَيَقْسِمهُ , فَجَاءَ رَجُل يَوْمًا بَعْد النِّدَاء بِزِمَامِ مِنْ الشَّعْر فَقَالَ : يَا رَسُول اللَّه هَذَا كَانَ فِيمَا أَصَبْنَاهُ مِنْ الْغَنِيمَة . فَقَالَ : ( أَسْمَعْت بِلَالًا يُنَادِي ثَلَاثًا ) ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ : ( فَمَا مَنَعَك أَنْ تَجِيء بِهِ ) ؟ فَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ . فَقَالَ : ( كَلَّا أَنْتَ تَجِيء بِهِ يَوْم الْقِيَامَة فَلَنْ أَقْبَلَهُ مِنْك ) . قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء : أَرَادَ يُوَافِي بِوِزْرِ ذَلِكَ يَوْم الْقِيَامَة , كَمَا قَالَ فِي آيَة أُخْرَى : | وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارهمْ عَلَى ظُهُورهمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ | [ الْأَنْعَام : 31 ] . وَقِيلَ : الْخَبَر مَحْمُول عَلَى شُهْرَة الْأَمْر ; أَيْ يَأْتِي يَوْم الْقِيَامَة قَدْ شَهَرَ اللَّه أَمْره كَمَا يُشْهَر لَوْ حَمَلَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاء أَوْ فَرَسًا لَهُ حَمْحَمَة .</p><p>قُلْت : وَهَذَا عُدُول عَنْ الْحَقِيقَة إِلَى الْمَجَاز وَالتَّشْبِيه , وَإِذَا دَارَ الْكَلَام بَيْنَ الْحَقِيقَة وَالْمَجَاز فَالْحَقِيقَة الْأَصْل كَمَا فِي كُتُب الْأُصُول . وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَقِيقَةِ , وَلَا عِطْر بَعْد عَرُوس . وَيُقَال : إِنَّ مَنْ غَلَّ شَيْئًا فِي الدُّنْيَا يُمَثَّل لَهُ يَوْم الْقِيَامَة فِي النَّار , ثُمَّ يُقَال لَهُ : اِنْزِلْ إِلَيْهِ فَخُذْهُ , فَيَهْبِط إِلَيْهِ , فَإِذَا اِنْتَهَى إِلَيْهِ حَمَلَهُ , حَتَّى إِذَا اِنْتَهَى إِلَى الْبَاب سَقَطَ عَنْهُ إِلَى أَسْفَل جَهَنَّم , فَيَرْجِع إِلَيْهِ فَيَأْخُذهُ ; لَا يَزَال هَكَذَا إِلَى مَا شَاءَ اللَّه . وَيُقَال | يَأْتِ بِمَا غَلَّ | يَعْنِي تَشْهَد عَلَيْهِ يَوْم الْقِيَامَة تِلْكَ الْخِيَانَة وَالْغُلُول .</p><p>قَالَ الْعُلَمَاء : وَالْغُلُول كَبِيرَة مِنْ الْكَبَائِر ; بِدَلِيلِ هَذِهِ الْآيَة وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة : أَنَّهُ يَحْمِلهُ عَلَى عُنُقه . وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مُدْعِم : ( وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ الشَّمْلَة الَّتِي أَخَذَ يَوْم خَيْبَر مِنْ الْمَغَانِم لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِم لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا ) قَالَ : فَلَمَّا سَمِعَ النَّاس ذَلِكَ جَاءَ رَجُل بِشِرَاكٍ أَوْ شِرَاكَيْنِ إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( شِرَاك أَوْ شِرَاكَانِ مِنْ نَار ) . أَخْرَجَهُ الْمُوَطَّأ . فَقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ) وَامْتِنَاعه مِنْ الصَّلَاة عَلَى مَنْ غَلَّ دَلِيل عَلَى تَعْظِيم الْغُلُول وَتَعْظِيم الذَّنْب فِيهِ وَأَنَّهُ مِنْ الْكَبَائِر , وَهُوَ مِنْ حُقُوق الْآدَمِيِّينَ وَلَا بُدّ فِيهِ مِنْ الْقِصَاص بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَات , ثُمَّ صَاحِبه فِي الْمَشِيئَة . وَقَوْله : ( شِرَاك أَوْ شِرَاكَانِ مِنْ نَار ) مِثْل قَوْله : ( أَدُّوا الْخِيَاط وَالْمِخْيَط ) . وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْقَلِيل وَالْكَثِير لَا يَحِلّ أَخْذه فِي الْغَزْو قَبْل الْمَقَاسِم , إِلَّا مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ مِنْ أَكْل الْمَطَاعِم فِي أَرْض الْغَزْو وَمِنْ الِاحْتِطَاب وَالِاصْطِيَاد . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الزُّهْرِيّ أَنَّهُ قَالَ : لَا يُؤْخَذ الطَّعَام فِي أَرْض الْعَدُوّ إِلَّا بِإِذْنِ الْإِمَام . وَهَذَا لَا أَصْل لَهُ ; لِأَنَّ الْآثَار تُخَالِفهُ , عَلَى مَا يَأْتِي . قَالَ الْحَسَن : كَانَ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اِفْتَتَحُوا الْمَدِينَة أَوْ الْحِصْن أَكَلُوا مِنْ السَّوِيق وَالدَّقِيق وَالسَّمْن وَالْعَسَل . وَقَالَ إِبْرَاهِيم : كَانُوا يَأْكُلُونَ مِنْ أَرْض الْعَدُوّ الطَّعَام فِي أَرْض الْحَرْب وَيَعْلِفُونَ قَبْل أَنْ يُخَمِّسُوا . وَقَالَ عَطَاء : فِي الْغُزَاة يَكُونُونَ فِي السَّرِيَّة فَيُصِيبُونَ أَنْحَاء السَّمْن وَالْعَسَل وَالطَّعَام فَيَأْكُلُونَ , وَمَا بَقِيَ رَدُّوهُ إِلَى إِمَامهمْ ; وَعَلَى هَذَا جَمَاعَة الْعُلَمَاء .</p><p>وَفِي هَذَا الْحَدِيث دَلِيل عَلَى أَنَّ الْغَالّ لَا يُحَرَّق مَتَاعه ; لِأَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُحَرِّق مَتَاع الرَّجُل الَّذِي أَخَذَ الشَّمْلَة , وَلَا أَحْرَقَ مَتَاع صَاحِب الْخَرَزَات الَّذِي تَرَكَ الصَّلَاة عَلَيْهِ , وَلَوْ كَانَ حَرْق مَتَاعه وَاجِبًا لَفَعَلَهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَلَوْ فَعَلَهُ لَنُقِلَ ذَلِكَ فِي الْحَدِيث . وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِذَا وَجَدْتُمْ الرَّجُل قَدْ غَلَّ فَأَحْرِقُوا مَتَاعه وَاضْرِبُوهُ ) . فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ مِنْ حَدِيث صَالِح بْن مُحَمَّد بْن زَائِدَة , وَهُوَ ضَعِيف لَا يُحْتَجّ بِهِ . قَالَ التِّرْمِذِيّ : سَأَلْت مُحَمَّدًا - يَعْنِي الْبُخَارِيّ - عَنْ هَذَا الْحَدِيث فَقَالَ : إِنَّمَا رَوَى هَذَا صَالِح بْن مُحَمَّد وَهُوَ أَبُو وَاقِد اللَّيْثِيّ وَهُوَ مُنْكَر الْحَدِيث . وَرَوَى أَبُو دَاوُد أَيْضًا عَنْهُ قَالَ : غَزَوْنَا مَعَ الْوَلِيد بْن هِشَام وَمَعَنَا سَالِم بْن عَبْد اللَّه بْن عُمَر وَعُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز , فَغَلَّ رَجُل مَتَاعًا فَأَمَرَ الْوَلِيد بِمَتَاعِهِ فَأُحْرِقَ , وَطِيفَ بِهِ وَلَمْ يُعْطِهِ سَهْمه . قَالَ أَبُو دَاوُد : وَهَذَا أَصَحّ الْحَدِيثَيْنِ . وَرُوِيَ مِنْ حَدِيث عَمْرو بْن شُعَيْب عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّه أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْر وَعُمَر حَرَّقُوا مَتَاع الْغَالّ وَضَرَبُوهُ . قَالَ أَبُو دَاوُد : وَزَادَ فِيهِ عَلِيّ بْن بَحْر عَنْ الْوَلِيد - وَلَمْ أَسْمَعهُ مِنْهُ - : وَمَنَعُوهُ سَهْمه . قَالَ أَبُو عُمَر : قَالَ بَعْض رُوَاة هَذَا الْحَدِيث : وَاضْرِبُوا عُنُقه وَأَحْرِقُوا مَتَاعه . وَهَذَا الْحَدِيث يَدُور عَلَى صَالِح بْن مُحَمَّد وَلَيْسَ مِمَّنْ يُحْتَجّ بِهِ . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( لَا يَحِلّ دَم اِمْرِئِ مُسْلِم إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاث ) وَهُوَ يَنْفِي الْقَتْل فِي الْغُلُول . وَرَوَى اِبْن جُرَيْج عَنْ أَبِي الزُّبَيْر عَنْ جَابِر عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( لَيْسَ عَلَى الْخَائِن وَلَا عَلَى الْمُنْتَهِب وَلَا عَلَى الْمُخْتَلِس قَطْع ) . وَهَذَا يُعَارِض حَدِيث صَالِح بْن مُحَمَّد وَهُوَ أَقْوَى مِنْ جِهَة الْإِسْنَاد . وَالْغَالّ خَائِن فِي اللُّغَة وَالشَّرِيعَة وَإِذَا اِنْتَفَى عَنْهُ الْقَطْع فَأَحْرَى الْقَتْل . وَقَالَ الطَّحَاوِيّ : لَوْ صَحَّ حَدِيث صَالِح الْمَذْكُور اِحْتَمَلَ أَنْ يَكُون حِين كَانَتْ الْعُقُوبَات فِي الْأَمْوَال ; كَمَا قَالَ فِي مَانِع الزَّكَاة : ( إِنَّا آخِذُوهَا وَشَطْر مَاله , عَزْمَة مِنْ عَزَمَات اللَّه تَعَالَى ) . وَكَمَا قَالَ أَبُو هُرَيْرَة فِي ضَالَّة الْإِبِل الْمَكْتُومَة : فِيهَا غَرَامَتهَا وَمِثْله مَعَهَا . وَكَمَا رَوَى عَبْد اللَّه بْن عَمْرو بْن الْعَاص فِي الثَّمَر الْمُعَلَّق غَرَامَة مِثْلَيْهِ وَجَلْدَات نَكَال وَهَذَا كُلّه مَنْسُوخ , وَاَللَّه أَعْلَم .</p><p>فَإِذَا غَلَّ الرَّجُل فِي الْمَغْنَم وَوُجِدَ أُخِذَ مِنْهُ , وَأُدِّبَ وَعُوقِبَ بِالتَّعْزِيرِ . وَعِنْد مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَبِي حَنِيفَة وَأَصْحَابهمْ وَاللَّيْث : لَا يُحَرَّق مَتَاعه . وَقَالَ الشَّافِعِيّ وَاللَّيْث ودَاوُد : إِنْ كَانَ عَالِمًا بِالنَّهْيِ عُوقِبَ . وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ : يُحَرَّق مَتَاع الْغَالّ كُلّه إِلَّا سِلَاحه وَثِيَابه الَّتِي عَلَيْهِ وَسَرْجه , وَلَا تُنْزَع مِنْهُ دَابَّته , وَلَا يُحْرَق الشَّيْء الَّذِي غَلَّ . وَهَذَا قَوْل أَحْمَد وَإِسْحَاق , وَقَالَهُ الْحَسَن , إِلَّا أَنْ يَكُون حَيَوَانًا أَوْ مُصْحَفًا . وَقَالَ اِبْن خُوَيْز مَنْدَاد : وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْر وَعُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا ضَرَبَا الْغَالّ وَأَحْرَقَا مَتَاعه . قَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ : وَمِمَّنْ قَالَ يُحَرَّق رَحْل الْغَالّ وَمَتَاعه مَكْحُول وَسَعِيد بْن عَبْد الْعَزِيز . وَحُجَّة مَنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا حَدِيث صَالِح الْمَذْكُور . وَهُوَ عِنْدنَا حَدِيث لَا يَجِب بِهِ اِنْتَهَاك حُرْمَة , وَلَا إِنْفَاذ حُكْم ; لِمَا يُعَارِضُهُ مِنْ الْآثَار الَّتِي هِيَ أَقْوَى مِنْهُ . وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَالِك وَمَنْ تَابَعَهُ مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَة أَصَحّ مِنْ جِهَة النَّظَر وَصَحِيح الْأَثَر . وَاَللَّه أَعْلَم .</p><p>لَمْ يَخْتَلِف مَذْهَب مَالِك فِي الْعُقُوبَة عَلَى الْبَدَن , فَأَمَّا فِي الْمَال فَقَالَ فِي الذِّمِّيّ يَبِيع الْخَمْر مِنْ الْمُسْلِم : تُرَاق الْخَمْر عَلَى الْمُسْلِم , وَيُنْزَع الثَّمَن مِنْ الذِّمِّيّ عُقُوبَة لَهُ ; لِئَلَّا يَبِيع الْخَمْر مِنْ الْمُسْلِمِينَ . فَعَلَى هَذَا يَجُوز أَنْ يُقَال : تَجُوز الْعُقُوبَة فِي الْمَال . وَقَدْ أَرَاقَ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ لَبَنًا شِيبَ بِمَاءٍ .</p><p>أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ لِلْغَالِّ أَنْ يَرُدّ جَمِيع مَا غَلَّ إِلَى صَاحِب الْمَقَاسِم قَبْل أَنْ يَفْتَرِق النَّاس إِنْ وَجَدَ السَّبِيل إِلَى ذَلِكَ , وَإِنَّهُ إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَهِيَ تَوْبَة لَهُ , وَخُرُوج عَنْ ذَنْبه . وَاخْتَلَفُوا فِيمَا يَفْعَل بِهِ إِذَا اِفْتَرَقَ أَهْل الْعَسْكَر وَلَمْ يَصِل إِلَيْهِ ; فَقَالَ جَمَاعَة مِنْ أَهْل الْعِلْم : يَدْفَع إِلَى الْإِمَام خُمُسه وَيَتَصَدَّق بِالْبَاقِي . هَذَا مَذْهَب الزُّهْرِيّ وَمَالِك وَالْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْث وَالثَّوْرِيّ ; وَرُوِيَ عَنْ عُبَادَة بْن الصَّامِت وَمُعَاوِيَة وَالْحَسَن الْبَصْرِيّ . وَهُوَ يُشْبِه مَذْهَب اِبْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس ; لِأَنَّهُمَا كَانَا يَرَيَانِ أَنْ يُتَصَدَّق بِالْمَالِ الَّذِي لَا يُعْرَف صَاحِبه ; وَهُوَ مَذْهَب أَحْمَد بْن حَنْبَل . وَقَالَ الشَّافِعِيّ : لَيْسَ لَهُ الصَّدَقَة بِمَالِ غَيْره . قَالَ أَبُو عُمَر : فَهَذَا عِنْدِي فِيمَا يُمْكِن وُجُود صَاحِبه وَالْوُصُول إِلَيْهِ أَوْ إِلَى وَرَثَته , وَأَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْء مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّ الشَّافِعِيّ لَا يَكْرَه الصَّدَقَة حِينَئِذٍ إِنْ شَاءَ اللَّه . وَقَدْ أَجْمَعُوا فِي اللُّقَطَة عَلَى جَوَاز الصَّدَقَة بِهَا بَعْد التَّعْرِيف لَهَا وَانْقِطَاع صَاحِبهَا , وَجَعَلُوهُ إِذَا جَاءَ - مُخَيَّرًا بَيْن الْأَجْر وَالضَّمَان , وَكَذَلِكَ الْمَغْصُوب . وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيق . وَفِي تَغْرِيم الْغُلُول دَلِيل عَلَى اِشْتَرَاك الْغَانِمِينَ فِي الْغَنِيمَة , فَلَا يَحِلّ لِأَحَدٍ أَنْ يَسْتَأْثِر بِشَيْءٍ مِنْهَا دُون الْآخَر ; فَمَنْ غَصَبَ شَيْئًا مِنْهَا أُدِّبَ اِتِّفَاقًا , عَلَى مَا تَقَدَّمَ .</p><p>وَإِنْ وَطِئَ جَارِيَة أَوْ سَرَقَ نِصَابًا فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي إِقَامَة الْحَدّ عَلَيْهِ ; فَرَأَى جَمَاعَة أَنَّهُ لَا قَطْع عَلَيْهِ .</p><p>وَمِنْ الْغُلُول هَدَايَا الْعُمَّال , وَحُكْمه فِي الْفَضِيحَة فِي الْآخِرَة حُكْم الْغَالّ . رَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنه وَمُسْلِم فِي صَحِيحه عَنْ أَبِي حُمَيْد السَّاعِدِيّ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِسْتَعْمَلَ رَجُلًا مِنْ الْأَزْد يُقَال لَهُ اِبْن اللُّتْبِيَّة قَالَ اِبْن السَّرْح اِبْن الْأُتْبِيَّة عَلَى الصَّدَقَة , فَجَاءَ فَقَالَ : هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي . فَقَامَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَر فَحَمِدَ اللَّه وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ : ( مَا بَال الْعَامِل نَبْعَثهُ فَيَجِيء فَيَقُول هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي أَلَا جَلَسَ فِي بَيْت أُمّه أَوْ أَبِيهِ فَيَنْظُر أَيُهْدَى إِلَيْهِ أَمْ لَا , لَا يَأْتِي أَحَد مِنْكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا جَاءَ بِهِ يَوْم الْقِيَامَة إِنْ كَانَ بَعِيرًا فَلَهُ رُغَاء وَإِنْ كَانَتْ بَقَرَة فَلَهَا خُوَار أَوْ شَاة تَيْعَر ) - ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَتَيْ إِبْطَيْهِ ثُمَّ قَالَ : - ( اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْت اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْت ) . وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ بُرَيْدَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ اِسْتَعْمَلْنَاهُ عَلَى عَمَل فَرَزَقْنَاهُ رِزْقًا فَمَا أَخَذَ بَعْد ذَلِكَ فَهُوَ غُلُول ) . وَرَوَى أَيْضًا عَنْ أَبِي مَسْعُود الْأَنْصَارِيّ قَالَ : بَعَثَنِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاعِيًا ثُمَّ قَالَ : ( اِنْطَلِقْ أَبَا مَسْعُود وَلَا أُلْفِيَنَّك يَوْم الْقِيَامَة تَأْتِي عَلَى ظَهْرك بَعِير مِنْ إِبِل الصَّدَقَة لَهُ رُغَاء قَدْ غَلَلْته ) . قَالَ : إِذًا لَا أَنْطَلِق . قَالَ : ( إِذًا لَا أُكْرِهك ) . وَقَدْ قَيَّدَ هَذِهِ الْأَحَادِيث مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد أَيْضًا عَنْ الْمُسْتَوْرِد بْن شَدَّاد قَالَ : سَمِعْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( مَنْ كَانَ لَنَا عَامِلًا فَلْيَكْتَسِبْ زَوْجَة فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ خَادِم فَلْيَكْتَسِبْ خَادِمًا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَسْكَن فَلْيَكْتَسِبْ مَسْكَنًا ) . قَالَ فَقَالَ أَبُو بَكْر : أُخْبِرْت أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ اِتَّخَذَ غَيْر ذَلِكَ فَهُوَ غَالٌّ سَارِق ) . وَاَللَّه أَعْلَم .</p><p>وَمِنْ الْغُلُول حَبْس الْكُتُب عَنْ أَصْحَابهَا , وَيَدْخُل غَيْرهَا فِي مَعْنَاهَا . قَالَ الزُّهْرِيّ : إِيَّاكَ وَغُلُول الْكُتُب . فَقِيلَ لَهُ : وَمَا غُلُول الْكُتُب ؟ قَالَ : حَبْسهَا عَنْ أَصْحَابهَا . وَقَدْ قِيلَ فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : | وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلّ | أَنْ يَكْتُم شَيْئًا مِنْ الْوَحْي رَغْبَة أَوْ رَهْبَة أَوْ مُدَاهَنَة . وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَكْرَهُونَ مَا فِي الْقُرْآن مِنْ عَيْب دِينهمْ وَسَبّ آلِهَتهمْ , فَسَأَلُوهُ أَنْ يَطْوِي ذَلِكَ ; فَأَنْزَلَ اللَّه هَذِهِ الْآيَة ; قَالَهُ مُحَمَّد بْن بَشَّار . وَمَا بَدَأْنَا بِهِ قَوْل الْجُمْهُور .|ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ|وَفِي هَذِهِ الْآيَة نَصّ عَلَى أَنَّ الثَّوَاب وَالْعِقَاب مُتَعَلِّق بِكَسْبِ الْأَعْمَال , وَهُوَ رَدّ عَلَى الْجَبْرِيَّة , وَقَدْ تَقَدَّمَ .

أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ

يُرِيد بِتَرْكِ الْغُلُول وَالصَّبْر عَلَى الْجِهَاد .|كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ|يُرِيد بِكُفْرٍ أَوْ غُلُول أَوْ تَوَلٍّ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَرْب .|وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ|أَيْ مَثْوَاهُ النَّار , أَيْ إِنْ لَمْ يَتُبْ أَوْ يَعْفُو اللَّه عَنْهُ .|وَبِئْسَ الْمَصِيرُ|أَيْ الْمَرْجِع . وَقُرِئَ رِضْوَان بِكَسْرِ الرَّاء وَضَمّهَا كَالْعُدْوَانِ وَالْعِدْوَان .

هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ

أَيْ لَيْسَ مَنْ اِتَّبَعَ رِضْوَان اللَّه كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنْهُ . قِيلَ : | هُمْ دَرَجَات | مُتَفَاوِتَة , أَيْ هُمْ مُخْتَلِفُو الْمَنَازِل عِنْد اللَّه ; فَلِمَنْ اِتَّبَعَ رِضْوَانه الْكَرَامَة وَالثَّوَاب الْعَظِيم , وَلِمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنْهُ الْمَهَانَة وَالْعَذَاب الْأَلِيم . وَمَعْنَى | هُمْ دَرَجَات | - أَيْ ذَوُو دَرَجَات . أَوْ عَلَى دَرَجَات , أَوْ فِي دَرَجَات , أَوْ لَهُمْ دَرَجَات . وَأَهْل النَّار أَيْضًا ذَوُو دَرَجَات ; كَمَا قَالَ : ( وَجَدْته فِي غَمَرَات مِنْ النَّار فَأَخْرَجْته إِلَى ضَحْضَاح ) . فَالْمُؤْمِن وَالْكَافِر لَا يَسْتَوِيَانِ فِي الدَّرَجَة ; ثُمَّ الْمُؤْمِنُونَ يَخْتَلِفُونَ أَيْضًا , فَبَعْضهمْ أَرْفَع دَرَجَة مِنْ بَعْض , وَكَذَلِكَ الْكُفَّار . وَالدَّرَجَة الرُّتْبَة , وَمِنْ الدَّرَج ; لِأَنَّهُ يُطْوَى رُتْبَة بَعْد رُتْبَة . وَالْأَشْهَر فِي مَنَازِل جَهَنَّم دَرَكَات ; كَمَا قَالَ : | إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْك الْأَسْفَل مِنْ النَّار | [ النِّسَاء : 145 ] فَلِمَنْ لَمْ يَغُلّ دَرَجَات فِي الْجَنَّة , وَلِمَنْ غَلَّ دَرَكَات فِي النَّار . قَالَ أَبُو عُبَيْدَة : جَهَنَّم أَدْرَاك , أَيْ مَنَازِل ; يُقَال لِكُلِّ مَنْزِل مِنْهَا : دَرَك وَدَرْك . وَالدَّرْك إِلَى أَسْفَل , وَالدَّرَج إِلَى أَعْلَى .

لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ

بَيَّنَ اللَّه تَعَالَى عَظِيم مِنَّته عَلَيْهِمْ بِبَعْثِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَالْمَعْنَى فِي الْمِنَّة فِيهِ أَقْوَال : مِنْهَا أَنْ يَكُون مَعْنَى | مِنْ أَنْفُسكُمْ | أَيْ بَشَر مِثْلهمْ . فَلَمَّا أَظْهَر الْبَرَاهِين وَهُوَ بَشَر مِثْلهمْ عُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ عِنْد اللَّه . وَقِيلَ : | مِنْ أَنْفُسهمْ | مِنْهُمْ . فَشَرُفُوا بِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَكَانَتْ تِلْكَ الْمِنَّة . وَقِيلَ : | مِنْ أَنْفُسهمْ | لِيَعْرِفُوا حَاله وَلَا تَخْفَى عَلَيْهِمْ طَرِيقَته . وَإِذَا كَانَ مَحَلّه فِيهِمْ هَذَا كَانُوا أَحَقّ بِأَنْ يُقَاتِلُوا عَنْهُ وَلَا يَنْهَزِمُوا دُونه . وَقُرِئَ فِي الشَّوَاذّ | مِنْ أَنْفَسِهِمْ | ( بِفَتْحِ الْفَاء ) يَعْنِي مِنْ أَشْرَفهمْ ; لِأَنَّهُ مِنْ بَنِي هَاشِم , وَبَنُو هَاشِم أَفْضَل مِنْ قُرَيْش , وَقُرَيْش أَفْضَل مِنْ الْعَرَب , وَالْعَرَب أَفْضَل مِنْ غَيْرهمْ . ثُمَّ قِيلَ : لَفْظ الْمُؤْمِنِينَ عَامّ وَمَعْنَاهُ خَاصّ فِي الْعَرَب ; لِأَنَّهُ لَيْسَ حَيّ مِنْ أَحْيَاء الْعَرَب إِلَّا وَقَدْ وَلَدَهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَلَهُمْ فِيهِ نَسَب ; إِلَّا بَنِي تَغْلِب فَإِنَّهُمْ كَانُوا نَصَارَى فَطَهَّرَهُ اللَّه مِنْ دَنَس النَّصْرَانِيَّة . وَبَيَان هَذَا التَّأْوِيل قَوْله تَعَالَى : | هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ | [ الْجُمْعَة : 2 ] . وَذَكَرَ أَبُو مُحَمَّد عَبْد الْغَنِيّ قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَد الْبَصْرِيّ حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن عَلِيّ بْن سَعِيد الْقَاضِي أَبُو بَكْر الْمَرْوَزِيّ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْن مَعِين حَدَّثَنَا هِشَام بْن يُوسُف عَنْ عَبْد اللَّه بْن سُلَيْمَان النَّوْفَلِيّ عَنْ الزُّهْرِيّ عَنْ عُرْوَة عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا : | لَقَدْ مَنَّ اللَّه عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسهمْ | قَالَتْ : هَذِهِ لِلْعَرَبِ خَاصَّة . وَقَالَ آخَرُونَ : أَرَادَ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ كُلّهمْ . وَمَعْنَى | مِنْ أَنْفُسهمْ | أَنَّهُ وَاحِد مِنْهُمْ وَبَشَر وَمِثْلهمْ , وَإِنَّمَا اِمْتَازَ عَنْهُمْ بِالْوَحْيِ ; وَهُوَ مَعْنَى قَوْله | لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُول مِنْ أَنْفُسكُمْ | [ التَّوْبَة : 128 ] وَخَصَّ الْمُؤْمِنِينَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُمْ الْمُنْتَفِعُونَ بِهِ , فَالْمِنَّة عَلَيْهِمْ أَعْظَم .|يَتْلُو عَلَيْهِمْ|| يَتْلُو | فِي مَوْضِع نَصْب نَعْت لِرَسُولٍ , وَمَعْنَاهُ يَقْرَأ . وَالتِّلَاوَة الْقِرَاءَة .|آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ|| الْكِتَاب | الْقُرْآن و | الْحِكْمَة | الْمَعْرِفَة بِالدِّينِ , وَالْفِقْه فِي التَّأْوِيل , وَالْفَهْم الَّذِي هُوَ سَجِيَّة وَنُور مِنْ اللَّه تَعَالَى ; قَالَ مَالِك , وَرَوَاهُ عَنْهُ اِبْن وَهْب , وَقَالَ اِبْن زَيْد . وَقَالَ قَتَادَة : | الْحِكْمَة | السُّنَّة وَبَيَان الشَّرَائِع . وَقِيلَ : الْحُكْم وَالْقَضَاء خَاصَّة ; وَالْمَعْنَى مُتَقَارِب . وَنَسَبَ التَّعْلِيم إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَيْثُ هُوَ يُعْطِي الْأُمُور الَّتِي يَنْظُر فِيهَا , وَيَعْلَم طَرِيق النَّظَر بِمَا يُلْقِيه اللَّه إِلَيْهِ مِنْ وَحْيه .|وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ|أَيْ وَلَقَدْ كَانُوا مِنْ قَبْل , أَيْ مِنْ قَبْل مُحَمَّد , وَقِيلَ : | إِنْ | بِمَعْنَى مَا , وَاللَّام فِي الْخَبَر بِمَعْنَى إِلَّا . أَيْ وَمَا كَانُوا مِنْ قَبْل إِلَّا فِي ضَلَال مُبِين . وَمِثْله | وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْله لِمَنْ الضَّالِّينَ | [ الْبَقَرَة : 198 ] أَيْ وَمَا كُنْتُمْ مِنْ قَبْله إِلَّا مِنْ الضَّالِّينَ . وَهَذَا مَذْهَب الْكُوفِيِّينَ . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي | الْبَقَرَة | مَعْنَى هَذِهِ الْآيَة .

أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ

| الْأَلِف لِلِاسْتِفْهَامِ , وَالْوَاو لِلْعَطْفِ . | مُصِيبَة | أَيْ غَلَبَة .|قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا|يَوْم بَدْر بِأَنْ قَتَلْتُمْ مِنْهُمْ سَبْعِينَ وَأَسَرْتُمْ سَبْعِينَ . وَالْأَسِير فِي حُكْم الْمَقْتُول ; لِأَنَّ الْآسِر يَقْتُل أَسِيرهُ إِنْ أَرَادَ . أَيْ فَهَزَمْتُمُوهُمْ يَوْم بَدْر وَيَوْم أُحُد أَيْضًا فِي الِابْتِدَاء , وَقَتَلْتُمْ فِيهِ قَرِيبًا مِنْ عِشْرِينَ , قَتَلْتُمْ مِنْهُمْ فِي يَوْمَيْنِ , وَنَالُوا مِنْكُمْ فِي يَوْم أُحُد . | قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا | أَيْ مِنْ أَيْنَ أَصَابَنَا هَذَا الِانْهِزَام وَالْقَتْل , وَنَحْنُ نُقَاتِل فِي سَبِيل اللَّه , وَنَحْنُ مُسْلِمُونَ , وَفِينَا النَّبِيّ وَالْوَحْي , وَهُمْ مُشْرِكُونَ .|قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ|يَعْنِي مُخَالَفَة الرُّمَاة . وَمَا مِنْ قَوْم أَطَاعُوا نَبِيّهمْ فِي حَرْب إِلَّا نُصِرُوا ; لِأَنَّهُمْ إِذَا أَطَاعُوا فَهُمْ حِزْب اللَّه , وَحِزْب اللَّه هُمْ الْغَالِبُونَ . وَقَالَ قَتَادَة وَالرَّبِيع بْن أَنَس : يَعْنِي سُؤَالهمْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَخْرُج بَعْد مَا أَرَادَ الْإِقَامَة بِالْمَدِينَةِ . وَتَأَوَّلَهَا فِي الرُّؤْيَا الَّتِي رَآهَا دِرْعًا حَصِينَة . عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : هُوَ اِخْتِيَارهمْ الْفِدَاء يَوْم بَدْر عَلَى الْقَتْل . وَقَدْ قِيلَ لَهُمْ : إِنْ فَادَيْتُمْ الْأُسَارَى قُتِلَ مِنْكُمْ عَلَى عِدَّتهمْ . وَرَوَى الْبَيْهَقِيّ عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأُسَارَى يَوْم بَدْر : ( إِنْ شِئْتُمْ قَتَلْتُمُوهُمْ وَإِنْ شِئْتُمْ فَادَيْتُمُوهُمْ وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِالْفِدَاءِ وَاسْتُشْهِدَ مِنْكُمْ بِعِدَّتِهِمْ ) . فَكَانَ آخِر السَّبْعِينَ ثَابِت بْن قَيْس قُتِلَ يَوْم الْيَمَامَة . فَمَعْنَى | مِنْ عِنْد أَنْفُسكُمْ | عَلَى الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ بِذُنُوبِكُمْ . وَعَلَى الْقَوْل الْأَخِير بِاخْتِيَارِكُمْ .

وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ

يَعْنِي يَوْم أُحُد مِنْ الْقَتْل وَالْجَرْح وَالْهَزِيمَة .|فَبِإِذْنِ اللَّهِ|أَيْ بِعِلْمِهِ . وَقِيلَ : بِقَضَائِهِ وَقَدَره . قَالَ الْقَفَّال : أَيْ فَبِتَخْلِيَتِهِ بَيْنكُمْ وَبَيْنهمْ , لَا أَنَّهُ أَرَادَ ذَلِكَ . وَهَذَا تَأْوِيل الْمُعْتَزِلَة . وَدَخَلَتْ الْفَاء فِي | فَبِإِذْنِ اللَّه | لِأَنَّ | مَا | بِمَعْنَى الَّذِي . أَيْ وَاَلَّذِي أَصَابَكُمْ يَوْم اِلْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّه ; فَأَشْبَهَ الْكَلَام مَعْنَى الشَّرْط , كَمَا قَالَ سِيبَوَيْهِ : الَّذِي قَامَ فَلَهُ دِرْهَم .|وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ|أَيْ لِيَمِيزَ . وَقِيلَ لِيَرَى . وَقِيلَ : لِيَظْهَر إِيمَان الْمُؤْمِنِينَ بِثُبُوتِهِمْ فِي الْقِتَال

وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُل

أَيْ لِيُمَيِّز . وَقِيلَ لِيَرَى . وَلِيَظْهَر كُفْر الْمُنَافِقِينَ بِإِظْهَارِهِمْ الشَّمَاتَة فَيَعْلَمُونَ ذَلِكَ .|وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ|هِيَ إِلَى عَبْد اللَّه بْن أُبَيّ وَأَصْحَابه الَّذِينَ اِنْصَرَفُوا مَعَهُ عَنْ نُصْرَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَكَانُوا ثَلَاثمِائَةِ . فَمَشَى فِي أَثَرهمْ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو بْن حَرَام الْأَنْصَارِيّ , أَبُو جَابِر بْن عَبْد اللَّه , فَقَالَ لَهُمْ : اِتَّقُوا اللَّه وَلَا تَتْرُكُوا نَبِيّكُمْ , وَقَاتِلُوا فِي سَبِيل اللَّه أَوْ اِدْفَعُوا , وَنَحْو هَذَا مِنْ الْقَوْل . فَقَالَ لَهُ اِبْن أُبَيّ : مَا أَرَى أَنْ يَكُون قِتَال , وَلَوْ عَلِمْنَا أَنْ يَكُون قِتَال لَكُنَّا مَعَكُمْ . فَلَمَّا يَئِسَ مِنْهُمْ عَبْد اللَّه قَالَ : اِذْهَبُوا أَعْدَاء اللَّه فَسَيُغْنِي اللَّهُ رَسُولَهُ عَنْكُمْ . وَمَضَى مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتُشْهِدَ رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى .|أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ|اِخْتَلَفَ النَّاس فَقَالَ السُّدِّيّ وَابْن جُرَيْج وَغَيْرهمَا : كَثِّرُوا سَوَادنَا وَإِنْ لَمْ تُقَاتِلُوا مَعَنَا ; فَيَكُون ذَلِكَ دَفْعًا وَقَمْعًا لِلْعَدُوِّ ; فَإِنَّ السَّوَاد إِذَا كَثُرَ حَصَلَ دَفْع الْعَدُوّ . وَقَالَ أَنَس بْن مَالِك : رَأَيْت يَوْم الْقَادِسِيَّة عَبْد اللَّه بْن أُمّ مَكْتُوم الْأَعْمَى وَعَلَيْهِ دِرْع يَجُرّ أَطْرَافهَا , وَبِيَدِهِ رَايَة سَوْدَاء ; فَقِيلَ لَهُ : أَلَيْسَ قَدْ أَنْزَلَ اللَّه عُذْرك ؟ قَالَ : بَلَى ! وَلَكِنِّي أُكَثِّر سَوَاد الْمُسْلِمِينَ بِنَفْسِي . وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : فَكَيْفَ بِسَوَادِي فِي سَبِيل اللَّه ! وَقَالَ أَبُو عَوْن الْأَنْصَارِيّ : مَعْنَى | أَوْ اِدْفَعُوا | رَابِطُوا . وَهَذَا قَرِيب مِنْ الْأَوَّل . وَلَا مَحَالَة أَنَّ الْمُرَابِط مُدَافِع ; لِأَنَّهُ لَوْلَا مَكَان الْمُرَابِطِينَ فِي الثُّغُور لَجَاءَهَا الْعَدُوّ . وَذَهَبَ قَوْم مِنْ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ قَوْل عَبْد اللَّه بْن عَمْرو | أَوْ اِدْفَعُوا | إِنَّمَا هُوَ اِسْتِدْعَاء إِلَى الْقِتَال حَمِيَّة ; لِأَنَّهُ اِسْتَدْعَاهُمْ إِلَى الْقِتَال فِي سَبِيل اللَّه , وَهِيَ أَنْ تَكُون كَلِمَة اللَّه هِيَ الْعُلْيَا , فَلَمَّا رَأَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا عَلَى ذَلِكَ عَرَضَ عَلَيْهِمْ الْوَجْه الَّذِي يَحْشِمهُمْ وَيَبْعَث الْأَنَفَة . أَيْ أَوْ قَاتِلُوا دِفَاعًا عَنْ الْحَوْزَة . أَلَا تَرَى أَنَّ قُزْمَان قَالَ : وَاَللَّه مَا قَاتَلْت إِلَّا عَنْ أَحْسَاب قَوْمِي . وَأَلَا تَرَى أَنَّ بَعْض الْأَنْصَار قَالَ يَوْم أُحُد لَمَّا رَأَى قُرَيْشًا قَدْ أَرْسَلَتْ الظَّهْر فِي زُرُوع قَنَاة , أَتَرْعَى زُرُوع بَنِي قَيْلَة وَلَمَّا نُضَارِب ؟ وَالْمَعْنَى إِنْ لَمْ تُقَاتِلُوا فِي سَبِيل اللَّه فَقَاتِلُوا دَفْعًا عَنْ أَنْفُسكُمْ وَحَرِيمكُمْ .|هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ|أَيْ بَيَّنُوا حَالهمْ , وَهَتَكُوا أَسْتَارهمْ , وَكَشَفُوا عَنْ نِفَاقهمْ لِمَنْ كَانَ يَظُنّ أَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ ; فَصَارُوا أَقْرَب إِلَى الْكُفْر فِي ظَاهِر الْحَال , وَإِنْ كَانُوا كَافِرِينَ عَلَى التَّحْقِيق .|يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ|أَيْ أَظْهَرُوا الْإِيمَان , وَأَضْمَرُوا الْكُفْر . وَذَكَرَ الْأَفْوَاه تَأْكِيد ; مِثْل قَوْله : | يَطِير بِجَنَاحَيْهِ | [ الْأَنْعَام : 38 ] .

الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ

مَعْنَاهُ لِأَجْلِ إِخْوَانهمْ , وَهُمْ الشُّهَدَاء الْمَقْتُولُونَ مِنْ الْخَزْرَج ; وَهُمْ إِخْوَة نَسَب وَمُجَاوَرَة , لَا إِخْوَة الدِّين . أَيْ قَالُوا لِهَؤُلَاءِ الشُّهَدَاء : لَوْ قَعَدُوا , أَيْ بِالْمَدِينَةِ مَا قُتِلُوا . وَقِيلَ : قَالَ عَبْد اللَّه بْن أُبَيّ وَأَصْحَابه لِإِخْوَانِهِمْ , أَيْ لِأَشْكَالِهِمْ مِنْ الْمُنَافِقِينَ : لَوْ أَطَاعُونَا , هَؤُلَاءِ الَّذِينَ قُتِلُوا , لَمَا قُتِلُوا .|وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا|يُرِيد فِي أَلَّا يَخْرُجُوا إِلَى قُرَيْش . وَقَوْله : أَيْ قَالُوا هَذَا الْقَوْل وَقَعَدُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ الْجِهَاد ; فَرَدَّ اللَّه عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ : | قُلْ فَادْرَءُوا | أَيْ قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّد : إِنْ صَدَقْتُمْ فَادْفَعُوا الْمَوْت عَنْ أَنْفُسكُمْ . وَالدَّرْء الدَّفْع . بَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الْحَذَر لَا يَنْفَع مِنْ الْقَدَر , وَأَنَّ الْمَقْتُول يُقْتَل بِأَجَلِهِ , وَمَا عَلِمَ اللَّه وَأَخْبَرَ بِهِ كَائِن لَا مَحَالَة . وَقِيلَ : مَاتَ يَوْم قِيلَ هَذَا , سَبْعُونَ مُنَافِقًا . وَقَالَ أَبُو اللَّيْث السَّمَرْقَنْدِيّ : سَمِعْت بَعْض الْمُفَسِّرِينَ بِسَمَرْقَنْد يَقُول : لَمَّا نَزَلَتْ الْآيَة|قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ|مَاتَ يَوْمَئِذٍ سَبْعُونَ نَفْسًا مِنْ الْمُنَافِقِينَ .

وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ

لَمَّا بَيَّنَ اللَّه تَعَالَى أَنَّ مَا جَرَى يَوْم أُحُد كَانَ اِمْتِحَانًا يُمَيِّز الْمُنَافِق مِنْ الصَّادِق , بَيَّنَ أَنَّ مَنْ لَمْ يَنْهَزِم فَقُتِلَ لَهُ الْكَرَامَة وَالْحَيَاة عِنْده . وَالْآيَة فِي شُهَدَاء أُحُد . وَقِيلَ : نَزَلَتْ فِي شُهَدَاء بِئْر مَعُونَة . وَقِيلَ : بَلْ هِيَ عَامَّة فِي جَمِيع الشُّهَدَاء . وَفِي مُصَنَّف أَبِي دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيح عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( لَمَّا أُصِيبَ إِخْوَانكُمْ بِأُحُدٍ جَعَلَ اللَّه أَرْوَاحهمْ فِي جَوْف طَيْر خُضْر تَرِد أَنْهَار الْجَنَّة تَأْكُل مِنْ ثِمَارهَا وَتَأْوِي إِلَى قَنَادِيل مِنْ ذَهَب مُعَلَّقَة فِي ظِلّ الْعَرْش فَلَمَّا وَجَدُوا طِيب مَأْكَلهمْ وَمَشْرَبهمْ وَمَقِيلهمْ قَالُوا مَنْ يُبَلِّغ إِخْوَاننَا عَنَّا أَنَّا أَحْيَاء فِي الْجَنَّة نُرْزَق لِئَلَّا يَزْهَدُوا فِي الْجِهَاد وَلَا يَنْكُلُوا عِنْد الْحَرْب فَقَالَ اللَّه سُبْحَانه أَنَا أُبَلِّغهُمْ عَنْكُمْ ) - قَالَ - فَأَنْزَلَ اللَّه ( وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيل اللَّه أَمْوَاتًا . .. ) إِلَى آخِر الْآيَات . وَرَوَى بَقِيّ بْن مَخْلَد عَنْ جَابِر قَالَ : لَقِيَنِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : ( يَا جَابِر مَا لِي أَرَاك مُنَكِّسًا مُهْتَمًّا ) ؟ قُلْت : يَا رَسُول اللَّه , اُسْتُشْهِدَ أَبِي وَتَرَكَ عِيَالًا وَعَلَيْهِ دَيْن ; فَقَالَ : ( أَلَا أُبَشِّرك بِمَا لَقِيَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بِهِ أَبَاك ) ؟ قُلْت : بَلَى يَا رَسُول اللَّه . قَالَ : ( إِنَّ اللَّه أَحْيَا أَبَاك وَكَلَّمَهُ كِفَاحًا وَمَا كُلِّمَ أَحَد قَطُّ إِلَّا مِنْ وَرَاء حِجَاب فَقَالَ لَهُ يَا عَبْدِي تَمَنَّ أُعْطِك قَالَ يَا رَبّ فَرُدَّنِي إِلَى الدُّنْيَا فَأُقْتَل فِيك ثَانِيَة فَقَالَ الرَّبّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَدْ سَبَقَ مِنِّي أَنَّهُمْ إِلَيْهَا لَا يُرْجَعُونَ قَالَ يَا رَبّ فَأَبْلِغْ مَنْ وَرَائِي ) فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ | وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيل اللَّه | الْآيَة . أَخْرَجَهُ اِبْن مَاجَهْ فِي سُنَنه , وَالتِّرْمِذِيّ فِي جَامِعه وَقَالَ : هَذَا حَدِيث حَسَن غَرِيب . وَرَوَى وَكِيع عَنْ سَالِم بْن الْأَفْطَس عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر | وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيل اللَّه أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء | قَالَ : لَمَّا أُصِيبَ حَمْزَة بْن عَبْد الْمَطْلَب وَمُصْعَب بْن عُمَيْر وَرَأَوْا مَا رُزِقُوا مِنْ الْخَيْر قَالُوا : لَيْتَ إِخْوَاننَا يَعْلَمُونَ مَا أَصَابَنَا مِنْ الْخَيْر كَيْ يَزْدَادُوا فِي الْجِهَاد رَغْبَة ; فَقَالَ اللَّه تَعَالَى أَنَا أُبَلِّغهُمْ عَنْكُمْ , فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى : | وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيل اللَّه أَمْوَاتًا - إِلَى قَوْله : لَا يُضِيع أَجْر الْمُؤْمِنِينَ | . وَقَالَ أَبُو الضُّحَى : نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة فِي أَهْل أُحُد خَاصَّة . وَالْحَدِيث الْأَوَّل يَقْتَضِي صِحَّة هَذَا الْقَوْل . وَقَالَ بَعْضهمْ : نَزَلَتْ فِي شُهَدَاء بَدْر وَكَانُوا أَرْبَعَة عَشَر رَجُلًا ; ثَمَانِيَة مِنْ الْأَنْصَار , وَسِتَّة مِنْ الْمُهَاجِرِينَ . وَقِيلَ : نَزَلَتْ فِي شُهَدَاء بِئْر مَعُونَة , وَقِصَّتهمْ مَشْهُورَة ذَكَرَهَا مُحَمَّد بْن إِسْحَاق وَغَيْره . وَقَالَ آخَرُونَ : إِنَّ أَوْلِيَاء الشُّهَدَاء كَانُوا إِذَا أَصَابَتْهُمْ نِعْمَة وَسُرُور تَحَسَّرُوا وَقَالُوا : نَحْنُ فِي النِّعْمَة وَالسُّرُور , وَآبَاؤُنَا وَأَبْنَاؤُنَا وَإِخْوَاننَا فِي الْقُبُور . فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْآيَة تَنْفِيسًا عَنْهُمْ وَإِخْبَارًا عَنْ حَال قَتْلَاهُمْ . قُلْت : وَبِالْجُمْلَةِ وَإِنْ كَانَ يَحْتَمِل أَنْ يَكُون النُّزُول بِسَبَبِ الْمَجْمُوع فَقَدْ أَخْبَرَ اللَّه تَعَالَى فِيهَا عَنْ الشُّهَدَاء أَنَّهُمْ أَحْيَاء فِي الْجَنَّة يُرْزَقُونَ , وَلَا مَحَالَة أَنَّهُمْ مَاتُوا وَأَنَّ أَجْسَادهمْ فِي التُّرَاب , وَأَرْوَاحهمْ حَيَّة كَأَرْوَاحِ سَائِر الْمُؤْمِنِينَ , وَفُضِّلُوا بِالرِّزْقِ فِي الْجَنَّة مِنْ وَقْت الْقَتْل حَتَّى كَأَنَّ حَيَاة الدُّنْيَا دَائِمَة لَهُمْ . وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي هَذَا الْمَعْنَى . فَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْمُعْظَم هُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ , وَأَنَّ حَيَاة الشُّهَدَاء مُحَقَّقَة . ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُول : تُرَدّ إِلَيْهِمْ الْأَرْوَاح فِي قُبُورهمْ فَيُنَعَّمُونَ , كَمَا يَحْيَا الْكُفَّار فِي قُبُورهمْ فَيُعَذَّبُونَ . وَقَالَ مُجَاهِد : يُرْزَقُونَ مِنْ ثَمَر الْجَنَّة , أَيْ يَجِدُونَ رِيحهَا وَلَيْسُوا فِيهَا . وَصَارَ قَوْم إِلَى أَنَّ هَذَا مَجَاز , وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ فِي حُكْم اللَّه مُسْتَحِقُّونَ لِلتَّنَعُّمِ فِي الْجَنَّة . وَهُوَ كَمَا يُقَال : مَا مَاتَ فُلَان , أَيْ ذِكْره حَيّ ; كَمَا قِيلَ : <br>مَوْتُ التَّقِيِّ حَيَاةٌ لَا فِنَاءَ لَهَا .......... قَدْ مَاتَ قَوْمٌ وَهُمْ فِي النَّاس أَحْيَاء <br>فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يُرْزَقُونَ الثَّنَاء الْجَمِيل . وَقَالَ آخَرُونَ : أَرْوَاحهمْ فِي أَجْوَاف طَيْر خُضْر وَأَنَّهُمْ يُرْزَقُونَ فِي الْجَنَّة وَيَأْكُلُونَ وَيَتَنَعَّمُونَ . وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح مِنْ الْأَقْوَال ; لِأَنَّ مَا صَحَّ بِهِ النَّقْل فَهُوَ الْوَاقِع . وَحَدِيث اِبْن عَبَّاس نَصّ يَرْفَع الْخِلَاف . وَكَذَلِكَ حَدِيث اِبْن مَسْعُود خَرَّجَهُ مُسْلِم . وَقَدْ أَتَيْنَا عَلَى هَذَا الْمَعْنَى مُبَيَّنًا فِي كِتَاب | التَّذْكِرَة بِأَحْوَالِ الْمَوْتَى وَأُمُور الْآخِرَة | . وَالْحَمْد لِلَّهِ . وَقَدْ ذَكَرْنَا هُنَاكَ كَمْ الشُّهَدَاء , وَأَنَّهُمْ مُخْتَلِفُو الْحَال . وَأَمَّا مَنْ تَأَوَّلَ فِي الشُّهَدَاء أَنَّهُمْ أَحْيَاء بِمَعْنَى أَنَّهُمْ سَيَحْيَوْنَ فَبَعِيد يَرُدّهُ الْقُرْآن وَالسُّنَّة ; فَإِنَّ قَوْله تَعَالَى : | بَلْ أَحْيَاء | دَلِيل عَلَى حَيَاتهمْ , وَأَنَّهُمْ يُرْزَقُونَ وَلَا يُرْزَق إِلَّا حَيّ . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّهُ يُكْتَب لَهُمْ فِي كُلّ سَنَة ثَوَاب غَزْوَة ; وَيُشْرَكُونَ فِي ثَوَاب كُلّ جِهَاد كَانَ بَعْدهمْ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ; لِأَنَّهُمْ سَنُّوا أَمْر الْجِهَاد . نَظِيرَة قَوْله تَعَالَى : | مِنْ أَجْل ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيل أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا | [ الْمَائِدَة : 32 ] . عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَقِيلَ : لِأَنَّ أَرْوَاحهمْ تَرْكَع وَتَسْجُد تَحْت الْعَرْش إِلَى يَوْم الْقِيَامَة , كَأَرْوَاحِ الْأَحْيَاء الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ بَاتُوا عَلَى وُضُوء . وَقِيلَ : لِأَنَّ الشَّهِيد لَا يَبْلَى فِي الْقَبْر وَلَا تَأْكُلهُ الْأَرْض . وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا الْمَعْنَى فِي | التَّذْكِرَة | وَأَنَّ الْأَرْض لَا تَأْكُل الْأَنْبِيَاء وَالشُّهَدَاء وَالْعُلَمَاء وَالْمُؤَذِّنِينَ الْمُحْتَسِبِينَ وَحَمَلَة الْقُرْآن .</p><p>إِذَا كَانَ الشَّهِيد حَيًّا حُكْمًا فَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ , كَالْحَيِّ حِسًّا . وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي غُسْل الشُّهَدَاء وَالصَّلَاة عَلَيْهِمْ ; فَذَهَبَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو حَنِيفَة وَالثَّوْرِيّ إِلَى غُسْل جَمِيع الشُّهَدَاء وَالصَّلَاة عَلَيْهِمْ ; إِلَّا قَتِيل الْمُعْتَرَك فِي قِتَال الْعَدُوّ خَاصَّة ; لِحَدِيثِ جَابِر قَالَ قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( اِدْفِنُوهُمْ بِدِمَائِهِمْ ) يَعْنِي يَوْم أُحُد وَلَمْ يُغَسِّلهُمْ , رَوَاهُ الْبُخَارِيّ . وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : أَمَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلَى أُحُد أَنْ يُنْزَع عَنْهُمْ الْحَدِيد وَالْجُلُود وَأَنْ يُدْفَنُوا بِدِمَائِهِمْ وَثِيَابهمْ . وَبِهَذَا قَالَ أَحْمَد وَإِسْحَاق وَالْأَوْزَاعِيّ ودَاوُد بْن عَلِيّ وَجَمَاعَة فُقَهَاء الْأَمْصَار وَأَهْل الْحَدِيث وَابْن عُلَيَّة . وَقَالَ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب وَالْحَسَن : يُغَسَّلُونَ . قَالَ أَحَدهمَا : إِنَّمَا لَمْ تُغَسَّل شُهَدَاء أُحُد لِكَثْرَتِهِمْ وَالشُّغْل عَنْ ذَلِكَ . قَالَ أَبُو عُمَر : وَلَمْ يَقُلْ بِقَوْلِ سَعِيد وَالْحَسَن هَذَا أَحَدٌ مِنْ فُقَهَاء الْأَمْصَار إِلَّا عُبَيْد اللَّه بْن الْحَسَن الْعَنْبَرِيّ , وَلَيْسَ مَا ذَكَرُوا مِنْ الشُّغْل عَنْ غُسْل شُهَدَاء أُحُد عِلَّة ; لِأَنَّ كُلّ وَاحِد مِنْهُمْ كَانَ لَهُ وَلِيّ يَشْتَغِل بِهِ وَيَقُوم بِأَمْرِهِ . وَالْعِلَّة فِي ذَلِكَ - وَاَللَّه أَعْلَم - مَا جَاءَ فِي الْحَدِيث فِي دِمَائِهِمْ ( أَنَّهَا تَأْتِي يَوْم الْقِيَامَة كَرِيحِ الْمِسْك ) فَبَانَ أَنَّ الْعِلَّة لَيْسَتْ الشُّغْل كَمَا قَالَ مَنْ قَالَ فِي ذَلِكَ , وَلَيْسَ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَة مَدْخَل فِي الْقِيَاس وَالنَّظَر , وَإِنَّمَا هِيَ مَسْأَلَة اِتِّبَاع لِلْأَثَرِ الَّذِي نَقَلَهُ الْكَافَّة فِي قَتْلَى أُحُد لَمْ يُغَسَّلُوا . وَقَدْ اِحْتَجَّ بَعْض الْمُتَأَخِّرِينَ مِمَّنْ ذَهَبَ مَذْهَب الْحَسَن بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام فِي شُهَدَاء أَحَد . ( أَنَا شَهِيد عَلَى هَؤُلَاءِ يَوْم الْقِيَامَة ) . قَالَ : وَهَذَا يَدُلّ عَلَى خُصُوصهمْ وَأَنَّهُ لَا يَشْرَكهُمْ فِي ذَلِكَ غَيْرهمْ . قَالَ أَبُو عُمَر : وَهَذَا يُشْبِه الشُّذُوذ , وَالْقَوْل بِتَرْكِ غُسْلهمْ أَوْلَى ; لِثُبُوتِ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَتْلَى أُحُد وَغَيْرهمْ . وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ جَابِر قَالَ : رُمِيَ رَجُل بِسَهْمٍ فِي صَدْره أَوْ فِي حَلْقه فَمَاتَ فَأُدْرِجَ فِي ثِيَابه كَمَا هُوَ . قَالَ : وَنَحْنُ مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .</p><p>وَأَمَّا الصَّلَاة عَلَيْهِمْ فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي ذَلِكَ أَيْضًا ; فَذَهَبَ مَالِك وَاللَّيْث وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَدَاوُد إِلَى أَنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِمْ ; لِحَدِيثِ جَابِر قَالَ : كَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْمَع بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُد فِي ثَوْب وَاحِد ثُمَّ يَقُول : ( أَيّهمَا أَكْثَر أَخْذًا لِلْقُرْآنِ ) ؟ فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إِلَى أَحَدهمَا قَدَّمَهُ فِي اللَّحْد وَقَالَ : ( أَنَا شَهِيد عَلَى هَؤُلَاءِ يَوْم الْقِيَامَة ) وَأَمَرَ بِدَفْنِهِمْ بِدِمَائِهِمْ وَلَمْ يُغَسَّلُوا وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ . وَقَالَ فُقَهَاء الْكُوفَة وَالْبَصْرَة وَالشَّام : يُصَلَّى عَلَيْهِمْ . وَرَوَوْا آثَارًا كَبِيرَة أَكْثَرهَا مَرَاسِيل أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَى حَمْزَة وَعَلَى سَائِر شُهَدَاء أُحُد .</p><p>وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ الشَّهِيد إِذَا حُمِلَ حَيًّا وَلَمْ يَمُتْ فِي الْمُعْتَرَك وَعَاشَ وَأَكَلَ فَإِنَّهُ يُصَلَّى عَلَيْهِ ; كَمَا قَدْ صُنِعَ بِعُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ . وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا كَقَتِيلِ الْخَوَارِج وَقُطَّاع الطَّرِيق وَشَبَه ذَلِكَ ; فَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَالثَّوْرِيّ : كُلّ مَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا لَمْ يُغَسَّل , وَلَكِنَّهُ يُصَلَّى عَلَيْهِ وَعَلَى كُلّ شَهِيد ; وَهُوَ قَوْل سَائِر أَهْل الْعِرَاق . وَرَوَوْا مِنْ طُرُق كَثِيرَة صِحَاح عَنْ زَيْد بْن صُوحَان , وَكَانَ قُتِلَ يَوْم الْجَمَل : لَا تَنْزِعُوا عَنِّي ثَوْبًا وَلَا تَغْسِلُوا عَنِّي دَمًا . وَثَبَتَ عَنْ عَمَّار بْن يَاسِر أَنَّهُ قَالَ مِثْل قَوْل زَيْد بْن صُوحَان . وَقُتِلَ عَمَّار بْن يَاسِر بِصِفِّينَ وَلَمْ يُغَسِّلهُ عَلِيّ . وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ : أَحَدهمَا - يُغَسَّل كَجَمِيعِ الْمَوْتَى إِلَّا مَنْ قَتَلَهُ أَهْل الْحَرْب ; وَهَذَا قَوْل مَالِك . قَالَ مَالِك : لَا يُغَسَّل مَنْ قَتَلَهُ الْكُفَّار وَمَاتَ فِي الْمُعْتَرَك . وَكَانَ مَقْتُول غَيْر قَتِيل الْمُعْتَرَك - قَتِيل الْكُفَّار - فَإِنَّهُ يُغَسَّل وَيُصَلَّى عَلَيْهِ . وَهَذَا قَوْل أَحْمَد بْن حَنْبَل رَضِيَ اللَّه عَنْهُ . وَالْقَوْل الْآخَر لِلشَّافِعِيِّ - لَا يُغَسَّل قَتِيل الْبُغَاة . وَقَوْل مَالِك أَصَحّ ; فَإِنْ غُسْل الْمَوْتَى قَدْ ثَبَتَ بِالْإِجْمَاعِ وَنَقْل الْكَافَّة . فَوَاجِب غُسْل كُلّ مَيِّت إِلَّا مَنْ أَخْرَجَهُ إِجْمَاع أَوْ سُنَّة ثَابِتَة . وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيق .</p><p>الْعَدُوّ إِذَا صَبَّحَ قَوْمًا فِي مَنْزِلهمْ وَلَمْ يَعْلَمُوا بِهِ فَقَتَلَ مِنْهُمْ فَهَلْ يَكُون حُكْمه حُكْم قَتِيل الْمُعْتَرَك , أَوْ حُكْم سَائِر الْمَوْتَى ; وَهَذِهِ الْمَسْأَلَة نَزَلَتْ عِنْدنَا بِقُرْطُبَة أَعَادَهَا اللَّه : أَغَارَ الْعَدُوّ - قَصَمَهُ اللَّه - صَبِيحَة الثَّالِث مِنْ رَمَضَان الْمُعَظَّم سَنَة سَبْع وَعِشْرِينَ وَسِتّمِائَةِ وَالنَّاس فِي أَجْرَانهمْ عَلَى غَفْلَة , فَقَتَلَ وَأَسَرَ , وَكَانَ مِنْ جُمْلَة مَنْ قُتِلَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّه ; فَسَأَلْت شَيْخنَا الْمُقْرِئ الْأُسْتَاذ أَبَا جَعْفَر أَحْمَد الْمَعْرُوف بِأَبِي حِجَّة فَقَالَ ; غَسِّلْهُ وَصَلِّ عَلَيْهِ , فَإِنَّ أَبَاك لَمْ يُقْتَل فِي الْمُعْتَرَك بَيْنَ الصَّفَّيْنِ . ثُمَّ سَأَلْت شَيْخنَا رَبِيع بْن عَبْد الرَّحْمَن بْن أَحْمَد بْن رَبِيع بْن أُبَيّ فَقَالَ : إِنَّ حُكْمه حُكْم الْقَتْلَى فِي الْمُعْتَرَك . ثُمَّ سَأَلْت قَاضِيَ الْجَمَاعَة أَبَا الْحَسَن عَلِيّ بْن قطرال وَحَوْلَهُ جَمَاعَة مِنْ الْفُقَهَاء فَقَالُوا : غَسِّلْهُ وَكَفِّنْهُ وَصَلِّ عَلَيْهِ ; فَفَعَلْت . ثُمَّ بَعْد ذَلِكَ وَقَفْت عَلَى الْمَسْأَلَة فِي | التَّبْصِرَة | لِأَبِي الْحَسَن اللَّخْمِيّ وَغَيْرهَا . وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ قَبْل ذَلِكَ مَا غَسَّلْته , وَكُنْت دَفَنْته بِدَمِهِ فِي ثِيَابه .</p><p>هَذِهِ الْآيَة تَدُلّ عَلَى عَظِيم ثَوَاب الْقَتْل فِي سَبِيل اللَّه وَالشَّهَادَة فِيهِ حَتَّى أَنَّهُ يُكَفِّر الذُّنُوب ; كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( الْقَتْل فِي سَبِيل اللَّه يُكَفِّر كُلّ شَيْء إِلَّا الدَّيْن كَذَلِكَ قَالَ لِي جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام آنِفًا ) . قَالَ عُلَمَاؤُنَا ذِكْر الدَّيْن تَنْبِيه عَلَى مَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ الْحُقُوق الْمُتَعَلِّقَة بِالذِّمَمِ , كَالْغَصْبِ وَأَخْذ الْمَال بِالْبَاطِلِ وَقَتْل الْعَمْد وَجِرَاحه وَغَيْر ذَلِكَ مِنْ التَّبِعَات , فَإِنَّ كُلّ هَذَا أَوْلَى أَلَّا يُغْفَر بِالْجِهَادِ مِنْ الدَّيْن فَإِنَّهُ أَشَدّ , وَالْقِصَاص فِي هَذَا كُلّه بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَات حَسْبَمَا وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّة الثَّابِتَة . رَوَى عَبْد اللَّه بْن أُنَيْس قَالَ : سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( يَحْشُرُ اللَّه الْعِبَاد - أَوْ قَالَ النَّاس , شَكَّ هَمَّام , وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى الشَّام - عُرَاة غُرْلًا بُهْمًا . قُلْنَا : مَا بُهْمٌ ؟ قَالَ : لَيْسَ مَعَهُمْ شَيْء فَيُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعهُ مَنْ قَرُبَ وَمَنْ بَعُدَ أَنَا الْمَلِك أَنَا الدَّيَّان لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْل الْجَنَّة أَنْ يَدْخُل الْجَنَّة وَأَحَد مِنْ أَهْل النَّار يَطْلُبهُ بِمَظْلِمَةٍ وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْل النَّار أَنْ يَدْخُل النَّار وَأَحَد مِنْ أَهْل الْجَنَّة يَطْلُبهُ بِمَظْلِمَةٍ حَتَّى اللَّطْمَة . قَالَ قُلْنَا : كَيْفَ وَإِنَّمَا نَأْتِي اللَّه حُفَاة عُرَاة غُرْلًا . قَالَ : بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَات ) . أَخْرَجَهُ الْحَارِث بْن أَبِي أُسَامَة . وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( أَتَدْرُونَ مَنْ الْمُفْلِس ) ؟ . قَالُوا : الْمُفْلِس فِينَا مَنْ لَا دِرْهَم لَهُ وَلَا مَتَاع . فَقَالَ : ( إِنَّ الْمُفْلِس مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْم الْقِيَامَة بِصَلَاةٍ وَصِيَام وَزَكَاة وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَال هَذَا وَسَفَكَ دَم هَذَا وَضَرَبَ هَذَا فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاته وَهَذَا مِنْ حَسَنَاته فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاته قَبْل أَنْ يَقْضِيَ مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّار ) . وَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ رَجُلًا قُتِلَ فِي سَبِيل اللَّه ثُمَّ أُحْيِي ثُمَّ قُتِلَ ثُمَّ أُحْيِي ثُمَّ قُتِلَ وَعَلَيْهِ دَيْن مَا دَخَلَ الْجَنَّة حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ ) . وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( نَفْس الْمُؤْمِن مُعَلَّقَة مَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْن ) . وَقَالَ أَحْمَد بْن زُهَيْر : سُئِلَ يَحْيَى بْن مَعِين عَنْ هَذَا الْحَدِيث فَقَالَ : هُوَ صَحِيح . فَإِنْ قِيلَ : فَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ بَعْض الشُّهَدَاء لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّة مِنْ حِين الْقَتْل , وَلَا تَكُون أَرْوَاحهمْ فِي جَوْف طَيْر كَمَا ذَكَرْتُمْ , وَلَا يَكُونُونَ فِي قُبُورهمْ , فَأَيْنَ يَكُونُونَ ؟ قُلْنَا : قَدْ وَرَدَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( أَرْوَاح الشُّهَدَاء عَلَى نَهَر بِبَابِ الْجَنَّة يُقَال لَهُ بَارِق يَخْرُج عَلَيْهِمْ رِزْقهمْ مِنْ الْجَنَّة بُكْرَة وَعَشِيًّا ) فَلَعَلَّهُمْ هَؤُلَاءِ . وَاَللَّه أَعْلَم . وَلِهَذَا قَالَ الْإِمَام أَبُو مُحَمَّد بْن عَطِيَّة : وَهَؤُلَاءِ طَبَقَات وَأَحْوَال مُخْتَلِفَة يَجْمَعهَا أَنَّهُمْ | يُرْزَقُونَ | . وَقَدْ أَخْرَجَ الْإِمَام أَبُو عَبْد اللَّه مُحَمَّد بْن يَزِيد بْن مَاجَهْ الْقَزْوِينِيّ فِي سُنَنه عَنْ سُلَيْمِ بْن عَامِر قَالَ : سَمِعْت أَبَا أُمَامَة يَقُول سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( شَهِيد الْبَحْر مِثْل شَهِيدِي الْبَرّ وَالْمَائِد فِي الْبَحْر كَالْمُتَشَحِّطِ فِي دَمه فِي الْبَرّ وَمَا بَيْن الْمَوْجَتَيْنِ كَقَاطِعِ الدُّنْيَا فِي طَاعَة اللَّه وَإِنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وَكَّلَ مَلَك الْمَوْت بِقَبْضِ الْأَرْوَاح إِلَّا شُهَدَاء الْبَحْر فَإِنَّهُ سُبْحَانه يَتَوَلَّى قَبْض أَرْوَاحهمْ وَيَغْفِر لِشَهِيدِ الْبَرّ الذُّنُوب كُلّهَا إِلَّا الدَّيْنَ وَيَغْفِر لِشَهِيدِ الْبَحْر الذُّنُوب كُلّهَا وَالدَّيْن ) .</p><p>الدَّيْن الَّذِي يُحْبَس بِهِ صَاحِبه عَنْ الْجَنَّة - وَاَللَّه أَعْلَم - هُوَ الَّذِي قَدْ تَرَكَ لَهُ وَفَاء وَلَمْ يُوصِ بِهِ . أَوْ قَدَرَ عَلَى الْأَدَاء فَلَمْ يُؤَدِّهِ , أَوْ اِدَّانَهُ فِي سَرَف أَوْ فِي سَفَه وَمَاتَ وَلَمْ يُوَفِّهِ . وَأَمَّا مَنْ اِدَّانَ فِي حَقّ وَاجِب لِفَاقَةٍ وَعُسْر وَمَاتَ وَلَمْ يَتْرُك وَفَاء فَإِنَّ اللَّه لَا يَحْبِسهُ عَنْ الْجَنَّة إِنْ شَاءَ اللَّه ; لِأَنَّ عَلَى السُّلْطَان فَرْضًا أَنْ يُؤَدِّي عَنْهُ دَيْنه , إِمَّا مِنْ جُمْلَة الصَّدَقَات , أَوْ مِنْ سَهْم الْغَارِمِينَ , أَوْ مِنْ الْفَيْء الرَّاجِع عَلَى الْمُسْلِمِينَ . قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا فَعَلَى اللَّه وَرَسُوله وَمَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ ) . وَقَدْ زِدْنَا هَذَا الْبَاب بَيَانًا فِي كِتَاب ( التَّذْكِرَة ) وَالْحَمْد لِلَّهِ .|عِنْدَ رَبِّهِمْ|فِيهِ حَذْف مُضَاف تَقْدِيره عِنْد كَرَامَة رَبّهمْ . و | عِنْد | هُنَا تَقْتَضِي غَايَة الْقُرْب , فَهِيَ كَ ( لَدَى ) وَلِذَلِكَ لَمْ تُصَغَّر فَيُقَال ! عَنِيد ; قَالَ سِيبَوَيْهِ . فَهَذِهِ عِنْدِيَّة الْكَرَامَة لَا عِنْدِيَّة الْمَسَافَة وَالْقُرْب .|يُرْزَقُونَ|هُوَ الرِّزْق الْمَعْرُوف فِي الْعَادَات . وَمَنْ قَالَ : هِيَ حَيَاة الذِّكْر قَالَ : يُرْزَقُونَ الثَّنَاء الْجَمِيل . وَالْأَوَّل الْحَقِيقَة . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ الْأَرْوَاح تُدْرِك فِي تِلْكَ الْحَال الَّتِي يَسْرَحُونَ فِيهَا مِنْ رَوَائِح الْجَنَّة وَطِيبهَا وَنَعِيمهَا وَسُرُورهَا مَا يَلِيق بِالْأَرْوَاحِ ; مِمَّا تُرْتَزَق وَتَنْتَعِش بِهِ . وَأَمَّا اللَّذَّات الْجُسْمَانِيَّة فَإِذَا أُعِيدَتْ تِلْكَ الْأَرْوَاح إِلَى أَجْسَادهَا اِسْتَوْفَتْ مِنْ النَّعِيم جَمِيع مَا أَعَدَّ اللَّه لَهَا . وَهَذَا قَوْل حَسَن , وَإِنْ كَانَ فِيهِ نَوْع مِنْ الْمَجَاز , فَهُوَ الْمُوَافِق لِمَا اِخْتَرْنَاهُ . وَالْمُوَفِّقُ الْإِلَهُ .

فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ

نُصِبَ فِي مَوْضِع الْحَال مِنْ الْمُضْمَر فِي | يُرْزَقُونَ |</p><p>وَيَجُوز فِي الْكَلَام | فَرِحُونَ | عَلَى النَّعْت لِأَحْيَاء . وَهُوَ مِنْ الْفَرَح بِمَعْنَى السُّرُور . وَالْفَضْل فِي هَذِهِ الْآيَة هُوَ النَّعِيم الْمَذْكُور . وَقَرَأَ اِبْن السَّمَيْقَع | فَارِحِينَ | بِالْأَلِفِ وَهُمَا لُغَتَانِ , كَالْفَرِهِ وَالْفَارِه , وَالْحَذِر وَالْحَاذِر , وَالطَّمِع وَالطَّامِع , وَالْبَخِل وَالْبَاخِل . قَالَ النَّحَّاس : وَيَجُوز فِي غَيْر الْقُرْآن رَفْعه , يَكُون نَعْتًا لِأَحْيَاء .|وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ|الْمَعْنَى لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ فِي الْفَضْل , وَإِنْ كَانَ لَهُمْ فَضْل . وَأَصْله مِنْ الْبَشَرَة ; لِأَنَّ الْإِنْسَان إِذَا فَرِحَ ظَهَرَ أَثَر السُّرُور فِي وَجْهه . وَقَالَ السُّدِّيّ . : يُؤْتَى الشَّهِيد بِكِتَابٍ فِيهِ ذِكْر مَنْ يَقْدُم عَلَيْهِ مِنْ إِخْوَانه , فَيَسْتَبْشِر كَمَا يَسْتَبْشِر أَهْل الْغَائِب بِقُدُومِهِ فِي الدُّنْيَا . وَقَالَ قَتَادَة وَابْن جُرَيْج وَالرَّبِيع وَغَيْرهمْ : اِسْتِبْشَارهمْ بِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ : إِخْوَاننَا الَّذِينَ تَرَكْنَا خَلْفنَا فِي الدُّنْيَا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيل اللَّه مَعَ نَبِيّهمْ , فَيُسْتَشْهَدُونَ فَيَنَالُونَ مِنْ الْكَرَامَة مِثْل مَا نَحْنُ فِيهِ ; فَيُسَرُّونَ وَيَفْرَحُونَ لَهُمْ بِذَلِكَ . وَقِيلَ : إِنَّ الْإِشَارَة بِالِاسْتِبْشَارِ لِلَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ إِلَى جَمِيع الْمُؤْمِنِينَ وَإِنْ لَمْ يُقْتَلُوا , وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا عَايَنُوا ثَوَاب اللَّه وَقَعَ الْيَقِين بِأَنَّ دِين الْإِسْلَام هُوَ الْحَقّ الَّذِي يُثِيب اللَّه عَلَيْهِمْ ; فَهُمْ فَرِحُونَ لِأَنْفُسِهِمْ بِمَا آتَاهُمْ اللَّه مِنْ فَضْله , مُسْتَبْشِرُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ لَا خَوْف عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ . ذَهَبَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى الزَّجَّاج وَابْن فُورك .

يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ

أَيْ بِجَنَّةٍ مِنْ اللَّه . وَيُقَال : بِمَغْفِرَةٍ مِنْ اللَّه .|وَفَضْلٍ|هَذَا لِزِيَادَةِ الْبَيَان . وَالْفَضْل دَاخِل فِي النِّعْمَة , وَفِيهِ دَلِيل عَلَى اِتِّسَاعهَا , وَأَنَّهَا لَيْسَتْ كَنِعَمِ الدُّنْيَا . وَقِيلَ : جَاءَ الْفَضْل بَعْد النِّعْمَة عَلَى وَجْه التَّأْكِيد ; رَوَى التِّرْمِذِيّ عَنْ الْمِقْدَام بْن مَعْدِي كَرِبَ قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لِلشَّهِيدِ عِنْد اللَّه سِتّ خِصَال - كَذَا فِي التِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَهْ | سِتّ | , وَهِيَ فِي الْعَدَد سَبْع - يُغْفَر لَهُ فِي أَوَّل دَفْعَة وَيَرَى مَقْعَده مِنْ الْجَنَّة وَيُجَار مِنْ عَذَاب الْقَبْر وَيَأْمَن مِنْ الْفَزَع الْأَكْبَر وَيُوضَع عَلَى رَأْسه تَاج الْوَقَار الْيَاقُوتَة مِنْهَا خَيْر مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا وَيُزَوَّج اِثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ زَوْجَة مِنْ الْحُور الْعِين وَيُشَفَّع فِي سَبْعِينَ مِنْ أَقَارِبه ) قَالَ : هَذَا حَدِيث حَسَن صَحِيح غَرِيب . وَهَذَا تَفْسِير لِلنِّعْمَةِ وَالْفَضْل . وَالْآثَار فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَة . وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِد أَنَّهُ قَالَ : السُّيُوف مَفَاتِيح الْجَنَّة . وَرُوِيَ عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( أَكْرَم اللَّه تَعَالَى الشُّهَدَاء بِخَمْسِ كَرَامَات لَمْ يُكْرِمْ بِهَا أَحَدًا مِنْ الْأَنْبِيَاء وَلَا أَنَا أَحَدهَا أَنَّ جَمِيع الْأَنْبِيَاء قَبَضَ أَرْوَاحهمْ مَلَك الْمَوْت وَهُوَ الَّذِي سَيَقْبِضُ رُوحِي وَأَمَّا الشُّهَدَاء فَاَللَّه هُوَ الَّذِي يَقْبِض أَرْوَاحهمْ بِقُدْرَتِهِ كَيْفَ يَشَاء وَلَا يُسَلِّط عَلَى أَرْوَاحهمْ مَلَك الْمَوْت , وَالثَّانِي أَنَّ جَمِيع الْأَنْبِيَاء قَدْ غُسِّلُوا بَعْد الْمَوْت وَأَنَا أُغَسَّل بَعْد الْمَوْت وَالشُّهَدَاء لَا يُغَسَّلُونَ وَلَا حَاجَة لَهُمْ إِلَى مَاء الدُّنْيَا , وَالثَّالِث أَنَّ جَمِيع الْأَنْبِيَاء قَدْ كُفِّنُوا وَأَنَا أُكَفَّن وَالشُّهَدَاء لَا يُكَفَّنُونَ بَلْ يُدْفَنُونَ فِي ثِيَابهمْ , وَالرَّابِع أَنَّ الْأَنْبِيَاء لَمَّا مَاتُوا سُمُّوا أَمْوَاتًا وَإِذَا مُتّ يُقَال قَدْ مَاتَ وَالشُّهَدَاء لَا يُسَمَّوْنَ مَوْتَى , وَالْخَامِس أَنَّ الْأَنْبِيَاء تُعْطَى لَهُمْ الشَّفَاعَة يَوْم الْقِيَامَة وَشَفَاعَتِي أَيْضًا يَوْم الْقِيَامَة وَأَمَّا الشُّهَدَاء فَإِنَّهُمْ يَشْفَعُونَ فِي كُلّ يَوْم فِيمَنْ يَشْفَعُونَ ) .|وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ|قَرَأَهُ الْكِسَائِيّ بِكَسْرِ الْأَلِف , وَالْبَاقُونَ بِالنَّصْبِ ; فَمَنْ قَرَأَ بِالنَّصْبِ فَمَعْنَاهُ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةِ مِنْ اللَّه وَيَسْتَبْشِرُونَ بِأَنَّ اللَّه لَا يُضِيع أَجْر الْمُؤْمِنِينَ . وَمَنْ قَرَأَ بِالْكَسْرِ فَعَلَى الِابْتِدَاء . وَدَلِيله قِرَاءَة اِبْن مَسْعُود | وَاَللَّه لَا يُضِيع أَجْر الْمُؤْمِنِينَ | .

الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ

| الَّذِينَ | فِي مَوْضِع رَفْع عَلَى الِابْتِدَاء , وَخَبَره | مِنْ بَعْد مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْح | . وَيَجُوز أَنْ يَكُون فِي مَوْضِع خَفْض , بَدَلًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ , أَوْ مِنْ | الَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا | . | اِسْتَجَابُوا | بِمَعْنَى أَجَابُوا وَالسِّين وَالتَّاء زَائِدَتَانِ . وَمِنْهُ قَوْله : <br>فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْد ذَاكَ مُجِيب <br>وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عُرْوَة بْن الزُّبَيْر قَالَ : قَالَتْ لِي عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا : كَانَ أَبُوك مِنْ الَّذِينَ اِسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُول مِنْ بَعْد مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْح . لَفْظ مُسْلِم . وَعَنْهُ عَائِشَة : يَا اِبْن أُخْتِي كَانَ أَبَوَاك - تَعْنِي الزُّبَيْر وَأَبَا بَكْر - مِنْ الَّذِينَ اِسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُول مِنْ بَعْد مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْح . وَقَالَتْ : لَمَّا اِنْصَرَفَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أُحُد وَأَصَابَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ مَا أَصَابَهُمْ خَافَ أَنْ يَرْجِعُوا فَقَالَ : ( مَنْ يَنْتَدِب لِهَؤُلَاءِ حَتَّى يَعْلَمُوا أَنَّ بِنَا قُوَّةً ) قَالَ فَانْتَدَبَ أَبُو بَكْر وَالزُّبَيْر فِي سَبْعِينَ ; فَخَرَجُوا فِي آثَار الْقَوْم , فَسَمِعُوا بِهِمْ وَانْصَرَفُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّه وَفَضْل . وَأَشَارَتْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا إِلَى مَا جَرَى فِي غَزْوَة حَمْرَاء الْأَسَد , وَهِيَ عَلَى نَحْو ثَمَانِيَة أَمْيَال مِنْ الْمَدِينَة ; وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ فِي يَوْم الْأَحَد , وَهُوَ الثَّانِي مِنْ يَوْم أُحُد , نَادَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّاس بِاتِّبَاعِ الْمُشْرِكِينَ , وَقَالَ : ( لَا يَخْرُج مَعَنَا إِلَّا مَنْ شَهِدَهَا بِالْأَمْسِ ) فَنَهَضَ مَعَهُ مِائَتَا رَجُل مِنْ الْمُؤْمِنِينَ . فِي الْبُخَارِيّ فَقَالَ : ( مَنْ يَذْهَب فِي إِثْرهمْ ) فَانْتَدَبَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ رَجُلًا . قَالَ : كَانَ فِيهِمْ أَبُو بَكْر وَالزُّبَيْر عَلَى مَا تَقَدَّمَ , حَتَّى بَلَغَ حَمْرَاء الْأَسَد , مُرْهِبًا لِلْعَدُوِّ ; فَرُبَّمَا كَانَ فِيهِمْ الْمُثْقَل بِالْجِرَاحِ لَا يَسْتَطِيع الْمَشْي وَلَا يَجِد مَرْكُوبًا , فَرُبَّمَا يُحْمَل عَلَى الْأَعْنَاق ; وَكُلّ ذَلِكَ اِمْتِثَال لِأَمْرِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَغْبَة فِي الْجِهَاد . وَقِيلَ : إِنَّ الْآيَة نَزَلَتْ فِي رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي عَبْد الْأَشْهَل كَانَا مُثْخَنَيْنِ بِالْجِرَاحِ ; يَتَوَكَّأ أَحَدهمَا عَلَى صَاحِبه , وَخَرَجَا مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَلَمَّا وَصَلُوا حَمْرَاء الْأَسَد , لَقِيَهُمْ نُعَيْم بْن مَسْعُود فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ أَبَا سُفْيَان بْن حَرْب وَمَنْ مَعَهُ مِنْ قُرَيْش قَدْ جَمَعُوا جُمُوعهمْ , وَأَجْمَعُوا رَأْيهمْ عَلَى أَنْ يَأْتُوا إِلَى الْمَدِينَة فَيَسْتَأْصِلُوا أَهْلهَا ; فَقَالُوا مَا أَخْبَرَنَا اللَّه عَنْهُمْ : | حَسْبنَا اللَّه وَنِعْمَ الْوَكِيل | . وَبَيْنَا قُرَيْش قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى ذَلِكَ إِذْ جَاءَهُمْ مَعْبَد الْخُزَاعِيّ , وَكَانَتْ خُزَاعَة حُلَفَاء النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَيْبَة نُصْحه , وَكَانَ قَدْ رَأَى حَال أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا هُمْ عَلَيْهِ ; وَلَمَّا رَأَى عَزْمَ قُرَيْش عَلَى الرُّجُوع لِيَسْتَأْصِلُوا أَهْل الْمَدِينَة اِحْتَمَلَهُ خَوْف ذَلِكَ , وَخَالَصَ نُصْحه لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابه عَلَى أَنْ خَوَّفَ قُرَيْشًا بِأَنْ قَالَ لَهُمْ : قَدْ تَرَكْت مُحَمَّدًا وَأَصْحَابه بِحَمْرَاء الْأَسَد فِي جَيْش عَظِيم , قَدْ اِجْتَمَعَ لَهُ مَنْ كَانَ تَخَلَّفَ عَنْهُ , وَهُمْ قَدْ تَحَرَّقُوا عَلَيْكُمْ ; فَالنَّجَاء النَّجَاء ! فَإِنِّي أَنْهَاك عَنْ ذَلِكَ , فَوَاَللَّهِ لَقَدْ حَمَلَنِي مَا رَأَيْت أَنْ قُلْت فِيهِ أَبْيَاتًا مِنْ الشِّعْر . قَالَ : وَمَا قُلْت ؟ قَالَ : قُلْت : <br>كَادَتْ تُهَدّ مِنْ الْأَصْوَات رَاحِلَتِي .......... إِذْ سَالَتْ الْأَرْض بِالْجُرْدِ الْأَبَابِيل <br><br>تُرْدِي بِأُسْدٍ كِرَام لَا تَنَابِلَةٌ .......... عِنْد اللِّقَاء وَلَا مِيلٌ مَعَازِيلُ <br><br>فَظَلْت عَدْوًا أَظُنّ الْأَرْضَ مَائِلَةً .......... لَمَّا سَمَوْا بِرَئِيسٍ غَيْرِ مَخْذُول <br><br>فَقُلْت وَيْل اِبْن حَرْبٍ مِنْ لِقَائِكُمُ .......... إِذَا تَغَطْمَطَت الْبَطْحَاءُ بِالْخَيْلِ <br><br>إِنِّي نَذِير لِأَهْلِ الْبَسْلِ ضَاحِيَة .......... لِكُلِّ ذِي إِرْبَة مِنْهُمْ وَمَعْقُولِ <br><br>مِنْ جَيْش أَحْمَد لَا وَخْش قَنَابِله .......... وَلَيْسَ يُوصَف مَا أَنْذَرْتُ بِالْقِيلِ <br>قَالَ : فَثَنَى ذَلِكَ أَبَا سُفْيَان وَمَنْ مَعَهُ , وَقَذَفَ اللَّه فِي قُلُوبهمْ الرُّعْب , وَرَجَعُوا إِلَى مَكَّة خَائِفِينَ مُسْرِعِينَ , وَرَجَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَصْحَابه إِلَى الْمَدِينَة مَنْصُورًا ; كَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى : | فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّه وَفَضْل لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوء | [ آل عِمْرَان : 174 ] أَيْ قِتَال وَرُعْب . وَاسْتَأْذَنَ جَابِر بْن عَبْد اللَّه إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخُرُوج مَعَهُ فَأَذِنَ لَهُ . وَأَخْبَرَهُمْ تَعَالَى أَنَّ الْأَجْر الْعَظِيم قَدْ تَحَصَّلَ لَهُمْ بِهَذِهِ الْقَفْلَة . وَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( إِنَّهَا غَزْوَة ) . هَذَا تَفْسِير الْجُمْهُور لِهَذِهِ الْآيَة . وَشَذَّ مُجَاهِد وَعِكْرِمَة رَحِمَهُمَا اللَّه تَعَالَى فَقَالَا : إِنَّ هَذِهِ الْآيَة مِنْ قَوْله : | الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاس | إِلَى قَوْله : | عَظِيم | [ آل عِمْرَان : 173 - 174 ] إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي خُرُوج النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَدْر الصُّغْرَى . وَذَلِكَ أَنَّهُ خَرَجَ لِمِيعَادِ أَبِي سُفْيَان فِي أُحُد , إِذْ قَالَ : مَوْعِدنَا بَدْر مِنْ الْعَام الْمُقْبِل . فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( قُولُوا نَعَمْ ) فَخَرَجَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِبَلَ بَدْر , وَكَانَ بِهَا سُوق عَظِيم , فَأَعْطَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابه دَرَاهِم ; وَقَرُبَ مِنْ بَدْر فَجَاءَهُ نُعَيْم بْن مَسْعُود الْأَشْجَعِيّ , فَأَخْبَرَهُ أَنَّ قُرَيْشًا قَدْ اِجْتَمَعَتْ وَأَقْبَلَتْ لِحَرْبِهِ هِيَ وَمَنْ اِنْضَافَ إِلَيْهَا , فَأَشْفَقَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ ذَلِكَ , لَكِنَّهُمْ قَالُوا : | حَسْبنَا اللَّه وَنِعْمَ الْوَكِيل | فَصَمَّمُوا حَتَّى أَتَوْا بَدْرًا فَلَمْ يَجِدُوا أَحَدًا , وَوَجَدُوا السُّوق فَاشْتَرَوْا بِدَرَاهِمِهِمْ أُدْمًا وَتِجَارَة , وَانْقَلَبُوا وَلَمْ يَلْقَوْا كَيْدًا , وَرَبِحُوا فِي تِجَارَتهمْ ; فَلِذَلِكَ قَوْل تَعَالَى : | فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّه وَفَضْل | أَيْ وَفَضْل فِي تِلْكَ التِّجَارَات . وَاَللَّه أَعْلَم .

الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ

اِخْتُلِفَ فَقَالَ مُجَاهِد وَمُقَاتِل وَعِكْرِمَة وَالْكَلْبِيّ : هُوَ نُعَيْم بْن مَسْعُود الْأَشْجَعِيّ . وَاللَّفْظ عَامّ وَمَعْنَاهُ خَاصّ ; كَقَوْلِهِ : | أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاس | [ النِّسَاء : 54 ] يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . السُّدِّيّ : هُوَ أَعْرَابِيّ جُعِلَ لَهُ جُعْل عَلَى ذَلِكَ . وَقَالَ اِبْن إِسْحَاق وَجَمَاعَة : يُرِيد النَّاس رَكْب عَبْد الْقَيْس , مَرُّوا بِأَبِي سُفْيَان فَدَسَّهُمْ إِلَى الْمُسْلِمِينَ لِيُثَبِّطُوهُمْ . وَقِيلَ : النَّاس هُنَا الْمُنَافِقُونَ . قَالَ السُّدِّيّ : لَمَّا تَجَهَّزَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابه لِلْمَسِيرِ إِلَى بَدْر الصُّغْرَى لِمِيعَادِ أَبِي سُفْيَان أَتَاهُمْ الْمُنَافِقُونَ وَقَالُوا : نَحْنُ أَصْحَابكُمْ الَّذِينَ نَهَيْنَاكُمْ عَنْ الْخُرُوج إِلَيْهِمْ وَعَصَيْتُمُونَا , وَقَدْ قَاتَلُوكُمْ فِي دِيَاركُمْ وَظَفِرُوا ; فَإِنْ أَتَيْتُمُوهُمْ فِي دِيَارهمْ فَلَا يَرْجِع مِنْكُمْ أَحَد . فَقَالُوا : | حَسْبنَا اللَّه وَنِعْمَ الْوَكِيل | . وَقَالَ أَبُو مَعْشَر : دَخَلَ نَاس مِنْ هُذَيْل مِنْ أَهْل تِهَامَة الْمَدِينَة , فَسَأَلَهُمْ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَبِي سُفْيَان فَقَالُوا :|إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ|جُمُوعًا كَثِيرَة|فَاخْشَوْهُمْ|أَيْ فَخَافُوهُمْ وَاحْذَرُوهُمْ ; فَإِنَّهُ لَا طَاقَة لَكُمْ بِهِمْ . فَالنَّاس عَلَى هَذِهِ الْأَقْوَال عَلَى بَابه مِنْ الْجَمْع . وَاَللَّه أَعْلَم .|فَزَادَهُمْ إِيمَانًا|أَيْ فَزَادَهُمْ قَوْل النَّاس إِيمَانًا , أَيْ تَصْدِيقًا وَيَقِينًا فِي دِينهمْ , وَإِقَامَة عَلَى نُصْرَتهمْ , وَقُوَّة وَجَرَاءَة وَاسْتِعْدَادًا . فَزِيَادَة الْإِيمَان عَلَى هَذَا هِيَ فِي الْأَعْمَال . وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي زِيَادَة الْإِيمَان وَنُقْصَانه عَلَى أَقْوَال . وَالْعَقِيدَة فِي هَذَا عَلَى أَنَّ نَفْس الْإِيمَان الَّذِي هُوَ تَاج وَاحِد , وَتَصْدِيق وَاحِد بِشَيْءٍ مَا , إِنَّمَا هُوَ مَعْنًى فَرْد , لَا يَدْخُل مَعَهُ زِيَادَة إِذَا حَصَلَ , وَلَا يَبْقَى مِنْهُ شَيْء إِذَا زَالَ ; فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ تَكُون الزِّيَادَة وَالنُّقْصَان فِي مُتَعَلَّقَاته دُون ذَاته . فَذَهَبَ جَمْع مِنْ الْعُلَمَاء إِلَى أَنَّهُ يَزِيد وَيَنْقُص مِنْ حَيْثُ الْأَعْمَال الصَّادِرَة عَنْهُ , لَا سِيَّمَا أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْعُلَمَاء يُوقِعُونَ اِسْم الْإِيمَان عَلَى الطَّاعَات ; لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( الْإِيمَان بِضْع وَسَبْعُونَ بَابًا فَأَعْلَاهَا قَوْل لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَأَدْنَاهَا إِمَاطَة الْأَذَى عَنْ الطَّرِيق ) أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ , وَزَادَ مُسْلِم ( وَالْحَيَاء شُعْبَة مِنْ الْإِيمَان ) وَفِي حَدِيث عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : إِنَّ الْإِيمَان لَيَبْدُو لُمَظَة بَيْضَاء فِي الْقَلْب , كُلَّمَا ازْدَادَ الْإِيمَان اِزْدَادَتْ اللُّمَظَة . وَقَوْله | لُمَظَة | قَالَ الْأَصْمَعِيّ : اللُّمَظَة مِثْل النُّكْتَة وَنَحْوهَا مِنْ الْبَيَاض ; وَمِنْهُ قِيلَ : فَرَس أَلْمَظ , إِذَا كَانَ بِجَحْفَلَتِهِ شَيْء مِنْ بَيَاض . وَالْمُحَدِّثُونَ يَقُولُونَ | لَمَظَة | بِالْفَتْحِ . وَأَمَّا كَلَام الْعَرَب فَبِالضَّمِّ ; مِثْل شُبْهَة وَدُهْمَة وَخُمْرَة . وَفِيهِ حُجَّة عَلَى مَنْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُون الْإِيمَان يَزِيد وَيَنْقُص . أَلَا تَرَاهُ يَقُول : كُلَّمَا اِزْدَادَ الْإِيمَان اِزْدَادَتْ اللُّمَظَة حَتَّى يَبْيَضّ الْقَلْب كُلّه . وَكَذَلِكَ النِّفَاق يَبْدُو لُمَظَة سَوْدَاء فِي الْقَلْب كُلَّمَا اِزْدَادَ النِّفَاق اِسْوَدَّ الْقَلْب حَتَّى يَسْوَدّ الْقَلْب كُلّه . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إِنَّ الْإِيمَان عَرَض , وَهُوَ لَا يَثْبُت زَمَانَيْنِ ; فَهُوَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلصُّلَحَاءِ مُتَعَاقِب , فَيَزِيد بِاعْتِبَارِ تَوَالِي أَمْثَاله عَلَى قَلْب الْمُؤْمِن , وَبِاعْتِبَارِ دَوَام حُضُوره . وَيَنْقُص بِتَوَالِي الْغَفَلَات عَلَى قَلْب الْمُؤْمِن . أَشَارَ إِلَى هَذَا أَبُو الْمَعَالِي . وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُود فِي حَدِيث الشَّفَاعَة , حَدِيث أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ أَخْرَجَهُ مُسْلِم . وَفِيهِ : ( فَيَقُول الْمُؤْمِنُونَ يَا رَبّنَا إِخْوَاننَا كَانُوا يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَحُجُّونَ فَقَالَ لَهُمْ أَخْرِجُوا مَنْ عَرَفْتُمْ فَتُحَرَّم صُوَرهمْ عَلَى النَّار فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا قَدْ أَخَذَتْ النَّار إِلَى نِصْف سَاقَيْهِ وَإِلَى رُكْبَتَيْهِ ثُمَّ يَقُولُونَ رَبّنَا مَا بَقِيَ فِيهَا أَحَد مِمَّنْ أَمَرْتنَا بِهِ فَيَقُول اِرْجِعُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبه مِثْقَال دِينَار مِنْ خَيْر فَأَخْرِجُوهُ فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا ثُمَّ يَقُولُونَ رَبّنَا لَمْ نَذَر فِيهَا أَحَدًا مِمَّنْ أَمَرْتنَا ثُمَّ يَقُول اِرْجِعُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبه مِثْقَال نِصْف دِينَار مِنْ خَيْر فَأَخْرِجُوهُ فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا ثُمَّ يَقُولُونَ رَبّنَا لَمْ نَذَر فِيهَا مِمَّنْ أَمَرْتنَا أَحَدَأ ثُمَّ يَقُول اِرْجِعُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبه مِثْقَال ذَرَّة مِنْ خَيْر فَأَخْرِجُوهُ ) وَذَكَرَ الْحَدِيث . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ الْمُرَاد بِالْإِيمَانِ فِي هَذَا الْحَدِيث أَعْمَال الْقُلُوب ; كَالنِّيَّةِ وَالْإِخْلَاص وَالْخَوْف وَالنَّصِيحَة وَشَبَه ذَلِكَ . وَسَمَّاهَا إِيمَانًا لِكَوْنِهَا فِي مَحَلّ الْإِيمَان أَوْ عُنِيَ بِالْإِيمَانِ , عَلَى عَادَة الْعَرَب فِي تَسْمِيَة الشَّيْء بِاسْمِ الشَّيْء إِذَا جَاوَرَهُ , أَوْ كَانَ مِنْهُ بِسَبَبٍ . دَلِيل هَذَا التَّأْوِيل قَوْل الشَّافِعِيّ بَعْد إِخْرَاج مَنْ كَانَ فِي قَلْبه مِثْقَال ذَرَّة مِنْ خَيْر : ( لَمْ نَذَر فِيهَا خَيْرًا ) مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى يُخْرِج بَعْد ذَلِكَ جُمُوعًا كَثِيرَة مِمَّنْ يَقُول لَا إِلَه إِلَّا اللَّه , وَهُمْ مُؤْمِنُونَ قَطْعًا ; وَلَوْ لَمْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ لَمَا أَخْرَجَهُمْ . ثُمَّ إِنَّ عَدَم الْوُجُود الْأَوَّل الَّذِي يُرَكَّب عَلَيْهِ الْمِثْل لَمْ تَكُنْ زِيَادَة وَلَا نُقْصَان . وَقَدْر ذَلِكَ فِي الْحَرَكَة . فَإِنَّ اللَّه سُبْحَانه إِذَا خَلَقَ عِلْمًا فَرْدًا وَخَلَقَ مَعَهُ مِثْله أَوْ أَمْثَاله بِمَعْلُومَاتٍ فَقَدْ زَادَ عِلْمه ; فَإِنْ أَعْدَمَ اللَّه الْأَمْثَال فَقَدْ نَقَصَ , أَيْ زَالَتْ الزِّيَادَة . وَكَذَلِكَ إِذَا خَلَقَ حَرَكَة وَخَلَقَ مَعَهَا مِثْلهَا أَوْ أَمْثَالهَا . وَذَهَبَ قَوْم مِنْ الْعُلَمَاء إِلَى أَنَّ زِيَادَة الْإِيمَان وَنَقْصه إِنَّمَا هُوَ طَرِيق الْأَدِلَّة , فَتَزِيد الْأَدِلَّة عِنْد وَاحِد فَيُقَال فِي ذَلِكَ : إِنَّهَا زِيَادَة فِي الْإِيمَان ; وَبِهَذَا الْمَعْنَى - عَلَى أَحَد الْأَقْوَال - فُضِّلَ الْأَنْبِيَاء عَلَى الْخَلْق , فَإِنَّهُمْ عَلِمُوهُ مِنْ وُجُوه كَثِيرَة , أَكْثَر مِنْ الْوُجُوه الَّتِي عَلِمَهُ الْخَلْق بِهَا . وَهَذَا الْقَوْل خَارِج عَنْ مُقْتَضَى الْآيَة ; إِذْ لَا يُتَصَوَّر أَنْ تَكُون الزِّيَادَة فِيهَا مِنْ جِهَة الْأَدِلَّة . وَذَهَبَ قَوْم : إِلَى أَنَّ الزِّيَادَة فِي الْإِيمَان إِنَّمَا هِيَ بِنُزُولِ الْفَرَائِض وَالْأَخْبَار فِي مُدَّة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَفِي الْمَعْرِفَة بِهَا بَعْد الْجَهْل غَابِر الدَّهْر . وَهَذَا إِنَّمَا هُوَ زِيَادَة إِيمَان ; فَالْقَوْل فِيهِ إِنَّ الْإِيمَان يَزِيد قَوْل مَجَازِيّ , وَلَا يُتَصَوَّر فِيهِ النَّقْص عَلَى هَذَا الْحَدّ , وَإِنَّمَا يُتَصَوَّر بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَنْ عَلِمَ . فَاعْلَمْ .|وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ|أَيْ كَافِينَا اللَّه . وَحَسْب مَأْخُوذ مِنْ الْإِحْسَاب , وَهُوَ الْكِفَايَة . قَالَ الشَّاعِر : <br>فَتَمْلَأ بَيْتنَا إِقْطًا وَسَمْنًا .......... وَحَسْبك مِنْ غِنًى شِبَعٌ وَرِيُّ <br>رَوَى الْبُخَارِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى : | الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاس إِنَّ النَّاس قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ - إِلَى قَوْله : - وَقَالُوا حَسْبنَا اللَّه وَنِعْمَ الْوَكِيل | قَالَهَا إِبْرَاهِيم الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَام حِين أُلْقِيَ فِي النَّار . وَقَالَهَا مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِين قَالَ لَهُمْ النَّاس : إِنَّ النَّاس قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ . وَاَللَّه أَعْلَم .

فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ

قَالَ عُلَمَاؤُنَا : لَمَّا فَوَّضُوا أُمُورهمْ إِلَيْهِ , وَاعْتَمَدُوا بِقُلُوبِهِمْ عَلَيْهِ , أَعْطَاهُمْ مِنْ الْجَزَاء أَرْبَعَة مَعَانٍ : النِّعْمَة , وَالْفَضْل , وَصَرْف السُّوء , وَاتِّبَاع الرِّضَا . فَرَضَّاهُمْ عَنْهُ , وَرَضِيَ عَنْهُمْ .

إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ

قَالَ اِبْن عَبَّاس وَغَيْره : الْمَعْنَى يُخَوِّفكُمْ أَوْلِيَاءَهُ ; أَيْ بِأَوْلِيَائِهِ , أَوْ مِنْ أَوْلِيَائِهِ ; فَحَذَفَ حَرْف الْجَرّ وَوَصَلَ الْفِعْل إِلَى الِاسْم فَنَصَبَ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : | لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا | [ الْكَهْف : 2 ] أَيْ لِيُنْذَركُمْ بِبَأْسٍ شَدِيد ; أَيْ يُخَوِّف الْمُؤْمِن بِالْكَافِرِ . وَقَالَ الْحَسَن وَالسُّدِّيّ : الْمَعْنَى يُخَوِّف أَوْلِيَاءَهُ الْمُنَافِقِينَ ; لِيَقْعُدُوا عَنْ قِتَال الْمُشْرِكِينَ . فَأَمَّا أَوْلِيَاء اللَّه فَإِنَّهُمْ لَا يَخَافُونَهُ إِذَا خَوَّفَهُمْ . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ الْمُرَاد هَذَا الَّذِي يُخَوِّفكُمْ بِجَمْعِ الْكُفَّار شَيْطَان مِنْ شَيَاطِين الْإِنْس ; إِمَّا نُعَيْم بْن مَسْعُود أَوْ غَيْره , عَلَى الْخِلَاف فِي ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ .|فَلَا تَخَافُوهُمْ|أَيْ لَا تَخَافُوا الْكَافِرِينَ الْمَذْكُورِينَ فِي قَوْله : | إِنَّ النَّاس قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ | . أَوْ يَرْجِع إِلَى الْأَوْلِيَاء إِنْ قُلْت : إِنَّ الْمَعْنَى يُخَوِّف بِأَوْلِيَائِهِ أَيْ يُخَوِّفكُمْ أَوْلِيَاءَهُ .|وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ|أَيْ خَافُونِي فِي تَرْك أَمْرِي إِنْ كُنْتُمْ مُصَدِّقِينَ بِوَعْدِي . وَالْخَوْف فِي كَلَام الْعَرَب الذُّعْر . وَخَاوَفَنِي فُلَان فَخِفْته , أَيْ كُنْت أَشَدّ خَوْفًا مِنْهُ . وَالْخَوْفَاء الْمَفَازَة لَا مَاء بِهَا . وَيُقَال : نَاقَة خَوْفَاء وَهِيَ الْجَرْبَاء . وَالْخَافَة كَالْخَرِيطَةِ مِنْ الْأَدَم يُشْتَار فِيهَا الْعَسَل . قَالَ سَهْل بْن عَبْد اللَّه : اِجْتَمَعَ بَعْض الصِّدِّيقِينَ إِلَى إِبْرَاهِيم الْخَلِيل فَقَالُوا : مَا الْخَوْف ؟ فَقَالَ : لَا تَأْمَن حَتَّى تَبْلُغ الْمَأْمَن . قَالَ سَهْل : وَكَانَ الرَّبِيع بْن خَيْثَم إِذَا مَرَّ بِكِيرٍ يُغْشَى عَلَيْهِ ; فَقِيلَ لِعَلِيِّ بْن أَبِي طَالِب ذَلِكَ ; فَقَالَ : إِذَا أَصَابَهُ ذَلِكَ فَأَعْلِمُونِي . فَأَصَابَهُ فَأَعْلَمُوهُ , فَجَاءَهُ فَأَدْخَلَ يَده فِي قَمِيصه فَوَجَدَ حَرَكَته عَالِيَة فَقَالَ : أَشْهَد أَنَّ هَذَا أَخْوَف أَهْل زَمَانكُمْ . فَالْخَائِف مِنْ اللَّه تَعَالَى هُوَ أَنْ يَخَاف أَنْ يُعَاقِبهُ إِمَّا فِي الدُّنْيَا وَإِمَّا فِي الْآخِرَة ; وَلِهَذَا قِيلَ : لَيْسَ الْخَائِف الَّذِي يَبْكِي وَيَمْسَح عَيْنَيْهِ , بَلْ الْخَائِف الَّذِي يَتْرُك مَا يَخَاف أَنْ يُعَذَّب عَلَيْهِ . فَفَرَضَ اللَّه تَعَالَى عَلَى الْعِبَاد أَنْ يَخَافُوهُ فَقَالَ : وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَقَالَ : | وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ | . وَمَدَحَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْخَوْفِ فَقَالَ : | يَخَافُونَ رَبّهمْ مِنْ فَوْقهمْ | [ النَّحْل : 50 ] . وَلِأَرْبَابِ الْإِشَارَات فِي الْخَوْف عِبَارَات مَرْجِعهَا إِلَى مَا ذَكَرْنَا . قَالَ الْأُسْتَاذ أَبُو عَلِيّ الدَّقَّاق : دَخَلَتْ عَلَى أَبِي بَكْر بْن فُورك رَحِمَهُ اللَّه عَائِدًا , فَلَمَّا رَآنِي دَمَعَتْ عَيْنَاهُ , فَقُلْت لَهُ : إِنَّ اللَّه يُعَافِيك وَيَشْفِيك . فَقَالَ لِي : أَتَرَى أَنِّي أَخَاف مِنْ الْمَوْت ؟ إِنَّمَا أَخَاف مِمَّا وَرَاء الْمَوْت . وَفِي سُنَن اِبْن مَاجَهْ عَنْ أَبِي ذَرّ قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ وَأَسْمَع مَا لَا تَسْمَعُونَ أَطَّتْ السَّمَاء وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطّ مَا فِيهَا مَوْضِع أَرْبَع أَصَابِع إِلَّا وَمَلَك وَاضِع جَبْهَته سَاجِدًا لِلَّهِ وَاَللَّه لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَم لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا وَمَا تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْفُرُشَات وَلَخَرَجْتُمْ إِلَى الصُّعُدَات تَجْأَرُونَ إِلَى اللَّه وَاَللَّهِ لَوَدِدْت أَنِّي كُنْت شَجَرَة تُعْضَد | . خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيّ وَقَالَ : حَدِيث حَسَن غَرِيب . وَيُرْوَى مِنْ غَيْر هَذَا الْوَجْه أَنَّ أَبَا ذَرّ قَالَ : ( لَوَدِدْت أَنِّي كُنْت شَجَرَة تُعْضَد ) . وَاَللَّه أَعْلَم .

وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ

هَؤُلَاءِ قَوْم أَسْلَمُوا ثُمَّ اِرْتَدُّوا خَوْفًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ ; فَاغْتَمَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : | وَلَا يَحْزُنك الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْر | . وَقَالَ الْكَلْبِيّ : يَعْنِي بِهِ الْمُنَافِقِينَ وَرُؤَسَاء الْيَهُود ; كَتَمُوا صِفَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْكِتَاب فَنَزَلَتْ . وَيُقَال : إِنَّ أَهْل الْكِتَاب لَمَّا لَمْ يُؤْمِنُوا شَقَّ ذَلِكَ عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; لِأَنَّ النَّاس يَنْظُرُونَ إِلَيْهِمْ وَيَقُولُونَ إِنَّهُمْ أَهْل كِتَاب ; فَلَوْ كَانَ قَوْله حَقًّا لَاتَّبَعُوهُ , فَنَزَلَتْ | وَلَا يَحْزُنك | . قِرَاءَة نَافِع بِضَمِّ الْيَاء وَكَسْر الزَّاي حَيْثُ وَقَعَ إِلَّا فِي - الْأَنْبِيَاء - | لَا يَحْزُنهُمْ الْفَزَع الْأَكْبَر | فَإِنَّهُ بِفَتْحِ الْيَاء وَبِضَمِّ الزَّاي . وَضِدّه أَبُو جَعْفَر . وَقَرَأَ اِبْن مُحَيْصِن كُلّهَا بِضَمِّ الْيَاء وَكَسْر الزَّاي . وَالْبَاقُونَ كُلّهَا بِفَتْحِ الْيَاء وَضَمّ الزَّاي . وَهُمَا لُغَتَانِ : حَزَنَنِي الْأَمْر يَحْزُننِي , وَأَحْزَنَنِي أَيْضًا وَهِيَ لُغَة قَلِيلَة ; وَالْأُولَى أَفْصَح اللُّغَتَيْنِ ; قَالَهُ النَّحَّاس . وَقَالَ الشَّاعِر فِي أَحْزَن : <br>مَضَى صَحْبِي وَأَحْزَنَنِي الدِّيَار <br>وَقِرَاءَة الْعَامَّة | يُسَارِعُونَ | . وَقَرَأَ طَلْحَة | يُسْرِعُونَ فِي الْكُفْر | . قَالَ الضَّحَّاك : هُمْ كُفَّار قُرَيْش . وَقَالَ غَيْره : هُمْ الْمُنَافِقُونَ . وَقِيلَ : هُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ قَبْل . وَقِيلَ : هُوَ عَامّ فِي جَمِيع الْكُفَّار . وَمُسَارَعَتهمْ فِي الْكُفْر الْمُظَاهَرَة عَلَى مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قَالَ الْقُشَيْرِيّ : وَالْحُزْن عَلَى كُفْر الْكَافِر طَاعَة ; وَلَكِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُفْرِط فِي الْحُزْن عَلَى كُفْر قَوْمه , فَنُهِيَ عَنْ ذَلِكَ ; كَمَا قَالَ : | فَلَا تُذْهِب نَفْسك عَلَيْهِمْ حَسَرَات | [ فَاطِر : 8 ] وَقَالَ : | فَلَعَلَّك بَاخِع نَفْسك عَلَى آثَارهمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيث أَسَفًا | [ الْكَهْف : 6 ] .|إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا|أَيْ لَا يَنْقُصُونَ مِنْ مُلْك اللَّه وَسُلْطَانه شَيْئًا ; يَعْنِي لَا يَنْقُص بِكُفْرِهِمْ . وَكَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي ذَرّ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَى عَنْ اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ : ( يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْت الظُّلْم عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْته بَيْنكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا . يَا عِبَادِي كُلّكُمْ ضَالّ إِلَّا مَنْ هَدَيْته فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ . يَا عِبَادِي كُلّكُمْ جَائِع إِلَّا مَنْ أَطْعَمْته فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمكُمْ . يَا عِبَادِي كُلّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْته فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ . يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَار وَأَنَا أَغْفِر الذُّنُوب جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِر لَكُمْ . يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي . يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلكُمْ وَآخِركُمْ وَإِنْسكُمْ وَجِنّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْب رَجُل وَاحِد مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا . يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلكُمْ وَآخِركُمْ وَإِنْسكُمْ وَجِنّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَر قَلْب رَجُل وَاحِد مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا . يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلكُمْ وَآخِركُمْ وَإِنْسكُمْ وَجِنّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيد وَاحِد فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْت كُلّ إِنْسَان مَسْأَلَته مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْر . يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّه وَمَنْ وَجَدَ غَيْر ذَلِكَ فَلَا يَلُومَن إِلَّا نَفْسه ) . خَرَّجَهُ مُسْلِم فِي صَحِيحه وَالتِّرْمِذِيّ وَغَيْرهمَا , وَهُوَ حَدِيث عَظِيم فِيهِ طُول يُكْتَب كُلّه . وَقِيلَ : مَعْنَى | لَنْ يَضُرُّوا اللَّه شَيْئًا | أَيْ لَنْ يَضُرُّوا أَوْلِيَاء اللَّه حِين تَرَكُوا نَصْرهمْ إِذْ كَانَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ نَاصِرهمْ .|يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ|أَيْ نَصِيبًا .</p><p>وَالْحَظّ النَّصِيب وَالْجِدّ . يُقَال : فُلَان أَحَظُّ مِنْ فُلَان , وَهُوَ مَحْظُوظ . وَجَمْع الْحَظّ أَحَاظٍ عَلَى غَيْر قِيَاس . قَالَ أَبُو زَيْد : يُقَال رَجُل حَظِيظ , أَيْ جَدِيد إِذَا كَانَ ذَا حَظّ مِنْ الرِّزْق . وَحَظِظْت فِي الْأَمْر أَحَظّ . وَرُبَّمَا جُمِعَ الْحَظّ أَحُظًّا . أَيْ لَا يَجْعَل لَهُمْ نَصِيبًا فِي الْجَنَّة . وَهُوَ نَصّ فِي أَنَّ الْخَيْر وَالشَّرّ بِإِرَادَةِ اللَّه تَعَالَى .

إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ

قَالَ الْفَرَّاء : أَيْ اِشْتَرَوْا أَنْفُسهمْ بِأَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّه . فَاشْتَرَى بِمَعْنَى بَاعَ وَبِمَعْنَى اِبْتَاعَ ; وَالْمَعْنَى : بِئْسَ الشَّيْء الَّذِي اِخْتَارُوا لِأَنْفُسِهِمْ حَيْثُ اِسْتَبْدَلُوا الْبَاطِل بِالْحَقِّ , وَالْكُفْر بِالْإِيمَانِ .|لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ|كُرِّرَ لِلتَّأْكِيدِ . وَقِيلَ : أَيْ مِنْ سُوء تَدْبِيره اِسْتِبْدَال الْإِيمَان بِالْكُفْرِ وَبَيْعه بِهِ ; فَلَا يَخَاف جَانِبه وَلَا تَدْبِير . وَانْتَصَبَ | شَيْئًا | فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِوُقُوعِهِ مَوْقِع الْمَصْدَر ; كَأَنَّهُ قَالَ : لَنْ يَضُرُّوا اللَّه ضَرَرًا قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا . وَيَجُوز اِنْتِصَابه عَلَى تَقْدِير حَذْف الْبَاء ; كَأَنَّهُ قَالَ : لَنْ يَضُرُّوا اللَّه بِشَيْءٍ .

وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ

الْإِمْلَاء طُول الْعُمْر وَرَغَد الْعَيْش . وَالْمَعْنَى : لَا يَحَسَبَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُخَوِّفُونَ الْمُسْلِمِينَ ; فَإِنَّ اللَّه قَادِر عَلَى إِهْلَاكهمْ , وَإِنَّمَا يَطُول أَعْمَارهمْ لِيَعْمَلُوا بِالْمَعَاصِي , لَا لِأَنَّهُ خَيْر لَهُمْ . وَيُقَال : | أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ | بِمَا أَصَابُوا مِنْ الظَّفَر يَوْم أُحُد لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ خَيْرًا لِأَنْفُسِهِمْ ; وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِيَزْدَادُوا عُقُوبَة . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن مَسْعُود أَنَّهُ قَالَ : مَا مِنْ أَحَد بَرّ وَلَا فَاجِر إِلَّا وَالْمَوْت خَيْر لَهُ ; لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ بَرًّا فَقَدْ قَالَ اللَّه تَعَالَى : | وَمَا عِنْد اللَّه خَيْر لِلْأَبْرَارِ | [ آل عِمْرَان : 198 ] وَإِنْ كَانَ فَاجِرًا فَقَدْ قَالَ اللَّه : إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَقَرَأَ اِبْن عَامِر وَعَاصِم | لَا يَحَسَبَنَّ | بِالْيَاءِ وَنَصْب السِّين . وَقَرَأَ حَمْزَة : بِالتَّاءِ وَنَصْب السِّين . وَالْبَاقُونَ : بِالْيَاءِ وَكَسْر السِّين . فَمَنْ قَرَأَ بِالْيَاءِ فَاَلَّذِينَ فَاعِلُونَ . أَيْ فَلَا يَحَسَبَنَّ الْكُفَّار . و | أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْر لِأَنْفُسِهِمْ | تَسُدّ مَسَدّ الْمَفْعُولَيْنِ . و | مَا | بِمَعْنَى الَّذِي , وَالْعَائِد مَحْذُوف , و | خَيْر | خَبَر | أَنَّ | . وَيَجُوز أَنْ تُقَدَّر | مَا | وَالْفِعْل مَصْدَرًا ; وَالتَّقْدِير وَلَا يَحَسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ إِمْلَاءَنَا لَهُمْ خَيْر لِأَنْفُسِهِمْ . وَمَنْ قَرَأَ بِالتَّاءِ فَالْفِعْل هُوَ الْمُخَاطَب , وَهُوَ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . و | الَّذِينَ | نُصِبَ عَلَى الْمَفْعُول الْأَوَّل لِتَحْسَب . وَأَنَّ وَمَا بَعْدهَا بَدَل مِنْ الَّذِينَ , وَهِيَ تَسُدّ مَسَدّ الْمَفْعُولَيْنِ , كَمَا تَسُدّ لَوْ لَمْ تَكُنْ بَدَلًا . وَلَا يَصْلُح أَنْ تَكُون | أَنَّ | وَمَا بَعْدهَا مَفْعُولًا ثَانِيًا لِتَحْسَب ; لِأَنَّ الْمَفْعُول الثَّانِي فِي هَذَا الْبَاب هُوَ الْأَوَّل فِي الْمَعْنَى ; لِأَنَّ حَسِبَ وَأَخَوَاتهَا دَاخِلَة عَلَى الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر ; فَيَكُون التَّقْدِير ; وَلَا تَحْسَبَنَّ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْر . هَذَا قَوْل الزَّجَّاج . وَقَالَ أَبُو عَلِيّ : لَوْ صَحَّ هَذَا لَقَالَ | خَيْرًا | بِالنَّصْبِ ; لِأَنَّ | أَنَّ | تَصِير بَدَلًا مِنْ | الَّذِينَ كَفَرُوا | ; فَكَأَنَّهُ قَالَ : لَا تَحْسَبَنَّ إِمْلَاء الَّذِينَ كَفَرُوا خَيْرًا ; فَقَوْله | خَيْرًا | هُوَ الْمَفْعُول الثَّانِي لِحَسِبَ . فَإِذًا لَا يَجُوز أَنْ يُقْرَأ | لَا تَحْسَبَنَّ | بِالتَّاءِ إِلَّا أَنْ تُكْسَر | إِنَّ فِي | أَنَّمَا | وَتُنْصَب خَيْرًا , وَلَمْ يُرْوَ ذَلِكَ عَنْ حَمْزَة , وَالْقِرَاءَة عَنْ حَمْزَة بِالتَّاءِ ; فَلَا تَصِحّ هَذِهِ الْقِرَاءَة إِذًا . وَقَالَ الْفَرَّاء وَالْكِسَائِيّ : قِرَاءَة حَمْزَة جَائِزَة عَلَى التَّكْرِير ; تَقْدِيره وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِي كَفَرُوا , وَلَا تَحْسَبَنَّ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرًا , فَسَدَّتْ | أَنَّ | مَسَدّ الْمَفْعُولَيْنِ لِتَحْسَب الثَّانِي , وَهِيَ وَمَا عَمِلَتْ مَفْعُول ثَانٍ لِتَحْسَب الْأَوَّل . قَالَ الْقُشَيْرِيّ : وَهَذَا قَرِيب مِمَّا ذَكَرَهُ الزَّجَّاج فِي دَعْوَى الْبَدَل , وَالْقِرَاءَة صَحِيحَة . فَإِذًا غَرَض أَبِي عَلِيّ تَغْلِيط الزَّجَّاج . قَالَ النَّحَّاس : وَزَعَمَ أَبُو حَاتِم أَنَّ قِرَاءَة حَمْزَة بِالتَّاءِ هُنَا , وَقَوْله : | وَلَا يَحَسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ | [ آل عِمْرَان : 180 ] لَحْن لَا يَجُوز . وَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ جَمَاعَة . قُلْت : وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ ; لِمَا تَقَدَّمَ بَيَانه مِنْ الْإِعْرَاب , وَلِصِحَّةِ الْقِرَاءَة وَثُبُوتهَا نَقْلًا . وَقَرَأَ يَحْيَى بْن وَثَّاب | إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ | بِكَسْرِ إِنَّ فِيهِمَا جَمِيعًا . قَالَ أَبُو جَعْفَر : وَقِرَاءَة يُحْيِي حَسَنَة . كَمَا تَقُول : حَسِبْتُ عَمْرًا أَبُوهُ خَالِد . قَالَ أَبُو حَاتِم وَسَمِعْت الْأَخْفَش يَذْكُر كَسْر | إِنَّ | يَحْتَجّ بِهِ لِأَهْلِ الْقَدَر ; لِأَنَّهُ كَانَ مِنْهُمْ . وَيَجْعَل عَلَى التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير | وَلَا يَحَسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْر لِأَنْفُسِهِمْ | . قَالَ : وَرَأَيْت فِي مُصْحَف فِي الْمَسْجِد الْجَامِع قَدْ زَادُوا فِيهِ حَرْفًا فَصَارَ | إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ إِيمَانًا | فَنَظَرَ إِلَيْهِ يَعْقُوب الْقَارِئ فَتَبَيَّنَ اللَّحْن فَحَكَّهُ . وَالْآيَة نَصّ فِي بُطْلَان مَذْهَب الْقَدَرِيَّة ; لِأَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ يُطِيل أَعْمَارهمْ لِيَزْدَادُوا الْكُفْر بِعَمَلِ الْمَعَاصِي , وَتَوَالِي أَمْثَاله عَلَى الْقَلْب . كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانه فِي ضِدّه وَهُوَ الْإِيمَان . وَعَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : مَا مِنْ بَرّ وَلَا فَاجِر إِلَّا وَالْمَوْت خَيْر لَهُ ثُمَّ تَلَا | إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا لَهُمْ إِثْمًا | وَتَلَا | وَمَا عِنْد اللَّه خَيْر لِلْأَبْرَارِ | أَخْرَجَهُ رَزِين .

مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن

قَالَ أَبُو الْعَالِيَة : سَأَلَ الْمُؤْمِنُونَ أَنْ يُعْطَوْا عَلَامَة يُفَرِّقُونَ بِهَا بَيْن الْمُؤْمِن وَالْمُنَافِق ; فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ مَا كَانَ اللَّه لِيَذَر الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ الْآيَة . وَاخْتَلَفُوا مَنْ الْمُخَاطَب بِالْآيَةِ عَلَى أَقْوَال . فَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَالضَّحَّاك وَمُقَاتِل وَالْكَلْبِيّ وَأَكْثَر الْمُفَسِّرِينَ : الْخِطَاب لِلْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ . أَيْ مَا كَانَ اللَّه لِيَذَر الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْكُفْر وَالنِّفَاق وَعَدَاوَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قَالَ الْكَلْبِيّ : إِنَّ قُرَيْشًا مِنْ أَهْل مَكَّة قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الرَّجُل مِنَّا تَزْعُم أَنَّهُ فِي النَّار , وَأَنَّهُ إِذَا تَرَكَ دِيننَا وَاتَّبَعَ دِينك قُلْت هُوَ مِنْ أَهْل الْجَنَّة ! فَأَخْبِرْنَا عَنْ هَذَا مِنْ أَيْنَ هُوَ ؟ وَأَخْبِرْنَا مَنْ يَأْتِيك مِنَّا ؟ وَمَنْ لَمْ يَأْتِك ؟ . فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ | مَا كَانَ اللَّه لِيَذَر الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ | مِنْ الْكُفْر وَالنِّفَاق .|حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ|وَقِيلَ : هُوَ خِطَاب لِلْمُشْرِكِينَ . وَالْمُرَاد بِالْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْله : | لِيَذَر الْمُؤْمِنِينَ | مَنْ فِي الْأَصْلَاب وَالْأَرْحَام مِمَّنْ يُؤْمِن . أَيْ مَا كَانَ اللَّه لِيَذَر أَوْلَادكُمْ الَّذِينَ حَكَمَ لَهُمْ بِالْإِيمَانِ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ الشِّرْك , حَتَّى يُفَرِّق بَيْنكُمْ وَبَيْنهمْ ; وَعَلَى هَذَا | وَمَا كَانَ اللَّه لِيُطْلِعَكُمْ | كَلَام مُسْتَأْنَف . وَهُوَ قَوْل اِبْن عَبَّاس وَأَكْثَر الْمُفَسِّرِينَ . وَقِيلَ : الْخِطَاب لِلْمُؤْمِنِينَ . أَيْ وَمَا كَانَ اللَّه لِيَذَركُمْ يَا مَعْشَر الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ اِخْتِلَاط الْمُؤْمِن بِالْمُنَافِقِ , حَتَّى يُمَيِّز بَيْنكُمْ بِالْمِحْنَةِ وَالتَّكْلِيف ; فَتَعْرِفُوا الْمُنَافِق الْخَبِيث , وَالْمُؤْمِن الطَّيِّب . وَقَدْ مَيَّزَ يَوْم أُحُد بَيْن الْفَرِيقَيْنِ . وَهَذَا قَوْل أَكْثَر أَهْل الْمَعَانِي .|وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ|يَا مَعْشَر الْمُؤْمِنِينَ . أَيْ مَا كَانَ اللَّه لِيُعَيِّن لَكُمْ الْمُنَافِقِينَ حَتَّى تَعْرِفُوهُمْ , وَلَكِنْ يَظْهَر ذَلِكَ لَكُمْ بِالتَّكْلِيفِ وَالْمِحْنَة , وَقَدْ ظَهَرَ ذَلِكَ فِي يَوْم أُحُد ; فَإِنَّ الْمُنَافِقِينَ تَخَلَّفُوا وَأَظْهَرُوا الشَّمَاتَة , فَمَا كُنْتُمْ تَعْرِفُونَ هَذَا الْغَيْب قَبْل هَذَا , فَالْآن قَدْ أَطْلَعَ اللَّه مُحَمَّدًا عَلَيْهِ السَّلَام وَصَحْبه عَلَى ذَلِكَ . وَقِيلَ : مَعْنَى | لِيُطْلِعكُمْ | أَيْ وَمَا كَانَ اللَّه لِيُعْلِمكُمْ مَا يَكُون مِنْهُمْ . فَقَوْله : | وَمَا كَانَ اللَّه لِيُطْلِعكُمْ عَلَى الْغَيْب | عَلَى هَذَا مُتَّصِل , وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلِينَ مُنْقَطِع . وَذَلِكَ أَنَّ الْكُفَّار لَمَّا قَالُوا : لِمَ لَمْ يُوحَ إِلَيْنَا ؟ قَالَ : | وَمَا كَانَ اللَّه لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْب | أَيْ عَلَى مَنْ يَسْتَحِقّ النُّبُوَّة , حَتَّى يَكُون الْوَحْي بِاخْتِيَارِكُمْ .|وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي|أَيْ يَخْتَار .|مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ|لِإِطْلَاعِ غَيْبه يُقَال : طَلَعْت عَلَى كَذَا وَاطَّلَعْت عَلَيْهِ , وَأَطْلَعْت عَلَيْهِ غَيْرِي ; فَهُوَ لَازِم وَمُتَعَدٍّ . وَقُرِئَ | حَتَّى يُمَيِّز | بِالتَّشْدِيدِ مِنْ مَيَّزَ , وَكَذَا فِي | الْأَنْفَال | وَهِيَ قِرَاءَة حَمْزَة . وَالْبَاقُونَ | يَمِيز | بِالتَّخْفِيفِ مِنْ مَازَ يَمِيز . يُقَال : مِزْت الشَّيْء بَعْضه مِنْ بَعْض أَمِيزُهُ مَيْزًا , وَمَيَّزْتُهُ تَمْيِيزًا . قَالَ أَبُو مُعَاذ : مِزْت الشَّيْء أَمِيزُهُ مَيْزًا إِذَا فَرَّقَتْ بَيْنَ شَيْئَيْنِ . فَإِنْ كَانَتْ أَشْيَاء قُلْت : مَيَّزْتُهَا تَمْيِيزًا . وَمِثْله إِذَا جَعَلَتْ الْوَاحِد شَيْئَيْنِ قُلْت : فَرَّقَتْ بَيْنهمَا , مُخَفَّفًا ; وَمِنْهُ فَرَّقَ الشَّعْر . فَإِنْ جَعَلْتَهُ أَشْيَاء قُلْت : فَرَّقْتُهُ تَفْرِيقًا . قُلْت : وَمِنْهُ اِمْتَازَ الْقَوْم , تَمَيَّزَ بَعْضهمْ عَنْ بَعْض . وَيَكَاد يَتَمَيَّز : يَتَقَطَّع ; وَبِهَذَا فُسِّرَ قَوْله تَعَالَى : | تَكَاد تَمَيَّزُ مِنْ الْغَيْظ | [ الْمُلْك : 8 ] وَفِي الْخَبَر ( مَنْ مَازَ أَذًى عَنْ الطَّرِيق فَهُوَ لَهُ صَدَقَة ) .|فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ|يُقَال : إِنَّ الْكُفَّار لَمَّا سَأَلُوا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُبَيِّن لَهُمْ مَنْ يُؤْمِن مِنْهُمْ , فَأَنْزَلَ اللَّه | فَآمِنُوا بِاَللَّهِ وَرُسُله | يَعْنِي لَا تَشْتَغِلُوا بِمَا لَا يَعْنِيكُمْ , وَاشْتَغِلُوا بِمَا يَعْنِيكُمْ وَهُوَ الْإِيمَان . | فَآمِنُوا | أَيْ صَدِّقُوا , أَيْ عَلَيْكُمْ التَّصْدِيق لَا التَّشَوُّف إِلَى اِطِّلَاع الْغَيْب .|وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ|أَيْ الْجَنَّة . وَيُذْكَر أَنَّ رَجُلًا كَانَ عِنْد الْحَجَّاج بْن يُوسُف الثَّقَفِيّ مُنَجِّمًا ; فَأَخَذَ الْحَجَّاج حَصَيَات بِيَدِهِ قَدْ عَرَفَ عَدَدهَا فَقَالَ لِلْمُنَجِّمِ : كَمْ فِي يَدِي ؟ فَحَسَبَ فَأَصَابَ الْمُنَجِّم . فَأَغْفَلَهُ الْحَجَّاج وَأَخَذَ حَصَيَات لَمْ يَعُدَّهُنَّ فَقَالَ لِلْمُنَجِّمِ : كَمْ فِي يَدِي ؟ فَحَسَبَ فَأَخْطَأَ , ثُمَّ حَسَبَ أَيْضًا فَأَخْطَأَ ; فَقَالَ : أَيّهَا الْأَمِير , أَظُنُّكَ لَا تَعْرِف عَدَد مَا فِي يَدك ؟ قَالَ لَا : قَالَ : فَمَا الْفَرْق بَيْنهمَا ؟ فَقَالَ : إِنَّ ذَاكَ أَحْصَيْته فَخَرَجَ عَنْ حَدّ الْغَيْب , فَحَسَبْت فَأَصَبْت , وَإِنَّ هَذَا لَمْ تَعْرِفْ عَدَدَهَا فَصَارَ غَيْبًا , وَلَا يَعْلَم الْغَيْب إِلَّا اللَّه تَعَالَى . وَسَيَأْتِي هَذَا الْبَاب فِي | الْأَنْعَام | إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .

وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ

آتَاهُمْ اللَّه مِنْ فَضْله هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرّ لَهُمْ | قَوْله تَعَالَى : | وَلَا يَحَسَبَنَّ الَّذِينَ | الَّذِينَ | فِي مَوْضِع رَفْع , وَالْمَفْعُول الْأَوَّل مَحْذُوف . قَالَ الْخَلِيل وَسِيبَوَيْهِ وَالْفَرَّاء الْمَعْنَى الْبُخْل خَيْرًا لَهُمْ , أَيْ لَا يَحَسَبَنَّ الْبَاخِلُونَ الْبُخْلَ خَيْرًا لَهُمْ . وَإِنَّمَا حُذِفَ لِدَلَالَةِ يَبْخَلُونَ عَلَى الْبُخْل ; وَهُوَ كَقَوْلِهِ : مَنْ صَدَقَ كَانَ خَيْرًا لَهُ . أَيْ كَانَ لَهُ الصِّدْق خَيْرًا لَهُ . وَمِنْ هَذَا قَوْل الشَّاعِر : <br>إِذَا نُهِيَ السَّفِيه جَرَى إِلَيْهِ .......... وَخَالَفَ وَالسَّفِيهُ إِلَى خِلَافِ <br>فَالْمَعْنَى : جَرَى : إِلَى السَّفَه ; فَالسَّفِيه دَلَّ عَلَى السَّفَه . وَأَمَّا قِرَاءَة حَمْزَة بِالتَّاءِ فَبَعِيدَة جِدًّا ; قَالَهُ النَّحَّاس . وَجَوَازهَا أَنْ يَكُون التَّقْدِير : لَا تَحْسَبَنَّ بُخْل الَّذِينَ يَبْخَلُونَ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ . قَالَ الزَّجَّاج : وَهِيَ مِثْل | وَاسْأَلْ الْقَرْيَة | . و | هُوَ | فِي قَوْله | هُوَ خَيْرًا لَهُمْ | فَاصِلَةٌ عِنْد الْبَصْرِيِّينَ . وَهِيَ الْعِمَاد عِنْد الْكُوفِيِّينَ . قَالَ النَّحَّاس : وَيَجُوز فِي الْعَرَبِيَّة | هُوَ خَيْر لَهُمْ | اِبْتِدَاء وَخَبَر .</p><p></p><p>قَوْله تَعَالَى : | بَلْ هُوَ شَرّ لَهُمْ | اِبْتِدَاء وَخَبَر , أَيْ الْبُخْل شَرّ لَهُمْ . وَالسِّين فِي | سَيُطَوَّقُونَ | سِين الْوَعِيد , أَيْ سَوْفَ يُطَوَّقُونَ ; قَالَهُ الْمُبَرِّد . وَهَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ فِي الْبُخْل بِالْمَالِ وَالْإِنْفَاق فِي سَبِيل اللَّه , وَأَدَاء الزَّكَاة الْمَفْرُوضَة . وَهَذِهِ كَقَوْلِهِ : | وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيل اللَّه | [ التَّوْبَة : 34 ] الْآيَة . ذَهَبَ إِلَى هَذَا جَمَاعَة مِنْ الْمُتَأَوِّلِينَ , مِنْهُمْ اِبْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس وَأَبُو وَائِل وَأَبُو مَالِك وَالسُّدِّيّ وَالشَّعْبِيّ قَالُوا : وَمَعْنَى | سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ | هُوَ الَّذِي وَرَدَ فِي الْحَدِيث عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ آتَاهُ اللَّه مَالًا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاته مُثِّلَ لَهُ يَوْم الْقِيَامَة شُجَاعًا أَقْرَع لَهُ زَبِيبَتَانِ يُطَوِّقهُ يَوْم الْقِيَامَة ثُمَّ يَأْخُذ بِلِهْزِمَتَيْهِ ثُمَّ يَقُول أَنَا مَالُكَ أَنَا كَنْزُكَ - ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَة - | وَلَا يَحَسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ | الْآيَة ) . أَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ . وَخَرَّجَهُ اِبْن مَاجَهْ عَنْ اِبْن مَسْعُود عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَا مِنْ أَحَد لَا يُؤَدِّي زَكَاة مَاله إِلَّا مُثِّلَ لَهُ يَوْم الْقِيَامَة شُجَاع أَقْرَع حَتَّى يُطَوَّقَ بِهِ فِي عُنُقه ) ثُمَّ قَرَأَ عَلَيْنَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِصْدَاقه مِنْ كِتَاب اللَّه تَعَالَى : | وَلَا يَحَسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّه مِنْ فَضْله | الْآيَة . وَجَاءَ عَنْهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( مَا مِنْ ذِي رَحِم يَأْتِي ذَا رَحِمَهُ فَيَسْأَلهُ مِنْ فَضْل مَا عِنْده فَيَبْخَل بِهِ عَلَيْهِ إِلَّا أُخْرِجَ لَهُ يَوْم الْقِيَامَة شُجَاع مِنْ النَّار يَتَلَمَّظ حَتَّى يُطَوِّقَهُ ) . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا : إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي أَهْل الْكِتَاب وَبُخْلهمْ بِبَيَانِ مَا عَلِمُوهُ مِنْ أَمْر مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَالَ ذَلِكَ مُجَاهِد وَجَمَاعَة مِنْ أَهْل الْعِلْم . وَمَعْنَى | سَيُطَوَّقُونَ | عَلَى هَذَا التَّأْوِيل سَيَحْمِلُونَ عِقَاب مَا بَخِلُوا بِهِ ; فَهُوَ مِنْ الطَّاقَة كَمَا قَالَ تَعَالَى : | وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ | [ الْبَقَرَة : 184 ] وَلَيْسَ مِنْ التَّطْوِيق .|سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ|وَقَالَ إِبْرَاهِيم النَّخَعِيّ : مَعْنَى | سَيُطَوَّقُونَ | سَيُجْعَلُ لَهُمْ يَوْم الْقِيَامَة طَوْق مِنْ النَّار . وَهَذَا يَجْرِي مَعَ التَّأْوِيل الْأَوَّل أَيْ قَوْل السُّدِّيّ . وَقِيلَ : يُلْزَمُونَ أَعْمَالهمْ كَمَا يَلْزَم الطَّوْق الْعُنُق ; يُقَال : طُوِّقَ فُلَانٌ عَمَلَهُ طَوْق الْحَمَامَة , أَيْ أُلْزِمَ عَمَله . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : | وَكُلّ إِنْسَان أَلْزَمْنَاهُ طَائِره فِي عُنُقه | [ الْإِسْرَاء : 13 ] . وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْل عَبْد اللَّه بْن جَحْش لِأَبِي سُفْيَان : <br>أَبْلِغْ أَبَا سُفْيَان عَنْ .......... أَمْر عَوَاقِبُهُ نَدَامَهْ <br><br>دَارَ اِبْن عمِّكَ بِعْتَهَا .......... تَقْضِي بِهَا عَنْك الْغَرَامَهْ <br><br>وَحَلِيفُكُمْ بِاَللَّهِ رَبّ .......... النَّاسِ مُجْتَهِد الْقَسَامَهْ <br><br>اِذْهَبْ بِهَا اِذْهَبْ بِهَا .......... طُوِّقْتَهَا طَوْق الْحَمَامَهْ <br>وَهَذَا يَجْرِي مَعَ التَّأْوِيل الثَّانِي . وَالْبُخْل وَالْبَخَل فِي اللُّغَة أَنْ يَمْنَع الْإِنْسَال الْحَقّ الْوَاجِب عَلَيْهِ . فَأَمَّا مَنْ مَنَعَ مَا لَا يَجِب عَلَيْهِ فَلَيْسَ بِبَخِيلٍ ; لِأَنَّهُ لَا يُذَمّ بِذَلِكَ . وَأَهْل الْحِجَاز يَقُولُونَ : يَبْخُلُونَ وَقَدْ بَخُلُوا . وَسَائِر الْعَرَب يَقُولُونَ : بَخِلُوا يَبْخَلُونَ ; حَكَاهُ النَّحَّاس . وَبَخِلَ يَبْخَل بُخْلًا وَبَخَلًا ; عَنْ اِبْن فَارِس .</p><p>فِي ثَمَرَة الْبُخْل وَفَائِدَته . وَهُوَ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْأَنْصَارِ : ( مَنْ سَيِّدكُمْ ؟ ) قَالُوا الْجَدّ بْن قَيْس عَلَى بُخْل فِيهِ . فَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَأَيّ دَاء أَدْوَى مِنْ الْبُخْل ) قَالُوا : وَكَيْفَ ذَاكَ يَا رَسُول اللَّه ؟ قَالَ : ( إِنَّ قَوْمًا نَزَلُوا بِسَاحِلِ الْبَحْر فَكَرِهُوا لِبُخْلِهِمْ نُزُول الْأَضْيَاف بِهِمْ فَقَالُوا : لِيَبْعُد الرِّجَال مِنَّا عَنْ النِّسَاء حَتَّى يَعْتَذِر الرِّجَال إِلَى الْأَضْيَاف بِبُعْدِ النِّسَاء ; وَتَعْتَذِر النِّسَاء بِبُعْدِ الرِّجَال ; فَفَعَلُوا وَطَالَ ذَلِكَ بِهِمْ فَاشْتَغَلَ الرِّجَال بِالرِّجَالِ وَالنِّسَاءُ بِالنِّسَاءِ ) ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيّ فِي كِتَاب | أَدَب الدُّنْيَا وَالدِّين | . وَاَللَّه أَعْلَم .</p><p>وَاخْتُلِفَ فِي الْبُخْل وَالشُّحّ ; هَلْ هُمَا بِمَعْنًى وَاحِد أَوْ بِمَعْنَيَيْنِ . فَقِيلَ : الْبُخْل الِامْتِنَاع مِنْ إِخْرَاج مَا حَصَلَ عِنْدك . وَالشُّحّ : الْحِرْص عَلَى تَحْصِيل مَا لَيْسَ عِنْدك . وَقِيلَ : إِنَّ الشُّحّ هُوَ الْبُخْل مَعَ حِرْص . وَهُوَ الصَّحِيح لِمَا رَوَاهُ مُسْلِم عَنْ جَابِر بْن عَبْد اللَّه أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( اِتَّقُوا الظُّلْم فَإِنَّ الظُّلْم ظُلُمَات يَوْم الْقِيَامَة وَاتَّقُوا الشُّحّ فَإِنَّ الشُّحّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلكُمْ حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمهمْ ) . وَهَذَا يَرُدّ قَوْل مَنْ قَالَ : إِنَّ الْبُخْل مَنْع الْوَاجِب , وَالشُّحّ مَنْع الْمُسْتَحَبّ . إِذْ لَوْ كَانَ الشُّحّ مَنْع الْمُسْتَحَبّ لَمَا دَخَلَ تَحْت هَذَا الْوَعِيد الْعَظِيم , وَالذَّمّ الشَّدِيد الَّذِي فِيهِ هَلَاك الدُّنْيَا وَالْآخِرَة . وَيُؤَيِّد هَذَا الْمَعْنَى مَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( لَا يَجْتَمِع غُبَار فِي سَبِيل اللَّه وَدُخَان جَهَنَّم فِي مَنْخِرَيْ رَجُل مُسْلِم أَبَدًا وَلَا يَجْتَمِع شُحّ وَإِيمَان فِي قَلْب رَجُل مُسْلِم أَبَدًا ) . وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ الشُّحّ أَشَدّ فِي الذَّمّ مِنْ الْبُخْل ; إِلَّا أَنَّهُ قَدْ جَاءَ مَا يَدُلّ عَلَى مُسَاوَاتهمَا وَهُوَ قَوْله - وَقَدْ سُئِلَ ; أَيَكُونُ الْمُؤْمِن بَخِيلًا ؟ قَالَ : ( لَا ) وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيّ فِي كِتَاب | أَدَب الدُّنْيَا وَالدِّين | أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْأَنْصَارِ : ( مَنْ سَيِّدكُمْ ) قَالُوا : الْجَدّ بْن قَيْس عَلَى بُخْل فِيهِ ; الْحَدِيث . وَقَدْ تَقَدَّمَ .|وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ|أَخْبَرَ تَعَالَى بِبَقَائِهِ وَدَوَام مُلْكه .</p><p>وَأَنَّهُ فِي الْأَبَد كَهُوَ فِي الْأَزَل غَنِيّ عَنْ الْعَالَمِينَ , فَيَرِث الْأَرْض بَعْد فِنَاء خَلْقه وَزَوَال أَمْلَاكهمْ ; فَتَبْقَى الْأَمْلَاك وَالْأَمْوَال لَا مُدَّعَى فِيهَا . فَجَرَى هَذَا مَجْرَى الْوِرَاثَة فِي عَادَة الْخَلْق , وَلَيْسَ هَذَا بِمِيرَاثٍ فِي الْحَقِيقَة ; لِأَنَّ الْوَارِث فِي الْحَقِيقَة هُوَ الَّذِي يَرِث شَيْئًا لَمْ يَكُنْ مَلَكَهُ مِنْ قَبْل , وَاَللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى مَالِك السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَيْنهمَا , وَكَانَتْ السَّمَوَات وَمَا فِيهَا , وَالْأَرْض وَمَا فِيهَا لَهُ , وَإِنَّ الْأَمْوَال كَانَتْ عَارِيَة عِنْد أَرْبَابهَا ; فَإِذَا مَاتُوا رُدَّتْ الْعَارِيَة إِلَى صَاحِبهَا الَّذِي كَانَتْ لَهُ فِي الْأَصْل . وَنَظِير هَذِهِ الْآيَة قَوْله تَعَالَى : | إِنَّا نَحْنُ نَرِث الْأَرْض وَمَنْ عَلَيْهَا | [ مَرْيَم : 40 ] الْآيَة . وَالْمَعْنَى فِي الْآيَتَيْنِ أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَمَرَ عِبَاده بِأَنْ يُنْفِقُوا وَلَا يَبْخَلُوا قَبْل أَنْ يَمُوتُوا وَيَتْرُكُوا ذَلِكَ مِيرَاثًا لِلَّهِ تَعَالَى , وَلَا يَنْفَعهُمْ إِلَّا مَا أَنْفَقُوا .

لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ

ذَكَرَ تَعَالَى قَبِيح قَوْل الْكُفَّار وَلَا سِيَّمَا الْيَهُود . وَقَالَ أَهْل التَّفْسِير : لَمَّا أَنْزَلَ اللَّه | مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِض اللَّه قَرْضًا حَسَنًا | [ الْبَقَرَة : 245 ] قَالَ قَوْم مِنْ الْيَهُود - مِنْهُمْ حُيَيّ بْن أَخْطَب ; فِي قَوْل الْحَسَن . وَقَالَ عِكْرِمَة وَغَيْره : هُوَ فنحاص بْن عازوراء - إِنَّ اللَّه فَقِير وَنَحْنُ أَغْنِيَاء يَقْتَرِض مِنَّا . وَإِنَّمَا قَالُوا هَذَا تَمْوِيهًا عَلَى ضُعَفَائِهِمْ , لَا أَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ هَذَا ; لِأَنَّهُمْ أَهْل كِتَاب . وَلَكِنَّهُمْ كَفَرُوا بِهَذَا الْقَوْل ; لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا تَشْكِيك الضُّعَفَاء مِنْهُمْ وَمِنْ الْمُؤْمِنِينَ , وَتَكْذِيب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . أَيْ إِنَّهُ فَقِير عَلَى قَوْل مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; لِأَنَّهُ اِقْتَرَضَ مِنَّا .|سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا|سَنُجَازِيهِمْ عَلَيْهِ . وَقِيلَ : سَنَكْتُبُهُ فِي صَحَائِف أَعْمَالهمْ , أَيْ نَأْمُر الْحَفَظَة بِإِثْبَاتِ قَوْلهمْ حَتَّى يَقْرَءُوهُ يَوْم الْقِيَامَة فِي كُتُبهمْ الَّتِي يُؤْتَوْنَهَا ; حَتَّى يَكُون أَوْكَد لِلْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ . وَهَذَا كَقَوْلِهِ : | وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ | [ الْأَنْبِيَاء : 94 ] . وَقِيلَ : مَقْصُود الْكِتَابَة الْحِفْظ , أَيْ سَنَحْفَظُ مَا قَالُوا لَنُجَازِيهِمْ . | وَمَا | فِي قَوْله | مَا قَالُوا | فِي مَوْضِع نَصْب | بِسَنَكْتُبُ | . وَقَرَأَ الْأَعْمَش وَحَمْزَة | سَيَكْتُبُ | بِالْيَاءِ ; فَيَكُون | مَا | اِسْم مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِله . وَاعْتَبَرَ حَمْزَة ذَلِكَ بِقِرَاءَةِ اِبْن مَسْعُود : | وَيُقَال ذُوقُوا عَذَاب الْحَرِيق | .|وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ|أَيْ وَنَكْتُب قَتْلهمْ الْأَنْبِيَاء , أَيْ رِضَاءَهُمْ بِالْقَتْلِ .</p><p>وَالْمُرَاد قَتْل أَسْلَافهمْ الْأَنْبِيَاء ; لَكِنْ لَمَّا رَضُوا بِذَلِكَ صَحَّتْ الْإِضَافَة إِلَيْهِمْ . وَحَسَّنَ رَجُلٌ عِنْد الشَّعْبِيّ , قَتْلَ عُثْمَان رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فَقَالَ لَهُ الشَّعْبِيّ : شَرَكْت فِي دَمه . فَجَعَلَ الرِّضَا بِالْقَتْلِ قَتْلًا ; رَضِيَ اللَّه عَنْهُ . قُلْت : وَهَذِهِ مَسْأَلَة عُظْمَى , حَيْثُ يَكُون الرِّضَا بِالْمَعْصِيَةِ مَعْصِيَة . وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ , الْعُرْس بْن عُمَيْرَة الْكِنْدِيّ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِذَا عُمِلَتْ الْخَطِيئَة فِي الْأَرْض كَانَ مَنْ شَهِدَهَا فَكَرِهَهَا - وَقَالَ مَرَّة فَأَنْكَرَهَا - كَمَنْ غَابَ عَنْهَا وَمَنْ غَابَ عَنْهَا فَرَضِيَهَا كَانَ كَمَنْ شَهِدَهَا ) . وَهَذَا نَصٌّ .|بِغَيْرِ حَقٍّ|تَعْظِيم لِلشُّنْعَةِ وَالذَّنْب الَّذِي أَتَوْهُ</p><p>فَإِنْ قِيلَ : هَذَا دَلِيل عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَصِحّ أَنْ يُقْتَلُوا بِالْحَقِّ ; وَمَعْلُوم أَنَّ الْأَنْبِيَاء مَعْصُومُونَ مِنْ أَنْ يَصْدُر مِنْهُمْ مَا يُقْتَلُونَ بِهِ . قِيلَ لَهُ : لَيْسَ كَذَلِكَ ; وَإِنَّمَا خَرَجَ هَذَا مَخْرَج الصِّفَة لِقَتْلِهِمْ أَنَّهُ ظُلْم وَلَيْسَ بِحَقٍّ ; فَكَانَ هَذَا تَعْظِيمًا لِلشُّنْعَةِ عَلَيْهِمْ ; وَمَعْلُوم أَنَّهُ لَا يُقْتَل نَبِيّ بِحَقٍّ , وَلَكِنْ يُقْتَل عَلَى الْحَقّ ; فَصَرَّحَ قَوْله : | بِغَيْرِ الْحَقّ | عَنْ شُنْعَة الذَّنْب وَوُضُوحه ; وَلَمْ يَأْتِ نَبِيّ قَطُّ بِشَيْءٍ يُوجِب قَتْله .</p><p>فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ جَازَ أَنْ يُخَلَّى بَيْن الْكَافِرِينَ وَقَتْل الْأَنْبِيَاء قِيلَ : ذَلِكَ كَرَامَة لَهُمْ وَزِيَادَة فِي مَنَازِلهمْ ; كَمِثْلِ مَنْ يُقْتَل فِي سَبِيل اللَّه مِنْ الْمُؤْمِنِينَ , وَلَيْسَ ذَلِكَ بِخِذْلَانٍ لَهُمْ . قَالَ ابْن عَبَّاس وَالْحَسَن : لَمْ يُقْتَل نَبِيّ قَطُّ مِنْ الْأَنْبِيَاء إِلَّا مَنْ لَمْ يُؤْمَر بِقِتَالٍ , وَكُلّ مَنْ أُمِرَ بِقِتَالٍ نُصِرَ .|وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ|أَيْ يُقَال لَهُمْ فِي جَهَنَّم , أَوْ عِنْد الْمَوْت , أَوْ عِنْد الْحِسَاب هَذَا . ثُمَّ هَذَا الْقَوْل مِنْ اللَّه تَعَالَى , أَوْ مِنْ الْمَلَائِكَة ; قَوْلَانِ . وَقِرَاءَة اِبْن مَسْعُود | وَيُقَال | . وَالْحَرِيق اِسْم لِلْمُلْتَهِبَةِ مِنْ النَّار , وَالنَّار تَشْمَل الْمُلْتَهِبَة وَغَيْر الْمُلْتَهِبَة .

ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ

أَيْ ذَلِكَ الْعَذَاب بِمَا سَلَف مِنْ الذُّنُوب . وَخَصَّ الْأَيْدِي بِالذِّكْرِ لِيَدُلّ عَلَى تَوَلِّي الْفِعْل وَمُبَاشَرَته ; إِذْ قَدْ يُضَاف الْفِعْل إِلَى الْإِنْسَان بِمَعْنَى أَنَّهُ أَمَرَ بِهِ ; كَقَوْلِهِ : | يُذَبِّح أَبْنَاءَهُمْ | [ الْقَصَص : 4 ] وَأَصْل | أَيْدِيكُمْ | أَيْدِيُكُمْ فَحُذِفَتْ الضَّمَّة لِثِقَلِهَا . وَاَللَّه أَعْلَم .

الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ

الَّذِينَ | فِي مَوْضِع خَفْض بَدَلًا مِنْ | الَّذِينَ | فِي قَوْله عَزَّ وَجَلَّ | لَقَدْ سَمِعَ اللَّه قَوْل الَّذِينَ قَالُوا | أَوْ نَعْت | لِلْعَبِيدِ | أَوْ خَبَر اِبْتِدَاء , أَيْ هُمْ الَّذِينَ قَالُوا . وَقَالَ الْكَلْبِيّ وَغَيْره . نَزَلَتْ فِي كَعْب بْن الْأَشْرَف , وَمَالِك بْن الصَّيْف , وَوَهْب بْن يَهُوذَا وفنحاص بْن عازوراء وَجَمَاعَة أَتَوْا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَقَالُوا لَهُ : أَتَزْعُمُ أَنَّ اللَّه أَرْسَلَك إِلَيْنَا , وَإِنَّهُ أَنْزَلَ عَلَيْنَا كِتَابًا عَهِدَ إِلَيْنَا فِيهِ أَلَّا نُؤْمِن لِرَسُولٍ يَزْعُم أَنَّهُ مِنْ عِنْد اللَّه حَتَّى يَأْتِينَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلهُ النَّار , فَإِنْ جِئْنَا بِهِ صَدَّقْنَاك . فَأَنْزَلَ اللَّه هَذِهِ الْآيَة . فَقِيلَ : كَانَ هَذَا فِي التَّوْرَاة , وَلَكِنْ كَانَ تَمَام الْكَلَام : حَتَّى يَأْتِيكُمْ الْمَسِيح وَمُحَمَّد فَإِذَا أَتَيَاكُمْ فَآمِنُوا بِهِمَا مِنْ غَيْر قُرْبَانٍ . وَقِيلَ : كَانَ أَمْر الْقَرَابِين ثَابِتًا إِلَى أَنْ نُسِخَتْ عَلَى لِسَان عِيسَى اِبْن مَرْيَم . وَكَانَ النَّبِيّ مِنْهُمْ يَذْبَح وَيَدْعُو فَتَنْزِل نَار بَيْضَاء لَهَا دَوِيّ وَحَفِيف لَا دُخَان لَهَا , فَتَأْكُل الْقُرْبَانِ . فَكَانَ هَذَا الْقَوْل دَعْوَى مِنْ الْيَهُود ; إِذْ كَانَ ثَمَّ اِسْتِثْنَاءٌ فَأَخْفَوْهُ , أَوْ نُسِخَ , فَكَانُوا فِي تَمَسُّكهمْ بِذَلِكَ مُتَعَنِّتِينَ , وَمُعْجِزَات النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَلِيل قَاطَعَ فِي إِبْطَال دَعْوَاهُمْ , وَكَذَلِكَ مُعْجِزَات عِيسَى ; وَمَنْ وَجَبَ صِدْقه وَجَبَ تَصْدِيقه . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : إِقَامَة لِلْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ .|قُلْ|يَا مُحَمَّد|قَدْ جَاءَكُمْ|يَا مَعْشَر الْيَهُود|رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ|مِنْ الْقُرْبَانِ|فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ|يَعْنِي زَكَرِيَّا وَيَحْيَى وشعيا , وَسَائِر مَنْ قَتَلُوا مِنْ الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِمْ السَّلَام وَلَمْ تُؤْمِنُوا بِهِمْ . أَرَادَ بِذَلِكَ أَسْلَافهمْ . وَهَذِهِ الْآيَة هِيَ الَّتِي تَلَاهَا عَامِر الشَّعْبِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ , فَاحْتَجَّ بِهَا عَلَى الَّذِي حَسَّنَ قَتْل عُثْمَان رَضِيَ اللَّه عَنْهُ كَمَا بَيَّنَّاهُ . وَإِنَّ اللَّه تَعَالَى سَمَّى الْيَهُود قَتَلَة لِرِضَاهُمْ بِفِعْلِ أَسْلَافهمْ , وَإِنْ كَانَ بَيْنهمْ نَحْو مِنْ سَبْعمِائَةِ سَنَة . وَالْقُرْبَان مَا يُتَقَرَّب بِهِ إِلَى اللَّه تَعَالَى مِنْ نُسُك وَصَدَقَة وَعَمَل صَالِح ; وَهُوَ فَعْلَان مِنْ الْقُرْبَة . وَيَكُون اِسْمًا وَمَصْدَرًا ; فَمِثَال الِاسْم السُّلْطَان وَالْبُرْهَان . وَالْمَصْدَر الْعُدْوَان وَالْخُسْرَان . وَكَانَ عِيسَى بْن عُمَر يَقْرَأ | بِقُرُبَانٍ | بِضَمِّ الرَّاء إِتْبَاعًا لِضَمَّةِ الْقَاف ; كَمَا قِيلَ فِي جَمْع ظُلْمَة : ظُلُمَات , وَفِي حُجْرَة حُجُرَات . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُعَزِّيًا لِنَبِيِّهِ وَمُؤْنِسًا لَهُ .

فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ

أَيْ بِالدَّلَالَاتِ .|وَالزُّبُرِ|أَيْ الْكُتُب الْمَزْبُورَة , يَعْنِي الْمَكْتُوبَة . وَالزُّبُر جَمْع زَبُور وَهُوَ الْكِتَاب .</p><p>وَأَصْله مِنْ زَبَرْت أَيْ كَتَبْت . وَكُلّ زَبُور فَهُوَ كِتَاب ; قَالَ اِمْرُؤُ الْقَيْس : <br>لِمَنْ طَلَلٌ أَبْصَرْته فَشَجَانِي .......... كَخَطِّ زَبُور فِي عَسِيبِ يَمَانِي <br>وَأَنَا أَعْرِف تَزْبِرَتِي أَيْ كِتَابَتِي . وَقِيلَ : الزَّبُور مِنْ الزَّبْر بِمَعْنَى الزَّجْر . وَزَبَرْت الرَّجُل اِنْتَهَرْته . وَزَبَرْت الْبِئْر : طَوَيْتهَا بِالْحِجَارَةِ . وَقَرَأَ اِبْن عَامِر | بِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِير | بِزِيَادَةِ بَاءَ فِي الْكَلِمَتَيْنِ . وَكَذَلِكَ هُوَ فِي مَصَاحِف أَهْل الشَّام .|وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ|أَيْ الْوَاضِح الْمُضِيء ; مِنْ قَوْلك : أَنَرْت الشَّيْء أُنِيرهُ , أَيْ أَوْضَحْته : يُقَال : نَار الشَّيْء وَأَنَارَهُ وَنَوَّرَهُ وَاسْتَنَارَهُ بِمَعْنًى , وَكُلّ وَاحِد مِنْهُمَا لَازِم وَمُتَعَدٍّ . وَجَمَعَ بَيْنَ الزُّبُر وَالْكِتَاب - وَهُمَا بِمَعْنًى - لِاخْتِلَافِ لَفْظِهِمَا , وَأَصْلهَا كَمَا ذَكَرْنَا .

كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ

فيه سبع مسائل: الْأُولَى : لَمَّا أَخْبَرَ جَلَّ وَتَعَالَى عَنْ الْبَاخِلِينَ وَكُفْرهمْ فِي قَوْلهمْ : | إِنَّ اللَّه فَقِير وَنَحْنُ أَغْنِيَاء | وَأَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِالصَّبْرِ عَلَى أَذَاهُمْ فِي قَوْله : | لَتُبْلَوُنَّ | [ آل عِمْرَان : 186 ] الْآيَة - بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَنْقَضِي وَلَا يَدُوم ; فَإِنَّ أَمَد الدُّنْيَا قَرِيب , وَيَوْم الْقِيَامَة يَوْم الْجَزَاء . | ذَائِقَة الْمَوْت | مِنْ الذَّوْق , وَهَذَا مِمَّا لَا مَحِيص عَنْهُ لِلْإِنْسَانِ , وَلَا مَحِيد عَنْهُ لِحَيَوَانٍ . وَقَدْ قَالَ أُمَيَّة بْن أَبِي الصَّلْت : <br>مَنْ لَمْ يَمُتْ عَبْطَة يَمُتْ هَرَمًا .......... لِلْمَوْتِ كَأْس وَإِنَّ الْمَرْءَ ذَائِقُهَا <br>وَقَالَ آخَر : <br>الْمَوْت بَاب وَكُلّ النَّاس دَاخِله .......... فَلَيْتَ شَعْرِيَ بَعْد الْبَاب مَا الدَّار <br>الثَّانِيَة : قِرَاءَة الْعَامَّة | ذَائِقَة الْمَوْت | بِالْإِضَافَةِ . وَقَرَأَ الْأَعْمَش وَيَحْيَى وَابْن أَبِي إِسْحَاق | ذَائِقَةٌ الْمَوْتَ | بِالتَّنْوِينِ وَنَصْب الْمَوْت . قَالُوا : لِأَنَّهَا لَمْ تَذُقْ بَعْد . وَذَلِكَ أَنَّ اِسْم الْفَاعِل عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدهمَا أَنْ يَكُون بِمَعْنَى الْمُضِيّ . وَالثَّانِي بِمَعْنَى الِاسْتِقْبَال ; فَإِنْ أَرَدْت الْأَوَّل لَمْ يَكُنْ فِيهِ إِلَّا الْإِضَافَة إِلَى مَا بَعْده ; كَقَوْلِك : هَذَا ضَارِب زَيْد أَمْس , وَقَاتِل بَكْر أَمْس ; لِأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الِاسْم الْجَامِد وَهُوَ الْعَلَم , نَحْو غُلَام زَيْد , وَصَاحِب بَكْر . قَالَ الشَّاعِر : <br>الْحَافِظ عَوْرَة الْعَشِيرَة لَا يَأْ .......... تِيهِمُ مِنْ وَرَائِهِمْ وَكَفُ <br>وَإِنْ أَرَدْت الثَّانِي جَازَ الْجَرّ . وَالنَّصْب وَالتَّنْوِين فِيمَا هَذَا سَبِيله هُوَ الْأَصْل ; لِأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْفِعْل الْمُضَارِع فَإِنْ كَانَ الْفِعْل غَيْر مُتَعَدٍّ , لَمْ يَتَعَدَّ نَحْو قَائِمٌ زَيْدٌ . وَإِنْ كَانَ مُتَعَدِّيًا عَدَّيْته وَنَصَبْت بِهِ , فَتَقُول : زَيْد ضَارِبٌ عَمْرَوًا بِمَعْنَى يَضْرِب عَمْرَوًا . وَيَجُوز حَذْف التَّنْوِين وَالْإِضَافَة تَخْفِيفًا , كَمَا قَالَ الْمَرَّار | : <br>سَلِّ الْهُمُوم بِكُلِّ مُعْطِي رَأْسه .......... نَاجٍ مُخَالِط صُهْبَة مُتَعَيِّس <br><br>مُغْتَال أَحْبُله مُبِين عُنُقه .......... فِي مَنْكِب زَبَنَ الْمَطِيّ عَرَنْدَس <br>فَحَذَفَ التَّنْوِين تَخْفِيفًا , وَالْأَصْل : مُعْطٍ رَأْسه بِالتَّنْوِينِ وَالنَّصْب , وَمِثْل هَذَا أَيْضًا فِي التَّنْزِيل قَوْله تَعَالَى | هَلْ هُنَّ كَاشِفَات ضُرّه | [ الزُّمَر : 38 ] وَمَا كَانَ مِثْله .</p><p>الثَّالِثَة : ثُمَّ اِعْلَمْ أَنَّ لِلْمَوْتِ أَسْبَابًا وَأَمَارَاتٍ , فَمِنْ عَلَامَات مَوْت الْمُؤْمِن عَرَق الْجَبِين . أَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ مِنْ حَدِيث بُرَيْدَة قَالَ سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : | الْمُؤْمِن يَمُوت بِعَرَقِ الْجَبِين | . وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي | التَّذْكِرَة | فَإِذَا اُحْتُضِرَ لُقِّنَ الشَّهَادَة ; لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه ) لِتَكُونَ آخِر كَلَامه فَيُخْتَم لَهُ بِالشَّهَادَةِ ; وَلَا يُعَاد عَلَيْهِ مِنْهَا لِئَلَّا يَضْجَر . وَيُسْتَحَبّ قِرَاءَة | يس | ذَلِكَ الْوَقْت ; لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : | اِقْرَءُوا يس عَلَى مَوْتَاكُمْ | أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد . وَذَكَرَ الْآجُرِيّ فِي كِتَاب النَّصِيحَة مِنْ حَدِيث أُمّ الدَّرْدَاء عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَا مِنْ مَيِّت يَقْرَأ عِنْده سُورَة يس إِلَّا هُوِّنَ عَلَيْهِ الْمَوْت ) . فَإِذَا قُضِيَ وَتَبِعَ الْبَصَرُ الرُّوحَ كَمَا أَخْبَرَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَحِيح مُسْلِم وَارْتَفَعَتْ الْعِبَادَات وَزَالَ التَّكْلِيف , تَوَجَّهَتْ عَلَى الْأَحْيَاء أَحْكَام ; مِنْهَا :</p><p>تَغْمِيضُهُ .</p><p>وَإِعْلَام إِخْوَانه الصُّلَحَاء بِمَوْتِهِ . وَكَرِهَهُ قَوْم وَقَالُوا : هُوَ مِنْ النَّعْي . وَالْأَوَّل أَصَحّ , وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي غَيْر هَذَا الْمَوْضِع . وَمِنْهَا الْأَخْذ فِي تَجْهِيزه بِالْغُسْلِ وَالدَّفْن لِئَلَّا يُسْرِع إِلَيْهِ التَّغَيُّر ; قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْمٍ أَخَّرُوا دَفْن مَيِّتهمْ : ( عَجِّلُوا بِدَفْنِ جِيفَتكُمْ ) وَقَالَ : ( أَسْرِعُوا بِالْجِنَازَةِ ) الْحَدِيث , وَسَيَأْتِي .</p><p>الرَّابِعَة : فَأَمَّا غُسْله فَهُوَ سُنَّة لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ حَاشَا الشَّهِيد عَلَى مَا تَقَدَّمَ . قِيلَ : غُسْله وَاجِب قَالَهُ الْقَاضِي عَبْد الْوَهَّاب . وَالْأَوَّل : مَذْهَب الْكِتَاب , وَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ الْعُلَمَاء . وَسَبَب الْخِلَاف قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لِأُمِّ عَطِيَّة فِي غُسْلهَا اِبْنَته زَيْنَب , عَلَى مَا فِي كِتَاب مُسْلِم . وَقِيلَ : هِيَ أُمّ كُلْثُوم , عَلَى مَا فِي كِتَاب أَبِي دَاوُد : ( اِغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ أَكْثَر مِنْ ذَلِكَ إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ ) الْحَدِيث . وَهُوَ الْأَصْل عِنْد الْعُلَمَاء فِي غَسْل الْمَوْتَى . فَقِيلَ : الْمُرَاد بِهَذَا الْأَمْر بَيَان حُكْم الْغُسْل فَيَكُون وَاجِبًا . وَقِيلَ : الْمَقْصُود مِنْهُ تَعْلِيم كَيْفِيَّة الْغُسْل فَلَا يَكُون فِيهِ مَا يَدُلّ عَلَى الْوُجُوب . قَالُوا وَيَدُلّ عَلَيْهِ قَوْله : ( إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ ) وَهَذَا يَقْتَضِي إِخْرَاج ظَاهِر الْأَمْر عَنْ الْوُجُوب ; لِأَنَّهُ فَوَّضَهُ إِلَى نَظَرهنَّ . قِيلَ لَهُمْ : هَذَا فِيهِ بُعْد ; لِأَنَّ رَدّك ( إِنْ رَأَيْتُنَّ ) إِلَى الْأَمْر , لَيْسَ السَّابِق إِلَى الْفَهْم بَلْ السَّابِق رُجُوع هَذَا الشَّرْط إِلَى أَقْرَب مَذْكُور , وَهُوَ ( أَكْثَر مِنْ ذَلِكَ ) أَوْ إِلَى التَّخْيِير فِي الْأَعْدَاد . وَعَلَى الْجُمْلَة فَلَا خِلَاف فِي أَنَّ غُسْل الْمَيِّت مَشْرُوع مَعْمُول بِهِ فِي الشَّرِيعَة لَا يُتْرَك . وَصِفَته كَصِفَةِ غُسْل الْجَنَابَة عَلَى مَا هُوَ مَعْرُوف . وَلَا يُجَاوِز السَّبْع غَسَلَات فِي غُسْل الْمَيِّت بِإِجْمَاعٍ ; عَلَى مَا حَكَاهُ أَبُو عُمَر . فَإِنْ خَرَجَ مِنْهُ شَيْء بَعْد السَّبْع غَسَّلَ الْمَوْضِع وَحْده , وَحُكْمه حُكْم الْجُنُب إِذَا أَحْدَثَ بَعْد غُسْله . فَإِذَا فَرَغَ مِنْ غُسْله كَفَنه فِي ثِيَابه وَهِيَ :</p><p>الْخَامِسَة : وَالتَّكْفِين وَاجِب عِنْد عَامَّة الْعُلَمَاء , فَإِنْ كَانَ لَهُ مَال فَمِنْ رَأْس مَاله عِنْد عَامَّة الْعُلَمَاء إِلَّا مَا حُكِيَ عَنْ طَاوُس أَنَّهُ قَالَ : مِنْ الثُّلُث كَانَ الْمَال قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا . فَإِنْ كَانَ الْمَيِّت مِمَّنْ تَلْزَم غَيْرَهُ نَفَقَتُهُ فِي حَيَاته مِنْ سَيِّد إِنْ كَانَ عَبْدًا أَوْ أَب أَوْ زَوْج أَوْ اِبْن ; فَعَلَى السَّيِّد بِاتِّفَاقٍ , وَعَلَى الزَّوْج وَالْأَب وَالِابْن بِاخْتِلَافٍ . ثُمَّ عَلَى بَيْت الْمَال أَوْ عَلَى جَمَاعَة الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْكِفَايَة . وَاَلَّذِي يَتَعَيَّن مِنْهُ بِتَعْيِينِ الْفَرْض سَتْر الْعَوْرَة ; فَإِنْ كَانَ فِيهِ فَضْل غَيْر أَنَّهُ لَا يَعُمّ جَمِيع الْجَسَد غُطِّيَ رَأْسه وَوَجْهه إِكْرَامًا لِوَجْهِهِ وَسَتْرًا لِمَا يَظْهَر مِنْ تَغَيُّر مَحَاسِنه .</p><p>وَالْأَصْل فِي هَذَا قِصَّة مُصْعَب بْن عُمَيْر , فَإِنَّهُ تَرَكَ يَوْم أُحُد نَمِرَة كَانَ إِذَا غُطِّيَ رَأْسه خَرَجَتْ رِجْلَاهُ , وَإِذَا غُطِّيَ رِجْلَاهُ خَرَجَ رَأْسه ; فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( ضَعُوهَا مِمَّا يَلِي رَأْسه وَاجْعَلُوا عَلَى رِجْلَيْهِ مِنْ الْإِذْخِر ) أَخْرَجَ الْحَدِيث مُسْلِم .</p><p>وَالْوِتْر مُسْتَحَبّ عِنْد كَافَّة الْعُلَمَاء فِي الْكَفَن , وَكُلّهمْ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ حَدّ وَالْمُسْتَحَبّ مِنْهُ الْبَيَاض قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( اِلْبَسُوا مِنْ ثِيَابكُمْ الْبَيَاض فَإِنَّهَا مِنْ خَيْر ثِيَابكُمْ وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ ) أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد . وَكُفِّنَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ثَلَاثَة أَثْوَاب بِيض سَحُولِيَّة مِنْ كُرْسُف . وَالْكَفَن فِي غَيْر الْبَيَاض جَائِز إِلَّا أَنْ يَكُون حَرِيرًا أَوْ خَزًّا .</p><p>فَإِنْ تَشَاحَّ الْوَرَثَة فِي الْكَفَن قُضِيَ عَلَيْهِمْ فِي مِثْل لِبَاسه فِي جُمُعَتِهِ وَأَعْيَاده قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِذَا كَفَّنَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُحْسِنْ كَفَنه ) أَخْرَجَهُ مُسْلِم . إِلَّا أَنْ يُوصِي بِأَقَلّ مِنْ ذَلِكَ . فَإِنْ أَوْصَى بِسَرَفٍ قِيلَ : يَبْطُل الزَّائِد . وَقِيلَ : يَكُون فِي الثُّلُث . وَالْأَوَّل أَصَحّ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى : | وَلَا تُسْرِفُوا | [ الْأَنْعَام : 141 ] . وَقَالَ أَبُو بَكْر : إِنَّهُ لِلْمُهْلَةِ . فَإِذَا فَرَغَ مِنْ غُسْله وَتَكْفِينه وَوُضِعَ عَلَى سَرِيره وَاحْتَمَلَهُ الرِّجَال عَلَى أَعْنَاقهمْ وَهِيَ :</p><p>السَّادِسَة : فَالْحُكْم الْإِسْرَاع فِي الْمَشْي ; لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( أَسْرِعُوا بِالْجِنَازَةِ فَإِنْ تَكُ صَالِحَة فَخَيْر تُقَدِّمُونَهَا إِلَيْهِ وَإِنْ تَكُنْ غَيْر ذَلِكَ فَشَرّ تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابكُمْ ) . لَا كَمَا يَفْعَلهُ الْيَوْم الْجُهَّال فِي الْمَشْي رُوَيْدًا وَالْوُقُوف بِهَا الْمَرَّة بَعْد الْمَرَّة , وَقِرَاءَة الْقُرْآن بِالْأَلْحَانِ إِلَى مَا لَا يَحِلّ وَلَا يَجُوز حَسْب مَا يَفْعَلهُ أَهْل الدِّيَار الْمِصْرِيَّة بِمَوْتَاهُمْ . رَوَى النَّسَائِيّ : أَخْبَرْنَا مُحَمَّد بْن عَبْد الْأَعْلَى قَالَ حَدَّثَنَا خَالِد قَالَ أَنْبَأَنَا عُيَيْنَة بْن عَبْد الرَّحْمَن قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ : شَهِدْت جِنَازَة عَبْد الرَّحْمَن بْن سَمُرَة وَخَرَجَ زِيَاد يَمْشِي بَيْنَ يَدَيْ السَّرِير , فَجَعَلَ رِجَال مِنْ أَهْل عَبْد الرَّحْمَن وَمَوَالِيهمْ يَسْتَقْبِلُونَ السَّرِير وَيَمْشُونَ عَلَى أَعْقَابهمْ وَيَقُولُونَ : رُوَيْدًا رُوَيْدًا , بَارَكَ اللَّه فِيكُمْ ! فَكَانُوا يَدِبُّونَ دَبِيبًا , حَتَّى إِذَا كُنَّا بِبَعْضِ طَرِيق الْمِرْيَد لَحِقَنَا أَبُو بَكْرَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ عَلَى بَغْلَة فَلَمَّا رَأَى الَّذِينَ يَصْنَعُونَ حَمَلَ عَلَيْهِمْ بِبَغْلَتِهِ وَأَهْوَى إِلَيْهِمْ بِالسَّوْطِ فَقَالَ : خَلُّوا ! فَوَاَلَّذِي أَكْرَم وَجْه أَبِي الْقَاسِم صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَدْ رَأَيْتنَا مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّهَا لِنَكَادَ نَرْمُل بِهَا رَمْلًا , فَانْبَسَطَ الْقَوْم . وَرَوَى أَبُو مَاجِدَة عَنْ اِبْن مَسْعُود قَالَ سَأَلْنَا نَبِيّنَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ سَلَّمَ عَنْ الْمَشْي مَعَ الْجِنَازَة فَقَالَ : ( دُون الْخَبَب إِنْ يَكُنْ خَيْرًا يُعَجَّل إِلَيْهِ وَإِنْ يَكُنْ غَيْر ذَلِكَ فَبُعْدًا لِأَهْلِ النَّار ) الْحَدِيث . قَالَ أَبُو عُمَر : وَاَلَّذِي عَلَيْهِ جَمَاعَة الْعُلَمَاء فِي ذَلِكَ الْإِسْرَاع فَوْق السَّجِيَّة قَلِيلًا , وَالْعَجَلَة أَحَبّ إِلَيْهِمْ مِنْ الْإِبْطَاء . وَيُكْرَهُ الْإِسْرَاع الَّذِي يَشُقّ عَلَى ضَعَفَة النَّاس مِمَّنْ يَتْبَعُهَا . وَقَالَ إِبْرَاهِيم النَّخَعِيّ : بَطِّئُوا بِهَا قَلِيلًا وَلَا تَدِبُّوا دَبِيب الْيَهُود وَالنَّصَارَى . وَقَدْ تَأَوَّلَ قَوْم الْإِسْرَاع فِي حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة تَعْجِيل الدَّفْن لَا الْمَشْي , وَلَيْسَ بِشَيْءٍ لِمَا ذَكَرْنَا . وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيق .</p><p>السَّابِعَة : وَأَمَّا الصَّلَاة عَلَيْهِ فَهِيَ وَاجِبَة عَلَى الْكِفَايَة كَالْجِهَادِ . هَذَا هُوَ الْمَشْهُور مِنْ مَذَاهِب الْعُلَمَاء : مَالِك وَغَيْره ; لِقَوْلِهِ فِي النَّجَاشِيّ : ( قُومُوا فَصَلُّوا عَلَيْهِ ) . وَقَالَ أَصْبَغ : إِنَّهَا سُنَّة . وَرَوَى عَنْ مَالِك . وَسَيَأْتِي لِهَذَا الْمَعْنَى زِيَادَة بَيَان فِي | بَرَاءَة | .</p><p>الثَّامِنَة : وَأَمَّا دَفْنه فِي التُّرَاب وَدَسّه وَسَتْره فَذَلِكَ وَاجِب ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى : | فَبَعَثَ اللَّه غُرَابًا يَبْحَث فِي الْأَرْض لِيُرِيَهُ كَيْف يُوَارِي سَوْأَة أَخِيهِ | [ الْمَائِدَة : 31 ] . وَهُنَاكَ يُذْكَر حُكْم بُنْيَان الْقَبْر وَمَا يُسْتَحَبّ مِنْهُ , وَكَيْفِيَّة جَعْل الْمَيِّت فِيهِ . وَيَأْتِي فِي | الْكَهْف | حُكْم بِنَاء الْمَسْجِد عَلَيْهِ , إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . فَهَذِهِ جُمْلَة مِنْ أَحْكَام الْمَوْتَى وَمَا يَجِب لَهُمْ عَلَى الْأَحْيَاء . وَعَنْ عَائِشَة قَالَتْ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا تَسُبُّوا الْأَمْوَات فَإِنَّهُمْ قَدْ أَفْضَوْا إِلَى مَا قَدَّمُوا ) أَخْرَجَهُ مُسْلِم . وَفِي سُنَن النَّسَائِيّ عَنْهَا أَيْضًا قَالَتْ : ذُكِرَ عِنْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَالِك بِسُوءٍ فَقَالَ : ( لَا تَذْكُرُوا هَلْكَاكُمْ إِلَّا بِخَيْرٍ ) .|وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ|فَأَجْر الْمُؤْمِن ثَوَاب , وَأَجْر الْكَافِر عِقَاب , وَلَمْ يَعْتَدّ بِالنِّعْمَةِ وَالْبَلِيَّة فِي الدُّنْيَا أَجْرًا وَجَزَاء ; لِأَنَّهَا عَرْصَة الْفَنَاء .|فَمَنْ زُحْزِحَ|أَيْ أُبْعِد .|عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ|ظَفِرَ بِمَا يَرْجُو , وَنَجَا مِمَّا يَخَاف . وَرَوَى الْأَعْمَش عَنْ زَيْد بْن وَهْب عَنْ عَبْد الرَّحْمَن بْن عَبْد رَبّ الْكَعْبَة عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُزَحْزَح عَنْ النَّار وَأَنْ يُدْخَل الْجَنَّة فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّته وَهُوَ يَشْهَد أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّه وَيَأْتِي إِلَى النَّاس الَّذِي يُحِبّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ ) . عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَوْضِع سَوْط فِي الْجَنَّة خَيْر مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا اِقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ | فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّار وَأُدْخِلَ الْجَنَّة فَقَدْ فَازَ | ) .|وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ|أَيْ تَغُرّ الْمُؤْمِن وَتَخْدَعهُ فَيَظُنّ طُول الْبَقَاء وَهِيَ فَانِيَة .</p><p>وَالْمَتَاع مَا يُتَمَتَّع بِهِ وَيُنْتَفَع ; كَالْفَأْسِ وَالْقِدْر وَالْقَصْعَة ثُمَّ يَزُول وَلَا يَبْقَى مِلْكَهُ ; قَالَهُ أَكْثَر الْمُفَسِّرِينَ . قَالَ الْحَسَن : كَخَضِرَةِ النَّبَات , وَلَعِب الْبَنَات لَا حَاصِل لَهُ . وَقَالَ قَتَادَة : هِيَ مَتَاع مَتْرُوك تُوشِك أَنْ تَضْمَحِلّ بِأَهْلِهَا ; فَيَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَأْخُذ مِنْ هَذَا الْمَتَاع بِطَاعَةِ اللَّه سُبْحَانه مَا اِسْتَطَاعَ . وَلَقَدْ أَحْسَن مَنْ قَالَ <br>هِيَ الدَّار دَار الْأَذَى وَالْقَذَى .......... وَدَار الْفِنَاء وَدَار الْغِيَرْ <br><br>فَلَوْ نِلْتَهَا بِحَذَافِيرِهَا .......... لَمُتَّ وَلَمْ تَقْضِ مِنْهَا الْوَطَرْ <br><br>أَيَا مَنْ يُؤَمِّلُ طُولَ الْخُلُودْ .......... وَطُولُ الْخُلُودِ عَلَيْهِ ضَرَرْ <br><br>إِذَا أَنْتَ شِبْتَ وَبَانَ الشَّبَابْ .......... فَلَا خَيْرَ فِي الْعَيْشِ بَعْدَ الْكِبَرْ <br>وَالْغَرُور ( بِفَتْحِ الْغَيْن ) الشَّيْطَان ; يَغُرّ النَّاس بِالتَّمْنِيَةِ وَالْمَوَاعِيد الْكَاذِبَة . قَالَ اِبْن عَرَفَة : الْغُرُور مَا رَأَيْت لَهُ ظَاهِرًا تُحِبّهُ , وَفِيهِ بَاطِن مَكْرُوه أَوْ مَجْهُول . وَالشَّيْطَان غَرُور ; لِأَنَّهُ يَحْمِل عَلَى مَحَابّ النَّفْس , وَوَرَاء ذَلِكَ مَا يَسُوء . قَالَ : وَمِنْ هَذَا بَيْع الْغَرَر , وَهُوَ مَا كَانَ لَهُ ظَاهِر بَيْع يَغُرّ وَبَاطِن مَجْهُول .

لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ

هَذَا الْخِطَاب لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّته وَالْمَعْنَى : لَتُخْتَبَرُنَّ وَلَتُمْتَحَنُنَّ فِي أَمْوَالكُمْ بِالْمَصَائِبِ وَالْأَرْزَاء بِالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيل اللَّه وَسَائِر تَكَالِيف الشَّرْع . وَالِابْتِلَاء فِي الْأَنْفُس بِالْمَوْتِ وَالْأَمْرَاض وَفَقْد الْأَحْبَاب . وَبَدَأَ بِذِكْرِ الْأَمْوَال لِكَثْرَةِ الْمَصَائِب بِهَا . | وَلَتَسْمَعُنَّ | إِنْ قِيلَ : لَمَ ثَبَتَتْ الْوَاو فِي | لَتُبْلَوُنَّ | وَحُذِفَتْ مِنْ | وَلَتَسْمَعُنَّ | ; فَالْجَوَاب أَنَّ الْوَاو فِي | لَتُبْلَوُنَّ | قَبْلهَا فَتْحَة فَحُرِّكَتْ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ , وَخُصَّتْ بِالضَّمَّةِ لِأَنَّهَا وَاو الْجَمْع , وَلَمْ يَجُزْ حَذْفهَا لِأَنَّهَا لَيْسَ قَبْلهَا مَا يَدُلّ عَلَيْهَا , وَحُذِفَتْ مِنْ | وَلَتَسْمَعُنَّ | لِأَنَّ قَبْلهَا مَا يَدُلّ عَلَيْهَا . وَلَا يَجُوز هَمْز الْوَاو فِي | لَتُبْلَوُنَّ | لِأَنَّ حَرَكَتهَا عَارِضَة ; قَالَهُ النَّحَّاس وَغَيْره . وَيُقَال لِلْوَاحِدِ مِنْ الْمُذَكَّر : لَتُبْلَيَنَّ يَا رَجُل . وَلِلِاثْنَيْنِ : لَتُبْلَيَانِّ يَا رَجُلَانِ . وَلِجَمَاعَةِ الرِّجَال : لَتُبْلَوُنَّ . وَنَزَلَتْ بِسَبَبِ أَنَّ أَبَا بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ سَمِعَ يَهُودِيًّا يَقُول : إِنَّ اللَّه فَقِير وَنَحْنُ أَغْنِيَاء . رَدًّا عَلَى الْقُرْآن وَاسْتِخْفَافًا بِهِ حِين أَنْزَلَ اللَّه | مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِض اللَّه قَرْضًا حَسَنًا | [ الْبَقَرَة : 245 ] فَلَطَمَهُ ; فَشَكَاهُ إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ . قِيلَ : إِنَّ قَائِلهَا فنحاص الْيَهُودِيّ ; عَنْ عِكْرِمَة . الزُّهْرِيّ : هُوَ كَعْب بْن الْأَشْرَف نَزَلَتْ بِسَبَبِهِ ; وَكَانَ شَاعِرًا , وَكَانَ يَهْجُو النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابه , وَيُؤَلِّب عَلَيْهِ كُفَّار قُرَيْش , وَيُشَبِّب بِنِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى بَعَثَ إِلَيْهِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحَمَّد بْن مَسْلَمَة وَأَصْحَابه فَقَتَلَهُ الْقَتْلَةَ الْمَشْهُورَة فِي السِّيَر وَصَحِيح الْخَبَر . وَقِيلَ غَيْر هَذَا . وَكَانَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَة كَانَ بِهَا الْيَهُود وَالْمُشْرِكُونَ , فَكَانَ هُوَ وَأَصْحَابه يَسْمَعُونَ أَذًى كَثِيرًا . , وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام مَرَّ بِابْنِ أُبَيّ وَهُوَ عَلَيْهِ السَّلَام عَلَى حِمَار فَدَعَاهُ إِلَى اللَّه تَعَالَى فَقَالَ اِبْن أُبَيّ : إِنْ كَانَ مَا تَقُول حَقًّا فَلَا تُؤْذِنَا بِهِ فِي مَجَالِسنَا ! اِرْجِعْ إِلَى رَحْلك , فَمَنْ جَاءَك فَاقْصُصْ عَلَيْهِ . وَقَبَضَ عَلَى أَنْفه لِئَلَّا يُصِيبهُ غُبَار الْحِمَار , فَقَالَ اِبْن رَوَاحَة : نَعَمْ يَا رَسُول اللَّه , فَاغْشَنَا فِي مَجَالِسنَا فَإِنَّا نُحِبّ ذَلِكَ . وَاسْتَبَّ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ كَانُوا حَوْل اِبْن أُبَيّ وَالْمُسْلِمُونَ , وَمَا زَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَكِّنهُمْ حَتَّى سَكَنُوا . ثُمَّ دَخَلَ عَلَى سَعْد بْن عُبَادَة يَعُودهُ وَهُوَ مَرِيض , فَقَالَ : ( أَلَمْ تَسْمَع مَا قَالَ فُلَان ) فَقَالَ سَعْد : اعْفُ عَنْهُ وَاصْفَحْ , فَوَاَلَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْك الْكِتَاب لَقَدْ جَاءَك اللَّه بِالْحَقِّ الَّذِي نَزَلَ , وَقَدْ اِصْطَلَحَ أَهْل هَذِهِ الْبُحَيْرَة عَلَى أَنْ يُتَوِّجُوهُ وَيَعْصِبُوهُ بِالْعِصَابَةِ ; فَلَمَّا رَدَّ اللَّه ذَلِكَ بِالْحَقِّ الَّذِي أَعْطَاكَهُ شَرِقَ بِهِ , فَذَلِكَ فَعَلَ بِهِ مَا رَأَيْت . فَعَفَا عَنْهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة . قِيلَ : هَذَا كَانَ قَبْل نُزُول الْقِتَال , وَنَدَبَ اللَّه عِبَاده إِلَى الصَّبْر وَالتَّقْوَى وَأَخْبَرَ أَنَّهُ مِنْ عَزْم الْأُمُور . وَكَذَا فِي الْبُخَارِيّ فِي سِيَاق الْحَدِيث , إِنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْل نُزُول الْقِتَال . وَالْأَظْهَر أَنَّهُ لَيْسَ بِمَنْسُوخٍ ; فَإِنَّ الْجِدَال بِالْأَحْسَنِ وَالْمُدَارَاة أَبَدًا مَنْدُوب إِلَيْهَا , وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَام مَعَ الْأَمْر بِالْقِتَالِ يُوَادِع الْيَهُود وَيُدَارِيهِمْ , وَيَصْفَح عَنْ الْمُنَافِقِينَ , وَهَذَا بَيِّن . وَمَعْنَى | عَزْم الْأُمُور | شَدّهَا وَصَلَابَتهَا . وَقَدْ تَقَدَّمَ .

وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ

هَذَا مُتَّصِل بِذِكْرِ الْيَهُود ; فَإِنَّهُمْ أُمِرُوا بِالْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَام وَبَيَان أَمْره , فَكَتَمُوا نَعْته . فَالْآيَة تَوْبِيخ لَهُمْ , ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ هُوَ خَبَر عَامّ لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ . قَالَ الْحَسَن وَقَتَادَة : هِيَ فِي كُلّ مَنْ أُوتِيَ عِلْم شَيْء مِنْ الْكِتَاب . فَمَنْ عَلِمَ شَيْئًا فَلْيُعَلِّمْهُ , وَإِيَّاكُمْ وَكِتْمَان الْعِلْم فَإِنَّهُ هَلَكَة . وَقَالَ مُحَمَّد بْن كَعْب : لَا يَحِلّ لِعَالِمٍ أَنْ يَسْكُت عَلَى عِلْمه , وَلَا لِلْجَاهِلِ أَنْ يَسْكُت عَلَى جَهْله ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : | وَإِذْ أَخَذَ اللَّه مِيثَاق الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب | الْآيَة . وَقَالَ : | فَاسْأَلُوا أَهْل الذِّكْر إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ | [ النَّحْل : 42 ] . وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة : لَوْلَا مَا أَخَذَ اللَّه عَلَى أَهْل الْكِتَاب مَا حَدَّثْتُكُمْ بِشَيْءٍ ; ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَة | وَإِذَا أَخَذَ اللَّه مِيثَاق الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب | . وَقَالَ الْحَسَن بْن عُمَارَة : أَتَيْت الزُّهْرِيّ بَعْد مَا تَرَكَ الْحَدِيث , فَأَلْفَيْته عَلَى بَابه فَقُلْت : إِنْ رَأَيْت أَنْ تُحَدِّثنِي . فَقَالَ : أَمَّا عَلِمْت أَنِّي تَرَكْت الْحَدِيث ؟ فَقُلْت : إِمَّا أَنْ تُحَدِّثنِي وَإِمَّا أَنْ أُحَدِّثك . قَالَ حَدِّثْنِي . قُلْت : حَدَّثَنِي الْحَكَم بْن عُتَيْبَة عَنْ يَحْيَى بْن الْجَزَّار قَالَ سَمِعْت عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب يَقُول : مَا أَخَذَ اللَّه عَلَى الْجَاهِلِينَ أَنْ يَتَعَلَّمُوا حَتَّى أَخَذَ عَلَى الْعُلَمَاء أَنْ يُعَلِّمُوا . قَالَ : فَحَدَّثَنِي أَرْبَعِينَ حَدِيثًا .|لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ|الْهَاء فِي قَوْله : | لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ | تَرْجِع إِلَى مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ . وَقِيلَ : تَرْجِع إِلَى الْكِتَاب ; وَيَدْخُل فِيهِ بَيَان أَمْر النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; لِأَنَّهُ فِي الْكِتَاب .|وَلَا تَكْتُمُونَهُ|وَلَمْ يَقُلْ تَكْتُمُنَّهُ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْحَال , أَيْ لَتُبَيِّنُنَّهُ غَيْر كَاتِمِينَ . وَقَرَأَ أَبُو عَمْرو وَعَاصِم فِي رِوَايَة أَبِي بَكْر وَأَهْل مَكَّة | لَتُبَيِّنُنَّهُ | بِالتَّاءِ عَلَى حِكَايَة الْخِطَاب . وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ لِأَنَّهُمْ غَيْب . وَقَرَأَ اِبْن عَبَّاس | وَإِذْ أَخَذَ اللَّه مِيثَاق النَّبِيِّينَ لَيُبَيِّنُنَّهُ | . فَيَجِيء قَوْله|فَنَبَذُوهُ|عَائِدًا عَلَى النَّاس الَّذِينَ بَيَّنَ لَهُمْ الْأَنْبِيَاء . وَفِي قِرَاءَة اِبْن مَسْعُود | لَيُبَيِّنُونَهُ | دُون النُّون الثَّقِيلَة . وَالنَّبْذ الطَّرْح . وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانه فِي | الْبَقَرَة | . | بَيَانه أَيْضًا .|وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ|مُبَالَغَة فِي الِاطِّرَاح , وَمِنْهُ | وَاِتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا | [ هُود : 92 ] وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي | الْبَقَرَة | بَيَانه أَيْضًا . وَتَقَدَّمَ مَعْنَى قَوْله :|وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا|نَهَاهُمْ عَنْ أَنْ يَكُونُوا أَوَّل مَنْ كَفَرَ وَأَلَّا يَأْخُذُوا عَلَى آيَات اللَّه ثَمَنًا أَيْ عَلَى تَغْيِير صِفَة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُشًى وَكَانَ الْأَحْبَار يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فَنُهُوا عَنْهُ قَالَ قَوْم مِنْ أَهْل التَّأْوِيل مِنْهُمْ الْحَسَن وَغَيْره وَقِيلَ كَانَتْ لَهُمْ مَأْكَل يَأْكُلُونَهَا عَلَى الْعِلْم كَالرَّاتِبِ فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ وَقُلْ إِنَّ الْأَحْبَار كَانُوا يُعَلِّمُونَ دِينهمْ بِالْأُجْرَةِ فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ وَفَى كُتُبهمْ يَا بْن آدَم عَلِّمْ مَجَّانًا كَمَا عُلِّمْت مَجَّانًا أَيْ بَاطِلًا بِغَيْرِ أُجْرَة قَالَ أَبُو الْعَالِيَة وَقِيلَ الْمَعْنَى وَلَا تَشْتَرُوا بِأَوَامِر ي وَنَوَاهِيَّ وَآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا يَعْنِي الدُّنْيَا وَمُدَّتهَا وَالْعَيْثَى الَّذِي هُوَ نَزْر لَا خَطَر لَهُ فَسَمَّى مَا اعْتَاضُوهُ عَنْ ذَلِكَ ثَمَنًا لِأَنَّهُمْ جَعَلُوهُ عِوَضًا فَانْطَلَقَ عَلَيْهِ اِسْم الثَّمَن وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَنًا وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى وَقَالَ الشَّاعِر <br>إِنْ كُنْت حَاوَلْت ذَنْبًا أَوْ ظَفِرْت بِهِ .......... فَمَا أَصَبْت بِتَرْكِ الْحَجّ مِنْ ثَمَن <br>قُلْت : وَهَذِهِ الْآيَة وَإِنْ كَانَتْ خَاصَّة بِبَنِي إِسْرَائِيل فَهِيَ تَتَنَاوَل مَنْ فَعَلَ فِعْلهمْ فَمَنْ أَخَذَ رِشْوَة عَلَى تَغْيِير حَقّ أَوْ إِبْطَاله أَوْ اِمْتَنَعَ مِنْ تَعْلِيم مَا وَجَبَ عَلَيْهِ أَوْ أَدَاء مَا عَلِمَهُ وَقَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ حَتَّى يَأْخُذ عَلَيْهِ أَجْرًا فَقَدْ دَخَلَ فِي مُقْتَضَى الْآيَة وَاَللَّه أَعْلَم وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْه اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لَا يَتَعَلَّمهُ إِلَّا لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضًا مِنْ الدُّنْيَا لَمْ يَجِد عَرْف الْجَنَّة يَوْم الْقِيَامَة ) يَعْنِي رِيحهَا|فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ|قَالَ الْفَرَّاء : أَيْ اِشْتَرَوْا أَنْفُسهمْ بِأَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّه . فَاشْتَرَى بِمَعْنَى بَاعَ وَبِمَعْنَى اِبْتَاعَ ; وَالْمَعْنَى : بِئْسَ الشَّيْء الَّذِي اِخْتَارُوا لِأَنْفُسِهِمْ حَيْثُ اِسْتَبْدَلُوا الْبَاطِل بِالْحَقِّ , وَالْكُفْر بِالْإِيمَانِ .

لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ

أَيْ بِمَا فَعَلُوا مِنْ الْقُعُود فِي التَّخَلُّف عَنْ الْغَزْو وَجَاءُوا بِهِ مِنْ الْعُذْر . ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ أَنَّ رِجَالًا مِنْ الْمُنَافِقِينَ فِي عَهْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا خَرَجَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْغَزْو تَخَلَّفُوا عَنْهُ وَفَرِحُوا بِمَقْعَدِهِمْ خِلَاف رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَإِذَا قَدِمَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِعْتَذَرُوا إِلَيْهِ وَحَلَفُوا , وَأَحَبُّوا أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا ; فَنَزَلَتْ | لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا | الْآيَة . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا أَنَّ مَرْوَان قَالَ لِبَوَّابِهِ : اِذْهَبْ يَا رَافِع إِلَى اِبْن عَبَّاس فَقُلْ لَهُ : لَئِنْ كَانَ كُلّ اِمْرِئٍ مِنَّا فَرِحَ بِمَا أُوتِيَ وَأَحَبَّ أَنْ يُحْمَد بِمَا لَمْ يَفْعَل مُعَذَّبًا لَنُعَذَّبَنَّ أَجْمَعُونَ . فَقَالَ اِبْن عَبَّاس : مَا لَكُمْ وَلِهَذِهِ الْآيَة ! إِنَّمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَة فِي أَهْل الْكِتَاب . ثُمَّ تَلَا اِبْن عَبَّاس | وَإِذَا أَخَذَ اللَّه مِيثَاق الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ | و | لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا | . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : سَأَلَهُمْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَيْء فَكَتَمُوهُ إِيَّاهُ , وَأَخْبَرُوهُ بِغَيْرِهِ ; فَخَرَجُوا وَقَدْ أَرَوْهُ أَنْ قَدْ أَخْبَرُوهُ بِمَا سَأَلَهُمْ عَنْهُ وَاسْتَحْمَدُوا بِذَلِكَ إِلَيْهِ , وَفَرِحُوا بِمَا أَتَوْا مِنْ كِتْمَانهمْ إِيَّاهُ , وَمَا سَأَلَهُمْ عَنْهُ . وَقَالَ مُحَمَّد بْن كَعْب الْقُرَظِيّ : نَزَلَتْ فِي عُلَمَاء بَنِي إِسْرَائِيل الَّذِينَ كَتَمُوا الْحَقّ , وَأَتَوْا مُلُوكهمْ مِنْ الْعِلْم مَا يُوَافِقهُمْ فِي بَاطِلهمْ , | وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا | أَيْ بِمَا أَعْطَاهُمْ الْمُلُوك مِنْ الدُّنْيَا ; فَقَالَ اللَّه لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : | لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنْ الْعَذَاب وَلَهُمْ عَذَاب أَلِيم | . فَأَخْبَرَ أَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا بِمَا أَفْسَدُوا مِنْ الدِّين عَلَى عِبَاد اللَّه . وَقَالَ الضَّحَّاك : إِنَّ الْيَهُود كَانُوا يَقُولُونَ لِلْمُلُوكِ إِنَّا نَجِد فِي كِتَابنَا أَنَّ اللَّه يَبْعَث نَبِيّنَا فِي آخِر الزَّمَان يَخْتِم بِهِ النُّبُوَّة ; فَلَمَّا بَعَثَهُ اللَّه سَأَلَهُمْ الْمُلُوك أَهُوَ هَذَا الَّذِي تَجِدُونَهُ فِي كِتَابكُمْ ؟ فَقَالَ الْيَهُود طَمَعًا فِي أَمْوَال الْمُلُوك : هُوَ غَيْر ذَلِكَ , فَأَعْطَاهُمْ الْمُلُوك الْخَزَائِن ; فَقَالَ اللَّه تَعَالَى : | لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا | الْمُلُوكَ مِنْ الْكَذِب حَتَّى يَأْخُذُوا عَرَضَ الدُّنْيَا . وَالْحَدِيث الْأَوَّل خِلَاف مُقْتَضَى الْحَدِيث الثَّانِي . وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون نُزُولهَا عَلَى السَّبَبَيْنِ لِاجْتِمَاعِهِمَا فِي زَمَن وَاحِد , فَكَانَتْ جَوَابًا لِلْفَرِيقَيْنِ . وَاَللَّه أَعْلَم . وَقَوْله : وَاسْتَحْمَدُوا بِذَلِكَ إِلَيْهِ , أَيْ طَلَبُوا أَنْ يُحْمَدُوا . وَقَوْل مَرْوَان : لَئِنْ كَانَ كُلّ اِمْرِئٍ مِنَّا إِلَخْ دَلِيل عَلَى أَنَّ لِلْعُمُومِ صِيَغًا مَخْصُوصَة , وَأَنَّ | الَّذِينَ | مِنْهَا . وَهَذَا مَقْطُوع بِهِ مَنْ تَفَهُّم ذَلِكَ مِنْ الْقُرْآن وَالسُّنَّة . وَقَوْله تَعَالَى : | وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا | إِذَا كَانَتْ الْآيَة فِي أَهْل الْكِتَاب لَا فِي الْمُنَافِقِينَ الْمُتَخَلِّفِينَ ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ : نَحْنُ عَلَى دِين إِبْرَاهِيم وَلَمْ يَكُونُوا عَلَى دِينه , وَكَانُوا يَقُولُونَ : نَحْنُ أَهْل الصَّلَاة وَالصَّوْم وَالْكِتَاب ; يُرِيدُونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِذَلِكَ . و | الَّذِينَ | فَاعِل بِيَحْسَبَنَّ بِالْيَاءِ . وَهِيَ قِرَاءَة نَافِع وَابْن عَامِر وَابْن كَثِير وَأَبِي عَمْرو ; أَيْ لَا يَحَسَبَنَّ الْفَارِحُونَ فَرَحهمْ مُنَجِّيًا لَهُمْ مِنْ الْعَذَاب . وَقِيلَ : الْمَفْعُول الْأَوَّل مَحْذُوف , وَهُوَ أَنْفُسهمْ . وَالثَّانِي | بِمَفَازَةٍ | . وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ | تَحْسَبَنَّ | بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَاب لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; أَيْ لَا تَحْسَبَنَّ يَا مُحَمَّد الْفَارِحِينَ بِمَفَازَةٍ مِنْ الْعَذَاب . وَقَوْله | فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ | بِالتَّاءِ وَفَتْح الْبَاء , إِعَادَة تَأْكِيد , وَمَفْعُوله الْأَوَّل الْهَاء وَالْمِيم , وَالْمَفْعُول الثَّانِي مَحْذُوف ; أَيْ كَذَلِكَ , وَالْفَاء عَاطِفَة أَوْ زَائِدَة عَلَى بَدَل الْفِعْل الثَّانِي مِنْ الْأَوَّل . وَقَرَأَ الضَّحَّاك وَعِيسَى بْن عُمَر بِالتَّاءِ وَضَمّ الْبَاء | فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ | أَرَادَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابه . وَقَرَأَ مُجَاهِد وَابْن كَثِير وَأَبُو عَمْرو وَيَحْيَى بْن يَعْمَر بِالْيَاءِ وَضَمّ الْبَاء خَبَرًا عَنْ الْفَارِحِينَ ; أَيْ فَلَا يَحَسَبَنَّ أَنْفُسهمْ ; | بِمَفَازَةٍ | الْمَفْعُول الثَّانِي . وَيَكُون | فَلَا يَحْسَبَنَّهُمْ | تَأْكِيدًا . وَقِيلَ : | الَّذِينَ | فَاعِل | بِيَحْسَبَنَّ | وَمَفْعُولَاهَا مَحْذُوفَانِ لِدَلَالَةِ | يَحْسَبَنَّهُمْ | عَلَيْهِ ; كَمَا قَالَ الشَّاعِر : <br>بِأَيِّ كِتَاب أَمْ بِأَيَّةِ آيَة .......... تَرَى حُبَّهُمْ عَارًا عَلَيَّ وَتَحْسَب <br>اِسْتَغْنَى بِذِكْرِ مَفْعُول الْوَاحِد عَنْ ذِكْر مَفْعُول , الثَّانِي , و | بِمَفَازَةٍ | الثَّانِي , وَهُوَ بَدَل مِنْ الْفِعْل الْأَوَّل فَأَغْنَى لِإِبْدَالِهِ مِنْهُ عَنْ ذِكْر مَفْعُولَيْهِ , وَالْفَاء زَائِدَة . وَقِيلَ : قَدْ تَجِيء هَذِهِ الْأَفْعَال مُلْغَاة لَا فِي حُكْم الْجُمَل الْمُفِيدَة نَحْو قَوْل الشَّاعِر : <br>وَمَا خِلْت أَبْقَى بَيْننَا مِنْ مَوَدَّة .......... عِرَاض الْمَذَاكِي الْمُسْنِفَات الْقَلَائِصَا <br>الْمَذَاكِي : الْخَيْل الَّتِي قَدْ أَتَى عَلَيْهَا بَعْد قُرُوحهَا سَنَة أَوْ سَنَتَانِ ; الْوَاحِد مُذَكٍّ , مِثْل الْمُخْلِف مِنْ الْإِبِل ; وَفِي الْمِثْل جَرْي الْمُذَكَّيَات غِلَاب , وَالْمُسْنِفَات اِسْم مَفْعُول ; يُقَال : سَنَفْت الْبَعِير أَسْنِفُهُ سَنْفًا إِذَا كَفَفْته بِزِمَامِهِ وَأَنْتَ رَاكِبه , وَأَسْنَفَ الْبَعِير لُغَة فِي سَنَفَهُ , وَأَسْنَفَ الْبَعِير بِنَفْسِهِ إِذَا رَفَعَ رَأْسه ; يَتَعَدَّى وَلَا يَتَعَدَّى . وَكَانَتْ الْعَرَب تَرْكَب الْإِبِل وَتَجَنَّبُ الْخَيْل ; تَقُول : الْحَرْب لَا تُبْقِي مَوَدَّة . وَقَالَ كَعْب بْن أَبِي سُلْمَى : <br>أَرْجُو وَآمُلُ أَنْ تَدْنُو مَوَدَّتُهَا .......... وَمَا إِخَالُ لَدَيْنَا مِنْكِ تَنْوِيلُ <br>وَقَرَأَ جُمْهُور الْقُرَّاء السَّبْعَة وَغَيْرهمْ | أَتَوْا | بِقَصْرِ الْأَلِف , أَيْ بِمَا جَاءُوا بِهِ مِنْ الْكَذِب وَالْكِتْمَان . وَقَرَأَ مَرْوَان بْن الْحَكَم وَالْأَعْمَش وَإِبْرَاهِيم النَّخَعِيّ | آتَوْا | بِالْمَدِّ , بِمَعْنَى أَعْطَوْا : وَقَرَأَ سَعِيد بْن جُبَيْر | أُوتُوا | عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِله ; أَيْ أُعْطُوا . وَالْمَفَازَة الْمَنْجَاة , مَفْعَلَة مِنْ فَازَ يَفُوز إِذَا نَجَا ; أَيْ لَيْسُوا بِفَائِزِينَ . وَسُمِّيَ مَوْضِع الْمَخَاوِف مَفَازَة عَلَى جِهَة التَّفَاؤُل ; قَالَهُ الْأَصْمَعِيّ . وَقِيلَ : لِأَنَّهَا مَوْضِع تَفْوِيز وَمَظِنَّة هَلَاك ; تَقُول الْعَرَب : فُوِّزَ الرَّجُل إِذَا مَاتَ . قَالَ ثَعْلَب : حَكَيْت لِابْنِ الْأَعْرَابِيّ قَوْل الْأَصْمَعِيّ فَقَالَ أَخْطَأَ , قَالَ لِي أَبُو الْمَكَارِم : إِنَّمَا سُمِّيَتْ مَفَازَة ; لِأَنَّ مَنْ قَطَعَهَا فَازَ . وَقَالَ الْأَصْمَعِيّ : سُمِّيَ اللَّدِيغ سَلِيمًا تَفَاؤُلًا . قَالَ اِبْن الْأَعْرَابِيّ : لِأَنَّهُ مُسْتَسْلِم لِمَا أَصَابَهُ . وَقِيلَ : لَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَكَانٍ بَعِيد مِنْ الْعَذَاب ; لِأَنَّ الْفَوْز التَّبَاعُد عَنْ الْمَكْرُوه . وَاَللَّه أَعْلَم .

وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ

هَذَا اِحْتِجَاج عَلَى الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّه فَقِير وَنَحْنُ أَغْنِيَاء , وَتَكْذِيب لَهُمْ . وَقِيلَ : الْمَعْنَى لَا تَظُنَّنَّ الْفَرِحِينَ يَنْجُونَ مِنْ الْعَذَاب ; فَإِنَّ لِلَّهِ كُلَّ شَيْء , وَهُمْ فِي قَبْضَة الْقَدِير ; فَيَكُون مَعْطُوفًا عَلَى , الْكَلَام الْأَوَّل , أَيْ إِنَّهُمْ لَا يَنْجُونَ مِنْ عَذَابه , يَأْخُذهُمْ مَتَى شَاءَ . | وَاَللَّه عَلَى كُلّ شَيْء | أَيْ مُمْكِن | قَدِير | وَقَدْ مَضَى فِي | الْبَقَرَة | .

إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ

تَقَدَّمَ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَة فِي | الْبَقَرَة | فِي غَيْر مَوْضِع . فَخَتَمَ تَعَالَى هَذِهِ السُّورَة بِالْأَمْرِ بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَال فِي آيَاته ; إِذْ لَا تَصْدُر إِلَّا عَنْ حَيّ قَيُّوم قَدِير وَقُدُّوس سَلَام غَنِيّ عَنْ الْعَالَمِينَ ; حَتَّى يَكُون إِيمَانهمْ مُسْتَنِدًا إِلَى الْيَقِين لَا إِلَى التَّقْلِيد .</p><p>| لَآيَات لِأُولِي الْأَلْبَاب | الَّذِينَ يَسْتَعْمِلُونَ عُقُولهمْ فِي تَأَمُّلِ الدَّلَائِل . وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ : لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة عَلَى النَّبِيّ قَامَ يُصَلِّي , فَأَتَاهُ بِلَال يُؤْذِنهُ بِالصَّلَاةِ , فَرَآهُ يَبْكِي فَقَالَ : يَا رَسُول اللَّه , أَتَبْكِي وَقَدْ غَفَرَ اللَّه لَك مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبك وَمَا تَأَخَّرَ ! فَقَالَ : ( يَا بِلَال , أَفَلَا أَكُون عَبْدًا شَكُورًا وَلَقَدْ أَنْزَلَ اللَّه عَلَيَّ اللَّيْلَة آيَة | إِنَّ فِي خَلْق السَّمَوَات وَالْأَرْض وَاخْتِلَاف اللَّيْل وَالنَّهَار لَآيَات لِأُولِي الْأَلْبَاب | - ثُمَّ قَالَ : ( وَيْل لِمَنْ قَرَأَهَا وَلَمْ يَتَفَكَّر فِيهَا ) .</p><p>قَالَ الْعُلَمَاء : يُسْتَحَبّ لِمَنْ اِنْتَبَهَ مِنْ نَوْمه أَنْ يَمْسَح عَلَى وَجْهه , وَيَسْتَفْتِح قِيَامه بِقِرَاءَةِ هَذِهِ الْعَشْر الْآيَات اِقْتِدَاء بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرهمَا وَسَيَأْتِي ; ثُمَّ يُصَلِّي مَا كُتِبَ لَهُ , فَيَجْمَع بَيْنَ التَّفَكُّر وَالْعَمَل , وَهُوَ أَفْضَل الْعَمَل عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه فِي هَذِهِ الْآيَة بَعْد هَذَا . وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأ عَشْر آيَات مِنْ آخِر سُورَة | آل عِمْرَان | كُلّ لَيْلَة , خَرَّجَهُ أَبُو نَصْر الْوَائِلِيّ السِّجِسْتَانِيّ الْحَافِظ فِي كِتَاب | الْإِبَانَة | مِنْ حَدِيث سُلَيْمَان بْن مُوسَى عَنْ مُظَاهِر بْن أَسْلَمَ الْمَخْزُومِيّ عَنْ الْمَقْبُرِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة . وَقَدْ تَقَدَّمَ أَوَّل السُّورَة عَنْ عُثْمَان قَالَ : مَنْ قَرَأَ آخِر آل عِمْرَان فِي لَيْلَة كُتِبَ لَهُ قِيَام لَيْلَة .

الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ

ذَكَرَ تَعَالَى ثَلَاث هَيْئَات لَا يَخْلُو اِبْن آدَم مِنْهَا فِي غَالِب أَمْره , فَكَأَنَّهَا تَحْصُر زَمَانه . وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْل عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا : كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُر اللَّه عَلَى كُلّ أَحْيَانه . أَخْرَجَهُ مُسْلِم . فَدَخَلَ فِي ذَلِكَ كَوْنه عَلَى الْخَلَاء وَغَيْر ذَلِكَ . وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي هَذَا ; فَأَجَازَ ذَلِكَ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو وَابْن سِيرِينَ وَالنَّخَعِيّ , وَكَرِهَ ذَلِكَ اِبْن عَبَّاس وَعَطَاء وَالشَّعْبِيّ . وَالْأَوَّل أَصَحّ لِعُمُومِ الْآيَة وَالْحَدِيث . قَالَ النَّخَعِيّ : لَا بَأْس بِذِكْرِ اللَّه فِي الْخَلَاء فَإِنَّهُ يَصْعَد . الْمَعْنَى : تَصْعَد بِهِ الْمَلَائِكَة مَكْتُوبًا فِي صُحُفهمْ ; فَحَذَفَ الْمُضَاف . دَلِيله قَوْله تَعَالَى : | مَا يَلْفِظ مِنْ قَوْل إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيب عَتِيد | [ ق : 18 ] . وَقَالَ : | وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ | [ الِانْفِطَار : 10 - 11 ] . لِأَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَ عِبَاده بِالذِّكْرِ عَلَى كُلّ حَال وَلَمْ يَسْتَثْنِ فَقَالَ : | اُذْكُرُوا اللَّه ذِكْرًا كَثِيرًا | [ الْأَحْزَاب : 41 ] وَقَالَ : | فَاذْكُرُونِي أَذْكُركُمْ | [ الْبَقَرَة : 152 ] وَقَالَ : | إِنَّا لَا نُضِيع أَجْر مَنْ أَحْسَن عَمَلًا | [ الْكَهْف : 3 ] فَعَمَّ . فَذَاكِر اللَّه تَعَالَى عَلَى كُلّ حَالَاته مُثَاب مَأْجُور إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَذَكَرَ أَبُو نُعَيْم قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْن مَالِك حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن أَحْمَد بْن حَنْبَل قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ حَدَّثَنَا وَكِيع قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَان عَنْ عَطَاء بْن أَبِي مَرْوَان عَنْ أَبِيهِ عَنْ كَعْب الْأَحْبَار قَالَ قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام : ( يَا رَبّ أَقَرِيب أَنْتَ فَأُنَاجِيك أَمْ بَعِيد فَأُنَادِيك قَالَ : يَا مُوسَى أَنَا جَلِيس مَنْ ذَكَرَنِي قَالَ : يَا رَبّ فَإِنَّا نَكُون مِنْ الْحَال عَلَى حَال نُجِلُّكَ وَنُعَظِّمُكَ أَنْ نَذْكُرك قَالَ : وَمَا هِيَ ؟ قَالَ : الْجَنَابَة وَالْغَائِط قَالَ : يَا مُوسَى اُذْكُرْنِي عَلَى كُلّ حَال ) . وَكَرَاهِيَة مَنْ كَرِهَ ذَلِكَ إِمَّا لِتَنْزِيهِ ذِكْر اللَّه تَعَالَى فِي الْمَوَاضِع الْمَرْغُوب عَنْ ذِكْره فِيهَا كَكَرَاهِيَةِ قِرَاءَة الْقُرْآن فِي الْحَمَّام , وَإِمَّا إِبْقَاء عَلَى الْكِرَام الْكَاتِبِينَ عَلَى أَنْ يُحِلَّهُمْ مَوْضِعَ الْأَقْذَار وَالْأَنْجَاس لِكِتَابَةِ مَا يَلْفِظ بِهِ . وَاَللَّه أَعْلَم . و | قِيَامًا وَقُعُودًا | نُصِبَ عَلَى الْحَال . | وَعَلَى جَنُوبهمْ | فِي مَوْضِع الْحَال ; أَيْ وَمُضْطَجِعِينَ وَمِثْله قَوْله تَعَالَى : | دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا | [ يُونُس : 12 ] عَلَى الْعَكْس ; أَيْ دَعَانَا مُضْطَجِعًا عَلَى جَنْبه . وَذَهَبَ , جَمَاعَة مِنْ الْمُفَسِّرِينَ مِنْهُمْ الْحَسَن وَغَيْره إِلَى أَنَّ قَوْله | يَذْكُرُونَ اللَّه | إِلَى آخِره , إِنَّمَا هُوَ عِبَارَة عَنْ الصَّلَاة ; أَيْ لَا يُضَيِّعُونَهَا , فَفِي حَال الْعُذْر يُصَلُّونَهَا قُعُودًا أَوْ عَلَى جَنُوبهمْ . وَهِيَ مِثْل قَوْله تَعَالَى : | فَإِذَا قَضَيْتُمْ الصَّلَاة فَاذْكُرُوا اللَّه قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جَنُوبكُمْ | [ النِّسَاء : 103 ] فِي قَوْل اِبْن مَسْعُود عَلَى , مَا يَأْتِي بَيَانه . وَإِذَا كَانَتْ الْآيَة فِي الصَّلَاة فَفِقْههَا أَنَّ الْإِنْسَان يُصَلِّي قَائِمًا , فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا , فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبه ; كَمَا ثَبَتَ عَنْ عِمْرَان بْن حُصَيْن قَالَ : كَانَ بِي الْبَوَاسِير فَسَأَلْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الصَّلَاة فَقَالَ : ( صَلِّ قَائِمًا , فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا , فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْب ) رَوَاهُ الْأَئِمَّة : وَقَدْ كَانَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي قَاعِدًا قَبْل مَوْته بِعَامٍ فِي النَّافِلَة ; عَلَى مَا فِي صَحِيح مُسْلِم . وَرَوَى النَّسَائِيّ عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا قَالَتْ : رَأَيْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي مُتَرَبِّعًا . قَالَ أَبُو عَبْد الرَّحْمَن : لَا أَعْلَم أَحَدًا رَوَى هَذَا الْحَدِيث غَيْر أَبِي دَاوُد الْحَفَرِيّ وَهُوَ ثِقَة , وَلَا أَحْسَبُ هَذَا الْحَدِيث إِلَّا خَطَأ . وَاَللَّه أَعْلَم .</p><p>وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي كَيْفِيَّة صَلَاة الْمَرِيض وَالْقَاعِد وَهَيْئَتهَا ; فَذَكَرَ اِبْن عَبْد الْحَكَم عَنْ مَالِك أَنَّهُ يَتَرَبَّع فِي قِيَامه , وَقَالَهُ الْبُوَيْطِيّ عَنْ الشَّافِعِيّ فَإِذَا أَرَادَ السُّجُود تَهَيَّأَ لِلسُّجُودِ عَلَى قَدْر مَا يُطِيق , قَالَ : وَكَذَلِكَ الْمُتَنَفِّل . وَنَحْوه قَوْل الثَّوْرِيّ , وَكَذَلِكَ قَالَ اللَّيْث وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمَّد . وَقَالَ الشَّافِعِيّ فِي رِوَايَة الْمُزَنِيّ : يَجْلِس فِي صَلَاته كُلّهَا كَجُلُوسِ التَّشَهُّد . وَرُوِيَ هَذَا عَنْ مَالِك وَأَصْحَابه ; وَالْأَوَّل الْمَشْهُور وَهُوَ ظَاهِر الْمُدَوَّنَة . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَزُفَر : يَجْلِس كَجُلُوسِ التَّشَهُّد , وَكَذَلِكَ يَرْكَع وَيَسْجُد .</p><p>قَالَ : فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ الْقُعُود صَلَّى عَلَى جَنْبه أَوْ ظَهْره عَلَى التَّخْيِير ; هَذَا مَذْهَب الْمُدَوَّنَة وَحَكَى اِبْن حَبِيب عَنْ اِبْن الْقَاسِم يُصَلِّي عَلَى ظَهْره , فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبه الْأَيْمَن ثُمَّ عَلَى جَنْبه الْأَيْسَر . وَفِي كِتَاب اِبْن الْمَوَّاز عَكْسه , يُصَلِّي عَلَى جَنْبه الْأَيْمَن , وَإِلَّا فَعَلَى الْأَيْسَر , وَإِلَّا فَعَلَى الظَّهْر . وَقَالَ سَحْنُون : يُصَلِّي عَلَى الْأَيْمَن كَمَا يَجْعَل فِي لَحْده , وَإِلَّا فَعَلَى ظَهْره وَإِلَّا فَعَلَى الْأَيْسَر . وَقَالَ مَالِك وَأَبُو حَنِيفَة : إِذَا صَلَّى مُضْطَجِعًا تَكُون رِجْلَاهُ مِمَّا يَلِي الْقِبْلَة . وَالشَّافِعِيّ وَالثَّوْرِيّ : يُصَلِّي عَلَى جَنْبه وَوَجْهه إِلَى الْقِبْلَة .</p><p>فَإِنْ قَوِيَ لِخِفَّةِ الْمَرَض وَهُوَ فِي الصَّلَاة ; قَالَ اِبْن الْقَاسِم : إِنَّهُ يَقُوم فِيمَا بَقِيَ مِنْ صَلَاته وَيَبْنِي عَلَى مَا مَضَى ; وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيّ وَزُفَر وَالطَّبَرِيّ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَصَاحِبَاهُ يَعْقُوب وَمُحَمَّد فِيمَنْ صَلَّى مُضْطَجِعًا رَكْعَة ثُمَّ صَحَّ : أَنَّهُ يَسْتَقْبِل الصَّلَاة مِنْ أَوَّلهَا , وَلَوْ كَانَ قَاعِدًا يَرْكَع وَيَسْجُد ثُمَّ صَحَّ بَنَى فِي قَوْل أَبِي حَنِيفَة وَلَمْ يَبْنِ فِي قَوْل مُحَمَّد . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه : إِذَا اِفْتَتَحَ الصَّلَاة قَائِمًا ثُمَّ صَارَ إِلَى حَدّ الْإِيمَاء فَلْيَبْنِ ; وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُف . وَقَالَ مَالِك فِي الْمَرِيض الَّذِي لَا يَسْتَطِيع الرُّكُوع وَلَا السُّجُود وَهُوَ يَسْتَطِيع الْقِيَام وَالْجُلُوس : إِنَّهُ يُصَلِّي قَائِمًا وَيُومِئ إِلَى الرُّكُوع , فَإِذَا أَرَادَ السُّجُود جَلَسَ وَأَوْمَأَ إِلَى السُّجُود ; وَهُوَ قَوْل أَبِي يُوسُف وَقِيَاس قَوْل الشَّافِعِيّ وَقَالَ , أَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه : يُصَلِّي قَاعِدًا .</p><p>وَأَمَّا صَلَاة الرَّاقِد الصَّحِيح فَرُوِيَ عَنْ حَدِيث عِمْرَان بْن حُصَيْن زِيَادَة لَيْسَتْ مَوْجُودَة فِي غَيْره , وَهِيَ | صَلَاة الرَّاقِد مِثْل نِصْف صَلَاة الْقَاعِد | . قَالَ أَبُو عُمَر : وَجُمْهُور أَهْل الْعِلْم لَا يُجِيزُونَ النَّافِل مُضْطَجِعًا ; وَهُوَ حَدِيث لَمْ يَرْوِهِ إِلَّا حُسَيْن الْمُعَلِّم وَهُوَ حُسَيْن بْن ذَكْوَان عَنْ عَبْد اللَّه بْن بُرَيْدَة عَنْ عِمْرَان بْن حُصَيْن , وَقَدْ اُخْتُلِفَ عَلَى حُسَيْن فِي إِسْنَاده وَمَتْنه اِخْتِلَافًا يُوجِب التَّوَقُّف عَنْهُ , وَإِنْ صَحَّ فَلَا أَدْرِي مَا وَجْهه ; فَإِنْ كَانَ أَحَد مِنْ أَهْل الْعِلْم قَدْ أَجَازَ النَّافِلَة مُضْطَجِعًا لِمَنْ قَدَرَ عَلَى الْقُعُود أَوْ عَلَى الْقِيَام فَوَجْهه هَذِهِ الزِّيَادَة فِي هَذَا الْخَبَر , وَهِيَ حُجَّة لِمَنْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ . وَإِنْ أَجْمَعُوا عَلَى كَرَاهَة النَّافِلَة رَاقِدًا لِمَنْ قَدَرَ عَلَى الْقُعُود أَوْ الْقِيَام , فَحَدِيث حُسَيْن هَذَا إِمَّا غَلَط وَإِمَّا مَنْسُوخ وَقِيلَ : الْمُرَاد بِالْآيَةِ الَّذِينَ يَسْتَدِلُّونَ بِخَلْقِ السَّمَوَات وَالْأَرْض عَلَى أَنَّ الْمُتَغَيِّر لَا بُدّ لَهُ مِنْ مُغَيِّر , وَذَلِكَ الْمُغَيِّر يَجِب أَنْ يَكُون قَادِرًا عَلَى الْكَمَال , وَلَهُ أَنْ يَبْعَث الرُّسُل , فَإِنْ بَعَثَ رَسُولًا وَدَلَّ عَلَى صِدْقه بِمُعْجِزَةٍ وَاحِدَة لَمْ يَبْقَ لِأَحَدٍ عُذْر ; فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّه عَلَى كُلّ حَال . وَاَللَّه أَعْلَم .|وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ|قَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى | وَيَذْكُرُونَ | وَهُوَ إِمَّا ذِكْر بِاللِّسَانِ وَإِمَّا الصَّلَاة فَرْضُهَا وَنَفْلُهَا ; فَعَطَفَ تَعَالَى عِبَادَة أُخْرَى عَلَى إِحْدَاهُمَا بِعِبَادَةٍ أُخْرَى , وَهِيَ التَّفَكُّر فِي قُدْرَة اللَّه تَعَالَى وَمَخْلُوقَاته وَالْعِبَر الَّذِي بَثَّ ; لِيَكُونَ ذَلِكَ أَزْيَد بَصَائِرهمْ : <br>وَفِي كُلّ شَيْء لَهُ آيَة .......... تَدُلّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِد <br>وَقِيلَ : | يَتَفَكَّرُونَ | عَطْفٌ عَلَى الْحَال . وَقِيلَ : يَكُون مُنْقَطِعًا ; وَالْأَوَّل أَشْبَه . وَالْفِكْرَة : تَرَدُّدُ الْقَلْب فِي الشَّيْء ; يُقَال : تَفَكَّرَ , وَرَجُل فَكِير كَثِير الْفِكْر , وَمَرَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَوْم يَتَفَكَّرُونَ فِي اللَّه فَقَالَ : ( تَفَكَّرُوا فِي الْخَلْق , وَلَا تَتَفَكَّرُوا فِي الْخَالِق فَإِنَّكُمْ لَا تَقْدِرُونَ قَدْره ) وَإِنَّمَا التَّفَكُّر وَالِاعْتِبَار وَانْبِسَاط الذِّهْن فِي الْمَخْلُوقَات كَمَا قَالَ : | وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْق السَّمَوَات وَالْأَرْض | . وَحُكِيَ أَنَّ سُفْيَان الثَّوْرِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ صَلَّى خَلْف الْمَقَام رَكْعَتَيْنِ , ثُمَّ رَفَعَ رَأْسه إِلَى السَّمَاء فَلَمَّا رَأَى الْكَوَاكِب غُشِيَ عَلَيْهِ , وَكَانَ يَبُول الدَّم مِنْ طُول حُزْنه وَفِكْرَته . وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( بَيْنَمَا رَجُل مُسْتَلْقٍ عَلَى فِرَاشه إِذْ رَفَعَ رَأْسه فَنَظَرَ إِلَى النُّجُوم وَإِلَى السَّمَاء فَقَالَ أَشْهَد أَنَّ لَكِ , رَبًّا وَخَالِقًا اللَّهُمَّ اِغْفِرْ لِي فَنَظَرَ اللَّه إِلَيْهِ فَغَفَرَ لَهُ ) وَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا عِبَادَة كَتَفَكُّرٍ ) . وَرُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ : ( تَفَكُّر سَاعَة خَيْر مِنْ عِبَادَة سَنَة ) . وَرَوَى اِبْن الْقَاسِم عَنْ مَالِك قَالَ : قِيلَ لِأُمِّ الدَّرْدَاء : مَا كَانَ أَكْثَر شَأْن أَبِي الدَّرْدَاء ؟ قَالَتْ : كَانَ أَكْثَر شَأْنه التَّفَكُّر . قِيلَ لَهُ : أَفَتَرَى التَّفَكُّر عَمَل مِنْ الْأَعْمَال ؟ قَالَ : نَعَمْ , هُوَ الْيَقِين . وَقِيلَ لِابْنِ الْمُسَيِّب فِي الصَّلَاة بَيْنَ الظُّهْر وَالْعَصْر , قَالَ : لَيْسَتْ هَذِهِ عِبَادَة , إِنَّمَا الْعِبَادَة الْوَرَع عَمَّا حَرَّمَ اللَّه وَالتَّفَكُّر فِي أَمْر اللَّه . وَقَالَ الْحَسَن : تَفَكُّر سَاعَة خَيْر مِنْ قِيَام لَيْلَة ; وَقَالَ اِبْن الْعَبَّاس وَأَبُو الدَّرْدَاء . وَقَالَ الْحَسَن : الْفِكْرَة مِرْآة الْمُؤْمِن يَنْظُر فِيهَا إِلَى حَسَنَاته وَسَيِّئَاته . وَمِمَّا يَتَفَكَّر فِيهِ مَخَاوِف الْآخِرَة مِنْ الْحَشْر وَالنَّشْر وَالْجَنَّة وَنَعِيمهَا وَالنَّار وَعَذَابهَا . وَيُرْوَى أَنَّ أَبَا سُلَيْمَان الدَّارَانِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَخَذَ قَدَح الْمَاء لِيَتَوَضَّأ لِصَلَاةِ اللَّيْل وَعِنْده ضَيْف , فَرَآهُ لَمَّا أَدْخَلَ أُصْبُعه فِي أُذُن الْقَدَح أَقَامَ لِذَلِكَ مُتَفَكِّرًا حَتَّى طَلَعَ الْفَجْر ; فَقَالَ لَهُ : مَا هَذَا يَا أَبَا سُلَيْمَان ؟ قَالَ : إِنِّي لَمَّا طَرَحَتْ أُصْبُعِي فِي أُذُن الْقَدَح تَفَكَّرْت فِي قَوْل اللَّه تَعَالَى | إِذْ الْأَغْلَال فِي أَعْنَاقهمْ وَالسَّلَاسِل يُسْحَبُونَ | [ الْمُؤْمِن : 71 ] تَفَكَّرْتُ , فِي حَالِي وَكَيْف أَتَلَقَّى الْغُلّ إِنْ طُرِحَ فِي عُنُقِي يَوْم الْقِيَامَة , فَمَا زِلْت فِي ذَلِكَ حَتَّى أَصْبَحْت . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : | وَهَذَا نِهَايَة الْخَوْف , وَخَيْر الْأُمُور أَوْسَاطهَا , وَلَيْسَ عُلَمَاء الْأُمَّة الَّذِينَ هُمْ الْحُجَّة عَلَى هَذَا الْمِنْهَاج , وَقِرَاءَة عِلْم كِتَاب اللَّه تَعَالَى وَمَعَانِي سُنَّة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ يَفْهَم وَيُرْجَى نَفْعه أَفْضَل مِنْ هَذَا | . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : اِخْتَلَفَ النَّاس أَيّ الْعَمَلَيْنِ أَفْضَل : التَّفَكُّر أَمْ الصَّلَاة ; فَذَهَبَ الصُّوفِيَّة إِلَى أَنَّ التَّفَكُّر أَفْضَل ; فَإِنَّهُ يُثْمِر الْمَعْرِفَة وَهُوَ أَفْضَل , الْمَقَامَات الشَّرْعِيَّة . وَذَهَبَ الْفُقَهَاء إِلَى أَنَّ الصَّلَاة أَفْضَل ; لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيث مِنْ الْحَثّ عَلَيْهَا وَالدُّعَاء إِلَيْهَا وَالتَّرْغِيب فِيهَا . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ بَاتَ عِنْد خَالَته مَيْمُونَة , وَفِيهِ : فَقَامَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَسَحَ النَّوْم عَنْ وَجْهه ثُمَّ قَرَأَ الْآيَات الْعَشْر الْخَوَاتِم مِنْ سُورَة آل عِمْرَان , وَقَامَ إِلَى شَنّ مُعَلَّق فَتَوَضَّأَ وُضُوءًا خَفِيفًا ثُمَّ صَلَّى ثَلَاث عَشْرَة رَكْعَة ; الْحَدِيث . فَانْظُرُوا رَحِمَكُمْ اللَّه إِلَى جَمْعه بَيْنَ التَّفَكُّر فِي الْمَخْلُوقَات ثُمَّ إِقْبَاله عَلَى صَلَاته بَعْده ; وَهَذِهِ السُّنَّة هِيَ الَّتِي يُعْتَمَد عَلَيْهَا . فَأَمَّا طَرِيقَة الصُّوفِيَّة أَنْ يَكُون الشَّيْخ مِنْهُمْ يَوْمًا وَلَيْلَة وَشَهْرًا مُفَكِّرًا لَا يَفْتُر ; فَطَرِيقَة بَعِيدَة عَنْ الصَّوَاب غَيْر لَائِقَة بِالْبَشَرِ , وَلَا مُسْتَمِرَّة عَلَى السُّنَن . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَحَدَّثَنِي أَبِي عَنْ بَعْض عُلَمَاء الْمَشْرِق قَالَ : كُنْت بَائِتًا فِي مَسْجِد الْأَقْدَام بِمِصْرَ فَصَلَّيْت الْعَتَمَة فَرَأَيْت رَجُلًا قَدْ اِضْطَجَعَ فِي كِسَاء لَهُ مُسَجًّى بِكِسَائِهِ حَتَّى أَصْبَحَ , وَصَلَّيْنَا نَحْنُ تِلْكَ اللَّيْلَة ; فَلَمَّا أُقِيمَتْ صَلَاة الصُّبْح قَامَ ذَلِكَ الرَّجُل فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَة وَصَلَّى مَعَ النَّاس , فَاسْتَعْظَمْت جَرَاءَته فِي الصَّلَاة بِغَيْرِ وُضُوء ; فَلَمَّا فَرَغَتْ الصَّلَاة خَرَجَ فَتَبِعْته لِأَعِظهُ , فَلَمَّا دَنَوْت مِنْهُ سَمِعْته يُنْشِد شِعْرًا : <br>مُسَجَّى الْجِسْم غَائِب حَاضِر .......... مُنْتَبِهُ الْقَلْب صَامِت ذَاكِر <br><br>مُنْقَبِض فِي الْغُيُوب مُنْبَسِط .......... كَذَاك مَنْ كَانَ عَارِفًا ذَاكِر <br><br>يَبِيت فِي لَيْله أَخَا فِكْر .......... فَهْوَ مَدَى اللَّيْل نَائِم سَاهِر <br>قَالَ : فَعَلِمْت أَنَّهُ مِمَّنْ يَعْبُد بِالْفِكْرَةِ , فَانْصَرَفْت عَنْهُ .|رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ|أَيْ يَقُولُونَ : مَا خَلَقْته عَبَثًا وَهَزْلًا , بَلْ خَلَقْته دَلِيلًا عَلَى قُدْرَتك وَحِكْمَتك . وَالْبَاطِل : الزَّائِل الذَّاهِب . وَمِنْهُ قَوْل لَبِيد : <br>أَلَا كُلّ شَيْء مَا خَلَا اللَّه بَاطِل <br>أَيْ زَائِل . و | بَاطِلًا | نُصِبَ لِأَنَّهُ نَعْت مَصْدَر مَحْذُوف ; أَيْ خَلْقًا بَاطِلًا وَقِيلَ : اِنْتَصَبَ عَلَى نَزْع الْخَافِض , أَيْ مَا خَلَقْتهَا لِلْبَاطِلِ . وَقِيلَ : عَلَى الْمَفْعُول الثَّانِي , وَيَكُون خَلَقَ بِمَعْنَى جَعَلَ . | سُبْحَانك | أَسْنَدَ النَّحَّاس عَنْ مُوسَى بْن طَلْحَة قَالَ : سُئِلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مَعْنَى | سُبْحَان اللَّه | فَقَالَ : ( تَنْزِيه اللَّه عَنْ السُّوء ) وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي | الْبَقَرَة | مَعْنَاهُ مُسْتَوْفًى . | وَقِنَا عَذَاب النَّار | أَجِرْنَا مِنْ عَذَابهَا , وَقَدْ تَقَدَّمَ .

رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ

أَيْ أَذْلَلْته وَأَهَنْته . وَقَالَ الْمُفَضَّل أَيْ أَهْلَكْته ; وَأَنْشَدَ : <br>أَخْزَى الْإِلَه مَنْ الصَّلِيب عَبِيده .......... وَاللَّابِسِينَ قَلَانِس الرُّهْبَان <br>وَقِيلَ : فَضَحْته وَأَبْعَدْته ; يُقَال : أَخْزَاهُ اللَّه : أَبْعَدَهُ وَمَقَتَهُ . وَالِاسْم الْخِزْي . قَالَ اِبْن السِّكِّيت : خَزِيَ يَخْزَى خِزْيًا إِذَا وَقَعَ فِي بَلِيَّة . وَقَدْ تَمَسَّكَ بِهَذِهِ الْآيَة أَصْحَاب الْوَعِيد وَقَالُوا : مَنْ أُدْخِلَ النَّار يَنْبَغِي أَلَّا يَكُون مُؤْمِنًا ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى : | فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ | فَإِنَّ اللَّه يَقُول : | يَوْم لَا يُخْزِي اللَّه النَّبِيّ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ | [ التَّحْرِيم : 8 ] . وَمَا قَالُوهُ مَرْدُود ; لِقِيَامِ الْأَدِلَّة عَلَى أَنَّ مَنْ اِرْتَكَبَ كَبِيرَة لَا يَزُول عَنْهُ اِسْم الْإِيمَان , كَمَا تَقَدَّمَ وَيَأْتِي . وَالْمُرَاد مِنْ قَوْله : | مَنْ تُدْخِل النَّار | مَنْ تُخَلِّد فِي النَّار ; قَالَهُ أَنَس بْن مَالِك . وَقَالَ قَتَادَة : تُدْخِل مَقْلُوب تُخَلِّد , وَلَا نَقُول كَمَا قَالَ أَهْل حَرُورَاء . وَقَالَ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب : الْآيَة خَاصَّة فِي قَوْم لَا يَخْرُجُونَ مِنْ النَّار ; وَلِهَذَا قَالَ|وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ|أَيْ الْكُفَّار . وَقَالَ أَهْل الْمَعَانِي , : الْخِزْي يَحْتَمِل أَنْ يَكُون بِمَعْنَى الْحَيَاء ; يُقَال : خَزِيَ يَخْزَى خِزَايَة إِذَا اِسْتَحْيَا , فَهُوَ خَزْيَان . قَالَ ذُو الرُّمَّة : <br>خِزَايَة أَدْرَكَتْهُ عِنْد جَوْلَته .......... مِنْ جَانِب الْحَبْل مَخْلُوطًا بِهَا الْغَضَب <br>فَخِزْي الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَئِذٍ اِسْتِحْيَاؤُهُمْ فِي دُخُول النَّار مِنْ سَائِر أَهْل الْأَدْيَان إِلَى أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا . وَالْخِزْي لِلْكَافِرِينَ هُوَ إِهْلَاكهمْ فِيهَا مِنْ غَيْر مَوْت ; وَالْمُؤْمِنُونَ يَمُوتُونَ , فَافْتَرَقُوا . كَذَا ثَبَتَ فِي صَحِيح السُّنَّة مِنْ حَدِيث أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ , أَخْرَجَهُ مُسْلِم , وَقَدْ تَقَدَّمَ وَيَأْتِي .

رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ

أَيْ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; قَالَهُ اِبْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس وَأَكْثَر الْمُفَسِّرِينَ . وَقَالَ قَتَادَة وَمُحَمَّد بْن كَعْب الْقُرَظِيّ : هُوَ الْقُرْآن , وَلَيْسَ كُلّهمْ سَمِعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . دَلِيل هَذَا الْقَوْل مَا أَخْبَرَ اللَّه تَعَالَى عَنْ مُؤْمِنِي الْجِنّ إِذْ قَالُوا : | إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْد | [ الْجِنّ : 1 - 2 ] . وَأَجَابَ الْأَوَّلُونَ فَقَالُوا : مَنْ سَمِعَ الْقُرْآن فَكَأَنَّمَا لَقِيَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; وَهَذَا صَحِيحٌ مَعْنًى . وَأَنَّ مَنْ|أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا|فِي مَوْضِع نَصْب عَلَى حَذْف حَرْف الْخَفْض , أَيْ بِأَنْ آمِنُوا . وَفِي الْكَلَام تَقْدِيم وَتَأْخِير , أَيْ سَمِعْنَا مُنَادِيًا لِلْإِيمَانِ يُنَادِي ; عَنْ أَبِي عُبَيْدَة . وَقِيلَ : اللَّام بِمَعْنَى إِلَى , أَيْ إِلَى الْإِيمَان ; كَقَوْلِهِ : | ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ | [ الْمُجَادَلَة : 8 ] . وَقَوْله : | بِأَنَّ رَبّك أَوْحَى لَهَا | [ الزَّلْزَلَة : 5 ] وَقَوْله : | الْحَمْد لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا | [ الْأَعْرَاف : 43 ] أَيْ إِلَى هَذَا , وَمِثْله كَثِير . وَقِيلَ : هِيَ لَام أَجْل , أَيْ لِأَجْلِ الْإِيمَان .|رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا|تَأْكِيد وَمُبَالَغَة فِي الدُّعَاء . وَمَعْنَى اللَّفْظَيْنِ وَاحِد ; فَإِنَّ الْغَفْر وَالْكَفْر : السَّتْر .|وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ|أَيْ أَبْرَارًا مَعَ الْأَنْبِيَاء , أَيْ فِي جُمْلَتهمْ . وَاحِدهمْ بَرّ وَبَارّ وَأَصْله مِنْ الِاتِّسَاع ; فَكَأَنَّ الْبَرّ مُتَّسِع فِي طَاعَة اللَّه وَمُتَّسِعَة لَهُ رَحْمَة اللَّه .

رَبَّنَا وَآَتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ

أَيْ عَلَى أَلْسِنَة رُسُلك ; مِثْل | وَاسْأَلْ الْقَرْيَة | . وَقَرَأَ الْأَعْمَش وَالزُّهْرِيّ | رُسْلِكَ | بِالتَّخْفِيفِ , وَهُوَ مَا ذُكِرَ مِنْ اِسْتِغْفَار الْأَنْبِيَاء وَالْمَلَائِكَة لِلْمُؤْمِنِينَ ; وَالْمَلَائِكَة يَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْض . وَمَا ذُكِرَ مِنْ دُعَاء نُوح لِلْمُؤْمِنِينَ وَدُعَاء إِبْرَاهِيم وَاسْتِغْفَار النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمَّتِهِ .|وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ|أَيْ لَا تُعَذِّبنَا وَلَا تُهْلِكنَا وَلَا تَفْضَحنَا , وَلَا تُهِنَّا وَلَا تُبْعِدنَا وَلَا تَمْقُتنَا يَوْم الْقِيَامَة|إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ|إِنْ قِيلَ : مَا وَجْه قَوْلهمْ | رَبّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتنَا عَلَى رُسُلك | [ آل عِمْرَان : 194 ] وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُ لَا يُخْلِف الْمِيعَاد ; فَالْجَوَاب مِنْ ثَلَاثَة أَوْجُه : الْأَوَّل : أَنَّ اللَّه سُبْحَانه وَعَدَ مَنْ آمَنَ بِالْجَنَّةِ , فَسَأَلُوا أَنْ يَكُونُوا مِمَّنْ وَعَدَ بِذَلِكَ دُون الْخِزْي وَالْعِقَاب . الثَّانِي : أَنَّهُمْ دَعَوْا بِهَذَا الدُّعَاء عَلَى جِهَة الْعِبَادَة وَالْخُضُوع ; وَالدُّعَاء مُخّ الْعِبَادَة . وَهَذَا كَقَوْلِهِ | قَالَ رَبّ اُحْكُمْ بِالْحَقِّ | [ الْأَنْبِيَاء : 112 ] وَإِنْ كَانَ هُوَ لَا يَقْضِي إِلَّا بِالْحَقِّ . الثَّالِث : سَأَلُوا أَنْ يُعْطَوْا مَا وُعِدُوا بِهِ مِنْ النَّصْر عَلَى عَدُوّهُمْ مُعَجَّلًا ; لِأَنَّهَا حِكَايَة عَنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَسَأَلُوهُ ذَلِكَ إِعْزَازًا لِلدِّينِ . وَاَللَّه أَعْلَم . وَرَوَى أَنَس بْن مَالِك أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ وَعَدَهُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَلَى عَمَلٍ ثَوَابًا فَهُوَ مُنْجِز لَهُ رَحْمَة وَمَنْ وَعَدَهُ عَلَى عَمَلٍ عِقَابًا فَهُوَ فِيهِ بِالْخِيَارِ ) . وَالْعَرَب تَذُمّ بِالْمُخَالَفَةِ فِي الْوَعْد وَتَمْدَح بِذَلِكَ فِي الْوَعِيد ; حَتَّى قَالَ قَائِلهمْ : <br>وَلَا يَرْهَبُ اِبْنُ الْعَمِّ مَا عِشْت صَوْلَتِي .......... وَلَا أَخْتَفِي مِنْ خَشْيَة الْمُتَهَدِّد <br><br>وَإِنِّي مَتَى أَوْعَدْتُهُ أَوْ وَعَدْتُهُ .......... لَمُخْلِفُ إِيعَادِي وَمُنْجِز مَوْعِدِي<br>

فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِ

أَيْ أَجَابَهُمْ . قَالَ الْحَسَن : مَا زَالُوا يَقُولُونَ رَبّنَا رَبّنَا حَتَّى اِسْتَجَابَ لَهُمْ . وَقَالَ جَعْفَر الصَّادِق : مَنْ حَزَبَهُ أَمْر فَقَالَ خَمْس مَرَّات رَبّنَا أَنْجَاهُ اللَّه مِمَّا يَخَاف وَأَعْطَاهُ مَا أَرَادَ . قِيلَ : وَكَيْفَ ذَلِكَ ؟ قَالَ : اِقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ | الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّه قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جَنُوبهمْ | إِلَى قَوْله : | إِنَّك لَا تُخْلِف الْمِيعَاد | [ آل عِمْرَان : 191 - 194 ] .</p><p>| أَنِّي | أَيْ بِأَنِّي . وَقَرَأَ عِيسَى بْن عُمَر | إِنِّي | بِكَسْرِ الْهَمْزَة , أَيْ فَقَالَ : إِنِّي . وَرَوَى الْحَاكِم أَبُو عَبْد اللَّه فِي صَحِيحه عَنْ أُمّ سَلَمَة أَنَّهَا قَالَتْ : يَا رَسُول اللَّه , أَلَا أَسْمَع اللَّه ذِكْرَ النِّسَاء فِي الْهِجْرَة بِشَيْءٍ ؟ فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى : | فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبّهمْ أَنِّي لَا أُضِيع عَمَل عَامِل مِنْكُمْ مِنْ : ذَكَر أَوْ أُنْثَى | الْآيَة . وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ . وَدَخَلَتْ | مِنْ | لِلتَّأْكِيدِ ; لِأَنَّ قَبْلهَا حَرْف نَفْي . وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ : هِيَ لِلتَّفْسِيرِ وَلَا يَجُوز حَذْفهَا ; لِأَنَّهَا دَخَلَتْ لِمَعْنًى لَا يَصْلُح الْكَلَام إِلَّا بِهِ , وَإِنَّمَا تُحْذَف إِذَا كَانَ تَأْكِيدًا لِلْجَحْدِ .|بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ|اِبْتِدَاء وَخَبَر , أَيْ دِينكُمْ وَاحِد . وَقِيلَ : بَعْضكُمْ مِنْ بَعْض فِي الثَّوَاب وَالْأَحْكَام وَالنُّصْرَة وَشَبَه ذَلِكَ . وَقَالَ الضَّحَّاك : رِجَالكُمْ شَكْل نِسَائِكُمْ فِي الطَّاعَة , وَنِسَاؤُكُمْ شَكْل رِجَالكُمْ فِي الطَّاعَة ; نَظِيرهَا قَوْله عَزَّ وَجَلَّ : | وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَات بَعْضهمْ أَوْلِيَاء بَعْض | [ التَّوْبَة : 71 ] . وَيُقَال : فُلَان مِنِّي , أَيْ عَلَى مَذْهَبِي وَخُلُقِي .|فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ|اِبْتِدَاء وَخَبَر , أَيْ هَجَرُوا أَوْطَانهمْ وَسَارُوا إِلَى الْمَدِينَة .|وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي|فِي طَاعَة اللَّه عَزَّ وَجَلَّ .|وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا|أَيْ وَقَاتَلُوا أَعْدَائِي . |وَقُتِلُوا | أَيْ فِي سَبِيلِي . وَقَرَأَ اِبْن كَثِير وَابْن عَامِر : | وَقَاتَلُوا وَقُتِّلُوا | عَلَى التَّكْثِير . وَقَرَأَ الْأَعْمَش | وَقُتِلُوا وَقَاتَلُوا | لِأَنَّ الْوَاو لَا تَدُلّ عَلَى أَنَّ الثَّانِي بَعْد الْأَوَّل . وَقِيلَ : فِي الْكَلَام إِضْمَار قَدْ , أَيْ قُتِلُوا وَقَدْ قَاتَلُوا ; وَمِنْهُ قَوْل الشَّاعِر : <br>تَصَابَى وَأَمْسَى عَلَاهُ الْكِبَر <br>أَيْ وَقَدْ عَلَاهُ الْكِبَر . وَقِيلَ : أَيْ وَقَدْ قَاتَلَ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ ; تَقُول الْعَرَب : قَتَلْنَا بَنِي تَمِيم , وَإِنَّمَا قُتِلَ بَعْضهمْ . وَقَالَ اِمْرُؤُ الْقَيْس : <br>فَإِنْ تُقَاتِلُونَا نُقَتِّلْكُمُ <br>وَقَرَأَ عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز : | وَقَتَلُوا وَقُتِلُوا | خَفِيفَة بِغَيْرِ أَلِف .|لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ|أَيْ لَأَسْتُرَنَّهَا عَلَيْهِمْ فِي الْآخِرَة , فَلَا أُوَبِّخهُمْ بِهَا وَلَا أُعَاقِبهُمْ عَلَيْهَا .|وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ|مَصْدَر مُؤَكَّد عِنْد الْبَصْرِيِّينَ ; لِأَنَّ مَعْنَى | لَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّات تَجْرِي مِنْ تَحْتهَا الْأَنْهَار | لَأُثِيبَنَّهُمْ ثَوَابًا . الْكِسَائِيّ : اِنْتَصَبَ عَلَى الْقَطْع . الْفَرَّاء : عَلَى التَّفْسِير .|وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ|أَيْ حُسْن الْجَزَاء ; وَهُوَ مَا يَرْجِع عَلَى الْعَامِل مِنْ جَرَّاء عَمَله ; مِنْ ثَابَ يَثُوب .

لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ

قِيلَ : الْخِطَاب لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَاد الْأُمَّة . وَقِيلَ : لِلْجَمِيعِ .|وَذَلِكَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَالُوا : هَؤُلَاءِ الْكُفَّار لَهُمْ تَجَائِر وَأَمْوَال وَاضْطِرَاب فِي الْبِلَاد , وَقَدْ هَلَكْنَا نَحْنُ مِنْ الْجُوع ; فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة . أَيْ لَا يَغُرَّنَّكُمْ سَلَامَتُهُمْ بِتَقَلُّبِهِمْ فِي أَسْفَارهمْ .

مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ

أَيْ تَقَلُّبهمْ مَتَاع قَلِيل . وَقَرَأَ يَعْقُوب | يَغُرَّنْكَ | سَاكِنَة النُّون ; وَأَنْشَدَ : <br>لَا يَغُرَّنْكَ عِشَاء سَاكِن .......... قَدْ يُوَافِي بِالْمَنِيَّاتِ السَّحَرْ <br>وَنَظِير هَذِهِ الْآيَة قَوْله تَعَالَى : | فَلَا يَغْرُرْك تَقَلُّبهمْ فِي الْبِلَاد | [ الْمُؤْمِن : 4 ] . وَالْمَتَاع : مَا يُعَجَّل الِانْتِفَاع بِهِ ; وَسَمَّاهُ قَلِيلًا لِأَنَّهُ فَانٍ , وَكُلّ فَانٍ وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا فَهُوَ قَلِيل . وَفِي صَحِيح التِّرْمِذِيّ عَنْ الْمُسْتَوْرِد الْفِهْرِيّ قَالَ : سَمِعْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَة إِلَّا مِثْل مَا يَجْعَل أَحَدكُمْ إِصْبَعه فِي الْيَمّ , فَلْيَنْظُرْ بِمَاذَا يَرْجِع ) . قِيلَ : ( يَرْجِع ) بِالْيَاءِ وَالتَّاء .|ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ|أَيْ بِئْسَ مَا مَهَدُوا لِأَنْفُسِهِمْ بِكُفْرِهِمْ , وَمَا مَهَدَ اللَّه لَهُمْ مِنْ النَّار .</p><p>فِي هَذِهِ الْآيَة وَأَمْثَالهَا كَقَوْلِهِ : | أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْر | [ آل عِمْرَان : 178 ] الْآيَة . | وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِين | [ الْأَعْرَاف : 183 ] . | أَيَحْسَبُونَ أَنَّ مَا نُمِدّهُمْ بِهِ مِنْ مَال وَبَنِينَ | [ الْمُؤْمِنُونَ : 55 ] . | سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ | [ الْأَعْرَاف : 182 ] دَلِيل عَلَى أَنَّ الْكُفَّار غَيْر مُنْعَم عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا ; لِأَنَّ حَقِيقَة النِّعْمَة الْخُلُوص مِنْ شَوَائِب الضَّرَر الْعَاجِلَة وَالْآجِلَة , وَنِعَمُ الْكُفَّار مَشُوبَة بِالْآلَامِ وَالْعُقُوبَات , فَصَارَ كَمَنْ قَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْ غَيْره حَلَاوَة مِنْ عَسَل فِيهَا السُّمّ , فَهُوَ وَإِنْ اِسْتَلَذَّ آكِلُهُ لَا يُقَال : أَنْعَمَ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ فِيهِ هَلَاكَ رُوحِهِ . ذَهَبَ إِلَى هَذَا جَمَاعَة مِنْ الْعُلَمَاء , وَهُوَ قَوْل الشَّيْخ أَبِي الْحَسَن الْأَشْعَرِيّ . وَذَهَبَ جَمَاعَة مِنْهُمْ سَيْف السُّنَّة وَلِسَان الْأُمَّة الْقَاضِي أَبُو بَكْر : إِلَى أَنَّ اللَّه أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا . قَالُوا : وَأَصْل النِّعْمَة مِنْ النَّعْمَة بِفَتْحِ النُّون , وَهِيَ لِين الْعَيْش ; وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : | وَنَعْمَة كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ | [ الدُّخَان : 27 ] . يُقَال : دَقِيق نَاعِم , إِذَا بُولِغَ فِي طَحْنه وَأُجِيدَ سَحْقه . وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح , وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَوْجَبَ عَلَى الْكُفَّار أَنْ يَشْكُرُوهُ وَعَلَى جَمِيع الْمُكَلَّفِينَ فَقَالَ : | فَاذْكُرُوا آلَاء اللَّه | [ الْأَعْرَاف : 74 ] . | وَاشْكُرُوا لِلَّهِ | [ الْبَقَرَة : 172 ] وَالشُّكْر لَا يَكُون إِلَّا عَلَى نِعْمَة . وَقَالَ : | وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّه إِلَيْك | [ الْقَصَص : 77 ] وَهَذَا خِطَاب لِقَارُون . وَقَالَ : | وَضَرَبَ اللَّه مَثَلًا قَرْيَة كَانَتْ آمِنَة مُطْمَئِنَّة | [ النَّحْل : 112 ] الْآيَة . فَنَبَّهَ سُبْحَانه أَنَّهُ قَدْ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ نِعْمَة دُنْيَاوِيَّة فَجَحَدُوهَا . وَقَالَ : | يَعْرِفُونَ نِعْمَة اللَّه ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا | [ النَّحْل : 83 ] وَقَالَ : | يَا أَيّهَا النَّاس اُذْكُرُوا نِعْمَة اللَّه عَلَيْكُمْ | [ فَاطِر : 3 ] . وَهَذَا عَامّ فِي الْكُفَّار وَغَيْرهمْ . فَأَمَّا إِذَا قَدَّمَ لِغَيْرِهِ طَعَامًا فِيهِ سُمّ فَقَدْ رَفَقَ بِهِ فِي الْحَال ; إِذْ لَمْ يُجَرِّعهُ السُّمّ بَحْتًا ; بَلْ دَسَّهُ فِي الْحَلَاوَة , فَلَا يُسْتَبْعَدُ أَنْ يُقَال : قَدْ أَنْعَمَ عَلَيْهِ , وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَالنِّعَم ضَرْبَانِ : نِعَم نَفْع وَنِعَم دَفْع ; فَنِعَم النَّفْع مَا وَصَلَ إِلَيْهِمْ مِنْ فَنُون اللَّذَّات , وَنِعَم الدَّفْع مَا صَرَفَ عَنْهُمْ مِنْ أَنْوَاع الْآفَات . فَعَلَى هَذَا قَدْ أَنْعَمَ عَلَى الْكُفَّار نِعَم الدَّفْع قَوْلًا وَاحِدًا ; وَهُوَ مَا زُوِيَ عَنْهُمْ مِنْ الْآلَام وَالْأَسْقَام , وَلَا خِلَاف بَيْنهمْ فِي أَنَّهُ لَمْ يُنْعِم عَلَيْهِمْ نِعْمَة دِينه . وَالْحَمْد لِلَّهِ .

لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ

اِسْتِدْرَاك بَعْد كَلَام تَقَدَّمَ فِيهِ مَعْنَى النَّفْي ; لِأَنَّ مَعْنَى مَا تَقَدَّمَ لَيْسَ لَهُمْ فِي تَقَلُّبهمْ فِي الْبِلَاد كَبِير الِانْتِفَاع , لَكِنَّ الْمُتَّقُونَ لَهُمْ الِانْتِفَاع الْكَبِير وَالْخُلْد الدَّائِم . فَمَوْضِع | لَكِنْ | رَفْع بِالِابْتِدَاءِ . وَقَرَأَ يَزِيد بْن الْقَعْقَاع | لَكِنَّ | بِتَشْدِيدِ النُّون .|نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ|نُزُلَا مِثْل ثَوَابًا عِنْد الْبَصْرِيِّينَ , وَعِنْد الْكِسَائِيّ يَكُون مَصْدَرًا . الْفَرَّاء : هُوَ مُفَسِّر . وَقَرَأَ الْحَسَن وَالنَّخَعِيّ | نُزْلًا | بِتَخْفِيفِ الزَّاي اِسْتِثْقَالًا لِضَمَّتَيْنِ , وَثَقَّلَهُ الْبَاقُونَ . وَالنُّزُل مَا يُهَيَّأ لِلنَّزِيلِ , وَالنَّزِيل الضَّيْف . قَالَ الشَّاعِر : <br>نَزِيلُ الْقَوْمِ أَعْظَمُهُمْ حُقُوقًا .......... وَحَقُّ اللَّهِ فِي حَقِّ النَّزِيلِ <br>وَالْجَمْع الْأَنْزَال . وَحَظّ نَزِيل : مُجْتَمِع . وَالنُّزُل : أَيْضًا الرِّيع ; يُقَال ; طَعَام كَثِير النُّزُل وَالنُّزْل . قُلْت : وَلَعَلَّ النُّزُل - وَاَللَّه أَعْلَم - مَا جَاءَ فِي صَحِيح مُسْلِم مِنْ حَدِيث ثَوْبَان مَوْلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِصَّة الْحَبْر الَّذِي سَأَلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَيْنَ يَكُون النَّاس يَوْم تُبَدَّل الْأَرْض غَيْر الْأَرْض وَالسَّمَوَات ؟ فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( هُمْ فِي الظُّلْمَة دُون الْجِسْر ) قَالَ : فَمَنْ أَوَّل النَّاس إِجَازَة ؟ قَالَ : ( فُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ ) قَالَ الْيَهُودِيّ : فَمَا تُحْفَتهمْ حِين يَدْخُلُونَ الْجَنَّة ؟ قَالَ ( زِيَادَة كَبِد النُّون ) قَالَ : فَمَا غِذَاؤُهُمْ عَلَى إِثْرهَا ؟ فَقَالَ : ( يُنْحَر لَهُمْ ثَوْر الْجَنَّة الَّذِي كَانَ يَأْكُل مِنْ أَطْرَافهَا ) قَالَ : فَمَا شَرَابهمْ عَلَيْهِ ؟ قَالَ : ( مِنْ عَيْن فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلَا ) وَذَكَرَ الْحَدِيث . قَالَ أَهْل اللُّغَة : وَالتُّحْفَة مَا يُتْحَف بِهِ الْإِنْسَان مِنْ الْفَوَاكِه . وَالطَّرَف مَحَاسِنه وَمَلَاطِفه , وَهَذَا مُطَابِق لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي النُّزُل , وَاَللَّه أَعْلَم . وَزِيَادَة الْكَبِد : قِطْعَة مِنْهُ كَالْأُصْبُعِ . قَالَ الْهَرَوِيّ : | نُزُلًا مِنْ عِنْد اللَّه | أَيْ ثَوَابًا . وَقِيلَ رِزْقًا .|وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ|أَيْ مِمَّا يَتَقَلَّب بِهِ الْكُفَّار فِي الدُّنْيَا . وَاَللَّه أَعْلَم .

وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَاب

قَالَ جَابِر بْن عَبْد اللَّه وَأَنْسَ وَابْن عَبَّاس وَقَتَادَة وَالْحَسَن : نَزَلَتْ فِي النَّجَاشِيّ , وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا مَاتَ نَعَاهُ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ : ( قُومُوا فَصَلُّوا عَلَى أَخِيكُمْ النَّجَاشِيّ ) ; فَقَالَ بَعْضهمْ لِبَعْضٍ : يَأْمُرنَا أَنْ نُصَلِّي عَلَى عِلْج مِنْ عُلُوج الْحَبَشَة ; فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى | وَإِنَّ مِنْ أَهْل الْكِتَاب لَمَنْ يُؤْمِن بِاَللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ | .</p><p>قَالَ الضَّحَّاك : | وَمَا أُنْزِلَ أَلِيكُمْ | الْقُرْآن . | وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ | التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل . وَفِي التَّنْزِيل : | أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرهمْ مَرَّتَيْنِ | [ الْقَصَص : 54 ] . وَفِي صَحِيح مُسْلِم : | ثَلَاثَة يُؤْتَوْنَ أَجْرهمْ مَرَّتَيْنِ - فَذَكَرَ - رَجُل مِنْ أَهْل الْكِتَاب آمَنَ بِنَبِيِّهِ ثُمَّ أَدْرَكَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَآمَنَ بِهِ وَاتَّبَعَهُ وَصَدَّقَهُ فَلَهُ أَجْرَانِ ) وَذَكَرَ الْحَدِيث . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي | الْبَقَرَة | الصَّلَاة عَلَيْهِ وَمَا لِلْعُلَمَاءِ فِي الصَّلَاة عَلَى الْمَيِّت الْغَائِب , فَلَا مَعْنَى لِلْإِعَادَةِ . وَقَالَ مُجَاهِد وَابْن جُرَيْج وَابْن زَيْد : نَزَلَتْ فِي مُؤْمِنِي أَهْل الْكِتَاب , وَهَذَا عَامّ وَالنَّجَاشِيّ وَاحِد مِنْهُمْ . وَاسْمه أصحمة , وَهُوَ بِالْعَرَبِيَّةِ عَطِيَّة .|خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ|أَذِلَّة , وَنُصِبَ عَلَى الْحَال مِنْ الْمُضْمَر الَّذِي فِي | يُؤْمِن | . وَقِيلَ : مِنْ الضَّمِير فِي | إِلَيْهِمْ | أَوْ فِي | إِلَيْكُمْ | . وَمَا فِي الْآيَة بَيِّن , وَقَدْ تَقَدَّمَ .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ

خَتَمَ تَعَالَى السُّورَة بِمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَة الْعَاشِرَة مِنْ الْوَصَاة الَّتِي جَمَعَتْ الظُّهُور فِي الدُّنْيَا عَلَى الْأَعْدَاء وَالْفَوْز بِنَعِيمِ الْآخِرَة ; فَحَضَّ عَلَى الصَّبْر عَلَى الطَّاعَات وَعَنْ الشَّهَوَات , وَالصَّبْر الْحَبْس , وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي | الْبَقَرَة | بَيَانه . وَأَمَرَ بِالْمُصَابَرَةِ فَقِيلَ : مَعْنَاهُ مُصَابَرَة الْأَعْدَاء ; قَالَهُ زَيْد بْن أَسْلَمَ . وَقَالَ الْحَسَن : عَلَى الصَّلَوَات الْخَمْس . وَقِيلَ : إِدَامَة مُخَالَفَة النَّفْس عَنْ شَهَوَاتهَا فَهِيَ تَدْعُو وَهُوَ يَنْزِع . وَقَالَ عَطَاء وَالْقُرَظِيّ : صَابِرُوا الْوَعْد الَّذِي وَعُدْتُمْ . أَيْ لَا تَيْأَسُوا وَانْتَظِرُوا الْفَرَج ; قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( اِنْتِظَار الْفَرَج بِالصَّبْرِ عِبَادَة ) . وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْل أَبُو عُمَر رَحِمَهُ اللَّه . وَالْأَوَّل قَوْل الْجُمْهُور ; وَمِنْهُ قَوْل عَنْتَرَة : <br>فَلَمْ أَرَ حَيًّا صَابَرُوا مِثْل صَبْرنَا .......... وَلَا كَافَحُوا مِثْل الَّذِينَ نُكَافِح <br>فَقَوْله | صَابَرُوا مِثْل صَبْرنَا | أَيْ صَابَرُوا الْعَدُوّ فِي الْحَرْب وَلَمْ يَبْدُ مِنْهُمْ جُبْن وَلَا خَوَر . وَالْمُكَافَحَة : الْمُوَاجَهَة وَالْمُقَابَلَة فِي الْحَرْب ; وَلِذَلِكَ اِخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى قَوْله|وَصَابِرُوا|فَقَالَ جُمْهُور الْأُمَّة : رَابِطُوا أَعْدَاءَكُمْ بِالْخَيْلِ , أَيْ اِرْتَبَطُوهَا كَمَا يَرْتَبِطهَا أَعْدَاؤُكُمْ ; وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : | وَمِنْ رِبَاط الْخَيْل | [ الْأَنْفَال : 60 ] وَفِي الْمُوَطَّأ عَنْ مَالِك عَنْ زَيْد بْن أَسْلَمَ قَالَ : كَتَبَ أَبُو عُبَيْدَة بْن الْجَرَّاح إِلَى عُمَر بْن الْخَطَّاب يَذْكُر لَهُ جُمُوعًا مِنْ الرُّوم وَمَا يَتَخَوَّف مِنْهُمْ ; فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَر : أَمَّا بَعْد , فَإِنَّهُ مَهْمَا يَنْزِل بِعَبْدٍ مُؤْمِن مِنْ مَنْزِل شِدَّة يَجْعَل اللَّه لَهُ بَعْدهَا فَرَجًا , وَإِنَّهُ لَنْ يَغْلِب عُسْر يُسْرَيْنِ , وَإِنَّ اللَّه تَعَالَى يَقُول فِي كِتَابه | يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اِصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ | وَقَالَ أَبُو سَلَمَة بْن عَبْد الرَّحْمَن : هَذِهِ الْآيَة فِي اِنْتِظَار الصَّلَاة بَعْد الصَّلَاة , وَلَمْ يَكُنْ فِي زَمَان رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزْو يُرَابَط فِيهِ ; رَوَاهُ الْحَاكِم أَبُو عَبْد اللَّه فِي صَحِيحه . وَاحْتَجَّ أَبُو سَلَمَة بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( أَلَا أَدُلّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللَّه بِهِ الْخَطَايَا وَيَرْفَع بِهِ الدَّرَجَات إِسْبَاغ الْوُضُوء عَلَى الْمَكَارِه وَكَثْرَة الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِد وَانْتِظَار الصَّلَاة بَعْد الصَّلَاة فَذَلِكُمْ الرِّبَاط ) ثَلَاثًا ; رَوَاهُ مَالِك . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَالْقَوْل الصَّحِيح هُوَ أَنَّ الرِّبَاط هُوَ الْمُلَازَمَة فِي سَبِيل اللَّه . أَصْلهَا مِنْ رَبْط الْخَيْل , ثُمَّ سُمِّيَ كُلّ مُلَازِم لِثَغْرِ مِنْ ثُغُور الْإِسْلَام مُرَابِطًا , فَارِسًا كَانَ أَوْ رَاجِلًا . وَاللَّفْظ مَأْخُوذ مِنْ الرَّبْط . وَقَوْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( فَذَلِكُمْ الرِّبَاط ) إِنَّمَا هُوَ تَشْبِيه بِالرِّبَاطِ فِي سَبِيل اللَّه . وَالرِّبَاط اللُّغَوِيّ هُوَ الْأَوَّل ; وَهَذَا كَقَوْلِهِ : ( لَيْسَ الشَّدِيد بِالصُّرْعَةِ ) وَقَوْله ( لَيْسَ الْمِسْكِين بِهَذَا الطَّوَّاف ) إِلَى غَيْر ذَلِكَ . قُلْت : قَوْله | وَالرِّبَاط اللُّغَوِيّ هُوَ الْأَوَّل | لَيْسَ بِمُسَلَّمٍ , فَإِنَّ الْخَلِيل بْن أَحْمَد أَحَد أَئِمَّة اللُّغَة وَثِقَاتهَا قَدْ قَالَ : الرِّبَاط مُلَازَمَة الثُّغُور , وَمُوَاظَبَة الصَّلَاة أَيْضًا , فَقَدْ حَصَلَ أَنَّ اِنْتِظَار الصَّلَاة رِبَاط لُغَوِيّ حَقِيقَة ; كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَأَكْثَر مِنْ هَذَا مَا قَالَهُ الشَّيْبَانِيّ أَنَّهُ يُقَال : مَاء مُتَرَابِط أَيْ دَائِم لَا يُنْزَح ; حَكَاهُ اِبْن فَارِس وَهُوَ يَقْتَضِي تَعْدِيَة الرِّبَاط لُغَة إِلَى غَيْر مَا ذَكَرْنَاهُ . فَإِنَّ الْمُرَابَطَة عِنْد الْعَرَب : الْعَقْد عَلَى الشَّيْء حَتَّى لَا يَنْحَلّ , فَيَعُود إِلَى مَا كَانَ صَبَرَ عَنْهُ , فَيَحْبِس الْقَلْب عَلَى النِّيَّة الْحَسَنَة وَالْجِسْم عَلَى فِعْل الطَّاعَة . وَمِنْ أَعْظَمهَا وَأَهَمّهَا اِرْتِبَاط الْخَيْل فِي سَبِيل اللَّه كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي التَّنْزِيل فِي قَوْله : | وَمِنْ رِبَاط الْخَيْل | [ الْأَنْفَال : 60 ] عَلَى مَا يَأْتِي . وَارْتِبَاط النَّفْس عَلَى الصَّلَوَات كَمَا قَالَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة وَجَابِر وَعَلِيّ وَلَا عِطْر بَعْد عَرُوس .</p><p>الْمُرَابِط فِي سَبِيل اللَّه عِنْد الْفُقَهَاء هُوَ الَّذِي يَشْخَص إِلَى ثَغْر مِنْ الثُّغُور لِيُرَابِط فِيهِ مُدَّة مَا ; قَالَهُ مُحَمَّد بْن الْمَوَّاز وَرَوَاهُ . وَأَمَّا سُكَّان الثُّغُور دَائِمًا بِأَهْلَيْهِمْ الَّذِينَ يَعْمُرُونَ وَيَكْتَسِبُونَ هُنَالِكَ , فَهُمْ وَإِنْ كَانُوا حَمَاة فَلَيْسُوا بِمُرَابِطِينَ . قَالَهُ اِبْن عَطِيَّة . وَقَالَ اِبْن خُوَيْز مَنْدَاد : وَلِلرِّبَاطِ حَالَتَانِ : حَالَة يَكُون الثَّغْر مَأْمُونًا مَنِيعًا يَجُوز سُكْنَاهُ بِالْأَهْلِ وَالْوَلَد . وَإِنْ كَانَ غَيْر مَأْمُون جَازَ أَنْ يُرَابِط فِيهِ بِنَفْسِهِ إِذَا كَانَ مِنْ أَهْل الْقِتَال , وَلَا يَنْقُل إِلَيْهِ الْأَهْل وَالْوَلَد لِئَلَّا يَظْهَر الْعَدُوّ فَيَسْبِي وَيَسْتَرِق . وَاَللَّه أَعْلَم .</p><p>جَاءَ فِي فَضْل الرِّبَاط أَحَادِيث كَثِيرَة , مِنْهَا مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيّ عَنْ سَهْل بْن سَعْد السَّاعِدِيّ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : رِبَاط يَوْم فِي سَبِيل اللَّه خَيْر عِنْد اللَّه مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا ) . وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ سَلْمَان قَالَ : سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( رِبَاط يَوْم وَلَيْلَة خَيْر مِنْ صِيَام شَهْر وَقِيَامه وَإِنْ مَاتَ جَرَى عَلَيْهِ عَمَله الَّذِي كَانَ يَعْمَلهُ وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقه وَأَمِنَ الْفَتَّان ) . وَرَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنه عَنْ فَضَالَة بْن عُبَيْد أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : كُلّ مَيِّت يُخْتَم عَلَى عَمَله إِلَّا الْمُرَابِط فَإِنَّهُ يَنْمُو لَهُ عَمَله إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَيُؤَمَّن مِنْ فَتَّان الْقَبْر ) . وَفِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ دَلِيل عَلَى أَنَّ الرِّبَاط أَفْضَل الْأَعْمَال الَّتِي يَبْقَى ثَوَابهَا بَعْد الْمَوْت ; كَمَا جَاءَ فِي حَدِيث الْعَلَاء بْن عَبْد الرَّحْمَن عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( إِذَا مَاتَ الْإِنْسَان اِنْقَطَعَ عَنْهُ عَمَله إِلَّا مِنْ ثَلَاثَة إِلَّا مِنْ صَدَقَة جَارِيَة أَوْ عِلْم يُنْتَفَع بِهِ أَوْ وَلَد صَالِح يَدْعُو لَهُ ) وَهُوَ حَدِيث صَحِيح اِنْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ مُسْلِم ; فَإِنَّ الصَّدَقَة الْجَارِيَة وَالْعِلْم الْمُنْتَفَع بِهِ وَالْوَلَد الصَّالِح يَدْعُو لِأَبَوَيْهِ يَنْقَطِع ذَلِكَ بِنَفَادِ الصَّدَقَات وَذَهَاب الْعِلْم وَمَوْت الْوَلَد . وَالرِّبَاط يُضَاعَف أَجْره إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ; لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلنَّمَاءِ إِلَّا الْمُضَاعَفَة , وَهِيَ غَيْر مَوْقُوفَة عَلَى سَبَب فَتَنْقَطِع بِانْقِطَاعِهِ , بَلْ هِيَ فَضْل دَائِم مِنْ اللَّه تَعَالَى إِلَى يَوْم الْقِيَامَة . وَهَذَا لِأَنَّ أَعْمَال الْبِرّ كُلّهَا لَا يُتَمَكَّن مِنْهَا إِلَّا بِالسَّلَامَةِ مِنْ الْعَدُوّ وَالتَّحَرُّز مِنْهُ بِحِرَاسَةِ بَيْضَة الدِّين وَإِقَامَة شَعَائِر الْإِسْلَام . وَهَذَا الْعَمَل الَّذِي يَجْرِي عَلَيْهِ ثَوَابه هُوَ مَا كَانَ يَعْمَلهُ مِنْ الْأَعْمَال الصَّالِحَة ; خَرَّجَهُ اِبْن مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ صَحِيح عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ مَاتَ مُرَابِطًا فِي سَبِيل اللَّه أُجْرِيَ عَلَيْهِ أَجْر عَمَله الصَّالِح الَّذِي كَانَ يَعْمَل وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقه وَأَمِنَ مِنْ الْفَتَّان وَبَعَثَهُ اللَّه يَوْم الْقِيَامَة آمِنًا مِنْ الْفَزَع ) . وَفِي هَذَا الْحَدِيث قَيْد ثَانٍ وَهُوَ الْمَوْت حَالَة الرِّبَاط . وَاَللَّه أَعْلَم . وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَان بْن عَفَّان قَالَ : سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( مَنْ رَابَطَ لَيْلَة فِي سَبِيل اللَّه كَانَتْ لَهُ كَأَلْفِ لَيْلَة صِيَامهَا وَقِيَامهَا ) . وَرُوِيَ عَنْ أُبَيّ بْن كَعْب قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَرِبَاطُ يَوْم فِي سَبِيل اللَّه مِنْ وَرَاء عَوْرَة الْمُسْلِمِينَ مُحْتَسِبًا مِنْ غَيْر شَهْر رَمَضَان أَعْظَم أَجْرًا مِنْ عِبَادَة مِائَة سَنَة صِيَامهَا وَقِيَامهَا وَرِبَاط يَوْم فِي سَبِيل اللَّه مِنْ وَرَاء عَوْرَة الْمُسْلِمِينَ مُحْتَسِبًا مِنْ شَهْر رَمَضَان أَفْضَل عِنْد اللَّه وَأَعْظَم أَجْرًا - أَرَاهُ قَالَ : مِنْ عِبَادَة أَلْف سَنَة صِيَامهَا وَقِيَامهَا فَإِنْ رَدَّهُ اللَّه إِلَى أَهْله سَالِمًا لَمْ تُكْتَب عَلَيْهِ سَيِّئَة أَلْف سَنَة وَتُكْتَب لَهُ الْحَسَنَات وَيُجْرَى لَهُ أَجْر الرِّبَاط إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ) . وَدَلَّ هَذَا الْحَدِيث عَلَى أَنَّ رِبَاط يَوْم فِي شَهْر رَمَضَان يُحَصِّل لَهُ مِنْ الثَّوَاب الدَّائِم وَإِنْ لَمْ يَمُتْ مُرَابِطًا . وَاَللَّه أَعْلَم . وَعَنْ أَنَس بْن مَالِك قَالَ : سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( حَرْس لَيْلَة فِي سَبِيل اللَّه أَفْضَل مِنْ صِيَام رَجُل وَقِيَامه فِي أَهْله أَلْف سَنَة السَّنَة ثَلَاثمِائَةِ يَوْم وَسِتُّونَ يَوْمًا وَالْيَوْم كَأَلْفِ سَنَة ) . قُلْت : وَجَاءَ فِي اِنْتِظَار الصَّلَاة بَعْد الصَّلَاة أَنَّهُ رِبَاط ; فَقَدْ يَحْصُل لِمُنْتَظِرِ الصَّلَوَات ذَلِكَ الْفَضْل إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَقَدْ رَوَى أَبُو نُعَيْم الْحَافِظ قَالَ حَدَّثَنَا سُلَيْمَان بْن أَحْمَد قَالَ حَدَّثَنَا عَلِيّ بْن عَبْد الْعَزِيز قَالَ حَدَّثَنَا حَجَّاج بْن الْمِنْهَال ح وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْن مَالِك قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن أَحْمَد بْن حَنْبَل قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ حَدَّثَنِي الْحَسَن بْن مُوسَى قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّاد بْن سَلَمَة عَنْ ثَابِت الْبُنَانِيّ عَنْ أَبِي أَيُّوب الْأَزْدِيّ عَنْ نَوْف الْبِكَالِيّ عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى ذَات لَيْلَة الْمَغْرِب فَصَلَّيْنَا مَعَهُ فَعَقَّبَ مَنْ عَقَّبَ وَرَجَعَ مَنْ رَجَعَ , فَجَاءَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْل أَنْ يَثُوب النَّاس لِصَلَاةِ الْعِشَاء , فَجَاءَ وَقَدْ حَضَرَهُ النَّاس رَافِعًا أُصْبُعه وَقَدْ عَقَدَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ يُشِير بِالسِّبَابَةِ إِلَى السَّمَاء فَحَسَرَ ثَوْبه عَنْ رُكْبَتَيْهِ وَهُوَ يَقُول : ( أَبْشِرُوا مَعْشَر الْمُسْلِمِينَ هَذَا رَبّكُمْ قَدْ فَتْح بَابًا مِنْ أَبْوَاب السَّمَاء يُبَاهِي بِكُمْ الْمَلَائِكَة يَقُول يَا مَلَائِكَتِي اُنْظُرُوا إِلَى عِبَادِي هَؤُلَاءِ قَضَوْا فَرِيضَة وَهُمْ يَنْتَظِرُونَ أُخْرَى ) . وَرَوَاهُ حَمَّاد بْن سَلَمَة عَنْ عَلِيّ بْن زَيْد عَنْ مُطَرِّف بْن عَبْد اللَّه : أَنَّ نَوْفًا وَعَبْد اللَّه بْن عَمْرو اِجْتَمَعَا فَحَدَّثَ نَوْف عَنْ التَّوْرَاة وَحَدَّثَ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو بِهَذَا الْحَدِيث عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .|وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا|أَيْ لَمْ تُؤْمَرُوا بِالْجِهَادِ مِنْ غَيْر تَقْوًى .|اللَّهَ لَعَلَّكُمْ|لِتَكُونُوا عَلَى رَجَاء مِنْ الْفَلَاح . وَقِيلَ : لَعَلَّ بِمَعْنَى لِكَيْ . وَالْفَلَاح الْبَقَاء , وَقَدْ مَضَى هَذَا كُلّه فِي | الْبَقَرَة | مُسْتَوْفًى , وَالْحَمْد لِلَّهِ .|نَجَزَ تَفْسِير سُورَة آل عِمْرَان مِنْ ( جَامِع أَحْكَام الْقُرْآن وَالْمُبَيِّن لِمَا تَضَمَّنَ مِنْ السُّنَّة وَآيِ الْفُرْقَان ) بِحَمْدِ اللَّه وَعَوْنه .


1-الفاتحة 2-البقرة 3-آل-عمران 4-النساء 5-المائدة 6-الأنعام 7-الأعراف 8-الأنفال 9-التوبة 10-يونس 11-هود 12-يوسف 13-الرعد 14-إبراهيم 15-الحجر 16-النحل 17-الإسراء 18-الكهف 19-مريم 20-طه 21-الأنبياء 22-الحج 23-المؤمنون 24-النور 25-الفرقان 26-الشعراء 27-النمل 28-القصص 29-العنكبوت 30-الروم 31-لقمان 32-السجدة 33-الأحزاب 34-سبأ 35-فاطر 36-يس 37-الصافات 38-ص 39-الزمر 40-غافر 41-فصلت 42-الشورى 43-الزخرف 44-الدخان 45-الجاثية 46-الأحقاف 47-محمد 48-الفتح 49-الحجرات 50-ق 51-الذاريات 52-الطور 53-النجم 54-القمر 55-الرحمن 56-الواقعة 57-الحديد 58-المجادلة 59-الحشر 60-الممتحنة 61-الصف 62-الجمعة 63-المنافقون 64-التغابن 65-الطلاق 66-التحريم 67-الملك 68-القلم 69-الحاقة 70-المعارج 71-نوح 72-الجن 73-المزمل 74-المدثر 75-القيامة 76-الإنسان 77-المرسلات 78-النبأ 79-النازعات 80-عبس 81-التكوير 82-الانفطار 83-المطففين 84-الانشقاق 85-البروج 86-الطارق 87-الأعلى 88-الغاشية 89-الفجر 90-البلد 91-الشمس 92-الليل 93-الضحى 94-الشرح 95-التين 96-العلق 97-القدر 98-البينة 99-الزلزلة 100-العاديات 101-القارعة 102-التكاثر 103-العصر 104-الهمزة 105-الفيل 106-قريش 107-الماعون 108-الكوثر 109-الكافرون 110-النصر 111-المسد 112-الإخلاص 113-الفلق 114-الناس