أَيْ وَلَئِنْ سَأَلْتهمْ يَا مُحَمَّد|مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ|بَيَّنَ أَنَّهُمْ مَعَ عِبَادَتهمْ الْأَوْثَان مُقِرُّونَ بِأَنَّ الْخَالِق هُوَ اللَّه , وَإِذَا كَانَ اللَّه هُوَ الْخَالِق فَكَيْف يُخَوِّفُونَك بِآلِهَتِهِمْ الَّتِي هِيَ مَخْلُوقَة لِلَّهِ تَعَالَى , وَأَنْتَ رَسُول اللَّه الَّذِي خَلَقَهَا وَخَلَقَ السَّمَاوَات وَالْأَرْض .|قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ|أَيْ قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّد بَعْد اِعْتِرَافهمْ بِهَذَا | أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُون اللَّه ||إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ|بِشِدَّةٍ وَبَلَاء|هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ|يَعْنِي هَذِهِ الْأَصْنَام وَقَرَأَ نَافِع وَابْن كَثِير وَالْكُوفِيُّونَ مَا عَدَا عَاصِمًا | كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ | بِغَيْرِ تَنْوِين . وَقَرَأَ أَبُو عَمْرو وَشَيْبَةُ وَهِيَ الْمَعْرُوفَة مِنْ قِرَاءَة الْحَسَن وَعَاصِم | هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتٌ ضُرَّهُ | .|أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ|نِعْمَة وَرَخَاء|هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ|قَالَ مُقَاتِل : فَسَأَلَهُمْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَكَتُوا . وَقَالَ غَيْره : قَالُوا لَا تَدْفَع شَيْئًا قَدَّرَهُ اللَّه وَلَكِنَّهَا تَشْفَع . | مُمْسِكَات رَحْمَته | بِالتَّنْوِينِ عَلَى الْأَصْل وَهُوَ اِخْتِيَار أَبِي عُبَيْد وَأَبِي حَاتِم ; لِأَنَّهُ اِسْم فَاعِل فِي مَعْنَى الِاسْتِقْبَال , وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ التَّنْوِين أَجْوَدَ . قَالَ الشَّاعِر : الضَّارِبُونَ عُمَيْرًا عَنْ بُيُوتهمْ وَ بِاللَّيْلِ يَوْم عُمَيْر ظَالِم عَادِي وَلَوْ كَانَ مَاضِيًا لَمْ يَجُزْ فِيهِ التَّنْوِين , وَحَذْف التَّنْوِين عَلَى التَّحْقِيق , فَإِذَا حَذَفْت التَّنْوِين لَمْ يَبْقَ بَيْن الِاسْمَيْنِ حَاجِز فَخَفَضْت الثَّانِي بِالْإِضَافَةِ . وَحَذْف التَّنْوِين كَثِير فِي كَلَام الْعَرَب مَوْجُود حَسَن ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : | هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَة | [ الْمَائِدَة : 95 ] وَقَالَ : | إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ | [ الْقَمَر : 27 ] قَالَ سِيبَوَيْهِ : وَمِثْل ذَلِكَ | غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ | [ الْمَائِدَة : 1 ] وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ : هَلْ أَنْتَ بَاعِثُ دِينَارٍ لِحَاجَتِنَا و أَوْ عَبْد رَبٍّ أَخَا عَوْن بْن مِخْرَاقِ وَقَالَ النَّابِغَة : اُحْكُمْ كَحُكْمِ فَتَاةِ الْحَيِّ إِذْ نَظَرَتْ وَ إِلَى حَمَامٍ شَرَاعٍ وَارِدِ الثَّمَدِ مَعْنَاهُ وَارِد الثَّمَد فَحُذِفَ التَّنْوِين ; مِثْل | كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ | .|قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ|تَرَكَ الْجَوَاب لِدَلَالَةِ الْكَلَام عَلَيْهِ ; يَعْنِي فَسَيَقُولُونَ لَا أَيْ لَا تَكْشِف وَلَا تُمْسِك فَـ | قُلْ | أَنْتَ | حَسْبِيَ اللَّه | أَيْ عَلَيْهِ تَوَكَّلْت أَيْ اِعْتَمَدْت|عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ|يَعْتَمِد الْمُعْتَمِدُونَ . وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَام فِي التَّوَكُّل .
وَقَرَأَ أَبُو بَكْر بِالْجَمْعِ | مَكَانَاتِكُمْ | . وَالْمَكَانَة الطَّرِيقَة . وَالْمَعْنَى اُثْبُتُوا عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ فَأَنَا أَثْبُت عَلَى مَا أَنَا عَلَيْهِ . فَإِنْ قِيلَ : كَيْف يَجُوز أَنْ يُؤْمَرُوا بِالثَّبَاتِ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ وَهُمْ كُفَّار . فَالْجَوَاب أَنَّ هَذَا تَهْدِيد ; كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ : | فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا | [ التَّوْبَة : 82 ] . وَدَلَّ عَلَيْهِ | فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُون لَهُ عَاقِبَة الدَّار | أَيْ الْعَاقِبَة الْمَحْمُودَة الَّتِي يُحْمَد صَاحِبهَا عَلَيْهَا , أَيْ مَنْ لَهُ النَّصْر فِي دَار الْإِسْلَام , وَمَنْ لَهُ وِرَاثَة الْأَرْض , وَمَنْ لَهُ الدَّار الْآخِرَة , أَيْ الْجَنَّة . قَالَ الزَّجَّاج : | مَكَانَتكُمْ | تَمَكُّنكُمْ فِي الدُّنْيَا . اِبْن عَبَّاس وَالْحَسَن وَالنَّخَعِيّ : عَلَى نَاحِيَتكُمْ . الْقُتَبِيّ : عَلَى مَوْضِعكُمْ .|مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ|أَيْ عَلَى مَكَانَتِي أَيْ عَلَى جِهَتِي الَّتِي تَمَكَّنَتْ عِنْدِي
أَيْ يُهِينُهُ وَيُذِلُّهُ أَيْ فِي الدُّنْيَا وَذَلِكَ بِالْجُوعِ وَالسَّيْف .|وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ|أَيْ فِي الْآخِرَة
يَعْنِي الْقُرْآن وَالْقُرْآن نَزَلَ نُجُومًا : شَيْئًا بَعْد شَيْء ; فَلِذَلِكَ قَالَ | أَنْزَلْنَا | وَالتَّنْزِيل مَرَّة بَعْد مَرَّة . وَالتَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل نَزَلَا دَفْعَة وَاحِدَة فَلِذَلِكَ قَالَ | أَنْزَلْنَا ||بِالْحَقِّ|أَيْ بِالصِّدْقِ وَقِيلَ : بِالْحُجَّةِ الْغَالِبَة . وَالْبَاء فِي قَوْل | بِالْحَقِّ | فِي مَوْضِع الْحَال مِنْ الْكِتَاب وَالْبَاء مُتَعَلِّقَة بِمَحْذُوفٍ التَّقْدِير آتِيًا بِالْحَقِّ وَلَا تَتَعَلَّق بِ | أَنْزَلْنَا | لِأَنَّهُ قَدْ تَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ أَحَدهمَا بِحَرْفِ جَرّ , وَلَا يَتَعَدَّى إِلَى ثَالِث .|فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ|أَيْ لِخَلَاصِ نَفْسه .|وَمَنْ ضَلَّ|أَيْ تَرَكَ الرَّسُول وَالْقُرْآن وَاتَّبَعَ الْأَصْنَام وَالْأَوْثَان .|فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا|أَيْ وَبَال ذَلِكَ عَلَى نَفْسه .|وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ|أَيْ بِحَفِيظٍ يَحْفَظ أَعْمَالهمْ إِنَّمَا أَنْتَ رَسُول . قَالَ اِبْن عَبَّاس : نَسَخَتْهَا آيَة السَّيْف .
أَيْ يَقْبِضُهَا عِنْد فَنَاءِ آجَالِهَا|وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا|اُخْتُلِفَ فِيهِ . فَقِيلَ : يَقْبِضُهَا عَنْ التَّصَرُّف مَعَ بَقَاء أَرْوَاحهَا فِي أَجْسَادهَا|فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى|وَهِيَ النَّائِمَة فَيُطْلِقُهَا بِالتَّصَرُّفِ إِلَى أَجَل مَوْتهَا ; قَالَ اِبْن عِيسَى . وَقَالَ الْفَرَّاء : الْمَعْنَى وَيَقْبِض الَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا عِنْد اِنْقِضَاء أَجَلهَا . قَالَ : وَقَدْ يَكُون تَوَفِّيهَا نَوْمَهَا ; فَيَكُون التَّقْدِير عَلَى هَذَا وَاَلَّتِي لَمْ تَمُتْ وَفَاتُهَا نَوْمُهَا . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَغَيْره مِنْ الْمُفَسِّرِينَ : إِنَّ أَرْوَاح الْأَحْيَاء وَالْأَمْوَات تَلْتَقِي فِي الْمَنَام فَتَتَعَارَف مَا شَاءَ اللَّه مِنْهَا , فَإِذَا أَرَادَ جَمِيعهَا الرُّجُوع إِلَى الْأَجْسَاد أَمْسَكَ اللَّه أَرْوَاح الْأَمْوَات عِنْده , وَأَرْسَلَ أَرْوَاح الْأَحْيَاء إِلَى أَجْسَادهَا . وَقَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر : إِنَّ اللَّه يَقْبِض أَرْوَاح الْأَمْوَات إِذَا مَاتُوا , وَأَرْوَاح الْأَحْيَاء إِذَا نَامُوا , فَتَتَعَارَف مَا شَاءَ اللَّه أَنْ تَتَعَارَف | فَيُمْسِك الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْت وَيُرْسِل الْأُخْرَى | أَيْ يُعِيدهَا . قَالَ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : فَمَا رَأَتْهُ نَفْس النَّائِم وَهِيَ فِي السَّمَاء قَبْل إِرْسَالهَا إِلَى جَسَدهَا فَهِيَ الرُّؤْيَا الصَّادِقَة , وَمَا رَأَتْهُ بَعْد إِرْسَالهَا وَقَبْل اِسْتِقْرَارهَا فِي جَسَدهَا تُلْقِيهَا الشَّيَاطِين , وَتُخَيِّل إِلَيْهَا الْأَبَاطِيل فَهِيَ الرُّؤْيَا الْكَاذِبَة . وَقَالَ اِبْن زَيْد : النَّوْم وَفَاة وَالْمَوْت وَفَاة . وَعَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( كَمَا تَنَامُونَ فَكَذَلِكَ تَمُوتُونَ وَكَمَا تُوقَظُونَ فَكَذَلِكَ تُبْعَثُونَ ) . وَقَالَ عُمَر : النَّوْم أَخُو الْمَوْت . وَرُوِيَ مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيث جَابِر بْن عَبْد اللَّه قِيلَ : يَا رَسُول اللَّه أَيَنَامُ أَهْل الْجَنَّة ؟ قَالَ : ( لَا النَّوْم أَخُو الْمَوْت وَالْجَنَّة لَا مَوْت فِيهَا ) خَرَّجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : ( فِي اِبْن آدَم نَفْس وَرُوح بَيْنهمَا مِثْل شُعَاع الشَّمْس , فَالنَّفْس الَّتِي بِهَا الْعَقْل وَالتَّمْيِيز , وَالرُّوح الَّتِي بِهَا النَّفَس وَالتَّحْرِيك , فَإِذَا نَامَ الْعَبْد قَبَضَ اللَّه نَفْسه وَلَمْ يَقْبِض رُوحه ) . وَهَذَا قَوْل اِبْن الْأَنْبَارِيّ وَالزَّجَّاج . قَالَ الْقُشَيْرِيّ أَبُو نَصْر : وَفِي هَذَا بُعْد إِذْ الْمَفْهُوم مِنْ الْآيَة أَنَّ النَّفْس الْمَقْبُوضَة فِي الْحَال شَيْء وَاحِد ; وَلِهَذَا قَالَ : | فَيُمْسِك الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْت وَيُرْسِل الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى | فَإِذًا يَقْبِض اللَّه الرُّوح فِي حَالَيْنِ فِي حَالَة النَّوْم وَحَالَة الْمَوْت , فَمَا قَبَضَهُ فِي حَال النَّوْم فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ يَغْمُرُهُ بِمَا يَحْبِسُهُ عَنْ التَّصَرُّفِ فَكَأَنَّهُ شَيْء مَقْبُوض , وَمَا قَبَضَهُ فِي حَال الْمَوْت فَهُوَ يُمْسِكُهُ وَلَا يُرْسِلُهُ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة . وَقَوْله : | وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى | أَيْ يُزِيل الْحَابِس عَنْهُ فَيَعُود كَمَا كَانَ . فَتَوَفِّي الْأَنْفُس فِي حَال النَّوْم بِإِزَالَةِ الْحِسّ وَخَلْق الْغَفْلَة وَالْآفَة فِي مَحَلّ الْإِدْرَاك . وَتَوَفِّيهَا فِي حَالَة الْمَوْت بِخَلْقِ الْمَوْت وَإِزَالَة الْحِسّ بِالْكُلِّيَّةِ . | فَيُمْسِك الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْت | بِأَلَّا يَخْلُق فِيهَا الْإِدْرَاك كَيْف وَقَدْ خَلَقَ فِيهَا الْمَوْت ؟ | وَيُرْسِل الْأُخْرَى | بِأَنْ يُعِيد إِلَيْهَا الْإِحْسَاس . وَقَدْ اِخْتَلَفَ النَّاس مِنْ هَذِهِ الْآيَة فِي النَّفْس وَالرُّوح ; هَلْ هُمَا شَيْء وَاحِد أَوْ شَيْئَانِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا . وَالْأَظْهَر أَنَّهُمَا شَيْء وَاحِد , وَهُوَ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ الْآثَار الصِّحَاح عَلَى مَا نَذْكُرهُ فِي هَذَا الْبَاب . مِنْ ذَلِكَ حَدِيث أُمّ سَلَمَة قَالَتْ : دَخَلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَبِي سَلَمَة وَقَدْ شُقَّ بَصَره فَأَغْمَضَهُ , ثُمَّ قَالَ : ( إِنَّ الرُّوح إِذَا قُبِضَ تَبِعَهُ الْبَصَرُ ) وَحَدِيث أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَلَمْ تَرَوْا الْإِنْسَان إِذَا مَاتَ شَخَصَ بَصَرُهُ ) قَالَ : ( فَذَلِكَ حِين يَتْبَعُ بَصَرُهُ نَفْسَهُ ) خَرَّجَهُمَا مُسْلِم . وَعَنْهُ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( تَحْضُر الْمَلَائِكَة فَإِذَا كَانَ الرَّجُل صَالِحًا قَالُوا اُخْرُجِي أَيَّتهَا النَّفْس الطَّيِّبَة كَانَتْ فِي الْجَسَد الطَّيِّب اُخْرُجِي حَمِيدَة وَأَبْشِرِي بِرَوْحٍ وَرَيْحَان وَرَبّ رَاضٍ غَيْر غَضْبَان فَلَا يَزَال يُقَال لَهَا ذَلِكَ حَتَّى تَخْرُج ثُمَّ يُعْرَج بِهَا إِلَى السَّمَاء ... ) وَذَكَرَ الْحَدِيث وَإِسْنَاده صَحِيح خَرَّجَهُ اِبْن مَاجَهْ ; وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي التَّذْكِرَة . وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : ( إِذَا خَرَجَتْ رُوح الْمُؤْمِن تَلَقَّاهَا مَلَكَانِ يَصْعَدَانِ بِهَا ... ) . وَذَكَرَ الْحَدِيث . وَقَالَ بِلَال فِي حَدِيث الْوَادِي : أَخَذَ بِنَفْسِي يَا رَسُول اللَّه الَّذِي أَخَذَ بِنَفْسِك . وَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُقَابِلًا لَهُ فِي حَدِيث زَيْد بْن أَسْلَمَ فِي حَدِيث الْوَادِي : ( يَا أَيّهَا النَّاس إِنَّ اللَّه قَبَضَ أَرْوَاحَنَا وَلَوْ شَاءَ رَدَّهَا إِلَيْنَا فِي حِين غَيْر هَذَا ) . وَالصَّحِيح فِيهِ أَنَّهُ جِسْم لَطِيف مُشَابِك لِلْأَجْسَامِ الْمَحْسُوسَة , يُجْذَب وَيُخْرَج وَفِي أَكْفَانِهِ يُلَفّ وَيُدْرَج , وَبِهِ إِلَى السَّمَاء يُعْرَج , لَا يَمُوت وَلَا يَفْنَى , وَهُوَ مِمَّا لَهُ أَوَّل وَلَيْسَ لَهُ آخِر , وَهُوَ بِعَيْنَيْنِ وَيَدَيْنِ , وَأَنَّهُ ذُو رِيح طَيِّبَة وَخَبِيثَة ; كَمَا فِي حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة . وَهَذِهِ صِفَة الْأَجْسَام لَا صِفَة الْأَعْرَاض ; وَقَدْ ذَكَرْنَا الْأَخْبَار بِهَذَا كُلّه فِي كِتَاب التَّذْكِرَة بِأَحْوَالِ الْمَوْتَى وَأُمُور الْآخِرَة . وَقَالَ تَعَالَى : | فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُوم | [ الْوَاقِعَة : 83 ] يَعْنِي النَّفْس إِلَى خُرُوجهَا مِنْ الْجَسَد ; وَهَذِهِ صِفَة الْجِسْم . وَاَللَّه أَعْلَم . خَرَّجَ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِذَا أَوَى أَحَدكُمْ إِلَى فِرَاشه فَلْيَأْخُذْ دَاخِلَةَ إِزَاره فَلْيَنْفُضْ بِهَا فِرَاشه وَلِيُسَمِّ اللَّه فَإِنَّهُ لَا يَعْلَم مَا خَلَفَهُ بَعْد عَلَى فِرَاشه فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَضْطَجِع فَلْيَضْطَجِعْ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَن وَلْيَقُلْ سُبْحَانَك رَبِّي وَضَعْت جَنْبِي وَبِك أَرْفَعهُ إِنْ أَمْسَكْت نَفْسِي فَاغْفِرْ لَهَا ) . وَقَالَ الْبُخَارِيّ وَابْن مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيّ : ( فَارْحَمْهَا ) بَدَل ( فَاغْفِرْ لَهَا ) ( وَإِنْ أَرْسَلْتهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظ بِهِ عِبَادك الصَّالِحِينَ ) زَادَ التِّرْمِذِيّ ( وَإِذَا اِسْتَيْقَظَ فَلْيَقُلْ الْحَمْد لِلَّهِ الَّذِي عَافَانِي فِي جَسَدِي وَرَدَّ عَلَيَّ رُوحِي وَأَذِنَ لِي بِذِكْرِهِ ) . وَخَرَّجَ الْبُخَارِيّ عَنْ حُذَيْفَة قَالَ : كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ مِنْ اللَّيْل وَضَعَ يَده تَحْت خَدِّهِ ; ثُمَّ يَقُول : ( اللَّهُمَّ بِاسْمِك أَمُوت وَأَحْيَا ) وَإِذَا اِسْتَيْقَظَ قَالَ : ( الْحَمْد لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْد مَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُور ) . | فَيُمْسِك الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْت | هَذِهِ قِرَاءَة الْعَامَّة عَلَى أَنَّهُ مُسَمَّى الْفَاعِل | الْمَوْت | نَصْبًا ; أَيْ قَضَى اللَّه عَلَيْهَا وَهُوَ اِخْتِيَار أَبِي حَاتِم وَأَبِي عُبَيْد ; لِقَوْلِهِ فِي أَوَّل الْآيَة : | اللَّه يَتَوَفَّى الْأَنْفُس | فَهُوَ يَقْضِي عَلَيْهَا . وَقَرَأَ الْأَعْمَش وَيَحْيَى بْن وَثَّاب وَحَمْزَة وَالْكِسَائِيّ | قُضِيَ عَلَيْهَا الْمَوْت | عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِله . النَّحَّاس , وَالْمَعْنَى وَاحِد غَيْر أَنَّ الْقِرَاءَة الْأُولَى أَبْيَنُ وَأَشْبَهُ بِنَسَقِ الْكَلَام ; لِأَنَّهُمْ قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى | وَيُرْسِلُ | وَلَمْ يَقْرَءُوا | وَيُرْسَلُ | . وَفِي الْآيَة تَنْبِيهٌ عَلَى عَظِيم قُدْرَته وَانْفِرَاده بِالْأُلُوهِيَّةِ , وَأَنَّهُ يَفْعَل مَا يَشَاء , وَيُحْيِي وَيُمِيت , لَا يَقْدِر عَلَى ذَلِكَ سِوَاهُ .|إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ|يَعْنِي فِي قَبْض اللَّه نَفْس الْمَيِّت وَالنَّائِم , وَإِرْسَاله نَفْس النَّائِم وَحَبْسه نَفْس الْمَيِّت وَقَالَ الْأَصْمَعِيّ سَمِعْت مُعْتَمِرًا يَقُول : رُوح الْإِنْسَان مِثْل كُبَّة الْغَزْل , فَتُرْسَل الرُّوح , فَيَمْضِي ثُمَّ تَمْضِي ثُمَّ تُطْوَى فَتَجِيء فَتَدْخُل ; فَمَعْنَى الْآيَة أَنَّهُ يُرْسَل مِنْ الرُّوح شَيْء فِي حَال النَّوْم وَمُعْظَمهَا فِي الْبَدَن مُتَّصِل بِمَا يَخْرُج مِنْهَا اِتِّصَالًا خَفِيًّا , فَإِذَا اِسْتَيْقَظَ الْمَرْء جَذَبَ مُعْظَمُ رُوحِهِ مَا اِنْبَسَطَ مِنْهَا فَعَادَ . وَقِيلَ غَيْر هَذَا ; وَفِي التَّنْزِيل : | وَيَسْأَلُونَك عَنْ الرُّوح قُلْ الرُّوح مِنْ أَمْر رَبِّي | [ الْإِسْرَاء : 85 ] أَيْ لَا يَعْلَم حَقِيقَتَهُ إِلَّا اللَّه . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي [ سُبْحَان ] .
أَيْ بَلْ اِتَّخَذُوا يَعْنِي الْأَصْنَام وَفِي الْكَلَام مَا يَتَضَمَّن لَمْ ; أَيْ | إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ | لَمْ يَتَفَكَّرُوا وَلَكِنَّهُمْ اِتَّخَذُوا آلِهَتَهُمْ شُفَعَاءَ .|قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ|أَيْ قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّد أَتَتَّخِذُونَهُمْ شُفَعَاء وَإِنْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا مِنْ الشَّفَاعَة | وَلَا يَعْقِلُونَ | لِأَنَّهَا جَمَادَات . وَهَذَا اِسْتِفْهَام إِنْكَار .
نَصّ فِي أَنَّ الشَّفَاعَة لِلَّهِ وَحْده كَمَا قَالَ : | مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَع عِنْده إِلَّا بِإِذْنِهِ | [ الْبَقَرَة : 255 ] فَلَا شَافِع إِلَّا مِنْ شَفَاعَته | وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنْ اِرْتَضَى | [ الْأَنْبِيَاء : 28 ] . | جَمِيعًا | نَصْب عَلَى الْحَال . فَإِنْ قِيلَ : | جَمِيعًا | إِنَّمَا يَكُون لِلِاثْنَيْنِ فَصَاعِدًا وَالشَّفَاعَة وَاحِدَة . فَالْجَوَاب أَنَّ الشَّفَاعَة مَصْدَر وَالْمَصْدَر يُؤَدِّي عَنْ الِاثْنَيْنِ وَالْجَمِيع
| وَإِذَا ذُكِرَ اللَّه وَحْده | نَصْب عَلَى الْمَصْدَر عِنْد الْخَلِيل وَسِيبَوَيْهِ , وَعَلَى الْحَال عِنْد يُونُس . | اِشْمَأَزَّتْ | قَالَ الْمُبَرِّد : اِنْقَبَضَتْ . وَهُوَ قَوْل اِبْن عَبَّاس وَمُجَاهِد . وَقَالَ قَتَادَة : نَفَرَتْ وَاسْتَكْبَرَتْ وَكَفَرَتْ وَتَعَصَّتْ . وَقَالَ الْمُؤَرِّج أَنْكَرَتْ . وَأَصْل الِاشْمِئْزَاز النُّفُور وَالِازْوِرَار . قَالَ عَمْرو بْن كُلْثُوم : <br>إِذَا عَضَّ الثِّقَافُ بِهَا اِشْمَأَزَّتْ .......... وَوَلَّتْهُمْ عَشَوْزَنَةً زَبُونَا <br>وَقَالَ أَبُو زَيْد : اِشْمَأَزَّ الرَّجُل ذُعِرَ مِنْ الْفَزَع وَهُوَ الْمَذْعُور . وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ إِذَا قِيلَ لَهُمْ | لَا إِلَه إِلَّا اللَّه | نَفَرُوا وَكَفَرُوا .|وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ|يَعْنِي الْأَوْثَان حِين أَلْقَى الشَّيْطَان فِي أَمْنِيَّة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْد قِرَاءَته سُورَة [ النَّجْم ] تِلْكَ الْغَرَانِيق الْعُلَى وَإِنَّ شَفَاعَتهمْ تُرْتَجَى . قَالَهُ جَمَاعَة الْمُفَسِّرِينَ .|إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ|أَيْ يَظْهَر فِي وُجُوههمْ الْبِشْر وَالسُّرُور .
| قُلْ اللَّهُمَّ فَاطِر السَّمَاوَات وَالْأَرْض | نَصْب لِأَنَّهُ نِدَاء مُضَاف وَكَذَا | عَالِمَ الْغَيْب | وَلَا يَجُوز عِنْد سِيبَوَيْهِ أَنْ يَكُون نَعْتًا . | أَنْتَ تَحْكُم بَيْن عِبَادك فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ | وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ أَبِي سَلَمَة بْن عَبْد الرَّحْمَن بْن عَوْف قَالَ : سَأَلْت عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا بِأَيِّ شَيْء كَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَفْتِح صَلَاته إِذَا قَامَ مِنْ اللَّيْل ؟ قَالَتْ : كَانَ إِذَا قَامَ مِنْ اللَّيْل اِفْتَتَحَ صَلَاته ( اللَّهُمَّ رَبّ جِبْرِيل وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ | فَاطِرَ السَّمَاوَات وَالْأَرْض عَالِم الْغَيْب وَالشَّهَادَة أَنْتَ تَحْكُم بَيْن عِبَادك فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ | اِهْدِنِي لِمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ الْحَقّ بِإِذْنِك إِنَّك تَهْدِي مَنْ تَشَاء إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم ) وَلَمَّا بَلَغَ الرَّبِيع بْن خَيْثَم قَتْل الْحُسَيْن بْن عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ قَرَأَ : | قُلْ اللَّهُمَّ فَاطِر السَّمَاوَات وَالْأَرْض عَالِم الْغَيْب وَالشَّهَادَة أَنْتَ تَحْكُم بَيْن عِبَادك فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ | . وَقَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر : إِنِّي لَأَعْرِفُ آيَة مَا قَرَأَهَا أَحَد قَطُّ فَسَأَلَ اللَّه شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ , قَوْله تَعَالَى : | قُلْ اللَّهُمَّ فَاطِر السَّمَاوَات وَالْأَرْض عَالِم الْغَيْب وَالشَّهَادَة أَنْتَ تَحْكُم بَيْن عِبَادك فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ | .
أَيْ كَذَّبُوا وَأَشْرَكُوا|مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ|أَيْ مِنْ سُوء عَذَاب ذَلِكَ الْيَوْم . وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي سُورَة [ آل عِمْرَان ] وَ [ الرَّعْد ] .|وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ|مِنْ أَجَلّ مَا رُوِيَ فِيهِ مَا رَوَاهُ مَنْصُور عَنْ مُجَاهِد قَالَ : عَمِلُوا أَعْمَالًا تَوَهَّمُوا أَنَّهَا حَسَنَات فَإِذَا هِيَ سَيِّئَات . وَقَالَهُ السُّدِّيّ . وَقِيلَ : عَمِلُوا أَعْمَالًا تَوَهَّمُوا أَنَّهُمْ يَتُوبُونَ مِنْهَا قَبْل الْمَوْت فَأَدْرَكَهُمْ الْمَوْت قَبْل أَنْ يَتُوبُوا , وَقَدْ كَانُوا ظَنُّوا أَنَّهُمْ يَنْجُونَ بِالتَّوْبَةِ . وَيَجُوز أَنْ يَكُونُوا تَوَهَّمُوا أَنَّهُ يَغْفِر لَهُمْ مِنْ غَيْر تَوْبَة فَـ | بَدَا لَهُمْ مِنْ اللَّه مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ | مِنْ دُخُول النَّار . وَقَالَ سُفْيَان الثَّوْرِيّ فِي هَذِهِ الْآيَة : وَيْل لِأَهْلِ الرِّيَاء وَيْل لِأَهْلِ الرِّيَاء هَذِهِ آيَتهمْ وَقِصَّتهمْ . وَقَالَ عِكْرِمَة بْن عَمَّار : جَزِعَ مُحَمَّد بْن الْمُنْكَدِر عِنْد مَوْته جَزَعًا شَدِيدًا , فَقِيلَ لَهُ : مَا هَذَا الْجَزَع ؟ قَالَ : أَخَاف آيَة مِنْ كِتَاب اللَّه | وَبَدَا لَهُمْ مِنْ اللَّه مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ | فَأَنَا أَخْشَى أَنْ يَبْدُوَ لِي مَا لَمْ أَكُنْ أَحْتَسِبُ .
أَيْ ظَهَرَ لَهُمْ|سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا|أَيْ عِقَاب مَا كَسَبُوا مِنْ الْكُفْر وَالْمَعَاصِي .|وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ|أَيْ أَحَاطَ بِهِمْ وَنَزَلَ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ .
قِيلَ : إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي حُذَيْفَة بْن الْمُغِيرَة .|ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ|قَالَ قَتَادَة : | عَلَى عِلْم | عِنْدِي بِوُجُوهِ الْمَكَاسِب , وَعَنْهُ أَيْضًا | عَلَى عِلْم | عَلَى خَيْر عِنْدِي . وَقِيلَ : | عَلَى عِلْم | أَيْ عَلَى عِلْم مِنْ اللَّه بِفَضْلِي . وَقَالَ الْحَسَن : | عَلَى عِلْم | أَيْ بِعِلْمٍ عَلَّمَنِي اللَّه إِيَّاهُ . وَقِيلَ : الْمَعْنَى أَنَّهُ قَالَ قَدْ عَلِمْت أَنِّي إِذَا أُوتِيت هَذَا فِي الدُّنْيَا أَنَّ لِي عِنْد اللَّه مَنْزِلَةً ;|بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ|أَيْ بَلْ النِّعَم الَّتِي أُوتِيتهَا فِتْنَة تُخْتَبَر بِهَا . قَالَ الْفَرَّاء : أَنَّثَ | هِيَ | لِتَأْنِيثِ الْفِتْنَة , وَلَوْ كَانَ بَلْ هُوَ فِتْنَة لَجَازَ . النَّحَّاس : التَّقْدِير بَلْ أَعْطَيْته فِتْنَة .|وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ|أَيْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ إِعْطَاءَهُمْ الْمَال اِخْتِبَار .
أَنَّثَ عَلَى تَأْنِيث الْكَلِمَة .|الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ|يَعْنِي الْكُفَّار قَبْلهمْ كَقَارُونَ وَغَيْره حَيْثُ قَالَ : | إِنَّمَا أُوتِيته عَلَى عِلْم عِنْدِي | .|فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ|| مَا | لِلْجَحْدِ أَيْ لَمْ تُغْنِ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادهمْ مِنْ عَذَاب اللَّه شَيْئًا . وَقِيلَ : أَيْ فَمَا الَّذِي أَغْنَى أَمْوَالهمْ ؟ فَـ | مَا | اِسْتِفْهَام .
أَيْ جَزَاء سَيِّئَات أَعْمَالهمْ . وَقَدْ يُسَمَّى جَزَاء السَّيِّئَة سَيِّئَة .|وَالَّذِينَ ظَلَمُوا|أَيْ أَشْرَكُوا|مِنْ هَؤُلَاءِ|الْأُمَّة|سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا|أَيْ بِالْجُوعِ وَالسَّيْف .|وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ|أَيْ فَائِتِينَ اللَّهَ وَلَا سَابِقِيهِ . وَقَدْ تَقَدَّمَ .
خَصَّ الْمُؤْمِن بِالذِّكْرِ ; لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَتَدَبَّر الْآيَات وَيَنْتَفِع بِهَا . وَيَعْلَم أَنَّ سَعَة الرِّزْق قَدْ يَكُون مَكْرًا وَاسْتِدْرَاجًا , وَتَقْتِيره رِفْعَةً وَإِعْظَامًا .
| قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسهمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَة اللَّه | وَإِنْ شِئْت حَذَفْت الْيَاء ; لِأَنَّ النِّدَاء مَوْضِع حَذْف . النَّحَّاس : وَمِنْ أَجَلِّ مَا رُوِيَ فِيهِ مَا رَوَاهُ مُحَمَّد بْن إِسْحَاق عَنْ نَافِع عَنْ اِبْن عُمَر عَنْ عُمَر قَالَ : لَمَّا اِجْتَمَعْنَا عَلَى الْهِجْرَة , اِتَّعَدْت أَنَا وَهِشَام بْن الْعَاصِ بْن وَائِل السَّهْمِيّ , وَعَيَّاش بْن أَبِي رَبِيعَة بْن عُتْبَة , فَقُلْنَا : الْمَوْعِدُ أَضَاةُ بَنِي غِفَار , وَقُلْنَا : مَنْ تَأَخَّرَ مِنَّا فَقَدْ حُبِسَ فَلْيَمْضِ صَاحِبه . فَأَصْبَحْت أَنَا وَعَيَّاش بْن عُتْبَة وَحُبِسَ عَنَّا هِشَام , وَإِذَا بِهِ قَدْ فُتِنَ فَافْتُتِنَ , فَكُنَّا نَقُول بِالْمَدِينَةِ : هَؤُلَاءِ قَدْ عَرَفُوا اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وَآمَنُوا بِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , ثُمَّ اُفْتُتِنُوا لِبَلَاءٍ لَحِقَهُمْ لَا نَرَى لَهُمْ تَوْبَة , وَكَانُوا هُمْ أَيْضًا يَقُولُونَ هَذَا فِي أَنْفُسهمْ , فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابه : | قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسهمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَة اللَّه | إِلَى قَوْله تَعَالَى : | أَلَيْسَ فِي جَهَنَّم مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ | قَالَ عُمَر : فَكَتَبْتهَا بِيَدِي ثُمَّ بَعَثْتهَا إِلَى هِشَام . قَالَ هِشَام : فَلَمَّا قَدِمَتْ عَلَيَّ خَرَجْت بِهَا إِلَى ذِي طُوًى فَقُلْت : اللَّهُمَّ فَهِّمْنِيهَا فَعَرَفْت أَنَّهَا نَزَلَتْ فِينَا , فَرَجَعْت فَجَلَسْت عَلَى بَعِيرِي فَلَحِقْت بِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَعَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : كَانَ قَوْم مِنْ الْمُشْرِكِينَ قَتَلُوا فَأَكْثَرُوا , وَزَنَوْا فَأَكْثَرُوا , فَقَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ بَعَثُوا إِلَيْهِ : إِنَّ مَا تَدْعُو إِلَيْهِ لَحَسَنٌ أَوَتُخْبِرُنَا أَنَّ لَنَا تَوْبَةً ؟ فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ هَذِهِ الْآيَة : | قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ | ذَكَرَهُ الْبُخَارِيّ بِمَعْنَاهُ . وَقَدْ مَضَى فِي آخِر [ الْفُرْقَان ] . وَعَنْ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا نَزَلَتْ فِي أَهْل مَكَّة قَالُوا : يَزْعُم مُحَمَّد أَنَّ مَنْ عَبَدَ الْأَوْثَان وَقَتَلَ النَّفْس الَّتِي حَرَّمَ اللَّه لَمْ يُغْفَرْ لَهُ , وَكَيْف نُهَاجِرُ وَنُسْلِمُ وَقَدْ عَبَدْنَا مَعَ اللَّه إِلَهًا آخَر وَقَتَلْنَا النَّفْس الَّتِي حَرَّمَ اللَّه فَأَنْزَلَ اللَّه هَذِهِ الْآيَة . وَقِيلَ : إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْم مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسهمْ فِي الْعِبَادَة , وَخَافُوا أَلَّا يُتَقَبَّلَ مِنْهُمْ لِذُنُوبٍ سَبَقَتْ لَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّة . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا وَعَطَاء نَزَلَتْ فِي وَحْشِيّ قَاتِل حَمْزَة ; لِأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّ اللَّه لَا يَقْبَلُ إِسْلَامه : وَرَوَى اِبْن جُرَيْج عَنْ عَطَاء عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : أَتَى وَحْشِيٌّ إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَقَالَ : يَا مُحَمَّد أَتَيْتُك مُسْتَجِيرًا فَأَجِرْنِي حَتَّى أَسْمَع كَلَام اللَّه . فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( قَدْ كُنْت أُحِبُّ أَنْ أَرَاك عَلَى غَيْر جِوَار فَأَمَّا إِذْ أَتَيْتنِي مُسْتَجِيرًا فَأَنْتَ فِي جِوَارِي حَتَّى تَسْمَع كَلَام اللَّه ) قَالَ : فَإِنِّي أَشْرَكْت بِاَللَّهِ وَقَتَلْت النَّفْس الَّتِي حَرَّمَ اللَّه وَزَنَيْت , هَلْ يَقْبَل اللَّه مِنَى تَوْبَة ؟ فَصَمَتَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى نَزَلَتْ : | وَاَلَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّه إِلَهًا آخَر وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْس الَّتِي حَرَّمَ اللَّه إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ | [ الْفُرْقَان : 68 ] إِلَى آخِر الْآيَة فَتَلَاهَا عَلَيْهِ ; فَقَالَ أَرَى شَرْطًا فَلَعَلِّي لَا أَعْمَل صَالِحًا , أَنَا فِي جِوَارك حَتَّى أَسْمَع كَلَام اللَّه . فَنَزَلَتْ : | إِنَّ اللَّه لَا يَغْفِر أَنْ يُشْرَك بِهِ وَيَغْفِر مَا دُون ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء | [ النِّسَاء : 48 ] فَدَعَا بِهِ فَتَلَا عَلَيْهِ ; قَالَ : فَلَعَلِّي مِمَّنْ لَا يَشَاء أَنَا فِي جِوَارك حَتَّى أَسْمَع كَلَام اللَّه . فَنَزَلَتْ : | يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسهمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَة اللَّه | فَقَالَ : نَعَمْ الْآن لَا أَرَى شَرْطًا . فَأَسْلَمَ . وَرَوَى حَمَّاد بْن سَلَمَة عَنْ ثَابِت عَنْ شَهْر بْن حَوْشَب عَنْ أَسْمَاء أَنَّهَا سَمِعْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأ : | قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسهمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَة اللَّه إِنَّ اللَّه يَغْفِر الذُّنُوب جَمِيعًا وَلَا يُبَالِي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُور الرَّحِيم | . وَفِي مُصْحَف اِبْن مَسْعُود | إِنَّ اللَّه يَغْفِر الذُّنُوب جَمِيعًا لِمَنْ يَشَاء | . قَالَ أَبُو جَعْفَر النَّحَّاس : وَهَاتَانِ الْقِرَاءَتَانِ عَلَى التَّفْسِير , أَيْ يَغْفِر اللَّه لِمَنْ يَشَاء . وَقَدْ عَرَفَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ مَنْ شَاءَ أَنْ يَغْفِر لَهُ , وَهُوَ التَّائِب أَوْ مَنْ عَمِلَ صَغِيرَة وَلَمْ تَكُنْ لَهُ كَبِيرَة , وَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ يُرِيد التَّائِب مَا بَعْده | وَأَنِيبُوا إِلَى رَبّكُمْ | فَالتَّائِب مَغْفُور لَهُ ذُنُوبه جَمِيعًا يَدُلّ عَلَى ذَلِكَ | وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ | [ طَه : 82 ] فَهَذَا لَا إِشْكَال فِيهِ . وَقَالَ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب : مَا فِي الْقُرْآن آيَة أَوْسَعُ مِنْ هَذِهِ الْآيَة : | قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسهمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَة اللَّه | وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي [ سُبْحَان ] . وَقَالَ عَبْد اللَّه بْن عُمَر : وَهَذِهِ أَرْجَى آيَة فِي الْقُرْآن فَرَدَّ عَلَيْهِمْ اِبْن عَبَّاس وَقَالَ أَرْجَى آيَة فِي الْقُرْآن قَوْلُه تَعَالَى : | وَإِنَّ رَبّك لِذُو مَغْفِرَة لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمهمْ | [ الرَّعْد : 6 ] وَقَدْ مَضَى فِي [ الرَّعْد ] . وَقُرِئَ | وَلَا تَقْنِطُوا | بِكَسْرِ النُّون وَفَتْحهَا . وَقَدْ مَضَى فِي [ الْحِجْر ] بَيَانه .
أَيْ اِرْجِعُوا إِلَيْهِ بِالطَّاعَةِ . لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ مَنْ تَابَ مِنْ الشِّرْك يُغْفَر لَهُ أَمَرَ بِالتَّوْبَةِ وَالرُّجُوع إِلَيْهِ , وَالْإِنَابَة الرُّجُوع إِلَى اللَّه بِالْإِخْلَاصِ .|وَأَسْلِمُوا لَهُ|أَيْ اِخْضَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا|مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ|فِي الدُّنْيَا|ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ|أَيْ لَا تُمْنَعُونَ مِنْ عَذَابه . وَرُوِيَ مِنْ حَدِيث جَابِر أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مِنْ السَّعَادَة أَنْ يُطِيل اللَّه عُمُرَ الْمَرْء فِي الطَّاعَة وَيَرْزُقَهُ الْإِنَابَة , وَإِنَّ مِنْ الشَّقَاوَة أَنْ يَعْمَل الْمَرْء وَيُعْجَب بِعَمَلِهِ ) .
| أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ | هُوَ الْقُرْآن وَكُلّه حَسَن , وَالْمَعْنَى مَا قَالَ الْحَسَن : اِلْتَزِمُوا طَاعَته , وَاجْتَنِبُوا مَعْصِيَته . وَقَالَ السُّدِّيّ : الْأَحْسَن مَا أَمَرَ اللَّه بِهِ فِي كِتَابه . وَقَالَ اِبْن زَيْد : يَعْنِي الْمُحْكَمَات , وَكِلُوا عِلْم الْمُتَشَابِه إِلَى عِلْمه . وَقَالَ : أَنْزَلَ اللَّه كُتُب التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَالزَّبُور , ثُمَّ أَنْزَلَ الْقُرْآن وَأَمَرَ بِاتِّبَاعِهِ فَهُوَ الْأَحْسَن وَهُوَ الْمُعْجِز . وَقِيلَ : هَذَا أَحْسَنُ لِأَنَّهُ نَاسِخ قَاضٍ عَلَى جَمِيع الْكُتُب وَجَمِيع الْكُتُب مَنْسُوخَة . وَقِيلَ : يَعْنِي الْعَفْو ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى خَيَّرَ نَبِيّه عَلَيْهِ السَّلَام بَيْن الْعَفْو وَالْقِصَاص . وَقِيلَ : مَا عَلَّمَ اللَّهُ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَام وَلَيْسَ بِقُرْآنٍ فَهُوَ حَسَن ; وَمَا أَوْحَى إِلَيْهِ مِنْ الْقُرْآن فَهُوَ الْأَحْسَن . وَقِيلَ : أَحْسَن مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ أَخْبَار الْأُمَم الْمَاضِيَة .
| أَنْ | فِي مَوْضِع نَصْب أَيْ كَرَاهَة | أَنْ تَقُول | وَعِنْد الْكُوفِيِّينَ لِئَلَّا تَقُول وَعِنْد الْبَصْرِيِّينَ حَذَر | أَنْ تَقُول | . وَقِيلَ : أَيْ مِنْ قَبْل | أَنْ تَقُول نَفْس | لِأَنَّهُ قَالَ قِيلَ هَذَا : | مِنْ قَبْل أَنْ يَأْتِيَكُمْ الْعَذَاب | الزَّمَخْشَرِيّ : فَإِنْ قُلْت لِمَ نُكِّرَتْ ؟ قُلْت : لِأَنَّ الْمُرَاد بِهَا بَعْض الْأَنْفُس وَهِيَ نَفْس الْكَافِر . وَيَجُوز أَنْ يُرِيد نَفْسًا مُتَمَيِّزَة مِنْ الْأَنْفُس , إِمَّا بِلَجَاجٍ فِي الْكُفْر شَدِيد , أَوْ بِعِقَابٍ عَظِيم . وَيَجُوز أَنْ يُرَاد التَّكْثِير كَمَا قَالَ الْأَعْشَى : <br>وَرُبَّ بَقِيعٍ لَوْ هَتَفْت بِجَوِّهِ .......... أَتَانِي كَرِيمٌ يَنْفُضُ الرَّأْسَ مُغْضَبَا <br>وَهُوَ يُرِيد أَفْوَاجًا مِنْ الْكِرَام يَنْصُرُونَهُ لَا كَرِيمًا وَاحِدًا , وَنَظِيره : رُبَّ بَلَدٍ قَطَعْت , وَرُبَّ بَطَلٍ قَارَعْت , وَلَا يُقْصَد إِلَّا التَّكْثِير .|يَا|وَالْأَصْل | يَا حَسْرَتِي | فَأُبْدِلَ مِنْ الْيَاء أَلِف ; لِأَنَّهَا أَخَفّ وَأَمْكَنُ فِي الِاسْتِغَاثَة بِمَدِّ الصَّوْت , وَرُبَّمَا أَلْحَقُوا بِهَا الْهَاء ; أَنْشَدَ الْفَرَّاء : <br>يَا مَرْحَبَاهُ بِحِمَار نَاجِيَهْ .......... إِذَا أَتَى قَرَّبْته لِلسَّانِيَهْ <br>وَرُبَّمَا أَلْحَقُوا بِهَا الْيَاء بَعْد الْأَلِف ; لِتَدُلَّ عَلَى الْإِضَافَة . وَكَذَلِكَ قَرَأَهَا أَبُو جَعْفَر : | يَا حَسْرَتَايَ | وَالْحَسْرَة النَّدَامَة|حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ|قَالَ الْحَسَن : فِي طَاعَة اللَّه . وَقَالَ الضَّحَّاك : أَيْ فِي ذِكْر اللَّه عَزَّ وَجَلَّ . قَالَ : يَعْنِي الْقُرْآن وَالْعَمَل بِهِ . وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة : | فِي جَنْب اللَّه | أَيْ فِي ثَوَاب اللَّه . وَقَالَ الْفَرَّاء : الْجَنْب الْقُرْب وَالْجِوَار ; يُقَال فُلَان يَعِيش فِي جَنْب فُلَان أَيْ فِي جِوَاره ; وَمِنْهُ | وَالصَّاحِب بِالْجَنْبِ | [ النِّسَاء : 36 ] أَيْ مَا فَرَّطْت فِي طَلَب جِوَاره وَقَرَّبَهُ وَهُوَ الْجَنَّة . وَقَالَ الزَّجَّاج : أَيْ عَلَى مَا فَرَّطْت فِي الطَّرِيق الَّذِي هُوَ طَرِيق اللَّه الَّذِي دَعَانِي إِلَيْهِ . وَالْعَرَب تُسَمِّي السَّبَب وَالطَّرِيق إِلَى الشَّيْء جَنْبًا ; تَقُول : تَجَرَّعْت فِي جَنْبك غُصَصًا ; أَيْ لِأَجْلِك وَسَبَبك وَلِأَجْلِ مَرْضَاتك . وَقِيلَ : | فِي جَنْب اللَّه | أَيْ فِي الْجَانِب الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى رِضَا اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وَثَوَابه , وَالْعَرَب تُسَمِّي الْجَانِب جَنْبًا , قَالَ الشَّاعِر : <br>قُسِمَ مَجْهُودًا لِذَاكَ الْقَلْبُ .......... النَّاسُ جَنْبٌ وَالْأَمِيرُ جَنْبُ <br>يَعْنِي النَّاس مِنْ جَانِب وَالْأَمِير مِنْ جَانِب . وَقَالَ اِبْن عَرَفَة : أَيْ تَرَكْت مِنْ أَمْر اللَّه ; يُقَال مَا فَعَلْت ذَلِكَ فِي جَنْب حَاجَتِي ; قَالَ كُثَيِّر : <br>أَلَا تَتَّقِينَ اللَّهَ فِي جَنْبِ عَاشِقٍ .......... لَهُ كَبِدٌ حَرَّى عَلَيْك تَقَطَّعُ <br>وَكَذَا قَالَ مُجَاهِد ; أَيْ ضَيَّعْت مِنْ أَمْر اللَّه . وَيُرْوَى عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( مَا جَلَسَ رَجُل مَجْلِسًا وَلَا مَشَى مَمْشًى وَلَا اِضْطَجَعَ مُضْطَجِعًا لَمْ يَذْكُر اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ إِلَّا كَانَ عَلَيْهِ تِرَةً يَوْم الْقِيَامَة ) أَيْ حَسْرَة ; خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ بِمَعْنَاهُ . وَقَالَ إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ : مِنْ الْحَسَرَات يَوْم الْقِيَامَة أَنْ يَرَى الرَّجُل مَاله الَّذِي آتَاهُ اللَّه فِي الدُّنْيَا يَوْم الْقِيَامَة فِي مِيزَان غَيْره , قَدْ وَرِثَهُ وَعَمِلَ فِيهِ بِالْحَقِّ , كَانَ لَهُ أَجْرُهُ وَعَلَى الْآخَر وِزْره , وَمِنْ الْحَسَرَات أَنْ يَرَى الرَّجُل عَبْده الَّذِي خَوَّلَهُ اللَّه إِيَّاهُ فِي الدُّنْيَا أَقْرَبَ مَنْزِلَة مِنْ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ , أَوْ يَرَى رَجُلًا يَعْرِفهُ أَعْمَى فِي الدُّنْيَا قَدْ أَبْصَرَ يَوْم الْقِيَامَة وَعَمِيَ هُوَ .|اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ|أَيْ وَمَا كُنْت إِلَّا مِنْ الْمُسْتَهْزِئِينَ بِالْقُرْآنِ وَبِالرَّسُولِ فِي الدُّنْيَا وَبِأَوْلِيَاءِ اللَّه تَعَالَى : قَالَ قَتَادَة : لَمْ يَكْفِهِ أَنْ ضَيَّعَ طَاعَة اللَّه حَتَّى سَخِرَ مِنْ أَهْلهَا وَمَحَلّ | إِنْ كُنْت | النَّصْب عَلَى الْحَال ; كَأَنَّهُ قَالَ : فَرَّطْت وَأَنَا سَاخِر ; أَيْ فَرَّطْت فِي حَال سُخْرِيَتِي . وَقِيلَ : وَمَا كُنْت إِلَّا فِي سُخْرِيَة وَلَعِب وَبَاطِل ; أَيْ مَا كَانَ سَعْيِي إِلَّا فِي عِبَادَة غَيْر اللَّه تَعَالَى .
هَذِهِ النَّفْس|لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي|أَيْ أَرْشَدَنِي إِلَى دِينه . وَهَذَا الْقَوْل لَوْ أَنَّ اللَّه هَدَانِي لَاهْتَدَيْت قَوْل صِدْق . وَهُوَ قَرِيب مِنْ اِحْتِجَاج الْمُشْرِكِينَ فِيمَا أَخْبَرَ الرَّبّ جَلَّ وَعَزَّ عَنْهُمْ فِي قَوْله : | سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّه مَا أَشْرَكْنَا | [ الْأَنْعَام : 148 ] فَهِيَ كَلِمَة حَقّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِل ; كَمَا قَالَ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ لَمَّا قَالَ قَائِل مِنْ الْخَوَارِج لَا حُكْم إِلَّا لِلَّهِ .|لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ|أَيْ الشِّرْك وَالْمَعَاصِي .
يَعْنِي أَنَّ هَذِهِ النَّفْس تَقُول حِين تَرَى الْعَذَاب|لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً|أَيْ تَتَمَنَّى الرَّجْعَة .|فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ|نَصْب عَلَى جَوَاب التَّمَنِّي , وَإِنْ شِئْت كَانَ مَعْطُوفًا عَلَى | كَرَّة | لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنْ أَكِرّ ; كَمَا قَالَ الشَّاعِر : <br>وَلُبْسُ عَبَاءَةٍ وَتَقَرَّ عَيْنِي .......... أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ لُبْسِ الشُّفُوفِ <br>وَأَنْشَدَ الْفَرَّاء : <br>فَمَا لَك مِنْهَا غَيْرُ ذِكْرَى وَخَشْيَةٍ .......... وَتَسْأَلَ عَنْ رُكْبَانِهَا أَيْنَ يَمَّمُوا <br>فَنُصِبَ وَتَسْأَلَ عَلَى مَوْضِع الذِّكْرَى ; لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَام فَمَا لَك مِنْهَا إِلَّا أَنْ تَذْكُر . وَمِنْهُ لَلُبْسُ عَبَاءَةٍ وَتَقَرَّ ; أَيْ لَأَنْ أَلْبَسَ عَبَاءَةً وَتَقَرَّ . وَقَالَ أَبُو صَالِح : كَانَ رَجُل عَالِم فِي بَنِي إِسْرَائِيل وَجَدَ رُقْعَة : إِنَّ الْعَبْد لَيَعْمَل الزَّمَان الطَّوِيل بِطَاعَةِ اللَّه فَيُخْتَم لَهُ عَمَلُهُ بِعَمَلِ أَهْل النَّار فَيَدْخُل النَّار , وَإِنَّ الرَّجُل لَيَعْمَلُ الزَّمَنَ الطَّوِيلَ بِمَعْصِيَةِ اللَّه ثُمَّ يُخْتَم لَهُ عَمَلُهُ بِعَمَلِ رَجُل مِنْ أَهْل الْجَنَّة فَيَدْخُل الْجَنَّة ; فَقَالَ : وَلِأَيِّ شَيْء أُتْعِبُ نَفْسِي فَتَرَكَ عَمَله وَأَخَذَ فِي الْفُسُوق وَالْمَعْصِيَة , وَقَالَ لَهُ إِبْلِيس : لَك عُمُر طَوِيل فَتَمَتَّعْ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ تَتُوب , فَأَخَذَ فِي الْفُسُوق وَأَنْفَقَ مَالَهُ فِي الْفُجُور , فَأَتَاهُ مَلَك الْمَوْت فِي أَلَذّ مَا كَانَ , فَقَالَ : يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْت فِي جَنْب اللَّه ; ذَهَبَ عُمُرِي فِي طَاعَة الشَّيْطَان , فَنَدِمَ حِين لَا يَنْفَعهُ النَّدَم ; فَأَنْزَلَ اللَّه خَبَره فِي الْقُرْآن . وَقَالَ قَتَادَة : هَؤُلَاءِ أَصْنَاف ; صِنْف مِنْهُمْ قَالَ : | يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْت فِي جَنْب اللَّه | . وَصِنْف مِنْهُمْ قَالَ : | لَوْ أَنَّ اللَّه هَدَانِي لَكُنْت مِنْ الْمُتَّقِينَ | . وَقَالَ آخَر : | لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُون مِنْ الْمُحْسِنِينَ | فَقَالَ اللَّه تَعَالَى رَدًّا لِكَلَامِهِمْ : | بَلَى قَدْ جَاءَتْك آيَاتِي |
قَالَ الزَّجَّاج : | بَلَى | جَوَاب النَّفْي وَلَيْسَ فِي الْكَلَام لَفْظ النَّفْي , وَلَكِنَّ مَعْنَى | لَوْ أَنَّ اللَّه هَدَانِي | مَا هَدَانِي , وَكَأَنَّ هَذَا الْقَائِل قَالَ مَا هُدِيت ; فَقِيلَ : بَلْ قَدْ بُيِّنَ لَك طَرِيق الْهُدَى فَكُنْت بِحَيْثُ لَوْ أَرَدْت أَنْ تُؤْمِن أَمْكَنَك أَنْ تُؤْمِن . | آيَاتِي | أَيْ الْقُرْآن . وَقِيلَ : عَنَى بِالْآيَاتِ الْمُعْجِزَات ; أَيْ وَضَحَ الدَّلِيل فَأَنْكَرْته وَكَذَّبْته .|وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ|أَيْ تَكَبَّرْت عَنْ الْإِيمَان | وَكُنْت مِنْ الْكَافِرِينَ | . وَقَالَ : | اِسْتَكْبَرْت وَكُنْت | وَهُوَ خِطَاب الذَّكَر ; لِأَنَّ النَّفْس تَقَع عَلَى الذَّكَر وَالْأُنْثَى . يُقَال : ثَلَاثَة أَنْفُس . وَقَالَ الْمُبَرِّد ; تَقُول الْعَرَب نَفْس وَاحِد أَيْ إِنْسَان وَاحِد . وَرَوَى الرَّبِيع بْن أَنَس عَنْ أُمّ سَلَمَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ : | قَدْ جَاءَتْك آيَاتِي فَكَذَّبْت بِهَا وَاسْتَكْبَرْت وَكُنْت مِنْ الْكَافِرِينَ | . وَقَرَأَ الْأَعْمَش : | بَلَى قَدْ جَاءَتْهُ آيَاتِي | وَهَذَا يَدُلّ عَلَى التَّذْكِير . وَالرَّبِيع بْن أَنَس لَمْ يَلْحَق أُمّ سَلَمَة إِلَّا أَنَّ الْقِرَاءَة جَائِزَة ; لِأَنَّ النَّفْس تَقَع لِلْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّث . وَقَدْ أَنْكَرَ هَذِهِ الْقِرَاءَة بَعْضهمْ وَقَالَ : يَجِب إِذَا كُسِرَ التَّاء أَنْ تَقُول وَكُنْتِ مِنْ الْكَوَافِرِ أَوْ مِنْ الْكَافِرَات . قَالَ النَّحَّاس : وَهَذَا لَا يَلْزَم ; أَلَا تَرَى أَنَّ قَبْله | أَنْ تَقُول نَفْس | ثُمَّ قَالَ : | وَإِنْ كُنْت لَمِنْ السَّاخِرِينَ | وَلَمْ يَقُلْ مِنْ السَّوَاخِرِ وَلَا مِنْ السَّاخِرَات . وَالتَّقْدِير فِي الْعَرَبِيَّة عَلَى كَسْر التَّاء | وَاسْتَكْبَرْت وَكُنْت | مِنْ الْجَمْع السَّاخِرِينَ أَوْ مِنْ النَّاس السَّاخِرِينَ أَوْ مِنْ الْقَوْم السَّاخِرِينَ .
أَيْ مِمَّا حَاطَ بِهِمْ مِنْ غَضَب اللَّه وَنِقْمَتِهِ . وَقَالَ الْأَخْفَش : | تَرَى | غَيْر عَامِل فِي قَوْله : | وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ | إِنَّمَا هُوَ اِبْتِدَاء وَخَبَر . الزَّمَخْشَرِيّ : جُمْلَة فِي مَوْضِع الْحَال إِنْ كَانَ | تَرَى | مِنْ رُؤْيَة الْبَصَر , وَمَفْعُول ثَانٍ إِنْ كَانَ مِنْ رُؤْيَة الْقَلْب .|أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ|بَيَّنَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْنَى الْكِبْر فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام : ( سَفَهُ الْحَقّ وَغَمْطُ النَّاسِ ) أَيْ اِحْتِقَارهمْ . وَقَدْ مَضَى فِي [ الْبَقَرَة ] وَغَيْرهَا . وَفِي حَدِيث عَبْد اللَّه بْن عَمْرو عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يُحْشَر الْمُتَكَبِّرُونَ يَوْم الْقِيَامَة كَالذَّرِّ يَلْحَقهُمْ الصَّغَارُ حَتَّى يُؤْتَى بِهِمْ إِلَى سِجْن جَهَنَّم ) .
وَقُرِئَ : | وَيُنْجَى | أَيْ مِنْ الشِّرْك وَالْمَعَاصِي . | بِمَفَازَتِهِمْ | عَلَى التَّوْحِيد قِرَاءَة الْعَامَّة لِأَنَّهَا مَصْدَر . وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ : | بِمَفَازَاتِهِمْ | وَهُوَ جَائِز كَمَا تَقُول بِسَعَادَاتِهِمْ . وَعَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَفْسِير هَذِهِ الْآيَة مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة , قَالَ : ( يَحْشُر اللَّه مَعَ كُلّ اِمْرِئٍ عَمَلَهُ فَيَكُون عَمَل الْمُؤْمِن مَعَهُ فِي أَحْسَن صُورَة وَأَطْيَب رِيح فَكُلَّمَا كَانَ رُعْب أَوْ خَوْف قَالَ لَهُ لَا تُرَعْ فَمَا أَنْتَ بِالْمُرَادِ بِهِ وَلَا أَنْتَ بِالْمَعْنِيِّ بِهِ فَإِذَا كَثُرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ قَالَ فَمَا أَحْسَنَك فَمَنْ أَنْتَ فَيَقُول أَمَا تَعْرِفُنِي أَنَا عَمَلُك الصَّالِح حَمَلْتنِي عَلَى ثِقَلِي فَوَاَللَّهِ لَأَحْمِلَنَّكَ وَلَأَدْفَعَنَّ عَنْك فَهِيَ الَّتِي قَالَ اللَّه : | وَيُنَجِّي اللَّه الَّذِينَ اِتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسّهُمْ السُّوء وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ | .
أَيْ حَافِظ وَقَائِم بِهِ . وَقَدْ تَقَدَّمَ .
وَاحِدُهَا مِقْلِيد . وَقِيلَ : مِقْلَاد وَأَكْثَر مَا يُسْتَعْمَل فِيهِ إِقْلِيد . وَالْمَقَالِيد الْمَفَاتِيح عَنْ اِبْن عَبَّاس وَغَيْره . وَقَالَ السُّدِّيّ : خَزَائِن السَّمَاوَات وَالْأَرْض . وَقَالَ غَيْره : خَزَائِن السَّمَاوَات الْمَطَر , وَخَزَائِن الْأَرْض النَّبَات . وَفِيهِ لُغَة أُخْرَى أَقَالِيد وَعَلَيْهَا يَكُون وَاحِدهَا إِقْلِيد . قَالَ الْجَوْهَرِيّ : وَالْإِقْلِيد الْمِفْتَاح , وَالْمِقْلَد مِفْتَاح كَالْمِنْجَلِ رُبَّمَا يُقَلَّد بِهِ الْكَلَأ كَمَا يُقَلَّد الْقَتّ إِذَا جُعِلَ حِبَالًا ; أَيْ يُفْتَل وَالْجَمْع الْمَقَالِيد . وَأَقْلَدَ الْبَحْرُ عَلَى خَلْق كَثِير أَيْ غَرَّقَهُمْ كَأَنَّهُ أَغْلَقَ عَلَيْهِمْ . وَخَرَّجَ الْبَيْهَقِيّ عَنْ اِبْن عُمَر أَنَّ عُثْمَان بْن عَفَّان رَضِيَ اللَّه عَنْهُ سَأَلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ تَفْسِير قَوْله تَعَالَى : | لَهُ مَقَالِيد السَّمَاوَات وَالْأَرْض | فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَا سَأَلَنِي عَنْهَا أَحَد لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَاَللَّه أَكْبَر وَسُبْحَان اللَّه وَبِحَمْدِهِ أَسْتَغْفِرُ اللَّه وَلَا حَوْل وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيّ الْعَظِيم هُوَ الْأَوَّل وَالْآخِر وَالظَّاهِر وَالْبَاطِن يُحْيِي وَيُمِيت بِيَدِهِ الْخَيْر وَهُوَ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِير ) ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيّ فِي تَفْسِيره , وَزَادَ مَنْ قَالَهَا إِذَا أَصْبَحَ أَوْ أَمْسَى عَشْر مَرَّات أَعْطَاهُ اللَّه سِتّ خِصَال : أَوَّلُهَا يُحْرَس مِنْ إِبْلِيس , وَالثَّانِيَة يَحْضُرهُ اِثْنَا عَشَرَ أَلْف مَلَك , وَالثَّالِثَة يُعْطَى قِنْطَارًا مِنْ الْأَجْر , وَالرَّابِعَة تُرْفَع لَهُ دَرَجَة , وَالْخَامِسَة يُزَوِّجُهُ اللَّه مِنْ الْحُور الْعِين , وَالسَّادِسَة يَكُون لَهُ مِنْ الْأَجْر كَمَنْ قَرَأَ الْقُرْآن وَالتَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَالزَّبُور , وَلَهُ أَيْضًا مِنْ الْأَجْر كَمَنْ حَجَّ وَاعْتَمَرَ فَقُبِلَتْ حَجَّتُهُ وَعُمْرَتُهُ , فَإِنْ مَاتَ مِنْ لَيْلَتِهِ مَاتَ شَهِيدًا . وَرَوَى الْحَارِث عَنْ عَلِيّ قَالَ : سَأَلْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ تَفْسِير الْمَقَالِيد فَقَالَ : ( يَا عَلِيّ لَقَدْ سَأَلْت عَنْ عَظِيم الْمَقَالِيد هُوَ أَنْ تَقُول عَشْرًا إِذَا أَصْبَحْت وَعَشْرًا إِذَا أَمْسَيْت لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَاَللَّه أَكْبَر وَسُبْحَانَ اللَّه وَالْحَمْد لِلَّهِ وَأَسْتَغْفِرُ اللَّه وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاَللَّهِ الْأَوَّل وَالْآخِر وَالظَّاهِر وَالْبَاطِن لَهُ الْمُلْك وَلَهُ الْحَمْد بِيَدِهِ الْخَيْر وَهُوَ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِير مَنْ قَالَهَا عَشْرًا إِذَا أَصْبَحَ , وَعَشْرًا إِذَا أَمْسَى أَعْطَاهُ اللَّه خِصَالًا سِتًّا : أَوَّلهَا يَحْرُسهُ مِنْ الشَّيْطَان وَجُنُوده فَلَا يَكُون لَهُمْ عَلَيْهِ سُلْطَان , وَالثَّانِيَة يُعْطَى قِنْطَارًا فِي الْجَنَّة هُوَ أَثْقَل فِي مِيزَانه مِنْ جَبَل أُحُد , وَالثَّالِثَة تُرْفَع لَهُ دَرَجَة لَا يَنَالهَا إِلَّا الْأَبْرَار , وَالرَّابِعَة يُزَوِّجهُ اللَّه مِنْ الْحُور الْعِين , وَالْخَامِسَة يَشْهَدُهُ اِثْنَا عَشَرَ أَلْف مَلَك يَكْتُبُونَهَا لَهُ فِي رَقّ مَنْشُور وَيَشْهَدُونَ لَهُ بِهَا يَوْم الْقِيَامَة , وَالسَّادِسَة يَكُون لَهُ مِنْ الْأَجْر كَأَنَّمَا قَرَأَ التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَالزَّبُور وَالْفُرْقَان , وَكَمَنْ حَجَّ وَاعْتَمَرَ فَقَبِلَ اللَّه حَجَّتَهُ وَعُمْرَتَهُ , وَإِنْ مَاتَ مِنْ يَوْمه أَوْ لَيْلَته أَوَشَهْره طُبِعَ بِطَابَعِ الشُّهَدَاء . وَقِيلَ : الْمَقَالِيد الطَّاعَة يُقَال أَلْقَى إِلَى فُلَان بِالْمَقَالِيدِ أَيْ أَطَاعَهُ فِيمَا يَأْمُرهُ ; فَمَعْنَى الْآيَة لَهُ طَاعَة مَنْ فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض .|وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ|أَيْ بِالْقُرْآنِ وَالْحُجَج وَالدَّلَالَات .|أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ|اِبْتِدَاء وَخَبَر . وَ | هُمْ | زَائِدَة ; وَيَجُوز أَنْ تَكُون | هُمْ | اِبْتِدَاء ثَانٍ , | الْخَاسِرُونَ | خَبَره , وَالثَّانِي وَخَبَره خَبَر الْأَوَّل كَمَا تَقَدَّمَ . وَالْخَاسِر : الَّذِي نَقَصَ نَفْسَهُ حَظَّهَا مِنْ الْفَلَاح وَالْفَوْز . وَالْخُسْرَان : النُّقْصَان , كَانَ فِي مِيزَان أَوْ غَيْره ; قَالَ جَرِير : <br>إِنَّ سُلَيْطًا فِي الْخَسَارِ إِنَّهْ .......... أَوْلَادُ قَوْمٍ خُلِقُوا أَقِنَّهْ <br>يَعْنِي بِالْخَسَارِ مَا يَنْقُص مِنْ حُظُوظهمْ وَشَرَفهمْ . قَالَ الْجَوْهَرِيّ : وَخَسِرْت الشَّيْء ( بِالْفَتْحِ ) وَأَخْسَرْتُهُ نَقَصْته . وَالْخَسَار وَالْخَسَارَة وَالْخَيْسَرَى : الضَّلَال وَالْهَلَاك . فَقِيلَ لِلْهَالِكِ : خَاسِر ; لِأَنَّهُ خَسِرَ نَفْسه وَأَهْله يَوْم الْقِيَامَة وَمُنِعَ مَنْزِله مِنْ الْجَنَّة .
وَذَلِكَ حِين دَعَوْا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَة الْأَصْنَام وَقَالُوا هُوَ دِين آبَائِك . وَ | غَيْر | نَصْب بِ | أَعْبُد | عَلَى تَقْدِير أَعْبُد غَيْر اللَّه فِيمَا تَأْمُرُونَنِي . وَيَجُوز أَنْ يَنْتَصِبَ بِـ | تَأْمُرُونِّي | عَلَى حَذْف حَرْف الْجَرّ ; التَّقْدِير : أَتَأْمُرُونَنِي بِغَيْرِ اللَّه أَنْ أَعْبُدَهُ , لِأَنَّ أَنْ مُقَدَّرَة وَأَنْ وَالْفِعْل مَصْدَر , وَهِيَ بَدَل مِنْ غَيْر ; التَّقْدِير : أَتَأْمُرُونَنِي بِعِبَادَةِ غَيْر اللَّه . وَقَرَأَ نَافِع : | تَأْمُرُونِي | بِنُونٍ وَاحِدَة مُخَفَّفَة وَفَتْح الْيَاء . وَقَرَأَ اِبْن عَامِر : | تَأْمُرُونَنِي | بِنُونَيْنِ مُخَفَّفَتَيْنِ عَلَى الْأَصْل . الْبَاقُونَ بِنُون وَاحِدَة مُشَدَّدَة عَلَى الْإِدْغَام , وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْد وَأَبُو حَاتِم ; لِأَنَّهَا وَقَعَتْ فِي مُصْحَف عُثْمَان بِنُونٍ وَاحِدَة . وَقَرَأَ نَافِع عَلَى حَذْف النُّون الثَّانِيَة , وَإِنَّمَا كَانَتْ الْمَحْذُوفَة الثَّانِيَة ; لِأَنَّ التَّكْرِير وَالتَّثْقِيل يَقَع بِهَا , وَأَيْضًا حَذْف الْأُولَى لَا يَجُوز ; لِأَنَّهَا دَلَالَة الرَّفْع . وَقَدْ مَضَى فِي [ الْأَنْعَام ] بَيَانه عِنْد قَوْله تَعَالَى : | أَتُحَاجُّونَنِي | . | أَعْبُد | أَيْ أَنْ أَعْبُد فَلَمَّا حَذَفَ | أَنْ | رَفَعَ ; قَالَهُ الْكِسَائِيّ . وَمِنْهُ قَوْل الشَّاعِر : <br>أَلَّا أَيُّهَذَا الزَّاجِرِي أَحْضُرَ الْوَغَى <br>وَالدَّلِيل عَلَى صِحَّة هَذَا الْوَجْه قِرَاءَة مَنْ قَرَأَ | أَعْبُدَ | بِالنَّصْبِ .
قِيلَ : إِنَّ فِي الْكَلَام تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا ; وَالتَّقْدِير : لَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْك لَئِنْ أَشْرَكْت وَأُوحِيَ إِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِك كَذَلِكَ . وَقِيلَ : هُوَ عَلَى بَابه ; قَالَ مُقَاتِل : أَيْ أُوحِيَ إِلَيْك وَإِلَى الْأَنْبِيَاء قَبْلك بِالتَّوْحِيدِ وَالتَّوْحِيد مَحْذُوف . ثُمَّ قَالَ : | لَئِنْ أَشْرَكْت | يَا مُحَمَّد : لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُك .|لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ|وَهُوَ خِطَاب لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّة . وَقِيلَ : الْخِطَاب لَهُ وَالْمُرَاد أُمَّتُهُ ; إِذْ قَدْ عَلِمَ اللَّه أَنَّهُ لَا يُشْرِك وَلَا يَقَع مِنْهُ إِشْرَاك . وَالْإِحْبَاط الْإِبْطَال وَالْفَسَاد ; قَالَ الْقُشَيْرِيّ : فَمَنْ اِرْتَدَّ لَمْ تَنْفَعْهُ طَاعَاته السَّابِقَة وَلَكِنَّ إِحْبَاطَ الرِّدَّةِ الْعَمَلَ مَشْرُوط بِالْوَفَاةِ عَلَى الْكُفْر ; وَلِهَذَا قَالَ : | مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينه فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِر فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالهمْ | [ الْبَقَرَة : 217 ] فَالْمُطْلَق هَاهُنَا مَحْمُول عَلَى الْمُقَيَّد ; وَلِهَذَا قُلْنَا : مَنْ حَجَّ ثُمَّ اِرْتَدَّ ثُمَّ عَادَ إِلَى الْإِسْلَام لَا يَجِب عَلَيْهِ إِعَادَة الْحَجّ . قُلْت : هَذَا مَذْهَب الشَّافِعِيّ . وَعِنْد مَالِك تَجِب عَلَيْهِ الْإِعَادَة وَقَدْ مَضَى فِي [ الْبَقَرَة ] بَيَان هَذَا مُسْتَوْفًى .
النَّحَّاس : فِي كِتَابِي عَنْ أَبِي إِسْحَاق لَفْظ اِسْم اللَّه عَزَّ وَجَلَّ مَنْصُوبٌ بِ | اُعْبُدْ | قَالَ : وَلَا اِخْتِلَاف فِي هَذَا بَيْن الْبَصْرِيِّينَ وَالْكُوفِيِّينَ . قَالَ النَّحَّاس : وَقَالَ الْفَرَّاء يَكُون مَنْصُوبًا بِإِضْمَارِ فِعْل . وَحَكَاهُ الْمَهْدَوِيّ عَنْ الْكِسَائِيّ . فَأَمَّا الْفَاء فَقَالَ الزَّجَّاج : إِنَّهَا لِلْمُجَازَاةِ . وَقَالَ الْأَخْفَش : هِيَ زَائِدَة . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : | فَاعْبُدْ | أَيْ فَوَحِّدْ . وَقَالَ غَيْره : | بَلْ اللَّه | فَأَطِعْ|وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ|لِنِعَمِهِ بِخِلَافِ الْمُشْرِكِينَ .
قَالَ الْمُبَرِّد : مَا عَظَّمُوهُ حَقَّ عَظَمَتِهِ مِنْ قَوْلِك فُلَان عَظِيم الْقَدْر . قَالَ النَّحَّاس : وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا وَمَا عَظَّمُوهُ حَقَّ عَظَمَته إِذَا عَبَدُوا مَعَهُ غَيْره , وَهُوَ خَالِق الْأَشْيَاء وَمَالِكهَا . وَفِي التِّرْمِذِيّ عَنْ عَبْد اللَّه قَالَ : جَاءَ يَهُودِيّ إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَقَالَ : يَا مُحَمَّد إِنَّ اللَّه يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ عَلَى إِصْبَع وَالْخَلَائِق عَلَى إِصْبَع ثُمَّ يَقُول أَنَا الْمَلِكُ . فَضَحِكَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ ثُمَّ قَالَ : | وَمَا قَدَرُوا اللَّه حَقّ قَدْره | . قَالَ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .|وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ|أَخْبَرَ عَنْ قُدْرَته وَعَظَمَته . وَفِي الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يَقْبِض اللَّه الْأَرْض يَوْم الْقِيَامَة وَيَطْوِي السَّمَاء بِيَمِينِهِ ثُمَّ يَقُول أَنَا الْمَلِك أَيْنَ مُلُوك الْأَرْض ) . وَفِي التِّرْمِذِيّ عَنْ عَائِشَة أَنَّهَا سَأَلَتْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْله : | وَالْأَرْض جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْم الْقِيَامَة وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ | قَالَتْ : قُلْت فَأَيْنَ النَّاس يَوْمَئِذٍ يَا رَسُول اللَّه ؟ قَالَ : ( عَلَى جِسْر جَهَنَّم ) فِي رِوَايَة ( عَلَى الصِّرَاط يَا عَائِشَة ) قَالَ : حَدِيث حَسَنٌ صَحِيحٌ . وَقَوْله : | وَالْأَرْض جَمِيعًا قَبْضَتُهُ | ( وَيَقْبِض اللَّه الْأَرْض ) عِبَارَة عَنْ قُدْرَتِهِ وَإِحَاطَتِهِ بِجَمِيعِ مَخْلُوقَاته ; يُقَال : مَا فُلَان إِلَّا فِي قَبْضَتِي , بِمَعْنَى مَا فُلَان إِلَّا فِي قُدْرَتِي , وَالنَّاس يَقُولُونَ الْأَشْيَاء فِي قَبْضَتِهِ يُرِيدُونَ فِي مِلْكِهِ وَقُدْرَته . وَقَدْ يَكُون مَعْنَى الْقَبْض وَالطَّيّ إِفْنَاء الشَّيْء وَإِذْهَابه فَقَوْله جَلَّ وَعَزَّ : | وَالْأَرْض جَمِيعًا قَبْضَته | يَحْتَمِل أَنْ يَكُون الْمُرَاد بِهِ وَالْأَرْض جَمِيعًا ذَاهِبَة فَانِيَة يَوْم الْقِيَامَة , وَالْمُرَاد بِالْأَرْضِ الْأَرَضُونَ السَّبْع ; يَشْهَد لِذَلِكَ شَاهِدَانِ : قَوْله : | وَالْأَرْض جَمِيعًا | وَلِأَنَّ الْمَوْضِع مَوْضِع تَفْخِيم وَهُوَ مُقْتَضٍ لِلْمُبَالَغَةِ . وَقَوْله : | وَالسَّمَاوَات مَطْوِيَّات بِيَمِينِهِ | لَيْسَ يُرِيد بِهِ طَيًّا بِعِلَاجٍ وَانْتِصَاب , وَإِنَّمَا الْمُرَاد بِذَلِكَ الْفَنَاء وَالذَّهَاب ; يُقَال : قَدْ اِنْطَوَى عَنَّا مَا كُنَّا فِيهِ وَجَاءَنَا غَيْره . وَانْطَوَى عَنَّا دَهْر بِمَعْنَى الْمُضِيّ وَالذَّهَاب . وَالْيَمِين فِي كَلَام الْعَرَب قَدْ تَكُون بِمَعْنَى الْقُدْرَة وَالْمِلْك ; وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : | أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانكُمْ | [ النِّسَاء : 3 ] يُرِيد بِهِ الْمِلْك ; وَقَالَ : | لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ | [ الْحَاقَّة : 45 ] أَيْ بِالْقُوَّةِ وَالْقُدْرَة أَيْ لَأَخَذْنَا قُوَّتَهُ وَقُدْرَتَهُ . قَالَ الْفَرَّاء وَالْمُبَرِّد : الْيَمِين الْقُوَّة وَالْقُدْرَة . وَأَنْشَدَا : <br>إِذَا مَا رَايَةٌ رُفِعَتْ لِمَجْدٍ .......... تَلْقَاهَا عَرَابَةُ بِالْيَمِينِ <br>وَقَالَ آخَر : <br>وَلَمَّا رَأَيْت الشَّمْسَ أَشْرَقَ نُورُهَا .......... تَنَاوَلْت مِنْهَا حَاجَتِي بِيَمِينِ <br><br>قَتَلْت شُنَيْفًا ثُمَّ فَارَانَ بَعْدَهُ .......... وَكَانَ عَلَى الْآيَاتِ غَيْرَ أَمِينِ <br>وَإِنَّمَا خُصَّ يَوْم الْقِيَامَة بِالذِّكْرِ وَإِنْ كَانَتْ قُدْرَته شَامِلَة لِكُلِّ شَيْء أَيْضًا ; لِأَنَّ الدَّعَاوَى تَنْقَطِع ذَلِكَ الْيَوْم , كَمَا قَالَ : | وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ | [ الِانْفِطَار : 19 ] وَقَالَ : | مَالِك يَوْم الدِّين | [ الْفَاتِحَة : 3 ] حَسَبَ مَا تَقَدَّمَ فِي [ الْفَاتِحَة ] وَلِذَلِكَ قَالَ فِي الْحَدِيث : ( ثُمَّ يَقُول أَنَا الْمَلِك أَيْنَ مُلُوك الْأَرْض ) وَقَدْ زِدْنَا هَذَا الْبَاب فِي التَّذْكِرَة بَيَانًا , وَتَكَلَّمْنَا عَلَى ذِكْر الشِّمَال فِي حَدِيث اِبْن عُمَر قَوْله : ( ثُمَّ يَطْوِي الْأَرْض بِشِمَالِهِ ) .|سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ|نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْ أَنْ يَكُون ذَلِكَ بِجَارِحَةٍ .
بَيَّنَ مَا يَكُون بَعْد قَبْض الْأَرْض وَطَيّ السَّمَاء وَهُوَ النَّفْخ فِي الصُّور , وَإِنَّمَا هُمَا نَفْخَتَانِ ; يَمُوت الْخَلْق فِي الْأُولَى مِنْهُمَا وَيَحْيَوْنَ فِي الثَّانِيَة , وَقَدْ مَضَى الْكَلَام فِي هَذَا فِي [ النَّمْل ] وَ [ الْأَنْعَام ] أَيْضًا . وَاَلَّذِي يَنْفُخ فِي الصُّور هُوَ إِسْرَافِيل عَلَيْهِ السَّلَام . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّهُ يَكُون مَعَهُ جِبْرِيل لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : | إِنَّ صَاحِبَيْ الصُّور بِأَيْدِيهِمَا - أَوْ فِي أَيْدِيهمَا - قَرْنَانِ يُلَاحِظَانِ النَّظَر مَتَى يُؤْمَرَانِ ) خَرَّجَهُ اِبْن مَاجَهْ فِي السُّنَن . وَفِي كِتَاب أَبِي دَاوُدَ عَنْ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ قَالَ : ذَكَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَاحِب الصُّور , وَقَالَ : ( عَنْ يَمِينه جَبْرَائِيل وَعَنْ يَسَاره مِيكَائِيل ) . وَاخْتُلِفَ فِي الْمُسْتَثْنَى مَنْ هُمْ ؟ فَقِيلَ : هُمْ الشُّهَدَاء مُتَقَلِّدِينَ أَسْيَافَهُمْ حَوْل الْعَرْش . رُوِيَ مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة فِيمَا ذَكَرَ الْقُشَيْرِيّ , وَمِنْ حَدِيث عَبْد اللَّه بْن عُمَر فِيمَا ذَكَرَ الثَّعْلَبِيّ . وَقِيلَ : جِبْرِيل وَمِيكَائِيل وَإِسْرَافِيل وَمَلَك الْمَوْت عَلَيْهِمْ السَّلَام . وَرُوِيَ مِنْ حَدِيث أَنَس أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلَا : | وَنُفِخَ فِي الصُّور فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَات وَمَنْ فِي الْأَرْض إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّه | فَقَالُوا : يَا نَبِيّ اللَّه مَنْ هُمْ الَّذِينَ اِسْتَثْنَى اللَّه تَعَالَى ؟ قَالَ : ( هُمْ جِبْرِيل وَمِيكَائِيل وَإِسْرَافِيل وَمَلَك الْمَوْت فَيَقُول اللَّه تَعَالَى لِمَلَكِ الْمَوْت يَا مَلَكَ الْمَوْت مَنْ بَقِيَ مِنْ خَلْقِي وَهُوَ أَعْلَم فَيَقُول يَا رَبّ بَقِيَ جِبْرِيل وَمِيكَائِيل وَإِسْرَافِيل وَعَبْدُك الضَّعِيف مَلَك الْمَوْت فَيَقُول اللَّه تَعَالَى خُذْ نَفْس إِسْرَافِيل وَمِيكَائِيل فَيَخِرَّانِ مَيِّتَيْنِ كَالطَّوْدَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ فَيَقُول مُتّ يَا مَلَك الْمَوْت فَيَمُوت فَيَقُول اللَّه تَعَالَى لِجِبْرِيل يَا جِبْرِيل مَنْ بَقِيَ فَيَقُول تَبَارَكْت وَتَعَالَيْت ذَا الْجَلَال وَالْإِكْرَام وَجْهُك الْبَاقِي الدَّائِم وَجِبْرِيل الْمَيِّت الْفَانِي فَيَقُول اللَّه تَعَالَى يَا جِبْرِيل لَا بُدّ مِنْ مَوْتك فَيَقَع سَاجِدًا يَخْفِق بِجَنَاحَيْهِ يَقُول سُبْحَانَك رَبِّي تَبَارَكْت وَتَعَالَيْت يَا ذَا الْجَلَال وَالْإِكْرَام ) قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ فَضْل خَلْقه عَلَى خَلْق مِيكَائِيل كَالطَّوْدِ الْعَظِيم عَلَى الظَّرِب مِنْ الظِّرَاب ) ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيّ . وَذَكَرَهُ النَّحَّاس أَيْضًا مِنْ حَدِيث مُحَمَّد بْن إِسْحَاق , عَنْ يَزِيد الرَّقَاشِيّ , عَنْ أَنَس بْن مَالِك , عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْله جَلَّ وَعَزَّ : | فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَات وَمَنْ فِي الْأَرْض إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّه | قَالَ : ( جِبْرِيل وَمِيكَائِيل وَحَمَلَة الْعَرْش وَمَلَك الْمَوْت وَإِسْرَافِيل ) وَفِي هَذَا الْحَدِيث : ( إِنَّ آخِرهمْ مَوْتًا جِبْرِيل عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ السَّلَام ) وَحَدِيث أَبِي هُرَيْرَة فِي الشُّهَدَاء أَصَحّ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي [ النَّمْل ] . وَقَالَ الضَّحَّاك : هُوَ رِضْوَان وَالْحُور وَمَالِك وَالزَّبَانِيَة . وَقِيلَ : عَقَارِب أَهْل النَّار وَحَيَّاتهَا . وَقَالَ الْحَسَن : هُوَ اللَّه الْوَاحِد الْقَهَّار وَمَا يَدَع أَحَدًا مِنْ أَهْل السَّمَاء وَالْأَرْض إِلَّا أَذَاقَهُ الْمَوْت . وَقَالَ قَتَادَة : اللَّه أَعْلَم بِثُنْيَاهُ . وَقِيلَ : الِاسْتِئْنَاء فِي قَوْله : | إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّه | يَرْجِع إِلَى مَنْ مَاتَ قَبْل النَّفْخَة الْأُولَى ; أَيْ فَيَمُوت مَنْ فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض إِلَّا مَنْ سَبَقَ مَوْته لِأَنَّهُمْ كَانُوا قَدْ مَاتُوا . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَابْن مَاجَهْ وَاللَّفْظ لَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : قَالَ رَجُل مِنْ الْيَهُود بِسُوقَيْ الْمَدِينَة , وَاَلَّذِي اِصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْبَشَر فَرَفَعَ رَجُل مِنْ الْأَنْصَار يَده فَلَطَمَهُ ; قَالَ : تَقُول هَذَا وَفِينَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَذَكَرْت ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : ( قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : | وَنُفِخَ فِي الصُّور فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَات وَمَنْ فِي الْأَرْض إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّه ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَام يَنْظُرُونَ | فَأَكُون أَوَّل مَنْ رَفَعَ رَأْسه فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى آخِذ بِقَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِم الْعَرْش فَلَا أَدْرِي أَرَفَعَ رَأْسه قَبْلِي أَوْ كَانَ مِمَّنْ اِسْتَثْنَى اللَّه وَمَنْ قَالَ أَنَا خَيْر مِنْ يُونُس بْن مَتَّى فَقَدْ كَذَبَ ) وَخَرَّجَهُ التِّرْمِذِيّ أَيْضًا , وَقَالَ فِيهِ : حَدِيث حَسَن صَحِيح . قَالَ الْقُشَيْرِيّ : وَمَنْ حَمَلَ الِاسْتِثْنَاء عَلَى مُوسَى وَالشُّهَدَاء فَهَؤُلَاءِ قَدْ مَاتُوا غَيْر أَنَّهُمْ أَحْيَاء عِنْد اللَّه . فَيَجُوز أَنْ تَكُون الصَّعْقَة بِزَوَالِ الْعَقْل زَوَال الْحَيَاةِ , وَيَجُوز أَنْ تَكُون بِالْمَوْتِ , وَلَا يَبْعُد أَنْ يَكُون الْمَوْت وَالْحَيَاة فَكُلّ ذَلِكَ مِمَّا يُجَوِّزُهُ الْعَقْل , وَالْأَمْر فِي وُقُوعه مَوْقُوف عَلَى خَبَر صِدْق . قُلْت : جَاءَ فِي بَعْض طُرُق أَبِي هُرَيْرَة أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ : ( لَا تُخَيِّرُونِي عَلَى مُوسَى فَإِنَّ النَّاس يُصْعَقُونَ فَأَكُون أَوَّل مَنْ يُفِيق فَإِذَا مُوسَى بَاطِش بِجَانِبِ الْعَرْش فَلَا أَدْرِي أَكَانَ فِيمَنْ صَعِقَ فَأَفَاقَ قَبْلِي أَمْ كَانَ مِمَّنْ اِسْتَثْنَى اللَّه ) خَرَّجَهُ مُسْلِم . وَنَحْوه عَنْ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ ; وَالْإِفَاقَة إِنَّمَا تَكُون عَنْ غَشْيَة وَزَوَال عَقْل لَا عَنْ مَوْت بِرَدِّ الْحَيَاة . وَاَللَّه أَعْلَم .|فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ|أَيْ فَإِذَا الْأَمْوَات مِنْ أَهْل الْأَرْض وَالسَّمَاء أَحْيَاء بُعِثُوا مِنْ قُبُورهمْ , وَأُعِيدَتْ إِلَيْهِمْ أَبْدَانهمْ وَأَرْوَاحهمْ , فَقَامُوا يَنْظُرُونَ مَاذَا يُؤْمَرُونَ . وَقِيلَ : قِيَام عَلَى أَرْجُلهمْ يَنْظُرُونَ إِلَى الْبَعْث الَّذِي وُعِدُوا بِهِ . وَقِيلَ : هَذَا النَّظَر بِمَعْنَى الِانْتِظَار ; أَيْ يَنْتَظِرُونَ مَا يُفْعَل بِهِمْ . وَأَجَازَ الْكِسَائِيّ قِيَامًا بِالنَّصْبِ ; كَمَا تَقُول : خَرَجْت فَإِذَا زَيْد جَالِسًا .
إِشْرَاقُهَا إِضَاءَتُهَا ; يُقَال : أَشْرَقَتْ الشَّمْس إِذَا أَضَاءَتْ وَشَرَقَتْ إِذَا طَلَعَتْ . وَمَعْنَى : | بِنُورِ رَبِّهَا | بِعَدْلِ رَبّهَا ; قَالَهُ الْحَسَن وَغَيْره . وَقَالَ الضَّحَّاك : بِحُكْمِ رَبّهَا ; وَالْمَعْنَى وَاحِد ; أَيْ أَنَارَتْ وَأَضَاءَتْ بِعَدْلِ اللَّه وَقَضَائِهِ بِالْحَقِّ بَيْن عِبَاده . وَالظُّلْم ظُلُمَات وَالْعَدْل نُور . وَقِيلَ : إِنَّ اللَّه يَخْلُق نُورًا يَوْم الْقِيَامَة يُلْبِسُهُ وَجْه الْأَرْض فَتُشْرِق الْأَرْض بِهِ . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : النُّور الْمَذْكُور هَاهُنَا لَيْسَ مِنْ نُور الشَّمْس وَالْقَمَر , بَلْ هُوَ نُور يَخْلُقهُ اللَّه فَيُضِيء بِهِ الْأَرْض . وَرُوِيَ أَنَّ الْأَرْض يَوْمئِذٍ مِنْ فِضَّة تُشْرِق بِنُورِ اللَّه تَعَالَى حِين يَأْتِي لِفَصْلِ الْقَضَاء . وَالْمَعْنَى أَنَّهَا أَشْرَقَتْ بِنُورٍ خَلَقَهُ اللَّه تَعَالَى , فَأَضَافَ النُّور إِلَيْهِ عَلَى حَدّ إِضَافَة الْمِلْك إِلَى الْمَالِك . وَقِيلَ : إِنَّهُ الْيَوْم الَّذِي يَقْضِي فِيهِ بَيْن خَلْقه ; لِأَنَّهُ نَهَار لَا لَيْل مَعَهُ . وَقَرَأَ اِبْن عَبَّاس وَعُبَيْد بْن عُمَيْر : | وَأَشْرَقَتْ الْأَرْض | عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِله وَهِيَ قِرَاءَة عَلَى التَّفْسِير . وَقَدْ ضَلَّ قَوْم هَاهُنَا فَتَوَهَّمُوا أَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ مِنْ جِنْس النُّور وَالضِّيَاء الْمَحْسُوس , وَهُوَ مُتَعَالٍ عَنْ مُشَابَهَةِ الْمَحْسُوسَات , بَلْ هُوَ مُنَوِّر السَّمَاوَات وَالْأَرْض , فَمِنْهُ كُلّ نُور خَلْقًا وَإِنْشَاء . وَقَالَ أَبُو جَعْفَر النَّحَّاس : وَقَوْله عَزَّ وَجَلَّ : | وَأَشْرَقَتْ الْأَرْض بِنُورِ رَبّهَا | يُبَيِّنُ هَذَا الْحَدِيث الْمَرْفُوع مِنْ طُرُق كَثِيرَة صِحَاح ( تَنْظُرُونَ إِلَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لَا تُضَامُونَ فِي رُؤْيَته ) وَهُوَ يُرْوَى عَلَى أَرْبَعَة أَوْجُه : لَا تُضَامُونَ وَلَا تُضَارُونَ وَلَا تُضَامُّونَ وَلَا تُضَارُّونَ ; فَمَعْنَى ( لَا تُضَامُونَ ) لَا يَلْحَقُكُمْ ضَيْم كَمَا يَلْحَقُكُمْ فِي الدُّنْيَا فِي النَّظَر إِلَى الْمُلُوك . وَ ( لَا تُضَارُونَ ) لَا يَلْحَقكُمْ ضَيْر . وَ ( لَا تُضَامُّونَ ) لَا يَنْضَمُّ بَعْضكُمْ إِلَى بَعْض لِيَسْأَلهُ أَنْ يُرِيَهُ . وَ ( لَا تُضَارُّونَ ) لَا يُخَالِف بَعْضكُمْ بَعْضًا . يُقَال : ضَارَّهُ مُضَارَّة وَضِرَارًا أَيْ خَالَفَهُ .|وَوُضِعَ الْكِتَابُ|قَالَ اِبْن عَبَّاس : يُرِيد اللَّوْح الْمَحْفُوظ . وَقَالَ قَتَادَة : يُرِيد الْكِتَاب وَالصُّحُف الَّتِي فِيهَا أَعْمَال بَنِي آدَم , فَآخِذ بِيَمِينِهِ وَآخِذ بِشِمَالِهِ .|وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ|أَيْ جِيءَ بِهِمْ فَسَأَلَهُمْ عَمَّا أَجَابَتْهُمْ بِهِ أُمَمُهُمْ .|وَالشُّهَدَاءِ|الَّذِينَ شَهِدُوا عَلَى الْأُمَم مِنْ أُمَّة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى : | وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاس | [ الْبَقَرَة : 143 ] . وَقِيلَ : الْمُرَاد بِالشُّهَدَاءِ الَّذِينَ اُسْتُشْهِدُوا فِي سَبِيل اللَّه , فَيَشْهَدُونَ يَوْم الْقِيَامَة لِمَنْ ذَبَّ عَنْ دِين اللَّه ; قَالَهُ السُّدِّيّ . قَالَ اِبْن زَيْد : هُمْ الْحَفَظَة الَّذِينَ يَشْهَدُونَ عَلَى النَّاس بِأَعْمَالِهِمْ . قَالَ اللَّه تَعَالَى : | وَجَاءَتْ كُلّ نَفْس مَعَهَا سَائِق وَشَهِيد | [ ق : 21 ] فَالسَّائِق يَسُوقهَا إِلَى الْحِسَاب وَالشَّهِيد يَشْهَد عَلَيْهَا , وَهُوَ الْمَلَك الْمُوَكَّل بِالْإِنْسَانِ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه فِي [ ق ] .|وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ|أَيْ بِالصِّدْقِ وَالْعَدْل .|وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ|قَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر : لَا يُنْقَص مِنْ حَسَنَاتِهِمْ وَلَا يُزَاد عَلَى سَيِّئَاتهمْ .
مِنْ خَيْر أَوْ شَرّ .|وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ|فِي الدُّنْيَا وَلَا حَاجَة بِهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى كِتَاب وَلَا إِلَى شَاهِد , وَمَعَ ذَلِكَ فَتَشْهَد الْكُتُب وَالشُّهُود إِلْزَامًا لِلْحُجَّةِ .
هَذَا بَيَان تَوْفِيَة كُلّ نَفْس عَمَلَهَا , فَيُسَاق الْكَافِر إِلَى النَّار وَالْمُؤْمِن إِلَى الْجَنَّة . وَالزُّمَر : الْجَمَاعَات وَاحِدَتهَا زُمْرَة كَظُلْمَةٍ وَغُرْفَةٍ . وَقَالَ الْأَخْفَش وَأَبُو عُبَيْدَة : | زُمَرًا | جَمَاعَات مُتَفَرِّقَة بَعْضهَا إِثْر بَعْض . قَالَ الشَّاعِر : <br>وَتَرَى النَّاسَ إِلَى مَنْزِلِهْ .......... زُمَرًا تَنْتَابُهُ بَعْدَ زُمَرْ <br>وَقَالَ آخَر : <br>حَتَّى اِحْزَأَلَّتْ .......... زُمَرٌ بَعْدَ زُمَرْ <br>وَقِيلَ : دَفْعًا وَزَجْرًا بِصَوْتٍ كَصَوْتِ الْمِزْمَار .|حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا|جَوَاب إِذَا , وَهِيَ سَبْعَة أَبْوَاب . وَقَدْ مَضَى فِي [ الْحِجْر ] .|وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا|وَاحِدهمْ خَازِن نَحْو سَدَنَة وَسَادِن ,|أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ|يَقُولُونَ لَهُمْ تَقْرِيعًا وَتَوْبِيخًا . | أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُل مِنْكُمْ ||يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ|أَيْ الْكُتُب الْمُنَزَّلَة عَلَى الْأَنْبِيَاء .|وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا|أَيْ يُخَوِّفُونَكُمْ لِقَاء يَوْمكُمْ هَذَا|قَالُوا بَلَى|أَيْ قَدْ جَاءَتْنَا , وَهَذَا اِعْتِرَاف مِنْهُمْ بِقِيَامِ الْحُجَّة عَلَيْهِمْ|وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ|وَهِيَ قَوْله تَعَالَى : | لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّم مِنْ الْجِنَّة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ | [ السَّجْدَة : 13 ] .
أَيْ يُقَال لَهُمْ اُدْخُلُوا جَهَنَّم . وَقَدْ مَضَى الْكَلَام فِي أَبْوَابهَا . قَالَ وَهْب : تَسْتَقْبِلهُمْ الزَّبَانِيَة بِمَقَامِعَ مِنْ نَار فَيَدْفَعُونَهُمْ بِمَقَامِعِهِمْ , فَإِنَّهُ لَيَقَع فِي الدَّفْعَة الْوَاحِدَة إِلَى النَّار بِعَدَدِ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ .|فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ|بَيَّنَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْنَى الْكِبْر فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام : ( سَفَهُ الْحَقِّ وَغَمْص النَّاس ) أَيْ اِحْتِقَارهمْ . وَقَدْ مَضَى فِي [ الْبَقَرَة ] وَغَيْرهَا . وَفِي حَدِيث عَبْد اللَّه بْن عَمْرو عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يُحْشَر الْمُتَكَبِّرُونَ يَوْم الْقِيَامَة كَالذَّرِّ يَلْحَقُهُمْ الصَّغَار حَتَّى يُؤْتَى بِهِمْ إِلَى سِجْن جَهَنَّم ) .
يَعْنِي مِنْ الشُّهَدَاء وَالزُّهَّاد وَالْعُلَمَاء وَالْقُرَّاء وَغَيْرهمْ , مِمَّنْ اِتَّقَى اللَّه تَعَالَى وَعَمِلَ بِطَاعَتِهِ . وَقَالَ فِي حَقّ الْفَرِيقَيْنِ : | وَسِيقَ | بِلَفْظٍ وَاحِد , فَسَوْقُ أَهْل النَّار طَرْدُهُمْ إِلَيْهَا بِالْخِزْيِ وَالْهَوَان , كَمَا يُفْعَل بِالْأُسَارَى وَالْخَارِجِينَ عَلَى السُّلْطَان إِذَا سِيقُوا إِلَى حَبْس أَوْ قَتْل , وَسَوْق أَهْل الْجِنَان سَوْق مَرَاكِبهمْ إِلَى دَار الْكَرَامَة وَالرِّضْوَان ; لِأَنَّهُ لَا يُذْهَب بِهِمْ إِلَّا رَاكِبِينَ كَمَا يُفْعَل بِمَنْ يُشَرَّف وَيُكَرَّم مِنْ الْوَافِدِينَ عَلَى بَعْض الْمُلُوك , فَشَتَّانَ مَا بَيْن السَّوْقَيْنِ .|حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا|قِيلَ : الْوَاو هُنَا لِلْعَطْفِ عَطْف عَلَى جُمْلَة وَالْجَوَاب مَحْذُوف . قَالَ الْمُبَرِّد : أَيْ سُعِدُوا وَفُتِحَتْ , وَحَذْف الْجَوَاب بَلِيغ فِي كَلَام الْعَرَب . وَأَنْشَدَ : <br>فَلَوْ أَنَّهَا نَفْسٌ تَمُوتُ جَمِيعَةً .......... وَلَكِنَّهَا نَفْسٌ تَسَاقَطُ أَنْفُسَا <br>فَحَذَفَ جَوَاب لَوْ وَالتَّقْدِير لَكَانَ أَرْوَحَ . وَقَالَ الزَّجَّاج : | حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا | دَخَلُوهَا وَهُوَ قَرِيب مِنْ الْأَوَّل . وَقِيلَ : الْوَاو زَائِدَة . قَالَ الْكُوفِيُّونَ وَهُوَ خَطَأ عِنْد الْبَصْرِيِّينَ . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ زِيَادَة الْوَاو دَلِيل عَلَى أَنَّ الْأَبْوَاب فُتِحَتْ لَهُمْ قَبْل أَنْ يَأْتُوا لِكَرَامَتِهِمْ عَلَى اللَّه تَعَالَى , وَالتَّقْدِير حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَأَبْوَابهَا مُفَتَّحَةٌ , بِدَلِيلِ قَوْله : | جَنَّات عَدْن مُفَتَّحَةً لَهُمْ الْأَبْوَابُ | [ ص : 50 ] وَحَذَفَ الْوَاو فِي قِصَّة أَهْل النَّار ; لِأَنَّهُمْ وُقِفُوا عَلَى النَّار وَفُتِحَتْ بَعْد وُقُوفهمْ إِذْلَالًا وَتَرْوِيعًا لَهُمْ . ذَكَرَهُ الْمَهْدَوِيّ وَحَكَى مَعْنَاهُ النَّحَّاس قَبْله . قَالَ النَّحَّاس : فَأَمَّا الْحِكْمَة فِي إِثْبَات الْوَاو فِي الثَّانِي وَحَذْفهَا مِنْ الْأَوَّل , فَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ بَعْض أَهْل الْعِلْم بِقَوْلٍ لَا أَعْلَم أَنَّهُ سَبَقَهُ إِلَيْهِ أَحَد , وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فِي أَهْل النَّار : | حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابهَا | دَلَّ بِهَذَا عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ مُغْلَقَة وَلَمَّا قَالَ فِي أَهْل الْجَنَّة : | حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابهَا | دَلَّ بِهَذَا عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ مُفَتَّحَة قَبْل أَنْ يَجِيئُوهَا ; وَاَللَّه أَعْلَم . وَقِيلَ : إِنَّهَا وَاو الثَّمَانِيَة . وَذَلِكَ مِنْ عَادَة قُرَيْش أَنَّهُمْ يَعُدُّونَ مِنْ الْوَاحِد فَيَقُولُونَ خَمْسَة سِتَّة سَبْعَة وَثَمَانِيَّة , فَإِذَا بَلَغُوا السَّبْعَة قَالُوا وَثَمَانِيَّة . قَالَ أَبُو بَكْر بْن عَيَّاش . قَالَ اللَّه تَعَالَى : | سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْع لَيَالٍ وَثَمَانِيَّة أَيَّام | [ الْحَاقَّة : 7 ] وَقَالَ : | التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ | [ التَّوْبَة : 112 ] ثُمَّ قَالَ فِي الثَّامِن : | وَالنَّاهُونَ عَنْ الْمُنْكَر | [ التَّوْبَة : 112 ] وَقَالَ : | وَيَقُولُونَ سَبْعَة وَثَامِنُهُمْ | [ الْكَهْف : 22 ] وَقَالَ | ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا | [ التَّحْرِيم : 5 ] وَقَدْ مَضَى الْقَوْل فِي هَذَا فِي [ بَرَاءَة ] مُسْتَوْفًى وَفِي [ الْكَهْف ] أَيْضًا . قُلْت : وَقَدْ اِسْتَدَلَّ بِهَذَا مَنْ قَالَ إِنَّ أَبْوَاب الْجَنَّة ثَمَانِيَة ; وَذَكَرُوا حَدِيث عُمَر بْن الْخَطَّاب , قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَد يَتَوَضَّأ فَيُبْلِغ - أَوْ فَيُسْبِغ الْوُضُوء - ثُمَّ قَالَ أَشْهَد أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَاب الْجَنَّة الثَّمَانِيَة يَدْخُل مِنْ أَيِّهَا شَاءَ ) خَرَّجَهُ مُسْلِم وَغَيْره . وَقَدْ خَرَّجَ التِّرْمِذِيّ حَدِيث عُمَر هَذَا وَقَالَ فِيهِ : ( فُتِحَ لَهُ مِنْ أَبْوَاب الْجَنَّة ثَمَانِيَة أَبْوَاب يَوْم الْقِيَامَة ) بِزِيَادَةِ مِنْ وَهُوَ يَدُلّ عَلَى أَنَّ أَبْوَاب الْجَنَّة أَكْثَر مِنْ ثَمَانِيَة . وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي كِتَاب التَّذْكِرَة وَانْتَهَى عَدَدهَا إِلَى ثَلَاثَة عَشَر بَابًا , وَذَكَرْنَا هُنَاكَ عِظَمَ أَبْوَابهَا وَسَعَتَهَا حَسَبَ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيث مِنْ ذَلِكَ , فَمَنْ أَرَادَهُ وَقَفَ عَلَيْهِ هُنَاكَ .|وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ|قِيلَ : الْوَاو مُلْغَاة تَقْدِيره حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحْت أَبْوَابهَا | قَالَ لَهُمْ خَزَنَتهَا سَلَام عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ | أَيْ فِي الدُّنْيَا . قَالَ مُجَاهِد : بِطَاعَةِ اللَّه . وَقِيلَ : بِالْعَمَلِ الصَّالِح . حَكَاهُ النَّقَّاش وَالْمَعْنَى وَاحِد . وَقَالَ مُقَاتِل : إِذَا قَطَعُوا جِسْر جَهَنَّم حُبِسُوا عَلَى قَنْطَرَة بَيْن الْجَنَّة وَالنَّار , فَيُقَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْض مَظَالِم كَانَتْ بَيْنهمْ فِي الدُّنْيَا , حَتَّى إِذَا هُذِّبُوا وَطُيِّبُوا قَالَ لَهُمْ رِضْوَان وَأَصْحَابه : | سَلَامٌ عَلَيْكُمْ | بِمَعْنَى التَّحِيَّة | طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ | . قُلْت : خَرَّجَ الْبُخَارِيّ حَدِيث الْقَنْطَرَة هَذَا فِي جَامِعه مِنْ حَدِيث أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يَخْلُص الْمُؤْمِنُونَ مِنْ النَّار فَيُحْبَسُونَ عَلَى قَنْطَرَة بَيْن الْجَنَّة وَالنَّار فَيُقَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْض مَظَالِم كَانَتْ بَيْنهمْ فِي الدُّنْيَا حَتَّى إِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُول الْجَنَّة فَوَاَلَّذِي نَفْس مُحَمَّد بِيَدِهِ لَأَحَدُهُمْ أَهْدَى بِمَنْزِلِهِ فِي الْجَنَّة مِنْهُ بِمَنْزِلِهِ كَانَ فِي الدُّنْيَا ) وَحَكَى النَّقَّاش : إِنَّ عَلَى بَاب الْجَنَّة شَجَرَةً يَنْبُعُ مِنْ سَاقِهَا عَيْنَانِ يَشْرَب الْمُؤْمِنُونَ مِنْ إِحْدَاهُمَا فَتُطَهِّرُ أَجْوَافهمْ وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : | وَسَقَاهُمْ رَبّهمْ شَرَابًا طَهُورًا | [ الْإِنْسَان : 21 ] ثُمَّ يَغْتَسِلُونَ مِنْ الْأُخْرَى فَتَطِيب أَبْشَارُهُمْ فَعِنْدهَا يَقُول لَهُمْ خَزَنَتُهَا : | سَلَام عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ | وَهَذَا يُرْوَى مَعْنَاهُ عَنْ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ .
أَيْ إِذَا دَخَلُوا الْجَنَّة قَالُوا هَذَا .|وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ|أَيْ أَرْض الْجَنَّة قِيلَ : إِنَّهُمْ وَرِثُوا الْأَرْض الَّتِي كَانَتْ تَكُون لِأَهْلِ النَّار لَوْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ ; قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَة وَأَبُو صَالِح وَقَتَادَة وَالسُّدِّيّ وَأَكْثَر الْمُفَسِّرِينَ وَقِيلَ : إِنَّهَا أَرْض الدُّنْيَا عَلَى التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير .|فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ|قِيلَ : هُوَ مِنْ قَوْلهمْ أَيْ نِعْمَ الثَّوَاب هَذَا . وَقِيلَ : هُوَ مِنْ قَوْل اللَّه تَعَالَى ; أَيْ نِعْمَ ثَوَاب الْمُحْسِنِينَ هَذَا الَّذِي أَعْطَيْتهمْ .
يَا مُحَمَّد|حَافِّينَ|أَيْ مُحْدِقِينَ وَالْحَافُّونَ أُخِذَ مِنْ حَافَّات الشَّيْء وَنَوَاحِيه . قَالَ الْأَخْفَش : وَاحِدهمْ حَافّ . وَقَالَ الْفَرَّاء : لَا وَاحِد لَهُ إِذْ لَا يَقَع لَهُمْ الِاسْم إِلَّا مُجْتَمِعِينَ .|مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ|فِي ذَلِكَ الْيَوْم وَدَخَلَتْ | مِنْ | عَلَى | حَوْل | لِأَنَّهُ ظَرْف وَالْفِعْل يَتَعَدَّى إِلَى الظَّرْف بِحَرْفٍ وَبِغَيْرِ حَرْف . وَقَالَ الْأَخْفَش : | مِنْ | زَائِدَة أَيْ حَافِّينَ حَوْلَ الْعَرْش . وَهُوَ كَقَوْلِك : مَا جَاءَنِي مِنْ أَحَد , فَمِنْ تَوْكِيد . الثَّعْلَبِيّ : وَالْعَرَب تُدْخِل الْبَاء أَحْيَانًا فِي التَّسْبِيح وَتَحْذِفهَا أَحْيَانًا , فَيَقُولُونَ : سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبّك , وَسَبِّحْ حَمْدًا لِلَّهِ ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : | سَبِّحْ اِسْم رَبّك الْأَعْلَى | [ الْأَعْلَى : 1 ] وَقَالَ : | فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّك الْعَظِيم | [ الْوَاقِعَة : 74 ] .|يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ|مُتَلَذِّذِينَ بِذَلِكَ لَا مُتَعَبِّدِينَ بِهِ ; أَيْ يُصَلُّونَ حَوْل الْعَرْش شُكْرًا لِرَبِّهِمْ .|وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ|بَيْن أَهْل الْجَنَّة وَالنَّار . وَقِيلَ : قُضِيَ بَيْن النَّبِيِّينَ الَّذِينَ جِيءَ بِهِمْ مَعَ الشُّهَدَاء وَبَيْن أُمَمهمْ بِالْحَقِّ وَالْعَدْل .|وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ|أَيْ يَقُول الْمُؤْمِنُونَ الْحَمْد لِلَّهِ عَلَى مَا أَثَابَنَا مِنْ نِعَمه وَإِحْسَانه وَنَصَرَنَا عَلَى مَنْ ظَلَمَنَا . وَقَالَ قَتَادَة فِي هَذِهِ الْآيَة : اِفْتَتَحَ اللَّه أَوَّل الْخَلْق بِالْحَمْد لِلَّهِ , فَقَالَ : | الْحَمْد لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ | [ الْأَنْعَام : 1 ] وَخَتَمَ بِالْحَمْدِ فَقَالَ : | وَقَضَى بَيْنهمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ | فَلَزِمَ الِاقْتِدَاء بِهِ , وَالْأَخْذ فِي اِبْتِدَاء كُلّ أَمْر بِحَمْدِهِ وَخَاتِمَته بِحَمْدِهِ . وَقِيلَ : إِنَّ قَوْل | الْحَمْد لِلَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ | مِنْ قَوْل الْمَلَائِكَة فَعَلَى هَذَا يَكُون حَمْدُهُمْ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى عَدْله وَقَضَائِهِ . وَرُوِيَ مِنْ حَدِيث اِبْن عُمَر أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ عَلَى الْمِنْبَر آخِرَ سُورَةِ | الزُّمَر | فَتَحَرَّكَ الْمِنْبَرُ مَرَّتَيْنِ
تَفْسِير سُورَة غَافِر , وَهِيَ سُورَة الْمُؤْمِن , وَتُسَمَّى سُورَة الطَّوْل , وَهِيَ مَكِّيَّة فِي قَوْل الْحَسَن وَعَطَاء وَعِكْرِمَة وَجَابِر . وَعَنْ الْحَسَن إِلَّا قَوْله : | وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبّك | [ غَافِر : 55 ] لِأَنَّ الصَّلَوَات نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَقَتَادَة : إِلَّا آيَتَيْنِ مِنْهَا نَزَلَتَا بِالْمَدِينَةِ وَهُمَا | إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَات اللَّه | [ غَافِر : 56 ] وَاَلَّتِي بَعْدهَا . وَهِيَ خَمْس وَثَمَانُونَ آيَة . وَقِيلَ ثِنْتَانِ وَثَمَانُونَ آيَة . وَفِي مُسْنَد الدَّارِمِيّ قَالَ : حَدَّثَنَا جَعْفَر بْن عَوْن عَنْ مِسْعَر عَنْ سَعْد بْن إِبْرَاهِيم قَالَ : كُنَّ الْحَوَامِيم يُسَمَّيْنَ الْعَرَائِس . وَرُوِيَ مِنْ حَدِيث أَنَس أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : | الْحَوَامِيم دِيبَاج الْقُرْآن | وَرُوِيَ عَنْ اِبْن مَسْعُود مِثْله . وَقَالَ الْجَوْهَرِيّ وَأَبُو عُبَيْدَة : وَآلُ حم سُوَر فِي الْقُرْآن . قَالَ اِبْن مَسْعُود : آلُ حم دِيبَاج الْقُرْآن . قَالَ الْفَرَّاء : إِنَّمَا هُوَ كَقَوْلِك آلُ فُلَان وَآلُ فُلَان كَأَنَّهُ نَسَبَ السُّورَة كُلّهَا إِلَى حم ; قَالَ الْكُمَيْت : <br>وَجَدْنَا لَكُمْ فِي آلِ حَامِيمَ آيَةً .......... تَأَوَّلَهَا مِنَّا تَقِيٌّ وَمُعْرِبُ <br>قَالَ أَبُو عُبَيْدَة : هَكَذَا رَوَاهَا الْأُمَوِيّ بِالزَّايِ , وَكَانَ أَبُو عَمْرو يَرْوِيهَا بِالرَّاءِ . فَأَمَّا قَوْل الْعَامَّة الْحَوَامِيم فَلَيْسَ مِنْ كَلَام الْعَرَب . وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة : الْحَوَامِيم سُوَر فِي الْقُرْآن عَلَى غَيْر قِيَاس ; وَأَنْشَدَ قَائِلًا : <br>وَبِالْحَوَامِيمِ الَّتِي قَدْ سُبِّغَتْ <br>قَالَ : وَالْأَوْلَى أَنْ تُجْمَع بِذَوَاتِ حم . وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( لِكُلِّ شَيْء ثَمَرَة وَإِنَّ ثَمَرَة الْقُرْآن ذَوَات حم هُنَّ رَوْضَات حِسَان مُخَصَّبَات مُتَجَاوِرَات فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَرْتَعَ فِي رِيَاض الْجَنَّة فَلْيَقْرَأْ الْحَوَامِيم ) . وَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَثَل الْحَوَامِيم فِي الْقُرْآن كَمَثَلِ الْحَبِرَات فِي الثِّيَاب ) ذَكَرَهُمَا الثَّعْلَبِيّ . وَقَالَ أَبُو عُبَيْد : وَحَدَّثَنِي حَجَّاج بْن مُحَمَّد عَنْ أَبِي مَعْشَر عَنْ مُحَمَّد بْن قَيْس قَالَ : رَأَى رَجُل سَبْع جَوَار حِسَان مُزَيَّنَات فِي النَّوْم فَقَالَ لِمَنْ أَنْتُنَّ بَارَكَ اللَّه فِيكُنَّ فَقُلْنَ نَحْنُ لِمَنْ قَرَأَنَا نَحْنُ الْحَوَامِيم . | حم | اُخْتُلِفَ فِي مَعْنَاهُ ; فَقَالَ عِكْرِمَة : قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( | حم | اِسْم مِنْ أَسْمَاء اللَّه تَعَالَى وَهِيَ مَفَاتِيح خَزَائِن رَبّك ) قَالَ اِبْن عَبَّاس : | حم | اِسْم اللَّه الْأَعْظَم . وَعَنْهُ : | الر | وَ | حم | وَ | ن | حُرُوف الرَّحْمَن مُقَطَّعَة . وَعَنْهُ أَيْضًا : اِسْم مِنْ أَسْمَاء اللَّه تَعَالَى أَقْسَمَ بِهِ . وَقَالَ قَتَادَة : إِنَّهُ اِسْم مِنْ أَسْمَاء الْقُرْآن . مُجَاهِد : فَوَاتِح السُّوَر . وَقَالَ عَطَاء الْخُرَاسَانِيّ : الْحَاء اِفْتِتَاح اِسْمه حَمِيد وَحَنَّان وَحَلِيم وَحَكِيم , وَالْمِيم اِفْتِتَاح اِسْمه مَلِك وَمَجِيد وَمَنَّان وَمُتَكَبِّر وَمُصَوِّر ; يَدُلّ عَلَيْهِ مَا رَوَى أَنَس أَنَّ أَعْرَابِيًّا سَأَلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا | حم | فَإِنَّا لَا نَعْرِفهَا فِي لِسَانِنَا ؟ فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( بَدْء أَسْمَاء وَفَوَاتِح سُوَر ) وَقَالَ الضَّحَّاك وَالْكِسَائِيّ : مَعْنَاهُ قُضِيَ مَا هُوَ كَائِن . كَأَنَّهُ أَرَادَ الْإِشَارَة إِلَى تَهَجِّي | حم | ; لِأَنَّهَا تَصِير حُمَّ بِضَمِّ الْحَاء وَتَشْدِيد الْمِيم ; أَيْ قُضِيَ وَوَقَعَ . وَقَالَ كَعْب بْن مَالِك : <br>فَلَمَّا تَلَاقَيْنَاهُمْ وَدَارَتْ بِنَا الرَّحَى .......... وَلَيْسَ لِأَمْرٍ حَمَّهُ اللَّهُ مَدْفَعُ <br>وَعَنْهُ أَيْضًا : إِنَّ الْمَعْنَى حُمَّ أَمْر اللَّه أَيْ قَرُبَ ; كَمَا قَالَ الشَّاعِر : <br>قَدْ حُمَّ يَوْمِي فَسُرَّ قَوْمٌ .......... قَوْمٌ بِهِمْ غَفْلَةٌ وَنَوْمُ <br>وَمِنْهُ سُمِّيَتْ الْحُمَّى ; لِأَنَّهَا تُقَرِّب مِنْ الْمَنِيَّة . وَالْمَعْنَى الْمُرَاد قَرُبَ نَصْره لِأَوْلِيَائِهِ , وَانْتِقَامُهُ مِنْ أَعْدَائِهِ كَيَوْمِ بَدْر . وَقِيلَ : حُرُوف هِجَاء ; قَالَ الْجَرْمِيّ : وَلِهَذَا تُقْرَأ سَاكِنَة الْحُرُوف فَخَرَجَتْ مَخْرَج التَّهَجِّي وَإِذَا سُمِّيَتْ سُورَة بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْحُرُوف أُعْرِبَتْ ; فَتَقُول : قَرَأْت | حم | فَتَنْصِب ; قَالَ الشَّاعِر : <br>يُذَكِّرُنِي حَامِيمَ وَالرُّمْحُ شَاجِرٌ .......... فَهَلَّا تَلَا حَامِيمَ قَبْلَ التَّقَدُّمِ <br>وَقَرَأَ عِيسَى بْن عُمَر الثَّقَفِيّ : | حم | بِفَتْحِ الْمِيم عَلَى مَعْنَى اِقْرَأْ حم أَوْ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ . اِبْن أَبِي إِسْحَاق وَأَبُو السَّمَّال بِكَسْرِهَا . وَالْإِمَالَة وَالْكَسْر لِلِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ , أَوْ عَلَى وَجْه الْقَسَم . وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَر بِقَطْعِ الْحَاء مِنْ الْمِيم . الْبَاقُونَ بِالْوَصْلِ . وَكَذَلِكَ فِي | حم . عسق | . وَقَرَأَ أَبُو عَمْرو وَأَبُو بَكْر وَحَمْزَة وَالْكِسَائِيّ وَخَلَف وَابْن ذَكْوَان بِالْإِمَالَةِ فِي الْحَاء . وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عَمْرو بَيْن اللَّفْظَيْنِ وَهِيَ قِرَاءَة نَافِع وَأَبِي جَعْفَر وَشَيْبَة . الْبَاقُونَ بِالْفَتْحِ مُشْبَعًا .
| تَنْزِيل الْكِتَاب | اِبْتِدَاء وَالْخَبَر | مِنْ اللَّه الْعَزِيز الْعَلِيم | . وَيَجُوز أَنْ يَكُون | تَنْزِيل | خَبَرًا لِمُبْتَدَإٍ مَحْذُوف ; أَيْ هَذَا | تَنْزِيل الْكِتَاب | . وَيَجُوز أَنْ يَكُون | حم | مُبْتَدَأ وَ | تَنْزِيل | خَبَره وَالْمَعْنَى : أَنَّ الْقُرْآن أَنْزَلَهُ اللَّه وَلَيْسَ مَنْقُولًا وَلَا مِمَّا يَجُوز أَنْ يُكَذَّب بِهِ .|الْعَزِيزِ|الَّذِي لَا يَمْتَنِع عَلَيْهِ شَيْء مِمَّا يُرِيدهُ|الْعَلِيمِ|بِأَحْوَالِ الْخَلْق
قَالَ الْفَرَّاء : جَعَلَهَا كَالنَّعْتِ لِلْمَعْرِفَةِ وَهِيَ نَكِرَة . وَقَالَ الزَّجَّاج : هِيَ خَفْض عَلَى الْبَدَل . النَّحَّاس : وَتَحْقِيق الْكَلَام فِي هَذَا وَتَلْخِيصه أَنَّ | غَافِر الذَّنْب وَقَابِل التَّوْب | يَجُوز أَنْ يَكُونَا مَعْرِفَتَيْنِ عَلَى أَنَّهُمَا لِمَا مَضَى فَيَكُونَا نَعْتَيْنِ , وَيَجُوز أَنْ يَكُونَا لِلْمُسْتَقْبَلِ وَالْحَال فَيَكُونَا نَكِرَتَيْنِ وَلَا يَجُوز أَنْ يَكُونَا نَعْتَيْنِ عَلَى هَذَا وَلَكِنْ يَكُون خَفْضُهُمَا عَلَى الْبَدَل , وَيَجُوز النَّصْب عَلَى الْحَال , فَأَمَّا | شَدِيد الْعِقَاب | فَهُوَ نَكِرَة وَيَكُون خَفْضه عَلَى الْبَدَل . قَالَ اِبْن عَبَّاس : | غَافِر الذَّنْب | لِمَنْ قَالَ : | لَا إِلَه إِلَّا اللَّه | | وَقَابِل التَّوْب | مِمَّنْ قَالَ : | لَا إِلَه إِلَّا اللَّه | | شَدِيد الْعِقَاب | لِمَنْ لَمْ يَقُلْ : | لَا إِلَه إِلَّا اللَّه | . وَقَالَ ثَابِت الْبُنَانِيّ : كُنْت إِلَى سُرَادِق مُصْعَب بْن الزُّبَيْر فِي مَكَان لَا تَمُرّ فِيهِ الدَّوَابّ , قَالَ : فَاسْتَفْتَحْت | حم . تَنْزِيل الْكِتَاب مِنْ اللَّه الْعَزِيز الْعَلِيم | فَمَرَّ عَلَيَّ رَجُل عَلَى دَابَّة فَلَمَّا قُلْت | غَافِر الذَّنْب | قَالَ : قُلْ يَا غَافِر الذَّنْب اِغْفِرْ لِي ذَنْبِي , فَلَمَّا قُلْت : | قَابِل التَّوْب | قَالَ : قُلْ يَا قَابِل التَّوْب تَقَبَّلْ تَوْبَتِي , فَلَمَّا قُلْت : | شَدِيد الْعِقَاب | قَالَ : قُلْ يَا شَدِيد الْعِقَاب اُعْفُ عَنِّي , فَلَمَّا قُلْت : | ذِي الطَّوْل | قَالَ : قُلْ يَا ذَا الطَّوْل طُلْ عَلَيَّ بِخَيْرٍ ; فَقُمْت إِلَيْهِ فَأَخَذَ بِبَصَرِي , فَالْتَفَتّ يَمِينًا وَشِمَالًا فَلَمْ أَرَ شَيْئًا . وَقَالَ أَهْل الْإِشَارَة : | غَافِر الذَّنْب | فَضْلًا | وَقَابِل التَّوْب | وَعْدًا | شَدِيد الْعِقَاب | عَدْلًا | لَا إِلَه إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِير | فَرْدًا . وَرُوِيَ عَنْ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ اِفْتَقَدَ رَجُلًا ذَا بَأْس شَدِيد مِنْ أَهْل الشَّام ; فَقِيلَ لَهُ : تَتَابَعَ فِي هَذَا الشَّرَاب ; فَقَالَ عُمَر لِكَاتِبِهِ : اُكْتُبْ مِنْ عُمَر إِلَى فُلَان , سَلَام عَلَيْك , وَأَنَا أَحْمَد اللَّه إِلَيْك الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ : | بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَن . حم تَنْزِيل الْكِتَاب مِنْ اللَّه الْعَزِيز الْعَلِيم غَافِر الذَّنْب وَقَابِل التَّوْب شَدِيد الْعِقَاب ذِي الطَّوْل لَا إِلَه إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِير | ثُمَّ خَتَمَ الْكِتَاب وَقَالَ لِرَسُولِهِ : لَا تَدْفَعْهُ إِلَيْهِ حَتَّى تَجِدَهُ صَاحِيًا , ثُمَّ أَمَرَ مَنْ عِنْده بِالدُّعَاءِ لَهُ بِالتَّوْبَةِ , فَلَمَّا أَتَتْهُ الصَّحِيفَة جَعَلَ يَقْرَؤُهَا وَيَقُول : قَدْ وَعَدَنِي اللَّه أَنْ يَغْفِر لِي , وَحَذَّرَنِي عِقَابه , فَلَمْ يَبْرَح يُرَدِّدُهَا حَتَّى بَكَى ثُمَّ نَزَعَ فَأَحْسَنَ النَّزْعَ وَحَسُنَتْ تَوْبَته . فَلَمَّا بَلَغَ عُمَرَ أَمْرُهُ قَالَ : هَكَذَا فَاصْنَعُوا إِذَا رَأَيْتُمْ أَحَدكُمْ قَدْ زَلَّ زَلَّة فَسَدِّدُوهُ وَادْعُوا اللَّه لَهُ أَنْ يَتُوب عَلَيْهِ , وَلَا تَكُونُوا أَعْوَانًا لِلشَّيَاطِينِ عَلَيْهِ . وَ | التَّوْب | يَجُوز أَنْ يَكُون مَصْدَرَ تَابَ يَتُوب تَوْبًا , وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون جَمْع تَوْبَة نَحْو دَوْمَة وَدَوْم وَعَزْمَة وَعَزْم ; وَمِنْهُ قَوْله : <br>فَيَخْبُو سَاعَةً وَيَهُبُّ سَاعَا <br>وَيَجُوز أَنْ يَكُون التَّوْب بِمَعْنَى التَّوْبَة . قَالَ أَبُو الْعَبَّاس : وَاَلَّذِي يَسْبِق إِلَى قَلْبِي أَنْ يَكُون مَصْدَرًا ; أَيْ يَقْبَل هَذَا الْفِعْل , كَمَا تَقُول قَالَ قَوْلًا , وَإِذَا كَانَ جَمْعًا فَمَعْنَاهُ يَقْبَل التَّوْبَات .|ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ|عَلَى الْبَدَل وَعَلَى النَّعْت ; لِأَنَّهُ مَعْرِفَة . وَأَصْل الطَّوْل الْإِنْعَام وَالْفَضْل يُقَال مِنْهُ : اللَّهُمَّ طُلْ عَلَيْنَا أَيْ أَنْعِمْ وَتَفَضَّلْ . قَالَ اِبْن عَبَّاس : | ذِي الطَّوْل | ذِي النِّعَم . وَقَالَ مُجَاهِد : ذِي الْغِنَى وَالسَّعَة ; وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : | وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا | [ النِّسَاء : 25 ] أَيْ غِنًى وَسَعَةً . وَعَنْ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا : | ذِي الطَّوْل | ذِي الْغِنَى عَمَّنْ لَا يَقُول لَا إِلَه إِلَّا اللَّه . وَقَالَ عِكْرِمَة : | ذِي الطَّوْل | ذِي الْمَنّ . قَالَ الْجَوْهَرِيّ : وَالطَّوْل بِالْفَتْحِ الْمَنّ ; يُقَال مِنْهُ طَالَ عَلَيْهِ وَتَطَوَّلَ عَلَيْهِ إِذَا اِمْتَنَّ عَلَيْهِ . وَقَالَ مُحَمَّد بْن كَعْب : | ذِي الطَّوْل | ذِي التَّفَضُّل ; قَالَ الْمَاوَرْدِيّ : وَالْفَرْق بَيْن الْمَنّ وَالتَّفَضُّل أَنَّ الْمَنّ عَفْو عَنْ ذَنْب . وَالتَّفَضُّل إِحْسَان غَيْر مُسْتَحِقّ . وَالطَّوْل مَأْخُوذ مِنْ الطِّوَل كَأَنَّهُ طَالَ بِإِنْعَامِهِ عَلَى غَيْره . وَقِيلَ : لِأَنَّهُ طَالَتْ مُدَّة إِنْعَامه .|إِلَيْهِ الْمَصِيرُ|أَيْ الْمَرْجِع .
سَجَّلَ سُبْحَانه عَلَى الْمُجَادِلِينَ فِي آيَات اللَّه بِالْكُفْرِ , وَالْمُرَاد الْجِدَال بِالْبَاطِلِ , مِنْ الطَّعْن فِيهَا , وَالْقَصْد إِلَى إِدْحَاض الْحَقّ , وَإِطْفَاء نُور اللَّه تَعَالَى . وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى : | وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقّ | . [ غَافِر : 5 ] . فَأَمَّا الْجِدَال فِيهَا لِإِيضَاحِ مُلْتَبِسهَا , وَحَلِّ مُشْكِلهَا , وَمُقَادَحَة أَهْل الْعِلْم فِي اِسْتِنْبَاط مَعَانِيهَا , وَرَدّ أَهْل الزَّيْغ بِهَا وَعَنْهَا , فَأَعْظَم جِهَاد فِي سَبِيل اللَّه . وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي [ الْبَقَرَة ] عِنْد قَوْله تَعَالَى : | أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيم فِي رَبّه | [ الْبَقَرَة : 258 ] مُسْتَوْفًى .|فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ|| فَلَا يَغْرُرْك | وَقُرِئَ : | فَلَا يَغُرَّك | | تَقَلُّبُهُمْ | أَيْ تَصَرُّفُهُمْ | فِي الْبِلَاد | فَإِنِّي وَإِنْ أَمْهَلْتهمْ لَا أُهْمِلُهُمْ بَلْ أُعَاقِبهُمْ . قَالَ اِبْن عَبَّاس : يُرِيد تِجَارَتهمْ مِنْ مَكَّة إِلَى الشَّام وَإِلَى الْيَمَن . وَقِيلَ : | لَا يَغْرُرْك | مَا هُمْ فِيهِ مِنْ الْخَيْر وَالسَّعَة فِي الرِّزْق فَإِنَّهُ مَتَاع قَلِيل فِي الدُّنْيَا . وَقَالَ الزَّجَّاج : | لَا يَغْرُرْك | سَلَامَتهمْ بَعْد كُفْرهمْ فَإِنَّ عَاقِبَتَهُمْ الْهَلَاك . وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَة : آيَتَانِ مَا أَشَدَّهُمَا عَلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي الْقُرْآن : قَوْله : | مَا يُجَادِل فِي آيَات اللَّه إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا | , وَقَوْله : | وَإِنَّ الَّذِينَ اِخْتَلَفُوا فِي الْكِتَاب لَفِي شِقَاق بَعِيد | [ الْبَقَرَة : 176 ] .
عَلَى تَأْنِيث الْجَمَاعَة أَيْ كَذَّبَتْ الرُّسُل .|وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ|أَيْ وَالْأُمَم الَّذِينَ تَحَزَّبُوا عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ بِالتَّكْذِيبِ نَحْو عَاد وَثَمُود فَمَنْ بَعْدهمْ .|وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ|أَيْ لِيَحْبِسُوهُ وَيُعَذِّبُوهُ . وَقَالَ قَتَادَة وَالسُّدِّيّ : لِيَقْتُلُوهُ . وَالْأَخْذ يَرِد بِمَعْنَى الْإِهْلَاك ; كَقَوْلِهِ : | ثُمَّ أَخَذْتهمْ فَكَيْف كَانَ نَكِير | [ الْحَجّ : 44 ] . وَالْعَرَب تُسَمِّي الْأَسِير الْأَخِيذ ; لِأَنَّهُ مَأْسُور لِلْقَتْلِ ; وَأَنْشَدَ قُطْرُب قَوْل الشَّاعِر : <br>فَإِمَّا تَأْخُذُونِي تَقْتُلُونِي .......... فَكَمْ مِنْ آخِذٍ يَهْوَى خُلُودِي <br>وَفِي وَقْت أَخْذهمْ لِرَسُولِهِمْ قَوْلَانِ : أَحَدهمَا عِنْد دُعَائِهِ لَهُمْ . الثَّانِي عِنْد نُزُول الْعَذَاب بِهِمْ .|وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ|أَيْ لِيُزِيلُوا . وَمِنْهُ مَكَان دَحْض أَيْ مَزْلَقَة , وَالْبَاطِل دَاحِض ; لِأَنَّهُ يَزْلَق وَيَزِلّ فَلَا يَسْتَقِرّ . قَالَ يَحْيَى بْن سَلَّام : جَادَلُوا الْأَنْبِيَاء بِالشِّرْكِ لِيُبْطِلُوا بِهِ الْإِيمَان .|فَأَخَذْتُهُمْ|أَيْ بِالْعَذَابِ .|فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ|أَيْ عَاقِبَة الْأُمَم الْمُكَذِّبَة . أَيْ أَلَيْسَ وَجَدُوهُ حَقًّا .
أَيْ وَجَبَتْ وَلَزِمَتْ ; مَأْخُوذ مِنْ الْحَقّ لِأَنَّهُ اللَّازِم .|كَلِمَةُ رَبِّكَ|هَذِهِ قِرَاءَة الْعَامَّة عَلَى التَّوْحِيد . وَقَرَأَ نَافِع وَابْن عَامِر : | كَلِمَات | جَمْعًا .|عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ|قَالَ الْأَخْفَش : أَيْ لِأَنَّهُمْ وَبِأَنَّهُمْ . قَالَ الزَّجَّاج : وَيَجُوز إِنَّهُمْ بِكَسْرِ الْهَمْزَة . | أَصْحَاب النَّار | أَيْ الْمُعَذَّبُونَ بِهَا وَتَمَّ الْكَلَام .
وَيُرْوَى : أَنَّ حَمَلَة الْعَرْش أَرْجُلهمْ فِي الْأَرْض السُّفْلَى وَرُءُوسهمْ قَدْ خَرَقَتْ الْعَرْش , وَهُمْ خُشُوع لَا يَرْفَعُونَ طَرْفهمْ , وَهُمْ أَشْرَاف الْمَلَائِكَة وَأَفْضَلهمْ . فَفِي الْحَدِيث : ( أَنَّ اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَمَرَ جَمِيع الْمَلَائِكَة أَنْ يَغْدُوا وَيَرُوحُوا بِالسَّلَامِ عَلَى حَمَلَة الْعَرْش تَفْضِيلًا لَهُمْ عَلَى سَائِر الْمَلَائِكَة ) . وَيُقَال : خَلَقَ اللَّه الْعَرْش مِنْ جَوْهَرَة خَضْرَاء , وَبَيْن الْقَائِمَتَيْنِ مِنْ قَوَائِمه خَفَقَان الطَّيْر الْمُسْرِع ثَمَانِينَ أَلْف عَام . وَقِيلَ : حَوْل الْعَرْش سَبْعُونَ أَلْف صَفّ مِنْ الْمَلَائِكَة يَطُوفُونَ بِهِ مُهَلِّلِينَ مُكَبِّرِينَ , وَمِنْ وَرَائِهِمْ سَبْعُونَ أَلْف صَفّ قِيَام , قَدْ وَضَعُوا أَيْدِيهمْ عَلَى عَوَاتِقهمْ , وَرَافِعِينَ أَصْوَاتهمْ بِالتَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِير , وَمِنْ وَرَائِهِمْ مِائَة أَلْف صَفّ , وَقَدْ وَضَعُوا الْأَيْمَان عَلَى الشَّمَائِل , مَا مِنْهُمْ أَحَد إِلَّا وَهُوَ يُسَبِّح بِمَا لَا يُسَبِّح بِهِ الْآخَر . وَقَرَأَ اِبْن عَبَّاس : | الْعُرْش | بِضَمِّ الْعَيْن ; ذَكَرَ جَمِيعَهُ الزَّمَخْشَرِيّ رَحِمَهُ اللَّه . وَقِيلَ : اِتَّصَلَ هَذَا بِذِكْرِ الْكُفَّار ; لِأَنَّ الْمَعْنَى وَاَللَّه أَعْلَم - | الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْش وَمَنْ حَوْله | يُنَزِّهُونَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَمَّا يَقُولهُ الْكُفَّار وَأَقَاوِيل أَهْل التَّفْسِير عَلَى أَنَّ الْعَرْش هُوَ السَّرِير , وَأَنَّهُ جِسْم مُجَسَّم خَلَقَهُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ , وَأَمَرَ مَلَائِكَة بِحَمْلِهِ , وَتَعَبَّدَهُمْ بِتَعْظِيمِهِ وَالطَّوَاف بِهِ , كَمَا خَلَقَ فِي الْأَرْض بَيْتًا وَأَمَرَ بَنِي آدَم بِالطَّوَافِ بِهِ وَاسْتِقْبَاله فِي الصَّلَاة . وَرَوَى اِبْن طَهْمَان , عَنْ مُوسَى بْن عُقْبَة , عَنْ مُحَمَّد بْن الْمُنْكَدِر , عَنْ جَابِر بْن عَبْد اللَّه الْأَنْصَارِيّ , قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أُذِنَ لِي أَنْ أُحَدِّث عَنْ مَلَك مِنْ مَلَائِكَة اللَّه مِنْ حَمَلَة الْعَرْش مَا بَيْن شَحْمَة أُذُنه إِلَى عَاتِقه مَسِير سَبْعمِائَةِ عَام ) ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيّ وَقَدْ مَضَى فِي [ الْبَقَرَة ] فِي آيَة الْكُرْسِيّ عِظَم الْعَرْش وَأَنَّهُ أَعْظَم الْمَخْلُوقَات . وَرَوَى ثَوْر بْن يَزِيد , عَنْ خَالِد بْن مَعْدَان , عَنْ كَعْب الْأَحْبَار أَنَّهُ قَالَ : لَمَّا خَلَقَ اللَّه تَعَالَى الْعَرْش قَالَ : لَنْ يَخْلُق اللَّه خَلْقًا أَعْظَم مِنِّي ; فَاهْتَزَّ فَطَوَّقَهُ اللَّه بِحَيَّةٍ , لِلْحَيَّةِ سَبْعُونَ أَلْف جَنَاح , فِي الْجَنَاح سَبْعُونَ أَلْف رِيشَة , فِي كُلّ رِيشَة سَبْعُونَ أَلْف وَجْه , فِي كُلّ وَجْه سَبْعُونَ أَلْف فَم , فِي كُلّ فَم سَبْعُونَ أَلْف لِسَان . يَخْرُج مِنْ أَفْوَاههَا فِي كُلّ يَوْم مِنْ التَّسْبِيح عَدَد قَطْر الْمَطَر , وَعَدَد وَرَق الشَّجَر , وَعَدَد الْحَصَى وَالثَّرَى , وَعَدَد أَيَّام الدُّنْيَا وَعَدَد الْمَلَائِكَة أَجْمَعِينَ , فَالْتَوَتْ الْحَيَّة بِالْعَرْشِ , فَالْعَرْش إِلَى نِصْف الْحَيَّة وَهِيَ مُلْتَوِيَة بِهِ . وَقَالَ مُجَاهِد : بَيْن السَّمَاء السَّابِعَة وَبَيْن الْعَرْش سَبْعُونَ أَلْف حِجَاب , حِجَاب نُور وَحِجَاب ظُلْمَة , وَحِجَاب نُور وَحِجَاب ظُلْمَة .|وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا|أَيْ يَسْأَلُونَ لَهُمْ الْمَغْفِرَة مِنْ اللَّه تَعَالَى . قَالَ إِبْرَاهِيم النَّخَعِيّ : كَانَ أَصْحَاب عَبْد اللَّه يَقُولُونَ الْمَلَائِكَة خَيْر مِنْ اِبْن الْكَوَّاء ; هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْض وَابْن الْكَوَّاء يَشْهَد عَلَيْهِمْ بِالْكُفْرِ , قَالَ إِبْرَاهِيم : وَكَانُوا يَقُولُونَ لَا يَحْجُبُونَ الِاسْتِغْفَار عَنْ أَحَد مِنْ أَهْل الْقِبْلَة . وَقَالَ مُطَرِّف بْن عَبْد اللَّه : وَجَدْنَا أَنْصَحَ عِبَاد اللَّه لِعِبَادِ اللَّه الْمَلَائِكَة , وَوَجَدْنَا أَغَشَّ عِبَاد اللَّه لِعِبَادِ اللَّه الشَّيْطَان , وَتَلَا هَذِهِ الْآيَة . وَقَالَ يَحْيَى بْن مُعَاذ الرَّازِيّ لِأَصْحَابِهِ فِي هَذِهِ الْآيَة : اِفْهَمُوهَا فَمَا فِي الْعَالَم جَنَّة أَرْجَى مِنْهَا ; إِنَّ مَلَكًا وَاحِدًا لَوْ سَأَلَ اللَّه أَنْ يَغْفِر لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ لَغَفَرَ لَهُمْ , كَيْف وَجَمِيع الْمَلَائِكَة وَحَمَلَة الْعَرْش يَسْتَغْفِرُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ . وَقَالَ خَلَف بْن هِشَام الْبَزَّار الْقَارِئ : كُنْت أَقْرَأ عَلَى سُلَيْم بْن عِيسَى فَلَمَّا بَلَغْت : | وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا | بَكَى ثُمَّ قَالَ : يَا خَلَف مَا أَكْرَمَ الْمُؤْمِنَ عَلَى اللَّه نَائِمًا عَلَى فِرَاشه وَالْمَلَائِكَة يَسْتَغْفِرُونَ لَهُ .|رَبَّنَا|أَيْ يَقُولُونَ | رَبَّنَا ||وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا|أَيْ وَسِعَتْ رَحْمَتُك وَعِلْمُك كُلّ شَيْء , فَلَمَّا نُقِلَ الْفِعْل عَنْ الرَّحْمَة وَالْعِلْم نُصِبَ عَلَى التَّفْسِير .|فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا|أَيْ مِنْ الشِّرْك وَالْمَعَاصِي|وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ|أَيْ دِين الْإِسْلَام .|وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ|أَيْ اِصْرِفْهُ عَنْهُمْ حَتَّى لَا يَصِل إِلَيْهِمْ .
يُرْوَى أَنَّ عُمَر بْن الْخَطَّاب قَالَ لِكَعْب الْأَحْبَار : مَا جَنَّات عَدْن . قَالَ : قُصُور مِنْ ذَهَب فِي الْجَنَّة يَدْخُلهَا النَّبِيُّونَ وَالصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاء وَأَئِمَّة الْعَدْل . | الَّتِي وَعَدْتهمْ | | الَّتِي | فِي مَحَلّ نَصْب نَعْتًا لِلْجَنَّاتِ .|وَمَنْ صَلَحَ|| مَنْ | فِي مَحَلّ نَصْب عَطْفًا عَلَى الْهَاء وَالْمِيم فِي قَوْله : | وَأَدْخِلْهُمْ | . | وَمَنْ صَلَحَ | بِالْإِيمَانِ|مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ|وَقَدْ مَضَى فِي [ الرَّعْد ] نَظِير هَذِهِ الْآيَة . قَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر : يَدْخُل الرَّجُل الْجَنَّة , فَيَقُول : يَا رَبّ أَيْنَ أَبِي وَجَدِّي وَأُمِّي ؟ وَأَيْنَ وَلَدِي وَوَلَدُ وَلَدِي ؟ وَأَيْنَ زَوْجَاتِي ؟ فَيُقَال إِنَّهُمْ لَمْ يَعْمَلُوا كَعَمَلِك ; فَيَقُول : يَا رَبّ كُنْت أَعْمَل لِي وَلَهُمْ ; فَيُقَال أَدْخِلُوهُمْ الْجَنَّة . ثُمَّ تَلَا : | الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْش وَمَنْ حَوْله | إِلَى قَوْله : | وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجهمْ وَذُرِّيَّاتهمْ | . وَيَقْرُب مِنْ هَذِهِ الْآيَة قَوْله : | وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتهمْ | [ الطُّور : 21 ] .|إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ|الَّذِي لَا يَمْتَنِع عَلَيْهِ شَيْء مِمَّا يُرِيدهُ|الْحَكِيمُ|فِيمَا تَفْعَلهُ
قَالَ قَتَادَة : أَيْ وَقِهِمْ مَا يَسُوءُهُمْ , وَقِيلَ : التَّقْدِير وَقِهِمْ عَذَاب السَّيِّئَات وَهُوَ أَمْر مِنْ وَقَاهُ اللَّه يَقِيهِ وِقَايَة بِالْكَسْرِ ; أَيْ حَفِظَهُ .|وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ|أَيْ بِدُخُولِ الْجَنَّة|وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ|أَيْ النَّجَاة الْكَبِيرَة .
قَالَ الْأَخْفَش : | لَمَقْتُ | هَذِهِ لَام الِابْتِدَاء وَقَعَتْ بَعْد | يُنَادَوْنَ | لِأَنَّ مَعْنَاهُ يُقَال لَهُمْ وَالنِّدَاء قَوْل . وَقَالَ غَيْره : الْمَعْنَى يُقَال لَهُمْ : | لَمَقْت اللَّه | إِيَّاكُمْ فِي الدُّنْيَا | إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَان فَتَكْفُرُونَ | | أَكْبَر | مِنْ مَقْت بَعْضكُمْ بَعْضًا يَوْم الْقِيَامَة ; لِأَنَّ بَعْضهمْ عَادَى بَعْضًا وَمَقَتَهُ يَوْم الْقِيَامَة , فَأَذْعَنُوا عِنْد ذَلِكَ , وَخَضَعُوا وَطَلَبُوا الْخُرُوج مِنْ النَّار . وَقَالَ الْكَلْبِيّ : يَقُول كُلّ إِنْسَان مِنْ أَهْل النَّار لِنَفْسِهِ مَقَتُّك يَا نَفْسُ ; فَتَقُول الْمَلَائِكَة لَهُمْ وَهُمْ فِي النَّار : لَمَقْت اللَّه إِيَّاكُمْ إِذْ أَنْتُمْ فِي الدُّنْيَا وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكُمْ الرُّسُل فَلَمْ تُؤْمِنُوا أَشَدّ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ الْيَوْم . وَقَالَ الْحَسَن : يُعْطَوْنَ كِتَابَهُمْ فَإِذَا نَظَرُوا إِلَى سَيِّئَاتهمْ مَقَتُوا أَنْفُسهمْ فَيُنَادَوْنَ | لَمَقْتُ اللَّهِ | إِيَّاكُمْ فِي الدُّنْيَا | إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَان فَتَكْفُرُونَ | | أَكْبَر مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ | الْيَوْم . وَقَالَ مَعْنَاهُ مُجَاهِد . وَقَالَ قَتَادَة : الْمَعْنَى | لَمَقْت اللَّه | لَكُمْ | إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَان فَتَكْفُرُونَ | | أَكْبَر مِنْ مَقْتكُمْ أَنْفُسَكُمْ | إِذْ عَايَنْتُمْ النَّار . فَإِنْ قِيلَ : كَيْف يَصِحّ أَنْ يَمْقُتُوا أَنْفُسهمْ ؟ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدهمَا أَنَّهُمْ أَحَلُّوهَا بِالذُّنُوبِ مَحَلّ الْمَمْقُوت . الثَّانِي أَنَّهُمْ لَمَّا صَارُوا إِلَى حَال زَالَ عَنْهُمْ الْهَوَى , وَعَلِمُوا أَنَّ نُفُوسهمْ هِيَ الَّتِي أَبْقَتْهُمْ فِي الْمَعَاصِي مَقَتُوهَا . وَقَالَ مُحَمَّد بْن كَعْب الْقُرَظِيّ : إِنَّ أَهْل النَّار لَمَّا يَئِسُوا مِمَّا عِنْد الْخَزَنَة وَقَالَ لَهُمْ مَالِك : | إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ | عَلَى مَا يَأْتِي . قَالَ بَعْضهمْ لِبَعْضٍ : يَا هَؤُلَاءِ إِنَّهُ قَدْ نَزَلَ بِكُمْ مِنْ الْعَذَاب وَالْبَلَاء مَا قَدْ تَرَوْنَ , فَهَلُمَّ فَلْنَصْبِرْ فَلَعَلَّ الصَّبْر يَنْفَعُنَا , كَمَا صَبَرَ أَهْل الطَّاعَة عَلَى طَاعَة اللَّه فَنَفَعَهُمْ الصَّبْر إِذْ صَبَرُوا , فَأَجْمَعُوا رَأْيهمْ عَلَى الصَّبْر فَصَبَرُوا فَطَالَ صَبْرُهُمْ , ثُمَّ جَزِعُوا فَنَادَوْا | سَوَاء عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيص | [ إِبْرَاهِيم : 21 ] أَيْ مِنْ مَلْجَأ ; فَقَالَ إِبْلِيس عِنْد ذَلِكَ : | إِنَّ اللَّه وَعَدَكُمْ وَعْد الْحَقّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَان | [ إِبْرَاهِيم : 22 ] إِلَى قَوْله : | مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ | [ إِبْرَاهِيم : 22 ] يَقُول : بِمُغْنٍ عَنْكُمْ شَيْئًا | إِنِّي كَفَرْت بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ | [ إِبْرَاهِيم : 22 ] فَلَمَّا سَمِعُوا مَقَالَتَهُ مَقَتُوا أَنْفُسَهُمْ . قَالَ : فَنُودُوا | لَمَقْت اللَّه أَكْبَر مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَان فَتَكْفُرُونَ | إِلَى قَوْله : | فَهَلْ إِلَى خُرُوج مِنْ سَبِيل | قَالَ فَرُدَّ عَلَيْهِمْ : | ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّه وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَك بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْم لِلَّهِ الْعَلِيّ الْكَبِير | ذَكَرَهُ اِبْن الْمُبَارَك .
اِخْتَلَفَ أَهْل التَّأْوِيل فِي مَعْنَى قَوْلهمْ : | أَمَتَّنَا اِثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتنَا اِثْنَتَيْنِ | فَقَالَ اِبْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس وَقَتَادَة وَالضَّحَّاك : كَانُوا أَمْوَاتًا فِي أَصْلَاب آبَائِهِمْ , ثُمَّ أَحْيَاهُمْ ثُمَّ أَمَاتَهُمْ الْمَوْتَة الَّتِي لَا بُدّ مِنْهَا فِي الدُّنْيَا , ثُمَّ أَحْيَاهُمْ لِلْبَعْثِ وَالْقِيَامَة , فَهَاتَانِ حَيَاتَانِ وَمَوْتَتَانِ , وَهُوَ قَوْله تَعَالَى : | كَيْف تَكْفُرُونَ بِاَللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ | [ الْبَقَرَة : 28 ] . وَقَالَ السُّدِّيّ : أُمِيتُوا فِي الدُّنْيَا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ فِي الْقُبُور لِلْمَسْأَلَةِ , ثُمَّ أُمِيتُوا ثُمَّ أُحْيُوا فِي الْآخِرَة . وَإِنَّمَا صَارَ إِلَى هَذَا ; لِأَنَّ لَفْظ الْمَيِّت لَا يَنْطَلِقُ فِي الْعُرْف عَلَى النُّطْفَة . وَاسْتَدَلَّ الْعُلَمَاء مِنْ هَذَا فِي إِثْبَات سُؤَال الْقَبْر , وَلَوْ كَانَ الثَّوَاب وَالْعِقَاب لِلرُّوحِ دُون الْجَسَد فَمَا مَعْنَى الْإِحْيَاء وَالْإِمَاتَة ؟ وَالرُّوح عِنْد مَنْ يَقْصُر أَحْكَام الْآخِرَة عَلَى الْأَرْوَاح لَا تَمُوت وَلَا تَتَغَيَّر وَلَا تَفْسُد , وَهُوَ حَيّ لِنَفْسِهِ لَا يَتَطَرَّق إِلَيْهِ مَوْت وَلَا غَشْيَة وَلَا فَنَاء . وَقَالَ اِبْن زَيْد فِي قَوْله : | رَبّنَا أَمَتَّنَا اِثْنَتَيْنِ ... | الْآيَة قَالَ : خَلَقَهُمْ فِي ظَهْر آدَم وَأَخْرَجَهُمْ وَأَحْيَاهُمْ وَأَخَذَ عَلَيْهِمْ الْمِيثَاق , ثُمَّ أَمَاتَهُمْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ أَمَاتَهُمْ . وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي [ الْبَقَرَة ] .|فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا|اِعْتَرَفُوا حَيْثُ لَا يَنْفَعهُمْ الِاعْتِرَاف وَنَدِمُوا حَيْثُ لَا يَنْفَعهُمْ النَّدَم .|فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ|أَيْ هَلْ نُرَدُّ إِلَى الدُّنْيَا لِنَعْمَلَ بِطَاعَتِك ; نَظِيره : | هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيل | [ الشُّورَى : 44 ] وَقَوْله : | فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا | [ السَّجْدَة : 12 ] وَقَوْله : | يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ | [ الْأَنْعَام : 27 ] الْآيَة .
| ذَلِكُمْ | فِي مَوْضِع رَفْع أَيْ الْأَمْر | ذَلِكُمْ | أَوْ | ذَلِكُمْ | الْعَذَاب الَّذِي أَنْتُمْ فِيهِ بِكُفْرِكُمْ . وَفِي الْكَلَام مَتْرُوك تَقْدِيره فَأُجِيبُوا بِأَنْ لَا سَبِيل إِلَى الرَّدّ . وَذَلِكَ لِأَنَّكُمْ | إِذَا دُعِيَ اللَّه | أَيْ وُحِّدَ اللَّه | وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ | وَأَنْكَرْتُمْ أَنْ تَكُون الْأُلُوهِيَّة لَهُ خَاصَّة , وَإِنْ أَشْرَكَ بِهِ مُشْرِك صَدَّقْتُمُوهُ وَآمَنْتُمْ بِقَوْلِهِ . قَالَ الثَّعْلَبِيّ : وَسَمِعْت بَعْض الْعُلَمَاء يَقُول : | وَإِنْ يُشْرَك بِهِ | بَعْد الرَّدّ إِلَى الدُّنْيَا لَوْ كَانَ بِهِ | تُؤْمِنُوا | تُصَدِّقُوا الْمُشْرِك ; نَظِيره : | وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ | .|فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ|عَنْ أَنْ تَكُون لَهُ صَاحِبَة أَوْ وَلَد .
أَيْ دَلَائِل تَوْحِيده وَقُدْرَته|وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا|جَمَعَ بَيْن إِظْهَار الْآيَات وَإِنْزَال الرِّزْق ; لِأَنَّ بِالْآيَاتِ قِوَام الْأَدْيَان , وَبِالرِّزْقِ قِوَام الْأَبَدَانِ . وَهَذِهِ الْآيَات هِيَ السَّمَوَات وَالْأَرْضُونَ وَمَا فِيهِمَا وَمَا بَيْنهمَا مِنْ الشَّمْس وَالْقَمَر وَالنُّجُوم وَالرِّيَاح وَالسَّحَاب وَالْبِحَار وَالْأَنْهَار وَالْعُيُون وَالْجِبَال وَالْأَشْجَار وَآثَار قَوْم هَلَكُوا .|وَمَا يَتَذَكَّرُ|أَيْ مَا يَتَّعِظ بِهَذِهِ الْآيَات فَيُوَحِّد اللَّه|إِلَّا مَنْ يُنِيبُ|أَيْ يَرْجِع إِلَى طَاعَة اللَّه .
أَيْ اُعْبُدُوهُ|مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ|أَيْ الْعِبَادَة . وَقِيلَ : الطَّاعَة .|وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ|عِبَادَة اللَّه فَلَا تَعْبُدُوا أَنْتُمْ غَيْره .
| ذُو الْعَرْش | عَلَى إِضْمَار مُبْتَدَأ . قَالَ الْأَخْفَش : وَيَجُوز نَصْبُهُ عَلَى الْمَدْح . وَمَعْنَى | رَفِيع الدَّرَجَات | أَيْ رَفِيع الصِّفَات . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَالْكَلْبِيّ وَسَعِيد بْن جُبَيْر : رَفِيع السَّمَوَات السَّبْع . وَقَالَ يَحْيَى بْن سَلَّام : هُوَ رِفْعَة دَرَجَة أَوْلِيَائِهِ فِي الْجَنَّة فَـ | رَفِيع | عَلَى هَذَا بِمَعْنَى رَافِع فَعِيل بِمَعْنَى فَاعِل . وَهُوَ عَلَى الْقَوْل الْأَوَّل مِنْ صِفَات الذَّات , وَمَعْنَاهُ الَّذِي لَا أَرْفَعَ قَدْرًا مِنْهُ , وَهُوَ الْمُسْتَحِقّ لِدَرَجَاتِ الْمَدْح وَالثَّنَاء , وَهِيَ أَصْنَافهَا وَأَبْوَابهَا لَا مُسْتَحِقّ لَهَا غَيْره قَالَهُ الْحَلِيمِيّ . وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي الْكِتَاب الْأَسْنَى فِي شَرْح أَسْمَاء اللَّه الْحُسْنَى وَالْحَمْد لِلَّهِ . | ذُو الْعَرْش | أَيْ خَالِقُهُ وَمَالِكُهُ لَا أَنَّهُ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ . وَقِيلَ : هُوَ مِنْ قَوْلهمْ : ثُلَّ عَرْش فُلَان أَيْ زَالَ مُلْكه وَعِزُّهُ , فَهُوَ سُبْحَانه | ذُو الْعَرْش | بِمَعْنَى ثُبُوت مُلْكه وَسُلْطَانه وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْأَسْنَى فِي شَرْح أَسْمَاء اللَّه الْحُسْنَى .|يُلْقِي الرُّوحَ|أَيْ الْوَحْي وَالنُّبُوَّة | عَلَى مَنْ يَشَاء مِنْ عِبَاده | وَسُمِّيَ ذَلِكَ رُوحًا لِأَنَّ النَّاس يَحْيَوْنَ بِهِ ; أَيْ يَحْيَوْنَ مِنْ مَوْت الْكُفْر كَمَا تَحْيَا الْأَبَدَان بِالْأَرْوَاحِ . وَقَالَ اِبْن زَيْد : الرُّوح الْقُرْآن ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : | وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْك رُوحًا مِنْ أَمْرنَا | [ الشُّورَى : 52 ] . وَقِيلَ : الرُّوح جِبْرِيل ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : | نَزَلَ بِهِ الرُّوح الْأَمِين عَلَى قَلْبك | [ الشُّعَرَاء : 193 - 194 ] وَقَالَ : | قُلْ نَزَّلَهُ رُوح الْقُدْس مِنْ رَبّك بِالْحَقِّ | [ النَّحْل : 102 ] .|مِنْ أَمْرِهِ|أَيْ مِنْ قَوْله . وَقِيلَ : مِنْ قَضَائِهِ . وَقِيلَ : | مِنْ | بِمَعْنَى الْبَاء أَيْ بِأَمْرِهِ .|عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ|وَهُمْ الْأَنْبِيَاء يَشَاء هُوَ أَنْ يَكُونُوا أَنْبِيَاء وَلَيْسَ لِأَحَدٍ فِيهِمْ مَشِيئَة .|لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ|أَيْ إِنَّمَا يَبْعَث الرَّسُول لِإِنْذَارِ يَوْم الْبَعْث . فَقَوْله : | لِيُنْذِرَ | يَرْجِع إِلَى الرَّسُول . وَقِيلَ : أَيْ لِيُنْذِرَ اللَّه بِبَعْثِهِ الرُّسُل إِلَى الْخَلَائِق | يَوْم التَّلَاقِ | . وَقَرَأَ اِبْن عَبَّاس وَالْحَسَن وَابْن السَّمَيْقَع | لِتُنْذِرَ | بِالتَّاءِ خِطَابًا لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَام . | يَوْم التَّلَاقِ | قَالَ اِبْن عَبَّاس وَقَتَاده : يَوْم تَلْتَقِي أَهْل السَّمَاء وَأَهْل الْأَرْض . وَقَالَ قَتَادَة أَيْضًا وَأَبُو الْعَالِيَة وَمُقَاتِل : يَلْتَقِي فِيهِ الْخَلْق وَالْخَالِق . وَقِيلَ : الْعَابِدُونَ وَالْمَعْبُودُونَ . وَقِيلَ : الظَّالِم وَالْمَظْلُوم . وَقِيلَ : يَلْقَى كُلّ إِنْسَان جَزَاء عَمَله . وَقِيلَ : يَلْتَقِي الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ عَلَى صَعِيد وَاحِد ; رُوِيَ مَعْنَاهُ عَنْ اِبْن عَبَّاس . وَكُلّه صَحِيح الْمَعْنَى .
يَكُون بَدَلًا مِنْ يَوْم الْأَوَّل . وَقِيلَ : | هُمْ | فِي مَوْضِع رَفْع بِالِابْتِدَاءِ وَ | بَارِزُونَ | خَبَرُهُ وَالْجُمْلَة فِي مَوْضِع خَفْض بِالْإِضَافَةِ ; فَلِذَلِكَ حُذِفَ التَّنْوِينُ مِنْ | يَوْم | وَإِنَّمَا يَكُون هَذَا عِنْد سِيبَوَيْهِ إِذَا كَانَ الظَّرْف بِمَعْنَى إِذْ ; تَقُول لَقِيتُك يَوْم زَيْد أَمِير . فَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى إِذَا لَمْ يَجُزْ نَحْو أَنَا أَلْقَاك يَوْم زَيْد أَمِير . وَمَعْنَى : | بَارِزُونَ | خَارِجُونَ مِنْ قُبُورهمْ لَا يَسْتُرُهُمْ شَيْء ; لِأَنَّ الْأَرْض يَوْمَئِذٍ قَاعٌ صَفْصَفٌ لَا عِوَج فِيهَا وَلَا أَمْتًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي [ طه ] بَيَانُهُ .|لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ|قِيلَ : إِنَّ هَذَا هُوَ الْعَامِل فِي | يَوْم هُمْ بَارِزُونَ | أَيْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْء مِنْهُمْ وَمِنْ أَعْمَالهمْ | يَوْم هُمْ بَارِزُونَ | .|لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ|وَذَلِكَ عِنْد فَنَاء الْخَلْق . وَقَالَ الْحَسَن : هُوَ السَّائِل تَعَالَى وَهُوَ الْمُجِيب ; لِأَنَّهُ يَقُول ذَلِكَ حِين لَا أَحَد يُجِيبُهُ فَيُجِيبُ نَفْسه سُبْحَانَهُ فَيَقُول : | لِلَّهِ الْوَاحِد الْقَهَّار | . النَّحَّاس : وَأَصَحّ مَا قِيلَ فِيهِ مَا رَوَاهُ أَبُو وَائِل عَنْ اِبْن مَسْعُود قَالَ : ( يُحْشَر النَّاس عَلَى أَرْض بَيْضَاء مِثْل الْفِضَّة لَمْ يُعْصَ اللَّه جَلَّ وَعَزَّ عَلَيْهَا , فَيُؤْمَر مُنَادٍ يُنَادِي | لِمَنْ الْمُلْك الْيَوْم | فَيَقُول الْعِبَاد مُؤْمِنهمْ وَكَافِرهمْ | لِلَّهِ الْوَاحِد الْقَهَّار | فَيَقُول الْمُؤْمِنُونَ هَذَا الْجَوَاب | سُرُورًا وَتَلَذُّذًا , وَيَقُولهُ الْكَافِرُونَ غَمًّا وَانْقِيَادًا وَخُضُوعًا . فَأَمَّا أَنْ يَكُون هَذَا وَالْخَلْق غَيْر مَوْجُودِينَ فَبَعِيد ; لِأَنَّهُ لَا فَائِدَة فِيهِ , وَالْقَوْل صَحِيح عَنْ اِبْن مَسْعُود وَلَيْسَ هُوَ مِمَّا يُؤْخَذ بِالْقِيَاسِ وَلَا بِالتَّأْوِيلِ . قُلْت : وَالْقَوْل الْأَوَّل ظَاهِر جِدًّا ; لِأَنَّ الْمَقْصُود إِظْهَار اِنْفِرَاده تَعَالَى بِالْمُلْكِ عِنْد اِنْقِطَاع دَعَاوَى الْمُدَّعِينَ وَانْتِسَاب الْمُنْتَسِبِينَ ; إِذْ قَدْ ذَهَبَ كُلّ مَلِك وَمُلْكه وَمُتَكَبِّر وَمُلْكه وَانْقَطَعَتْ نِسَبُهُمْ وَدَعَاوِيهمْ , وَدَلَّ عَلَى هَذَا قَوْله الْحَقّ عِنْد قَبْض الْأَرْض وَالْأَرْوَاح وَطَيّ السَّمَاء : | أَنَا الْمَلِك أَيْنَ مُلُوك الْأَرْض | كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة وَفِي حَدِيث اِبْن عُمَر , ثُمَّ يَطْوِي الْأَرْض بِشِمَالِهِ وَالسَّمَوَات بِيَمِينِهِ , ثُمَّ يَقُول : أَنَا الْمَلِك أَيْنَ الْجَبَّارُونَ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ . وَعَنْهُ قَوْله سُبْحَانه : | لِمَنْ الْمُلْك الْيَوْم | هُوَ اِنْقِطَاع زَمَن الدُّنْيَا وَبَعْده يَكُون الْبَعْث وَالنَّشْر . قَالَ مُحَمَّد بْن كَعْب قَوْله سُبْحَانه : | لِمَنْ الْمُلْك الْيَوْم | يَكُون بَيْن النَّفْخَتَيْنِ حِين فَنِيَ الْخَلَائِق وَبَقِيَ الْخَالِق فَلَا يَرَى غَيْر نَفْسه مَالِكًا وَلَا مَمْلُوكًا فَيَقُول : | لِمَنْ الْمُلْك الْيَوْم | فَلَا يُجِيبُهُ أَحَد ; لِأَنَّ الْخَلْق أَمْوَات فَيُجِيب نَفْسه فَيَقُول : | لِلَّهِ الْوَاحِد الْقَهَّار | لِأَنَّهُ بَقِيَ وَحْده وَقَهَرَ خَلْقه . وَقِيلَ : إِنَّهُ يُنَادِي مُنَادٍ فَيَقُول : | لِمَنْ الْمُلْك الْيَوْم | فَيُجِيبُهُ أَهْل الْجَنَّة : | لِلَّهِ الْوَاحِد الْقَهَّار | فَاَللَّه أَعْلَم . ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيّ .