islamkingdomfaceBook islamkingdomtwitter islamkingdominstagram islamkingdomyoutube islamkingdomnew

تفسير القرطبى
16214

73-المزمل

يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ

مَكِّيَّة . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَقَتَادَة : إِلَّا آيَتَيْنِ مِنْهَا : | وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ | [ الْمُزَّمِّل : 10 ] وَاَلَّتِي تَلِيهَا ; ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيّ . وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ : قَوْله تَعَالَى : | إِنَّ رَبّك يَعْلَم أَنَّك تَقُوم أَدْنَى | [ الْمُزَّمِّل : 20 ] إِلَى آخِر السُّورَة ; فَإِنَّهُ نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ .</p><p>قَالَ الْأَخْفَش سَعِيد : | الْمُزَّمِّل | أَصْله الْمُتَزَمَّل ; فَأُدْغِمَتْ التَّاء فِي الزَّاي وَكَذَلِكَ | الْمُدَّثِّر | . وَقَرَأَ أُبَيّ بْن كَعْب عَلَى الْأَصْل | الْمُتَزَمَّل | و | الْمُتَدَثِّر | . وَسَعِيد : | الْمُزَّمِّل | . وَفِي أَصْل | الْمُزَّمِّل | قَوْلَانِ : أَحَدهمَا أَنَّهُ الْمُحْتَمِل ; يُقَال : زَمَلَ الشَّيْء إِذَا حَمَلَهُ , وَمِنْهُ الزَّامِلَة ; لِأَنَّهَا تَحْمِل الْقُمَاش . الثَّانِي أَنَّ الْمُزَّمِّل هُوَ الْمُتَلَفِّف ; يُقَال : تَزَمَّلَ وَتَدَثَّرَ بِثَوْبِهِ إِذَا تَغَطَّى . وَزَمَّلَ غَيْره إِذَا غَطَّاهُ , وَكُلّ شَيْء لُفِّفَ فَقَدْ زُمِّلَ وَدُثِّرَ ; قَالَ اِمْرُؤُ الْقَيْس : كَبِير أُنَاس فِي بِجَادٍ مُزَمَّلٍ</p><p>قَوْله تَعَالَى : | يَا أَيّهَا الْمُزَّمِّل | هَذَا خِطَاب لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَفِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال :</p><p>الْأَوَّل قَوْل عِكْرِمَة : | يَا أَيّهَا الْمُزَّمِّل | بِالنُّبُوَّةِ وَالْمُلْتَزِم لِلرِّسَالَةِ . وَعَنْهُ أَيْضًا : يَا أَيّهَا الَّذِي زُمِّلَ هَذَا الْأَمْر أَيْ حَمَلَهُ ثُمَّ فَتَرَ , وَكَانَ يَقْرَأ : | يَا أَيّهَا الْمُزَمَّل | بِتَخْفِيفِ الزَّاي وَفَتْح الْمِيم وَتَشْدِيدهَا عَلَى حَذْف الْمَفْعُول , وَكَذَلِكَ | الْمُدَثَّر | وَالْمَعْنَى الْمُزَمِّل نَفْسه وَالْمُدَثِّر نَفْسه , أَوْ الَّذِي زَمَّلَهُ غَيْره .</p><p>الثَّانِي : | يَا أَيّهَا الْمُزَّمِّل | بِالْقُرْآنِ , قَالَهُ اِبْن عَبَّاس .</p><p>‎الثَّالِث الْمُزَّمِّل بِثِيَابِهِ , قَالَ قَتَادَة وَغَيْره . قَالَ النَّخَعِيّ : كَانَ مُتَزَمِّلًا بِقَطِيفَةٍ . عَائِشَة : بِمِرْطٍ طُوله أَرْبَعَةَ عَشَرَ ذِرَاعًا , نِصْفه عَلَيَّ وَأَنَا نَائِمَة , وَنِصْفه عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلِّي , وَاَللَّه مَا كَانَ خَزًّا وَلَا قَزًّا وَلَا مِرْعِزَاءَ وَلَا إِبْرِيسَمًا وَلَا صُوفًا , كَانَ سَدَاه شَعْرًا , وَلُحْمَته وَبَرًا , ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيّ .</p><p>قُلْت : وَهَذَا الْقَوْل مِنْ عَائِشَة يَدُلّ عَلَى أَنَّ السُّورَة مَدَنِيَّة ; فَإِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَبْنِ بِهَا إِلَّا فِي الْمَدِينَة . وَمَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّهَا مَكِّيَّة لَا يَصِحّ . وَاَللَّه أَعْلَم .</p><p>وَقَالَ الضَّحَّاك : تَزَمَّلَ بِثِيَابِهِ لِمَنَامِهِ . وَقِيلَ : بَلَغَهُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ سُوء قَوْل فِيهِ , فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ فَتَزَمَّلَ فِي ثِيَابه وَتَدَثَّرَ , فَنَزَلَتْ : | يَا أَيّهَا الْمُزَّمِّل | [ الْمُزَّمِّل : 1 ] و | يَا أَيّهَا الْمُدَّثِّر | [ الْمُدَّثِّر : 1 ] .</p><p>وَقِيلَ : كَانَ هَذَا فِي اِبْتِدَاء مَا أَوْحَى إِلَيْهِ , فَإِنَّهُ لَمَّا سَمِعَ قَوْل الْمَلَك وَنَظَرَ إِلَيْهِ أَخَذَتْهُ الرِّعْدَة فَأَتَى أَهْله فَقَالَ : ( زَمِّلُونِي دَثِّرُونِي ) رُوِيَ مَعْنَاهُ عَنْ اِبْن عَبَّاس . وَقَالَتْ الْحُكَمَاء : إِنَّمَا خَاطَبَهُ بِالْمُزَّمِّلِ وَالْمُدَّثِّر فِي أَوَّل الْأَمْر ; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَعْد اِدَّثَرَ شَيْئًا مِنْ تَبْلِيغ الرِّسَالَة .</p><p>قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَاخْتُلِفَ فِي تَأْوِيل : | يَا أَيّهَا الْمُزَّمِّل | فَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى حَقِيقَته , قِيلَ لَهُ : يَا مَنْ تَلَفَّفَ فِي ثِيَابه أَوْ فِي قَطِيفَته قُمْ ; قَالَهُ إِبْرَاهِيم وَقَتَادَة . وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْمَجَاز , كَأَنَّهُ قِيلَ لَهُ : يَا مَنْ تَزَمَّلَ بِالنُّبُوَّةِ ; قَالَهُ عِكْرِمَة . وَإِنَّمَا يَسُوغ هَذَا التَّفْسِير لَوْ كَانَتْ الْمِيم مَفْتُوحَة مُشَدَّدَة بِصِيغَةِ الْمَفْعُول الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِله , وَأَمَّا وَهُوَ بِلَفْظِ الْفَاعِل فَهُوَ بَاطِل . قُلْت : وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهَا عَلَى حَذْف الْمَفْعُول : وَقَدْ قُرِئَ بِهَا , فَهِيَ صَحِيحَة الْمَعْنَى . قَالَ : وَأَمَّا مَنْ قَالَ إِنَّهُ زُمِّلَ الْقُرْآن فَهُوَ صَحِيح فِي الْمَجَاز , لَكِنَّهُ قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ لَا يَحْتَاج إِلَيْهِ .</p><p>قَالَ السُّهَيْلِيّ : لَيْسَ الْمُزَّمِّل بِاسْمٍ مِنْ أَسْمَاء النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَلَمْ يُعْرَف بِهِ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْض النَّاس وَعَدُّوهُ فِي أَسْمَائِهِ عَلَيْهِ السَّلَام , وَإِنَّمَا الْمُزَّمِّل اِسْم مُشْتَقّ مِنْ حَالَته الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا حِينَ الْخِطَاب , وَكَذَلِكَ الْمُدَّثِّر .</p><p>وَفِي خِطَابه بِهَذَا الِاسْم فَائِدَتَانِ :</p><p>إِحْدَاهُمَا الْمُلَاطَفَة ; فَإِنَّ الْعَرَب إِذَا قَصَدَتْ مُلَاطَفَة الْمُخَاطَب وَتَرْك الْمُعَاتَبَة سَمَّوْهُ بِاسْمٍ مُشْتَقّ مِنْ حَالَته الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا ; كَقَوْلِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ حِينَ غَاضَبَ فَاطِمَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا , فَأَتَاهُ وَهُوَ نَائِم وَقَدْ لَصِقَ بِجَنْبِهِ التُّرَاب فَقَالَ لَهُ : ( قُمْ يَا أَبَا تُرَاب ) إِشْعَارًا لَهُ أَنَّهُ غَيْر عَاتِب عَلَيْهِ , وَمُلَاطَفَة لَهُ . وَكَذَلِكَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لِحُذَيْفَة : ( قُمْ يَا نَوْمَان ) وَكَانَ نَائِمًا مُلَاطَفَة لَهُ , وَإِشْعَارًا لِتَرْكِ الْعَتْب وَالتَّأْنِيب . فَقَوْل اللَّه تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : | يَا أَيّهَا الْمُزَّمِّل قُمْ | فِيهِ تَأْنِيس وَمُلَاطَفَة ; لِيَسْتَشْعِر أَنَّهُ غَيْر عَاتِب عَلَيْهِ .</p><p>وَالْفَائِدَة الثَّانِيَة : التَّنْبِيه لِكُلِّ مُتَزَمِّل رَاقِد لَيْله لِيَتَنَبَّه إِلَى قِيَام اللَّيْل وَذِكْر اللَّه تَعَالَى فِيهِ ; لِأَنَّ الِاسْم الْمُشْتَقّ مِنْ الْفِعْل يَشْتَرِك فِيهِ مَعَ الْمُخَاطَب كُلّ مَنْ عَمِلَ ذَلِكَ الْعَمَل وَاتَّصَفَ بِتِلْكَ الصِّفَة .

قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا

قِرَاءَة الْعَامَّة بِكَسْرِ الْمِيم لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ . وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّال بِضَمِّ الْمِيم إِتْبَاعًا لِضَمَّةِ الْقَاف . وَحَكَى الْفَتْح لِخِفَّتِهِ . قَالَ عُثْمَان بْن جِنِّي : الْغَرَض بِهَذِهِ الْحَرَكَة التَّبْلِيغ بِهَا هَرَبًا مِنْ اِلْتِقَاء السَّاكِنَيْنِ , فَبِأَيِّ حَرَكَة تَحَرَّكَتْ فَقَدْ وَقَعَ الْغَرَض . وَهُوَ مِنْ الْأَفْعَال الْقَاصِرَة غَيْر الْمُتَعَدِّيَة إِلَى مَفْعُول , فَأَمَّا ظَرْف الزَّمَان وَالْمَكَان فَسَائِغ فِيهِ , إِلَّا أَنَّ ظَرْف الْمَكَان لَا يَتَعَدَّى إِلَيْهِ إِلَّا بِوَاسِطَةٍ ; لَا تَقُول : قُمْت الدَّار حَتَّى تَقُول قُمْت وَسَط الدَّار وَخَارِج الدَّار . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ | قُمْ | هُنَا مَعْنَاهُ صَلِّ ; عُبِّرَ بِهِ عَنْهُ وَاسْتُعِيرَ لَهُ حَتَّى صَارَ عُرْفًا بِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَال .</p><p>| اللَّيْل | حَدّ اللَّيْل : مِنْ غُرُوب الشَّمْس إِلَى طُلُوع الْفَجْر . وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانه فِي سُورَة | الْبَقَرَة |</p><p>وَاخْتُلِفَ : هَلْ كَانَ قِيَامه فَرْضًا وَحَتْمًا , أَوْ كَانَ نَدْبًا وَحَضًّا ؟ وَالدَّلَائِل تُقَوِّي أَنَّ قِيَامه كَانَ حَتْمًا وَفَرْضًا ; وَذَلِكَ أَنَّ النَّدْب وَالْحَضّ لَا يَقَع عَلَى بَعْض اللَّيْل دُونَ بَعْض ; لِأَنَّ قِيَامه لَيْسَ مَخْصُوصًا بِهِ وَقْتًا دُونَ وَقْت . وَأَيْضًا فَقَدْ جَاءَ التَّوْقِيت بِذَلِكَ عَنْ عَائِشَة وَغَيْرهَا عَلَى مَا يَأْتِي . وَاخْتُلِفَ أَيْضًا : هَلْ كَانَ فَرْضًا عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحْده , أَوْ عَلَيْهِ وَعَلَى مَنْ كَانَ قَبْله مِنْ الْأَنْبِيَاء , أَوْ عَلَيْهِ وَعَلَى أُمَّته ؟ ثَلَاثَة أَقْوَال :</p><p>الْأَوَّل : قَوْل سَعِيد بْن جُبَيْر لِتَوَجُّهِ الْخِطَاب إِلَيْهِ خَاصَّة .</p><p>الثَّانِي : قَوْل اِبْن عَبَّاس , قَالَ : كَانَ قِيَام اللَّيْل فَرِيضَة عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى الْأَنْبِيَاء قَبْله .</p><p>الثَّالِث : قَوْل عَائِشَة وَابْن عَبَّاس أَيْضًا وَهُوَ الصَّحِيح ; كَمَا فِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ زُرَارَةَ بْن أَوْفَى أَنَّ سَعْد بْن هِشَام بْن عَامِر أَرَادَ أَنْ يَغْزُوَ فِي سَبِيل اللَّه . .. الْحَدِيث , وَفِيهِ : فَقُلْت لِعَائِشَة : أَنْبِئِينِي عَنْ قِيَام رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَقَالَتْ : أَلَسْت تَقْرَأ : | يَا أَيّهَا الْمُزَّمِّل | قُلْت : بَلَى ! قَالَتْ فَإِنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ اِفْتَرَضَ قِيَام اللَّيْل فِي أَوَّل هَذِهِ السُّورَة , فَقَامَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابه حَوْلًا , وَأَمْسَكَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ خَاتِمَتهَا اِثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا فِي السَّمَاء , حَتَّى أَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فِي آخِر هَذِهِ السُّورَة التَّخْفِيف , فَصَارَ قِيَام اللَّيْل تَطَوُّعًا بَعْد فَرِيضَة . وَذَكَرَ الْحَدِيث .</p><p>وَذَكَرَ وَكِيع وَيَعْلَى قَالَا : حَدَّثَنَا مِسْعَر عَنْ سِمَاك الْحَنَفِيّ قَالَ : سَمِعْت اِبْن عَبَّاس يَقُول لَمَّا أُنْزِلَ أَوَّل | يَا أَيّهَا الْمُزَّمِّل | [ الْمُزَّمِّل : 1 ] كَانُوا يَقُومُونَ نَحْوًا مِنْ قِيَامهمْ فِي شَهْر رَمَضَان حَتَّى نَزَلَ آخِرهَا , وَكَانَ بَيْنَ أَوَّلهَا وَآخِرهَا نَحْو مِنْ سَنَة .</p><p>وَقَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر : مَكَثَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابه عَشْر سِنِينَ يَقُومُونَ اللَّيْل , فَنَزَلَ بَعْد عَشْر سِنِينَ : | إِنَّ رَبّك يَعْلَم أَنَّك تَقُوم أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيْ اللَّيْل | [ الْمُزَّمِّل : 20 ] فَخَفَّفَ اللَّه عَنْهُمْ .|إِلَّا قَلِيلًا|اِسْتِثْنَاء مِنْ اللَّيْل , أَيْ صَلِّ اللَّيْل كُلّه إِلَّا يَسِيرًا مِنْهُ ; لِأَنَّ قِيَام جَمِيعه عَلَى الدَّوَام غَيْر مُمْكِن , فَاسْتَثْنَى مِنْهُ الْقَلِيل لِرَاحَةِ الْجَسَد . وَالْقَلِيل مِنْ الشَّيْء مَا دُون النِّصْف ; فَحُكِيَ عَنْ وَهْب بْن مُنَبِّه أَنَّهُ قَالَ : الْقَلِيل مَا دُونَ الْمِعْشَار وَالسُّدُس . وَقَالَ الْكَلْبِيّ وَمُقَاتِل : الثُّلُث .

نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا

فَكَانَ ذَلِكَ تَخْفِيفًا إِذْ لَمْ يَكُنْ زَمَان الْقِيَام مَحْدُودًا , فَقَامَ النَّاس حَتَّى وَرَمَتْ أَقْدَامهمْ , ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : | عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ | [ الْمُزَّمِّل : 20 ] .</p><p>وَقَالَ الْأَخْفَش : | نِصْفه | أَيْ أَوْ نِصْفه ; يُقَال : أَعْطِهِ دِرْهَمًا دِرْهَمَيْنِ ثَلَاثَة : يُرِيد : أَوْ دِرْهَمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَة .</p><p>‎وَقَالَ الزَّجَّاج : | نِصْفه | بَدَل مِنْ اللَّيْل و | إِلَّا قَلِيلًا | اِسْتِثْنَاء مِنْ النِّصْف . وَالضَّمِير فِي | مِنْهُ | و | عَلَيْهِ | لِلنِّصْفِ . الْمَعْنَى : قُمْ نِصْف اللَّيْل أَوْ اُنْقُصْ مِنْ النِّصْف قَلِيلًا إِلَى الثُّلُث أَوْ زِدْ عَلَيْهِ قَلِيلًا إِلَى الثُّلُثَيْنِ ; فَكَأَنَّهُ قَالَ : قُمْ ثُلُثَيْ اللَّيْل أَوْ نِصْفه أَوْ ثُلُثه .</p><p>وَقِيلَ : إِنَّ | نِصْفه | بَدَل مِنْ قَوْله : | قَلِيلًا | وَكَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ ثَلَاث : بَيْنَ قِيَام النِّصْف بِتَمَامِهِ , وَبَيْنَ النَّاقِص مِنْهُ , وَبَيْنَ قِيَام الزَّائِد عَلَيْهِ ; كَأَنَّ تَقْدِير الْكَلَام : قُمْ اللَّيْل إِلَّا نِصْفه , أَوْ أَقَلّ مِنْ نِصْفه , أَوْ أَكْثَر مِنْ نِصْفه .</p><p>‎وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( يَنْزِل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ إِلَى سَمَاء الدُّنْيَا كُلّ لَيْلَة حِينَ يَمْضِي ثُلُث اللَّيْل الْأَوَّل , فَيَقُول أَنَا الْمَلِك أَنَا الْمَلِك مَنْ ذَا الَّذِي يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيب لَهُ مَنْ ذَا الَّذِي يَسْأَلنِي فَأُعْطِيه مَنْ ذَا الَّذِي يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِر لَهُ , فَلَا يَزَال كَذَلِكَ حَتَّى يُضِيء الْفَجْر ) . وَنَحْوه عَنْ أَبِي هُرَيْرَة وَأَبِي سَعِيد جَمِيعًا وَهُوَ يَدُلّ عَلَى تَرْغِيب قِيَام ثُلُثَيْ اللَّيْل .</p><p>وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِذَا مَضَى شَطْر اللَّيْل - أَوْ ثُلُثَاهُ - يَنْزِل اللَّه . .. ) الْحَدِيث . رَوَاهُ مِنْ طَرِيقَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة هَكَذَا عَلَى الشَّكّ .</p><p>وَقَدْ جَاءَ فِي كِتَاب النَّسَائِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة وَأَبِي سَعِيد رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا قَالَا : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ يُمْهِل حَتَّى يَمْضِيَ شَطْر اللَّيْل الْأَوَّل , ثُمَّ يَأْمُر مُنَادِيًا يَقُول : هَلْ مِنْ دَاعٍ يُسْتَجَاب لَهُ ؟ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِر يُغْفَر لَهُ ؟ هَلْ مِنْ سَائِل يُعْطَى ؟ ) صَحَّحَهُ أَبُو مُحَمَّد عَبْد الْحَقّ ; فَبَيَّنَ هَذَا الْحَدِيث مَعَ صِحَّته مَعْنَى النُّزُول , وَأَنَّ ذَلِكَ يَكُون عِنْد نِصْف اللَّيْل . وَخَرَّجَ اِبْن مَاجَهْ مِنْ حَدِيث اِبْن شِهَاب , عَنْ أَبِي سَلَمَة وَأَبِي عَبْد اللَّه الْأَغَرّ , عَنْ أَبِي هُرَيْرَة : أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( يَنْزِل رَبّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى حِينَ يَبْقَى ثُلُث اللَّيْل الْآخِر كُلّ لَيْلَة فَيَقُول مَنْ يَسْأَلنِي فَأُعْطِيه ؟ مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيب لَهُ ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرنِي فَأَغْفِر لَهُ ؟ حَتَّى يَطْلُع الْفَجْر ) . فَكَانُوا يَسْتَحِبُّونَ صَلَاة آخِر اللَّيْل عَلَى أَوَّلِهِ .</p><p>قَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَبِهَذَا التَّرْتِيب اِنْتَظَمَ الْحَدِيث وَالْقُرْآن , فَإِنَّهُمَا يُبْصَرَانِ مِنْ مِشْكَاة وَاحِدَة . وَفِي الْمُوَطَّأ وَغَيْره مِنْ حَدِيث اِبْن عَبَّاس : بِتّ عِنْد خَالَتِي مَيْمُونَة حَتَّى إِذَا اِنْتَصَفَ اللَّيْل أَوْ قَبْله بِقَلِيلٍ أَوْ بَعْده بِقَلِيلٍ , اِسْتَيْقَظَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَقَامَ إِلَى شَنّ مُعَلَّق فَتَوَضَّأَ وُضُوءًا خَفِيفًا . وَذَكَرَ الْحَدِيث .</p><p>‎اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي النَّاسِخ لِلْأَمْرِ بِقِيَامِ اللَّيْل ; فَعَنْ اِبْن عَبَّاس وَعَائِشَة أَنَّ النَّاسِخ لِلْأَمْرِ بِقِيَامِ اللَّيْل قَوْله تَعَالَى : | إِنَّ رَبّك يَعْلَم أَنَّك تَقُوم أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيْ اللَّيْل | [ الْمُزَّمِّل : 20 ] إِلَى آخِر السُّورَة . وَقِيلَ قَوْله تَعَالَى : | عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ | [ الْمُزَّمِّل : 20 ] .</p><p>وَعَنْ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا : هُوَ مَنْسُوخ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : | عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى | [ الْمُزَّمِّل : 20 ] .</p><p>وَعَنْ عَائِشَة أَيْضًا وَالشَّافِعِيّ وَمُقَاتِل وَابْن كَيْسَان : هُوَ مَنْسُوخ بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْس .</p><p>وَقِيلَ النَّاسِخ لِذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : | فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ | [ الْمُزَّمِّل : 20 ] . قَالَ أَبُو عَبْد الرَّحْمَن السُّلَمِيّ : لَمَّا نَزَلَتْ : | يَا أَيّهَا الْمُزَّمِّل | قَامُوا حَتَّى وَرَمَتْ أَقْدَامهمْ وَسُوقهمْ , ثُمَّ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى : | فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ | [ الْمُزَّمِّل : 20 ] .</p><p>قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء : وَهُوَ فَرْض نُسِخَ بِهِ فَرْض , كَانَ عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّة لِفَضْلِهِ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى : | وَمِنْ اللَّيْل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَة لَك | [ الْإِسْرَاء : 79 ] .</p><p>قُلْت : الْقَوْل الْأَوَّل يَعُمّ جَمِيع هَذِهِ الْأَقْوَال , وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : | وَأَقِيمُوا الصَّلَاة | [ الْمُزَّمِّل : 20 ] فَدَخَلَ فِيهَا قَوْل مَنْ قَالَ إِنَّ النَّاسِخ الصَّلَوَات الْخَمْس .</p><p>وَقَدْ ذَهَبَ الْحَسَن وَابْن سِيرِينَ إِلَى أَنَّ صَلَاة اللَّيْل فَرِيضَة عَلَى كُلّ مُسْلِم وَلَوْ عَلَى قَدْر حَلْب شَاة . وَعَنْ الْحَسَن أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَة : الْحَمْد لِلَّهِ تَطَوُّع بَعْد الْفَرِيضَة . وَهُوَ الصَّحِيح إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى ; لِمَا جَاءَ فِي قِيَامه مِنْ التَّرْغِيب وَالْفَضْل فِي الْقُرْآن وَالسُّنَّة .</p><p>وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا قَالَتْ : كُنْت أَجْعَل لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَصِيرًا يُصَلِّي عَلَيْهِ مِنْ اللَّيْل , فَتَسَامَعَ النَّاس بِهِ , فَلَمَّا رَأَى جَمَاعَتهمْ كَرِهَ ذَلِكَ , وَخَشِيَ أَنْ يُكْتَب عَلَيْهِمْ قِيَام اللَّيْل , فَدَخَلَ الْبَيْت كَالْمُغْضَبِ , فَجَعَلُوا يَتَنَحْنَحُونَ وَيَتْفُلُونَ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ : ( أَيّهَا النَّاس اِكْلَفُوا مِنْ الْأَعْمَال مَا تُطِيقُونَ , فَإِنَّ اللَّه لَا يَمَلّ مِنْ الثَّوَاب , حَتَّى تَمَلُّوا مِنْ الْعَمَل , وَإِنَّ خَيْر الْعَمَل أَدْوَمه وَإِنْ قَلَّ ) . فَنَزَلَتْ : | يَا أَيّهَا الْمُزَّمِّل | فَكُتِبَ عَلَيْهِمْ , فَأُنْزِلَ بِمَنْزِلَةِ الْفَرِيضَة , حَتَّى إِنْ كَانَ أَحَدهمْ لَيَرْبِط الْحَبْل فَيَتَعَلَّق بِهِ , فَمَكَثُوا ثَمَانِيَة أَشْهُر , فَرَحِمَهُمْ اللَّه وَأَنْزَلَ : | إِنَّ رَبّك يَعْلَم أَنَّك تَقُوم أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيْ اللَّيْل | [ الْمُزَّمِّل : 20 ] فَرَدَّهُمْ اللَّه إِلَى الْفَرِيضَة , وَوَضَعَ عَنْهُمْ قِيَام اللَّيْل إِلَّا مَا تَطَوَّعُوا بِهِ . قُلْت : حَدِيث عَائِشَة هَذَا ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيّ , وَمَعْنَاهُ ثَابِت فِي الصَّحِيح إِلَى قَوْله : ( وَإِنْ قَلَّ ) وَبَاقِيه يَدُلّ عَلَى أَنَّ قَوْله تَعَالَى : | يَا أَيّهَا الْمُزَّمِّل | نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ وَأَنَّهُمْ مَكَثُوا ثَمَانِيَة أَشْهُر يَقُومُونَ . وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْهَا فِي صَحِيح مُسْلِم : حَوْلًا . وَحَكَى الْمَاوَرْدِيّ عَنْهَا قَوْلًا ثَالِثًا وَهُوَ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا , لَمْ يَذْكُر غَيْره عَنْهَا .</p><p>وَذُكِرَ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ أَوَّل الْمُزَّمِّل وَآخِرهَا سَنَة ; قَالَ : فَأَمَّا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ كَانَ فَرْضًا عَلَيْهِ .</p><p>وَفِي نُسْخَة عَنْهُ قَوْلَانِ : أَحَدهمَا أَنَّهُ كَانَ فَرَضَهُ عَلَيْهِ إِلَى أَنْ قَبَضَهُ اللَّه تَعَالَى . الثَّانِي أَنَّهُ نُسِخَ عَنْهُ كَمَا نُسِخَ عَنْ أُمَّته . وَفِي مُدَّة فَرْضه إِلَى أَنْ نُسِخَ قَوْلَانِ : أَحَدهمَا : الْمُدَّة الْمَفْرُوضَة عَلَى أُمَّته فِي الْقَوْلَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ , يُرِيد قَوْل اِبْن عَبَّاس حَوْلًا , وَقَوْل عَائِشَة سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا . الثَّانِي : أَنَّهَا عَشْر سِنِينَ إِلَى أَنْ خُفِّفَ عَنْهُ بِالنَّسْخِ زِيَادَة فِي التَّكْلِيف , لِيُمَيِّزهُ بِفِعْلِ الرِّسَالَة ; قَالَهُ اِبْن جُبَيْر . قُلْت : هَذَا خِلَاف مَا ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيّ عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر حَسْب مَا تَقَدَّمَ فَتَأَمَّلْهُ .</p><p>وَسَيَأْتِي لِهَذِهِ الْمَسْأَلَة زِيَادَة بَيَان فِي آخِر السُّورَة إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .

أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا

أَيْ لَا تَعْجَل بِقِرَاءَةِ الْقُرْآن بَلْ اقْرَأْهُ فِي مَهَل وَبَيَان مَعَ تَدَبُّر الْمَعَانِي . وَقَالَ الضَّحَّاك : اِقْرَأْهُ حَرْفًا حَرْفًا .</p><p>وَقَالَ مُجَاهِد : أَحَبّ النَّاس فِي الْقِرَاءَة إِلَى اللَّه أَعْقَلهمْ عَنْهُ .</p><p>وَالتَّرْتِيل التَّنْضِيد وَالتَّنْسِيق وَحُسْن النِّظَام ; وَمِنْهُ ثَغْر رَتَل وَرَتِل , بِكَسْرِ الْعَيْن وَفَتْحهَا : إِذَا كَانَ حَسَن التَّنْضِيد . وَتَقَدَّمَ بَيَانه فِي مُقَدِّمَة الْكِتَاب .</p><p>وَرَوَى الْحَسَن أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , مَرَّ بِرَجُلٍ يَقْرَأ آيَة وَيَبْكِي , فَقَالَ : ( أَلَمْ تَسْمَعُوا إِلَى قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : | وَرَتِّلْ الْقُرْآن تَرْتِيلًا | هَذَا التَّرْتِيل ) . وَسَمِعَ عَلْقَمَة رَجُلًا يَقْرَأ قِرَاءَة حَسَنَة فَقَالَ : لَقَدْ رَتَّلَ الْقُرْآن , فِدَاهُ أَبِي وَأُمِّي , وَقَالَ أَبُو بَكْر بْن طَاهِر : تَدَبَّرْ فِي لَطَائِف خِطَابه , وَطَالِبْ نَفْسك بِالْقِيَامِ بِأَحْكَامِهِ , وَقَلْبك بِفَهْمِ مَعَانِيه , وَسِرّك بِالْإِقْبَالِ عَلَيْهِ .</p><p>وَرَوَى عَبْد اللَّه بْن عَمْرو قَالَ : قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يُؤْتَى بِقَارِئِ الْقُرْآن يَوْم الْقِيَامَة , فَيُوقَف فِي أَوَّل دَرَج الْجَنَّة وَيُقَال لَهُ اقْرَأ وَارْتَقِ وَرَتِّلْ كَمَا كُنْت تُرَتِّل فِي الدُّنْيَا , فَإِنَّ مَنْزِلَك عِنْد آخِر آيَة تَقْرَؤُهَا ) خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّل الْكِتَاب .</p><p>وَرَوَى أَنَس أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَمُدّ صَوْته بِالْقِرَاءَةِ مَدًّا .

إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا

هُوَ مُتَّصِل بِمَا فُرِضَ مِنْ قِيَام اللَّيْل , أَيْ سَنُلْقِي عَلَيْك بِافْتِرَاضِ صَلَاة اللَّيْل قَوْلًا ثَقِيلًا يَثْقُل حَمْله ; لِأَنَّ اللَّيْل لِلْمَنَامِ , فَمَنْ أُمِرَ بِقِيَامِ أَكْثَره لَمْ يَتَهَيَّأ لَهُ ذَلِكَ إِلَّا بِحَمْلٍ شَدِيد عَلَى النَّفْس وَمُجَاهَدَة لِلشَّيْطَانِ , فَهُوَ أَمْر يَثْقُل عَلَى الْعَبْد .</p><p>وَقِيلَ : إِنَّا سَنُوحِي إِلَيْك الْقُرْآن , وَهُوَ قَوْل ثَقِيل يَثْقُل الْعَمَل بِشَرَائِعِهِ .</p><p>قَالَ قَتَادَة : ثَقِيل وَاَللَّه فَرَائِضه وَحُدُوده . مُجَاهِد : حَلَاله وَحَرَامه . الْحَسَن : الْعَمَل بِهِ .</p><p>أَبُو الْعَالِيَة : ثَقِيلًا بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيد وَالْحَلَال وَالْحَرَام . مُحَمَّد بْن كَعْب : ثَقِيلًا عَلَى الْمُنَافِقِينَ . وَقِيلَ : عَلَى الْكُفَّار ; لِمَا فِيهِ مِنْ الِاحْتِجَاج عَلَيْهِمْ , وَالْبَيَان لِضَلَالَتِهِمْ وَسَبّ آلِهَتهمْ , وَالْكَشْف عَمَّا حَرَّفَهُ أَهْل الْكِتَاب .</p><p>السُّدِّيّ : ثَقِيل بِمَعْنَى كَرِيم ; مَأْخُوذ مِنْ قَوْلهمْ : فُلَان ثَقِيل عَلَيَّ , أَيْ يَكْرُم عَلَيَّ .</p><p>الْفَرَّاء : | ثَقِيلًا | رَزِينًا لَيْسَ بِالْخَفِيفِ السَّفْسَاف لِأَنَّهُ كَلَام رَبّنَا . وَقَالَ الْحُسَيْن بْن الْفَضْل : ثَقِيلًا لَا يَحْمِلهُ إِلَّا قَلْب مُؤَيَّد بِالتَّوْفِيقِ , وَنَفْس مُزَيَّنَة بِالتَّوْحِيدِ .</p><p>وَقَالَ اِبْن زَيْد : هُوَ وَاَللَّه ثَقِيل مُبَارَك , كَمَا ثَقُلَ فِي الدُّنْيَا يَثْقُل فِي الْمِيزَان يَوْم الْقِيَامَة .</p><p>وَقِيلَ : | ثَقِيلًا | أَيْ ثَابِتًا كَثُبُوتِ الثَّقِيل فِي مَحَلّه , وَيَكُون مَعْنَاهُ أَنَّهُ ثَابِت الْإِعْجَاز , لَا يَزُول إِعْجَازه أَبَدًا . وَقِيلَ : هُوَ الْقُرْآن نَفْسه ; كَمَا جَاءَ فِي الْخَبَر : إِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أُوحِيَ إِلَيْهِ وَهُوَ عَلَى نَاقَته وَضَعَتْ جِرَانهَا - يَعْنِي صَدْرهَا - عَلَى الْأَرْض , فَمَا تَسْتَطِيع أَنْ تَتَحَرَّك حَتَّى يُسَرَّى عَنْهُ .</p><p>وَفِي الْمُوَطَّأ وَغَيْره أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام سُئِلَ : كَيْفَ يَأْتِيك الْوَحْي ؟ فَقَالَ : ( أَحْيَانًا يَأْتِينِي مِثْل صَلْصَلَة الْجَرَس , وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ , فَيَفْصِم عَنِّي وَقَدْ وَعَيْت مَا قَالَ , وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّل لِي الْمَلَك رَجُلًا فَيُكَلِّمنِي فَأَعِي مَا يَقُول ) . قَالَتْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا : وَلَقَدْ رَأَيْته يَنْزِل عَلَيْهِ الْوَحْي فِي الْيَوْم الشَّدِيد الْبَرْد , فَيَفْصِم عَنْهُ وَإِنَّ جَبِينه لَيَتَفَصَّد عَرَقًا .</p><p>قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهَذَا أَوْلَى ; لِأَنَّهُ الْحَقِيقَة , وَقَدْ جَاءَ : | وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّين مِنْ حَرَج | [ الْحَجّ : 78 ] . وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام : | بُعِثْت بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَة | . وَقِيلَ : الْقَوْل فِي هَذِهِ السُّورَة : هُوَ قَوْل لَا إِلَه إِلَّا اللَّه ; إِذْ فِي الْخَبَر : خَفِيفَة عَلَى اللِّسَان ثَقِيلَة فِي الْمِيزَان ; ذَكَرَهُ الْقُشَيْرِيّ .

إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا

قَالَ الْعُلَمَاء : نَاشِئَة اللَّيْل أَيْ أَوْقَاته وَسَاعَاته , لِأَنَّ أَوْقَاته تَنْشَأ أَوَّلًا فَأَوَّلًا ; يُقَال : نَشَأَ الشَّيْء يَنْشَأ : إِذَا اِبْتَدَأَ وَأَقْبَلَ شَيْئًا بَعْد شَيْء , فَهُوَ نَاشِئ وَأَنْشَأَهُ اللَّه فَنَشَأَ , وَمِنْهُ نَشَأَتْ السَّحَابَة إِذَا بَدَأَتْ وَأَنْشَأَهَا اللَّه ; فَنَاشِئَة : فَاعِلَة مِنْ نَشَأَتْ تَنْشَأ فَهِيَ نَاشِئَة , وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : | أَوَمَنْ يُنَشَّأ فِي الْحِلْيَة وَهُوَ فِي الْخِصَام غَيْر مُبِين | [ الزُّخْرُف : 18 ] وَالْمُرَاد إِنَّ سَاعَات اللَّيْل النَّاشِئَة , فَاكْتَفَى بِالْوَصْفِ عَنْ الِاسْم , فَالتَّأْنِيث لِلَفْظِ سَاعَة , لِأَنَّ كُلّ سَاعَة تَحْدُث . وَقِيلَ : النَّاشِئَة مَصْدَر بِمَعْنَى ( قِيَام اللَّيْل ) كَالْخَاطِئَةِ وَالْكَاذِبَة ; أَيْ إِنَّ نَشْأَة اللَّيْل هِيَ أَشَدّ وَطْئًا . وَقِيلَ : إِنَّ نَاشِئَة اللَّيْل قِيَام اللَّيْل . قَالَ اِبْن مَسْعُود : الْحَبَشَة يَقُولُونَ : نَشَأَ أَيْ قَامَ , فَلَعَلَّهُ أَرَادَ أَنَّ الْكَلِمَة عَرَبِيَّة , وَلَكِنَّهَا شَائِعَة فِي كَلَام الْحَبَشَة , غَالِبَة عَلَيْهِمْ , وَإِلَّا فَلَيْسَ فِي الْقُرْآن مَا لَيْسَ فِي لُغَة الْعَرَب . وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَان هَذَا فِي مُقَدِّمَة الْكِتَاب مُسْتَوْفًى .</p><p>‎بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَة فَضْل صَلَاة اللَّيْل عَلَى صَلَاة النَّهَار , وَأَنَّ الِاسْتِكْثَار مِنْ صَلَاة اللَّيْل بِالْقِرَاءَةِ فِيهَا مَا أَمْكَنَ , أَعْظَم لِلْأَجْرِ , وَأَجْلَب لِلثَّوَابِ . وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْمُرَاد بِنَاشِئَةِ اللَّيْل ; فَقَالَ اِبْن عُمَر وَأَنَس بْن مَالِك : هُوَ مَا بَيْنَ الْمَغْرِب وَالْعِشَاء , تَمَسُّكًا بِأَنَّ لَفْظ نَشَأَ يُعْطِي الِابْتِدَاء , فَكَانَ بِالْأَوَّلِيَّةِ أَحَقّ ; وَمِنْهُ قَوْل الشَّاعِر : <br>وَلَوْلَا أَنْ يُقَال صَبَا نُصَيْبٌ .......... لَقُلْت بِنَفْسِيَ النَّشَأُ الصِّغَارُ <br>وَكَانَ عَلِيّ بْن الْحُسَيْن يُصَلِّي بَيْنَ الْمَغْرِب وَالْعِشَاء وَيَقُول : هَذَا نَاشِئَة اللَّيْل . وَقَالَ عَطَاء وَعِكْرِمَة : إِنَّهُ بَدْء اللَّيْل . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَمُجَاهِد وَغَيْرهمَا : هِيَ اللَّيْل كُلّه ; لِأَنَّهُ يَنْشَأ بَعْد النَّهَار , وَهُوَ الَّذِي اِخْتَارَهُ مَالِك بْن أَنَس . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهُوَ الَّذِي يُعْطِيه اللَّفْظ وَتَقْتَضِيه اللُّغَة .</p><p>وَقَالَتْ عَائِشَة وَابْن عَبَّاس أَيْضًا وَمُجَاهِد : إِنَّمَا النَّاشِئَة الْقِيَام بِاللَّيْلِ بَعْد النَّوْم . وَمَنْ قَامَ أَوَّل اللَّيْل قَبْل النَّوْم فَمَا قَامَ نَاشِئَة . فَقَالَ يَمَان وَابْن كَيْسَان : هُوَ الْقِيَام مِنْ آخِر اللَّيْل . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : كَانَتْ صَلَاتهمْ أَوَّل اللَّيْل . وَذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَان إِذَا نَامَ لَا يَدْرِي مَتَى يَسْتَيْقِظ .</p><p>وَفِي الصِّحَاح : وَنَاشِئَة اللَّيْل أَوَّل سَاعَاته . وَقَالَ الْقُتَبِيّ : إِنَّهُ سَاعَات اللَّيْل ; لِأَنَّهَا تَنْشَأ سَاعَة بَعْد سَاعَة . وَعَنْ الْحَسَن وَمُجَاهِد : هِيَ مَا بَعْد الْعِشَاء الْآخِرَة إِلَى الصُّبْح . وَعَنْ الْحَسَن أَيْضًا : مَا كَانَ بَعْدَ الْعِشَاء فَهُوَ نَاشِئَة . وَيُقَال : مَا يَنْشَأ فِي اللَّيْل مِنْ الطَّاعَات ; حَكَاهُ الْجَوْهَرِيّ .|هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا|قَرَأَ أَبُو الْعَالِيَة وَأَبُو عَمْرو وَابْن أَبِي إِسْحَاق وَمُجَاهِد وَحُمَيْد وَابْن مُحَيْصِن وَابْن عَامِر وَالْمُغِيرَة وَأَبُو حَيْوَةَ | وِطَاء | بِكَسْرِ الْوَاو وَفَتْح الطَّاء وَالْمَدّ , وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْد . الْبَاقُونَ | وَطْئًا | بِفَتْحِ الْوَاو وَسُكُون الطَّاء مَقْصُورَة , وَاخْتَارَهُ أَبُو حَاتِم ; مِنْ قَوْلِك : اِشْتَدَّتْ عَلَى الْقَوْم وَطْأَة سُلْطَانهمْ . أَيْ ثَقُلَ عَلَيْهِمْ مَا حَمَّلَهُمْ مِنْ الْمُؤَن , وَمِنْهُ قَوْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( اللَّهُمَّ اُشْدُدْ وَطْأَتك عَلَى مُضَر ) فَالْمَعْنَى أَنَّهَا أَثْقَل عَلَى الْمُصَلِّي مِنْ سَاعَات النَّهَار . وَذَلِكَ أَنَّ اللَّيْل وَقْت مَنَام وَتَوَدُّع وَإِجْمَام , فَمَنْ شَغَلَهُ بِالْعِبَادَةِ فَقَدْ تَحَمَّلَ الْمَشَقَّة الْعَظِيمَة . وَمَنْ مَدَّ فَهُوَ مَصْدَر وَاطَأْت وِطَاء وَمُوَاطَأَة أَيْ وَافَقْته . اِبْن زَيْد وَاطَأْته عَلَى الْأَمْر مُوَاطَأَة : إِذَا وَافَقْته مِنْ الْوِفَاق , وَفُلَان يُوَاطِئ اِسْمه اِسْمِي , وَتَوَاطَئُوا عَلَيْهِ أَيْ تَوَافَقُوا ; فَالْمَعْنَى أَشَدّ مُوَافَقَة بَيْنَ الْقَلْب وَالْبَصَر وَالسَّمْع وَاللِّسَان ; لِانْقِطَاعِ الْأَصْوَات وَالْحَرَكَات ; قَالَهُ مُجَاهِد وَابْن أَبِي مُلَيْكَة وَغَيْرهمَا . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس بِمَعْنَاهُ , أَيْ يُوَاطِئ السَّمْع الْقَلْب ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : | لِيُوَاطِئُوا عِدَّة مَا حَرَّمَ اللَّه | [ التَّوْبَة : 37 ] أَيْ لِيُوَافِقُوا . وَقِيلَ : الْمَعْنَى أَشَدّ مِهَادًا لِلتَّصَرُّفِ فِي التَّفَكُّر وَالتَّدَبُّر . وَالْوِطَاء خِلَاف الْغِطَاء . وَقِيلَ : | أَشَدّ وَطْئًا | بِسُكُونِ الطَّاء وَفَتْح الْوَاو أَيْ أَشَدّ ثَبَاتًا مِنْ النَّهَار ; فَإِنَّ اللَّيْل يَخْلُو فِيهِ الْإِنْسَان بِمَا يَعْمَلهُ , فَيَكُون ذَلِكَ أَثْبَت لِلْعَمَلِ وَأَتْقَى لِمَا يُلْهِي وَيُشْغِل الْقَلْب . وَالْوَطْء الثَّبَات , تَقُول : وَطِئْت الْأَرْض بِقَدَمِي . وَقَالَ الْأَخْفَش : أَشَدّ قِيَامًا . الْفَرَّاء : أَثْبَت قِرَاءَة وَقِيَامًا . وَعَنْهُ : | أَشَدّ وَطْئًا | أَيْ أَثْبَت لِلْعَمَلِ وَأَدْوَم لِمَنْ أَرَادَ الِاسْتِكْثَار مِنْ الْعِبَادَة , وَاللَّيْل وَقْت فَرَاغ عَنْ اِشْتِغَال الْمَعَاش , فَعِبَادَته تَدُوم وَلَا تَنْقَطِع .</p><p>وَقَالَ الْكَلْبِيّ : | أَشَدّ وَطْئًا | أَيْ أَشَدّ نَشَاطًا لِلْمُصَلِّي ; لِأَنَّهُ فِي زَمَان رَاحَته . وَقَالَ عُبَادَة : | أَشَدّ وَطْئًا | أَيْ نَشَاطًا لِلْمُصَلِّي وَأَخَفّ , وَأَثْبَت لِلْقِرَاءَةِ .|وَأَقْوَمُ قِيلًا|أَيْ الْقِرَاءَة بِاللَّيْلِ أَقَوْم مِنْهَا بِالنَّهَارِ ; أَيْ أَشَدّ اِسْتِقَامَة وَاسْتِمْرَارًا عَلَى الصَّوَاب ; لِأَنَّ الْأَصْوَات هَادِئَة , وَالدُّنْيَا سَاكِنَة , فَلَا يَضْطَرِب عَلَى الْمُصَلِّي مَا يَقْرَؤُهُ .</p><p>قَالَ قَتَادَة وَمُجَاهِد : أَيْ أَصْوَب لِلْقِرَاءَةِ وَأَثْبَت لِلْقَوْلِ ; لِأَنَّهُ زَمَان التَّفَهُّم . وَقَالَ أَبُو عَلِيّ : | أَقَوْم قِيلًا | أَيْ أَشَدّ اِسْتِقَامَة لِفَرَاغِ الْبَال بِاللَّيْلِ . وَقِيلَ : أَيْ أَعْجَل إِجَابَة لِلدُّعَاءِ . حَكَاهُ اِبْن شَجَرَة . وَقَالَ عِكْرِمَة : عِبَادَة اللَّيْل أَتَمّ نَشَاطًا , وَأَتَمّ إِخْلَاصًا , وَأَكْثَر بَرَكَة . وَعَنْ زَيْد بْن أَسْلَمَ : أَجْدَر أَنْ يَتَفَقَّه فِي الْقُرْآن .</p><p>وَعَنْ الْأَعْمَش قَالَ : قَرَأَ أَنَس بْن مَالِك | إِنَّ نَاشِئَة اللَّيْل هِيَ أَشَدّ وَطْئًا وَأَصْوَب قِيلًا | فَقِيلَ لَهُ : | وَأَقْوَم قِيلًا | فَقَالَ : أَقَوْم وَأَصْوَب وَأَهْيَأُ : سَوَاء . قَالَ أَبُو بَكْر الْأَنْبَارِيّ : وَقَدْ تَرَامَى بِبَعْضِ هَؤُلَاءِ الزَّائِغِينَ إِلَى أَنْ قَالَ : مَنْ قَرَأَ بِحَرْفٍ يُوَافِق مَعْنَى حَرْف مِنْ الْقُرْآن فَهُوَ مُصِيب , إِذَا لَمْ يُخَالِف مَعْنًى وَلَمْ يَأْتِ بِغَيْرِ مَا أَرَادَ اللَّه وَقَصَدَ لَهُ , وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ أَنَس هَذَا . وَهُوَ قَوْل لَا يُعَرَّج عَلَيْهِ وَلَا يُلْتَفَت إِلَى قَائِله ; لِأَنَّهُ لَوْ قَرَأَ بِأَلْفَاظٍ تُخَالِف أَلْفَاظ الْقُرْآن إِذَا قَارَبَتْ مَعَانِيهَا وَاشْتَمَلَتْ عَلَى عَامَّتهَا , لَجَازَ أَنْ يَقْرَأ فِي مَوْضِع | الْحَمْد لِلَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ | [ الْفَاتِحَة : 2 ] : الشُّكْر لِلْبَارِي مَلِك الْمَخْلُوقِينَ , وَيَتَّسِع الْأَمْر فِي هَذَا حَتَّى يُبْطِل لَفْظ جَمِيع الْقُرْآن , وَيَكُون التَّالِي لَهُ مُفْتَرِيًا عَلَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ , كَاذِبًا عَلَى رَسُوله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا حُجَّة لَهُمْ فِي قَوْل اِبْن مَسْعُود : نَزَلَ الْقُرْآن عَلَى سَبْعَة أَحْرُف , إِنَّمَا هُوَ كَقَوْلِ أَحَدكُمْ : هَلُمَّ وَتَعَالَ وَأَقْبِلْ ; لِأَنَّ هَذَا الْحَدِيث يُوجِب أَنَّ الْقِرَاءَات الْمَأْثُورَة الْمَنْقُولَة بِالْأَسَانِيدِ الصِّحَاح عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اِخْتَلَفَتْ أَلْفَاظهَا , وَاتَّفَقَتْ مَعَانِيهَا , كَانَ ذَلِكَ فِيهَا بِمَنْزِلَةِ الْخِلَاف فِي هَلُمَّ , وَتَعَالَ , وَأَقْبِلْ , فَأَمَّا مَا لَمْ يَقْرَأ بِهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابه وَتَابِعُوهُمْ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ , فَإِنَّهُ مَنْ أَوْرَدَ حَرْفًا مِنْهُ فِي الْقُرْآن بَهُتَ وَمَالَ وَخَرَجَ مِنْ مَذْهَب الصَّوَاب . قَالَ أَبُو بَكْر : وَالْحَدِيث الَّذِي جَعَلُوهُ قَاعِدَتهمْ فِي هَذِهِ الضَّلَالَة حَدِيث لَا يَصِحّ عَنْ أَحَد مِنْ أَهْل الْعِلْم ; لِأَنَّهُ مَبْنِيّ عَلَى رِوَايَة الْأَعْمَش عَنْ أَنَس , فَهُوَ مَقْطُوع لَيْسَ بِمُتَّصِلٍ فَيُؤْخَذ بِهِ مِنْ قِبَل أَنَّ الْأَعْمَش رَأَى أَنَسًا وَلَمْ يَسْمَع مِنْهُ .

إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا

قِرَاءَة الْعَامَّة بِالْحَاءِ غَيْر مُعْجَمَة ; أَيْ تَصَرُّفًا فِي حَوَائِجك , وَإِقْبَالًا وَإِدْبَارًا وَذَهَابًا وَمَجِيئًا .</p><p>وَالسَّبْح : الْجَرْي وَالدَّوَرَان , وَمِنْهُ السَّابِح فِي الْمَاء ; لِتَقَلُّبِهِ بِيَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ . وَفَرَس سَابِح : شَدِيد الْجَرْي ; قَالَ اِمْرُؤُ الْقَيْس : <br>مِسَحٌّ إِذَا مَا السَّابِحَات عَلَى الْوَنَى .......... أَثَرْنَ الْغُبَار بِالْكَدِيدِ الْمُرَكَّل <br>وَقِيلَ : السَّبْح الْفَرَاغ ; أَيْ إِنَّ لَك فَرَاغًا لِلْحَاجَاتِ بِالنَّهَارِ .</p><p>‎وَقِيلَ : | إِنَّ لَك فِي النَّهَار سَبْحًا | أَيْ نَوْمًا , وَالتَّسَبُّح التَّمَدُّد ; ذَكَرَهُ الْخَلِيل .</p><p>وَعَنْ اِبْن عَبَّاس وَعَطَاء : ( سَبْحًا طَوِيلًا ) يَعْنِي فَرَاغًا طَوِيلًا لِنَوْمِك وَرَاحَتك , فَاجْعَلْ نَاشِئَة اللَّيْل لِعِبَادَتِك , وَقَالَ الزَّجَّاج : إِنْ فَاتَكَ فِي اللَّيْل شَيْء فَلَك فِي النَّهَار فَرَاغ الِاسْتِدْرَاك .</p><p>وَقَرَأَ يَحْيَى بْن يَعْمَر وَأَبُو وَائِل | سَبْخًا | بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة . قَالَ الْمَهْدَوِيّ : وَمَعْنَاهُ النَّوْم رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْقَارِئِينَ بِهَذِهِ الْقِرَاءَة . وَقِيلَ : مَعْنَاهُ الْخِفَّة وَالسَّعَة وَالِاسْتِرَاحَة ; وَمِنْهُ قَوْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَة وَقَدْ دَعَتْ عَلَى سَارِق رِدَائِهَا : ( لَا تُسَبِّخِي ( عَنْهُ ) بِدُعَائِك عَلَيْهِ ) . أَيْ لَا تُخَفِّفِي عَنْهُ إِثْمه ; قَالَ الشَّاعِر : <br>فَسَبِّخْ عَلَيْك الْهَمّ وَاعْلَمْ بِأَنَّهُ .......... إِذَا قَدَّرَ الرَّحْمَن شَيْئًا فَكَائِن <br>الْأَصْمَعِيّ : يُقَال سَبَّخَ اللَّه عَنْك الْحُمَّى أَيْ خَفَّفَهَا . وَسَبَخ الْحَرّ : فَتَرَ وَخَفَّ . وَالتَّسْبِيخ النَّوْم الشَّدِيد . وَالتَّسْبِيخ أَيْضًا تَوْسِيع الْقُطْن وَالْكَتَّان وَالصُّوف وَتَنْفِيشهَا ; يُقَال لِلْمَرْأَةِ : سَبِّخِي قُطْنك . وَالسَّبِيخ مِنْ الْقُطْن مَا يُسَبَّخ بَعْد النَّدْف , أَيْ يُلَفّ لِتَغْزِلهُ الْمَرْأَة , وَالْقِطْعَة مِنْهُ سَبِيخَة , وَكَذَلِكَ مِنْ الصُّوف وَالْوَبَر . وَيُقَال لِقِطَعِ الْقُطْن سَبَائِخ ; قَالَ الْأَخْطَل يَصِف الْقُنَّاص وَالْكِلَاب : <br>فَأَرْسَلُوهُنَّ يُذْرِينَ التُّرَاب كَمَا .......... يُذْرِي سَبَائِخ قُطْن نَدْف أَوْتَار<br>وَقَالَ ثَعْلَب : السَّبْخ بِالْخَاءِ التَّرَدُّد وَالِاضْطِرَاب , وَالسَّبْخ أَيْضًا السُّكُون ; وَمِنْهُ قَوْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( الْحُمَّى مِنْ فَيْح جَهَنَّم , فَسَبِّخُوهَا بِالْمَاءِ ) أَيْ سَكِّنُوهَا . وَقَالَ أَبُو عَمْرو : السَّبْخ : النَّوْم وَالْفَرَاغ . قُلْت : فَعَلَى هَذَا يَكُون مِنْ الْأَضْدَاد وَتَكُون بِمَعْنَى السَّبْح , بِالْحَاءِ غَيْر الْمُعْجَمَة .

وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا

أَيْ اُدْعُهُ بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى , لِيَحْصُل لَك مَعَ الصَّلَاة مَحْمُود الْعَاقِبَة . وَقِيلَ : أَيْ اِقْصِدْ بِعَمَلِك وَجْه رَبّك , وَقَالَ سَهْل : اِقْرَأْ بِاسْمِ اللَّه الرَّحْمَن الرَّحِيم فِي اِبْتِدَاء صَلَاتك تُوَصِّلك بَرَكَة قِرَاءَتهَا إِلَى رَبّك , وَتَقْطَعك عَمَّا سِوَاهُ . وَقِيلَ : اُذْكُرْ اِسْم رَبّك فِي وَعْده وَوَعِيده , لِتَوَفَّرَ عَلَى طَاعَته وَتَعْدِل عَنْ مَعْصِيَته . وَقَالَ الْكَلْبِيّ : صَلِّ لِرَبِّك أَيْ بِالنَّهَارِ . قُلْت : وَهَذَا حَسَن فَإِنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ اللَّيْل ذَكَرَ النَّهَار ; إِذْ هُوَ قَسِيمه ; وَقَدْ قَالَ اللَّه تَعَالَى : | وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْل وَالنَّهَار خِلْفَة لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّر | [ الْفُرْقَان : 62 ] عَلَى مَا تَقَدَّمَ .|وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا|التَّبَتُّل : الِانْقِطَاع إِلَى عِبَادَة اللَّه عَزَّ وَجَلَّ ; أَيْ اِنْقَطِعْ بِعِبَادَتِك إِلَيْهِ , وَلَا تُشْرِك بِهِ غَيْره . يُقَال : بَتَلْت الشَّيْء أَيْ قَطَعْته , وَمِنْهُ قَوْلهمْ : طَلَّقَهَا بَتَّة بَتْلَة , وَهَذِهِ صَدَقَة بَتَّة بَتْلَة ; أَيْ بَائِنَة مُنْقَطِعَة عَنْ صَاحِبهَا , أَيْ قَطَعَ مِلْكه عَنْهَا بِالْكُلِّيَّةِ ; وَمِنْهُ مَرْيَم الْبَتُول لِانْقِطَاعِهَا إِلَى اللَّه تَعَالَى , وَيُقَال لِلرَّاهِبِ مُتَبَتِّل ; لِانْقِطَاعِهِ عَنْ النَّاس , وَانْفِرَاده بِالْعِبَادَةِ , قَالَ : <br>تُضِيء الظَّلَام بِالْعِشَاءِ كَأَنَّهَا .......... مَنَارَة مُمْسَى رَاهِب مُتَبَتِّل <br>وَفِي الْحَدِيث النَّهْي عَنْ التَّبَتُّل , وَهُوَ الِانْقِطَاع عَنْ النَّاس وَالْجَمَاعَات . وَقِيلَ : إِنَّ أَصْله عِنْد الْعَرَب التَّفَرُّد ; قَالَهُ اِبْن عَرَفَة . وَالْأَوَّل أَقْوَى لِمَا ذَكَرْنَا . وَيُقَال : كَيْفَ قَالَ : تَبْتِيلًا , وَلَمْ يَقُلْ تَبَتُّلًا ؟ قِيلَ لَهُ : لِأَنَّ مَعْنَى تَبَتَّلَ بَتَّلَ نَفْسه , فَجِيءَ بِهِ عَلَى مَعْنَاهُ مُرَاعَاة لِحَقِّ الْفَوَاصِل .</p><p>قَدْ مَضَى فِي ( الْمَائِدَة ) فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى : | يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَات مَا أَحَلَّ اللَّه لَكُمْ | [ الْمَائِدَة : 87 ] كَرَاهَة لِمَنْ تَبَتَّلَ وَانْقَطَعَ وَسَلَكَ سَبِيل الرَّهْبَانِيَّة بِمَا فِيهِ كِفَايَة . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَأَمَّا الْيَوْم وَقَدْ مَرِجَتْ عُهُود النَّاس , وَخَفَّتْ أَمَانَاتهمْ , وَاسْتَوْلَى الْحَرَام عَلَى الْحُطَام , فَالْعُزْلَة خَيْر مِنْ الْخُلْطَة , وَالْعُزْبَة أَفْضَل مِنْ التَّأَهُّل , وَلَكِنْ مَعْنَى الْآيَة : اِنْقَطِعْ عَنْ الْأَوْثَان وَالْأَصْنَام وَعَنْ عِبَادَةِ غَيْر اللَّه , وَكَذَلِكَ قَالَ مُجَاهِد : مَعْنَاهُ : أَخْلِصْ لَهُ الْعِبَادَة , وَلَمْ يُرِدْ التَّبَتُّل , فَصَارَ التَّبَتُّل مَأْمُورًا بِهِ فِي الْقُرْآن , مَنْهِيًّا عَنْهُ فِي السُّنَّة , وَمُتَعَلِّق الْأَمْر غَيْر مُتَعَلِّق النَّهْي ; فَلَا يَتَنَاقَضَانِ , وَإِنَّمَا بُعِثَ لِيُبَيِّن لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ; فَالتَّبَتُّل الْمَأْمُور بِهِ : الِانْقِطَاع إِلَى اللَّه بِإِخْلَاصِ الْعِبَادَة ; كَمَا قَالَ تَعَالَى : | وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّين | [ الْبَيِّنَة : 5 ] وَالتَّبَتُّل الْمَنْهِيّ عَنْهُ : هُوَ سُلُوك مَسْلَك النَّصَارَى فِي تَرْك النِّكَاح وَالتَّرَهُّب فِي الصَّوَامِع , لَكِنْ عِنْد فَسَاد الزَّمَان يَكُون خَيْر مَال الْمُسْلِم غَنَمًا يَتْبَع بِهَا شَعَف الْجِبَال وَمَوَاقِع الْقَطْر , يَفِرّ بِدِينِهِ مِنْ الْفِتَن .

رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا

قَرَأَ أَهْل الْحَرَمَيْنِ وَابْن مُحَيْصِن وَمُجَاهِد وَأَبُو عَمْرو وَابْن أَبِي إِسْحَاق وَحَفْص | رَبُّ | بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاء وَالْخَبَر | لَا إِلَه إِلَّا هُوَ | . وَقِيلَ : عَلَى إِضْمَار | هُوَ | . الْبَاقُونَ | رَبِّ | بِالْخَفْضِ عَلَى نَعْت الرَّبّ تَعَالَى فِي قَوْله تَعَالَى : | وَاذْكُرْ اِسْم رَبّك | | رَبّ الْمَشْرِق | وَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ رَبّ الْمَشَارِق وَالْمَغَارِب اِنْقَطَعَ بِعَمَلِهِ وَأَمَله إِلَيْهِ .|لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا|أَيْ قَائِمًا بِأُمُورِك . وَقِيلَ : كَفِيلًا بِمَا وَعَدَك .

وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا

أَيْ مِنْ الْأَذَى وَالسَّبّ وَالِاسْتِهْزَاء , وَلَا تَجْزَع مِنْ قَوْلهمْ , وَلَا تَمْتَنِع مِنْ دُعَائِهِمْ .|وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا|أَيْ لَا تَتَعَرَّض لَهُمْ , وَلَا تَشْتَغِل بِمُكَافَأَتِهِمْ , فَإِنَّ فِي ذَلِكَ تَرْك الدُّعَاء إِلَى اللَّه . وَكَانَ هَذَا قَبْل الْأَمْر بِالْقِتَالِ , ثُمَّ أُمِرَ بَعْد بِقِتَالِهِمْ وَقَتْلهمْ , فَنُسِخَتْ آيَة الْقِتَال مَا كَانَ قَبْلهَا مِنْ التَّرْك ; قَالَهُ قَتَادَة وَغَيْره . وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاء : إِنَّا لَنَكْشِر فِي وُجُوه ( أَقْوَام ) وَنَضْحَك إِلَيْهِمْ وَإِنَّ قُلُوبنَا لَتَقْلِيهِمْ أَوْ لَتَلْعَنهُمْ .

وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا

أَيْ اِرْضَ بِي لِعِقَابِهِمْ . نَزَلَتْ فِي صَنَادِيد قُرَيْش وَرُؤَسَاء مَكَّة مِنْ الْمُسْتَهْزِئِينَ .</p><p>وَقَالَ مُقَاتِل : نَزَلَتْ فِي الْمُطْعِمِينَ يَوْم بَدْر وَهُمْ عَشَرَة . وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرهمْ فِي | الْأَنْفَال | .</p><p>وَقَالَ يَحْيَى بْن سَلَّام : إِنَّهُمْ بَنُو الْمُغِيرَة . وَقَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر أُخْبِرْت أَنَّهُمْ اِثْنَا عَشَرَ رَجُلًا .|أُولِي النَّعْمَةِ|أَيْ أُولِي الْغِنَى وَالتَّرَفُّه وَاللَّذَّة فِي الدُّنْيَا|وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا|يَعْنِي إِلَى مُدَّة آجَالهمْ . قَالَتْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا : لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة لَمْ يَكُنْ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى وَقَعَتْ وَقْعَة بَدْر .</p><p>وَقِيلَ : | وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا | يَعْنِي إِلَى مُدَّة الدُّنْيَا .

إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا

الْأَنْكَال : الْقُيُود . عَنْ الْحَسَن وَمُجَاهِد وَغَيْرهمَا . وَاحِدهَا نِكْل , وَهُوَ مَا مَنَعَ الْإِنْسَان مِنْ الْحَرَكَة . وَقِيلَ : سُمِّيَ نِكْلًا , لِأَنَّهُ يُنَكَّل بِهِ .</p><p>قَالَ الشَّعْبِيّ : أَتَرَوْنَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى جَعَلَ الْأَنْكَال فِي أَرْجُل أَهْل النَّار خَشْيَة أَنْ يَهْرُبُوا ؟ لَا وَاَللَّه ! وَلَكِنَّهُمْ إِذَا أَرَادُوا أَنْ يَرْتَفِعُوا اِسْتَفَلَتْ بِهِمْ .</p><p>وَقَالَ الْكَلْبِيّ : الْأَنْكَال : الْأَغْلَال , وَالْأَوَّل أَعْرَف فِي اللُّغَة ; وَمِنْهُ قَوْل الْخَنْسَاء : <br>دَعَاك فَقَطَّعْت أَنْكَاله .......... وَقَدْ كُنَّ قَبْلَك لَا تُقْطَع <br>وَقِيلَ : إِنَّهُ أَنْوَاع الْعَذَاب الشَّدِيد ; قَالَهُ مُقَاتِل . وَقَدْ جَاءَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِنَّ اللَّهَ يُحِبّ النَّكَل عَلَى النَّكَل ) بِالتَّحْرِيكِ , قَالَهُ الْجَوْهَرِيّ . قِيلَ : وَمَا النَّكَل ؟ قَالَ : ( الرَّجُل الْقَوِيّ الْمُجَرِّب , عَلَى الْفَرَس الْقَوِيّ الْمُجَرِّب ) ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيّ قَالَ : وَمِنْ ذَلِكَ سُمِّيَ الْقَيْد نِكْلًا لِقُوَّتِهِ , وَكَذَلِكَ , الْغُلّ , وَكُلّ عَذَاب قَوِيّ فَاشْتَدَّ , وَالْجَحِيم النَّار الْمُؤَجَّجَة .

وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا

أَيْ غَيْر سَائِغ ; يَأْخُذ بِالْحَلْقِ , لَا هُوَ نَازِل وَلَا هُوَ خَارِج , وَهُوَ الْغِسْلِين وَالزَّقُّوم وَالضَّرِيع ; قَالَهُ اِبْن عَبَّاس . وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ شَوْك يَدْخُل الْحَلْق , فَلَا يَنْزِل وَلَا يَخْرُج .</p><p>‎وَقَالَ الزَّجَّاج : أَيْ طَعَامهمْ الضَّرِيع ; كَمَا قَالَ : | لَيْسَ لَهُمْ طَعَام إِلَّا مِنْ ضَرِيع | [ الْغَاشِيَة : 6 ] وَهُوَ شَوْك كَالْعَوْسَجِ . وَقَالَ مُجَاهِد : هُوَ الزَّقُّوم , كَمَا قَالَ : | إِنَّ شَجَرَة الزَّقُّوم طَعَام الْأَثِيم | [ الدُّخَان : 43 - 44 ] . وَالْمَعْنَى وَاحِد . وَقَالَ حُمْرَان بْن أَعْيَن : قَرَأَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا . وَطَعَامًا ذَا غُصَّة ) فَصَعِقَ . وَقَالَ خُلَيْد بْن حَسَّان : أَمْسَى الْحَسَن عِنْدنَا صَائِمًا , فَأَتَيْته بِطَعَامٍ فَعَرَضَتْ لَهُ هَذِهِ الْآيَة | إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا . وَطَعَامًا | فَقَالَ : اِرْفَعْ طَعَامك . فَلَمَّا كَانَتْ الثَّانِيَة أَتَيْته بِطَعَامٍ فَعَرَضَتْ لَهُ هَذِهِ الْآيَة , فَقَالَ : اِرْفَعُوهُ . وَمِثْله فِي الثَّالِثَة ; فَانْطَلَقَ اِبْنه إِلَى ثَابِت الْبُنَانِيّ وَيَزِيد الضَّبِّيّ وَيَحْيَى الْبَكَّاء فَحَدَّثَهُمْ , فَجَاءُوهُ فَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتَّى شَرِبَ شَرْبَة مِنْ سَوِيق . وَالْغُصَّة : الشَّجَا , وَهُوَ مَا يَنْشَب فِي الْحَلْق مِنْ عَظْم أَوْ غَيْره . وَجَمْعهَا غُصَص . وَالْغَصَص بِالْفَتْحِ مَصْدَر قَوْلِك : غَصِصْت يَا رَجُل تَغَصّ , فَأَنْتَ غَاصّ بِالطَّعَامِ وَغَصَّان , وَأَغْصَصْتُهُ أَنَا , وَالْمَنْزِل غَاصّ بِالْقَوْمِ أَيْ مُمْتَلِئ بِهِمْ .

يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا

أَيْ تَتَحَرَّك وَتَضْطَرِب بِمَنْ عَلَيْهَا . وَانْتَصَبَ | يَوْم | عَلَى الظَّرْف أَيْ يُنَكَّل بِهِمْ وَيُعَذَّبُونَ | يَوْم تَرْجُف الْأَرْض | . وَقِيلَ : بِنَزْعِ الْخَافِض ; يَعْنِي هَذِهِ الْعُقُوبَة فِي يَوْم تَرْجُف الْأَرْض وَالْجِبَال . وَقِيلَ : الْعَامِل | ذَرْنِي | أَيْ وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ يَوْم تَرْجُف الْأَرْض وَالْجِبَال .|وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا|أَيْ وَتَكُون . وَالْكَثِيب الرَّمْل الْمُجْتَمِع - قَالَ حَسَّان : <br>عَرَفْت دِيَار زَيْنَب بِالْكَثِيبِ .......... كَخَطِّ الْوَحْي فِي الْوَرَق الْقَشِيب<br>وَالْمَهِيل : الَّذِي يَمُرّ تَحْت الْأَرْجُل . قَالَ الضَّحَّاك وَالْكَلْبِيّ : الْمَهِيل : هُوَ الَّذِي إِذَا وَطِئْتَهُ بِالْقَدَمِ زَلَّ مِنْ تَحْتهَا , وَإِذَا أَخَذْت أَسْفَله اِنْهَالَ .</p><p>‎وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : | مَهِيلًا | أَيْ رَمْلًا سَائِلًا مُتَنَاثِرًا وَأَصْله مَهْيُول وَهُوَ مَفْعُول مِنْ قَوْلِك : هِلْت عَلَيْهِ التُّرَاب أَهِيلهُ هَيْلًا : إِذَا صَبَبْته . يُقَال : مَهِيل وَمَهْيُول , وَمَكِيل وَمَكْيُول , وَمَدِين وَمَدْيُون , وَمَعِين وَمَعْيُون ; قَالَ الشَّاعِر : <br>قَدْ كَانَ قَوْمك يَحْسَبُونَك سَيِّدًا .......... وَإِخَال أَنَّك سَيِّد مَعْيُونُ <br>وَفِي حَدِيث النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ شَكَوْا إِلَيْهِ الْجُدُوبَة ; فَقَالَ : ( أَتَكِيلُونَ أَمْ تَهِيلُونَ ) قَالُوا : نَهِيل . قَالَ : ( كِيلُوا طَعَامكُمْ يُبَارَك لَكُمْ فِيهِ ) .</p><p>وَأَهَلْت الدَّقِيق لُغَة فِي هِلْت فَهُوَ مُهَال وَمَهِيل . وَإِنَّمَا حُذِفَتْ الْوَاو , لِأَنَّ الْيَاء تَثْقُل فِيهَا الضَّمَّة , فَحُذِفَتْ فَسَكَنَتْ هِيَ وَالْوَاو فَحُذِفَتْ الْوَاو لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ .

إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا

يُرِيد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَلَهُ إِلَى قُرَيْش|كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا|وَهُوَ مُوسَى

فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا

أَيْ كَذَّبَ بِهِ وَلَمْ يُؤْمِن . قَالَ مُقَاتِل : ذَكَرَ مُوسَى وَفِرْعَوْن ; لِأَنَّ أَهْل مَكَّة اِزْدَرَوْا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَخَفُّوا بِهِ ; لِأَنَّهُ وُلِدَ فِيهِمْ , كَمَا أَنَّ فِرْعَوْن اِزْدَرَى مُوسَى ; لِأَنَّهُ رَبَّاهُ وَنَشَأَ فِيمَا بَيْنهمْ , كَمَا قَالَ تَعَالَى : | أَلَمْ نُرَبِّك فِينَا وَلِيدًا | [ الشُّعَرَاء : 18 ].</p><p>قَالَ الْمَهْدَوِيّ : وَدَخَلَتْ الْأَلِف وَاللَّام فِي الرَّسُول لِتَقَدُّمِ ذِكْره ; وَلِذَلِكَ اُخْتِيرَ فِي أَوَّل الْكُتُب سَلَام عَلَيْكُمْ , وَفِي آخِرهَا السَّلَام عَلَيْكُمْ .|فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا|أَيْ ثَقِيلًا شَدِيدًا . وَضَرْب وَبِيل وَعَذَاب وَبِيل : أَيْ شَدِيد ; قَالَهُ اِبْن عَبَّاس وَمُجَاهِد . وَمِنْهُ مَطَر وَابِل أَيْ شَدِيد ; قَالَهُ الْأَخْفَش . وَقَالَ الزَّجَّاج : أَيْ ثَقِيلًا غَلِيظًا .</p><p>وَمِنْهُ قِيلَ لِلْمَطَرِ وَابِل . وَقِيلَ : مُهْلِكًا ( وَالْمَعْنَى عَاقَبْنَاهُ عُقُوبَة غَلِيظَة ) قَالَ : <br>أَكَلْت بَنِيك أَكْل الضَّبّ حَتَّى .......... وَجَدْت مَرَارَة الْكَلَأ الْوَبِيل <br>وَاسْتَوْبَلَ فُلَان كَذَا : أَيْ لَمْ يَحْمَد عَاقِبَته . وَمَاء وَبِيل : أَيْ وَخِيم غَيْر مَرِيءٍ , وَكَلَأ مُسْتَوْبَل وَطَعَام وَبِيل وَمُسْتَوْبَل : إِذَا لَمْ يُمْرِئ وَلَمْ يُسْتَمْرَأ , قَالَ زُهَيْر : <br>فَقَضُّوا مَنَايَا بَيْنهمْ ثُمَّ أَصْدَرُوا .......... إِلَى كَلَأ مُسْتَوْبَل مُتَوَخَّم <br>وَقَالَتْ الْخَنْسَاء : <br>لَقَدْ أَكَلَتْ بَجِيلَة يَوْم لَاقَتْ .......... فَوَارِس مَالِك أَكْلًا وَبِيلًا <br>وَالْوَبِيل أَيْضًا : الْعَصَا الضَّخْمَة ; قَالَ : <br>لَوْ أَصْبَحَ فِي يُمْنَى يَدَيَّ زِمَامهَا .......... وَفِي كَفِّيَ الْأُخْرَى وَبِيلٌ تُحَاذِرهْ <br>وَكَذَلِكَ الْمَوْبِل بِكَسْرِ الْبَاء , وَالْمَوْبِلَة أَيْضًا : الْحُزْمَة مِنْ الْحَطَب , وَكَذَلِكَ الْوَبِيل , قَالَ طَرَفَة : <br>عَقِيلَة شَيْخ كَالْوَبِيلِ يَلَنْدَد<br>

فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا

هُوَ تَوْبِيخ وَتَقْرِيع , أَيْ كَيْفَ تَتَّقُونَ الْعَذَابَ إِنْ كَفَرْتُمْ . وَفِيهِ تَقْدِيم وَتَأْخِير , أَيْ كَيْفَ تَتَّقُونَ يَوْمًا يَجْعَل الْوِلْدَان شِيبًا إِنْ كَفَرْتُمْ . وَكَذَا قِرَاءَة عَبْد اللَّه وَعَطِيَّة .</p><p>‎قَالَ الْحَسَن : أَيْ بِأَيِّ صَلَاة تَتَّقُونَ الْعَذَابَ ؟ بِأَيِّ صَوْم تَتَّقُونَ الْعَذَابَ ؟ وَفِيهِ إِضْمَار , أَيْ كَيْفَ تَتَّقُونَ عَذَابَ يَوْم . وَقَالَ قَتَادَة : وَاَللَّه مَا يَتَّقِي مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ ذَلِكَ الْيَوْم بِشَيْءٍ . وَ | يَوْمًا | مَفْعُول بِ | تَتَّقُونَ | عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَة وَلَيْسَ بِظَرْفٍ , وَإِنْ قُدِّرَ الْكُفْر بِمَعْنَى الْجُحُود كَانَ الْيَوْم مَفْعُول ( كَفَرْتُمْ ) .</p><p>وَقَالَ بَعْض الْمُفَسِّرِينَ : وَقْف التَّمَام عَلَى قَوْله : ( كَفَرْتُمْ ) وَالِابْتِدَاء ( يَوْمًا ) يَذْهَب إِلَى أَنَّ الْيَوْمَ مَفْعُول | يَجْعَل | وَالْفِعْل لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ , وَكَأَنَّهُ قَالَ : يَجْعَل اللَّه الْوِلْدَان شِيبًا فِي يَوْم . قَالَ اِبْن الْأَنْبَارِيّ ; وَهَذَا لَا يَصْلُح ; لِأَنَّ الْيَوْمَ هُوَ الَّذِي يَفْعَل هَذَا مِنْ شِدَّة هَوْله . الْمَهْدَوِيّ : وَالضَّمِير فِي | يَجْعَل | يَجُوز أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ , وَيَجُوز أَنْ يَكُونَ لِلْيَوْمِ , وَإِذَا كَانَ لِلْيَوْمِ صَلُحَ أَنْ يَكُونَ صِفَة لَهُ , وَلَا يَصْلُح ذَلِكَ إِذَا كَانَ الضَّمِير لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا مَعَ تَقْدِير حَذْف ; كَأَنَّهُ قَالَ : يَوْمًا يَجْعَل اللَّه الْوِلْدَان فِيهِ شِيبًا . اِبْن الْأَنْبَارِيّ : وَمِنْهُمْ مَنْ نَصَبَ الْيَوْمَ ب | كَفَرْتُمْ | وَهَذَا قَبِيح ; لِأَنَّ الْيَوْمَ إِذَا عُلِّقَ بِ | كَفَرْتُمْ | اِحْتَاجَ إِلَى صِفَة ; أَيْ كَفَرْتُمْ بِيَوْمٍ . فَإِنْ اِحْتَجَّ مُحْتَجّ بِأَنَّ الصِّفَةَ قَدْ تُحْذَف وَيُنْصَب مَا بَعْدَهَا , اِحْتَجَجْنَا عَلَيْهِ بِقِرَاءَةِ عَبْد اللَّه | فَكَيْفَ تَتَّقُونَ يَوْمًا | . قُلْت : هَذِهِ الْقِرَاءَة لَيْسَتْ مُتَوَاتِرَةً , وَإِنَّمَا جَاءَتْ عَلَى وَجْه التَّفْسِير . وَإِذَا كَانَ الْكُفْر بِمَعْنَى الْجُحُود فَ | يَوْمًا | مَفْعُول صَرِيح مِنْ غَيْر صِفَة وَلَا حَذْفهَا ; أَيْ فَكَيْفَ تَتَّقُونَ اللَّهَ وَتَخْشَوْنَهُ إِنْ جَحَدْتُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة وَالْجَزَاء . وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّال قَعْنَب | فَكَيْفَ تَتَّقُونِ | بِكَسْرِ النُّون عَلَى الْإِضَافَة .</p><p>و | الْوِلْدَان | الصِّبْيَان . وَقَالَ السُّدِّيّ : هُمْ أَوْلَاد الزِّنَا . وَقِيلَ : أَوْلَاد الْمُشْرِكِينَ . وَالْعُمُوم أَصَحّ ; أَيْ يَشِيب فِيهِ الضَّمِير مِنْ غَيْر كِبَر . وَذَلِكَ حِينَ يُقَال : ( يَا آدَم قُمْ فَابْعَثْ بَعْث النَّار ) . عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّل سُورَة | الْحَجّ | .</p><p>قَالَ الْقُشَيْرِيّ : ثُمَّ إِنَّ أَهْل الْجَنَّة يُغَيِّر اللَّه أَحْوَالهمْ وَأَوْصَافَهُمْ عَلَى مَا يُرِيد .</p><p>وَقِيلَ : هَذَا ضَرْب مَثَل لِشِدَّةِ ذَلِكَ الْيَوْم وَهُوَ مَجَاز ; لِأَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَة لَا يَكُون فِيهِ وِلْدَان وَلَكِنْ مَعْنَاهُ أَنَّ هَيْبَة ذَلِكَ الْيَوْم بِحَالٍ لَوْ كَانَ فِيهِ هُنَاكَ صَبِيّ لَشَابَ رَأْسه مِنْ الْهَيْبَة . وَيُقَال : هَذَا وَقْت الْفَزَع , وَقِيلَ أَنْ يُنْفَخ فِي الصُّور نَفْخَة الصَّعْق , فَاَللَّه أَعْلَم . الزَّمَخْشَرِيُّ : وَقَدْ مَرَّ بِي فِي بَعْض الْكُتُب أَنَّ رَجُلًا أَمْسَى فَاحِم الشَّعْر كَحَنَكِ الْغُرَاب , فَأَصْبَحَ وَهُوَ أَبْيَض الرَّأْس وَاللِّحْيَة كَالثَّغَامَةِ , فَقَالَ : أُرِيت الْقِيَامَةَ وَالْجَنَّةَ وَالنَّارَ فِي الْمَنَام , وَرَأَيْت النَّاسَ يُقَادُونَ فِي السَّلَاسِل إِلَى النَّار , فَمِنْ هَوْل ذَلِكَ أَصْبَحْت كَمَا تَرَوْنَ . وَيَجُوز أَنْ يُوصَفَ الْيَوْم بِالطُّولِ , وَأَنَّ الْأَطْفَالَ يَبْلُغُونَ فِيهِ أَوَان الشَّيْخُوخَة وَالشَّيْب .

السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا

أَيْ مُتَشَقِّقَة لِشِدَّتِهِ . وَمَعْنَى | بِهِ | أَيْ فِيهِ ; أَيْ فِي ذَلِكَ الْيَوْم لِهَوْلِهِ . هَذَا أَحْسَن مَا قِيلَ فِيهِ . وَيُقَال : مُثْقَلَة بِهِ إِثْقَالًا يُؤَدِّي إِلَى اِنْفِطَارهَا لِعَظَمَتِهِ عَلَيْهَا وَخَشْيَتهَا مِنْ وُقُوعه , كَقَوْلِهِ تَعَالَى : | ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض | [ الْأَعْرَاف : 187 ].</p><p>وَقِيلَ : | بِهِ | أَيْ لَهُ , أَيْ لِذَلِكَ الْيَوْم ; يُقَال : فَعَلْت كَذَا بِحُرْمَتِك وَلِحُرْمَتِك , وَالْبَاء وَاللَّام وَفِي : مُتَقَارِبَة فِي مِثْل هَذَا الْمَوْضِع ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : | وَنَضَع الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَة | [ الْأَنْبِيَاء : 47 ] أَيْ فِي يَوْم الْقِيَامَة .</p><p>وَقِيلَ : | بِهِ | أَيْ بِالْأَمْرِ أَيْ السَّمَاء مُنْفَطِر بِمَا يَجْعَل الْوِلْدَان شِيبًا . وَقِيلَ : مُنْفَطِر بِاَللَّهِ , أَيْ بِأَمْرِهِ , وَقَالَ أَبُو عَمْرو بْن الْعَلَاء : لَمْ يَقُلْ مُنْفَطِرَة ; لِأَنَّ مَجَازَهَا السَّقْف ; تَقُول : هَذَا سَمَاء الْبَيْت ; قَالَ الشَّاعِر : <br>فَلَوْ رَفَعَ السَّمَاء إِلَيْهِ قَوْمًا .......... لَحِقْنَا بِالسَّمَاءِ وَبِالسَّحَابِ <br>وَفِي التَّنْزِيل : | وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا | [ الْأَنْبِيَاء : 32 ] . وَقَالَ الْفَرَّاء : السَّمَاء يُذَكَّر وَيُؤَنَّث .</p><p>وَقَالَ أَبُو عَلِيّ : هُوَ مِنْ بَاب الْجَرَاد الْمُنْتَشِر , وَالشَّجَر الْأَخْضَر , و | أَعْجَاز نَخْل مُنْقَعِر | [ الْقَمَر : 20 ] . وَقَالَ أَبُو عَلِيّ أَيْضًا : أَيْ السَّمَاء ذَات اِنْفِطَار ; كَقَوْلِهِمْ : اِمْرَأَة مُرْضِع , أَيْ ذَات إِرْضَاع , فَجَرَى عَلَى طَرِيق النَّسَب .|كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا|| كَانَ وَعْده | أَيْ بِالْقِيَامَةِ وَالْحِسَاب وَالْجَزَاء</p><p>| مَفْعُولًا | كَائِنًا لَا شَكَّ فِيهِ وَلَا خُلْف . وَقَالَ مُقَاتِل : كَانَ وَعْده بِأَنْ يُظْهِر دِينَهُ عَلَى الدِّين كُلّه .

إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا

يُرِيد هَذِهِ السُّورَة أَوْ الْآيَات عِظَة . وَقِيلَ : آيَات الْقُرْآن , إِذْ هُوَ كَالسُّورَةِ الْوَاحِدَة .|فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ|أَيْ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُؤْمِن وَيَتَّخِذ بِذَلِكَ إِلَى رَبّه|سَبِيلًا|أَيْ طَرِيقًا إِلَى رِضَاهُ وَرَحْمَته فَلْيَرْغَبْ , فَقَدْ أَمْكَنَ لَهُ ; لِأَنَّهُ أَظْهَرَ لَهُ الْحُجَج وَالدَّلَائِل . ثُمَّ قِيلَ : نُسِخَتْ بِآيَةِ السَّيْف , وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : | فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ | [ الْمُدَّثِّر : 55 ]</p><p>قَالَ الثَّعْلَبِيّ : وَالْأَشْبَه أَنَّهُ غَيْر مَنْسُوخ .

إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآ

| إِنَّ رَبَّك يَعْلَم أَنَّك تَقُوم | هَذِهِ الْآيَة تَفْسِير لِقَوْلِهِ تَعَالَى : | قُمْ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا . نِصْفه أَوْ اُنْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا . أَوْ زِدْ عَلَيْهِ | [ الْمُزَّمِّل : 2 - 4 ] كَمَا تَقَدَّمَ , وَهِيَ النَّاسِخَة لِفَرْضِيَّةِ قِيَام اللَّيْل كَمَا تَقَدَّمَ .</p><p>| تَقُوم | مَعْنَاهُ تُصَلِّي و | أَدْنَى | أَيْ أَقَلّ . وَقَرَأَ اِبْن السَّمَيْقَع وَأَبُو حَيْوَةَ وَهِشَام عَنْ أَهْل الشَّام | ثُلْثَيْ | بِإِسْكَانِ اللَّام .</p><p>| وَنِصْفِهِ وَثُلُثِهِ | بِالْخَفْضِ قِرَاءَة الْعَامَّة عَطْفًا عَلَى | ثُلُثَيْ | ; الْمَعْنَى : تَقُوم أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيْ اللَّيْل وَمِنْ نِصْفِهِ وَثُلُثِهِ . وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْد وَأَبُو حَاتِم ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى : | عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ | فَكَيْفَ يَقُومُونَ نِصْفَهُ أَوْ ثُلُثَهُ وَهُمْ لَا يُحْصُونَهُ . وَقَرَأَ اِبْن كَثِير وَالْكُوفِيُّونَ | وَنِصْفه وَثُلُثه | بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى | أَدْنَى | التَّقْدِير : تَقُوم أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيْ اللَّيْل وَتَقُوم نِصْفَهُ وَثُلُثَهُ . قَالَ الْفَرَّاء : وَهُوَ أَشْبَه بِالصَّوَابِ ; لِأَنَّهُ قَالَ أَقَلّ مِنْ الثُّلُثَيْنِ , ثُمَّ ذَكَرَ نَفْسَ الْقِلَّة لَا أَقَلّ مِنْ الْقِلَّة . الْقُشَيْرِيّ : وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَة يَحْتَمِل أَنَّهُمْ كَانُوا يُصِيبُونَ الثُّلُثَ وَالنِّصْفَ ; لِخِفَّةِ الْقِيَام عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ الْقَدْر , وَكَانُوا يَزِيدُونَ , وَفِي الزِّيَادَة إِصَابَة الْمَقْصُود , فَأَمَّا الثُّلُثَانِ فَكَانَ يَثْقُل عَلَيْهِمْ قِيَامه فَلَا يُصِيبُونَهُ , وَيَنْقُصُونَ مِنْهُ . وَيَحْتَمِل أَنَّهُمْ أُمِرُوا بِقِيَامِ نِصْف اللَّيْل , وَرُخِّصَ لَهُمْ فِي الزِّيَادَة وَالنُّقْصَان , فَكَانُوا يَنْتَهُونَ فِي الزِّيَادَة إِلَى قَرِيب مِنْ الثُّلُثَيْنِ , وَفِي النِّصْف إِلَى الثُّلُث . وَيَحْتَمِل أَنَّهُمْ قُدِّرَ لَهُمْ النِّصْف وَأُنْقِصَ إِلَى الثُّلُث , وَالزِّيَادَة إِلَى الثُّلُثَيْنِ , وَكَانَ فِيهِمْ مَنْ يَفِي بِذَلِكَ , وَفِيهِمْ مَنْ يَتْرُك ذَلِكَ إِلَى أَنْ نُسِخَ عَنْهُمْ . وَقَالَ قَوْم : إِنَّمَا اِفْتَرَضَ اللَّه عَلَيْهِمْ الرُّبُع , وَكَانُوا يُنْقِصُونَ مِنْ الرُّبُع . وَهَذَا الْقَوْل تَحَكُّم .|وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ|أَيْ يَعْلَم مَقَادِيرَ اللَّيْل وَالنَّهَار عَلَى حَقَائِقهَا , وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ بِالتَّحَرِّي وَالِاجْتِهَاد الَّذِي يَقَع فِيهِ الْخَطَأ .</p><p>وَقِيلَ : مَعْنَى | وَاَللَّه يُقَدِّر اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ | يَخْلُقهُمَا مُقَدَّرَيْنِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى : | وَخَلَقَ كُلَّ شَيْء فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا | [ الْفُرْقَان : 2 ] . اِبْن الْعَرَبِيّ : تَقْدِير الْخِلْقَة لَا يَتَعَلَّق بِهِ حُكْم , وَإِنَّمَا يَرْبِط اللَّه بِهِ مَا يَشَاء مِنْ وَظَائِف التَّكْلِيف .|عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ|أَيْ لَنْ تُطِيقُوا مَعْرِفَةَ حَقَائِق ذَلِكَ وَالْقِيَام بِهِ . وَقِيلَ : أَيْ لَنْ تُطِيقُوا قِيَامَ اللَّيْل . وَالْأَوَّل أَصَحّ ; فَإِنَّ قِيَام اللَّيْل مَا فُرِضَ كُلّه قَطُّ .</p><p>قَالَ مُقَاتِل وَغَيْره : لَمَّا نَزَلَتْ : | قُمْ اللَّيْل إِلَّا قَلِيلًا . نِصْفه أَوْ اُنْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا . أَوْ زِدْ عَلَيْهِ | [ الْمُزَّمِّل : 2 - 4 ] شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ , وَكَانَ الرَّجُل لَا يَدْرِي مَتَى نِصْف اللَّيْل مِنْ ثُلُثه , فَيَقُوم حَتَّى يُصْبِحَ مَخَافَةَ أَنْ يُخْطِئَ , فَانْتَفَخَتْ أَقْدَامهمْ , وَانْتَقَعَتْ أَلْوَانهمْ , فَرَحِمَهُمْ اللَّه وَخَفَّفَ عَنْهُمْ ; فَقَالَ تَعَالَى : | عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ | و | أَنْ | مُخَفَّفَة مِنْ الثَّقِيلَة ; أَيْ عَلِمَ أَنَّكُمْ لَنْ تُحْصُوهُ ; لِأَنَّكُمْ إِنْ زِدْتُمْ ثَقُلَ عَلَيْكُمْ , وَاحْتَجْتُمْ إِلَى تَكْلِيف مَا لَيْسَ فَرْضًا , وَإِنْ نَقَصْتُمْ شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْكُمْ .|فَتَابَ عَلَيْكُمْ|أَيْ فَعَادَ عَلَيْكُمْ بِالْعَفْوِ , وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِيهِمْ فِي تَرْك بَعْض مَا أُمِرَ بِهِ . وَقِيلَ : أَيْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ مِنْ فَرْض الْقِيَام إِذْ عَجَزْتُمْ . وَأَصْل التَّوْبَة الرُّجُوع كَمَا تَقَدَّمَ ; فَالْمَعْنَى رَجَعَ لَكُمْ مِنْ تَثْقِيل إِلَى تَخْفِيف , وَمِنْ عُسْر إِلَى يُسْر . وَإِنَّمَا أُمِرُوا بِحِفْظِ الْأَوْقَات عَلَى طَرِيق التَّحَرِّي , فَخَفَّفَ عَنْهُمْ ذَلِكَ التَّحَرِّي .|فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ|فِيهِ قَوْلَانِ :</p><p>أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمُرَادَ نَفْس الْقِرَاءَة ; أَيْ فَاقْرَءُوا فِيمَا تُصَلُّونَهُ بِاللَّيْلِ مَا خَفَّ عَلَيْكُمْ . قَالَ السُّدِّيّ : مِائَة آيَة . الْحَسَن : مَنْ قَرَأَ مِائَة آيَة فِي لَيْلَة لَمْ يُحَاجّهُ الْقُرْآن . وَقَالَ كَعْب : مَنْ قَرَأَ فِي لَيْلَة مِائَة آيَة كُتِبَ مِنْ الْقَانِتِينَ . وَقَالَ سَعِيد : خَمْسُونَ آيَة .</p><p>قُلْت : قَوْل كَعْب أَصَحّ ; لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( مَنْ قَامَ بِعَشْرِ آيَات لَمْ يُكْتَب مِنْ الْغَافِلِينَ , وَمَنْ قَامَ بِمِائَةِ آيَة كُتِبَ مِنْ الْقَانِتِينَ , وَمَنْ قَامَ بِأَلْفِ آيَة كُتِبَ مِنْ الْمُقَنْطِرِينَ ) خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيّ فِي مُسْنَده مِنْ حَدِيث عَبْد اللَّه بْن عَمْرو . وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي مُقَدِّمَة الْكِتَاب وَالْحَمْد لِلَّهِ .</p><p>الْقَوْل الثَّانِي : | فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ | أَيْ فَصَلُّوا مَا تَيَسَّرَ عَلَيْكُمْ , وَالصَّلَاة تُسَمَّى قُرْآنًا ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى : | وَقُرْآن الْفَجْر | أَيْ صَلَاة الْفَجْر . اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهُوَ الْأَصَحّ ; لِأَنَّهُ عَنْ الصَّلَاة أَخْبَرَ , وَإِلَيْهَا يَرْجِع الْقَوْل . قُلْت : الْأَوَّل أَصَحّ حَمْلًا لِلْخِطَابِ عَلَى ظَاهِر اللَّفْظ , وَالْقَوْل الثَّانِي مَجَاز ; فَإِنَّهُ مِنْ تَسْمِيَة الشَّيْء بِبَعْضِ مَا هُوَ مِنْ أَعْمَاله .</p><p>قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء : قَوْله تَعَالَى : | فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ | نَسَخَ قِيَامَ اللَّيْل وَنِصْفه , وَالنُّقْصَان مِنْ النِّصْف وَالزِّيَادَة عَلَيْهِ . ثُمَّ اِحْتَمَلَ قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : | فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ | مَعْنَيَيْنِ أَحَدهمَا أَنْ يَكُونَ فَرْضًا ثَانِيًا ; لِأَنَّهُ أُزِيلَ بِهِ فَرْض غَيْره . وَالْآخَر أَنْ يَكُونَ فَرْضًا مَنْسُوخًا أُزِيلَ بِغَيْرِهِ كَمَا أُزِيلَ بِهِ غَيْره ; وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : | وَمِنْ اللَّيْل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَة لَك عَسَى أَنْ يَبْعَثَك رَبّك مَقَامًا مَحْمُودًا | [ الْإِسْرَاء : 79 ] فَاحْتَمَلَ قَوْله تَعَالَى : | وَمِنْ اللَّيْل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَة لَك | [ الْإِسْرَاء : 79 ] أَيْ يَتَهَجَّد بِغَيْرِ الَّذِي فُرِضَ عَلَيْهِ مِمَّا تَيَسَّرَ مِنْهُ .</p><p>قَالَ الشَّافِعِيّ : فَكَانَ الْوَاجِب طَلَب الِاسْتِدْلَال بِالسُّنَّةِ عَلَى أَحَد الْمَعْنَيَيْنِ , فَوَجَدْنَا سُنَّة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَدُلّ عَلَى أَنْ لَا وَاجِبَ مِنْ الصَّلَاة إِلَّا الْخَمْس .</p><p>قَالَ الْقُشَيْرِيّ أَبُو نَصْر : وَالْمَشْهُور أَنَّ نَسْخ قِيَام اللَّيْل كَانَ فِي حَقّ الْأُمَّة , وَبَقِيَتْ الْفَرِيضَة فِي حَقّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقِيلَ : نُسِخَ التَّقْدِير بِمِقْدَارٍ , وَبَقِيَ أَصْل الْوُجُوب ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى : | فَمَا اِسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْي | [ الْبَقَرَة : 196 ] فَالْهَدْي لَا بُدّ مِنْهُ , كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ بُدّ مِنْ صَلَاة اللَّيْل , وَلَكِنْ فُوِّضَ قَدْره إِلَى اِخْتِيَار الْمُصَلِّي , وَعَلَى هَذَا فَقَدْ قَالَ قَوْم : فَرْض قِيَام اللَّيْل بِالْقَلِيلِ بَاقٍ ; وَهُوَ مَذْهَب الْحَسَن .</p><p>وَقَالَ قَوْم : نُسِخَ بِالْكُلِّيَّةِ , فَلَا تَجِب صَلَاة اللَّيْل أَصْلًا ; وَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِيّ . وَلَعَلَّ الْفَرِيضَةَ الَّتِي بَقِيَتْ فِي حَقّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ هَذَا , وَهُوَ قِيَامه , وَمِقْدَاره مُفَوَّض إِلَى خِيرَته . وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْقِيَامَ لَيْسَ فَرْضًا فَقَوْله تَعَالَى : | فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ | مَعْنَاهُ اِقْرَءُوا إِنْ تَيَسَّرَ عَلَيْكُمْ ذَلِكَ , وَصَلُّوا إِنْ شِئْتُمْ .</p><p>وَصَارَ قَوْم إِلَى أَنَّ النَّسْخَ بِالْكُلِّيَّةِ تَقَرَّرَ فِي حَقّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْضًا , فَمَا كَانَتْ صَلَاة اللَّيْل وَاجِبَة عَلَيْهِ . وَقَوْله : | نَافِلَة لَك | [ الْإِسْرَاء : 79 ] مَحْمُول عَلَى حَقِيقَة النَّفْل . وَمَنْ قَالَ : نُسِخَ الْمِقْدَار وَبَقِيَ أَصْل وُجُوب قِيَام اللَّيْل ثُمَّ نُسِخَ , فَهَذَا النَّسْخ الثَّانِي وَقَعَ بِبَيَانِ مَوَاقِيت الصَّلَاة ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى : | أَقِمْ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْس | [ الْإِسْرَاء : 78 ] , وَقَوْله : | فَسُبْحَانَ اللَّه حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ | [ الرُّوم : 17 ] , مَا فِي الْخَبَر مِنْ أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الصَّلَوَات الْخَمْس تَطَوُّع . وَقِيلَ : وَقَعَ النَّسْخ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : | وَمِنْ اللَّيْل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَك | [ الْإِسْرَاء : 79 ] وَالْخِطَاب لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْأُمَّةِ , كَمَا أَنَّ فَرْضِيَّةَ الصَّلَاة وَإِنْ خُوطِبَ بِهَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْله تَعَالَى : | يَا أَيّهَا الْمُزَّمِّل . قُمْ اللَّيْلَ | [ الْمُزَّمِّل : 1 - 2 ] كَانَتْ عَامَّة لَهُ وَلِغَيْرِهِ .</p><p>وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ فَرِيضَة اللَّه اِمْتَدَّتْ إِلَى مَا بَعْدَ الْهِجْرَة , وَنُسِخَتْ بِالْمَدِينَةِ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى : | عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْض يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْل اللَّه وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيل اللَّه | , وَإِنَّمَا فُرِضَ الْقِتَال بِالْمَدِينَةِ ; فَعَلَى هَذَا بَيَان الْمَوَاقِيت جَرَى بِمَكَّة , فَقِيَام اللَّيْل نُسِخَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : | وَمِنْ اللَّيْل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَك | [ الْإِسْرَاء : 79 ] .</p><p>وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : لَمَّا قَدِمَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَسَخَ قَوْل اللَّه تَعَالَى : | إِنَّ رَبّك يَعْلَم أَنَّك تَقُوم | وُجُوبَ صَلَاة اللَّيْل .|عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ|الْآيَة ; بَيَّنَ سُبْحَانَهُ عِلَّة تَخْفِيف قِيَام اللَّيْل , فَإِنَّ الْخَلْقَ مِنْهُمْ الْمَرِيض , وَيَشُقّ عَلَيْهِمْ قِيَام اللَّيْل , وَيَشُقّ عَلَيْهِمْ أَنْ تَفُوتَهُمْ الصَّلَاة , وَالْمُسَافِر فِي التِّجَارَات قَدْ لَا يُطِيق قِيَام اللَّيْل , وَالْمُجَاهِد كَذَلِكَ , فَخَفَّفَ اللَّه عَنْ الْكُلّ لِأَجْلِ هَؤُلَاءِ .</p><p>وَ | أَنْ | فِي | أَنْ سَيَكُونُ | مُخَفَّفَة مِنْ الثَّقِيلَة ; أَيْ عَلِمَ أَنَّهُ سَيَكُونُ .</p><p>سَوَّى اللَّه تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَة بَيْنَ دَرَجَة الْمُجَاهِدِينَ وَالْمُكْتَسِبِينَ الْمَالَ الْحَلَال لِلنَّفَقَةِ عَلَى نَفْسه وَعِيَاله , وَالْإِحْسَان وَالْإِفْضَال , فَكَانَ هَذَا دَلِيلًا عَلَى أَنَّ كَسْبَ الْمَال بِمَنْزِلَةِ الْجِهَاد ; لِأَنَّهُ جَمَعَهُ مَعَ الْجِهَاد فِي سَبِيل اللَّه .</p><p>وَرَوَى إِبْرَاهِيم عَنْ عَلْقَمَة قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَا مِنْ جَالِب يَجْلِب طَعَامًا مِنْ بَلَد إِلَى بَلَد فَيَبِيعهُ بِسِعْرِ يَوْمه إِلَّا كَانَتْ مَنْزِلَته عِنْدَ اللَّه مَنْزِلَة الشُّهَدَاء ) ثُمَّ قَرَأَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : | وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْض يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْل اللَّه وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيل اللَّه | وَقَالَ اِبْن مَسْعُود : أَيّمَا رَجُل جَلَبَ شَيْئًا إِلَى مَدِينَة مِنْ مَدَائِن الْمُسْلِمِينَ صَابِرًا مُحْتَسِبًا , فَبَاعَهُ بِسِعْرِ يَوْمه كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّه مَنْزِلَة الشُّهَدَاء . وَقَرَأَ | وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْض | الْآيَة .</p><p>وَقَالَ اِبْن عُمَر : مَا خَلَقَ اللَّه مَوْتَة أُمُوتهَا بَعْدَ الْمَوْت فِي سَبِيل اللَّه أَحَبّ إِلَيَّ مِنْ الْمَوْت بَيْنَ شُعْبَتَيْ رَحْلِي , أَبْتَغِي مِنْ فَضْل اللَّه ضَارِبًا فِي الْأَرْض . وَقَالَ طَاوُس : السَّاعِي عَلَى الْأَرْمَلَة وَالْمِسْكِين كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيل اللَّه . وَعَنْ بَعْض السَّلَف أَنَّهُ كَانَ بِوَاسِطٍ , فَجَهَّزَ سَفِينَة حِنْطَة إِلَى الْبَصْرَة , وَكَتَبَ إِلَى وَكِيله : بِعْ الطَّعَامَ يَوْمَ تَدْخُل الْبَصْرَةَ , وَلَا تُؤَخِّرهُ إِلَى غَد , فَوَافَقَ سَعَة فِي السِّعْر ; فَقَالَ التُّجَّار لِلْوَكِيلِ : إِنْ أَخَّرْته جُمْعَة رَبِحْت فِيهِ أَضْعَافه , فَأَخَّرَهُ جُمْعَة فَرَبِحَ فِيهِ أَمْثَالَهُ , فَكَتَبَ إِلَى صَاحِبه بِذَلِكَ , فَكَتَبَ إِلَيْهِ صَاحِب الطَّعَام : يَا هَذَا ! إِنَّا كُنَّا قَنَعْنَا بِرِبْحٍ يَسِير مَعَ سَلَامَة دِيننَا , وَقَدْ جَنَيْت عَلَيْنَا جِنَايَة , فَإِذَا أَتَاك كِتَابِي هَذَا فَخُذْ الْمَالَ وَتَصَدَّقْ بِهِ عَلَى فُقَرَاء الْبَصْرَة , وَلَيْتَنِي أَنْجُو مِنْ الِاحْتِكَار كَفَافًا لَا عَلَيَّ وَلَا لِيَ .</p><p>وَيُرْوَى أَنَّ غُلَامًا مِنْ أَهْل مَكَّة كَانَ مُلَازِمًا لِلْمَسْجِدِ , فَافْتَقَدَهُ اِبْن عُمَر , فَمَشَى إِلَى بَيْته , فَقَالَتْ أُمّه : هُوَ عَلَى طَعَام لَهُ يَبِيعهُ ; فَلَقِيَهُ فَقَالَ لَهُ : يَا بُنَيَّ ! مَا لَك وَلِلطَّعَامِ ؟ فَهَلَّا إِبِلًا , فَهَلَّا بَقَرًا , فَهَلَّا غَنَمًا ! إِنَّ صَاحِبَ الطَّعَام يُحِبّ الْمَحْل , وَصَاحِب الْمَاشِيَة يُحِبّ الْغَيْثَ .|فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ|أَيْ صَلُّوا مَا أَمْكَنَ ; فَأَوْجَبَ اللَّه مِنْ صَلَاة اللَّيْل مَا تَيَسَّرَ , ثُمَّ نَسَخَ ذَلِكَ بِإِيجَابِ الصَّلَوَات الْخَمْس عَلَى مَا تَقَدَّمَ .</p><p>قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ وَقَدْ قَالَ قَوْم : إِنَّ فَرْض قِيَام اللَّيْل سُنَّ فِي رَكْعَتَيْنِ مِنْ هَذِهِ الْآيَة ; قَالَهُ الْبُخَارِيّ وَغَيْره , وَعَقَدَ بَابًا ذَكَرَ فِيهِ حَدِيث ( يَعْقِد الشَّيْطَان عَلَى قَافِيَة رَأْس أَحَدكُمْ إِذَا هُوَ نَامَ ثَلَاث عُقَد , يَضْرِب عَلَى كُلّ عُقْدَة مَكَانهَا : عَلَيْك لَيْل طَوِيل فَارْقُدْ . فَإِنْ اِسْتَيْقَظَ فَذَكَرَ اللَّهَ اِنْحَلَّتْ عُقْدَة , فَإِنْ تَوَضَّأَ اِنْحَلَّتْ عُقْدَة , فَإِنْ صَلَّى اِنْحَلَّتْ عُقَده كُلّهَا , فَأَصْبَحَ نَشِيطًا طَيِّب النَّفْس , وَإِلَّا أَصْبَحَ خَبِيث النَّفْس كَسْلَان ) وَذَكَرَ حَدِيثَ سَمُرَة بْن جُنْدُب عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرُّؤْيَا قَالَ : ( أَمَّا الَّذِي يُثْلَغ رَأْسه بِالْحَجَرِ فَإِنَّهُ يَأْخُذ الْقُرْآن فَيَرْفُضهُ , وَيَنَام عَنْ الصَّلَاة الْمَكْتُوبَة ) .</p><p>وَحَدِيث عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود قَالَ : ذُكِرَ عِنْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُل يَنَام اللَّيْلَ كُلّه فَقَالَ : ( ذَلِكَ رَجُل بَالَ الشَّيْطَان فِي أُذُنَيْهِ ) فَقَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : فَهَذِهِ أَحَادِيث مُقْتَضِيَة حَمْل مُطْلَق الصَّلَاة عَلَى الْمَكْتُوبَة ; فَيُحْمَل الْمُطْلَق عَلَى الْمُقَيَّد لِاحْتِمَالِهِ لَهُ , وَتَسْقُط الدَّعْوَى مِمَّنْ عَيَّنَهُ لِقِيَامِ اللَّيْل .</p><p>وَفِي الصَّحِيح وَاللَّفْظ لِلْبُخَارِيِّ : قَالَ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو : وَقَالَ لِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يَا عَبْد اللَّه لَا تَكُنْ مِثْل فُلَان , كَانَ يَقُوم اللَّيْل فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْل ) وَلَوْ كَانَ فَرْضًا مَا أَقَرَّهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ , وَلَا أَخْبَرَ بِمِثْلِ هَذَا الْخَبَر عَنْهُ , بَلْ كَانَ يَذُمّهُ غَايَةَ الذَّمّ , وَفِي الصَّحِيح عَنْ عَبْد اللَّه بْن عُمَر قَالَ : كَانَ الرَّجُل فِي حَيَاة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَأَى رُؤْيَا قَصَّهَا عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَكُنْت غُلَامًا شَابًّا عَزَبًا , وَكُنْت أَنَام فِي الْمَسْجِد عَلَى عَهْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَرَأَيْت فِي النَّوْم كَأَنَّ مَلَكَيْنِ أَخَذَانِي فَذَهَبَا بِي إِلَى النَّار , فَإِذَا هِيَ مَطْوِيَّة كَطَيِّ الْبِئْر , وَإِذَا لَهَا قَرْنَانِ , وَإِذَا فِيهَا نَاس قَدْ عَرَفْتهمْ , فَجَعَلْت أَقُول : أَعُوذ بِاَللَّهِ مِنْ النَّار . قَالَ : وَلَقِيَنَا مَلَك آخَر , فَقَالَ لِي : لَمْ تُرَع . فَقَصَصْتهَا عَلَى حَفْصَة , فَقَصَّتْهَا حَفْصَة عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَقَالَ : ( نِعْمَ الرَّجُل عَبْد اللَّه لَوْ كَانَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْل ) فَكَانَ بَعْد لَا يَنَام مِنْ اللَّيْل إِلَّا قَلِيلًا ; فَلَوْ كَانَ تَرْك الْقِيَام مَعْصِيَة لَمَا قَالَ لَهُ الْمَلَك : لَمْ تُرَع . وَاَللَّه أَعْلَم .</p><p>إِذَا ثَبَتَ أَنَّ قِيَامَ اللَّيْل لَيْسَ بِفَرْضٍ , وَأَنَّ قَوْله : | فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآن | , | فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ | مَحْمُول عَلَى ظَاهِره مِنْ الْقِرَاءَة فِي الصَّلَاة فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي قَدْر مَا يَلْزَمهُ أَنْ يَقْرَأَ بِهِ فِي الصَّلَاة ; فَقَالَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ : فَاتِحَة الْكِتَاب لَا يُجْزِئ الْعُدُول عَنْهَا , وَلَا الِاقْتِصَار عَلَى بَعْضهَا , وَقَدَّرَهُ أَبُو حَنِيفَةَ بِآيَةٍ وَاحِدَة , مِنْ أَيّ الْقُرْآن كَانَتْ . وَعَنْهُ ثَلَاث آيَات ; لِأَنَّهَا أَقَلّ سُورَة . ذَكَرَ الْقَوْلَ الْأَوَّل الْمَاوَرْدِيّ وَالثَّانِي اِبْن الْعَرَبِيّ . وَلِصَحِيحِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَالِك وَالشَّافِعِيّ , عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي سُورَة | الْفَاتِحَة | أَوَّل الْكِتَاب وَالْحَمْد لِلَّهِ .</p><p>‎وَقِيلَ : إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ قِرَاءَة الْقُرْآن فِي غَيْر الصَّلَاة ; قَالَ الْمَاوَرْدِيّ : فَعَلَى هَذَا يَكُون مُطْلَق هَذَا الْأَمْر مَحْمُولًا عَلَى الْوُجُوب , أَوْ عَلَى الِاسْتِحْبَاب دُونَ الْوُجُوب . وَهَذَا قَوْل الْأَكْثَرِينَ ; لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَقْرَأَ لَوَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَحْفَظهُ . الثَّانِي أَنَّهُ مَحْمُول عَلَى الْوُجُوب ; لِيَقِفَ بِقِرَاءَتِهِ عَلَى إِعْجَازه , وَمَا فِيهِ مِنْ دَلَائِل التَّوْحِيد وَبَعْث الرُّسُل , وَلَا يَلْزَمهُ إِذَا قَرَأَهُ وَعَرَفَ إِعْجَازه وَدَلَائِل التَّوْحِيد مِنْهُ أَنْ يَحْفَظهُ ; لِأَنَّ حِفْظ الْقُرْآن مِنْ الْقُرَب الْمُسْتَحَبَّة دُونَ الْوَاجِبَة .</p><p>وَفِي قَدْر مَا تَضَمَّنَهُ هَذَا الْأَمْر مِنْ الْقِرَاءَة خَمْسَة أَقْوَال : أَحَدهَا جَمِيع الْقُرْآن ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَسَّرَهُ عَلَى عِبَاده ; قَالَهُ الضَّحَّاك . الثَّانِي ثُلُث الْقُرْآن ; حَكَاهُ جُوَيْبِر . الثَّالِث مِائَتَا آيَة ; قَالَهُ السُّدِّيّ . الرَّابِع مِائَة آيَة ; قَالَهُ اِبْن عَبَّاس . الْخَامِس ثَلَاث آيَات كَأَقْصَر سُورَة ; قَالَهُ أَبُو خَالِد الْكِنَانِيّ .|وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ|يَعْنِي الْمَفْرُوضَة وَهِيَ الْخَمْس لِوَقْتِهَا .|وَآتُوا الزَّكَاةَ|الْوَاجِبَة فِي أَمْوَالكُمْ ; قَالَهُ عِكْرِمَة وَقَتَادَة . وَقَالَ الْحَارِث الْعُكْلِيّ : صَدَقَة الْفِطْر لِأَنَّ زَكَاةَ الْأَمْوَال وَجَبَتْ بَعْدَ ذَلِكَ .</p><p>وَقِيلَ : صَدَقَة التَّطَوُّع . وَقِيلَ : كُلّ أَفْعَال الْخَيْر .</p><p>وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : طَاعَة اللَّه وَالْإِخْلَاص لَهُ .|وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا|الْقَرْض الْحَسَن مَا قُصِدَ بِهِ وَجْه اللَّه تَعَالَى خَالِصًا مِنْ الْمَال الطَّيِّب . وَقَدْ مَضَى فِي سُورَة | الْحَدِيد | بَيَانه .</p><p>وَقَالَ زَيْد بْن أَسْلَمَ : الْقَرْض الْحَسَن النَّفَقَة عَلَى الْأَهْل . وَقَالَ عُمَر بْن الْخَطَّاب : هُوَ النَّفَقَة فِي سَبِيل اللَّه .|وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا|وَرُوِيَ عَنْ عُمَر بْن الْخَطَّاب أَنَّهُ اِتَّخَذَ حَيْسًا - يَعْنِي تَمْرًا بِلَبَنٍ - فَجَاءَهُ مِسْكِين فَأَخَذَهُ وَدَفَعَهُ إِلَيْهِ .</p><p>فَقَالَ بَعْضهمْ : مَا يَدْرِي هَذَا الْمِسْكِين مَا هَذَا ؟ فَقَالَ عُمَر : لَكِنَّ رَبّ الْمِسْكِين يَدْرِي مَا هُوَ وَكَأَنَّهُ تَأَوَّلَ : | وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْر تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّه هُوَ خَيْرًا | أَيْ مِمَّا تَرَكْتُمْ وَخَلَّفْتُمْ , وَمِنْ الشُّحّ وَالتَّقْصِير .|وَأَعْظَمَ أَجْرًا|قَالَ أَبُو هُرَيْرَة : الْجَنَّة ; وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُونَ أَعْظَم أَجْرًا ; لِإِعْطَائِهِ بِالْحَسَنَةِ عَشْرًا . وَنُصِبَ | خَيْرًا وَأَعْظَم | عَلَى الْمَفْعُول الثَّانِي | لِتَجِدُوهُ | وَ | هُوَ | : فَصْل عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ , وَعِمَاد فِي قَوْل الْكُوفِيِّينَ , لَا مَحَلّ لَهُ مِنْ الْإِعْرَاب . و | أَجْرًا | تَمْيِيز .|وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ|أَيْ سَلُوهُ الْمَغْفِرَةَ لِذُنُوبِكُمْ|إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ|لِمَا كَانَ قَبْلَ التَّوْبَة|رَحِيمٌ|لَكُمْ بَعْدَهَا ; قَالَهُ سَعِيد بْن جُبَيْر . خُتِمَتْ السُّورَة


1-الفاتحة 2-البقرة 3-آل-عمران 4-النساء 5-المائدة 6-الأنعام 7-الأعراف 8-الأنفال 9-التوبة 10-يونس 11-هود 12-يوسف 13-الرعد 14-إبراهيم 15-الحجر 16-النحل 17-الإسراء 18-الكهف 19-مريم 20-طه 21-الأنبياء 22-الحج 23-المؤمنون 24-النور 25-الفرقان 26-الشعراء 27-النمل 28-القصص 29-العنكبوت 30-الروم 31-لقمان 32-السجدة 33-الأحزاب 34-سبأ 35-فاطر 36-يس 37-الصافات 38-ص 39-الزمر 40-غافر 41-فصلت 42-الشورى 43-الزخرف 44-الدخان 45-الجاثية 46-الأحقاف 47-محمد 48-الفتح 49-الحجرات 50-ق 51-الذاريات 52-الطور 53-النجم 54-القمر 55-الرحمن 56-الواقعة 57-الحديد 58-المجادلة 59-الحشر 60-الممتحنة 61-الصف 62-الجمعة 63-المنافقون 64-التغابن 65-الطلاق 66-التحريم 67-الملك 68-القلم 69-الحاقة 70-المعارج 71-نوح 72-الجن 73-المزمل 74-المدثر 75-القيامة 76-الإنسان 77-المرسلات 78-النبأ 79-النازعات 80-عبس 81-التكوير 82-الانفطار 83-المطففين 84-الانشقاق 85-البروج 86-الطارق 87-الأعلى 88-الغاشية 89-الفجر 90-البلد 91-الشمس 92-الليل 93-الضحى 94-الشرح 95-التين 96-العلق 97-القدر 98-البينة 99-الزلزلة 100-العاديات 101-القارعة 102-التكاثر 103-العصر 104-الهمزة 105-الفيل 106-قريش 107-الماعون 108-الكوثر 109-الكافرون 110-النصر 111-المسد 112-الإخلاص 113-الفلق 114-الناس