أَيْ لَيْسُوا عَلَى يَقِين فِيمَا يُظْهِرُونَهُ مِنْ الْإِيمَان وَالْإِقْرَار فِي قَوْلهمْ : إِنَّ اللَّه خَالِقهمْ ; وَإِنَّمَا يَقُولُونَهُ لِتَقْلِيدِ آبَائِهِمْ مِنْ غَيْر عِلْم فَهُمْ فِي شَكّ . وَإِنْ تَوَهَّمُوا أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ فَهُمْ يَلْعَبُونَ فِي دِينهمْ بِمَا يَعِنّ لَهُمْ مِنْ غَيْر حُجَّة . وَقِيلَ : | يَلْعَبُونَ | يُضِيفُونَ إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الِافْتِرَاء اِسْتِهْزَاء . وَيُقَال لِمَنْ أَعْرَضَ عَنْ الْمَوَاعِظ : لَاعِب ; وَهُوَ كَالصَّبِيِّ الَّذِي يَلْعَب فَيَفْعَل مَا لَا يَدْرِي عَاقِبَته .
اِرْتَقِبْ مَعْنَاهُ اِنْتَظِرْ يَا مُحَمَّد بِهَؤُلَاءِ الْكُفَّار يَوْم تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُبِين ; قَالَهُ قَتَادَة . وَقِيلَ : مَعْنَاهُ اِحْفَظْ قَوْلهمْ هَذَا لِتَشْهَد عَلَيْهِمْ يَوْم تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُبِين ; وَلِذَلِكَ سُمِّيَ الْحَافِظ رَقِيبًا . وَفِي الدُّخَان أَقْوَال ثَلَاثَة : الْأَوَّل : أَنَّهُ مِنْ أَشْرَاط السَّاعَة لَمْ يَجِيء بَعْد , وَأَنَّهُ يَمْكُث فِي الْأَرْض أَرْبَعِينَ يَوْمًا يَمْلَأ مَا بَيْن السَّمَاء وَالْأَرْض ; فَأَمَّا الْمُؤْمِن فَيُصِيبهُ مِثْل الزُّكَام , وَأَمَّا الْكَافِر وَالْفَاجِر فَيَدْخُل فِي أُنُوفهمْ فَيَثْقُب مَسَامِعهمْ , وَيُضَيِّق أَنْفَاسهمْ ; وَهُوَ مِنْ آثَار جَهَنَّم يَوْم الْقِيَامَة . وَمِمَّنْ قَالَ إِنَّ الدُّخَان لَمْ يَأْتِ بَعْد : عَلِيّ وَابْن عَبَّاس وَابْن عَمْرو وَأَبُو هُرَيْرَة وَزَيْد بْن عَلِيّ وَالْحَسَن وَابْن أَبِي مُلَيْكَة وَغَيْرهمْ . وَرَوَى أَبُو سَعِيد الْخُدْرِيّ مَرْفُوعًا أَنَّهُ دُخَان يَهِيج بِالنَّاسِ يَوْم الْقِيَامَة ; يَأْخُذ الْمُؤْمِن مِنْهُ كَالزُّكْمَةِ . وَيَنْفُخ الْكَافِر حَتَّى يَخْرُج مِنْ كُلّ مِسْمَع مِنْهُ ; ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيّ . وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ أَبِي الطُّفَيْل عَنْ حُذَيْفَة بْن أُسَيْد الْغِفَارِيّ قَالَ : اِطَّلَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْنَا وَنَحْنُ نَتَذَاكَر فَقَالَ : ( مَا تَذْكُرُونَ ) ؟ قَالُوا : نَذْكُر السَّاعَة ; قَالَ : ( إِنَّهَا لَنْ تَقُوم حَتَّى تَرَوْا قَبْلهَا عَشْر آيَات - فَذَكَرَ - الدُّخَان وَالدَّجَّال وَالدَّابَّة وَطُلُوع الشَّمْس مِنْ مَغْرِبهَا وَنُزُول عِيسَى اِبْن مَرْيَم وَخُرُوج يَأْجُوج وَمَأْجُوج وَثَلَاثَة خُسُوف خَسْف بِالْمَشْرِقِ وَخَسْف بِجَزِيرَةِ الْعَرَب وَآخَر ذَلِكَ نَار تَخْرُج مِنْ الْيَمَن تَطْرُد النَّاس إِلَى مَحْشَرهمْ ) . فِي رِوَايَة عَنْ حُذَيْفَة ( إِنَّ السَّاعَة لَا تَكُون حَتَّى تَكُون عَشْر آيَات : خَسْف بِالْمَشْرِقِ وَخَسْف بِالْمَغْرِبِ وَخَسْف فِي جَزِيرَة الْعَرَب وَالدُّخَان وَالدَّجَّال وَدَابَّة الْأَرْض وَيَأْجُوج وَمَأْجُوج وَطُلُوع الشَّمْس مِنْ مَغْرِبهَا وَنَار تَخْرُج مِنْ قَعْر عَدَن تُرَحِّل النَّاس ) . وَخَرَّجَهُ الثَّعْلَبِيّ أَيْضًا عَنْ حُذَيْفَة قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَوَّل الْآيَات خُرُوجًا الدَّجَّال وَنُزُول عِيسَى اِبْن مَرْيَم وَنَار تَخْرُج مِنْ قَعْر عَدَن أَبْيَن تَسُوق النَّاس إِلَى الْمَحْشَر تَبِيت مَعَهُمْ حَيْثُ بَاتُوا وَتَقِيل مَعَهُمْ إِذَا قَالُوا وَتُصْبِح مَعَهُمْ إِذَا أَصْبَحُوا وَتُمْسِي مَعَهُمْ إِذَا أَمْسَوْا ) . قُلْت : يَا نَبِيّ اللَّه , وَمَا الدُّخَان ؟ قَالَ هَذِهِ الْآيَة : | فَارْتَقِبْ يَوْم تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُبِين | يَمْلَأ مَا بَيْن الْمَشْرِق وَالْمَغْرِب يَمْكُث أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَلَيْلَة أَمَّا الْمُؤْمِن فَيُصِيبهُ مِنْهُ شِبْه الزُّكَام وَأَمَّا الْكَافِر فَيَكُون بِمَنْزِلَةِ السَّكْرَان يَخْرُج الدُّخَان مِنْ فَمه وَمَنْخِره وَعَيْنَيْهِ وَأُذُنه وَدُبُره ) . فَهَذَا قَوْل . الْقَوْل الثَّانِي : أَنَّ الدُّخَان هُوَ مَا أَصَابَ قُرَيْشًا مِنْ الْجُوع بِدُعَاءِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . حَتَّى كَانَ الرَّجُل يَرَى بَيْن السَّمَاء وَالْأَرْض دُخَانًا ; قَالَهُ اِبْن مَسْعُود . قَالَ وَقَدْ كَشَفَهُ اللَّه عَنْهُمْ , وَلَوْ كَانَ يَوْم الْقِيَامَة لَمْ يَكْشِفهُ عَنْهُمْ . وَالْحَدِيث عَنْهُ بِهَذَا فِي صَحِيح الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم وَالتِّرْمِذِيّ . قَالَ الْبُخَارِيّ : حَدَّثَنِي يَحْيَى قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَة عَنْ الْأَعْمَش عَنْ مُسْلِم عَنْ مَسْرُوق قَالَ : قَالَ عَبْد اللَّه : إِنَّمَا كَانَ هَذَا لِأَنَّ قُرَيْشًا لَمَّا اِسْتَعْصَتْ عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا عَلَيْهِمْ بِسِنِينَ كَسِنِي يُوسُف , فَأَصَابَهُمْ قَحْط وَجَهْد حَتَّى أَكَلُوا الْعِظَام , فَجَعَلَ الرَّجُل يَنْظُر إِلَى السَّمَاء فَيَرَى مَا بَيْنه وَبَيْنهَا كَهَيْئَةِ الدُّخَان مِنْ الْجَهْد ; فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى : | فَارْتَقِبْ يَوْم تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُبِين . يَغْشَى النَّاس هَذَا عَذَاب أَلِيم | . قَالَ : فَأُتِيَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقِيلَ : يَا رَسُول اللَّه , اِسْتَسْقِ اللَّه لِمُضَرَ فَإِنَّهَا قَدْ هَلَكَتْ . قَالَ : ( لِمُضَرَ ! إِنَّك لَجَرِيء ) فَاسْتَسْقَى فَسُقُوا ; فَنَزَلَتْ | إِنَّكُمْ عَائِدُونَ | [ الدُّخَان : 15 ] . فَلَمَّا أَصَابَتْهُمْ الرَّفَاهِيَة عَادُوا إِلَى حَالهمْ حِين أَصَابَتْهُمْ الرَّفَاهِيَة ; فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : | يَوْم نَبْطِش الْبَطْشَة الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ | [ الدُّخَان : 16 ] قَالَ : يَعْنِي يَوْم بَدْر . قَالَ أَبُو عُبَيْدَة : وَالدُّخَان الْجَدْب . الْقُتَبِيّ سُمِّيَ دُخَانًا لِيُبْسِ الْأَرْض مِنْهُ حِين يَرْتَفِع مِنْهَا كَالدُّخَانِ . الْقَوْل الثَّالِث : إِنَّهُ يَوْم . فَتْح مَكَّة لَمَّا حَجَبَتْ السَّمَاء الْغَبَرَة ; قَالَهُ عَبْد الرَّحْمَن الْأَعْرَج .
| يَغْشَى النَّاس | فِي مَوْضِع الصِّفَة لِلدُّخَانِ , فَإِنْ كَانَ قَدْ مَضَى عَلَى مَا قَالَ اِبْن مَسْعُود فَهُوَ خَاصّ بِالْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْل مَكَّة , وَإِنْ كَانَ مِنْ أَشْرَاط السَّاعَة فَهُوَ عَامّ عَلَى مَا تَقَدَّمَ . | هَذَا عَذَاب أَلِيم | أَيْ يَقُول اللَّه لَهُمْ : | هَذَا عَذَاب أَلِيم | . فَمَنْ قَالَ : إِنَّ الدُّخَان قَدْ مَضَى فَقَوْله : | هَذَا عَذَاب أَلِيم | حِكَايَة حَال مَاضِيَة , وَمَنْ جَعَلَهُ مُسْتَقْبَلًا . فَهُوَ حِكَايَة حَال آتِيَة . وَقِيلَ : | هَذَا | بِمَعْنَى ذَلِكَ . وَقِيلَ : أَيْ يَقُول النَّاس لِذَلِكَ الدُّخَان : | هَذَا عَذَاب أَلِيم | . وَقِيلَ : هُوَ إِخْبَار عَنْ دُنُوّ الْأَمْر ; كَمَا تَقُول : هَذَا الشِّتَاء فَأَعِدَّ لَهُ .
أَيْ يَقُولُونَ ذَلِكَ : اِكْشِفْ عَنَّا الْعَذَاب ف | إِنَّا مُؤْمِنُونَ | ; أَيْ نُؤْمِن بِك إِنْ كَشَفْته عَنَّا . قِيلَ : إِنَّ قُرَيْشًا أَتَوْا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا : إِنْ كَشَفَ اللَّه عَنَّا هَذَا الْعَذَاب أَسْلَمْنَا , ثُمَّ نَقَضُوا هَذَا الْقَوْل . قَالَ قَتَادَة : | الْعَذَاب | هُنَا الدُّخَان . وَقِيلَ : الْجُوع ; حَكَاهُ النَّقَّاش .</p><p>قُلْت : وَلَا تَنَاقُض ; فَإِنَّ الدُّخَان لَمْ يَكُنْ , إِلَّا مِنْ الْجُوع الَّذِي أَصَابَهُمْ ; عَلَى مَا تَقَدَّمَ . وَقَدْ يُقَال لِلْجُوعِ وَالْقَحْط : الدُّخَان ; لِيُبْسِ الْأَرْض فِي سَنَة الْجَدْب وَارْتِفَاع الْغُبَار بِسَبَبِ قِلَّة الْأَمْطَار ; وَلِهَذَا يُقَال لِسَنَةِ الْجَدْب : الْغَبْرَاء . وَقِيلَ : إِنَّ الْعَذَاب هُنَا الثَّلْج . قَالَ الْمَاوَرْدِيّ : وَهَذَا لَا وَجْه لَهُ ; لِأَنَّ هَذَا إِنَّمَا يَكُون فِي الْآخِرَة أَوْ فِي أَهْل مَكَّة , وَلَمْ تَكُنْ مَكَّة مِنْ بِلَاد الثَّلْج ; غَيْر أَنَّهُ مَقُول فَحَكَيْنَاهُ .
أَيْ مِنْ أَيْنَ يَكُون لَهُمْ التَّذَكُّر وَالِاتِّعَاظ عِنْد حُلُول الْعَذَاب .|وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ|يُبَيِّن لَهُمْ الْحَقّ , وَالذِّكْرَى وَالذِّكْر وَاحِد ; قَالَهُ الْبُخَارِيّ .
أَيْ أَعْرَضُوا . قَالَ اِبْن عَبَّاس : أَيْ مَتَى يَتَّعِظُونَ وَاَللَّه أَبْعَدَهُمْ مِنْ الِاتِّعَاظ وَالتَّذَكُّر بَعْد تَوَلِّيهمْ عَنْ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَكْذِيبهمْ إِيَّاهُ . وَقِيلَ : أَيْ أَنَّى يَنْفَعهُمْ قَوْلهمْ : | إِنَّا مُؤْمِنُونَ | بَعْد ظُهُور الْعَذَاب غَدًا أَوْ بَعْد ظُهُور أَعْلَام السَّاعَة , فَقَدْ صَارَتْ الْمَعَارِف ضَرُورِيَّة . وَهَذَا إِذَا جُعِلَتْ الدُّخَان آيَة مُرْتَقِبَة .|وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ|أَيْ عَلَّمَهُ بَشَر أَوْ عَلَّمَهُ الْكَهَنَة وَالشَّيَاطِين , ثُمَّ هُوَ مَجْنُون وَلَيْسَ بِرَسُولٍ .
أَيْ وَقْتًا قَلِيلًا , وَعَدَ أَنْ يَكْشِف عَنْهُمْ ذَلِكَ الْعَذَاب قَلِيلًا ; أَيْ فِي زَمَان قَلِيل لِيَعْلَم أَنَّهُمْ لَا يَفُونَ بِقَوْلِهِمْ , بَلْ يَعُودُونَ إِلَى الْكُفْر بَعْد كَشْفه ; قَالَهُ اِبْن مَسْعُود . فَلَمَّا كَشَفَ ذَلِكَ عَنْهُمْ بِاسْتِسْقَاءِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ عَادُوا إِلَى تَكْذِيبه . وَمَنْ قَالَ : إِنَّ الدُّخَان مُنْتَظِر قَالَ : أَشَارَ بِهَذَا إِلَى مَا يَكُون مِنْ الْفُرْجَة بَيْن آيَة وَآيَة مِنْ آيَات قِيَام السَّاعَة . ثُمَّ مَنْ قُضِيَ عَلَيْهِ بِالْكُفْرِ يَسْتَمِرّ عَلَى كُفْره . وَمَنْ قَالَ هَذَا فِي الْقِيَامَة قَالَ : أَيْ لَوْ كَشَفْنَا عَنْكُمْ الْعَذَاب لَعُدْتُمْ إِلَى الْكُفْر . وَقِيلَ : مَعْنَى | إِنَّكُمْ عَائِدُونَ | إِلَيْنَا ; أَيْ مَبْعُوثُونَ بَعْد الْمَوْت . وَقِيلَ : الْمَعْنَى | إِنَّكُمْ عَائِدُونَ | إِلَى نَار جَهَنَّم إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا .
| يَوْم | مَحْمُول عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ | مُنْتَقِمُونَ | ; أَيْ نَنْتَقِم مِنْهُمْ يَوْم نَبْطِش . وَأَبْعَدَهُ بَعْض النَّحْوِيِّينَ بِسَبَبِ أَنَّ مَا بَعْد | إِنَّ | لَا يُفَسَّر مَا قَبْلهَا . وَقِيلَ : إِنَّ الْعَامِل فِيهِ | مُنْتَقِمُونَ | . وَهُوَ بَعِيد أَيْضًا ; لِأَنَّ مَا بَعْد | إِنَّ | لَا يَعْمَل فِيمَا قَبْلهَا . وَلَا يَحْسُن تَعَلُّقه بِقَوْلِهِ : | عَائِدُونَ | وَلَا بِقَوْلِهِ : | إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَاب | ; إِذْ لَيْسَ الْمَعْنَى عَلَيْهِ . وَيَجُوز نَصْبه بِإِضْمَارِ فِعْل ; كَأَنَّهُ قَالَ : ذَكِّرْهُمْ أَوْ اُذْكُرْ . وَيَجُوز أَنْ يَكُون الْمَعْنَى فَإِنَّهُمْ عَائِدُونَ , فَإِذَا عُدْتُمْ أَنْتَقِم مِنْكُمْ يَوْم نَبْطِش الْبَطْشَة الْكُبْرَى . وَلِهَذَا وَصَلَ هَذَا بِقِصَّةِ فِرْعَوْن , فَإِنَّهُمْ وَعَدُوا مُوسَى الْإِيمَان إِنْ كَشَفَ عَنْهُمْ الْعَذَاب , ثُمَّ لَمْ يُؤْمِنُوا حَتَّى غَرِقُوا . وَقِيلَ : | إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَاب قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ | كَلَام تَامّ . ثُمَّ اِبْتَدَأَ : | يَوْم نَبْطِش الْبَطْشَة الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ | أَيْ نَنْتَقِم مِنْ جَمِيع الْكُفَّار . وَقِيلَ : الْمَعْنَى وَارْتَقِبْ الدُّخَان وَارْتَقِبْ يَوْم نَبْطِش , فَحَذَفَ وَاو الْعَطْف ; كَمَا تَقُول : اِتَّقِ النَّار اِتَّقِ الْعَذَاب . و | الْبَطْشَة الْكُبْرَى | فِي قَوْل اِبْن مَسْعُود : يَوْم بَدْر . وَهُوَ قَوْل اِبْن عَبَّاس وَأُبَيّ بْن كَعْب وَمُجَاهِد وَالضَّحَّاك . وَقِيلَ : عَذَاب جَهَنَّم يَوْم الْقِيَامَة ; قَالَ الْحَسَن وَعِكْرِمَة وَابْن عَبَّاس أَيْضًا , وَاخْتَارَهُ الزَّجَّاج . وَقِيلَ : دُخَان يَقَع فِي الدُّنْيَا , أَوْ جُوع أَوْ قَحْط يَقَع قَبْل يَوْم الْقِيَامَة . الْمَاوَرْدِيّ : وَيَحْتَمِل أَنَّهَا قِيَام السَّاعَة ; لِأَنَّهَا خَاتِمَة : بَطَشَاته فِي الدُّنْيَا . وَيُقَال : اِنْتَقَمَ اللَّه مِنْهُ ; أَيْ عَاقَبَهُ . وَالِاسْم مِنْهُ النِّقْمَة وَالْجَمْع النَّقِمَات . وَقِيلَ بِالْفَرْقِ بَيْن النِّقْمَة وَالْعُقُوبَة ; فَالْعُقُوبَة بَعْد الْمَعْصِيَة لِأَنَّهَا مِنْ الْعَاقِبَة . وَالنِّقْمَة قَدْ تَكُون قَبْلهَا ; قَالَهُ اِبْن عَبَّاس . وَقِيلَ : الْعُقُوبَة مَا تَقَدَّرَتْ وَالِانْتِقَام غَيْر مُقَدَّر .
أَيْ اِبْتَلَيْنَاهُمْ . وَمَعْنَى هَذِهِ الْفِتْنَة وَالِابْتِلَاء الْأَمْر بِالطَّاعَةِ . وَالْمَعْنَى عَامَلْنَاهُمْ مُعَامَلَة الْمُخْتَبَر بِبَعْثَةِ مُوسَى إِلَيْهِمْ فَكَذَّبُوا فَأَهْلَكُوا ; فَهَكَذَا أَفْعَل بِأَعْدَائِك يَا مُحَمَّد إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا . وَقِيلَ : فَتَنَّاهُمْ عَذَّبْنَاهُمْ بِالْغَرَقِ . وَفِي الْكَلَام تَقْدِيم وَتَأْخِير ; وَالتَّقْدِير : وَلَقَدْ جَاءَ آل فِرْعَوْن رَسُول كَرِيم وَفَتَنَّاهُمْ , أَيْ أَغْرَقْنَاهُمْ ; لِأَنَّ الْفِتْنَة كَانَتْ بَعْد مَجِيء الرَّسُول . وَالْوَاو لَا تُرَتِّب . وَمَعْنَى | كَرِيم | أَيْ كَرِيم فِي قَوْمه . وَقِيلَ : كَرِيم الْأَخْلَاق بِالتَّجَاوُزِ وَالصَّفْح . وَقَالَ الْفَرَّاء : كَرِيم عَلَى رَبّه إِذْ اِخْتَصَّهُ بِالنُّبُوَّةِ وَإِسْمَاع الْكَلَام .
قَالَ اِبْن عَبَّاس : الْمَعْنَى جَاءَهُمْ فَقَالَ : اِتَّبِعُونِي . ف | عِبَاد اللَّه | مُنَادًى . وَقَالَ مُجَاهِد : الْمَعْنَى أَرْسَلُوا مَعِيَ عِبَاد اللَّه وَأَطْلَقُوهُمْ مِنْ الْعَذَاب . ف | عِبَاد اللَّه | عَلَى هَذَا مَفْعُول . وَقِيلَ : الْمَعْنَى أَدُّوا إِلَيَّ سَمْعكُمْ حَتَّى أُبَلِّغكُمْ رِسَالَة رَبِّي .|إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ|أَيْ أَمِين عَلَى الْوَحْي فَاقْبَلُوا نُصْحِي . وَقِيلَ : أَمِين عَلَى مَا أَسْتَأْدِيهِ مِنْكُمْ فَلَا أَخُون فِيهِ .
أَيْ لَا تَتَكَبَّرُوا عَلَيْهِ وَلَا تَرْتَفِعُوا عَنْ طَاعَته . وَقَالَ قَتَادَة : لَا تَبْغُوا عَلَى اللَّه . اِبْن عَبَّاس : لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّه . وَالْفَرْق بَيْن الْبَغْي وَالِافْتِرَاء : أَنَّ الْبَغْي بِالْفِعْلِ وَالِافْتِرَاء بِالْقَوْلِ . وَقَالَ اِبْن جُرَيْج : لَا تَعْظُمُوا عَلَى اللَّه . يَحْيَى بْن سَلَّام : لَا تَسْتَكْبِرُوا عَلَى عِبَادَة اللَّه . وَالْفَرْق بَيْن التَّعْظِيم وَالِاسْتِكْبَار : أَنَّ التَّعْظِيم تَطَاوُل الْمُقْتَدِر , وَالِاسْتِكْبَار تَرَفُّع الْمُحْتَقَر ; ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيّ|إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ|قَالَ قَتَادَة : بِعُذْرٍ بَيِّن . وَقَالَ يَحْيَى بْن سَلَّام بِحُجَّةٍ بَيِّنَة . وَالْمَعْنَى وَاحِد ; أَيْ بُرْهَان بَيِّن .
كَأَنَّهُمْ تَوَعَّدُوهُ بِالْقَتْلِ فَاسْتَجَارَ بِاَللَّهِ . قَالَ قَتَادَة : | تَرْجُمُونِ | بِالْحِجَارَةِ . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : تَشْتُمُونَ ; فَتَقُولُوا سَاحِر كَذَّاب . وَأَظْهَر الذَّال مِنْ | عُذْت | نَافِع وَابْن كَثِير وَابْن عَامِر وَعَاصِم وَيَعْقُوب . وَأَدْغَمَ الْبَاقُونَ . وَالْإِدْغَام طَلَبًا لِلتَّخْفِيفِ , وَالْإِظْهَار عَلَى الْأَصْل . ثُمَّ قِيلَ : إِنِّي عُذْت بِاَللَّهِ فِيمَا مَضَى ; لِأَنَّ اللَّه وَعَدَهُ فَقَالَ : | فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا | [ الْقَصَص : 35 ] . وَقِيلَ : إِنِّي أَعُوذ ; كَمَا تَقُول نَشَدْتُك بِاَللَّهِ , وَأَقْسَمْت عَلَيْك بِاَللَّهِ ; أَيْ أَقْسَمَ .
| وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي | أَيْ إِنْ لَمْ تُصَدِّقُونِي وَلَمْ تُؤْمِنُوا بِاَللَّهِ لِأَجْلِ بُرْهَانِي ; فَاللَّام فِي | لِي | لَام أَجْل . وَقِيلَ : أَيْ وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا بِي ; كَقَوْلِهِ : | فَآمَنَ لَهُ لُوط | [ الْعَنْكَبُوت : 26 ] أَيْ بِهِ . | فَاعْتَزِلُونِ | أَيْ دَعُونِي كَفَافًا لَا لِي وَلَا عَلَيَّ ; قَالَهُ مُقَاتِل . وَقِيلَ : أَيْ كُونُوا بِمَعْزِلٍ مِنِّي وَأَنَا بِمَعْزِلٍ مِنْكُمْ إِلَى أَنْ يَحْكُم اللَّه بَيْننَا . وَقِيلَ : فَخَلُّوا سَبِيلِي وَكُفُّوا عَنْ أَذَايَ . وَالْمَعْنَى مُتَقَارِب , وَاَللَّه أَعْلَم .
| فَدَعَا رَبّه | فِيهِ حَذْف ; أَيْ فَكَفَرُوا فَدَعَا رَبّه . | أَنَّ هَؤُلَاءِ | بِفَتْحِ | أَنْ | أَيْ بِأَنْ هَؤُلَاءِ . | قَوْم مُجْرِمُونَ | أَيْ مُشْرِكُونَ , قَدْ اِمْتَنَعُوا مِنْ إِطْلَاق بَنِي إِسْرَائِيل وَمِنْ الْإِيمَان .
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ :</subtitle></p><p>الْأُولَى : | فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا | أَيْ فَأَجَبْنَا دُعَاءَهُ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي ; أَيْ بِمَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيل . | لَيْلًا | أَيْ قَبْل الصَّبَاح | إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ | وَقَرَأَ أَهْل الْحِجَاز | فَاسْرِ | بِوَصْلِ الْأَلِف . وَكَذَلِكَ اِبْن كَثِير ; مِنْ سَرَى . الْبَاقُونَ | فَأَسْرِ | بِالْقَطْعِ ; مِنْ أَسْرَى . وَقَدْ تَقَدَّمَ . وَتَقَدَّمَ خُرُوج فِرْعَوْن وَرَاء مُوسَى فِي | الْبَقَرَة وَالْأَعْرَاف وَطَه وَالشُّعَرَاء وَيُونُس | وَإِغْرَاقه وَإِنْجَاء مُوسَى | ; فَلَا مَعْنَى لِلْإِعَادَةِ .</p><p>الثَّانِيَة : أُمِرَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام بِالْخُرُوجِ لَيْلًا . وَسَيْر اللَّيْل فِي الْغَالِب إِنَّمَا يَكُون عَنْ خَوْف , وَالْخَوْف يَكُون بِوَجْهَيْنِ : إِمَّا مِنْ الْعَدُوّ فَيَتَّخِذ اللَّيْل سِتْرًا مُسْدِلًا ; فَهُوَ مِنْ أَسْتَار اللَّه تَعَالَى . وَإِمَّا مِنْ خَوْف الْمَشَقَّة عَلَى الدَّوَابّ وَالْأَبْدَان بِحَرٍّ أَوْ جَدْب , فَيُتَّخَذ السُّرَى مَصْلَحَة مِنْ ذَلِكَ . وَكَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْرِي وَيُدْلِج وَمُتَرَفِّق وَيَسْتَعْجِل , بِحَسَبِ الْحَاجَة وَمَا تَقْتَضِيه الْمَصْلَحَة . وَفِي الصَّحِيح عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِذَا سَافَرْتُمْ فِي الْخِصْب فَأَعْطُوا الْإِبِل حَظّهَا مِنْ الْأَرْض وَإِذَا سَافَرْتُمْ فِي السَّنَة فَبَادِرُوا بِهَا نِقْيهَا ) . وَقَدْ مَضَى فِي أَوَّل | النَّحْل | ; وَالْحَمْد لِلَّهِ .
قَالَ اِبْن عَبَّاس : | رَهْوًا | أَيْ طَرِيقًا . وَقَالَ كَعْب وَالْحَسَن . وَعَنْ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا سَمْتًا . الضَّحَّاك وَالرَّبِيع : سَهْلًا . عِكْرِمَة : يَبَسًا , لِقَوْلِهِ : | فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْر يَبَسًا | وَقِيلَ : مُفْتَرِقًا . مُجَاهِد : مُنْفَرِجًا . وَعَنْهُ يَابِسًا . وَعَنْهُ سَاكِنًا , وَهُوَ الْمَعْرُوف فِي اللُّغَة . وَقَالَهُ قَتَادَة وَالْهَرَوِيّ . وَقَالَ غَيْرهمَا : مُنْفَرِجًا . وَقَالَ اِبْن عَرَفَة : وَهُمَا يَرْجِعَانِ إِلَى مَعْنًى وَاحِد وَإِنْ اِخْتَلَفَ لَفْظَاهُمَا , لِأَنَّهُ إِذَا سَكَنَ جَرْيه اِنْفَرَجَ . وَكَذَلِكَ كَانَ الْبَحْر يَسْكُن جَرْيه وَانْفَرَجَ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام . وَالرَّهْو عِنْد الْعَرَب : السَّاكِن , يُقَال : جَاءَتْ الْخَيْل رَهْوًا , أَيْ سَاكِنَة . قَالَ : <br>وَالْخَيْل تَمْزَع رَهْوًا فِي أَعِنَّتهَا .......... كَالطَّيْرِ تَنْجُو مِنْ الشُّؤْبُوبِ ذِي الْبَرْد <br>الْجَوْهَرِيّ : وَيُقَال اِفْعَلْ ذَلِكَ رَهْوًا , أَيْ سَاكِنًا عَلَى هَيِّنَتك . وَعَيْش رَاهٍ , أَيْ سَاكِن رَافِه . وَخِمْس رَاهٍ , إِذَا كَانَ سَهْلًا . وَرَهَا الْبَحْر أَيْ سَكَنَ . وَقَالَ أَبُو عُبَيْد : رَهَا بَيْن رِجْلَيْهِ يَرْهُو رَهْوًا أَيْ فَتَحَ , وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : | وَاتْرُكْ الْبَحْر رَهْوًا | وَالرَّهْو : السَّيْر السَّهْل , يُقَال : جَاءَتْ الْخَيْل رَهْوًا . قَالَ اِبْن الْأَعْرَابِيّ : رَهَا يَرْهُو فِي السَّيْر أَيْ رَفَقَ . قَالَ الْقَطَامِيّ فِي نَعْت الرِّكَاب : <br>يَمْشِينَ رَهْوًا فَلَا الْأَعْجَاز خَاذِلَة .......... وَلَا الصُّدُور عَلَى الْأَعْجَاز تَتَّكِل <br>وَالرَّهْو وَالرَّهْوَة : الْمَكَان الْمُرْتَفِع , وَالْمُنْخَفِض أَيْضًا يَجْتَمِع فِيهِ الْمَاء , وَهُوَ مِنْ الْأَضْدَاد . وَقَالَ أَبُو عُبَيْد : الرَّهْو : الْجَوْبَة تَكُون فِي مَحَلَّة الْقَوْم يَسِيل فِيهَا مَاء الْمَطَر وَغَيْره . وَفِي الْحَدِيث أَنَّهُ قَضَى أَنْ ( لَا شُفْعَة فِي فِنَاء وَلَا طَرِيق وَلَا مَنْقَبَة وَلَا رُكْح وَلَا رَهْو ) . وَالْجَمْع رِهَاء . وَالرَّهْو : الْمَرْأَة الْوَاسِعَة الْهَنِ . حَكَاهُ النَّضْر بْن شُمَيْل . وَالرَّهْو : ضَرْب مِنْ الطَّيْر , وَيُقَال : هُوَ الْكُرْكِيّ . قَالَ الْهَرَوِيّ : وَيَجُوز أَنْ يَكُون | رَهْوًا | مِنْ نَعْت مُوسَى - وَقَالَهُ الْقُشَيْرِيّ - أَيْ سِرْ سَاكِنًا عَلَى هَيِّنَتك ; فَالرَّهْو مِنْ نَعْت مُوسَى وَقَوْمه لَا مِنْ نَعْت الْبَحْر , وَعَلَى الْأَوَّل هُوَ مِنْ نَعْت الْبَحْر ; أَيْ اُتْرُكْهُ سَاكِنًا كَمَا هُوَ قَدْ اِنْفَرَقَ فَلَا تَأْمُرهُ بِالِانْضِمَامِ . حَتَّى يَدْخُل فِرْعَوْن وَقَوْمه . قَالَ قَتَادَة : أَرَادَ مُوسَى أَنْ يَضْرِب الْبَحْر لَمَّا قَطَعَهُ بِعَصَاهُ حَتَّى يَلْتَئِم , وَخَافَ أَنْ يَتْبَعهُ فِرْعَوْن فَقِيلَ لَهُ هَذَا . وَقِيلَ : لَيْسَ الرَّهْو مِنْ السُّكُون بَلْ هُوَ الْفُرْجَة بَيْن الشَّيْئَيْنِ ; يُقَال : رَهَا مَا بَيْن الرِّجْلَيْنِ أَيْ فُرِجَ . فَقَوْله : | رَهْوًا | أَيْ مُنْفَرِجًا . وَقَالَ اللَّيْث : الرَّهْو مَشْي فِي سُكُون , يُقَال : رَهَا يَرْهُو رَهْوًا فَهُوَ رَاهٍ . وَعَيْش رَاهٍ : وَادِع خَافِض . وَافْعَلْ ذَلِكَ سَهْوًا رَهْوًا ; أَيْ سَاكِنًا بِغَيْرِ شِدَّة . وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ آنِفًا . | إِنَّهُمْ | أَيْ إِنَّ فِرْعَوْن وَقَوْمه . | جُنْد مُغْرَقُونَ | أُخْبِرَ مُوسَى بِذَلِكَ لِيَسْكُن قَلْبه .
يَعْنِي مِنْ أَرْض مِصْر . وَعَنْ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو قَالَ : كَانَتْ الْجَنَّات بِحَافَتَيْ النِّيل فِي الشُّقَّتَيْنِ جَمِيعًا مِنْ أَسْوَان إِلَى رَشِيد , وَبَيْن الْجَنَّات زُرُوع . وَالنِّيل سَبْعَة خُلْجَان : خَلِيج الْإِسْكَنْدَرِيَّة , وَخَلِيج سَخَا , وَخَلِيج دِمْيَاط , وَخَلِيج سَرْدُوس , وَخَلِيج مَنْف , وَخَلِيج الْفَيُّوم , وَخَلِيج الْمُنْهَى مُتَّصِلَة لَا يَنْقَطِع مِنْهَا شَيْء عَنْ شَيْء , وَالزُّرُوع مَا بَيْن الْخُلْجَان كُلّهَا . وَكَانَتْ أَرْض مِصْر كُلّهَا تُرْوَى مِنْ سِتَّة عَشَرَ ذِرَاعًا بِمَا دَبَّرُوا وَقَدَّرُوا مِنْ قَنَاطِرهَا وَجُسُورهَا وَخُلْجَانهَا ; وَلِذَلِكَ سُمِّيَ النِّيل إِذَا غُلِقَ سِتَّة عَشَرَ ذِرَاعًا نِيل السُّلْطَان , وَيُخْلَع عَلَى اِبْن أَبِي الرَّدَّاد ; وَهَذِهِ الْحَال مُسْتَمِرَّة إِلَى الْآن . وَإِنَّمَا قِيلَ نِيل السُّلْطَان لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَجِب الْخَرَاج عَلَى النَّاس . وَكَانَتْ أَرْض مِصْر جَمِيعهَا تُرْوَى مِنْ إِصْبَع وَاحِدَة مِنْ سَبْعَة عَشَرَ ذِرَاعًا , وَكَانَتْ إِذَا غُلِقَ النِّيل سَبْعَة عَشَرَ ذِرَاعًا وَنُودِيَ عَلَيْهِ إِصْبَع وَاحِد مِنْ ثَمَانِيَة عَشَرَ ذِرَاعًا , اِزْدَادَ فِي خَرَاجهَا أَلْف أَلْف دِينَار . فَإِذَا خَرَجَ . عَنْ ذَلِكَ وَنُودِيَ عَلَيْهِ إِصْبَعًا وَاحِدًا مِنْ تِسْعَة عَشَرَ ذِرَاعًا نَقَصَ خَرَاجهَا أَلْف أَلْف دِينَار . وَسَبَب هَذَا مَا كَانَ يَنْصَرِف فِي الْمَصَالِح وَالْخُلْجَان وَالْجُسُور وَالِاهْتِمَام بِعِمَارَتِهَا . فَأَمَّا الْآن فَإِنَّ أَكْثَرهَا لَا يُرْوَى حَتَّى يُنَادَى إِصْبَع مِنْ تِسْعَة عَشَرَ ذِرَاعًا بِمِقْيَاسِ مِصْر . وَأَمَّا أَعْمَال الصَّعِيد الْأَعْلَى , فَإِنَّ بِهَا مَا لَا يَتَكَامَل رَيّه إِلَّا بَعْد دُخُول الْمَاء فِي الذِّرَاع الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ بِالصَّعِيدِ الْأَعْلَى . قُلْت : أَمَّا أَرْض مِصْر فَلَا تُرْوَى جَمِيعهَا الْآن إِلَّا مِنْ عِشْرِينَ ذِرَاعًا وَأَصَابِع ; لِعُلُوِّ الْأَرْض وَعَدَم الِاهْتِمَام بِعِمَارَةِ جُسُورهَا , وَهُوَ مِنْ عَجَائِب الدُّنْيَا ; وَذَلِكَ أَنَّهُ يَزِيد إِذَا اِنْصَبَّتْ الْمِيَاه فِي جَمِيع الْأَرْض حَتَّى يَسِيح عَلَى جَمِيع أَرْض مِصْر , وَتَبْقَى الْبِلَاد كَالْأَعْلَامِ لَا يُوصَل إِلَيْهَا إِلَّا بِالْمَرَاكِبِ وَالْقِيَاسَات . وَرُوِيَ عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو بْن الْعَاص أَنَّهُ قَالَ : نِيل مِصْر سَيِّد الْأَنْهَار , سَخَّرَ اللَّه لَهُ كُلّ نَهَر بَيْن الْمَشْرِق وَالْمَغْرِب , وَذَلَّلَ اللَّه لَهُ الْأَنْهَار ; فَإِذَا أَرَادَ اللَّه أَنْ يُجْرِي نِيل مِصْر أَمَرَ كُلّ نَهَر أَنْ يَمُدّهُ , فَأَمَدَّتْهُ الْأَنْهَار بِمَائِهَا , وَفَجَّرَ اللَّه لَهُ عُيُونًا , فَإِذَا اِنْتَهَى إِلَى مَا أَرَادَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ , أَوْحَى اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلَى كُلّ مَاء أَنْ يَرْجِع إِلَى عُنْصُره . وَقَالَ قَيْس بْن الْحَجَّاج : لَمَّا اُفْتُتِحَتْ مِصْر أَتَى أَهْلهَا إِلَى عَمْرو بْن الْعَاص حِين دَخَلَ بَئُونَة مِنْ أَشْهُر الْقِبْط فَقَالُوا لَهُ : أَيّهَا الْأَمِير إِنَّ لِنِيلِنَا هَذَا سَنَة لَا يَجْرِي إِلَّا بِهَا , فَقَالَ لَهُمْ : وَمَا ذَاكَ ؟ فَقَالُوا : إِذَا كَانَ لِاثْنَتَيْ عَشْرَة لَيْلَة تَخْلُو مِنْ هَذَا الشَّهْر عَمَدْنَا إِلَى جَارِيَة بِكْر بَيْن أَبَوَيْهَا ; أَرْضَيْنَا أَبَوَيْهَا , وَحَمَلْنَا عَلَيْهَا مِنْ الْحُلِيّ وَالثِّيَاب أَفْضَل مَا يَكُون , ثُمَّ أَلْقَيْنَاهَا فِي هَذَا النِّيل ; فَقَالَ لَهُمْ عَمْرو : هَذَا لَا يَكُون فِي الْإِسْلَام ; وَإِنَّ الْإِسْلَام لِيَهْدِم مَا قَبْله . فَأَقَامُوا أَبِيب وَمَسْرَى لَا يَجْرِي قَلِيل وَلَا كَثِير , وَهَمُّوا بِالْجَلَاءِ . فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ عَمْرو بْن الْعَاص كَتَبَ إِلَى عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا , فَأَعْلَمَهُ بِالْقِصَّةِ , فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَر بْن الْخَطَّاب : إِنَّك قَدْ أَصَبْت بِاَلَّذِي فَعَلْت , وَأَنَّ الْإِسْلَام يَهْدِم مَا قَبْله وَلَا يَكُون هَذَا . وَبَعَثَ إِلَيْهِ بِبِطَاقَةٍ فِي دَاخِل كِتَابه . وَكَتَبَ إِلَى عَمْرو : إِنِّي قَدْ بَعَثْت إِلَيْك بِبِطَاقَةٍ دَاخِل كِتَابِي , فَأَلْقِهَا فِي النِّيل إِذَا أَتَاك كِتَابِي . فَلَمَّا قَدِمَ كِتَاب عُمَر إِلَى عَمْرو بْن الْعَاص أَخَذَ الْبِطَاقَة فَفَتَحَهَا فَإِذَا فِيهَا : مِنْ عَبْد اللَّه أَمِير الْمُؤْمِنِينَ عُمَر إِلَى نِيل مِصْر - أَمَّا بَعْد - فَإِنْ كُنْت إِنَّمَا تَجْرِي مِنْ قِبَلِكَ فَلَا تَجْرِ وَإِنْ كَانَ اللَّه الْوَاحِد الْقَهَّار هُوَ الَّذِي يُجْرِيك فَنَسْأَل اللَّه الْوَاحِد الْقَهَّار أَنْ يُجْرِيك . قَالَ : فَأَلْقَى الْبِطَاقَة فِي النِّيل قَبْل الصَّلِيب بِيَوْمٍ وَقَدْ تَهَيَّأَ أَهْل مِصْر لِلْجَلَاءِ وَالْخُرُوج مِنْهَا ; لِأَنَّهُ لَا تَقُوم مَصْلَحَتهمْ فِيهَا إِلَّا بِالنِّيلِ . فَلَمَّا أَلْقَى الْبِطَاقَة فِي النِّيل , أَصْبَحُوا يَوْم الصَّلِيب وَقَدْ أَجْرَاهُ اللَّه فِي لَيْلَة وَاحِدَة سِتَّة عَشَرَ ذِرَاعًا , وَقَطَعَ اللَّه تِلْكَ السِّيرَة عَنْ أَهْل مِصْر مِنْ تِلْكَ السَّنَة . قَالَ كَعْب الْأَحْبَار : أَرْبَعَة أَنْهَار مِنْ الْجَنَّة وَضَعَهَا اللَّه فِي الدُّنْيَا سَيْحَان وَجَيْحَان وَالنِّيل وَالْفُرَات , فَسَيْحَان نَهَر الْمَاء فِي الْجَنَّة , وَجَيْحَان نَهَر اللَّبَن فِي الْجَنَّة , وَالنِّيل نَهَر الْعَسَل فِي الْجَنَّة , وَالْفُرَات نَهَر الْخَمْر فِي الْجَنَّة . وَقَالَ اِبْن لَهِيعَة : الدِّجْلَة نَهَر اللَّبَن فِي الْجَنَّة .</p><p>قُلْت : الَّذِي فِي الصَّحِيح مِنْ هَذَا حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( سَيْحَان وَجَيْحَان وَالنِّيل وَالْفُرَات كُلّ مِنْ أَنْهَار الْجَنَّة ) لَفْظ مُسْلِم وَفِي حَدِيث الْإِسْرَاء مِنْ حَدِيث أَنَس بْن مَالِك عَنْ مَالِك بْن صَعْصَعَة رَجُل مِنْ قَوْمه قَالَ : ( وَحَدَّثَ نَبِيّ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ رَأَى أَرْبَعَة أَنْهَار يَخْرُج مِنْ أَصْلهَا نَهَرَانِ ظَاهِرَانِ وَنَهَرَانِ بَاطِنَانِ فَقُلْت يَا جِبْرِيل مَا هَذِهِ الْأَنْهَار قَالَ أَمَّا النَّهَرَانِ الْبَاطِنَانِ فَنَهَرَانِ فِي الْجَنَّة وَأَمَّا الظَّاهِرَانِ فَالنِّيل وَالْفُرَات ) لَفْظ مُسْلِم . وَقَالَ الْبُخَارِيّ مِنْ طَرِيق شَرِيك عَنْ أَنَس ( فَإِذَا هُوَ فِي السَّمَاء الدُّنْيَا بِنَهَرَيْنِ يَطْرُدَانِ فَقَالَ مَا هَذَانِ النَّهَرَانِ يَا جِبْرِيل قَالَ هَذَا النِّيل وَالْفُرَات عُنْصُرهمَا ثُمَّ مَضَى فِي السَّمَاء فَإِذَا هُوَ بِنَهَرٍ آخَر عَلَيْهِ قَصْر مِنْ اللُّؤْلُؤ وَالزَّبَرْجَد فَضَرَبَ بِيَدِهِ فَإِذَا هُوَ مِسْك أَذْفَر فَقَالَ مَا هَذَا يَا جِبْرِيل فَقَالَ هَذَا هُوَ الْكَوْثَر الَّذِي خَبَّأَ لَك رَبّك . ) وَذَكَرَ الْحَدِيث . وَالْجُمْهُور عَلَى أَنَّ الْمُرَاد بِالْعُيُونِ عُيُون الْمَاء . وَقَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر : الْمُرَاد عُيُون الذَّهَب . وَفِي الدُّخَان | كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّات وَعُيُون . وَزُرُوع | [ الدُّخَان : 25 - 26 ] . قِيلَ : إِنَّهُمْ كَانُوا يَزْرَعُونَ مَا بَيْن الْجَبَلَيْنِ مِنْ أَوَّل مِصْر إِلَى آخِرهَا .
قَالَ اِبْن عُمَر وَابْن عَبَّاس وَمُجَاهِد : الْمَقَام الْكَرِيم الْمَنَابِر ; وَكَانَتْ أَلْف مِنْبَر لِأَلْفِ جَبَّار يُعَظِّمُونَ عَلَيْهَا فِرْعَوْن وَمُلْكه . وَقِيلَ : مَجَالِس الرُّؤَسَاء وَالْأُمَرَاء ; حَكَاهُ اِبْن عِيسَى وَهُوَ قَرِيب مِنْ الْأَوَّل . وَقَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر : الْمَسَاكِن الْحِسَان . وَقَالَ اِبْن لَهِيعَة : سَمِعْت أَنَّ الْمَقَام الْكَرِيم الْفَيُّوم . وَقِيلَ : كَانَ يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام قَدْ كَتَبَ عَلَى مَجْلِس مِنْ مَجَالِسه ( لَا إِلَه إِلَّا اللَّه إِبْرَاهِيم خَلِيل اللَّه ) فَسَمَّاهَا اللَّه كَرِيمَة بِهَذَا . وَقِيلَ : مَرَابِط الْخَيْل لِتَفَرُّدِ الزُّعَمَاء بِارْتِبَاطِهَا عِدَّة وَزِينَة ; فَصَارَ مَقَامهَا أَكْرَم مَنْزِل بِهَذَا ; ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيّ . وَالْأَظْهَر أَنَّهَا الْمَسَاكِن الْحِسَان كَانَتْ تُكْرَم عَلَيْهِمْ . وَالْمَقَام فِي اللُّغَة يَكُون الْمَوْضِع وَيَكُون مَصْدَرًا . قَالَ النَّحَّاس : الْمَقَام فِي اللُّغَة الْمَوْضِع ; مِنْ قَوْلك قَامَ يَقُوم , وَكَذَا الْمَقَامَات وَاحِدهَا مَقَامَة ; كَمَا قَالَ : <br>وَفِيهِمْ مَقَامَات حِسَان وُجُوههمْ .......... وَأَنْدِيَة يَنْتَابهَا الْقَوْل وَالْفِعْل <br>وَالْمَقَام أَيْضًا الْمَصْدَر مِنْ قَامَ يَقُوم . وَالْمُقَام ( بِالضَّمِّ ) الْمَوْضِع مِنْ أَقَامَ . وَالْمَصْدَر أَيْضًا مِنْ أَقَامَ يُقِيم .
النَّعْمَة ( بِالْفَتْحِ ) : التَّنْعِيم , يُقَال : نَعَّمَهُ اللَّه وَنَاعَمَهُ فَتَنَعَّمَ . وَامْرَأَة مُنَعَّمَة وَمُنَاعَمَة , بِمَعْنًى . وَالنِّعْمَة ( بِالْكَسْرِ ) : الْيَد وَالصَّنِيعَة وَالْمِنَّة وَمَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْك . وَكَذَلِكَ النُّعْمَى . فَإِنْ فَتَحْت النُّون مَدَدْت وَقُلْت : النَّعْمَاء . وَالنَّعِيم مِثْله . وَفُلَان وَاسِع النَّعْمَة , أَيْ وَاسِع الْمَال ; جَمِيعه عَنْ الْجَوْهَرِيّ . وَقَالَ اِبْن عُمَر : الْمُرَاد بِالنَّعْمَةِ نِيل مِصْر . اِبْن لَهِيعَة : الْفَيُّوم . اِبْن زِيَاد : أَرْض مِصْر لِكَثْرَةِ خَيْرهَا . وَقِيلَ : مَا كَانُوا فِيهِ مِنْ السَّعَة وَالدَّعَة . وَقَدْ يُقَال : نِعْمَة وَنَعْمَة ( بِفَتْحِ النُّون وَكَسْرهَا ) , حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيّ . قَالَ : وَفِي الْفَرْق بَيْنهمَا وَجْهَانِ : أَحَدهمَا : أَنَّهَا بِكَسْرِ النُّون فِي الْمُلْك , وَبِفَتْحِهَا فِي الْبَدَن وَالدِّين , قَالَهُ النَّضْر بْن شُمَيْل . الثَّانِي : أَنَّهَا بِالْكَسْرِ مِنْ الْمِنَّة وَهُوَ الْإِفْضَال وَالْعَطِيَّة ; وَبِالْفَتْحِ مِنْ التَّنْعِيم وَهُوَ سَعَة الْعَيْش وَالرَّاحَة ; قَالَهُ اِبْن زِيَاد .</p><p>قُلْت : هَذَا الْفَرْق هُوَ الَّذِي وَقَعَ فِي الصِّحَاح وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ . وَقَرَأَ أَبُو رَجَاء وَالْحَسَن وَأَبُو الْأَشْهَب وَالْأَعْرَج وَأَبُو جَعْفَر وَشَيْبَة | فَكِهِينَ | بِغَيْرِ أَلِف , وَمَعْنَاهُ أَشِرِينَ بَطِرِينَ . قَالَ الْجَوْهَرِيّ : فَكِهَ الرَّجُل ( بِالْكَسْرِ ) فَهُوَ فَكِه إِذَا كَانَ طَيِّب النَّفْس مَزَّاحًا . وَالْفَكِه أَيْضًا الْأَشِر الْبَطِر . وَقُرِئَ | وَنَعْمَة كَانُوا فِيهَا فَكِهِينَ | أَيْ أَشِرِينَ بَطِرِينَ . و | فَاكِهِينَ | أَيْ نَاعِمِينَ . الْقُشَيْرِيّ : | فَاكِهِينَ | لَاهِينَ مَازِحِينَ , يُقَال : إِنَّهُ لَفَاكِه أَيْ مِزَاج . وَفِيهِ فُكَاهَة أَيْ مَزْح . الثَّعْلَبِيّ : وَهُمَا لُغَتَانِ كَالْحَاذِرِ وَالْحَذِر , وَالْفَارِه وَالْفَرِه . وَقِيلَ : إِنَّ الْفَاكِه هُوَ الْمُسْتَمْتِع بِأَنْوَاعِ اللَّذَّة كَمَا يَتَمَتَّع الْآكِل بِأَنْوَاعِ الْفَاكِهَة . وَالْفَاكِهَة : فَضَل عَنْ الْقُوت الَّذِي لَا بُدّ مِنْهُ .
قَالَ الزَّجَّاج : أَيْ الْأَمْر كَذَلِكَ ; فَيُوقَف عَلَى | كَذَلِكَ | . وَقِيلَ : إِنَّ الْكَاف فِي مَوْضِع نَصْب , عَلَى تَقْدِير نَفْعَل فِعْلًا كَذَلِكَ بِمَنْ نُرِيد إِهْلَاكه . وَقَالَ الْكَلْبِيّ : | كَذَلِكَ | أَفْعَل بِمَنْ عَصَانِي . وَقِيلَ : | كَذَلِكَ | كَانَ أَمْرهمْ فَأُهْلِكُوا . | وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ | يَعْنِي بَنَى إِسْرَائِيل , مَلَّكَهُمْ اللَّه تَعَالَى أَرْض مِصْر بَعْد أَنْ كَانُوا فِيهَا مُسْتَعْبَدِينَ , فَصَارُوا لَهَا وَارِثِينَ ; لِوُصُولِ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ كَوُصُولِ الْمِيرَاث . وَنَظِيره : | وَأَوْرَثْنَا الْقَوْم الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِق الْأَرْض وَمَغَارِبهَا | [ الْأَعْرَاف : 137 ] .
أَيْ لِكُفْرِهِمْ . | وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ | أَيْ مُؤَخَّرِينَ بِالْغَرَقِ . وَكَانَتْ الْعَرَب تَقُول عِنْد مَوْت السَّيِّد مِنْهُمْ : بَكَتْ لَهُ السَّمَاء وَالْأَرْض ; أَيْ عَمَّتْ مُصِيبَته الْأَشْيَاء حَتَّى بَكَتْهُ السَّمَاء وَالْأَرْض وَالرِّيح وَالْبَرْق , وَبَكَتْهُ اللَّيَالِي الشَّاتِيَات . قَالَ الشَّاعِر : <br>فَالرِّيح تَبْكِي شَجْوهَا .......... وَالْبَرْق يَلْمَع فِي الْغَمَامَهْ <br>وَقَالَ آخَر : <br>وَالشَّمْس طَالِعَة لَيْسَتْ بِكَاسِفَةٍ .......... تُبْكِي عَلَيْك نُجُوم اللَّيْل وَالْقَمَرَا <br>وَقَالَتْ الْخَارِجِيَّة : <br>أَيَا شَجَر الْخَابُور مَالِك مُورِقًا .......... كَأَنَّك لَمْ تَجْزَع عَلَى اِبْن طَرِيف <br>وَذَلِكَ عَلَى سَبِيل التَّمْثِيل وَالتَّخْيِيل مُبَالَغَة فِي وُجُوب الْجَزَع وَالْبُكَاء عَلَيْهِ . وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ هَلَكُوا فَلَمْ تَعْظُم مُصِيبَتهمْ وَلَمْ يُوجَد لَهُمْ فَقْد . وَقِيلَ : فِي الْكَلَام إِضْمَار , أَيْ مَا بَكَى عَلَيْهِمْ أَهْل السَّمَاء وَالْأَرْض مِنْ الْمَلَائِكَة ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى : | وَاسْأَلْ الْقَرْيَة | [ يُوسُف : 82 ] بَلْ سُرُّوا بِهَلَاكِهِمْ , قَالَهُ الْحَسَن . وَرَوَى يَزِيد الرُّقَاشِيّ عَنْ أَنَس بْن مَالِك قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَا مِنْ مُؤْمِن إِلَّا وَلَهُ فِي السَّمَاء بَابَانِ بَاب يَنْزِل مِنْهُ رِزْقه وَبَاب يَدْخُل مِنْهُ كَلَامه وَعَمَله فَإِذَا مَاتَ فَقَدَاهُ فَبَكَيَا عَلَيْهِ - ثُمَّ تَلَا - | فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمْ السَّمَاء وَالْأَرْض | . يَعْنِي أَنَّهُمْ لَمْ يَعْمَلُوا عَلَى الْأَرْض عَمَلًا صَالِحًا تَبْكِي عَلَيْهِمْ لِأَجْلِهِ , وَلَا صَعِدَ لَهُمْ إِلَى السَّمَاء عَمَل صَالِح فَتَبْكِي فَقْد ذَلِكَ . وَقَالَ مُجَاهِد : إِنَّ السَّمَاء وَالْأَرْض يَبْكِيَانِ عَلَى الْمُؤْمِن أَرْبَعِينَ صَبَاحًا . قَالَ أَبُو يَحْيَى : فَعَجِبْت مِنْ قَوْله فَقَالَ : أَتَعْجَبُ ! وَمَا لِلْأَرْضِ لَا تَبْكِي عَلَى عَبْد يَعْمُرهَا بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُود ! وَمَا لِلسَّمَاءِ لَا تَبْكِي عَلَى عَبْد كَانَ لِتَسْبِيحِهِ وَتَكْبِيره فِيهَا دَوِيّ كَدَوِيِّ النَّحْل ! . وَقَالَ عَلِيّ وَابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا : إِنَّهُ يَبْكِي عَلَيْهِ مُصَلَّاهُ مِنْ الْأَرْض وَمَصْعَد عَمَله مِنْ السَّمَاء . وَتَقْدِير الْآيَة عَلَى هَذَا : فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمْ مَصَاعِد عَمَلهمْ مِنْ السَّمَاء وَلَا مَوَاضِع عِبَادَتهمْ مِنْ الْأَرْض . وَهُوَ مَعْنَى قَوْل سَعِيد بْن جُبَيْر . وَفِي بُكَاء السَّمَاء وَالْأَرْض ثَلَاثَة أَوْجُه : أَحَدهَا أَنَّهُ كَالْمَعْرُوفِ مِنْ بُكَاء الْحَيَوَان . وَيُشْبِه أَنْ يَكُون قَوْل مُجَاهِد . وَقَالَ شُرَيْح الْحَضْرَمِيّ قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ الْإِسْلَام بَدَأَ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ يَوْم الْقِيَامَة قِيلَ : مَنْ هُمْ يَا رَسُول اللَّه ؟ قَالَ - هُمْ الَّذِينَ إِذَا فَسَدَ النَّاس صَلَحُوا - ثُمَّ قَالَ - أَلَا لَا غُرْبَة عَلَى مُؤْمِن وَمَا مَاتَ مُؤْمِن فِي غُرْبَة غَائِبًا عَنْهُ بِوَاكِيهِ إِلَّا بَكَتْ عَلَيْهِ السَّمَاء وَالْأَرْض - ثُمَّ قَرَأَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - | فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمْ السَّمَاء وَالْأَرْض | ثُمَّ قَالَ : أَلَا إِنَّهُمَا لَا يَبْكِيَانِ عَلَى الْكَافِر )</p><p>قُلْت : وَذَكَرَ أَبُو نُعَيْم مُحَمَّد بْن مَعْمَر قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو شُعَيْب الْحَرَّانِيّ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْن عَبْد اللَّه قَالَ حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيّ قَالَ حَدَّثَنِي عَطَاء الْخُرَاسَانِيّ قَالَ : مَا مِنْ عَبْد يَسْجُد لِلَّهِ سَجْدَة فِي بُقْعَة مِنْ بِقَاعِ الْأَرْض إِلَّا شَهِدَتْ لَهُ يَوْم الْقِيَامَة وَبَكَتْ عَلَيْهِ يَوْم يَمُوت . وَقِيلَ : بُكَاؤُهُمَا حُمْرَة أَطْرَافهمَا ; قَالَهُ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب - رَضِيَ اللَّه عَنْهُ - وَعَطَاء وَالسُّدِّيّ وَالتِّرْمِذِيّ مُحَمَّد بْن عَلِيّ وَحَكَاهُ عَنْ الْحَسَن . قَالَ السُّدِّيّ : لَمَّا قُتِلَ الْحُسَيْن بْن عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا بَكَتْ عَلَيْهِ السَّمَاء ; وَبُكَاؤُهَا حُمْرَتهَا . وَحَكَى جَرِير عَنْ يَزِيد بْن أَبِي زِيَاد قَالَ : لَمَّا قُتِلَ الْحُسَيْن بْن عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا اِحْمَرَّ لَهُ آفَاق السَّمَاء أَرْبَعَة أَشْهُر . قَالَ يَزِيد : وَاحْمِرَارهَا بُكَاؤُهَا . وَقَالَ مُحَمَّد بْن سِيرِينَ : أَخْبَرُونَا أَنَّ الْحُمْرَة الَّتِي تَكُون مَعَ الشَّفَق لَمْ تَكُنْ حَتَّى قُتِلَ الْحُسَيْن بْن عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا . وَقَالَ سُلَيْمَان الْقَاضِي : مُطِرْنَا دَمًا يَوْم قُتِلَ الْحُسَيْن . قُلْت : رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ مِنْ حَدِيث مَالِك بْن أَنَس عَنْ نَافِع عَنْ اِبْن عُمَر قَالَ : قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( الشَّفَق الْحُمْرَة ) . وَعَنْ عُبَادَة بْن الصَّامِت وَشَدَّاد بْن أَوْس قَالَا : الشَّفَق شَفَقَانِ : الْحُمْرَة وَالْبَيَاض ; فَإِذَا غَابَتْ الْحُمْرَة حَلَّتْ الصَّلَاة . وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : الشَّفَق الْحُمْرَة . وَهَذَا يَرُدّ مَا حَكَاهُ اِبْن سِيرِينَ . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي | الْإِسْرَاء | عَنْ قُرَّة بْن خَالِد قَالَ : مَا بَكَتْ السَّمَاء عَلَى أَحَد إِلَّا عَلَى يَحْيَى بْن زَكَرِيَّا وَالْحُسَيْن بْن عَلِيّ , وَحُمْرَتهَا بُكَاؤُهَا . وَقَالَ مُحَمَّد بْن عَلِيّ التِّرْمِذِيّ : الْبُكَاء إِدْرَار الشَّيْء فَإِذَا أَدَرَّتْ الْعَيْن بِمَائِهَا قِيلَ بَكَتْ , وَإِذَا أَدَرَّتْ السَّمَاء بِحُمْرَتِهَا قِيلَ بَكَتْ , وَإِذَا أَدَرَّتْ الْأَرْض بِغَبَرَتِهَا قِيلَ بَكَتْ ; لِأَنَّ الْمُؤْمِن نُور وَمَعَهُ نُور اللَّه ; فَالْأَرْض مُضِيئَة بِنُورِهِ وَإِنْ غَابَ عَنْ عَيْنَيْك , فَإِنْ فَقَدَتْ نُور الْمُؤْمِن اِغْبَرَّتْ فَدَرَّتْ بِاغْبِرَارِهَا ; لِأَنَّهَا كَانَتْ غَبْرَاء بِخَطَايَا أَهْل الشِّرْك , وَإِنَّمَا صَارَتْ مُضِيئَة بِنُورِ الْمُؤْمِن ; فَإِذَا قُبِضَ الْمُؤْمِن مِنْهَا دَرَّتْ بِغَبَرَتِهَا . وَقَالَ أَنَس : لَمَّا كَانَ الْيَوْم الَّذِي دَخَلَ فِيهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَة أَضَاءَ كُلّ شَيْء , فَلَمَّا كَانَ الْيَوْم الَّذِي قُبِضَ فِيهِ أَظْلَمَ كُلّ شَيْء , وَإِنَّا لَفِي دَفْنه مَا نَفَضْنَا الْأَيْدِي مِنْهُ حَتَّى أَنْكَرْنَا قُلُوبنَا . وَأَمَّا بُكَاء السَّمَاء فَحُمْرَتهَا كَمَا قَالَ الْحَسَن . وَقَالَ نَصْر بْن عَاصِم : إِنَّ أَوَّل الْآيَات حُمْرَة تَظْهَر , وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِدُنُوِّ السَّاعَة , فَتُدِرّ بِالْبُكَاءِ لِخَلَائِهَا مِنْ أَنْوَار الْمُؤْمِنِينَ . وَقِيلَ : بُكَاؤُهَا أَمَارَة تَظْهَر مِنْهَا تَدُلّ عَلَى أَسَف وَحُزْن .</p><p>قُلْت : وَالْقَوْل الْأَوَّل أَظْهَر ; إِذْ لَا اِسْتِحَالَة فِي ذَلِكَ . وَإِذَا كَانَتْ السَّمَوَات وَالْأَرْض تُسَبِّح وَتَسْمَع وَتَتَكَلَّم كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي | الْإِسْرَاء وَمَرْيَم وحم وَفُصِّلَتْ | فَكَذَلِكَ تَبْكِي , مَعَ مَا جَاءَ مِنْ الْخَبَر فِي ذَلِكَ وَاَللَّه أَعْلَم بِصَوَابِ هَذِهِ الْأَقْوَال .
يَعْنِي مَا كَانَتْ الْقِبْط تَفْعَل بِهِمْ بِأَمْرِ فِرْعَوْن , مِنْ قَتْل الْأَبْنَاء وَاسْتِخْدَام النِّسَاء , وَاسْتِعْبَادهمْ إِيَّاهُمْ وَتَكَلُّفهمْ الْأَعْمَال الشَّاقَّة .
| مِنْ فِرْعَوْن | بَدَل مِنْ | الْعَذَاب الْمُهِين | فَلَا تَتَعَلَّق | مِنْ | بِقَوْلِهِ : | مِنْ الْعَذَاب | لِأَنَّهُ قَدْ وُصِفَ , وَهُوَ لَا يَعْمَل بَعْد الْوَصْف عَمَل الْفِعْل . وَقِيلَ : أَيْ أَنْجَيْنَاهُمْ مِنْ الْعَذَاب وَمِنْ فِرْعَوْن . | إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنْ الْمُسْرِفِينَ | أَيْ جَبَّارًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ . وَلَيْسَ هَذَا عُلُوّ مَدْح بَلْ هُوَ عُلُوّ فِي الْإِسْرَاف . كَقَوْلِهِ : | إِنَّ فِرْعَوْن عَلَا فِي الْأَرْض | [ الْقَصَص : 4 ] . وَقِيلَ : هَذَا الْعُلُوّ هُوَ التَّرَفُّع عَنْ عِبَادَة اللَّه .
يَعْنِي بَنِي إِسْرَائِيل .|عَلَى عِلْمٍ|أَيْ عَلَى عِلْم مِنَّا بِهِمْ لِكَثْرَةِ الْأَنْبِيَاء مِنْهُمْ .|عَلَى الْعَالَمِينَ|أَيْ عَالَمِي زَمَانهمْ , بِدَلِيلِ قَوْله لِهَذِهِ الْأُمَّة : | كُنْتُمْ خَيْر أُمَّة أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ | [ آل عِمْرَان : 110 ] . وَهَذَا قَوْل قَتَادَة وَغَيْره . وَقِيلَ : عَلَى كُلّ الْعَالَمِينَ بِمَا جَعَلَ فِيهِمْ مِنْ الْأَنْبِيَاء . وَهَذَا خَاصَّة لَهُمْ وَلَيْسَ لِغَيْرِهِمْ ; حَكَاهُ اِبْن عِيسَى وَالزَّمَخْشَرِيّ وَغَيْرهمَا . وَيَكُون قَوْله : | كُنْتُمْ خَيْر أُمَّة | أَيْ بَعْد بَنِي إِسْرَائِيل . وَاَللَّه أَعْلَم . وَقِيلَ : يَرْجِع هَذَا الِاخْتِيَار إِلَى تَخْلِيصهمْ مِنْ الْغَرَق وَإِيرَاثهمْ الْأَرْض بَعْد فِرْعَوْن .
أَيْ مِنْ الْمُعْجِزَات لِمُوسَى .|مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ|قَالَ قَتَادَة : الْآيَات إِنْجَاؤُهُمْ مِنْ فِرْعَوْن وَفَلْق الْبَحْر لَهُمْ , وَتَظْلِيل الْغَمَام عَلَيْهِمْ وَإِنْزَال الْمَنّ وَالسَّلْوَى . وَيَكُون هَذَا الْخِطَاب مُتَوَجِّهًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيل . وَقِيلَ : إِنَّهَا الْعَصَا وَالْيَد . وَيُشْبِه أَنْ يَكُون قَوْل الْفَرَّاء . وَيَكُون الْخِطَاب مُتَوَجِّهًا إِلَى قَوْم فِرْعَوْن . وَقَوْل ثَالِث : إِنَّهُ الشَّرّ الَّذِي كَفَّهُمْ عَنْهُ وَالْخَبَر الَّذِي أَمَرَهُمْ بِهِ ; قَالَهُ عَبْد الرَّحْمَن بْن زَيْد . وَيَكُون الْخِطَاب مُتَوَجِّهًا إِلَى الْفَرِيقَيْنِ مَعًا مِنْ قَوْم فِرْعَوْن وَبَنِي إِسْرَائِيل . وَفِي قَوْله : | بَلَاء مُبِين | أَرْبَعَة أَوْجُه : أَحَدهَا : نِعْمَة ظَاهِرَة ; قَالَهُ الْحَسَن وَقَتَادَة . كَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى : | وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاء حَسَنًا | [ الْأَنْفَال : 17 ] . وَقَالَ زُهَيْر : فَأَبْلَاهُمَا خَيْر الْبَلَاء الَّذِي يَبْلُو الثَّانِي : عَذَاب شَدِيد ; قَالَهُ الْفَرَّاء . الثَّالِث : اِخْتِبَار يَتَمَيَّز بِهِ الْمُؤْمِن مِنْ الْكَافِر ; قَالَهُ عَبْد الرَّحْمَن بْن زَيْد . وَعَنْهُ أَيْضًا : اِبْتِلَاؤُهُمْ بِالرَّخَاءِ وَالشِّدَّة ; ثُمَّ قَرَأَ | وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْر فِتْنَة | [ الْأَنْبِيَاء : 35 ] .
يَعْنِي , كُفَّار قُرَيْش
اِبْتِدَاء وَخَبَر ; مِثْل : | إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتك | [ الْأَعْرَاف : 155 ] , | إِنَّ هِيَ إِلَّا حَيَاتنَا الدُّنْيَا | [ الْمُؤْمِنُونَ : 37 ]|وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ|أَيْ بِمَبْعُوثِينَ . وَالْمَنْشُورُونَ الْمَبْعُوثُونَ . أَنْشَرَ اللَّه الْمَوْتَى فَنُشِرُوا . وَقَدْ تَقَدَّمَ .
قِيلَ : إِنَّ قَائِل هَذَا مِنْ كُفَّار قُرَيْش أَبُو جَهْل , قَالَ : يَا مُحَمَّد , إِنْ كُنْت صَادِقًا فِي قَوْلك فَابْعَثْ لَنَا رَجُلَيْنِ مِنْ آبَائِنَا : أَحَدهمَا : قُصَيّ بْن كِلَاب فَإِنَّهُ كَانَ رَجُلًا صَادِقًا ; لِنَسْأَلهُ عَمَّا يَكُون بَعْد الْمَوْت . وَهَذَا الْقَوْل مِنْ أَبِي جَهْل مِنْ أَضْعَف الشُّبُهَات ; لِأَنَّ الْإِعَادَة إِنَّمَا هِيَ لِلْجَزَاءِ لَا لِلتَّكْلِيفِ ; فَكَأَنَّهُ قَالَ : إِنْ كُنْت صَادِقًا فِي إِعَادَتهمْ لِلْجَزَاءِ فَأَعِدْهُمْ لِلتَّكْلِيفِ . وَهُوَ كَقَوْلِ قَائِل : لَوْ قَالَ إِنْ كَانَ يَنْشَأ بَعْدنَا قَوْم مِنْ الْأَبْنَاء ; فَلِمَ لَا يَرْجِع مَنْ مَضَى مِنْ الْآبَاء ; حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيّ . ثُمَّ قِيلَ : | فَأْتُوا بِآبَائِنَا | مُخَاطَبَة لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحْده ; كَقَوْلِهِ : | رَبّ اِرْجِعُونِ | [ الْمُؤْمِنُونَ : 99 ] قَالَهُ الْفَرَّاء . وَقِيلَ : مُخَاطَبَة لَهُ وَلِأَتْبَاعِهِ .
هَذَا اِسْتِفْهَام إِنْكَار ; أَيْ إِنَّهُمْ مُسْتَحِقُّونَ فِي هَذَا الْقَوْل الْعَذَاب ; إِذْ لَيْسُوا خَيْرًا مِنْ قَوْم تُبَّع وَالْأُمَم الْمُهْلِكَة , وَإِذَا أَهْلَكْنَا أُولَئِكَ فَكَذَا هَؤُلَاءِ . وَقِيلَ : الْمَعْنَى أَهُمْ أَظْهَر نِعْمَة وَأَكْثَر أَمْوَالًا أَمْ قَوْم تُبَّع . وَقِيلَ : أَهُمْ أَعَزّ وَأَشَدّ وَأَمْنَع أَمْ قَوْم تُبَّع . وَلَيْسَ الْمُرَاد بِتُبَّعٍ رَجُلًا وَاحِدًا بَلْ الْمُرَاد بِهِ مُلُوك الْيَمَن ; فَكَانُوا يُسَمُّونَ مُلُوكهمْ التَّبَابِعَة . فَتُبَّع لَقَب لِلْمَلِكِ مِنْهُمْ كَالْخَلِيفَةِ لِلْمُسْلِمِينَ , وَكِسْرَى لِلْفُرْسِ , وَقَيْصَر لِلرُّومِ . وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة : سُمِّيَ كُلّ وَاحِد مِنْهُمْ تُبَّاعًا لِأَنَّهُ يَتْبَع صَاحِبه . قَالَ الْجَوْهَرِيّ : وَالتَّبَابِعَة مُلُوك الْيَمَن , وَاحِدهمْ تُبَّع . وَالتُّبَّع أَيْضًا الظِّلّ ; وَقَالَ : <br>يَرِد الْمِيَاه حَضِيرَة وَنَفِيضَة .......... وِرْد الْقَطَاة إِذَا اِسْمَأَلَّ التُّبَّع <br>وَالتُّبَّع أَيْضًا ضَرْب مِنْ الطَّيْر . وَقَالَ السُّهَيْلِيّ : تُبَّع اِسْم لِكُلِّ مَلِك مَلَكَ الْيَمَن وَالشِّحْر وَحَضْرَمَوْت . وَإِنْ مَلَكَ الْيَمَن وَحْدهَا لَمْ يَقُلْ لَهُ تُبَّع ; قَالَهُ الْمَسْعُودِيّ . فَمِنْ التَّبَابِعَة : الْحَارِث الرَّائِش وَهُوَ اِبْن هَمَّال ذِي سُدَد . وَأَبْرَهَة ذُو الْمَنَار . وَعَمْرو ذُو الْأَذْعَار . وَشِمْر بْن مَالِك , الَّذِي تُنْسَب إِلَيْهِ سَمَرْقَنْد . وَأَفْرِيقِيس بْن قَيْس , الَّذِي سَاقَ الْبَرْبَر إِلَى أَفْرِيقِيَّة مِنْ أَرْض كَنْعَان , وَبِهِ سُمِّيَتْ إِفْرِيقِيَة . وَالظَّاهِر مِنْ الْآيَات : أَنَّ اللَّه سُبْحَانه إِنَّمَا أَرَادَ وَاحِدًا مِنْ هَؤُلَاءِ , وَكَانَتْ الْعَرَب تَعْرِفهُ بِهَذَا الِاسْم أَشَدّ مِنْ مَعْرِفَة غَيْره ; وَلِذَلِكَ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام : ( وَلَا أَدْرِي أَتُبَّع لَعِين أَمْ لَا ) . ثُمَّ قَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : ( لَا تَسُبُّوا تُبَّعًا فَإِنَّهُ كَانَ مُؤْمِنًا ) فَهَذَا يَدُلّك عَلَى أَنَّهُ كَانَ وَاحِدًا بِعَيْنِهِ ; وَهُوَ - وَاَللَّه أَعْلَم - أَبُو كَرْب الَّذِي كَسَا الْبَيْت بَعْدَمَا أَرَادَ غَزْوه , وَبَعْدَمَا غَزَا الْمَدِينَة وَأَرَادَ خَرَابهَا , ثُمَّ اِنْصَرَفَ عَنْهَا لَمَّا أُخْبِرَ أَنَّهَا مُهَاجَر نَبِيّ اِسْمه أَحْمَد . وَقَالَ شِعْرًا أَوْدَعَهُ عِنْد أَهْلهَا ; فَكَانُوا يَتَوَارَثُونَهُ كَابِرًا عَنْ كَابِر إِلَى أَنْ هَاجَرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَدَّوْهُ إِلَيْهِ . وَيُقَال : كَانَ الْكِتَاب وَالشِّعْر عِنْد أَبِي أَيُّوب خَالِد بْن زَيْد . وَفِيهِ : <br>شَهِدْت عَلَى أَحْمَد أَنَّهُ .......... رَسُول مِنْ اللَّه بَارِي النَّسَمْ <br><br>فَلَوْ مُدَّ عُمْرِي إِلَى عُمْره .......... لَكُنْت وَزِيرًا لَهُ وَابْن عَمْ <br>وَذَكَرَ الزَّجَّاج وَابْن أَبِي الدُّنْيَا وَالزَّمَخْشَرِيّ وَغَيْرهمْ أَنَّهُ حُفِرَ قَبْر لَهُ بِصَنْعَاء - وَيُقَال بِنَاحِيَةِ حِمْيَر - فِي الْإِسْلَام , فَوُجِدَ فِيهِ اِمْرَأَتَانِ صَحِيحَتَانِ , وَعِنْد رُءُوسهمَا لَوْح مِنْ فِضَّة مَكْتُوب فِيهِ بِالذَّهَبِ | هَذَا قَبْر حُبَّى وَلَمِيس | وَيُرْوَى أَيْضًا : | حُبَّى وَتُمَاضِر | وَيُرْوَى أَيْضًا : | هَذَا قَبْر رَضْوَى وَقَبْر حُبَّى اِبْنَتَا تُبَّع , مَاتَتَا وَهُمَا يَشْهَدَانِ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَلَا يُشْرِكَانِ بِهِ شَيْئًا ; وَعَلَى ذَلِكَ مَاتَ الصَّالِحُونَ قَبْلهمَا | .</p><p>قُلْت : وَرَوَى اِبْن إِسْحَاق وَغَيْره أَنَّهُ كَانَ فِي الْكِتَاب الَّذِي كَتَبَهُ : ( أَمَّا بَعْد , فَإِنِّي آمَنْت بِك وَبِكِتَابِك الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْك , وَأَنَا عَلَى دِينك وَسُنَّتك , وَآمَنْت بِرَبِّك وَرَبّ كُلّ شَيْء , وَآمَنْت بِكُلِّ مَا جَاءَ مِنْ رَبّك مِنْ شَرَائِع الْإِسْلَام ; فَإِنْ أَدْرَكْتُك فَبِهَا وَنِعْمَتْ , وَإِنْ لَمْ أُدْرِكك فَاشْفَعْ لِي وَلَا تَنْسَنِي يَوْم الْقِيَامَة , فَإِنِّي مِنْ أُمَّتك الْأَوَّلِينَ وَبَايَعْتُك قَبْل مَجِيئِك , وَأَنَا عَلَى مِلَّتك وَمِلَّة أَبِيك إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام | . ثُمَّ خَتَمَ الْكِتَاب وَنَقَشَ عَلَيْهِ : | لِلَّهِ الْأَمْر مِنْ قَبْل وَمِنْ بَعْد | [ الرُّوم : 4 ] . وَكَتَبَ عَلَى عِنْوَانه ( إِلَى مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه نَبِيّ اللَّه وَرَسُوله , خَاتَم النَّبِيِّينَ وَرَسُول رَبّ الْعَالَمِينَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . مِنْ تُبَّع الْأَوَّل . وَقَدْ ذَكَرْنَا بَقِيَّة خَبَره وَأَوَّله فِي | اللُّمَع اللُّؤْلُئِيَّة شَرْح الْعَشْر بَيِّنَات النَّبَوِيَّة | لِلْفَارَابِيِّ رَحِمَهُ اللَّه . وَكَانَ مِنْ الْيَوْم الَّذِي مَاتَ فِيهِ تُبَّع إِلَى الْيَوْم الَّذِي بُعِثَ فِيهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلْف سَنَة لَا يَزِيد وَلَا يَنْقُص .</p><p>وَاخْتُلِفَ هَلْ كَانَ نَبِيًّا أَوْ مَلِكًا ; فَقَالَ اِبْن عَبَّاس : كَانَ تُبَّع نَبِيًّا . وَقَالَ كَعْب : كَانَ تُبَّع مَلِكًا مِنْ الْمُلُوك , وَكَانَ قَوْمه كُهَّانًا وَكَانَ مَعَهُمْ قَوْم مِنْ أَهْل الْكِتَاب , فَأَمَرَ الْفَرِيقَيْنِ أَنْ يُقَرِّب كُلّ فَرِيق مِنْهُمْ قُرْبَانًا فَفَعَلُوا , فَتُقُبِّلَ قُرْبَان أَهْل الْكِتَاب فَأَسْلَمَ , وَقَالَتْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا : لَا تَسُبُّوا تُبَّعًا فَإِنَّهُ كَانَ رَجُلًا صَالِحًا . وَحَكَى قَتَادَة أَنَّ تُبَّعًا كَانَ رَجُلًا مِنْ حِمْيَر , سَارَ بِالْجُنُودِ حَتَّى عَبَرَ الْحِيرَة وَأَتَى سَمَرْقَنْد فَهَدَمَهَا ; حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيّ . وَحَكَى الثَّعْلَبِيّ عَنْ قَتَادَة أَنَّهُ تُبَّع الْحِمْيَرِيّ , وَكَانَ سَارَ بِالْجُنُودِ حَتَّى عَبَرَ الْحِيرَة . وَبَنَى سَمَرْقَنْد وَقَتَلَ وَهَدَمَ الْبِلَاد . وَقَالَ الْكَلْبِيّ : تُبَّع هُوَ أَبُو كَرْب أَسْعَد بْن مَلِك يَكْرِب , وَإِنَّمَا سُمِّيَ تُبَّعًا لِأَنَّهُ تَبِعَ مَنْ قَبْله . وَقَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر : هُوَ الَّذِي كَسَا الْبَيْت الْحِبَرَات . وَقَالَ كَعْب : ذَمَّ اللَّه قَوْمه وَلَمْ يَذُمّهُ , وَضَرَبَ بِهِمْ لِقُرَيْشٍ مِثْلًا لِقُرْبِهِمْ مِنْ دَارهمْ وَعِظَمهمْ فِي نُفُوسهمْ ; فَلَمَّا أَهْلَكَهُمْ اللَّه تَعَالَى وَمَنْ قَبْلهمْ - لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ - كَانَ مَنْ أَجْرَمَ مَعَ ضَعْف الْيَد وَقِلَّة الْعَدَد أَحْرَى بِالْهَلَاكِ . وَافْتَخَرَ أَهْل الْيَمَن بِهَذِهِ الْآيَة , إِذْ جَعَلَ اللَّه قَوْم تُبَّع خَيْرًا مِنْ قُرَيْش . وَقِيلَ : سُمِّيَ أَوَّلهمْ تُبَّعًا لِأَنَّهُ اِتَّبَعَ قَرْن الشَّمْس وَسَافَرَ فِي الشَّرْق مَعَ الْعَسَاكِر .|وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ|| الَّذِينَ | فِي مَوْضِع رَفْع عَطْف عَلَى | قَوْم تُبَّع | . | أَهْلَكْنَاهُمْ | صِلَته . وَيَكُون | مِنْ قَبْلهمْ | مُتَعَلِّقًا بِهِ . وَيَجُوز أَنْ يَكُون | مِنْ قَبْلهمْ | صِلَة | الَّذِينَ | وَيَكُون فِي الظَّرْف عَائِد إِلَى الْمَوْصُول . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ | أَهْلَكْنَاهُمْ | عَلَى أَحَد أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يُقَدَّر مَعَهُ | قَدْ | فَيَكُون فِي مَوْضِع الْحَال . أَوْ يُقَدَّر حَذْف مَوْصُوف ; كَأَنَّهُ قَالَ : قَوْم أَهْلَكْنَاهُمْ . وَالتَّقْدِير أَفَلَا تَعْتَبِرُونَ أَنَّا إِذَا قَدَرْنَا عَلَى إِهْلَاك هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ قَدَرْنَا عَلَى إِهْلَاك الْمُشْرِكِينَ . وَيَجُوز أَنْ يَكُون | وَاَلَّذِينَ مِنْ قَبْلهمْ | اِبْتِدَاء خَبَره | أَهْلَكْنَاهُمْ | . وَيَجُوز أَنْ يَكُون | الَّذِينَ | فِي مَوْضِع جَرّ عَطْفًا عَلَى | تُبَّع | كَأَنَّهُ قَالَ : قَوْم تُبَّع الْمُهْلِكِينَ مِنْ قَبْلهمْ . وَيَجُوز أَنْ يَكُون | الَّذِينَ | فِي مَوْضِع نَصْب بِإِضْمَارِ فِعْل دَلَّ عَلَيْهِ | أَهْلَكْنَاهُمْ | . وَاَللَّه أَعْلَم .
أَيْ غَافِلِينَ , قَالَهُ مُقَاتِل . وَقِيلَ : لَاهِينَ ; وَهُوَ قَوْل الْكَلْبِيّ .
أَيْ إِلَّا بِالْأَمْرِ الْحَقّ ; قَالَهُ مُقَاتِل . وَقِيلَ : إِلَّا لِلْحَقِّ ; قَالَهُ الْكَلْبِيّ وَالْحَسَن . وَقِيلَ : إِلَّا لِإِقَامَةِ الْحَقّ لِإِظْهَارِهِ مِنْ تَوْحِيد اللَّه وَالْتِزَام طَاعَته . وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي | الْأَنْبِيَاء | . | وَلَكِنَّ أَكْثَرهمْ | يَعْنِي أَكْثَر النَّاس | لَا يَعْلَمُونَ | ذَلِكَ .
| يَوْم الْفَصْل | هُوَ يَوْم الْقِيَامَة ; وَسُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى يَفْصِل فِيهِ بَيْن خَلْقه دَلِيله قَوْله تَعَالَى | لَنْ تَنْفَعكُمْ أَرْحَامكُمْ وَلَا أَوْلَادكُمْ يَوْم الْقِيَامَة يَفْصِل بَيْنكُمْ | [ الْمُمْتَحِنَة : 3 ] . وَنَظِيره قَوْله تَعَالَى : | وَيَوْم تَقُوم السَّاعَة يَوْمئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ | [ الرُّوم : 14 ] . ف | يَوْم الْفَصْل | مِيقَات الْكُلّ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى : | إِنَّ يَوْم الْفَصْل كَانَ مِيقَاتًا | [ النَّبَأ : 17 ] أَيْ الْوَقْت الْمَجْعُول لِتَمْيِيزِ الْمُسِيء مِنْ الْمُحْسِن , وَالْفَصْل بَيْنهمَا : فَرِيق فِي الْجَنَّة وَفَرِيق فِي السَّعِير . وَهَذَا غَايَة فِي التَّحْذِير وَالْوَعِيد . وَلَا خِلَاف بَيْن الْقُرَّاء فِي رَفْع | مِيقَاتهمْ | عَلَى أَنَّهُ خَبَر | إِنَّ | وَاسْمهَا | يَوْم الْفَصْل | . وَأَجَازَ الْكِسَائِيّ , وَالْفَرَّاء نَصْب | مِيقَاتهمْ | . ب | إِنَّ | و | يَوْم الْفَصْل | ظَرْف فِي مَوْضِع خَبَر | إِنَّ | ; أَيْ إِنَّ مِيقَاتهمْ يَوْم الْفَصْل .
| يَوْم | بَدَل مِنْ | يَوْم | الْأَوَّل . وَالْمَوْلَى : الْوَلِيّ وَهُوَ اِبْن الْعَمّ وَالنَّاصِر . أَيْ لَا يَدْفَع اِبْن عَمّ عَنْ اِبْن عَمّه , وَلَا قَرِيب عَنْ قَرِيبه , وَلَا صَدِيق عَنْ صَدِيقه .|وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ|أَيْ لَا يَنْصُر الْمُؤْمِن الْكَافِر لِقَرَابَتِهِ . وَنَظِير هَذِهِ الْآيَة : | وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْس عَنْ نَفْس شَيْئًا | [ الْبَقَرَة : 48 ] الْآيَة .
| مَنْ | رُفِعَ عَلَى الْبَدَل مِنْ الْمُضْمَر فِي | يُنْصَرُونَ | ; كَأَنَّك قُلْت : لَا يَقُوم أَحَد إِلَّا فُلَان . أَوْ عَلَى الِابْتِدَاء وَالْخَبَر مُضْمَر ; كَأَنَّهُ قَالَ : إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّه فَمَغْفُور لَهُ ; أَوْ فَيُغْنِي عَنْهُ وَيَشْفَع وَيَنْصُر . أَوْ عَلَى الْبَدَل مِنْ | مَوْلًى | الْأَوَّل ; كَأَنَّهُ قَالَ : لَا يُغْنِي إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّه . وَهُوَ عِنْد الْكِسَائِيّ وَالْفَرَّاء نُصِبَ عَلَى الِاسْتِثْنَاء الْمُنْقَطِع ; أَيْ لَكِنْ مَنْ رَحِمَ اللَّه لَا يَنَالهُمْ مَا يَحْتَاجُونَ فِيهِ إِلَى مَنْ يُغْنِيهِمْ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ . وَيَجُوز أَنْ يَكُون اِسْتِثْنَاء مُتَّصِلًا ; أَيْ لَا يُغْنِي قَرِيب عَنْ قَرِيب إِلَّا الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّهُ يُؤْذَن لَهُمْ فِي شَفَاعَة بَعْضهمْ لِبَعْضٍ .|إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ|أَيْ الْمُنْتَقِم مِنْ أَعْدَائِهِ الرَّحِيم بِأَوْلِيَائِهِ ; كَمَا قَالَ : | شَدِيد الْعِقَاب ذِي الطَّوْل | [ غَافِر : 3 ] فَقَرَنَ الْوَعْد بِالْوَعِيدِ .
كُلّ مَا فِي كِتَاب اللَّه تَعَالَى مِنْ ذِكْر الشَّجَرَة فَالْوَقْف عَلَيْهِ بِالْهَاءِ ; إِلَّا حَرْفًا وَاحِدًا فِي سُورَة الدُّخَان | إِنَّ شَجَرَة الزَّقُّوم . طَعَام الْأَثِيم | ; قَالَهُ اِبْن الْأَنْبَارِيّ . وَشَجَرَة الزَّقُّوم : الشَّجَرَة الَّتِي خَلَقَهَا اللَّه فِي جَهَنَّم وَسَمَّاهَا الشَّجَرَة الْمَلْعُونَة , فَإِذَا جَاعَ أَهْل النَّار اِلْتَجَئُوا إِلَيْهَا فَأَكَلُوا مِنْهَا , فَغَلِيَتْ فِي بُطُونهمْ كَمَا يَغْلِي الْمَاء الْحَارّ . وَشَبَّهَ مَا يَصِير مِنْهَا إِلَى بُطُونهمْ بِالْمُهْلِ , وَهُوَ النُّحَاس الْمُذَاب . وَقِرَاءَة الْعَامَّة | تَغْلِي | بِالتَّاءِ حَمْلًا عَلَى الشَّجَرَة . وَقَرَأَ اِبْن كَثِير وَحَفْص وَابْن مُحَيْصِن وَرُوَيْس عَنْ يَعْقُوب | يَغْلِي | بِالْيَاءِ حَمْلًا عَلَى الطَّعَام ; وَهُوَ فِي مَعْنَى الشَّجَرَة . وَلَا يُحْمَل عَلَى الْمُهْل لِأَنَّهُ ذُكِرَ لِلتَّشْبِيهِ .
| الْأَثِيم | الْفَاجِر ; قَالَهُ أَبُو الدَّرْدَاء . وَكَذَلِكَ قَرَأَ هُوَ وَابْن مَسْعُود . وَقَالَ هَمَّام بْن الْحَارِث : كَانَ أَبُو الدَّرْدَاء يُقْرِئ رَجُلًا | إِنَّ شَجَرَة الزَّقُّوم طَعَام الْأَثِيم | وَالرَّجُل يَقُول : طَعَام الْيَتِيم , فَلَمَّا لَمْ يَفْهَم قَالَ لَهُ : | طَعَام الْفَاجِر | . قَالَ أَبُو بَكْر الْأَنْبَارِيّ : حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ حَدَّثَنَا نَصْر قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْد قَالَ حَدَّثَنَا نُعَيْم بْن حَمَّاد عَنْ عَبْد الْعَزِيز بْن مُحَمَّد عَنْ اِبْن عَجْلَان عَنْ عَوْن بْن عَبْد اللَّه بْن عُتْبَة بْن مَسْعُود قَالَ : عَلَّمَ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود رَجُلًا | إِنَّ شَجَرَة الزَّقُّوم . طَعَام الْأَثِيم | فَقَالَ الرَّجُل : طَعَام الْيَتِيم , فَأَعَادَ عَلَيْهِ عَبْد اللَّه الصَّوَاب وَأَعَادَ الرَّجُل الْخَطَأ , فَلَمَّا رَأَى عَبْد اللَّه أَنَّ لِسَان الرَّجُل لَا يَسْتَقِيم عَلَى الصَّوَاب قَالَ لَهُ : أَمَا تُحْسِن أَنْ تَقُول طَعَام الْفَاجِر ؟ قَالَ بَلَى , قَالَ فَافْعَلْ . وَلَا حُجَّة فِي هَذَا لِلْجُهَّالِ مِنْ أَهْل الزَّيْغ , أَنَّهُ يَجُوز إِبْدَال الْحَرْف مِنْ الْقُرْآن بِغَيْرِهِ , لِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا كَانَ مِنْ عَبْد اللَّه تَقْرِيبًا لِلْمُتَعَلِّمِ , وَتَوْطِئَة مِنْهُ لَهُ لِلرُّجُوعِ إِلَى الصَّوَاب , وَاسْتِعْمَال الْحَقّ وَالتَّكَلُّم بِالْحَرْفِ عَلَى إِنْزَال اللَّه وَحِكَايَة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ : | وَبِهَذَا يُسْتَدَلّ عَلَى أَنَّ إِبْدَال كَلِمَة مَكَان كَلِمَة جَائِز إِذَا كَانَتْ مُؤَدِّيَة مَعْنَاهَا . وَمِنْهُ أَجَازَ أَبُو حَنِيفَة الْقِرَاءَة بِالْفَارِسِيَّةِ عَلَى شَرِيطَة , وَهِيَ أَنْ يُؤَدِّي الْقَارِئ الْمَعَانِي عَلَى كَمَالِهَا مِنْ غَيْر أَنْ يَخْرِم مِنْهَا شَيْئًا . قَالُوا : وَهَذِهِ الشَّرِيطَة تَشْهَد أَنَّهَا إِجَازَة كَلَا إِجَازَة ; لِأَنَّ فِي كَلَام الْعَرَب خُصُوصًا فِي الْقُرْآن الَّذِي هُوَ مُعْجِز بِفَصَاحَتِهِ وَغَرَابَة نَظْمه وَأَسَالِيبه , مِنْ لَطَائِف الْمَعَانِي وَالْأَغْرَاض مَا لَا يَسْتَقِلّ بِأَدَائِهِ لِسَان مِنْ فَارِسِيَّة وَغَيْرهَا , وَمَا كَانَ أَبُو حَنِيفَة رَحِمَهُ اللَّه يُحْسِن الْفَارِسِيَّة , فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْهُ عَنْ تَحَقُّق وَتَبَصُّر . وَرَوَى عَلِيّ بْن الْجَعْد عَنْ أَبِي يُوسُف عَنْ أَبِي حَنِيفَة مِثْل قَوْل صَاحِبَيْهِ فِي إِنْكَار الْقِرَاءَة بِالْفَارِسِيَّةِ | . و | الْأَثِيم | الْآثِم ; مِنْ أَثِمَ يَأْثَم إِثْمًا ; قَالَ الْقُشَيْرِيّ وَابْن عِيسَى . وَقِيلَ هُوَ الْمُشْرِك الْمُكْتَسِب لِلْإِثْمِ ; قَالَهُ يَحْيَى بْن سَلَّام . وَفِي الصِّحَاح : قَدْ أَثِمَ الرَّجُل ( بِالْكَسْرِ ) إِثْمًا وَمَأْثَمًا إِذَا وَقَعَ فِي الْإِثْم , فَهُوَ آثِم وَأَثِيم وَأَثُوم أَيْضًا . فَمَعْنَى | طَعَام الْأَثِيم | أَيْ ذِي الْإِثْم الْفَاجِر , وَهُوَ أَبُو جَهْل . وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ : يَعِدنَا مُحَمَّد أَنَّ فِي جَهَنَّم الزَّقُّوم , وَإِنَّمَا هُوَ الثَّرِيد بِالزُّبْدِ وَالتَّمْر , فَبَيَّنَ اللَّه خِلَاف مَا قَالَهُ . وَحَكَى النَّقَّاش عَنْ مُجَاهِد أَنَّ شَجَرَة الزَّقُّوم أَبُو جَهْل .</p><p>قُلْت : وَهَذَا لَا يَصِحّ عَنْ مُجَاهِد . وَهُوَ مَرْدُود بِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي هَذِهِ الشَّجَرَة فِي سُورَة | الصَّافَّات وَالْإِسْرَاء | أَيْضًا
وَشَجَرَة الزَّقُّوم خَلَقَهَا اللَّه فِي جَهَنَّم وَسَمَّاهَا الشَّجَرَة الْمَلْعُونَة , فَإِذَا جَاعَ أَهْل النَّار اِلْتَجَئُوا إِلَيْهَا فَأَكَلُوا مِنْهَا , فَغَلِيَتْ فِي بُطُونهمْ كَمَا يَغْلِي الْمَاء الْحَارّ . وَشَبَّهَ مَا يَصِير مِنْهَا إِلَى بُطُونهمْ بِالْمُهْلِ , وَهُوَ النُّحَاس الْمُذَاب . وَقِرَاءَة الْعَامَّة | تَغْلِي | بِالتَّاءِ حَمْلًا عَلَى الشَّجَرَة . وَقَرَأَ اِبْن كَثِير وَحَفْص وَابْن مُحَيْصِن وَرُوَيْس عَنْ يَعْقُوب | يَغْلِي | بِالْيَاءِ حَمْلًا عَلَى الطَّعَام ; وَهُوَ فِي مَعْنَى الشَّجَرَة . وَلَا يُحْمَل عَلَى الْمَهْل لِأَنَّهُ ذُكِرَ لِلتَّشْبِيهِ .
كَغَلْيِ الْمَاء الْحَارّ