رَوَى الْبُخَارِيّ عَنْ زَيْد بْن أَرْقَم قَالَ : كُنْت مَعَ عَمِّي فَسَمِعْت عَبْد اللَّه بْن أُبَيّ اِبْن سَلُول يَقُول : | لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْد رَسُول اللَّه حَتَّى يَنْفَضُّوا | . وَقَالَ : | لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَة لَيُخْرِجَن الْأَعَزّ مِنْهَا الْأَذَلّ | فَذَكَرْت ذَلِكَ لِعَمِّي فَذَكَرَ عَمِّي لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَأَرْسَلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عَبْد اللَّه بْن أُبَيّ وَأَصْحَابه فَحَلَفُوا مَا قَالُوا ; فَصَدَّقَهُمْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَّبَنِي . فَأَصَابَنِي هَمّ لَمْ يُصِبْنِي مِثْله , فَجَلَسْت فِي بَيْتِي فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : | إِذَا جَاءَك الْمُنَافِقُونَ - إِلَى قَوْله - هُمْ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْد رَسُول اللَّه - إِلَى قَوْله - لَيُخْرِجَن الْأَعَزّ مِنْهَا الْأَذَلّ | فَأَرْسَلَ إِلَيَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , ثُمَّ قَالَ : ( إِنَّ اللَّه قَدْ صَدَّقَك ) خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيّ قَالَ : هَذَا حَدِيث حَسَن صَحِيح . وَفِي التِّرْمِذِيّ عَنْ زَيْد بْن أَرْقَم قَالَ : غَزَوْنَا مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ مَعَنَا أُنَاس مِنْ الْأَعْرَاب فَكُنَّا نَبْدُر الْمَاء , وَكَانَ الْأَعْرَاب يَسْبِقُونَا إِلَيْهِ فَيَسْبِق الْأَعْرَابِيّ أَصْحَابه فَيَمْلَأ الْحَوْض وَيَجْعَل حَوْل حِجَارَة , وَيَجْعَل النِّطْع عَلَيْهِ حَتَّى تَجِيءَ أَصْحَابه . قَالَ : فَأَتَى رَجُل مِنْ الْأَنْصَار أَعْرَابِيًّا فَأَرْخَى زِمَام نَاقَته لِتَشْرَب فَأَبَى أَنْ يَدَعهُ , فَانْتَزَعَ حَجَرًا فَغَاضَ الْمَاء ; فَرَفَعَ الْأَعْرَابِيّ خَشَبَة فَضَرَبَ بِهَا رَأْس الْأَنْصَارِيّ فَشَجَّهُ , فَأَتَى عَبْد اللَّه بْن أُبَيّ رَأْس الْمُنَافِقِينَ فَأَخْبَرَهُ - وَكَانَ مِنْ أَصْحَابه - فَغَضِبَ عَبْد اللَّه بْن أُبَيّ ثُمَّ قَالَ : لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْد رَسُول اللَّه حَتَّى يَنْفَضُّوا مِنْ حَوْله - يَعْنِي الْأَعْرَاب - وَكَانُوا يَحْضُرُونَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْد الطَّعَام ; فَقَالَ عَبْد اللَّه : إِذَا اِنْفَضُّوا مِنْ عِنْد مُحَمَّد فَأْتُوا مُحَمَّدًا بِالطَّعَامِ , فَلْيَأْكُلْ هُوَ وَمَنْ عِنْده . ثُمَّ قَالَ لِأَصْحَابِهِ : لَئِنْ رَجَعْتُمْ إِلَى الْمَدِينَة لَيُخْرِجَن الْأَعَزّ مِنْهَا الْأَذَلّ . قَالَ زَيْد : وَأَنَا رِدْف عَمِّي فَسَمِعْت عَبْد اللَّه بْن أُبَيّ فَأَخْبَرْت عَمِّي , فَانْطَلَقَ فَأَخْبَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَلَفَ وَجَحَدَ . قَالَ : فَصَدَّقَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَّبَنِي . قَالَ : فَجَاءَ عَمِّي إِلَيَّ فَقَالَ : مَا أَرَدْت إِلَى أَنْ مَقَتَك رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَّبَك وَالْمُنَافِقُونَ . قَالَ : فَوَقَعَ عَلَيَّ مِنْ جُرْأَتهمْ مَا لَمْ يَقَع عَلَى أَحَد . قَالَ : فَبَيْنَمَا أَنَا أَسِير مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَر قَدْ خَفَّفْت بِرَأْسِي مِنْ الْهَمّ إِذْ أَتَانِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَرَكَ أُذُنِي وَضَحِكَ فِي وَجْهِي ; فَمَا كَانَ يَسُرّنِي أَنَّ لِي بِهَا الْخُلْد فِي الدُّنْيَا . ثُمَّ إِنَّ أَبَا بَكْر لَحِقَنِي فَقَالَ : مَا قَالَ لَك رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْت : مَا قَالَ شَيْئًا إِلَّا أَنَّهُ عَرَكَ أُذُنِي وَضَحِكَ فِي وَجْهِي ; فَقَالَ أَبْشِرْ ! ثُمَّ لَحِقَنِي عُمَر فَقُلْت لَهُ مِثْل قَوْلِي لِأَبِي بَكْر . فَلَمَّا أَصْبَحْنَا قَرَأَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُورَة الْمُنَافِقِينَ . قَالَ أَبُو عِيسَى : هَذَا حَدِيث حَسَن صَحِيح . وَسُئِلَ حُذَيْفَة بْن الْيَمَان عَنْ الْمُنَافِق , فَقَالَ : الَّذِي يَصِف الْإِسْلَام وَلَا يَعْمَل بِهِ . وَهُوَ الْيَوْم شَرّ مِنْهُمْ عَلَى عَهْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْتُمُونَهُ وَهُمْ الْيَوْم يُظْهِرُونَهُ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( آيَة الْمُنَافِق ثَلَاث إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ ) . وَعَنْ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( أَرْبَع مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَة مِنْهُنَّ كَانَ فِيهِ خَصْلَة مِنْ النِّفَاق حَتَّى يَدَعهَا : إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ ) . أَخْبَرَ عَلَيْهِ السَّلَام أَنَّ مَنْ جَمَعَ هَذِهِ الْخِصَال كَانَ مُنَافِقًا , وَخَبَره صِدْق . وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَن أَنَّهُ ذُكِرَ لَهُ هَذَا الْحَدِيث فَقَالَ : إِنَّ بَنِي يَعْقُوب حَدَّثُوا فَكَذَبُوا وَوَعَدُوا فَأَخْلَفُوا وَاُؤْتُمِنُوا فَخَانُوا . إِنَّمَا هَذَا الْقَوْل مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى سَبِيل الْإِنْذَار لِلْمُسْلِمِينَ , وَالتَّحْذِير لَهُمْ أَنْ يَعْتَادُوا هَذِهِ الْخِصَال ; شَفَقًا أَنْ تَقْضِيَ بِهِمْ إِلَى النِّفَاق . وَلَيْسَ الْمَعْنَى : أَنَّ مَنْ بَدَرَتْ مِنْهُ هَذِهِ الْخِصَال مِنْ غَيْر اِخْتِيَار وَاعْتِيَاد أَنَّهُ مُنَافِق . وَقَدْ مَضَى فِي سُورَة | التَّوْبَة | الْقَوْل فِي هَذَا مُسْتَوْفًى وَالْحَمْد لِلَّهِ . وَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( الْمُؤْمِن إِذَا حَدَّثَ صَدَقَ وَإِذَا وَعَدَ أَنْجَزَ وَإِذَا اؤْتُمِنَ وَفَّى ) . وَالْمَعْنَى : الْمُؤْمِن الْكَامِل إِذَا حَدَّثَ صَدَقَ . وَاَللَّه أَعْلَم .</p><p>قِيلَ : مَعْنَى | نَشْهَد | نَحْلِف . فَعَبَّرَ عَنْ الْحَلِف بِالشَّهَادَةِ ; لِأَنَّ كُلّ وَاحِد مِنْ الْحَلِف وَالشَّهَادَة إِثْبَات لِأَمْرٍ مُغَيَّب ; وَمِنْهُ قَوْل قَيْس بْن ذُرَيْح . <br>وَأَشْهَد عِنْد اللَّه أَنِّي أُحِبّهَا .......... فَهَذَا لَهَا عِنْدِي فَمَا عِنْدهَا لِيَا <br>وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون ذَلِكَ مَحْمُولًا عَلَى ظَاهِره أَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِعْتِرَافًا بِالْإِيمَانِ وَنَفْيًا لِلنِّفَاقِ عَنْ أَنْفُسهمْ , وَهُوَ الْأَشْبَه .|وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ|كَمَا قَالُوهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ .|وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ|أَيْ فِيمَا أَظْهَرُوا مِنْ شَهَادَتهمْ وَحَلِفهمْ بِأَلْسِنَتِهِمْ .</p><p>وَقَالَ الْفَرَّاء : | وَاَللَّه يَشْهَد إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ | بِضَمَائِرِهِمْ , فَالتَّكْذِيب رَاجِع إِلَى الضَّمَائِر . وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْإِيمَان تَصْدِيق الْقَلْب , وَعَلَى أَنَّ الْكَلَام الْحَقِيقِيّ كَلَام الْقَلْب . وَمَنْ قَالَ شَيْئًا وَاعْتَقَدَ خِلَافه فَهُوَ كَاذِب . وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي أَوَّل | الْبَقَرَة | مُسْتَوْفًى وَقِيلَ : أَكْذَبَهُمْ اللَّه فِي أَيْمَانهمْ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى : | يَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ | [ التَّوْبَة : 56 ] .
أَيْ سُتْرَة . وَلَيْسَ يَرْجِع إِلَى قَوْله | نَشْهَد إِنَّك لَرَسُول اللَّه | وَإِنَّمَا يَرْجِع إِلَى سَبَب الْآيَة الَّتِي نَزَلَتْ عَلَيْهِ , حَسْب مَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيّ وَالتِّرْمِذِيّ عَنْ اِبْن أُبَيّ أَنَّهُ حَلَفَ مَا قَالَ وَقَدْ قَالَ . وَقَالَ الضَّحَّاك : يَعْنِي حَلَّفَهُمْ بِاَللَّهِ | إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ | وَقِيلَ : يَعْنِي بِأَيْمَانِهِمْ مَا أَخْبَرَ الرَّبّ عَنْهُمْ فِي سُورَة | التَّوْبَة | إِذْ قَالَ : | يَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ مَا قَالُوا | [ التَّوْبَة : 74 ] .</p><p>مَنْ قَالَ أُقْسِم بِاَللَّهِ أَوْ أَشْهَد بِاَللَّهِ أَوْ أَعْزِم بِاَللَّهِ أَوْ أَحْلِف بِاَللَّهِ , أَوْ أَقْسَمْت بِاَللَّهِ أَوْ أَشْهَدْت بِاَللَّهِ أَوْ أَعْزَمْت بِاَللَّهِ أَوْ أَحْلَفْت بِاَللَّهِ , فَقَالَ فِي ذَلِكَ كُلّه | بِاَللَّهِ | فَلَا خِلَاف أَنَّهَا يَمِين . وَكَذَلِكَ عِنْد مَالِك وَأَصْحَابه إِنْ قَالَ : أُقْسِم أَوْ أَشْهَد أَوْ أَعْزِم أَوْ أَحْلِف , وَلَمْ يَقُلْ | بِاَللَّهِ | , إِذَا أَرَادَ | بِاَللَّهِ | . وَإِنْ لَمْ يُرِدْ | بِاَللَّهِ | فَلَيْسَ بِيَمِينٍ . وَحَكَاهُ الْكِيَا عَنْ الشَّافِعِيّ , قَالَ الشَّافِعِيّ : إِذَا قَالَ أَشْهَد بِاَللَّهِ وَنَوَى الْيَمِين كَانَ يَمِينًا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه : لَوْ قَالَ أَشْهَد بِاَللَّهِ لَقَدْ كَانَ كَذَا كَانَ يَمِينًا , وَلَوْ قَالَ أَشْهَد لَقَدْ كَانَ كَذَا دُون النِّيَّة كَانَ يَمِينًا لِهَذِهِ الْآيَة , لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى ذَكَرَ مِنْهُمْ الشَّهَادَة ثُمَّ قَالَ : | اِتَّخَذُوا أَيْمَانهمْ جُنَّة | .</p><p>وَعِنْد الشَّافِعِيّ لَا يَكُون ذَلِكَ يَمِينًا وَإِنْ نَوَى الْيَمِين , لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى : | اِتَّخَذُوا أَيْمَانهمْ جُنَّة | لَيْسَ يَرْجِع إِلَى قَوْله : | قَالُوا نَشْهَد | وَإِنَّمَا يَرْجِع إِلَى مَا فِي | التَّوْبَة | مِنْ قَوْله تَعَالَى : | يَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ مَا قَالُوا | [ التَّوْبَة : 74 ] .|فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ|أَيْ أَعْرَضُوا , وَهُوَ مِنْ الصُّدُود . أَوْ صَرَفُوا الْمُؤْمِنِينَ عَنْ إِقَامَة حُكْم اللَّه عَلَيْهِمْ مِنْ الْقَتْل وَالسَّبْي وَأَخْذ الْأَمْوَال , فَهُوَ مِنْ الصَّدّ , أَوْ مَنَعُوا النَّاس عَنْ الْجِهَاد بِأَنْ يَتَخَلَّفُوا وَيَقْتَدِي بِهِمْ غَيْرهمْ . وَقِيلَ : فَصَدُّوا الْيَهُود وَالْمُشْرِكِينَ عَنْ الدُّخُول فِي الْإِسْلَام , بِأَنْ يَقُولُوا هَا نَحْنُ كَافِرُونَ بِهِمْ , وَلَوْ كَانَ مُحَمَّد حَقًّا لَعَرَفَ هَذَا مِنَّا , وَلَجَعَلَنَا نَكَالًا . فَبَيَّنَ اللَّه أَنَّ حَالهمْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ , وَلَكِنَّ حُكْمه أَنَّ مَنْ أَظْهَرَ الْإِيمَان أُجْرِيَ عَلَيْهِ فِي الظَّاهِر حُكْم الْإِيمَان .|إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ|أَيْ بِئْسَ أَعْمَالهمْ الْخَبِيئَة مِنْ نِفَاقهمْ وَأَيْمَانهمْ الْكَاذِبَة وَصَدّهمْ عَنْ سَبِيل اللَّه أَعْمَالًا .
هَذَا إِعْلَام مِنْ اللَّه تَعَالَى بِأَنَّ الْمُنَافِق كَافِر . أَيْ أَقَرُّوا بِاللِّسَانِ ثُمَّ كَفَرُوا بِالْقَلْبِ . وَقِيلَ : نَزَلَتْ الْآيَة فِي قَوْم آمَنُوا ثُمَّ اِرْتَدُّوا|فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ|أَيْ خُتِمَ عَلَيْهَا بِالْكُفْرِ|فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ|الْإِيمَان وَلَا الْخَيْر . وَقَرَأَ زَيْد بْن عَلِيّ | فَطَبَعَ اللَّه عَلَى قُلُوبهمْ | .
أَيْ هَيْئَاتهمْ وَمَنَاظِرهمْ .|وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ|يَعْنِي عَبْد اللَّه بْن أُبَيّ . قَالَ اِبْن عَبَّاس : كَانَ عَبْد اللَّه بْن أُبَيّ وَسِيمًا جَسِيمًا صَحِيحًا صَبِيحًا ذَلِق اللِّسَان , فَإِذَا قَالَ سَمِعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقَالَته . وَصَفَهُ اللَّه بِتَمَامِ الصُّورَة وَحُسْن الْإِبَانَة . وَقَالَ الْكَلْبِيّ : الْمُرَاد اِبْن أُبَيّ وَجَدّ بْن قَيْس وَمُعَتِّب بْن قُشَيْر , كَانَتْ لَهُمْ أَجْسَام وَمَنْظَر وَفَصَاحَة . وَفِي صَحِيح مُسْلِم :|كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ|قَالَ : كَانُوا رِجَالًا أَجْمَل شَيْء كَأَنَّهُمْ خُشُب مُسَنَّدَة , شَبَّهَهُمْ بِخُشُبٍ مُسَنَّدَة إِلَى الْحَائِط لَا يَسْمَعُونَ وَلَا يَعْقِلُونَ , أَشْبَاح بِلَا أَرْوَاح وَأَجْسَام بِلَا أَحْلَام . وَقِيلَ : شَبَّهَهُمْ بِالْخُشُبِ الَّتِي قَدْ تَآكَلَتْ فَهِيَ مُسْنَدَة بِغَيْرِهَا لَا يُعْلَم مَا فِي بَطْنهَا . وَقَرَأَ قُنْبُل وَأَبُو عَمْرو وَالْكِسَائِيّ | خُشْب | بِإِسْكَانِ الشِّين . وَهِيَ قِرَاءَة الْبَرَاء بْن عَازِب وَاخْتِيَار أَبِي عُبَيْد , لِأَنَّ وَاحِدَتهَا خَشَبَة . كَمَا تَقُول : بَدَنَة وَبُدْن , وَلَيْسَ فِي اللُّغَة فَعَلَة يُجْمَع عَلَى فُعُل . وَيَلْزَم مِنْ ثِقَلهَا أَنْ تَقُول : الْبُدُن , فَتُقْرَأ | وَالْبُدُن | . وَذَكَرَ الْيَزِيدِيّ أَنَّهُ جِمَاع الْخَشْبَاء , كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : | وَحَدَائِق غُلْبًا | وَاحِدَتهَا حَدِيقَة غَلْبَاء . وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّثْقِيلِ وَهِيَ رِوَايَة الْبَزِّيّ عَنْ اِبْن كَثِير وَعَيَّاش عَنْ أَبِي عَمْرو , وَأَكْثَر الرِّوَايَات عَنْ عَاصِم . وَاخْتَارَهُ أَبُو حَاتِم , كَأَنَّهُ جَمْع خِشَاب وَخُشُب , نَحْو ثَمَرَة وَثِمَار وَثُمُر . وَإِنْ شِئْت جَمَعْت خَشَبَة عَلَى خُشْب كَمَا قَالُوا : بَدَنَة وَبُدْن وَبُدُن . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ اِبْن الْمُسَيِّب فَتْح الْخَاء وَالشِّين فِي | خُشُب | . قَالَ سِيبَوَيْهِ : خَشَبَة وَخُشُب , مِثْل بَدَنَة وَبُدُن , قَالَ : وَمِثْله بِغَيْرِ هَاء أَسَد وَأُسْد , وَوَثَن وَوُثْن وَتُقْرَأ خُشُب وَهُوَ جَمْع الْجَمْع , خَشَبَة وَخِشَاب وَخُشُب , مِثْل ثَمَرَة وَثِمَار وَثُمُر . وَالْإِسْنَاد الْإِمَالَة , تَقُول : أَسْنَدْت الشَّيْء أَيْ أَمَلْته . و | مُسْنَدَة | لِلتَّكْثِيرِ ; أَيْ اِسْتَنَدُوا إِلَى الْأَيْمَان بِحَقْنِ دِمَائِهِمْ .|يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ|أَيْ كُلّ أَهْل صَيْحَة عَلَيْهِمْ هُمْ الْعَدُوّ . ف | هُمْ الْعَدُوّ | فِي مَوْضِع الْمَفْعُول الثَّانِي عَلَى أَنَّ الْكَلَام لَا ضَمِير فِيهِ . يَصِفهُمْ بِالْجُبْنِ وَالْخَوَر . قَالَ مُقَاتِل وَالسُّدِّيّ : أَيْ إِذَا نَادَى مُنَادٍ فِي الْعَسْكَر أَنْ اِنْفَلَتَتْ دَابَّة أَوْ أُنْشِدَتْ ضَالَّة ظَنُّوا أَنَّهُمْ الْمُرَادُونَ ; لِمَا فِي قُلُوبهمْ مِنْ الرُّعْب . كَمَا قَالَ الشَّاعِر وَهُوَ الْأَخْطَل : <br>مَا زِلْت تَحْسَب كُلّ شَيْء بَعْدهمْ .......... خَيْلًا تَكُرّ عَلَيْهِمُ وَرِجَالَا<br>وَقِيلَ : | يَحْسَبُونَ كُلّ صَيْحَة عَلَيْهِمْ هُمْ | الْعَدُوّ | كَلَام ضَمِيره فِيهِ لَا يَفْتَقِر إِلَى مَا بَعْد ; وَتَقْدِيره : يَحْسَبُونَ كُلّ صَيْحَة عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ قَدْ فُطِنَ بِهِمْ وَعُلِمَ بِنِفَاقِهِمْ ; لِأَنَّ لِلرِّيبَةِ خَوْفًا . ثُمَّ اِسْتَأْنَفَ اللَّه خِطَاب نَبِيّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : | هُمْ الْعَدُوّ | وَهَذَا مَعْنَى قَوْل الضَّحَّاك وَقِيلَ : يَحْسَبُونَ كُلّ صَيْحَة يَسْمَعُونَهَا فِي الْمَسْجِد أَنَّهَا عَلَيْهِمْ , وَأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَمَرَ فِيهَا بِقَتْلِهِمْ ; فَهُمْ أَبَدًا وَجِلُونَ مِنْ أَنْ يُنْزِل اللَّه فِيهِمْ أَمْرًا يُبِيح بِهِ دِمَاءَهُمْ , وَيَهْتِك بِهِ أَسْتَارهمْ . وَفِي هَذَا الْمَعْنَى قَوْل الشَّاعِر : <br>فَلَوْ أَنَّهَا عُصْفُورَة لَحَسِبْتهَا .......... مُسَوَّمَة تَدْعُو عُبَيْدًا وَأَزْنَمَا <br>بَطْن مِنْ بَنِي يَرْبُوع .|فَاحْذَرْهُمْ|ثُمَّ وَصَفَهُمْ اللَّه بِقَوْلِهِ : | هُمْ الْعَدُوّ فَاحْذَرْهُمْ | حَكَاهُ عَبْد الرَّحْمَن بْن أَبِي حَاتِم . وَفِي قَوْله تَعَالَى : وَجْهَانِ : أَحَدهمَا : فَاحْذَرْ أَنْ تَثِق بِقَوْلِهِمْ أَوْ تَمِيل إِلَى كَلَامهمْ .</p><p>الثَّانِي : فَاحْذَرْ مُمَايَلَتهُمْ لِأَعْدَائِك وَتَخْذِيلهمْ لِأَصْحَابِك .|قَاتَلَهُمُ اللَّهُ|أَيْ لَعَنَهُمْ اللَّه قَالَ اِبْن عَبَّاس وَأَبُو مَالِك . وَهِيَ كَلِمَة ذَمّ وَتَوْبِيخ . وَقَدْ تَقُول الْعَرَب : قَاتَلَهُ اللَّه مَا أَشْعَرَهُ ! يَضَعُونَهُ مَوْضِع التَّعَجُّب . وَقِيلَ : مَعْنَى | قَاتَلَهُمْ اللَّه | أَيْ أَحَلَّهُمْ مَحَلّ مَنْ قَاتَلَهُ عَدُوّ قَاهِر ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَاهِر لِكُلِّ مُعَانِد . حَكَاهُ اِبْن عِيسَى .|أَنَّى يُؤْفَكُونَ|أَيْ يَكْذِبُونَ ; قَالَهُ اِبْن عَبَّاس . قَتَادَة : مَعْنَاهُ يَعْدِلُونَ عَنْ الْحَقّ . الْحَسَن : مَعْنَاهُ يُصْرَفُونَ عَنْ الرُّشْد . وَقِيلَ : مَعْنَاهُ كَيْفَ تَضِلّ عُقُولهمْ عَنْ هَذَا مَعَ وُضُوح الدَّلَائِل ; وَهُوَ مِنْ الْإِفْك وَهُوَ الصَّرْف . و | أَنَّى | بِمَعْنَى كَيْفَ ; وَقَدْ تَقَدَّمَ .
لَمَّا نَزَلَ الْقُرْآن بِصِفَتِهِمْ مَشَى إِلَيْهِمْ عَشَائِرهمْ وَقَالُوا : اِفْتَضَحْتُمْ بِالنِّفَاقِ فَتُوبُوا إِلَى رَسُول اللَّه مِنْ النِّفَاق , وَاطْلُبُوا أَنْ يَسْتَغْفِر لَكُمْ . فَلَوَّوْا رُءُوسهمْ ; أَيْ حَرَّكُوهَا اِسْتِهْزَاء وَإِبَاء ; قَالَهُ اِبْن عَبَّاس . وَعَنْهُ أَنَّهُ كَانَ لِعَبْدِ اللَّه بْن أُبَيّ مَوْقِف فِي كُلّ سَبَب يَحُضّ عَلَى طَاعَة اللَّه وَطَاعَة رَسُوله ; فَقِيلَ لَهُ : وَمَا يَنْفَعك ذَلِكَ وَرَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَضْبَان : فَأْتِهِ يَسْتَغْفِر لَك ; فَأَبَى وَقَالَ : لَا أَذْهَب إِلَيْهِ . وَسَبَب نُزُول هَذِهِ الْآيَات أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزَا بَنِي الْمُصْطَلِق عَلَى مَاء يُقَال ل | الْمُرَيْسِيع | مِنْ نَاحِيَة | قُدَيْد | إِلَى السَّاحِل , فَازْدَحَمَ أَجِير لِعُمَر يُقَال لَهُ : | جَهْجَاه | مَعَ حَلِيف لِعَبْدِ اللَّه بْن أُبَيّ يُقَال لَهُ : | سِنَان | عَلَى مَاء | بِالْمُشَلِّلِ | ; فَصَرَخَ جَهْجَاه بِالْمُهَاجِرِينَ , وَصَرَخَ سِنَان بِالْأَنْصَارِ ; فَلَطَمَ جَهْجَاه سِنَانًا فَقَالَ عَبْد اللَّه بْن أُبَيّ : أَوَقَدْ فَعَلُوهَا ! وَاَللَّه مَا مِثْلنَا وَمِثْلهمْ إِلَّا كَمَا قَالَ الْأَوَّل : سَمِّنْ كَلْبك يَأْكُلك , أَمَا وَاَللَّه لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَة لَيُخْرِجَن الْأَعَزّ - يَعْنِي أُبَيًّا - الْأَذَلّ ; يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . ثُمَّ قَالَ لِقَوْمِهِ : كُفُّوا طَعَامكُمْ عَنْ هَذَا الرَّجُل , وَلَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْده حَتَّى يَنْفَضُّوا وَيَتْرُكُوهُ . فَقَالَ زَيْد بْن أَرْقَم - وَهُوَ مِنْ رَهْط عَبْد اللَّه - أَنْتَ وَاَللَّه الذَّلِيل الْمُنْتَقَص فِي قَوْمك ; وَمُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عِزّ مِنْ الرَّحْمَن وَمَوَدَّة مِنْ الْمُسْلِمِينَ , وَاَللَّه لَا أُحِبّك بَعْد كَلَامك هَذَا أَبَدًا . فَقَالَ عَبْد اللَّه : اُسْكُتْ إِنَّمَا كُنْت أَلْعَب . فَأَخْبَرَ زَيْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ : فَأَقْسَمَ بِاَللَّهِ مَا فَعَلَ وَلَا قَالَ ; فَعَذَرَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قَالَ زَيْد : فَوَجَدْت فِي نَفْسِي وَلَامَنِي النَّاس ; فَنَزَلَتْ سُورَة الْمُنَافِقِينَ فِي تَصْدِيق زَيْد وَتَكْذِيب عَبْد اللَّه . فَقِيلَ لِعَبْدِ اللَّه : قَدْ نَزَلَتْ فِيك آيَات شَدِيدَة فَاذْهَبْ إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَسْتَغْفِر لَك ; فَأَلْوَى بِرَأْسِهِ , فَنَزَلَتْ الْآيَات . خَرَّجَهُ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم وَالتِّرْمِذِيّ بِمَعْنَاهُ . وَقَدْ تَقَدَّمَ أَوَّل السُّورَة . وَقِيلَ : | يَسْتَغْفِر لَكُمْ | يَسْتَتِبْكُمْ مِنْ النِّفَاق ; لِأَنَّ التَّوْبَة اِسْتِغْفَار .|وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ|أَيْ يُعْرِضُونَ عَنْ الرَّسُول مُتَكَبِّرِينَ عَنْ الْإِيمَان . وَقَرَأَ نَافِع | لَوُوا | بِالتَّخْفِيفِ . وَشَدَّدَ الْبَاقُونَ ; وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْد وَقَالَ : هُوَ فِعْل لِجَمَاعَةٍ . النَّحَّاس : وَغَلِطَ فِي هَذَا ; لِأَنَّهُ نَزَلَ فِي عَبْد اللَّه بْن أُبَيّ لَمَّا قِيلَ لَهُ : تَعَالَ يَسْتَغْفِر لَك رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّكَ رَأْسه اِسْتِهْزَاء . فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ أَخْبَرَ عَنْهُ بِفِعْلِ الْجَمَاعَة ؟ قِيلَ لَهُ : الْعَرَب تَفْعَل هَذَا إِذَا كَنَّتْ عَنْ الْإِنْسَان . أَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ لِحَسَّان : <br>ظَنَنْتُمْ بِأَنْ يَخْفَى الَّذِي قَدْ صَنَعْتُمُ .......... وَفِينَا رَسُول عِنْده الْوَحْي وَاضِعه <br>وَإِنَّمَا خَاطَبَ حَسَّانُ اِبْنَ الْأُبَيْرِق فِي شَيْء سَرَقَهُ بِمَكَّة . وَقِصَّته مَشْهُورَة . وَقَدْ يَجُوز أَنْ يُخْبِر عَنْهُ وَعَمَّنْ فَعَلَ فِعْله . وَقِيلَ : قَالَ اِبْن أُبَيّ لَمَّا لَوَّى رَأْسه : أَمَرْتُمُونِي أَنْ أُومِنَ فَقَدْ آمَنْت , وَأَنْ أُعْطِيَ زَكَاة مَالِي فَقَدْ أَعْطَيْت ; فَمَا بَقِيَ إِلَّا أَنْ أَسْجُد لِمُحَمَّدٍ .
يَعْنِي كُلّ ذَلِكَ سَوَاء , لَا يَنْفَع اِسْتِغْفَارك شَيْئًا ; لِأَنَّ اللَّه لَا يَغْفِر لَهُمْ . نَظِيره : | سَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتهمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ | [ الْبَقَرَة : 6 ] , | سَوَاء عَلَيْنَا أَوَعَظْت أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنْ الْوَاعِظِينَ | [ الشُّعَرَاء : 136 ] . وَقَدْ تَقَدَّمَ .|إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ|أَيْ مَنْ سَبَقَ فِي عِلْم اللَّه أَنَّهُ يَمُوت فَاسِقًا .
ذَكَرْنَا سَبَب النُّزُول فِيمَا تَقَدَّمَ . وَابْن أُبَيّ قَالَ : لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْد مُحَمَّد حَتَّى يَنْفَضُّوا ; حَتَّى يَتَفَرَّقُوا عَنْهُ .|وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ|فَأَعْلَمَهُمْ اللَّه سُبْحَانه أَنَّ خَزَائِن السَّمَوَات وَالْأَرْض لَهُ , يُنْفِق كَيْفَ يَشَاء . قَالَ رَجُل لِحَاتِمِ الْأَصَمّ : مِنْ أَيْنَ تَأْكُل ؟ فَقَالَ : | وَلِلَّهِ خَزَائِن السَّمَوَات وَالْأَرْض | .</p><p>وَقَالَ الْجُنَيْد : خَزَائِن السَّمَوَات الْغُيُوب , وَخَزَائِن الْأَرْض الْقُلُوب ; فَهُوَ عَلَّام الْغُيُوب وَمُقَلِّب الْقُلُوب . وَكَانَ الشِّبْلِيّ يَقُول : | وَلِلَّهِ خَزَائِن السَّمَوَات وَالْأَرْض | فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ .|وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ|أَنَّهُ إِذَا أَرَادَ أَمْرًا يَسَّرَهُ .
الْقَائِل اِبْن أُبَيّ كَمَا تَقَدَّمَ . وَقِيلَ : إِنَّهُ لَمَّا قَالَ : | لَيُخْرِجَن الْأَعَزّ مِنْهَا الْأَذَلّ | وَرَجَعَ إِلَى الْمَدِينَة لَمْ يَلْبَث إِلَّا أَيَّامًا يَسِيرَة حَتَّى مَاتَ ; فَاسْتَغْفَرَ لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَأَلْبَسَهُ قَمِيصه ; فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة : | لَنْ يَغْفِر اللَّه لَهُمْ | . وَقَدْ مَضَى بَيَانه هَذَا كُلّه فِي سُورَة | التَّوْبَة | مُسْتَوْفًى .</p><p>وَرُوِيَ أَنَّ عَبْد اللَّه بْن عَبْد اللَّه بْن أُبَيّ ابْن سَلُول قَالَ لِأَبِيهِ : وَاَلَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ لَا تَدْخُل الْمَدِينَة حَتَّى تَقُول : إِنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْأَعَزّ وَأَنَا الْأَذَلّ ; فَقَالَهُ . تَوَهَّمُوا أَنَّ الْعِزَّة بِكَثْرَةِ الْأَمْوَال وَالْأَتْبَاع ; فَبَيَّنَ اللَّه أَنَّ الْعِزَّة وَالْمَنَعَة وَالْقُوَّة لِلَّهِ .
يَدُلّ عَلَى وُجُوب تَعْجِيل أَدَاء الزَّكَاة , وَلَا يَجُوز تَأْخِيرهَا أَصْلًا . وَكَذَلِكَ سَائِر الْعِبَادَات إِذَا تَعَيَّنَ وَقْتهَا .|فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ|سَأَلَ الرَّجْعَة إِلَى الدُّنْيَا لِيَعْمَل صَالِحًا . وَرَوَى التِّرْمِذِيّ عَنْ الضَّحَّاك بْن مُزَاحِم عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : مَنْ كَانَ لَهُ مَال يُبَلِّغهُ حَجّ بَيْت رَبّه أَوْ تَجِب عَلَيْهِ فِيهِ زَكَاة فَلَمْ يَفْعَل , سَأَلَ الرَّجْعَة عِنْد الْمَوْت . فَقَالَ رَجُل : يَا بْن عَبَّاس , اِتَّقِ اللَّه , إِنَّمَا سَأَلَ الرَّجْعَة الْكُفَّار . فَقَالَ : سَأَتْلُو عَلَيْك بِذَلِكَ قُرْآنًا : | يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالكُمْ وَلَا أَوْلَادكُمْ عَنْ ذِكْر اللَّه وَمَنْ يَفْعَل ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ . وَأَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْل أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ فَيَقُول رَبّ لَوْلَا أَخَّرْتنِي إِلَى أَجَل قَرِيب فَأَصَّدَّق وَأَكُنْ مِنْ الصَّالِحِينَ | إِلَى قَوْله | وَاَللَّه خَبِير بِمَا تَعْمَلُونَ | قَالَ : فَمَا يُوجِب الزَّكَاة ؟ قَالَ : إِذَا بَلَغَ الْمَال مِائَتَيْنِ فَصَاعِدًا . قَالَ : فَمَا يُوجِب الْحَجّ ؟ قَالَ : الزَّاد وَالرَّاحِلَة . | قُلْت | : ذَكَرَهُ الْحَلِيمِيّ أَبُو عَبْد اللَّه الْحُسَيْن بْن الْحَسَن فِي كِتَاب ( مِنْهَاج الدِّين ) مَرْفُوعًا فَقَالَ : وَقَالَ اِبْن عَبَّاس قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ كَانَ عِنْده مَال يُبَلِّغهُ الْحَجّ ... ) الْحَدِيث ; فَذَكَرَهُ . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي | آل عِمْرَان | لَفْظه .</p><p>قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : | أَخَذَ اِبْن عَبَّاس بِعُمُومِ الْآيَة فِي إِنْفَاق الْوَاجِب خَاصَّة دُون النَّفْل ; فَأَمَّا تَفْسِيره بِالزَّكَاةِ فَصَحِيح كُلّه عُمُومًا وَتَقْدِيرًا بِالْمِائَتَيْنِ . وَأَمَّا الْقَوْل فِي الْحَجّ فَفِيهِ إِشْكَال ; لِأَنَّا إِنْ قُلْنَا : إِنَّ الْحَجّ عَلَى التَّرَاخِي فَفِي الْمَعْصِيَة فِي الْمَوْت قَبْل الْحَجّ خِلَاف بَيْن الْعُلَمَاء ; فَلَا تُخَرَّج الْآيَة عَلَيْهِ . وَإِنْ قُلْنَا : إِنَّ الْحَجّ عَلَى الْفَوْر فَالْآيَة فِي الْعُمُوم صَحِيح ; لِأَنَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجّ فَلَمْ يُؤَدِّهِ لَقِيَ مِنْ اللَّه مَا يَوَدّ أَنَّهُ رَجَعَ لِيَأْتِيَ بِمَا تَرَكَ مِنْ الْعِبَادَات . وَأَمَّا تَقْدِير الْأَمْر بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَة فَفِي ذَلِكَ خِلَاف مَشْهُور بَيْن الْعُلَمَاء . وَلَيْسَ لِكَلَامِ اِبْن عَبَّاس فِيهِ مَدْخَل ; لِأَجْلِ أَنَّ الرَّجْعَة وَالْوَعِيد لَا يَدْخُل فِي الْمَسَائِل الْمُجْتَهَد فِيهَا وَلَا الْمُخْتَلَف عَلَيْهَا , وَإِنَّمَا يَدْخُل فِي الْمُتَّفَق عَلَيْهِ . وَالصَّحِيح تَنَاوُله لِلْوَاجِبِ مِنْ الْإِنْفَاق كَيْفَ تُصْرَف بِالْإِجْمَاعِ أَوْ بِنَصِّ الْقُرْآن ; لِأَجْلِ أَنَّ مَا عَدَا ذَلِكَ لَا يَتَطَرَّق إِلَيْهِ تَحْقِيق الْوَعِيد .</p><p>قَوْله تَعَالَى : | لَوْلَا | أَيْ هَلَّا ; فَيَكُون اِسْتِفْهَامًا . وَقِيلَ : | لَا | صِلَة ; فَيَكُون الْكَلَام بِمَعْنَى التَّمَنِّي . | فَأَصَّدَّق | نَصْب عَلَى جَوَاب التَّمَنِّي بِالْفَاءِ . | وَأَكُون | عَطْف عَلَى | فَأَصَّدَّق | وَهِيَ قِرَاءَة اِبْن عَمْرو وَابْن مُحَيْصِن وَمُجَاهِد . وَقَرَأَ الْبَاقُونَ | وَأَكُنْ | بِالْجَزْمِ عَطْفًا عَلَى مَوْضِع الْفَاء ; لِأَنَّ قَوْله : | فَأَصَّدَّق | لَوْ لَمْ تَكُنْ الْفَاء لَكَانَ مَجْزُومًا ; أَيْ أَصَّدَّق . وَمِثْله : | مَنْ يُضْلِلْ اللَّه فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرهُمْ | [ الْأَعْرَاف : 186 ] فِيمَنْ جَزَمَ . قَالَ اِبْن عَبَّاس : هَذِهِ الْآيَة أَشَدّ عَلَى أَهْل التَّوْحِيد ; لِأَنَّهُ لَا يَتَمَنَّى الرُّجُوع فِي الدُّنْيَا أَوْ التَّأْخِير فِيهَا أَحَد لَهُ عِنْد اللَّه خَيْر فِي الْآخِرَة .</p><p>قُلْت : إِلَّا الشَّهِيد فَإِنَّهُ يَتَمَنَّى الرُّجُوع حَتَّى يُقْتَل , لِمَا يَرَى مِنْ الْكَرَامَة .
مِنْ خَيْر وَشَرّ . وَقِرَاءَة الْعَامَّة بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَاب . وَقَرَأَ أَبُو بَكْر عَنْ عَاصِم وَالسُّلَمِيّ بِالْيَاءِ ; عَلَى