هي ست آيات والخلاف في كونها مكية أو مدنية كالخلاف الذي تقدم في سورة الفلق. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: أنزل بمكة "قل أعوذ برب الناس". وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير قال: أنزل بالمدينة "قل أعوذ برب الناس" وقد قدمن افي سورة الفلق ما ورد في سبب نزول هذه السورة وما ورد في فضلها فارجع إليه. قرأ الجمهور 1- "قل أعوذ" بالهمزة. وقرئ بحذفها ونقل حركتها إلى اللام. وقرأ الجمهور بترك الإمالة في "الناس"، وقرأ الكسائي بالإمالة. ومعنى "رب الناس": مالك أمرهم ومصلح أحوالهم، وإنما قال رب الناس مع أنه رب جميع مخلوقاته للدلالة على شرفهم، ولكون الاستعاذة وقعت من شر ما يوسوس في صدورهم.
وقوله: 2- "ملك الناس" عطف بيان جيء به لبيان أن ربيته سبحانه ليست كربية سائر الملاك لما تحت أيديهم من مماليكهم، بل بطريق الملك الكامل، والسلطان القاهر.
3- "إله الناس" هو أيضاً عطف بيان كالذي قبله لبيان أن ربوبيته وملكه قد انضم إليهما المعبودية المؤسسة على الألوهية المقتضية للقدرة التامة على التصرف الكلي بالاتحاد والإعدام، وأيضاً الرب قد يكون ملكاً، وقد لا يكون ملكاً، كما يقال رب الدار وبرب المتاع، ومنه قوله: "اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله" فبين أنه ملك الناس. ثم الملك قد يكون إلهاً، وقد لا يكون، فبين أنه إله لأن اسم الإله خاص به لا يشاركه فيه أحد، وأيضاً بدأ باسم الرب وهو اسم لمن قام بتدبيره وإصلاحه من أوائل عمره إلى أن صار عاقلاً كاملاً، فحينئذ عرف بالدليل أنه عبد مملوك فذكر أنه ملك الناس. ثم لما علم أن العبادة لازمة له واجبة عليه، وأنه عبد مخلوق وأن خالقه إله معبود بين سبحانه أنه إله الناس، وكرر لفظ الناس في الثلاثة المواضع لأن عطف البيان يحتاج إلى مزية الإظهار، ولأن التكرير يقتضي مزيد من شرف الناس.
4- "من شر الوسواس" قال الفراء: هو بفتح الواو بمعنى الاسم: أي الموسوس، وبكسرها المصدر: أي الموسوسة كالزلزال بمعنى الزلزلة، وقيل هو بالفتح اسم بمعنى الوسوسة، والوسوسة: هي حديث النفس، يقال: وسوست إليه نفسه وسوسة: أي حدثته حديثاً، وأصلها الصوت الخفي، ومنه قيل لأصوات الحلى وسواس، ومنه قول الأعشى: تسمع للحلى وسواساً إذا انصرفت قال الزجاج: الوسواس هو الشيطان: أي ذي الوسواس، ويقال إن الوسواس ابن لإبليس، وقد سبق تحقيق معنى الوسوسة في تفسير قوله: "فوسوس لهما الشيطان" ومعنى "الخناس" كثير الخنس، وهو التأخير، يقال خنس يخنس: إذا تأخر، ومنه قول العلاء بن الحضرمي يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإن دخسوا بالشر فاعف تكرما وإن خنسوا عند الحديث فلا تسل قال مجاهد: إذا ذكر الله خنس وانقبض، وإذا لم يذكر انبسط على القلب. ووصف بالخناس لأنه كثير الاختفاء، ومنه قوله تعالى: "فلا أقسم بالخنس" يعنى النجوم لاختفائها بعد ظهورها كما تقدم، وقيل الخناس اسم لابن إبليس كما تقدم في الوسواس.
5- "الذي يوسوس في صدور الناس" الموصول يجوز أن يكون في محل جر نعتاً للوسواس، ويجوز أن يكون منصوباً على الذم، ويجوز أن يكون مرفوعاً على تقدير مبتدأ. وقد تقدم معنى الوسوسة. قال قتادة: إن الشيطان له خرطوم كخرطوم الكلب في صدر الإنسان، فإذا غفل ابن آدم عن ذكر الله وسوس له، وإذا ذكر العبد ربه خنس. قال مقاتل: إن الشيطان في صورة خنزير يجري من ابن آدم مجرى الدم في عروقه سلطه الله على ذلك، ووسوسته هي الدعاء إلى طاعته بكلام خفي يصل إلى القلب من غير سماع صوت.
ثم بين سبحانه الذي يوسوس بأنه ضربان: جني وإنسي، فقال: 6- "من الجنة والناس" أما شيطان الجن فيوسوس في صدور الناس، وأما شيطان الإنس فوسوسته في صدور الناس أنه يرى نفسه كالناصح المشفق فيوقع في الصدر من كلامه الذي أخرجه مخرج النصيحة ما يوقع الشيطان فيه بوسوسته كما قال سبحانه: "شياطين الإنس والجن" ويجوز أن يكون متعلقاً بيوسوس: أي يوسوس في صدورهم من جهة الجنة ومن جهة الناس، ويجوز أن يكون بياناً للناس. قال الرازي وقال قوم: من الجنة والناس قسمان مندرجان تحت قوله: "في صدور الناس" لأن القدر المشترك بين الجن والإنس يسمى إنساناً، والإنسان أيضاً يسمى إنساناً، فيكون لفظ الإنسان واقعاً على الجنس والنوع بالاشتراك. والدليل على أن لفظ الإنسان يندرج فيه لفظ الإنس والجن ما روي أنه جاء نفر من الجن، فقيل لهم: من أنتم؟ قالوا: ناس من الجن. وأيضاً قد سماهم الله رجالاً في قوله: "وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن" وقيل يجوز أن يكون المراد أعوذ برب الناس من الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس ومن الجنة والناس، كأنه استعاذ ربه من ذلك الشيطان الواحد، ثم استعاذ بربه من جميع الجنة والناس، وقيل المراد بالناس الناسي وسقطت الياء كسقوطها ثم استعاذ بربه من جميع الجنة والناس، وقيل المراد بالناس الناسي وسقطت الياء كسقوطها في قوله: "يوم يدع الداع" ثم بين بالجنة والناس لأن كل فرد من أفراد الفريقين في الغالب مبتلي بالنسيان، وأحسن من هذا أن يكون قوله: "والناس" معطوفاً على الوسواس: أي من شر الوسواس ومن شر الناس كأنه أمر أن يستعيذ من شر الجن والإنس. قال الحسن: أما شيطان الجن فيوسوس في صدور الناس، وأما شيطان الإنس فيأتي علانية. وقال قتادة: إن من الجن شياطين، وإن من الإنس شياطين، فنعوذ بالله من شياطين الجن والإنس، وقيل إن إبليس يوسوس في صدور الجن كما يوسوس في صدور الإنس، وواحد الجنة جني كما أن واحد الإنس إنسي. والقول الأول هو أرجح هذه الأقوال، وإن كان وسوسة الإنس في صدور الناس لا تكون إلا بالمعنى الذي قدمنا، ويكون هذا البيان تذكر الثقلين للإرشاد إلى أن من استعاذ بالله منهما ارتفعت عنه محن الدنيا والآخرة. وقد أخرج ابن أبي داود عن ابن عباس في قوله: "الوسواس الخناس" قال: مثل الشيطان كمثل ابن عرس واضع فمه على فم القلب فيوسوس إليه، فإن ذكر الله خنس، وإن سكت عاد إليه فهو الوسواس الخناس. وأخرج ابن أبي الدنيا في مكايد الشيطان وأبو يعلى وابن شاهين والبيهقي في الشعب عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الشيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم، فإن ذكر الله خنس، وإن نسيه التقم قلبه، قذلك الوسواس الخناس" وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "الوسواس الخناس" قال: الشيطان جاث على قلب ابن آدم، فإذا سها وغفل وسوس، وإذا ذكر الله خنس. وأخرج ابن أبي الدنيا وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه، وابن مردويه والضياء في المختارة، والبيهقي عنه قال: ما من مولود يولد إلا على قلبه الوسواس، فإذا ذكر الله خنس، وإذا غفل وسوس، فذلك قوله: "الوسواس الخناس" وقد ورد في معنى هذا غيره، وظاهره أن مطلق ذكر الله يطرد الشيطان، وإن لم يكن على طريق الاستعاذة، ولذكر الله سبحانه فوائد جليلة حاصلها الفوز بخيري الدنيا والآخرة. وإلى هنا انتهى هذا التفسير المبارك بقلم مؤلفه محمد بن علي بن محمد الشوكاني، غفر الله له ذنوبه. وكان الفراغ منه في ضحوه يوم السبت لعله الثامن والعشرون من شهر رجب أحد شهور سنة تسع وعشرين بعد مائتين وألف سنة من الهجرة النبوية. اللهم كما مننت علي بإكمال هذا التفسير وأعنتني على تحصيله وتفضلت علي بالفراغ، منه فامنن علي بقبوله، واجعله لي ذخيرة خير عندك، وأجزل لي المثوبة بما لاقيته من التعب والنصب في تحريره وتقريره، وانفع به من شئت من عبادك ليدوم لي الانتفاع به بعد موتي، فإن هذا هو المقصد الجليل من التصنيف، واجعله خالصاً لك، وتجاوز عني إذا خطر لي من خواطر السوء ما فيه شائبة تخالف الإخلاص، واغفر لي ما لا يطابق مرادك، فإني لم أقصد في جميع أبحاثي فيه إلا إصابة الحق وموافقة ما ترضاه، فإن أخطأت فأنت غافر الخطيئات، ومسبل ذيل الستر على الهفوات، يا بارئ البريات، وأحمدك لا أحصي حمداً لك، وأشكرك لا أحصي شكرك، أنت كما أثنيت على نفسي، وأصلي وأسلم على رسولك وآله اهـ. تم سماعاً على مؤلفه حفظ الله عزته يوم الاثنين صبح اليوم الخامس من شهر ربيع الأول سنة 1241هـ. كتبه يحيى بن علي الشوكاني غفر الله لهما