islamkingdomfaceBook islamkingdomtwitter islamkingdominstagram islamkingdomyoutube islamkingdomnew

فتح القدير
15927

40-غافر

حم

وهي سورة المؤمن، وتسمى سورة الطول. وهي مكية في قول الحسن وعطاء وعكرمة وجابر. قال الحسن: إلا قوله: "وسبح بحمد ربك" لأن الصلوات نزلت بالمدينة. وقال ابن عباس وقتادة: إلا آيتين نزلتا بالمدينة، وهما "إن الذين يجادلون في آيات الله" والتي بعدها، وهي خمس وثمانون آية، وقيل اثنتان وثمانون آية. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: أنزلت سورة حم المؤمن بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. وأخرج ابن الضريس والنحاس والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: أنزلت الحواميم السبع بمكة. وأخرج ابن مردويه والديلمي عن سمرة بن جندب قال نزلت الحواميم جميعاً بمكة. وأخرج محمد بن نصر وابن مردويه عن أنس بن مالك سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله أعطاني السبع الحواميم مكان التوراة، وأعطاني الراءات إلى الطواسين مكان الإنجيل وأعطاني ما بين الطواسين إلى الحواميم مكان الزبور، وفضلني بالحواميم والمفصل ما قرأهن نبي قبلي". وأخرج أبو عبيد في فضائله عن ابن عباس قال: إن لكل شيء لباباً، وإن لباب القرآن ال حم. وأخرج أبو عبيد وابن الضريس وابن المنذر والحاكم والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود قال: الحواميم ديباج روضات دمثات أتأنق فيهن. وأخرج أبو الشيخ وأبو نعيم والديلمي عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحوميم ديباج القرآن". وأخرج البيهقي في الشعب عن خليل بن مرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الحواميم سبع، وأبواب النار سبع، تجيء كل حم منها تقف على باب من هذه الأبواب تقول: اللهم لا تدخل من هذا الباب من كان يؤمن بي ويقرأني". وأخرج أبو عبيد وابن سعد ومحمد بن نصر وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ حم المؤمن إلى "إليه المصير" وآية الكرسي حين يصبح، حفظ بهما حتى يمسي، ومن قرأهما حين يمسي، حفظ بهما حتى يصبح". قوله: 1- "حم" قرأ الجمهور بفتح الحاس مشبعاً، وقرأ حمزة والكسائي بإمالته إمالة محضة. وقرأ أبو عمرو بإمالته بين بين، وقرأ الجمهور حم بسكون الميم كسائر الحروف المقطعة. وقرأ الزهري بضمها على أنها خبر مبتدأ مضمر أو مبتدأ والخبر ما بعده. وقرأ عيسى بن عمر الثقفي بفتحها على أنها منصوبة بفعل مقدر أو على أنها حركة بناء لا حركة إعراب. وقرأ ابن أبي إسحاق وأبو السماك بكسرها لالتقاء الساكنين، أو بتقدير القسم. وقرأ الجمهور بوصل الحاء بالميم. وقرأ أبو جعفر بقطعها. وقد اختلف في معناه، فقيل هو اسم من أسماء الله، وقيل اسم من أسماء القرآن. وقال الضحاك والكسائي معناه قضى، وجعلاه بمعنى حم: أي قضى ووقع، وقيل معناه حم أمر الله: أي قرب نصره لأوليائه وانتقامه من أعدائه. وهذا كله تكلف لا موجب له وتعسف لا ملجئ إليه، والحق أن هذه الفاتحة لهذه وأمثالها من المتشابه الذي استأثر الله بعلم معناه كما قدمنا تحقيقه في فاتحة سورة البقرة.

تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ

2- "تنزيل الكتاب" هو خبر لـحم على تقدير أنه مبتدأ، أو خبر لمبتدأ مضمر، أو هو مبتدأ وخبره "من الله العزيز العليم" قال الرازي: المراد بتنزيل: المنزل، والمعنى: أن القرآن منزل من عند الله ليس بكذب عليه. والعزيز الغالب القاهر، والعليم: الكثير العلم بخلقه وما يقولونه ويفعلونه.

غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ

3- "غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب" قال الفراء: جعلها كالنعت للمعرفة، وهي نكرة، ووجه قوله هذا أن إضافتها لفظية، ولكنه يجوز أن تجعل إضافتها معنوية كما قال سيبويه أن كل ما إضافته غير محضة يجوز أن تجعل محضة وتوصف به المعارف إلا الصفة المشبهة. وأما الكوفيون فلم يستثنوا شيئاً بل جعلوا الصفة المشبهة كاسم الفاعل في جواز جعلها إضافة محضة، وذلك حيث لا يراد بها زمان مخصوص، فيجوزون في شديد هنا أن تكون إضافته محضة. وعلى قول سيبويه لا بد من تأويله بمشدد. وقال الزجاج: إن هذه الصفات الثلاث مخفوضة على البدل. وروي عنه أنه جعل غافر وقابل مخفوضين على الوصف وشديد مخفوض على البدل والمعنى: غافر الذنب لأوليائه وقابل توبتهم وشديد العقاب لأعدائه، والتوب مصدر بمعنى التوبة من تاب يتوب توبة وتوباً، وقيل هو جمع توبة، وقيل غافر الذنب لمن قال لا إله إلا الله، وقابل التوب من الشرك، وشديد العقاب لمن لا يوحده، وقوله: "ذي الطول" يجوز أن يكون صفة، لأنه معرفة وأن يكون بدلاً، وأصل الطول الأنعام والتفضل: أي ذي الإنعام على عباده والتفضل عليهم. وقال مجاهد: ذي الغنى والسعة. ومنه قوله: "ومن لم يستطع منكم طولاً" أي غنى وسعة، وقال عكرمة: ذي الطول ذي المن. قال الجوهري: والطول بالفتح المن يقال منه طال عليه ويطول عليه إذا امتن عليه. وقال محمد بن كعب: ذي الطول ذي التفضل. قال الماوردي: والفرق بين المن والتفضل أن المن عفو عن ذنب، والتفضل إحسان غير مستحق. ثم ذكر ما يدل على توحيده وأنه الحقيق بالعبادة فقال: "لا إله إلا هو إليه المصير" لا إلى غيره، وذلك في اليوم الآخر.

مَا يُجَادِلُ فِي آَيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ

ثم لما ذكر أن القرآن كتاب الله أنزله ليهتدي به في الدين ذكر أحوال من يجادل فيه لقصد إبطاله فقال: 4- "ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا" أي ما يخاصم في دفع آيات الله وتكذيبها إلا الذين كفروا، والمراد الجدال بالباطل والقصد إلى دحض الحق كما في قوله: "وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق"، فأما الجدال لاستيضاح الحق ورفع اللبس والبحث عن الراجح والمرجوح وعن المحكم والمتشابه ودفع ما يتعلق به المبطلون من متشابهات القرآن، وردهم بالجدال إلى المحكم فهو من أعظم ما يتقرب المتقربون، وبذلك أخذ الله الميثاق على الذين أوتوا الكتاب فقال: "وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه" وقال: "إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون" وقال "ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن" "فلا يغررك تقلبهم في البلاد" لما حكم سبحانه على المجادلين في آيات الله بالكفر، نهى رسوله صلى الله عليه وسلم عن أن يغتر بشيء من حظوظهم الدنيوية فقال: فلا يغررك ما يفعلونه من التجارة في البلاد وما يحصلونه من الأرباح ويجمعونه من الأموال فإنهم معاقبون عما قليل وإن أمهلوا فإنهم لا يهملون. قال الزجاج: لا يغررك سلامتهم بعد كفرهم، فإن عاقبتهم الهلاك. قرأ الجمهور "لا يغررك" بفك الإدغام. وقرأ زيد بن علي وعبيد بن عمير بالإدغام.

كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ

ثم بين حال من كان قبلهم، وأن هؤلاء سلكوا سبيل أولئك في التكذيب فقال: 5- "كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم" الضمير في بعدهم يرجع إلى قوم نوح: أي وكذبت الأحزاب الذين تحزبوا على الرسل من بعد قوم نوح كعاد وثمود "وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه" أي همت كل أمة من تلك الأمم المكذبة برسولهم الذي أرسل إليهم ليأخذوه ليتمكنوا منه فيحبسوه ويعذبوه ويصيبوا منه ما أرادوا. وقال قتادة والسدي: ليقتلوه، والأخذ قد يرد بمعنى الإهلاك، كقوله: "ثم أخذتهم فكيف كان نكير" والعرب تسمي الأسير الأخيذ "وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق" أي خاصموا رسولهم بالباطل من القول ليدحضوا به الحق ليزيلوه، ومنه مكان دحض: أي مزلقة ومزلة أقدام، والباطل داحض لأنه يزلق ويزول فلا يستقر. قال يحيى بن سلام: جادلوا الأنبياء بالشرك ليبطلوا به الإيمان "فأخذتهم فكيف كان عقاب" أي فأخذت هؤلاء المجادلين بالباطل، فكيف كان عقابي الذي عاقبتهم به، وحذف ياء المتكلم من عقاب اجتزاء بالكسرة عنها وصلاً ووقفاً لأنها رأس آية.

وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ

6- "وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا" أي وجبت وثبتت ولزمت، يقال حق الشيء إذا لزم وثبت، والمعنى: وكما حقت كلمة العذاب على الأمم المكذبة لرسلهم حقت على الذين كفروا به وجادلوا بالباطل وتحزبوا عليك، وجملة "أنهم أصحاب النار" للتعليل: أي لأجل أنهم مستحقون للنار. قال الأخفش: أي لأنهم، أو بأنهم. ويجوز أن تكون في محل رفع بدلاً من كلمة. قرأ الجمهور "كلمة" بالتوحيد، وقرأ نافع وابن عامر "كلمات" بالجمع.

الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ

ثم ذكر أحال حملة العرش ومن حوله فقال: 7- " الذين يحملون العرش ومن حوله " والموصول مبتدأ، وخبره يسبحون بحمد ربهم، والجملة مستأنفة مسوقة لتسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيان أن هذا الجنس من الملائكة الذين هم أعلى طبقاتهم يضمون إلى تسبيحهم لله والإيمان به الاستغفار للذين آمنوا بالله ورسوله وصدقوا، والمراد بمن حول العرش: هم الملائكة الذين يطوفون به مهللين مكبرين، وهو في محل رفع عطفاً على الذين يحملون العرش، وهذا هو الظاهر. وقيل يجوز أن تكون في محل نصب عطفاً على العرش، والأول أولى. والمعنى: أن الملائكة الذين يحملون العرش، وكذلك الملائكة الذين هم حول العرش ينزهون الله ملتبسين بحمده على نعمه ويؤمنون بالله ويستغفرون الله لعباده المؤمنين به. ثم بين سبحانه كيفية استغفارهم للمؤمنين فقال حاكياً عنهم "ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً" وهو بتقدير القول: أي يقولون ربنا، أو قائلين: ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً انتصاب رحمة وعلماً على التمييز المحول عن الفاعل، والأصل وسعت رحمتك وعلمك كل شيء "فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك" أي أوقعوا التوبة عن الذنوب واتبعوا سبيل الله، وهو دين الإسلام "وقهم عذاب الجحيم" أي احفظهم منه.

رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ

8- "ربنا وأدخلهم جنات عدن" وأدخلهم معطوف على قوله: قهم ووسط الجملة الندائية لقصد المبالغة بالتكرير، ووصف جنات عدن بأنها "التي وعدتهم" إياها "ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم" أي وأدخل من صلح، والمراد بالصلاح ها هنا: الإيمان بالله والعمل بما شرعه الله، فمن فعل ذلك فقد صلح لدخول الجنة، ويجوز عطف ومن صلح على الضمير في وعدتهم: أي ووعدت من صلح، والأولى عطفه على الضمير الأول في وأدخلهم. قال الفراء والزجاج: نصبه من مكانين إن شئت على الضمير في أدخلهم، وإن شئت على الضمير في وعدتهم. قرأ الجمهور بفتح اللام من صلح. وقرأ ابن أبي عبلة بضمها. وقرأ الجمهور "وذرياتهم" على الجمع. وقرأ عيسى بن عمر على الإفراد "إنك أنت العزيز الحكيم" أي الغالب القاهر الكثير الباهرة.

وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ

9- "وقهم السيئات" أي العقوبات، أو جزاء السيئات على تقدير مضاف محذوف. قال قتادة: وقهم ما يسؤوهم من العذاب "ومن تق السيئات يومئذ" أي يوم القيامة "فقد رحمته" يقال وقاه يقيه وقاية: أي حفظه، ومعنى "فقد رحمته" أي رحمته من عذابك وأدخلته جنتك، والإشارة بقوله: "وذلك" إلى ما تقدم من إدخالهم الجنات، ووقايتهم السيئات وهو مبتدأ، وخبره "هو الفوز العظيم" أي الظفر الذي لا ظفر مثله، والنجاة التي لا تساويها نجاة. وأخرج ابن مردويه عن أبي أمامة قال: "حم" اسم من أسماء الله. وأخرج عبد الرزاق في المصنف وأبو عبيد وابن سعد وابن أبي شيبة وأبو داود والترمذي والحاكم وصححه وابن مردويه عن المهلب بن أبي صفرة قال: "حدثني من سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول ليلة الخندق إن أتيتم الليلة فقولوا حم لا ينصرون". وأخرج ابن أبي شيبة والنسائي والحاكم وابن مردويه عن البراء بن عازب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنكم تلقون عدوكم فليكن شعاركم حم لا ينصرون". وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله: "ذي الطول" قال: ذي السعة والغنى. وأخرج الطبراني في الأوسط وابن مردويه عن ابن عمر في قوله: "غافر الذنب" الآية قال: غافر الذنب لمن يقول لا إله إلا الله "قابل التوب" ممن يقول لا إله إلا الله "شديد العقاب" لمن لا يقول لا إله إلا الله "ذي الطول" ذي الغنى "لا إله إلا هو" كانت كفار قريش لا يوحدونه فوحد نفسه "إليه المصير" مصير من يقول لا إله إلا الله فيدخله الجنة، ومصير من لا يقول لا إله إلا الله فيدخله النار. وأخرج عبد بن حميد عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن جدالاً في القرآن كفر". وأخرج عبد بن حميد وأبو داود عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مراء في القرآن كفر".

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ

لما ذكر سبحانه حال أصحاب النار، وأنها حقت عليهم كلمة العذاب، وأنهم أصحاب النار ذكر أحوالهم بعد دخول النار فقال: 10- "إن الذين كفروا ينادون". قال الواحدي قال المفسرون: إنهم لما رأوا أعمالهم ونظروا في كتابهم وأدخلوا النار ومقتوا أنفسهم بسوء صنيعهم ناداهم حين عاينوا عذاب الله مناد "لمقت الله" إياكم في الدنيا إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون "أكبر من مقتكم أنفسكم" اليوم. قال الأخفش: هذه اللام في لمقت هي لام الابتداء أوقعت بعد ينادون، لأن معناه يقال لهم، والنداء قول. قال الكلبي: يقول كل إنسان لنفسه من أهل النار: مقتك يا نفس، فتقول الملائكة لهم وهم في النار: لمقت الله إياكم في الدنيا أشد من مقتكم أنفسكم اليوم. وقال الحسن: يعطون كتابهم، فإذا نظروا إلى سيئاتهم مقتوا أنفسهم، فينادون: لمقت الله إياكم في الدنيا "إذ تدعون إلى الإيمان" أكبر من مقتكم أنفسكم إذ عاينتم النار، والظرف في "إذ تدعون" منصوب بمقدر محذوف دل عليه المذكور: أي مقتكم وقت دعائكم، وقيل بمحذوف هو اذكروا، وقيل بالمقت المذكور والمقت أشد البغض.

قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ

ثم أخبر سبحانه عما يقولون في النار فقال: 11- "قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين" اثنتين في الموضعين نعتان لمصدر محذوف: أي أمتنا إماتتين اثنتين، وأحييتنا إحياءتين اثنتين والمراد بالإماتتين: أنهم كانوا نطفاً لا حياة لهم في أصلاب آبائهم، ثم أماتهم بعد أن صاروا أحياء في الدنيا، والمراد بالإحياءتين: أنه أحياهم الحياة الأولى في الدنيا، ثم أحياهم عند البعث، ومثل هذه الآية قوله: "وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم" وقيل معنى الآية: أنهم أميتوا في الدنيا عند انقضاء آجالهم ثم أحياهم الله في قبورهم للسؤال، ثم أميتوا ثم أحياهم الله في الآخرة ووجه هذا القول أن الموت سلب الحياة ولا حياة للنطفة. ووجه القول الأول أن الموت قد يطلق على عادم الحياة من الأصل، وقد ذهب إلى تفسير الأول جمهور السلف. وقال ابن زيد: المراد بالآية أنه خلقهم في ظهر آدم واستخرجهم وأحياهم وأخذ عليهم الميثاق ثم أماتهم ثم أحياهم في الدنيا ثم أماتهم. ثم ذكر سبحانه اعترافهم بعد أن صاروا في النار بما كذبوا به في الدنيا فقال حاكياً عنهم "فاعترفنا بذنوبنا" التي أسلفناها في الدنيا من تكذيب الرسل والإشراك بالله وترك توحيده، فاعترفوا حيث لا ينفعهم الاعتراف، وندموا حيث لا ينفعهم الندم، وقد جعلوا اعترافهم هذا مقدمة لقولهم "فهل إلى خروج من سبيل" أي هل إلى خروج لنا من النار ورجوع لنا إلى الدنيا من سبيل، ومثل هذا قولهم الذي حكاه الله عنهم " هل إلى مرد من سبيل " وقوله: "فارجعنا نعمل صالحاً" وقوله: "يا ليتنا نرد" الآية.

ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ

ثم أحاب الله سبحانه عن قولهم هذا بقوله: 12- "ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم" أي ذلك الذي أنتم فيه من العذاب بسبب أنه إذا دعي الله في الدنيا وحده دون غيره كفرتم به وتركتم توحيده "وإن يشرك به" غيره من الأصنام أو غيرها "تؤمنوا" بالإشراك به وتجيبوا الداعي إليه، فبين سبحانه لهم السبب الباعث على عدم إجابتهم إلى الخروج من النار، وهو ما كانوا فيه من ترك توحيد الله وإشراك غيره به في العبادة التي رأسها الدعاء، ومحل ذلكم العذاب الذي أنتم فيه بذلك السبب، وفي الكلام حذف، والتقدير: فأجيبوا بأن لا سبيل إلى الرد، وذلك لأنكم كنتم إذا دعي الله إلخ "فالحكم لله" وحده دون غيره، وهو الذي حكم عليكم بالخلود في النار وعدم الخروج منها و "العلي" المتعالي عن أن يكون له مماثل في ذاته ولا صفاته، و"الكبير" الذي كبر عن أن يكون له مثل أو صاحبة أو ولد أو شريك.

هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آَيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ

13- ‌"هو الذي يريكم آياته" أي دلائل توحيده وعلامات قدرته "وينزل لكم من السماء رزقاً" يعني المطر فإنه سبب الأرزاق. جمع سبحانه بين إظهار الآيات وإنزال الأرزاق، لأن بإظهار الآيات قوام الأديان، وبالأرزاق قوام الأبدان، وهذه الآيات هي التكوينية التي جعلها الله سبحانه في سمواته وأرضه وما فيهما وما بينهما. قرأ الجمهور "ينزل" بالتشديد. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالتخفيف "وما يتذكر إلا من ينيب" أي ما يتذكر ويتعظ بتلك الآيات الباهرة فيستدل بها على التوحيد وصدق الوعد والوعيد إلا من ينيب: أي يرجع إلى طاعة الله بما يستفيده من النظر في آيات الله.

فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ

ثم لما ذكر سبحانه ما نصبه من الأدلة على التوحيد أمر عباده بدعائه وإخلاص الدين له فقال: 14- " فادعوا الله مخلصين له الدين " أي إذا كان الأمر كما ذكر من ذلك فادعوا الله وحده مخلصين له العبادة التي أمركم بها "ولو كره الكافرون" ذلك، فلا تلتفتوا إلى كراهتهم، ودعوهم يموتوا بغيظهم ويهلكوا بحسرتهم.

رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ

15- "رفيع الدرجات" وارتفاع رفيع الدرجات على أنه خبر آخر على المبتدأ المتقدم: أي هو الذي يريكم آياته، وهو رفيع الدرجات، وكذلك "ذو العرش" خبر ثالث، ويجوز أن يكون رفيع الدرجات مبتدأ، وخبره ذو العرش، ويجوز أن يكونا خبرين لمبتدأ محذوف، ورفيع صفة مشبهة. والمعنى: رفيع الصفات، أو رفيع درجات ملائكته: أي معارجهم، أو رفيع درجات أنبيائه وأوليائه في الجنة. وقال الكلبي وسعيد بن جبير: رفيع السموات السبع، وعلى هذا الوجه يكون رفيع بمعنى رافع، ومعنى ذو العرش: مالكه وخالقه والمتصرف فيه، وذلك يقتضي علو شأنه وعظم سلطانه، ومن كان كذلك فهو الذي يحق له العبادة ويجب له الإخلاص، وجملة "يلقي الروح من أمره" في محل رفع على أنها خبر آخر للمبتدأ المتقدم أو للمقدر، ومعنى ذلك أنه سبحانه يلقي الوحي "على من يشاء من عباده"، وسمي الوحي روحاً، لأن الناس يحيون به من موت الكفر، كما تحيا الأبدان بالأرواح وقوله: "من أمره" متعلق بيلقي، ومن لابتداء الغاية، ويجوز أن يكون متعلقاً بمحذوف على أنه حال من الروح، ومثل هذه الآية قوله تعالى: "وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا" وقيل الروح جبريل كما في قوله: " نزل به الروح الأمين * على قلبك " وقوله: "نزله روح القدس من ربك بالحق" وقوله "على من يشاء من عباده" هم الأنبياء، ومعنى "من أمره" من قضائه "لينذر يوم التلاق" قرأ الجمهور لينذر مبنياً للفاعل ونصب اليوم، والفاعل هو الله سبحانه أو الرسول أو من يشاء، والمنذر به محذوف تقديره: لينذر العذاب يوم التلاق. وقرأ أبي وجماعة كذلك إلا أنه رفع اليوم على الفاعلية مجازاً. وقرأ ابن عباس والحسن وابن السميفع لتنذر بالفوقية على أن الفاعل ضمير المخاطب وهو الرسول، أو ضمير يرجع إلى الروح لأنه يجوز تأنيثها. وقرأ اليماني لينذر على البناء للمفعول، ورفع يوم على النيابة، ومعنى "يوم التلاق" يوم يلتقي أهل السموات والأرض في المحشر، وبه قال قتادة. وقال أبو العالية ومقاتل: يوم يلتقي العابدون والمعبودون، وقيل الظالم والمظلوم، وقيل الأولون والآخرون، وقيل جزاء الأعمال والعاملون.

يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ

وقوله: 16- ‌"يوم هم بارزون" بدل من يوم التلاق. وقال ابن عطية: هو منتصب بقوله: " لا يخفى على الله " وقيل منتصب بإضمار اذكر، والأول أولى، ومعنى بارزون: خارجون من قبورهم لا يسترهم شيء، وجملة "لا يخفى على الله منهم شيء" مستأنفة مبينة لبروزهم ويجوز أن تكون في محل نصب على الحال من ضمير بارزون، ويجوز أن تكون خبراً ثانياً للمبتدأ: أي لا يخفى عليه سبحانه شيء منهم ولا من أعمالهم التي عملوها في الدنيا، وجملة "لمن الملك اليوم" مستأنفة جواب عن سؤال مقدر كأنه قيل: فماذا يقال لبروز الخلائق في ذلك اليوم؟ فقيل: يقال لمن الملك اليوم؟ قال المفسرون: إذا هلك كل من في السموات والأرض، فيقول الرب تبارك وتعالى: "لمن الملك اليوم" يعني يوم القيامة فلا يجيبه أحد فيجيب تعالى نفسه، وقول "لله الواحد القهار" قال الحسن: هو السائل تعالى، وهو المجيب حين لا أحد يجيبه فيجيب نفسه، وقيل إنه سبحانه يأمر منادياً ينادي بذلك، فيقول أهل المحشر مؤمنهم وكافرهم "لله الواحد القهار" وقيل إنه يجيب المنادي بهذا الجواب أهل الجنة دون أهل النار، وقيل هو حكاية لما ينطق به لسان الحال في ذلك اليوم لانقطاع دعاوي المبطلين، كما في قوله تعالى: " وما أدراك ما يوم الدين * ثم ما أدراك ما يوم الدين * يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله ".

الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ

وقوله: 17- "اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب" من تمام الجواب على القول بأن المجيب هو الله سبحانه، وأما على القول بأن المجيب هم العباد كلهم أو بعضهم فهو مستأنف لبيان ما يقول الله سبحانه بعد جوابهم: أي اليوم تجزى كل نفس بما كسبت من خير وشر لا ظلم اليوم على أحد منهم بنقص من ثوابه أو بزيادة في عقابه "إن الله سريع الحساب" أي سريع حسابه لأنه سبحانه لا يحتاج إلى تفكر في ذلك كما يحتاجه غيره لإحاطة علمه بكل شيء فلا يعزب عنه مثقال ذرة.

وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآَزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ

ثم أمر الله سبحانه رسوله بإنذار عباده فقال 18- "وأنذرهم يوم الآزفة" أي يوم القيامة سميت بذلك لقربها، يقال أزف فلان: أي قرب يأزف أزفاً، ومنه النابغة: ‌أزف الترحل غير أن ركابنا لما تزل بركابنا وكأن قد ومنه قوله تعالى: "أزفت الآزفة" أي قربت الساعة، وقيل إن يوم الآزفة هو يوم حضور الموت، والأول أولى. قال الزجاج: وقيل لها آزفة لأنها قريبة وإن استبعد الناس أمرها، وما هو كائن فهو قريب "إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين" وذلك أنها تزول عن مواضعها من الخوف حتى تصير إلى الحنجرة كقوله: "وبلغت القلوب الحناجر" "كاظمين" مغمومين مكروبين ممتلئين غماً. قال الزجاج: المعنى إذ قلوب الناس لدى الحناجر في حال كظمهم. قال قتادة: وقعت قلوبهم في الحناجر من المخافة، فهي لا تخرج ولا تعود في أمكنتها. وقيل هو إخبار عن نهاية الجزع، وإنما قال كاظمين باعتبار أهل القلوب، لأن المعنى: إذ قلوب الناس لدى حناجرهم، فيكون حالاً منهم. وقيل حالاً من القلوب، وجمع الحال منها جمع العقلاء لأنه أسند إليها ما يسند إلى العقلاء، فجمعت جمعه. ثم بين سبحانه أنه لا ينفع الكافرين في ذلك اليوم أحد فقال: "ما للظالمين من حميم" أي قريب ينفعهم "ولا شفيع يطاع" في شفاعته لهم، ومحل يطاع الجر على أنه صفة لشفيع.

يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ

ثم وصف سبحانه شمول علمه لكل شيء وإن كان في غاية الخفاء فقال: 19- "يعلم خائنة الأعين" وهي مسارقة النظر إلى ما لا يحل النظر إليه، والجملة خبر آخر لقوله: "هو الذي يريكم" قال المؤرج: فيه تقديم وتأخير: أي يعلم الأعين الخائنة. وقال قتادة: خائنة الأعين: الهمز بالعين فيما لا يحب الله. وقال الضحاك: هو قول الإنسان ما رأيت وقد رأى، ورأيت وما رأى. وقال سفيان: هي النظرة بعد النظرة. والأول أولى، وبه قال مجاهد "وما تخفي الصدور" من الضمائر وتسره من معاصي الله.

وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ

20- "والله يقضي بالحق" فيجازي كل أحد بما يستحقه من خير وشر "والذين تدعون من دونه" أي تعبدونهم من دون الله "لا يقضون بشيء" لأنهم لا يعلمون شيئاً ولا يقدرون على شيء: قرأ الجمهور "يدعون" بالتحتية يعني الظالمين، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم، وقرأ نافع وشيبة وهشام بالفوقية على الخطاب لهم "إن الله هو السميع البصير" فلا يخفى عليه من المسموعات والمبصرات خافية. وقد أخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن مسعود في قوله: "أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين" قال: هي مثل التي في البقرة "كنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم" كانوا أمواتاً في صلب آبائهم ثم أخرجهم فأحياهم ثم أماتهم ثم يحييهم بعد الموت. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال: كنتم تراباً قبل أن يخلقكم، فهذه ميتة، ثم أحياكم فخلقكم فهذه حياة، ثم يميتكم فترجعون إلى القبور فهذه ميتة أخرى، ثم يبعثكم يوم القيامة فهذه حياة، فهما موتتان وحياتان كقوله: "كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم" الآية. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "يوم التلاق" قال: يوم القيامة يلتقي فيه آدم وآخر ولده. وأخرج عنه أيضاً قال: "يوم التلاق" يوم الآزفة، ونحو هذا من أسماء يوم القيامة عظمه الله وحذره عباده. وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وأبو نعيم في الحلية عنه أيضاً قال: ينادي مناد بين يدي الساعة: يا أيها الناس أتتكم الساعة، فيسمعها الأحياء والأموات، وينزل الله إلى السماء الدنيا فيقول: "لمن الملك اليوم لله الواحد القهار". وأخرج ابن أبي الدنيا في البعث والديلمي عن أبي سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله. وأخرج عبد بن حميد عن ابن مسعود قال "يجمع الله الخلق يوم القيامة بصعيد واحد بأرض بيضاء كأنها سبيكة فضة لم يعص الله فيها قط، فأول ما يتكلم أن ينادي مناد "لمن الملك اليوم لله الواحد القهار". "اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب" فأول ما يبديه من الخصومات الدماء". وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور" قال: الرجل يكون في القوم فتمر بهم المرأة فيريهم أنه يغض بصره عنها، وإذا غفلوا لحظ إليها، وإذا نظروا غض بصره عنها، وقد اطلع الله من قلبه أنه ود أن ينظر إلى عورتها. وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في الشعب عنه في الآية قال: إذا نظر إليها يريد الخيانة أم لا "وما تخفي الصدور" قال: إذا قدر عليها أيزني بها أم لا؟ ألا أخبركم بالتي تليها "والله يقضي بالحق" قادر على أن يجزي بالحسنة الحسنة وبالسيئة السيئة. وأخرج أبو داود والنسائي وابن مردويه عن سعد قال: "لما كان يوم فتح مكة أمن النبي صلى الله عليه وسلم الناس إلا أربعة نفر وامرأتين، وقال: اقتلوهم وإن وجتموهم متعلقين بأستار الكعبة، منهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح، فاختبأ عند عثمان بن عفان، فلما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة جاء به، فقال: يا رسول الله بايع عبد الله، فرفع رأسه فنظر إليه ثلاثاً كل ذلك يأبى بيعته، ثم أقبل على أصحابه فقال: أما كان فيكم رجل رشيد يقول إلى هذا حين رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله؟ فقالوا: ما يدرينا يا رسول الله ما في نفسك هلا أومأت إلينا بعينك؟ فقال: إنه لا ينبغي لنبي أن يكون له خائنة الأعين".

أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآَثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ

لما خوفهم سبحانه بأحوال الآخرة أردفه ببيان تخويفهم بأحوال الدنيا فقال: 21- " أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم " أرشدهم سبحانه إلى الاعتبار بغيرهم، فإن الذين كفروا مضوا من الكفار "كانوا هم أشد منهم قوة" من هؤلاء الحاضرين من الكفار وأقوى "وآثاراً في الأرض" بما عمروا فيها من الحصون والقصور وبما لهم من العدد والعدة، فلما كذبوا رسلهم أهلكهم الله، وقوله: "فينظروا" إما مجزوم بالعطف على يسيروا، أو منصوب بجواب الاستفهام، وقوله: "كانوا أشد منهم قوة" بيان للتفاوت بين حال هؤلاء وأولئك، وقوله: "وآثاراً" عطف على قوة. قرأ الجمهور "أشد منهم" وقرأ ابن عامر "أشد منكم" على الالتفات "فأخذهم الله بذنوبهم" أي بسبب ذنوبهم "وما كان لهم من الله من واق" أي من دافع يدفع عنهم العذاب، وقد مر تفسير هذه الآية في مواضع.

ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ

والإشارة بقوله: 22- "ذلك" إلى ما تقدم من الأخذ "بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات" أي بالحجج الواضحة "فكفروا" بما جاءوهم به "فأخذهم الله إنه قوي" يفعل كل ما يريده لا يعجزه شيء "شديد العقاب" لمن عصاه ولم يرجع إليه.

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ

ثم ذكر سبحانه قصة موسى وفرعون ليعتبروا فقال: 23- "ولقد أرسلنا موسى بآياتنا" هي التسع الآيات التي قد تقدم ذكرها في غير موضع "وسلطان مبين" أي حجة بينة واضحة، وهي التوراة.

إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ

24- "إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا" إنه "ساحر كذاب" أي فيما جاء به، وخصهم بالذكر لأنهم رؤساء المكذبين بموسى، ففرعون الملك، وهامان الوزير، وقارون صاحب الأموال والكنوز.

فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ

25- "فلما جاءهم بالحق من عندنا" وهي معجزاته الظاهرة الواضحة "قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم" قال قتادة: هذا قتل غير القتل الأول، لأن فرعون قد كان أمسك عن قتل الولدان وقت ولادة موسى، فلما بعث الله موسى أعاد القتل على بني إسرائيل، فكان يأمر بقتل الذكور وترك النساء، ومثل هذا قول فرعون "سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم" "وما كيد الكافرين إلا في ضلال" أي في خسران ووبال، لأنه يذهب باطلاً ويحيق بهم ما يريده الله عز وجل.

وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ

26- "وقال فرعون ذروني أقتل موسى" إنما قال هذا لأنه كان في خاصة قومه من يمنعه من قتل موسى مخافة أن ينزل بهم العذاب، والمعنى: اتركوني أقتله "وليدع ربه" الذي يزعم أنه أرسله إلينا فليمنعه من القتل إن قدر على ذلك: أي لا يهولنكم ذلك فإنه لا رب له حقيقة، بل أنا ربكم الأعلى، ثم ذكر العلة التي لأجلها أراد أن يقتله فقال: "إني أخاف أن يبدل دينكم" الذي أنتم عليه من عبادة غير الله ويدخلهم في دينه الذي هو عبادة الله وحده "أو أن يظهر في الأرض الفساد" أي يوقع بين الناس الخلاف والفتنة، جعل اللعين ظهور ما دعا إليه موسى وانتشاره في الأرض واهتداء الناس به فساداً، وليس الفساد إلا ما هو عليه هو من تابعه. قرأ الكوفيون ويعقوب "أو أن يظهر" بأو التي للإبهام، والمعنى: أنه لا بد من وقوع أحد الأمرين. وقرأ الباقون " وإن يظهر " بدون ألف على معنى وقوع الأمرين جميعاً، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء من "إني أخاف" وقرأ نافع وأبو عمرو وحفص يظهر بضم الياء وكسر الهاء من أظهر، وفاعله ضمير موسى، والفساد نصباً على أنه مفعول به، وقرأ الباقون بفتح الياء والهاء، ورفع الفساد على الفاعلية.

وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ

27- "وقال موسى إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب" قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي "عذت" بإدغام الذال، وقرأ الباقون بالإظهار، لما هدده فرعون بالقتل استعاذ بالله عز وجل من كل متعظم عن الإيمان بالله غير مؤمن بالبعث والنشور، ويدخل فرعون في هذا العموم دخولاً أولياً.

وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَع

28- "وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه" قال الحسن ومقاتل والسدي: كان قبطياً وهو ابن عم فرعون، وهو الذي نجا مع موسى، وهو المراد بقوله: "وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى" الآية، وقيل كان من بني إسرائيل ولم يكن من آل فرعون وهو خلاف ما في الآية، وقد تمحل لذلك بأن في الآية تقديماً وتأخيراً، والتقدير: وقال رجل مؤمن من بني إسرائيل يكتم إيمانه من آل فرعون. قال القشيري: ومن جعله إسرائيلياً ففيه بعد، لأنه يقال كتمه أمر كذا ولا يقال كتم منه كما قال سبحانه: "ولا يكتمون الله حديثاً" وأيضاً ما كان فرعون يحتمل من بني إسرائيل مثل هذا القول. وقد اختلف في اسم هذا الرجل، فقيل حبيب، وقيل حزقيل، وقيل غير ذلك، وقرأ الجمهور " رجل " بضم الجيم، وقرأ الأعمش وعبد الوارث بسكونها، وهي لغة تميم ونجد، والأولى هي الفصيحة، وقرئ بكسر الجيم ومؤمن صفة لرجل، ومن آل فرعون صفة أخرى، ويكتم إيمانه صفة ثالثة، والاتفهام في "أتقتلون رجلاً" للإنكار، و"أن يقول ربي الله" في موضع نصب بنزع الخافض: أي لأن يقول أو كراهة أن يقول، وجملة "وقد جاءكم بالبينات من ربكم" في محل نصب على الحال: أي والحال أنه قد جاءكم بالمعجزات الواضحات والدلالات الظاهرات على نبوته وصحة رسالته، ثم تلطف لهم في الدفع عنه فقال: "وإن يك كاذباً فعليه كذبه وإن يك صادقاً يصبكم بعض الذي يعدكم" ولم يكن قوله هذا لشك منه، فإنه كان مؤمناً كما وصفه الله، ولا يشك المؤمن، ومعنى "يصبكم بعض الذي يعدكم" أنه إذا لم يصبكم كله فلا أقل من أن يصيبكم بعضه، وحذفت النون من يكن في الموضعين تخفيفاً لكثرة الاستعمال: كما قال سيبويه، وقال أبو عبيدة وأبو الهيثم: بعض هنا بمعنى كل: أي يصبكم كل الذي يعدكم، وأنشد أبو عبيدة على هذا قول لبيد: ‌‌تراك أمكنة إذا لم أرضها أو يرتبط بعض النفوس حمامها أي كل النفوس، وقد اعترض عليه، وأجيب بأن البعض قد يستعمل في لغة العرب بمعنى الكل كما في قول الشاعر: قد يدرك المتأني بعض حاجته وقد يكون مع المستعجل الزلل وقول الآخر: إن الأمور إذا الأحداث دبرها دون الشيوخ ترى في بعضها خللا وليس في البيتين ما يدل على ما زعموه، وأما بيت لبيد فقيل إنه أراد ببعض النفوس نفسه، ولا ضرورة تلجئ إلى حمل ما في الآية على ذلك، لأنه أراد التنزل معهم وإيهامهم أنه لا يعتقد صحة نبوته كما يفيده قوله: "يكتم إيمانه" قال أهل المعاني: وهذا على المظاهرة في الحجاج، كأنه قال لهم: أقل ما يكون في صدقه أن يصيبكم بعض الذي يعدكم، وفي بعض ذلك هلاككم، فكأن الحاصل بالبعض هو الحاصل بالكل: وقال الليث: بعض ها هنا صلة، يريد: يصبكم الذي يعدكم، وقيل يصبكم هذا العذاب الذي يقوله في الدنيا وهو بعض ما يتوعدكم به من العذاب، وقيل إنه وعدهم بالثواب والعقاب، فإذا كفروا أصابهم العقاب، وهو بعض ما وعدهم به "إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب" هذا من تمام كلام الرجل المؤمن وهو احتجاج آخر ذو وجهين: أحدهما أنه لو كان مسرفاً كذاباً لما هداه الله إلى البينات ولا أيده بالمعجزات، وثانيهما أنه إذا كان كذلك خذله الله وأهلكه، فلا حاجة لكم إلى قتله، والمسرف المقيم على المعاصي المستكثر منها، والكذاب المفتري.

يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ

29- "يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض" ذكرهم ذلك الرجل المؤمن ما هم فيه من الملك ليشكروا الله ولا يتمادوا في كفرهم، ومعنى ظاهرين: الظهور على الناس والغلبة لهم والاستعلاء عليهم، والأرض أرض مصر، وانتصاب ظاهرين على الحال "فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا" أي من يمنعنا من عذابه ويحول بيننا وبينه عند مجيئه، وفي هذا تحذير منه لهم من نقمة الله بهم وإنزال عذابه عليهم، فلما سمع فرعون ما قاله هذا الرجل من النصح الصحيح جاء بمراوغة يوهم بها قومه أنه لهم من النصيحة والرعاية بمكان مكين، وأنه لا يسلك بهم إلا مسلكاً يكون فيه جلب النفع لهم ودفع الضر عنهم، ولهذا قال: " ما أريكم إلا ما أرى " قال ابن زيد: أي ما أشير عليكم إلا بما أرى لنفسي. وقال الضحاك ما أعلمكم إلا ما أعلم، والرؤية هنا هي القلبية لا البصرية، والمفعول الثاني هو إلا ما أرى "وما أهديكم إلا سبيل الرشاد" أي ما أهديكم بهذا الرأي إلا طريق الحق. قرأ الجمهور الرشاد بتخفيف الشين، وقرأ معاذ بن جبل بتشديدها على أنها صيغة مبالغة كضراب. وقال النحاس: هي لحن، ولا وجه لذلك. وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وقال رجل مؤمن من آل فرعون" قال: لم يكون في آل فرعون مؤمن غيره وغير امرأة فرعون وغير المؤمن الذي أنذر موسى الذي قال: "إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك" قال ابن المنذر: أخبرت أن اسمه حزقيل. وأخرج عبد بن حميد عن أبي إسحاق قال: اسمه حبيب. وأخرج البخاري وغيره من طريق عروة قال: قيل لعبد الله بن عمرو بن العاص أخبرنا بأشد شيء صنعه المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي يفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولوى ثوبه في عنقه فخنقه خنقاً شديداً، فأقبل أبو بكر فأخذ بمنكبيه ودفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال "أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم". وأخرج أبو نعيم في فضائل الصحابة والبزار عن علي بن أبي طالب أنه قال: أيها الناس أخبروني من أشجع الناس؟ قالوا أنت. قال: أما أني ما بارزت أحداً إلا انتصفت منه ولكن أخبروني بأشجع الناس؟ قالوا لا نعلم فمن؟ قال أبو بكر، رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذته قريش، فهذا يجنبه وهذا يتلتله، وهم يقولون أنت الذي جعلت الآلهة إلهاً واحداً، قال: فوالله ما دنا منا أحد إلا أبو بكر يضرب هذا ويجيء هذا ويتلتل هذا، وهو يقول: ويلكم أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله، ثم رفع بردة كانت عليه، فبكى حتى اخضلت لحيته، ثم قال: أشدكم أمؤمن آل فرعون خير أم أبو بكر؟ فسكت القوم، فقال: ألا تجيبون؟ فوالله لساعة من أبي بكر خير من مثل مؤمن من آل فرعون، وذاك رجل يكتم إيمانه وهذا رجل أعلن إيمانه.

وَقَالَ الَّذِي آَمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ

ثم كرر ذلك الرجل المؤمن تذكيرهم، وحذرهم أن ينزل بهم ما نزل بمن قبلهم، فقال الله حاكياً عنه 30- "وقال الذي آمن يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب" أي مثل يوم عذاب الأمم الماضية الذين تحزبوا على أنبيائهم وأفرد اليوم لأن جمع الأحزاب قد أغنى عن جمعه.

مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ

ثم فسر الأحزاب فقال: 31- " مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم " أي مثل حالهم في العذاب، أو مثل عادتهم في الإقامة على التكذيب، أو مثل جزاء ما كانوا عليه من الكفر والتكذيب "وما الله يريد ظلماً للعباد" أي لا يعذبهم بغير ذنب، ونفي الإرادة للظلم يستلزم نفي الظلم بفحوى الخطاب.

وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ

ثم زاد في الوعظ والتذكير فقال: 32- "ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد" قرا الجمهور التناد بتخفيف الدال وحذف الياء، والأصل التنادي، وهو التفاعل من النداء، يقال تنادى القوم: أي نادى بعضهم بعضاً، وقرأ الحسن وابن السميفع ويعقوب وابن كثير ومجاهد بإثبات الياء على الأصل، وقرأ ابن عباس والضحاك وعكرمة بتشديد الدال. قال بعض أهل اللغة هو لحن، لأنه من ند يند: إذا مر على وجهه هارباً. قال النحاس: وهذا غلط، والقراءة حسنة على معنى التنافي. قال الضحاك: في معناه أنهم إذا سمعوا بزفير جهنم ندوا هرباً، فلا يأتون قطراً من أقطار الأرض إلا وجدوا صفوفاً من الملائكة فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه، فذلك قوله: "يوم التناد" وعلى قراءة الجمهور المعنى: يوم ينادي بعضهم بعضاً، أو ينادي أهل النار أهل الجنة وأهل الجنة أهل النار، أو ينادي فيه بسعادة السعداء وشقاوة الأشقياء، أو يوم ينادي فيه كل أناس بإمامهم، ولا مانع من الحمل على جميع هذه المعاني.

يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ

وقوله: 33- "يوم تولون مدبرين" بدل من يوم التناد: أي منصرفين عن الموقف إلى النار، أو فارين منها. قال قتادة ومقاتل: المعنى إلى النار بعد الحساب، وجملة "ما لكم من الله من عاصم" في محل نصب على الحال: أي ما لكم من يعصمكم من عذاب الله ويمنعكم منه "ومن يضلل الله فما له من هاد" يهديه إلى طريق الرشاد.

وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ

ثم زاد في وعظهم وتذكيرهم فقال: 34- "ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات" أي يوسف بن يعقوب، والمعنى: أن يوسف بن يعقوب جاءهم بالمعجزات والآيات الواضحات من قبل مجيء موسى إليهم: أي جاء إلى آبائكم، فجعل المجيء إلى الآباء مجيئاً إلى الأبناء. وقيل المراد بيوسف هنا يوسف بن إفرائيم بن يوسف ين يعقوب، وكان أقام فيهم نبياً عشرين سنة. وحكى النقاش عن الضحاك أن الله بعث إليهم رسولاً من الجن يقال له يوسف، والأول أولى. وقد قيل إن فرعون موسى أدرك أيام يوسف بن يعقوب لطول عمره "فما زلتم في شك مما جاءكم به" من البينات ولم تؤمنوا به "حتى إذا هلك" يوسف "قلتم لن يبعث الله من بعده رسولاً" فكفروا به في حياته وكفروا بمن بعده من الرسل بعد موته "كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب" أي مثل ذلك الضلال الواضح يضل الله من هو مسرف في معاصي الله مستكثر منها مرتاب في دين الله شاك في وحدانيته ووعده ووعيده.

الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آَمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ

والموصول في قوله: 35- "الذين يجادلون في آيات الله" بدل من من، والجمع باعتبار معناها، أو بيان لها، أو صفة، أو في محل نصب بإضمار أعني، أو خبر مبتدأ محذوف: أي هم الذين، أو مبتدأ وخبره يطبع "بغير سلطان" متعلقق بيجادلون: أي يجادلون في آيات الله بغير حجة واضحة، و"أتاهم" صفة لسلطان "كبر مقتاً عند الله وعند الذين آمنوا" يحتمل أن يراد به التعجب، وأن يراد به الذم كبئس، وفاعل كبر ضمير يعود إلى الجدال المفهوم من يجادلون، وقيل فاعله ضمير يعود إلى من في من هو مسرف والأول أولى. وقوله: "عند الله" متعلق بكبر، وكذلك "عند الذين آمنوا" قيل هذا من كلام الرجل المؤمن، وقيل ابتداء كلام من الله سبحانه "كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار" أي كما طبع على قلوب هؤلاء المجادلين فكذلك يطبع: أي يختم على كل قلب متكبر جبار. قرأ الجمهور بإضافة قلب إلى متكبر، فحذف كل الثانية لدلالة الأولى عليها، والمعنى: أنه سبحانه يطبع على قلوب جميع المتكبرين الجبارين، وقرأ أبو عمرو وابن محيصن وابن ذكوان عن أهل الشام بتنوين قلب على أن متكبر صفة له، فيكون القلب مراداً به الجملة، لأن القلب هو محل التكبر وسائر الأعضاء تبع له في ذلك، وقرأ ابن مسعود على قلب كل متكبر.

وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ

ثم لما سمع فرعون هذا رجع إلى تكبره وتجبره معرضاً عن الموعظة نافراً من قبولها وقال "يا هامان ابن لي صرحاً" أي قصراً مشيداً كما تقدم بيان تفسيره "لعلي أبلغ الأسباب" أي الطرق. قال قتادة والزهري والسدي والأخفش: هي الأبواب.

أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ

وقوله: 37- "أسباب السموات" بيان للأسباب، لأن الشيء إذا أبهم ثم فسر كان أوقع في النفوس، وأنشد الأخفش عند تفسيره للآية بيت زهير: ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ولو رام أسباب السماء بسلم وقيل أسباب السموات الأمور التي يستمسك بها "فأطلع إلى إله موسى" قرأ الجمهور بالرفع عطفاً على أبلغ، فهو على هذا داخل في حيز الترجي. وقرأ الأعرج والسملي وعيسى بن عمر وحفص بالنصب على جواب الأمر في قوله: "ابن لي" أو على جواب الترجي كما قال أبو عبيدة وغيره. قال النحاس: ومعنى النصب خلاف معنى الرفع، لأن معنى النصب: متى بلغت الأسباب اطلعت، ومعنى الرفع: لعلي أبلغ الأسباب ولعلي أطلع بعد ذلك، وفي هذا دليل على أن فرعون كان بمكان من الجهل عظيم، وبمنزلة من فهم حقائق الأشياء سافلة جداً "وإني لأظنه كاذباً" أي وإني لأظن موسى كاذباً في ادعائه بأن له إلهاً، أو فيما يدعيه من الرسالة "وكذلك زين لفرعون سوء عمله" أي ومثل ذلك التزيين زين الشيطان لفرعون سوء عمله من الشرك والتكذيب، فتمادى في الغي واستمر على الطغيان "وصد عن السبيل" أي سبيل الرشاد. قرأ الجمهور "وصد" بفتح الصاد والدال: أي صد فرعون الناس عن السبيل، وقرأ الكوفيون "وصد" بضم الصاد مبنياً للمفعول، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم، ولعل وجه الاختيار لها منهما كونها مطابقة لما أجمعوا عليه في "زين" من البناء للمفعول، وقرأ يحيى بن وثاب وعلقمة صد بكسر الصاد، وقرأ ابن أبي إسحاق وعبد الرحمن بن أبي بكرة بفتح الصاد وضم الدال منوناً على أنه مصدر معطوف على سوء عمله: أي زين له الشيطان سوء العمل والصد "وما كيد فرعون إلا في تباب" التباب: الخسار والهلاك ومنه "تبت يدا أبي لهب".

وَقَالَ الَّذِي آَمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ

ثم إن ذلك الرجل المؤمن أعاد التذكير والتحذير كما حكى الله عنه بقوله: 38- "وقال الذي آمن يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد" أي اقتدوا بي في الدين أهدكم طريق الرشاد، وهو الجنة، وقيل هذا من قول موسى، والأول أولى. وقرأ معاذ بن جبل الرشاد بتشديد بتشديد الشين كما تقدم قريباً في قول فرعون ووقع في المصحف اتبعون بدون ياء، وكذلك قرأ أبو عمرو ونافع بحذفها في الوقف وإثباتها في الأصل، وقرأ يعقوب وابن كثير بإثباتها وصلاً ووقفاً وقرأ الباقون بحذفها وصلاً ووقفاً فمن أثبتها فعلى ما هو الأصل، ومن حذفها فلكونها حذفت في المصحف.

يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآَخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ

39- "يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع" يتمتع بها أياماً ثم تنقطع وتزول "وإن الآخرة هي دار القرار" أي الاستقرار لكونها دائمة لا تنقطع ومستمرة لا تزول.

مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ

40- "من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها" أي من عمل في دار الدنيا معصية من المعاصي كائنة ما كانت فلا يجزى إلا مثلها ولا يعذب إلا بقدرها، والظاهر شمول الآية لكل ما يطلق عليه اسم السيئة، وقيل هي خاصة بالشرك، ولا وجه لذلك "ومن عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن" أي من عمل عملاً صالحاً مع كونه مؤمناً بالله وبما جاءت به رسله "فأولئك" الذين جمعوا بين العمل الصالح والإيمان "يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب" أي بغير تقدير ومحاسبة. قال مقاتل: يقول لا تبعة عليهم فيما يعطون في الجنة من الخير، وقيل العمل الصالح، هو لا إله إلا الله. قرأ الجمهور "يدخلون" بفتح التحتية مبنياً للفاعل. وقرأ ابن كثير وابن محيصن وأبو عمرو ويعقوب وأبو بكر عن عاصم بضمها مبنياً للمفعول. وقد أخرج ابن المنذر عن ابن عباس "مثل دأب" قال: مثل حال. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة "مثل دأب قوم نوح" قال: هم الأحزاب: قوم نوح وعاد وثمود. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله: "ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات" قال: رؤيا يوسف، وفي قوله: "الذين يجادلون في آيات الله" قال يهود. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "إلا في تباب" قال: خسران. وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "إنما هذه الحياة الدنيا متاع" قال: الدنيا جمعة من جمع الآخرة سبعة آلاف سنة. وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الحياة الدنيا متاع وليس من متاعها شيء أفضل من المرأة الصالحة، التي نظرت إليها سرتك، وإذا غبت عنها حفظتك في نفسها ومالها".

وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ

كرر ذلك الرجل المؤمن دعاءهم إلى الله وصرح بإيمانه، ولم يسلك المسالك المتقدمة من إيهامه لهم أنه منهم، وأنه إنما يتصدى التذكير كراهة أن يصيبهم بعض ما توعدهم به موسى كما يقوله الرجل المحب لقومه من التحذير عن الوقوع فيما يخاف عليهم الوقوع فيه فقال: 41- " ويا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار " أي أخبروني عنكم كيف هذه الحال: أدعوكم إلى النجاة من النار ودخول الجنة بالإيمان بالله وإجابة رسله، وتدعونني إلى النار بما تريدونه مني من الشرك. قيل معنى " ما لي أدعوكم " ما لكم أدعوكم كما تقول: مالي أراك حزيناً أي مالك.

تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ

ثم فسر الدعوتين فقال: 42- "تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم"، فقوله تدعونني بدل من تدعونني الأولى أو بيان لهم "ما ليس لي به علم" أي ما لا علم لي بكونه شريكاً لله "وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار" أي إلى العزيز في انتقامه بمن كفر الغفار لذنب من آمن به.

لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآَخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ

43- "لا جرم" قد تقدم تفسير هذا في سورة هود، وجرم فعل ماض بمعنى حق، ولا الداخلة عليه لنفي ما ادعوه ورد ما زعموه، وفاعل هذا الفعل هو قوله: "أنما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة" أي حق ووجب بطلان دعوته. قال الزجاج: معناه ليس له استجابة دعوة تنفع، وقيل ليس له دعوة توجب له الألوهية في الدنيا ولا في الآخرة. وقال الكلبي: ليس له شفاعة "وأن مردنا إلى الله" أي مرجعنا ومصيرنا إليه بالموت أولاً، وبالبعث آخراً فيجازى كل أحد بما يستحقه من خير وشر "وأن المسرفين هم أصحاب النار" أي المستكثرين من معاصي الله. قال قتادة وابن سيرين: يعني المشركين. وقال مجاهد والشعبي: هم السفهاء السفاكون للدماء بغير حقها. وقال عكرمة: الجبارون والمتكبرون. وقيل هم الذين تعدوا حدود الله، وأن في الموضعين عطف على أن في قوله: "أنما تدعونني إليه" والمعنى: وحق أن مردنا إلى الله، وحق أن المسرفين إلخ.

فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ

44- "فستذكرون ما أقول لكم" إذا نزل لكم العذاب وتعلمون أني قد بالغت في نصحكم وتذكيركم، وفي هذا الإبهام من التخويف والتهديد ما لا يخفى "وأفوض أمري إلى الله" أي أتوكل عليه وأسلم أمري إليه. قيل إنه قال هذا لما أرادوا الإيقاع به. قال مقاتل: هرب هذا المؤمن إلى الجبل فلم يقدروا عليه. وقيل القائل هو موسى، والأول أولى.

فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآَلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ

45- "فوقاه الله سيئات ما مكروا" أي وقاه الله ما أرادوا به من المكر السيء، وما أرادوا به من الشر. قال قتادة: نجاه الله مع بني إسرائيل "وحاق بآل فرعون سوء العذاب" أي أحاط بهم ونزل عليهم سوء العذاب. قال الكسائي: يقال حاق يحيق حيقاً وحيوقاً: إذا نزل ولزم. قال الكلبي: غرفوا في البحر ودلوا النار، والمراد بآل فرعون: فرعون وقومه، وترك التصريح به للاستغناء بذكرهم عن ذكره لكونه أولى بذلك منهم، أو المراد بآل فرعون فرعون نفسه. والأول أولى لأنهم قد عذبوا في الدنيا جميعاً بالغرق، وسيعذبون في الآخرة بالنار.

النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ

ثم بين سبحانه ما أجمله من سوء العذاب، فقال: 46- "النار يعرضون عليها غدواً وعشياً" فارتفاع النار على أنها بدل من سوء العذاب، وقيل على أنها خبر مبتدأ محذوف، أو مبتدأ وخبره يعرضون، والأول أولى ورجحه الزجاج وعلى الوجهين الأخيرين تكون الجملة مستأنفة جواب سؤال مقدر. وقرئ بالنصب على تقدير فعل يفسره يعرضون من حيث المعنى: أي يصلون النار يعرضون عليها، أو على الاختصاص، وأجاز الفراء الخفض على البدل من العذاب. وذهب الجمهور أن هذا العرض هو في البرزخ، وقيل هو في الآخرة. قال الفراء: ويكون في الآية تقديم وتأخير: أي أدخلوا آل فرعون أشد العذاب النار يعرضون عليها غدواً وعشياً، ولا ملجئ إلى هذا التكلف فإن قوله: "ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب" يدل دلالة واضحة على أن ذلك العرض هو في البرزخ، وقوله: "أدخلوا" هو بتقدير القول: أي يقال للملائكة أدخلوا آل فرعون، و"أشد العذاب" هو عذاب النار. قرأ حمزة والكسائي ونافع وحفص "أدخلوا" بفتح الهمزة وكسر الخاء، وهو على تقدير القول كما ذكر. وقرأ الباقون "ادخلوا" بهمزة وصل من يدخل أمراً لآل فرعون بالدخول بتقدير حرف النداء: أي ادخلوا يا آل فرعون أشد العذاب.

وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ

47- "وإذ يتحاجون في النار" الظرف منصوب بإصمار اذكر. والمعنى: اذكر لقومك وقت تخاصمهم في النار ثم بين سبحانه هذا التخاصم فقال: "فيقول الضعفاء للذين استكبروا" عن الانقياد للأنبياء والاتباع لهم، وهم رؤساء الكفر "إنا كنا لكم تبعاً" جمع لتابع، كخدم وخادم، أو مصدر واقع موقع اسم الفاعل: أي تابعين أو على حذف مضاف: أي ذوي تبع. قال البصريون: التبع يكون واحداً ويكون جمعاً. وقال الكوفيون هو جمع لا واحد له "فهل أنتم مغنون عنا نصيباً من النار" أي هل تدفعون عنا نصيباً منها أو تحملونه معنا، وانتصاب نصيباً بفعل مقدر يدل عليه مغنون: أي هل تدفعون عنا نصيباً أو تمنعون على تضمينه معنى حاملين: أي هل أنتم حاملون معنا نصيباً، أو على المصدرية.

قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ

48- "قال الذين استكبروا إنا كل فيها" هذه الجملة مستأنفة جواب سؤال مقدر والمعنى: إنا نحن وأنتم جميعاً في جهنم، فكيف نغني عنكم. قرأ الجمهور "كل" بالرفع على الابتداء، وخبره فيها والجملة خبر إن، قاله الأخفش. وقرأ ابن السميفع وعيسى بن عمر كلا بالنصب. قال الكسائي والفراء على التأكيد لاسم إن بمعنى كلنا، وتنوينه عوض عن المضاف إليه، وقيل على الحال ورجحه ابن مالك "إن الله قد حكم بين العباد" أي قضى بينهم بأن فريقاً في الجنة وفريقاً في السعير.

وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ

49- "وقال الذين في النار" من الأمم الكافرة، مستكبرهم وضعيفهم "لخزنة جهنم" جمع خازن، وهو القوام بتعذيب أهل النار "ادعوا ربكم يخفف عنا يوماً من العذاب" يوماً ظرف ليخفف، ومفعول يخفف محذوف: أي يخفف عنا شيئاً من العذاب مقدار يوم أو في يوم.

قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ

وجملة 50- " قالوا أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات " مستأنفة جواب سؤال مقدر، والاستفهام للتوبيخ والتقريع "قالوا بلى" أي أتونا بها فكذبناهم ولم نؤمن بهم ولا بما جاءوا به من الحجج الواضحة، فلما اعترفوا "قالوا" أي قال لهم الملائكة الذين هم خزنة جهنم "فادعوا" أي إذا كان الأمر كذلك فادعوا أنتم، فإنا لا ندعو لمن كفر بالله وكذب رسله بعد مجيئهم بالحجج الواضحة. ثم أخبروهم بأن دعاءهم لا يفيد شيئاً فقالوا: "وما دعاء الكافرين إلا في ضلال" أي في ضياع وبطلان وخسار وتبار.

إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ

وجملة 51- "إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا" مستأنفة من جهته سبحانه: أي نجعلهم الغالبين لأعدائهم القاهرين لهم، والموصول في محل نصب عطفاً على رسلنا: أي لننصر رسلنا، وننصر الذين آمنوا معهم "في الحياة الدنيا" بما عودهم الله من الانتقام منهم بالقتل والسلب والأسر والقهر "ويوم يقوم الأشهاد" وهو يوم القيامة. قال زيد بن أسلم: الأشهاد هم الملائكة والنبيون. وقال مجاهد والسدي: الأشهاد الملائكة تشهد للأنبياء بالإبلاغ، وعلى الأمم بالتكذيب. قال الزجاج. الأشهاد جمع شاهد مثل صاحب وأصحاب. قال النحاس: ليس باب فاعل أن يجمع على أفعال ولا يقاس عليه، ولكن ما جاء منه مسموعاً أدي على ما يسمع، فهو على هذا جمع شهيد، مثل شريف وأشراف، ومعنى نصرهم يوم يقوم الأشهاد أن الله يجازيهم بأعمالهم فيدخلهم الجنة ويكرمهم بكراماته ويجازي الكفار بأعمالهم فيلعنهم ويدخلهم النار.

يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ

وهو معنى قوله: 52- "يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة" أي البعد عن الرحمة "ولهم سوء الدار" أي النار ويوم بدل من يوم يقوم الأشهاد، وإنما لم تنفعهم المعذرة لأنها معذرة باطلة وتعلة داحضة وشبهة زائغة. قرأ الجمهور "تنفع" بالفوقية. وقرأ نافع والكوفيون بالتحتية، والكل جائز في اللغة. وقد أخرج البخاري في تاريخه وابن المنذر عن ابن مسعود في قوله: "وأن المسرفين هم أصحاب النار" قال: السفاكين للدماء بغير حقها. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، يقال له هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة" زاد ابن مردويه. ثم قرأ "النار يعرضون عليها غدواً وعشياً". وأخرج البزار وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما أحسن محسن مسلم أو كافر إلا أثابه الله، قلنا يا رسول الله ما إثابة الكافر؟ قال: المال والولد والصحة وأشباه ذلك، قلنا: وما إثابته في الآخرة؟ قال: عذاباً دون العذاب. وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم "أدخلوا آل فرعون أشد العذاب"". وأخرج أحمد والترمذي وحسنه وابن أبي الدنيا والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه نار جهنم يوم القيامة، ثم تلا "إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا"". وأخرج ابن مردويه من حديث أبي هريرة مثله.

وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ

قوله: 53- "ولقد آتينا موسى الهدى" هذا من جملة ما قصه الله سبحانه قريباً من نصره لرسله: أي آتيناه التوراة والنبوة، كما قي قوله سبحانه: "إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور" قال مقاتل: الهدى من الضلالة: يعني التوراة.

هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ

54- " وأورثنا بني إسرائيل الكتاب * هدى وذكرى لأولي الألباب " المراد بالكتاب التوراة، ومعنى أورثنا أن الله سبحانه لما أنزل التوراة على موسى بقيت بعده فيهم وتوارثوها خلفاً عن سلف. وقيل المراد بالكتاب سائر الكتب المنزلة على أنبياء بني إسرائيل بعد موت موسى وهدىً وذكرى في محل نصب على أنهما مفعول لأجله: أي لأجل الهدى والذكر، أو على أنهما مصدران في موضع الحال أي هادياً ومذكراً، والمراد بأولي الألباب أهل العقول السليمة.

فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ

ثم أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالصبر على الأذى فقال: 55- "فاصبر إن وعد الله حق" أي اصبر على أذى المشركين كما صبر من قبلك من الرسل إن وعد الله الذي وعد به رسله حق لا خلف فيه ولا شك في وقوعه كما في قوله: "إنا لننصر رسلنا" وقوله: " ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين * إنهم لهم المنصورون * وإن جندنا لهم الغالبون " قال الكلبي: نسخ هذا بآية السيف. ثم أمره سبحانه بالاستغفار لذنبه فقال: "واستغفر لذنبك" قيل المراد ذنب أمتك فهو على حذف مضاف، وقيل المراد الصغائر عند من يجوزها على الأنبياء، وقيل هو مجرد تعبد له صلى الله عليه وسلم بالاستغفار لزيادة الثواب، وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر "وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار" أي دم على تنزيه الله ملتبساً بحمده، وقيل المراد صل في الوقتين صلاة العصر وصلاة الفجر. قاله الحسن وقتادة، وقيل هما صلاتان ركعتان غدوة وركعتان عشية، وذلك قبل أن تفرض الصلوات الخمس.

إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ

56- "إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم" أي بغير حجة ظاهرة واضحة جاءتهم من جهة الله سبحانه "إن في صدورهم إلا كبر" أي ما في قلوبهم إلا تكبراً عن الحق يحملهم على تكذيبك، وجملة "ما هم ببالغيه" صفة لكبر قال الزجاج: المعنى ما في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغي إرادتهم فيه، فجعله على حذف المضاف. وقال غيره: ما هم ببالغي الكبر. وقال ابن قتيبة: المعنى إن في صدورهم إلا كبر: أي تكبر على محمد صلى الله عليه وسلم وطمع أن يغلبوه وما هم ببالغي ذلك، وقيل المراد بالكبر الأمر الكبير: أي يطلبون النبوة، أو يطلبون أمراً كبيراً يصلون به إليك من القتل ونحوه ولا يبلغون ذلك. وقال مجاهد: معناه في صدورهم عظمة ما هم ببالغيها. والمراد بهذه الآية المشركون، وقيل اليهود كما سيأتي بيانه آخر البحث إن شاء الله. ثم أمره الله سبحانه بأن يستعيذ بالله من شرورهم فقال: "فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير" أي فالتجئ إليه من شرهم وكيدهم وبغيهم عليك إنه السميع لأقوالهم البصير بأفعالهم لا تخفى عليه من ذلك خافية.

لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ

ثم بين سبحانه عظيم قدرته فقال: "لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس" أي أعظم في النفوس وأجل في الصدور، لعظم أجرامهما واستقرارهما من غير عمد، وجريان الأفلاك بالكواكب من غير سبب، فكيف ينكرون البعث وإحياء ما هو دونهما من كل وجه كما في قوله: " أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم " قال أبو العالية: المعنى خلق السموات والأرض أعظم من خلق الدجال حين عظمته اليهود. وقال يحيى بن سلام: هو احتجاج على منكري البعث: أي هما أكبر من إعادة خلق الناس "ولكن أكثر الناس لا يعلمون" بعظيم قدرة الله وأنه لا يعجزه شيء.

وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ

ثم لما ذكر سبحانه الجدال بالباطل ذكر مثالاً للباطل والحق وأنهما لا يستويان فقال: "وما يستوي الأعمى والبصير" أي الذي يجادل بالباطل، والذي يجادل بالحق " والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء " أي ولا يستوي المحسن بالإيمان والعمل الصالح والمسيء بالكفر والمعاصي، وزيادة لا في ولا المسيء للتأكيد " قليلا ما تتذكرون " قرأ الجمهور "يتذكرون" بالتحتية على الغيبة، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم، لأن قبلها وبعدها على الغيبة لا على الخطاب، وقرأ الكوفيون بالفوقية على الخطاب بطريقة الالتفات: أي تذكراً قليلاً ما تتذكرون.

إِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ

59- "إن الساعة لآتية لا ريب فيها" أي لا شك في مجيئها وحصولها "ولكن أكثر الناس لا يؤمنون" بذلك ولا يصدقونه لقصور أفهامهم وضعف عقولهم عن إدراك الحجة، والمراد بأكثر الناس الكفار الذين ينكرون البعث.

وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ

ثم لما بين سبحانه أن قيام الساعة حق لا شك فيه ولا شبهة، أرشد عباده إلى ما هو الوسيلة إلى السعادة في دار الخلود، فأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يحكي عنه ما أمره بإبلاغه وهو 60- "وقال ربكم ادعوني أستجب لكم" قال أكثر المفسرين المعنى: وحدوني واعبدوني أتقبل عبادتكم وأغفر لكم، وقيل المراد بالدعاء السؤال بجلب النفع ودفع الضر. قيل الأول أولى لأن الدعاء في أكثر استعمالات الكتاب العزيز هو العبادة. قلت: بل الثاني أولى لأن معنى الدعاء حقيقة وشرعاً هو الطلب، فإن استعمل في غير ذلك فهو مجاز، على أن الدعاء في نفسه باعتبار معناه الحقيقي هو عبادة، بل مخ العبادة كما ورد بذلك الحديث الصحيح، فالله سبحانه قد أمر عباده بدعائه ووعدهم بالإجابة ووعده الحق، وما يبدل القول لديه ولا يخلف الميعاد. ثم صرح سبحانه بأن هذا الدعاء باعتبار معناه الحقيقي وهو الطلب هو من عبادته فقال: "إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين" أي ذليلين صاغرين وهذا وعيد شديد لمن استكبر عن دعاء الله، وفيه لطف بعباده عظيم وإحسان إليهم جليل حيث توعد من ترك طلب الخير منه واستدفاع الشر به بهذا الوعيد البالغ وعاقبه بهذه العقوبة العظيمة. فيا عباد الله وجهوا رغباتكم وعولوا في كل طلباتكم على من أمركم بتوجيهها إليه وأرشدكم إلى التعويل عليه وكفل لكم الإجابة به بإعطاء الطلبة فهو الكريم المطلق الذي يجيب دعوة الداعي إذا دعاه ويغضب على من لم يطلب من فضله العظيم وملكه الواسع ما يحتاجه من أمور الدنيا والدين، قيل وهذا الوعد بالإجابة مقيد بالمشيئة: أي أستجب لكم إن شئت كقوله سبحانه: "فيكشف ما تدعون إليه إن شاء" الله، قرأ الجمهور "سيدخلون" بفتح الياء وضم الخاء مبنياً للفاعل، وقرأ ابن كثير وابن محيصن وورش وأبو جعفر بضم الياء وفتح الخاء مبنياً للمفعول.

اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ

ثم ذكر سبحانه بعض ما أنعم به على عباده فقال: 61- "الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه" من الحركات في طلب الكسب لكونه جعله مظلماً بارداً تناسبه الراحة بالسكون والنوم "والنهار مبصراً" أي مضيئاً لتبصروا فيه حوائجكم وتتصرفوا في طلب معايشكم "إن الله لذو فضل على الناس" يتفضل عليهم بنعمه التي لا تحصى "ولكن أكثر الناس لا يشكرون" النعم ولا يعترفون بها، إما لجحودهم لها وكفرهم بها كما هو شأن الكفار، أو لإغفالهم للنظر وإهمالهم لما يجب من شكر المنعم، وهم الجاهلون.

ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ

62- "ذلكم الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو" بين سبحانه في هذا كمال قدرته المقتضية لوجوب توحيده قرأ الجمهور "خالق" بالرفع على أنه خبر بعد الخبر الأول عن المبتدأ، وقرأ زيد بن علي بنصبه على الاختصاص "فأنى تؤفكون" أي فكيف تنقلبون عن عبادته وتنصرفون عن توحيده.

كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ

63- "كذلك يؤفك الذين كانوا بآيات الله يجحدون" أي مثل الإفك يؤفك الجاحدون لآيات الله المنكرون لتوحيده.

اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ

ثم ذكر لهم سبحانه نوعاً آخر من نعمه التي أنعم بها عليهم مع ما في ذلك من الدلالة على كمال قدرته وتفرده بالإلهية فقال: 64- "الله الذي جعل لكم الأرض قراراً والسماء بناءً" أي موضع قرار فيها تحيون وفيها تموتون "والسماء بناء": أي سقفاً قائماً ثابتاً. ثم بين بعض نعمه المتعلقة بأنفس العباد فقال: "وصوركم فأحسن صوركم" أي خلقكم في أحسن صورة. قال الزجاج: خلقكم أحسن الحيوان كله. قرأ الجمهور "صوركم" بضم الصاد وقرأ الأعمش وأبو رزين بكسرها. قال الجوهري: والصور بكسر الصاد لغة في الصور بضمها "ورزقكم من الطيبات" أي المستلذات "ذلكم" المبعوث بهذه النعوت الجليلة "الله ربكم فتبارك الله رب العالمين" أي كثرة خيره وبركته.

هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ

65- "هو الحي لا إله إلا هو" أي الباقي الذي لا يفنى المنفرد بالألوهية "فادعوه مخلصين له الدين" أي الطاعة والعبادة "الحمد لله رب العالمين" قال الفراء: هو خبر وفيه إضمار أمر: أي احمدوه. وقد أخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم. قال السيوطي بسند صحيح عن أبي العالية قال:إن اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الدجال يكون منا في آخر الزمان، ويكون في أمره فعظموا أمره، وقالوا: نصنع كذا ونصنع كذا، فأنزل الله "إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه" قال: لا يبلغ الذي يقول "فاستعذ بالله" فأمر نبيه أن يتعوذ من فتنة الدجال لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الدجال. وأخرج ابن أبي حاتم عن كعب الأحبار في الآية قال: هم اليهود نزلت فيهم فيما ينتظرونه من أمر الدجال. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد في قوله: "إن في صدورهم إلا كبر" قال: عظمة قريش. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد والبخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن حبان والحاكم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في الشعب عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدعاء هو العبادة، ثم قرأ "وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي" قال: عن دعائي "سيدخلون جهنم داخرين"". قال الترمذي: حسن صحيح. وأخرج ابن مردويه والخطيب عن البراء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الدعاء هو العبادة "قال ربكم ادعوني أستجب لكم"". وأخرج ابن جرير وابن مردويه وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس في قوله: "ادعوني أستجب لكم" قال: وحدوني أغفر لكم. وأخرج الحاكم وصححه عن جرير بن عبد الله في الآية قال: اعبدوني. وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدعاء الاستغفار". وأخرج ابن أبي شيبة والحاكم وأحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لم يدع الله يغضب عليه". وأخرج أحمد والحكيم الترمذي وأبو يعلى والطبراني عن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا ينفع حذر من قدر، ولكن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل فعليكم بالدعاء". وأخرج الترمذي والحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدعاء مخ العبادة". وأخرج ابن المنذر والحاكم وصححه عن ابن عباس قال: أفضل العبادة الدعاء، وقرأ "وقال ربكم ادعوني أستجب لكم" الآية. وأخرج البخاري في الأدب عن عائشة قالت: سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي العبادة أفضل؟ فقال: دعاء المرء لنفسه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس قال: من قال لا إله إلآ الله فليقل على أثرها الحمد لله رب العالمين، وذلك قوله: "فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين".

قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ

أمر الله سبحانه رسوله أن يخبر المشركين بأن الله نهاه عن عبادة غيره وأمره بالتوحيد فقال: 66- "قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله" وهي الأصنام. ثم بين وجه النهي فقال: "لما جاءني البينات من ربي" وهي الأدلة العقلية والنقلية، فإنها توجب التوحيد "وأمرت أن أسلم لرب العالمين" أي أستسلم له بالانقياد والخضوع.

هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُ

ثم أردف هذا بذكر دليل من الأدلة على التوحيد فقال: "هو الذي خلقكم من تراب" أي خلق أباكم الأول، وهو آدم، وخلقه من تراب يستلزم خلق ذريته منه "ثم من نطفة ثم من علقة" قد تقدم تفسير هذا في غير موضع "ثم يخرجكم طفلاً" أي أطفالاً، وأفرده لكونه اسم جنس، أو على معنى يخرج كل واحد منكم طفلاً "ثم لتبلغوا أشدكم" وهي الحالة التي تجتمع فيها القوة والعقل، وقد سبق بيان الأشد مستوفى في الأنعام، واللام التعليلية في لتبلغوا غاية الكمال، وقوله: "ثم لتكونوا شيوخاً" معطوف على لتبلغوا، قرأ نافع وحفص وأبو عمرو وابن محيصن وهشام "شيوخاً" بضم الشين، وقرأ الباقون بكسرها، وقرئ شيخاً على الإفراد لقوله طفلاً، والشيخ من جاوز الأربعين سنة "ومنكم من يتوفى من قبل" أي من قبل الشيخوخة "ولتبلغوا أجلاً مسمى" أي وقت الموت أو يوم القيامة، واللام هي لام العاقبة "ولعلكم تعقلون" أي لكي تعقلوا توحيد ربكم وقدرته البالغة في خلقكم على هذه الأطوار المختلفة.

هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ

68- "هو الذي يحيي ويميت" أي يقدر على الإحياء والإماتة "فإذا قضى أمراً" من الأمور التي يريدها "فإنما يقول له كن فيكون" من غير توقف، وهو تمثيل لتأثير قدرته في المقدورات عند تعلق إرادته بها، وقد تقدم تحقيق معناه في البقرة وفيما بعدها.

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ

ثم عجب سبحانه من أحوال المجادلين في آيات الله فقال: 69- "ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله" وقد سبق بيان معنى المجادلة "أنى يصرفون" أي كيف يصرفون عنها مع قيام الأدلة الدالة على صحتها، وأنها في أنفسها موجبة للتوحيد. قال ابن زيد: هم المشركون بدليل قوله: "الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا" قال القرطبي: وقال أكثر المفسرين نزلت في القدرية. قال ابن سيرين: إن لم تكن هذه الآية نزلت في القدرية فلا أدري فيمن نزلت.

الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ

ويجاب عن هذا بأن الله سبحانه قد وصف هؤلاء بصفة تدل على غير ما قالوه، فقال: "الذين كذبوا بالكتاب" أي بالقرآن، وهذا وصف لا يصح أن يطلق على فرقة من فرق الإسلام، والموصول إما في محل جر على أنه نعت للموصول الأول، أو بدل منمه، ويجوز أن يكون في محل نصب على الذم، والمراد بالكتاب إما القرآن أو جنس الكتب المنزلة من عند الله، وقوله: "وبما أرسلنا به رسلنا" معطوف على قوله بالكتاب، ويراد به ما يوحى إلى الرسل من غير كتاب إن كانت اللام في الكتاب للجنس أو سائر الكتب إن كان المراد بالكتاب القرآن "فسوف يعلمون" عاقبة أمرهم ووبال كفرهم، وفي هذا وعيد شديد.

إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ

والظرف في قوله: "إذ الأغلال في أعناقهم" متعلق بيعلمون: أي فسوف يعلمون وقت كون الأغلال في أعناقهم "والسلاسل" معطوف على الأغلال، والتقدير: إذ الأغلال والسلاسل في أعناقهم، ويجوز أن يرتفع السلاسل على أنه مبتدأ وخبره محذوف لدلالة في أعناقهم عليه، ويجوز أن يكون خبره " يسحبون * في الحميم " بحذف العائد: أي يسحبون بها في الحميم، وهذا على قراءة الجمهور برفع السلاسل، وقرأ ابن عباس وابن مسعود وعكرمة وأبو الجوزاء بنصبها، وقرأوا يسحبون بفتح الياء مبنياً للفاعل، فتكون السلاسل مفعولاً مقدماً، وقرأ بعضهم بجر السلاسل. قال الفراء: وهذه القراءة محمولة على المعنى، إذ المعنى: أعناقهم في الأغلال والسلاسل. وقال الزجاج: المعنى على هذه القراءة: وفي السلاسل يسحبون، واعترضه ابن الأنباري بأن ذلك لا يجوز في العربية، ومحل يسحبون على تقدير عطف السلاسل على الأغلال، وعلى تقدير كونها مبتدأ وخبرها في أعناقهم النصب على الحال، أو لا محل له، بل هو مستأنف جواب سؤال مقدر.

فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ

والحميم هو المتناهي في الحر، وقيل الصديد وقد تقد تفسيره 72- "ثم في النار يسجرون" يقال سجرت التنور: أي أوقدته وسجرته ملأته بالوقود، ومنه "والبحر المسجور" أي المملوء، فالمعنى توقد بهم النار أو تملأ بهم. قال مجاهد ومقاتل: توقد بهم النار فصاروا وقودها.

ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ

73- " وقيل لهم أين ما كنتم تعبدون * من دون الله " هذا توبيخ وتقريع لهم: أي أين الشركاء الذين كنتم تعبدونهم من دون الله.

مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ

74- "قالوا ضلوا عنا" أي ذهبوا وفقدانهم فلا نراهم، ثم أضربوا عن ذلك وانتقلوا إلى الإخبار بعدمهم وأنه لا وجود لهم فقالوا "بل لم نكن ندعوا من قبل شيئاً" أي لم نكن نعبد شيئاً، قالوا هذا لما نبين لهم ما كانوا فيه من الضلالة والجهالة وأنهم كانوا يعبدون ما لا يبصر ولا يسمع ولا يضر ولا ينفع، وليس هذا إنكاراً منهم لوجود الأصنام التي كانوا يعبدونها، بل اعتراف منهم بأن عبادتهم إياها كانت باطلة "كذلك يضل الله الكافرين" أي مثل ذلك الضلال يضل الله الكافرين حيث عبدوا هذه الأصنام التي أوصلتهم إلى النار.

ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ

والإشارة بقوله: 75- "ذلكم" إلى الإضلال المدلول عليه بالفعل: أي ذلك الإضلال بـ ـسبب "ما كنتم تفرحون في الأرض" أي بما كنتم تظهرون في الدنيا من الفرح بمعاصي الله والسرور بمخالفة رسله وكتبه، وقيل بما كنتم تفرحون به من المال والأتباع والصحة، وقيل بما كنتم تفرحون به من إنكار البعث، وقيل المراد بالفرح هنا البطر والتكبر، وبالمرح الزيادة في البطر. وقال مجاهد وغيره: تمرحون: أي تبطرون وتأشرون. وقال الضحاك: الفرح السرور، والمرح العدوان. وقال مقاتل. المرح: البطر والخيلاء.

ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ

76- "ادخلوا أبواب جهنم" حال كونكم "خالدين فيها" أي مقدرين الخلود فيها "فبئس مثوى المتكبرين" عن قبول الحق جهنم.

فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ

ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بالصبر، فقال: 77- "فاصبر إن وعد الله حق" أي وعده بالانتقام منهم كائن لا محالة، إما في الدنيا أو في الآخرة، ولهذا قال: "فإما نرينك بعض الذي نعدهم" من العذاب في الدنيا بالقتل والأسر والقهر، وما في فإما زائدة على مذهب المبرد والزجاج، والأصل فإن نرك، ولحقت بالفعل نون التأكيد وقوله: "أو نتوفينك" معطوف على نرينك: أي أو نتوفينك قبل إنزال العذاب بهم "فإلينا يرجعون" يوم القيامة فنعذبهم.

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآَيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُ

78- "ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك منهم من قصصنا عليك" أي أنبأناك بأخبارهم وما لقوه من قومهم "ومنهم من لم نقصص عليك" خبره ولا أوصلنا إليك علم ما كان بينه وبين قومه "وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله" لا من قبل نفسه، والمراد بالآية المعجزة الدالة على نبوته "فإذا جاء أمر الله" أي إذا جاء الوقت المعين لعذابهم في الدنيا أو في الآخرة " قضي بينهم بالحق " فيما بينهم فينجي الله بقضائه الحق على عباده المحقين "وخسر هنالك" أي في ذلك الوقت "المبطلون" الذين يتبعون الباطل ويعملون به.

اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ

ثم امتن سبحانه على عباده بنوع من أنواع نعمه التي لا تحصى فقال: 79- "الله الذي جعل لكم الأنعام" أي خلقها لأجلكم، قال الزجاج: الأنعام ها هنا الإبل، وقيل الأزواج الثمانية "لتركبوا منها" من للتبعيض، وكذلك في قوله: "ومنها تأكلون" ويجوز أن تكون لابتداء الغاية في الموضعين ومعناها ابتداء الركوب وابتداء الأكل، والأول أولى. والمعنى: لتركبوا بعضها وتأكلوا بعضها.

وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ

80- "ولكم فيها منافع" أخر غير الركوب والأكل من الوبر والصوف والشعر والزبد والسمن والجبن وغير ذلك "ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم" قال مجاهد ومقاتل وقتادة: تحمل أثقالكم من بلد إلى بلد، وقد تقدم بيان هذا مستوفى في سورة النحل "وعليها وعلى الفلك تحملون" أي على الإبل في البر، وعلى السفن في البحر. وقيل المراد بالحمل على الأنعام هنا حمل الولدان والنساء بالهوادج.

وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَأَيَّ آَيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ

81- "ويريكم آياته" أي دلالاته الدالة على كمال قدرته ووحدانيته "فأي آيات الله تنكرون" فإنها كلها من الظهور وعدم الخفاء بحيث لا ينكرها منكر ولا يجحدها جاحد، وفيه تقريع لهم وتوبيخ عظيم، ونصب أي بتنكرون، وإنما قدم على العامل فيه لأن له صدر الكلام.

أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآَثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ

ثم أرشدهم سبحانه إلى الاعتبار والتفكر في آيات الله فقال: 82- "أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم" من الأمم التي عصت الله وكذبت رسلها، فإن الآثار الموجودة في ديارهم تدل على ما نزل بهم من العقوبة وما صاروا إليه من سوء العاقبة. ثم بين سبحانه أن تلك الأمم كانوا فوق هؤلاء في الكثرة والقوة فقال: "كانوا أكثر منهم وأشد قوة" أي أكثر منهم عدداً وأقوى منهم أجساداً وأوسع منهم أموالاً، "و" أظهر منهم "آثاراً في الأرض" بالعمائر والمصانع والحرث "فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون" يجوز أن تكون ما الأولى استفهامية: أي أي شيء أغنى عنهم، أو نافية: أي لم يغن عنهم، وما الثانية يجوز أن تكون موصولة وأن تكون مصدرية.

فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ

83- "فلما جاءتهم رسلهم بالبينات" أي بالحجج الواضحات والمعجزات الظاهرات "فرحوا بما عندهم من العلم" أي أظهروا الفرح بما عندهم مما يدعون أنه من العلم من الشبه الداحضة والدعاوى الزائغة، وسماه علماً تهكماً بهم، أو على ما يعتقدونه. وقال مجاهد: قالوا نحن أعلم منهم لن نعذب ولن نبعث، وقيل المراد من علم أحوال الدنيا لا الدين كما في قوله: "يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا" وقيل الذين فرحوا بما عندهم من العلم هم الرسل، وذلك أنه لما كذبهم قومهم أعلمهم الله بأنه مهلك الكافرين ومنجي المؤمنين ففرحوا بذلك "وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون" أي أحاط بهم جزاء استهزائهم.

فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ

84- "فلما رأوا بأسنا" أي عاينوا عذابنا النازل بهم "قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين" وهي الأصنام التي كانوا يعبدونها.

فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ

85- "فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا" أي عند معاينة عذابنا، لأن ذلك الإيمان ليس بالإيمان النافع لصاحبه، فإنه إنما ينفع الإيمان الاختياري لا الإيمان الاضطراري "سنة الله التي قد خلت في عباده" أي التي قد مضت في عباده، والمعنى: أن الله سبحانه سن هذه السنة في الأمم كلها أنه لا ينفعهم الإيمان إذا رأوا العذاب. وقد مضى بيان هذا في سورة النساء وسورة التوبة، وانتصاب سنة على أنها مصدر مؤكد لفعل محذوف بمنزلة وعد الله وما أشبهه من المصادر المؤكدة. وقيل هو منصوب على التحذير: أي احذروا يا أهل مكة سنة الله في الأمم الماضية، والأول أولى "وخسر هنالك الكافرون" أي وقت رؤيتهم بأس الله ومعاينتهم لعذابه. قال الزجاج: الكافر خاسر في كل وقت، ولكنه يتبين لهم خسرانهم إذا رأوا العذاب. وقد أخرج أحمد والترمذي وحسنه والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في البعث والنشور عن عبد الله بن عمرو قال "تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذ الأغلال في أعناقهم" إلى قوله: "يسجرون" فقال: لو أن رصاصة مثل هذه، وأشار إلى جمجمة أرسلت من السماء إلى الأرض، وهي مسيرة خمسمائة سنة لبلغت الأرض قبل الليل، ولو أنها أرسلت من رأس السلسلة لسارت أربعين خريفاً الليل والنهار قبل أن تبلغ أصلها، أو قال قعرها". وأخرج ابن أبي الدنيا في صفة النار عن ابن عباس قال: يسبحون في الحميم فينسلخ كل شيء عليهم من جلد ولحم وعرق حتى يصير في عقبه حتى إن لحمه قدر طوله، وطوله ستون ذراعاً، ثم يكسى جلداً آخر، ثم يسجر في الحميم. وأخرج الطبراني في الأوسط وابن مردويه عن علي بن أبي طالب في قوله: "ومنهم من لم نقصص عليك" قال: بعث الله عبداً حبشياً فهو ممن لم يقصص على محمد.


1-الفاتحة 2-البقرة 3-آل-عمران 4-النساء 5-المائدة 6-الأنعام 7-الأعراف 8-الأنفال 9-التوبة 10-يونس 11-هود 12-يوسف 13-الرعد 14-إبراهيم 15-الحجر 16-النحل 17-الإسراء 18-الكهف 19-مريم 20-طه 21-الأنبياء 22-الحج 23-المؤمنون 24-النور 25-الفرقان 26-الشعراء 27-النمل 28-القصص 29-العنكبوت 30-الروم 31-لقمان 32-السجدة 33-الأحزاب 34-سبأ 35-فاطر 36-يس 37-الصافات 38-ص 39-الزمر 40-غافر 41-فصلت 42-الشورى 43-الزخرف 44-الدخان 45-الجاثية 46-الأحقاف 47-محمد 48-الفتح 49-الحجرات 50-ق 51-الذاريات 52-الطور 53-النجم 54-القمر 55-الرحمن 56-الواقعة 57-الحديد 58-المجادلة 59-الحشر 60-الممتحنة 61-الصف 62-الجمعة 63-المنافقون 64-التغابن 65-الطلاق 66-التحريم 67-الملك 68-القلم 69-الحاقة 70-المعارج 71-نوح 72-الجن 73-المزمل 74-المدثر 75-القيامة 76-الإنسان 77-المرسلات 78-النبأ 79-النازعات 80-عبس 81-التكوير 82-الانفطار 83-المطففين 84-الانشقاق 85-البروج 86-الطارق 87-الأعلى 88-الغاشية 89-الفجر 90-البلد 91-الشمس 92-الليل 93-الضحى 94-الشرح 95-التين 96-العلق 97-القدر 98-البينة 99-الزلزلة 100-العاديات 101-القارعة 102-التكاثر 103-العصر 104-الهمزة 105-الفيل 106-قريش 107-الماعون 108-الكوثر 109-الكافرون 110-النصر 111-المسد 112-الإخلاص 113-الفلق 114-الناس