صرح كثير من المفسرين بأنها مدنية ولم يستثنوا منها شيئاً، وبه قال الحسن وعكرمة وجابر بن زيد وعطاء. وقد روي مثل هذا عن ابن عباس، أخرجه النحاس في ناسخه وأبو الشيخ وابن مردويه عنه قال: سورة الأنفال نزلت بالمدينة. وأخرجه ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير. وأخرجه ابن مردويه أيضاً عن زيد بن ثابت. وأخرج سعيد بن منصور والبخاري وابن المنذر وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس أنه قال: نزلت في بدر. وفي لفظ: تلك سورة بدر. قال القرطبي: قال ابن عباس هي مدنية إلا سبع آيات من قوله: "وإذ يمكر بك الذين كفروا" إلى آخر سبع آيات، وجملة آيات هذه السورة ست وسبعون آية، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بها في صلاة المغرب كما أخرجه الطبراني بسند صحيح عن أبي أيوب. وأخرج أيضاً زيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقرأ في الركعتين من المغرب بسورة الأنفال. الأنفال جمع نفل محركاً، وهو الغنيمة، ومنه قول عنترة: إنا إذا احمر الوغى نروي القنا ونعف عند مقاسم الأنفال أي الغنائم، وأصل النفل: الزيادة، وسميت الغنيمة به لأنها زيادة فيما أحل الله لهذه الأمة مما كان محرماً على غيرهم، أو لأنها زيادة على ما يحصل للمجاهد من أجر الجهاد، ويطلق النفل على معان أخر منها اليمين، والابتغاء ونبت معروف. والنافلة التطوع لكونها زائدة على الواجب، والنافلة: ولد الولد، لأنه زيادة على الولد. وكان سبب نزول الآية: اختلاف الصحابة رضي الله عنهم في يوم بدر كما سيأتي بيانه فنزع الله ما غنموه من أيديهم وجعله لله والرسول، فقال: 1- "قل الأنفال لله والرسول" أي حكمها مختص بهما يقسمها بينكم رسول الله عن أمر الله سبحانه وليس لكم حكم في ذلك. وقد ذهب جماعة من الصحابة والتابعين إلى أن الأنفال كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة ليس لأحد فيها شيء حتى نزل قوله تعالى: "واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه". ثم أمرهم بالتقوى، وإصلاح ذات البين، وطاعة الله والرسول بالتسليم لأمرهما، وترك الاختلاف الذي وقع بينهم، ثم قال: "إن كنتم مؤمنين" أي امتثلوا هذه الأوامر الثلاثة إن كنتم مؤمنين بالله، وفيه من التهييج والإلهاب ما لا يخفى، مع كونهم في تلك الحال على الإيمان فكأنه قال: إن كنتم مستمرين على الإيمان بالله، لأن هذه الثلاثة الأمور التي هي تقوى الله، وإصلاح ذات البين، وطاعة الله والرسول، لا يكمل الإيمان بدونها، بل لا يثبت أصلاً لمن لم يمتثلها، فإن من ليس بمتق وليس بمطيع لله ورسوله ليس بمؤمن. وقد أخرج أحمد وعبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ والحاكم وابن مردويه والبيهقي في سننه عن أبي أمامة قال: سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال فقال: فينا أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل وساءت فيه أخلاقنا، فانتزعه الله من أيدينا وجعله إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فقسمه رسول الله بين المسلمين عن بواء يقول عن سواء. وأخرج سعيد بن منصور وأحمد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان والحاكم وصححه وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في سننه عن عبادة بن الصامت قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهدت معه بدراً، فالتقى الناس فهزم الله العدو، فانطلقت طائفة في آثارهم يهزمون ويقتلون، وأكبت طائفة على العسكر يحوزونه ويجمعونه، وأحدقت طائفة برسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصيب العدو منه غرة، حتى إذا كان الليل وفاء الناس بعضهم إلى بعض قال الذين جمعوا الغنائم: نحن حويناها وجمعناها فليس لأحد فيها نصيب، وقال الذين خرجوا في طلب العدو: لستم بأحق بها منا نحن نفينا عنه العدو وهزمناهم، وقال الذين أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم: لستم بأحق بها منا نحن أحدقنا برسول الله صلى الله عليه وسلم وخفنا أن يصيب العدو منه غرة فاشتغلنا به، فنزلت: "يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول" قسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المسلمين وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أغار في أرض العدو نفل الربع، وإذا أقبل راجعاً وكل الناس نفل الثلث، وكان يكره الأنفال ويقول: ليرد قوي المسلمين على ضعيفهم. وأخرج إسحاق بن راهويه في مسنده وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي أيوب الأنصاري قال:" بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية فنصرها الله وفتح عليها، فكان من آتاه بشيء نفله من الخمس، فرجع رجال كانوا يستقدمون ويقتلون ويأسرون وتركوا الغنائم خلفهم، فلم ينالوا من الغنائم شيئاً، فقالوا: يا رسول الله ما بال رجال منا يستقدمون ويأسرون، وتخلف رجال لم يصلوا بالقتال فنفلتهم بالغنيمة؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل: "يسألونك عن الأنفال" الآية، فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:ردوا ما أخذتم واقتسموا بالعدل والسوية فإن الله يأمركم بذلك، فقالوا: قد أنفقنا وأكلنا، فقال: احتسبوا ذلك". وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي وصححه والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في سننه عن سعد بن أبي وقاص قال: "قلت: يا رسول الله قد شفاني الله اليوم من المشركين، فهب لي هذا السيف، فقال:إن هذا السيف لا لك ولا لي، ضعه، فوضعته، ثم رجعت قلت: عسى يعطى هذا السيف اليوم من لا يبلي بلائي إذا رجل يدعوني من ورائي، قلت: قد أنزل الله في شيئاً؟ قال: كنت سألتني هذا السيف وليس هو لي، وإنه قد وهب لي فهو لك وأنزل الله هذه الآية "يسألونك عن الأنفال"" وفي لفظ لأحمد "أن سعداً قال: لما قتل أخي يوم بدر وقتلت سعيد بن العاص وأخذت سيفه وكان يسمى ذا الكنيفة فأتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر نحو ما تقدم" وقد روي هذا الحديث عن سعد من وجوه أخر. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: "أن الناس سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنائم يوم بدر فنزلت: "يسألونك عن الأنفال".". وأخرج ابن مروديه عنه قال: لم ينفل النبي صلى الله عليه وسلم بعد إذ نزلت عليه "يسألونك عن الأنفال" إلا من الخمس فإنه نفل يوم خيبر من الخمس. وأخرج ابن أبي شيبة وأبو داود والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن حبان وأبو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال لما كان يوم بدر قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من قتل قتيلاً فله كذا وكذا، ومن أسر أسيراً فله كذا وكذا، فأما المشيخة فثبتوا تحت الرايات، وأما الشبان فسارعوا إلى القتل والغنائم، فقالت المشيخة للشبان: أشركونا معكم فإنا كنا لكم ردءاً، ولو كان منكم شيء للجأتم إلينا، فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت: "يسألونك عن الأنفال" الآية، فقسم النبي صلى الله عليه وسلم الغنائم بينهم بالسوية". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله: "يسألونك عن الأنفال" قال: الأنفال المغانم، كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خالصة ليس لأحد منها شيء ما أصاب من سرايا المسلمين من شيء أتوه به، فمن حبس منه إبرة أو سلكاً فهو غلول فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطيهم منها شيئاً فأنزل الله: "يسألونك عن الأنفال قل الأنفال" لي جعلتها لرسولي ليس لكم فيها شيء "فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم" إلى قوله: "إن كنتم مؤمنين" ثم أنزل الله "واعلموا أنما غنمتم من شيء" الآية، ثم قسم ذلك الخمس لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولذي القربى واليتامى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله، وجعل أربعة أخماس الناس فيه سواء، للفرس سهمان، ولصاحبه سهم، وللراجل سهم. وأخرج أبو عبيد وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "يسألونك عن الأنفال" قال: هي المغانم، ثم نسخها "واعلموا أنما غنمتم من شيء" الآية. وأخرج مالك وابن أبي شيبة وأبو عبيد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس وأبو الشيخ وابن مردويه عن القاسم بن محمد قال: سمعت رجلاً يسأل ابن عباس عن الأنفال فقال: الفرس من النفل والسلب من النفل، فأعاد المسألة فقال ابن عباس: هذا مثل ضبيع الذي ضربه عمر، وفي لفظ: فقال ما أحوجك أن يصنع بك كما صنع عمر بضبيع العراقي، وكان عمر ضربه حتى سالت الدماء على عقبيه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه قال: الأنفال المغانم، أمروا أن يصلحوا ذات بينهم فيها فيرد القوي على الضعيف. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والنحاس وأبو الشيخ عن عطاء في قوله: "يسألونك عن الأنفال" قال: هو ما شذ من المشركين إلى المسلمين بغير قتال، من عبد أو دابة أو متاع فذلك للنبي صلى الله عليه وسلم يصنع به ما شاء. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وأبو الشيخ عن محمد بن عمرو قال: أرسلنا إلى سعيد بن المسيب نسأله عن الأنفال فقال: تسألوني عن الأنفال وإنه لا نفل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأخرج عبد الرزاق عن سعيد أيضاً قال: ما كانوا ينفلون إلا من الخمس وروى عبد الرزاق عنه أنه قال: لا نفل في غنائم المسلمين إلا في خمس الخمس. وأخرج عبد الرزاق عن أنس أن أميراً من الأمراء أراد أن ينفله قبل أن يخمسه فأبى أنس أن يقبله حتى يخمسه. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن الشعبي في قوله: "يسألونك عن الأنفال" قال: ما أصابت السرايا. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير والنحاس في ناسخه عن مجاهد وعكرمة قال: كانت الأنفال لله والرسول حتى نسخها آية الخمس "واعلموا أنما غنمتم من شيء" الآية. وأخرج ابن أبي شيبة والبخاري في الأدب المفرد، وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس في قوله: "وأصلحوا ذات بينكم" قال: هذا تخريج من الله على المؤمنين أن يتقوا الله وأن يصلحوا ذات بينهم حيث اختلفوا في الأنفال. وأخرج ابن أبي حاتم عن مكحول، قال: كان صلاح ذات بينهم أن ردت الغنائم، فقسمت بين من ثبت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين من قاتل وغنم. وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء في قوله: "وأطيعوا الله ورسوله" قال: طاعة الرسول اتباع الكتاب والسنة.
الوجل: الخوف والفزع، والمراد أن حصول الخوف من الله والفزع منه عند ذكره هو شأن المؤمنين الكاملي الإيمان المخلصين لله، فالحصر باعتبار كمال الإيمان لا باعتبار أصل الإيمان. قال جماعة من المفسرين: هذه الآية متضمنة للتحريض على طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أمر به من قسمة الغنائم، ولا يخفاك أن هذا وإن صح إدراجه تحت معنى الآية، من جهة أن وجل القلوب عند الذكر وزيادة الإيمان عند تلاوة آيات الله يستلزمان امتثال ما أمر به سبحانه من كون الأنفال لله والرسول، ولكن الظاهر أن مقصود الآية هو إثبات هذه المزية لمن كمل إيمانه من غير تقييد بحال دون حال، ولا بوقت دون وقت، ولا بواقعة دون واقعة، والمراد من تلاوة آياته تلاوة الآيات المنزلة أو التعبير عن بديع صنعته وكمال قدرته في آياته التكوينية بذكر خلقها البديع وعجائبها التي يخشع عند ذكرها المؤمنون. قيل: والمراد بزيادة الإيمان هو زيادة انشراح الصدر وطمأنينة القلب وانثلاج الخاطر عند تلاوة الآيات، وقيل: المراد بزيادة الإيمان زيادة العمل، لأن الإيمان شيء واحد لا يزيد ولا ينقص، والآيات المتكاثرة والأحاديث المتواترة ترد ذلك وتدفعه 2- "وعلى ربهم يتوكلون" لا على غيره، والتوكل على الله: تفويض الأمر إليه في جميع الأمور.
والموصول في قوله: 3- "الذين يقيمون الصلاة" في محل رفع على أنه وصف للموصول الذي قبله، أو بدل منه أو بيان له أو في محل نصب على المدح، وخص إقامة الصلاة والصدقة لكونهما أصل الخير وأساسه، و من في "مما" للتبعيض.
والإشارة بقوله: 4- "أولئك" إلى المتصفين بالأوصاف المتقدمة وهو مبتدأ وخبره "هم المؤمنون" أي أن هؤلاء هم الكاملون الإيمان البالغون فيه إلى أعلى درجاته وأقصى غاياته و "حقاً" مصدر مؤكد لمضمون جملة هم المؤمنون: أي حق ذلك حقاً أو صفة مصدر محذوف: أي هم المؤمنون إيماناً حقاً، ثم ذكر ما أعد لمن كان جامعاً بين هذه الأوصاف من الكرامة فقال: "لهم درجات" أي منازل خير وكرامة وشرف في الجنة كائنة عند ربهم وفي كونها عنده سبحانه زيادة تشريف لهم وتكريم وتعظيم وتفخيم، وجملة "لهم درجات عند ربهم" خبر ثان لـ "أولئك" أو مستأنفة جواباً لسؤال مقدر، "ومغفرة" معطوف على درجات أي مغفرة لذنوبهم "ورزق كريم" يكرمهم الله به من واسع فضله وفائض جوده. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وجلت قلوبهم" قال: فرقت قلوبهم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضاً في الآية قال: المنافقون لا يدخل قلوبهم شيء من ذكر الله عند أداء فرائضه، ولا يؤمنون بشيء من آيات الله، ولا يتوكلون على الله، ولا يصلون إذا غابوا، ولا يؤدون زكاة أموالهم، فأخبر الله أنهم ليسوا بمؤمنين، ثم وصف المؤمنين فقال: "إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم" فأدوا فرائضه. وأخرج الحكيم الترمذي وابن جرير وأبو الشيخ من طريق شهر بن حوشب عن أم الدرداء قالت: إنما الوجل في القلب كاحتراق السعفة يا شهر بن حوشب، أما تجد قشعريرة؟ قلت: بلى، قالت: فادع عندها فإن الدعاء يستجاب عند ذلك. وأخرج الحكيم الترمذي عن ثابت البناني قال: قال فلان: إني لأعلم متى يستجاب لي؟ قالوا: ومن أين لك؟ قال: إذا اقشعر جلدي ووجل قلبي وفاضت عيناي، فذلك حين يستجاب لي. وأخرج أيضاً عن عائشة قالت: ما الوجل في قلب المؤمن إلا كضرمة السعفة، فإذا وجل أحدكم فليدع عند ذلك. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في الآية قال: هو الرجل يريد أن يظلم أو يهم بمعصية فيقال له: اتق الله فيجل قلبه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "زادتهم إيماناً" قال: تصديقاً. وأخرج هؤلاء عن الربيع بن أنس في قوله: "زادتهم إيماناً" قال: خشية. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وعلى ربهم يتوكلون" يقول: لا يرجون غيره. وأخرجا عنه في قوله: "أولئك هم المؤمنون حقاً" قال: برئوا من الكفر. وأخرج أبو الشيخ عنه "حقاً" قال: خالصاً. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: "لهم درجات" يعني فضائل ورحمة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "لهم درجات" قال: أعمال رفيعة. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن الضحاك في قوله: "لهم درجات" قال: أهل الجنة بعضهم فوق بعض، فيرى الذي هو فوق فضله على الذي هو أسفل منه. ولا يرى الذي هو أسفل أنه فضل عليه أحد. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن زيد في قوله: "ومغفرة" قال: بترك الذنوب "ورزق كريم" قال: الأعمال الصالحة. وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي قال: إذا سمعتم الله يقول: "ورزق كريم" فهي الجنة.
قوله: 5- "كما أخرجك ربك من بيتك بالحق". قال الزجاج: الكاف في موضع نصب: أي الأنفال ثابتة لك كما أخرجك ربك من بيتك بالحق: أي مثل إخراج ربك، والمعنى: امض لأمرك في الغنائم ونفل من شئت وإن كرهوا، لأن بعض الصحابة قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين جعل لكل من أتى بأسير شيئاً قال: بقي أكثر الناس بغير شيء، فموضع الكاف نصب كما ذكرنا، وبه قال الفراء وقال أبو عبيدة: هو قسم: أي والذي أخرجك، فالكاف بمعنى الواو، وما بمعنى الذي. وقال الأخفش سعيد بن مسعدة: المعنى أولئك هم المؤمنون حقاً كما أخرجك ربك. وقال عكرمة المعنى: أطيعوا الله ورسوله كما أخرجك ربك، وقيل: كما أخرجك متعلق بقوله: "لهم درجات" أي هذا الوعد للمؤمنين حق في الآخرة "كما أخرجك ربك من بيتك بالحق" الواجب له، فأنجز وعدك وظفرك بعدوك وأوفى لك، ذكره النحاس واختاره، وقيل: الكاف في كما كاف التشبيه على سبيل المجازاة كقول القائل لعبده: كما وجهتك إلى أعدائي فاستضعفوك وسألت مدداً مدداً فأمددتك وقويتك وأزحت علتك فخذهم الآن فعاقبهم، وقيل: إن الكاف في محل رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره: هذه الحال كحال إخراجك يعني أن حالهم في كراهة ما رأيت من تنفيل الغزاة مثل حالهم في كراهة خروجك للحرب، ذكره صاحب الكشاف وبالحق متعلق بمحذوف، والتقدير: إخراجاً متلبساً بالحق الذي لا شبهة فيه، وجملة "وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون" في محل نصب على الحال: أي كما أخرجك في حال كراهتهم لذلك، لأنه لما وعدهم الله إحدى الطائفتين، إما العير أو النفير، رغبوا في العير لما فيها من الغنيمة والسلامة من القتال كما سيأتي بيانه.
وجملة 6- " يجادلونك في الحق بعد ما تبين " إما في محل نصب على أنها حال بعد حال، أو مستأنفة جواب سؤال مقدر، ومجادلتهم لما ندبهم إلى إحدى الطائفتين، وفات العير وأمرهم بقتال النفير ولم يكن معهم كثير أهبة، لذلك شق عليهم وقالوا: لو أخبرتنا بالقتال لأخذنا العدة وأكملنا الأهبة، ومعنى "في الحق" أي في القتال بعدما تبين لهم أنك لا تأمر بالشيء إلا بإذن الله، أو بعد ما تبين لهم أن الله وعدهم بالظفر بإحدى الطائفتين، وأن العير إذا فاتت ظفروا بالنفير، و بعد ظرف ليجادلونك وما مصدرية أي يجادلونك بعدما تبين الحق لهم. قوله: "كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون" الكاف في محل نصب على الحال من الضمير في "لكارهون" أي حال كونهم في شدة فزعهم من القتال يشبهون حال من يساق ليقتل وهو مشاهد لأسباب قتله ناظر إليها لا يشك فيها.
قوله: 7- "وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم" الظرف منصوب بفعل مقدر: أي واذكروا وقت وعد الله إياكم إحدى الطائفتين وأمرهم بتذكير الوقت مع أن المقصود ذكر ما فيه من الحوادث لقصد المبالغة، والطائفتان: هما العير والنفير، وإحدى هو ثاني مفعولي يعد، و "أنها لكم" بدل منه بدل اشتمال، ومعناه: أنها مسخرة لكم وأنكم تغلبونها وتغنمون منها وتصنعون بها ما شئتم من قتل وأسر وغنيمة، لا يطيقون لكم دفعاً ولا يملكون لأنفسهم منكم ضراً ولا نفعاً وفي هذه الجملة تذكير لهم بنعمة من النعم التي أنعم الله بها عليهم. قوله: "وتودون" معطوف على "يعدكم" من جملة الحوادث التي أمروا بذكر وقتها "أن غير ذات الشوكة" من الطائفتين، وهي طائفة العير "تكون لكم" دون ذات الشوكة، وهي طائفة النفير. قال أبو عبيدة: أي غير ذات الحد. والشوكة: السلاح، والشوكة: النبت الذي له حد. ومنه رجل شائك السلاح: أي حديد السلاح، ثم يقلب فيقال: شاكي السلاح، فالشوكة مستعارة من واحدة الشوك، والمعنى: وتودون أن تظفروا بالطائفة التي ليس معها سلاح، وهي طائفة العير لأنها غنيمة صافية عن كدر القتال إذ لم يكن معها من يقوم بالدفع عنها. قوله: "ويريد الله أن يحق الحق بكلماته" معطوف على "تودون" وهو من جملة ما أمروا بذكر وقته: أي ويريد الله غير ما تريدون وهو أن يحق الحق بإظهاره لما قضاه من ظفركم بذات الشوكة، وقتلهم لصناديدهم، وأسر كثير منهم، واغتنام ما غنمتم من أموالهم التي أجلبوا بها عليكم وراموا دفعكم بها، والمراد بالكلمات: الآيات التي أنزلها في محاربة ذات الشوكة، ووعدكم منه بالظفر بها "ويقطع دابر الكافرين" الدابر الآخر، وقطعه عبارة عن الاستئصال. والمعنى: ويستأصلهم جميعاً.
قوله: 8- "ليحق الحق ويبطل الباطل" هذه الجملة علة لما يريده الله: أي أراد ذلك، أو يريد ذلك ليظهر الحق ويرفعه "ويبطل الباطل" ويضعه، أو اللام متعلقة بمحذوف: أي فعل ذلك ليحق الحق، وقيل: متعلق بيقطع، وليس في هذه الجملة تكرير لما قبلها لأن الأولى لبيان التفاوت فيما بين الإرادتين، وهذه لبيان الحكمة الداعية إلى ذلك، والعلة المقتضية له، والمصلحة المترتبة عليه. وإحقاق الحق إظهاره، وإبطال الباطل إعدامه "بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق" ومفعول "ولو كره المجرمون" محذوف: أي ولو كرهوا أن يحق الحق ويبطل الباطل، والمجرمون هم المشركون من قريش، أو جميع طوائف الكفار. وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن أبي أيوب الأنصاري قال: "قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بالمدينة، وبلغه أن عير أبي سفيان قد أقبلت فقال: ما ترون فيها لعل الله يغنمناها ويسلمنا. فخرجنا فلما سرنا يوماً أو يومين أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتعاد، ففعلنا فإذا نحن ثلاثمائة وثلاثة عشر. فأخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم بعدتنا، فسر بذلك وحمد الله وقال:عدة أصحاب طالوت. فقال: ما ترون في قتال القوم فإنهم قد أخبروا بمخرجكم، فقلنا: يا رسول الله، لا والله ما لنا طاقة بقتال القوم، إنما خرجنا للعير. ثم قال: ما ترون في قتال القوم؟، فقلنا مثل ذلك، فقال المقداد: لا تقولوا كما قال قوم موسى لموسى: "اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون" فأنزل الله: "كما أخرجك ربك" إلى قوله: "وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم" فلما وعدنا الله إحدى الطائفتين، إما القوم وإما العير، طابت أنفسنا ثم إنا اجتمعنا مع القوم فصففنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم إني أنشدك وعدك، فقال ابن رواحة: يا رسول الله إني أريد أن أشير عليك ورسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من أن يشير عليه، إن الله أجل وأعظم من أن تنشده وعده. فقال:يا ابن رواحة لأنشدن الله وعده، فإن الله لا يخلف الميعاد، فأخذ قبضة من التراب فرمى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجوه القوم فانهزموا، فأنزل الله: "وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى" فقتلنا وأسرنا، فقال عمر: يا رسول الله ما أرى أن يكون لك أسرى فإنما نحن داعون مؤلفون، فقلنا: يا معشر الأنصار إنما يحمل عمر على ما قال حسد لنا، فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم استيقظ فقال: ادعوا لي عمر، فدعى له فقال: إن الله قد أنزل علي "ما كان لنبي أن يكون له أسرى" الآية" وفي إسناده ابن لهيعة، وفيه مقال معروف. وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف وابن مردويه عن محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي عن أبيه عن جده قال: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر حتى إذا كان بالروحاء خطب الناس فقال:كيف ترون؟ فقال أبو بكر: يا رسول الله بلغنا أنهم كذا وكذا ثم خطب الناس فقال: كيف ترون؟فقال عمر مثل قول أبي بكر، ثم خطب الناس فقال:كيف ترون؟ فقال سعد بن معاذ: يا رسول الله إيانا تريد، فوالذي أكرمك وأنزل عليك الكتاب ما سلكتها قط ولا لي بها علم ولئن سرت حتى تأتي برك الغماد من ذي يمن لنسيرن معك ولا نكونن كالذين قالوا لموسى: "اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون" ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم متبعون، ولعلك أن تكون خرجت لأمر وأحدث الله إليك غيره، فانظر الذي أحدث الله إليك فامض له، فصل حبال من شئت، واقطع حبال من شئت، وعاد من شئت وسالم من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، فنزل القرآن على قول سعد "كما أخرجك ربك من بيتك بالحق" إلى قوله: "ويقطع دابر الكافرين" وإنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الغنيمة مع أبي سفيان فأحدث الله إليه القتال". وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "كما أخرجك ربك من بيتك بالحق" قال: كذلك يجادلونك في خروج القتال. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله: "كما أخرجك ربك من بيتك بالحق" قال: خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى بدر "وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون" قال: لطلب المشركين " يجادلونك في الحق بعد ما تبين " أنك لا تصنع إلا ما أمرك الله به. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الضحاك في قوله: "وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم" قال: هي عير أبي سفيان ود أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن العير كانت لهم وأن القتال صرف عنهم. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة "ويقطع دابر الكافرين" أي شأفتهم. ووقعة بدر قد اشتملت عليها كتب الحديث والسير والتاريخ مستوفاة فلا نطيل بذكرها.
قوله: 9- "إذ تستغيثون" الظرف متعلق بمحذوف: أي واذكروا وقت استغاثتكم، وقيل: بدل من "وإذ يعدكم الله" معمول لعامله، وقيل: متعلق بقوله: "ليحق الحق" والاستغاثة: طلب الغوث، يقال: استغاثني فلان فأغثته والاسم الغياث، والمعنى: أن المسلمين لما علموا أنه لا بد من قتال الطائفة ذات الشوكة وهم النفير كما أمرهم الله بذلك وأراده منهم ورأوا كثرة عدد النفير وقلة عددهم استغاثوا بالله سبحانه، وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه "أن عدد المشركين يوم بدر ألف، وعدد المسلمين ثلثمائة وسبعة عشر رجلاً، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى ذلك استقبل القبلة، ثم مد يديه فجعل يهتف بربه:اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آتني ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض" الحديث. "فاستجاب لكم" عطف على تستغيثون داخل معه في التذكير، وهو وإن كان مستقبلاً فهو بمعنى الماضي، ولهذا عطف عليه استجاب. قوله: "أني ممدكم بألف من الملائكة" أي بأني ممدكم فحذف حرف الجر وأوصل الفعل إلى المفعول وقرئ بكسر الهمزة على إرادة القول، أو على أن في استجاب معنى القول قوله: "مردفين" قرأ نافع بفتح الدال اسم مفعول، وقرأ الباقون بكسرها اسم فاعل وانتصابه على الحال، والمعنى على القراءة الأولى: أنه جعل بعضهم تابعاً لبعض، وعلى القراءة الثانية: أنهم جعلوا بعضهم تابعاً لبعض، وقيل: إن مردفين على القراءتين نعت لألف، وقيل: إنه على القراءة الأولى حال من الضمير المنصور في ممدكم: أي ممدكم في حال إردافكم بألف من الملائكة، وقد قيل: إن ردف وأردف بمعنى واحد، وأنكره أبو عبيدة قال: لقوله تعالى: "تتبعها الرادفة" ولم يقل المردفة. قال سيبويه: وفي الآية قراءة ثالثة وهي مردفين بضم الراء وكسر الدال مشددة. وقراءة رابعة بفتح الراء وتشديد الدال. وقرأ جعفر بن محمد وعاصم الجحدري بآلاف جمع ألف، وهو الموافق لما تقدم في آل عمران.
والضمير في 10- "وما جعله الله" راجع إلى الإمداد المدلول عليه بقوله: إني ممدكم، "إلا بشرى" أي إلا بشارة لكم بنصره، وهو استثناء مفرغ: أي ما جعل إمدادكم لشيء من الأشياء إلا للبشرى لكم بالنصر "ولتطمئن به" أي بالإمداد قلوبكم، وفي هذا إشعار بأن الملائكة لم يقاتلوا، بل أمد الله المسلمين بهم للبشرى لهم وتطمين قلوبهم وتثبيتها، واللام في لتطمئن متعلقة بفعل محذوف يقدر متأخراً: أي ولتطمئن قلوبكم فعل ذلك لا لشيء آخر "وما النصر إلا من عند الله" لا من عند غيره ليس للملائكة في ذلك أثر، فهو الناصر على الحقيقة، وليسوا إلا سبباً من أسباب النصر التي سببها الله لكم وأمدكم بها "إن الله عزيز" لا يغالب "حكيم" في كل أفعاله. وقد أخرج ابن جرير عن علي رضي الله عنه قال: نزل جبريل في ألف من الملائكة عن ميمنة النبي صلى الله عليه وسلم وفيها أبو بكر، ونزل ميكائيل في ألف من الملائكة عن ميسرة النبي صلى الله عليه وسلم وأنا في الميسرة. وأخرج سنيد وابن جرير وأبو الشيخ عن مجاهد قال: ما أمد النبي صلى الله عليه وسلم بأكثر من هذه الألف التي ذكر الله في الأنفال، وما ذكر الثلاثة الآلاف والخمسة الآلاف إلا بشرى. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "مردفين" قال: متتابعين. وأخرج ابن جرير في قوله: "مردفين" يقول: المدد. وأخرج ابن أبي حاتم وابن المنذر وأبو الشيخ عنه أيضاً في الآية قال: وراء كل ملك ملك. وأخرج ابن أبي حاتم عن الشعبي قال: كان ألف مردفين وثلاثة آلاف منزلين، فكانوا أربعة آلاف، وهم مدد المسلمين في ثغورهم. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "مردفين" قال: مجدين. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة قال: متتابعين أمدهم الله بألف ثم بثلاثة، ثم أكملهم خمسة آلاف "وما جعله الله إلا بشرى" لكم "ولتطمئن به قلوبكم" قال: يعني نزول الملائكة. قال: وذكر لنا أن عمر قال: أما يوم بدر فلا نشك أن الملائكة كانوا معنا وأما بعد ذلك فالله أعلم. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن زيد "مردفين" قال: بعضهم على أثر بعض.
قوله: 11- " إذ يغشيكم " الظرف منصوب بفعل مقدر كالذي قبله، أو بدل ثان من إذ يعدكم، أو منصوب بالنصر المذكور قبله، وقل غير ذلك مما لا وجه له، و "يغشيكم" هي قراءة نافع وأهل المدينة على أن الفاعل هو الله سبحانه، وهذه القراءة هي المطابقة لما قبلها: أعني قوله: "وما النصر إلا من عند الله" ولما بعدها أعني "وينزل عليكم" فيتشاكل الكلام ويتناسب. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو " يغشيكم " على أن الفاعل النعاس، وقرأ الباقون "يغشيكم" بفتح الغين وتشديد الشين، وهي كقراءة نافع وأهل المدينة في إسناد الفعل إلى الله، ونصب النعاس. قال مكي: والاختيار ضم الياء والتشديد، ونصب النعاس لأن بعده "أمنة منه" والهاء في منه لله فهو الذي يغشيهم النعاس، ولأن الأكثر عليه، وعلى القراءة الأولى والثالثة يكون انتصاب أمنةً على أنها مفعول له، ولا يحتاج في ذلك إلى تأويل وتكلف، لأن فاعل الفعل المعلل والعلة واحد بخلاف انتصابها على العلة، باعتبار القراءة الثانية فإنه يحتاج إلى تكلف، وأما على جعل الأمنة مصدراً فلا إشكال، يقال: أمن أمنة وأمناً وأماناً، وهذه الآية تتضمن ذكر نعمة أنعم الله بها عليهم، وهي أنهم مع خوفهم من لقاء العدو والمهابة لجانبه سكن الله قلوبهم وأمنها حتى ناموا آمنين غير خائفين، وكان هذا النوم في الليلة التي كان القتال في غدها. قيل: وفي امتنان الله عليهم بالنوم في هذه الليلة وجهان: أحدهما: أنه قواهم بالاستراحة على القتال من الغد، الثاني: أنه أمنهم بزوال الرعب من قلوبهم، وقيل: إن النوم غشيهم في حال التقاء الصفين، وقد مضى في يوم أحد نحو من هذا في سورة آل عمران. قوله: "وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به" هذا المطر كان بعد النعاس، وقيل: قبل النعاس. وحكى الزجاج أن الكفار يوم بدر سبقوا المؤمنين إلى ماء بدر، فنزلوا عليه وبقي المؤمنون لا ماء لهم، فأنزل الله المطر ليلة بدر، والذي في سيرة ابن إسحاق وغيره أن المؤمنين هم الذين سبقوا إلى ماء بدر وأنه منع قريشاً من السبق إلى الماء مطر عظيم ولم يصب المسلمين منه إلا ما شد لهم دهس الوادي وأعانهم على المسير، ومعنى "ليطهركم به" ليرفع عنكم الأحداث "ويذهب عنكم رجز الشيطان" أي وسوسته لكم بما كان قد سبق إلى قلوبهم من الخواطر التي هي منه من الخوف والفشل حتى كانت حالهم حال من يساق إلى الموت "وليربط على قلوبكم" فيجعلها صابرة قوية ثابتة في مواطن الحرب، والضمير في "به" من قوله: "ويثبت به الأقدام" راجع إلى الماء الذي أنزله الله: أي يثبت بهذا الماء الذي أنزله عليكم عند الحاجة إليه أقدامكم في مواطن القتال، وقيل: الضمير راجع إلى الربط المدلول عليه بالفعل.
قوله: 12- "إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم" الظرف منصوب بفعل محذوف خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم لأنه لا يقف على ذلك سواه: أي واذكر يا محمد وقت إيحاء ربك إلى الملائكة، وقيل: هو بدل من "إذ يعدكم" كما تقدم ولكنه يأبى ذلك أن هذا لا يقف عليه المسلمون فلا يكون من جملة النعم التي عددها الله عليهم، وقيل: العامل فيه يثبت فيكون المعنى: يثبت الأقدام وقت الوحي وليس لهذا التقييد معنى، وقيل: العامل فيه "ليربط" ولا وجه لتقييد الربط على القلوب بوقت الإيحاء، ومعنى الآية: أني معكم بالنصر والمعونة، فعلى قراءة الفتح للهمزة هو مفعول "يوحي" وعلى قراءة الكسر يكون بتقدير القول. ومعنى "فثبتوا الذين آمنوا" بشروهم بالنصر أو ثبتوهم على القتال بالحضور معهم وتكثير سوادهم، وهذا أمر منه سبحانه للملائكة الذين أوحى إليهم بأنه معهم، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها. قوله: "سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب" قد تقدم بيان معنى إلقاء الرعب في آل عمران، قيل: هذه الجملة تفسير لقوله: "أني معكم". قوله: "فاضربوا فوق الأعناق" قيل: المراد الأعناق أنفسها و "فوق" زائدة: قاله الأخفش وغيره. وقال محمد بن يزيد: هذا خطأ، لأن فوق يفيد معنى فلا يجوز زيادتها ولكن المعنى أنه أبيح لهم ضرب الوجوه وما قرب منها، وقيل: المراد بما فوق الأعناق: الرؤوس، وقيل: المراد بفوق الأعناق: أعاليها لأنها المفاصل الذي يكون الضرب فيها أسرع إلى القطع. قيل: وهذا أمر للملائكة وقيل: للمؤمنين، وعلى الأول قيل: هو تفسير لقوله: "فثبتوا الذين آمنوا". قوله: "واضربوا منهم كل بنان". قال الزجاج: واحد البنان بنانة، وهي هنا الأصابع وغيرها من الأعضاء، والبنان مشتق من قولهم أبن الرجل بالمكان إذا أقام به، لأنه يعمل بها ما يكون للإقامة والحياة، وقيل المراد بالبنان هنا: أطراف الأصابع من اليدين والرجلين وهو عبارة عن الثبات في الحرب، فإذا ضربت البنان تعطل من المضروب القتال بخلاف سائر الأعضاء. قال عنترة: وقد كان في الهيجاء يحمي ذمارها ويضرب عند الكرب كل بنان وقال عنترة أيضاً: وإن الموت طوع يدي إذا ما وطئت بنانها بالهنـــداوي قال ابن فارس: البنان الأصابع، ويقال: الأطراف.
والإشارة بقوله: 13- "ذلك" إلى ما وقع عليهم من القتل ودخل في قلوبهم من الرعب، وهو مبتدأ، و "بأنهم شاقوا الله ورسوله" خبره: أي ذلك بسبب مشاقهم، والشقاق أصله أن يصير كل واحد من الخصمين في شق، وقد تقدم تحقيق ذلك "ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب" له يعاقبه بسبب، ما وقع منه من الشقاق.
قوله: 14- "ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار" الإشارة إلى ما تقدم من العقاب أو الخطاب هنا للكافرين كما أن الخطاب في قوله: "ذلكم" للنبي صلى الله عليه وسلم أو لكل من يصلح للخطاب. قال الزجاج: ذلكم رفع بإضمار الأمر أو القصة: أي الأمر أو القصة ذلكم فذوقوه. قال: ويجوز أن يضمر واعلموا. قال في الكشاف: ويجوز أن يكون نصباً على: عليكم ذلكم فذوقوه، كقولك: زيداً فاضربه. قال أبو حيان: لا يجوز تقدير عليكم لأنه اسم فعل، وأسماء الأفعال لا تضمر، وتشبيهه بزيداً فاضربه غير صحيح لأنه لم يقدر فيه عليك، بل هو من باب الاشتغال، وجملة "وأن للكافرين عذاب النار" معطوفة على ما قبلها فتكون الإشارة على هذا إلى العقاب العاجل الذي أصيبوا به ويكون "وأن للكافرين عذاب النار" إشارة إلى العقاب الآجل. وقد أخرج أبو يعلى والبيهقي في الدلائل عن علي قال: ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد، ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي تحت شجرة حتى أصبح. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن شهاب في الآية قال: بلغنا أن هذه الآية أنزلت في المؤمنين يوم بدر فيما أغشاهم الله من النعاس أمنة منه. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "أمنة منه" قال: أمناً من الله. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "أمنة منه" قال: رحمة منه أمنة من العدو. وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال النعاس في الرأس، والنوم في القلب. وأخرج عبد بن حميد عنه أيضاً قال: كان النعاس أمنة من الله، وكان النعاس نعاسين: نعاس يوم بدر، ونعاس يوم أحد. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن سعيد بن المسيب في قوله: "وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به" قال: طش كان يوم بدر. وأخرج هؤلاء عن مجاهد في الآية قال: المطر أنزل الله عليهم قبل النعاس فأطفأ بالمطر الغبار، والتبدت به الأرض، وطابت به أنفسهم، وثبتت به أقدامهم. وأخرج ابن أبي حاتم وابن إسحاق عن عروة بن الزبير قال: بعث الله السماء وكان الوادي دهساً، وأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ما لبد الأرض ولم يمنعهم السير، وأصاب قريشاً مالم يقدروا على أن يرتحلوا معه. وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن عباس قال: إن المشركين غلبوا المسلمين في أول أمرهم على الماء، فصحا المسلمون وصلوا مجنبين محدثين، فألقى الشيطان في قلوبهم الحزن وقال: أتزعمون أن فيكم نبياً وأنكم أولياء الله وتصلون مجنبين محدثين؟ فأنزل الله من السماء ماء فسال عليهم الوادي ماء، فشرب المسلمون وتطهروا، وثبتت أقدامهم، وذهبت وسوسته. وقد قدمنا أن المشهور في كتب السير المعتمدة أن المشركين لم يغلبوا المؤمنين على الماء بل المؤمنون هم الذين غلبوا عليه من الابتداء، وهذا المروي عن ابن عباس في إسناده العوفي، وهو ضعيف جداً. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "رجز الشيطان" قال: وسوسته. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "وليربط على قلوبكم" قال: بالبصر "ويثبت به الأقدام" قال: كان بطن الوادي دهاساً، فلما مطروا اشتدت الرملة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله: "ويثبت به الأقدام" قال: حتى تشتد على الرمل وهو كهيئة الأرض. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ وابن مردويه عن علي قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي تلك الليلة ويقول:اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد وأصابهم تلك الليلة مطر شديد فذلك قوله: "ويثبت به الأقدام"". وأخرج ابن أبي شيبة عن مجاهد قال: لم تقاتل الملائكة إلا يوم بدر. وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف قال: قال لي أبي: يا بني لقد رأيتنا يوم بدر وإن أحدثا ليشير بسيفه إلى رأس المشرك فيقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه السيف. وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس قال: كان الناس يوم بدر يعرفون قتلى الملائكة ممن قتلوهم بضرب على الأعناق وعلى البنان مثل سمة النار قد احترق به. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله: "فاضربوا فوق الأعناق" يقول: الرؤوس. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن عطية "فاضربوا فوق الأعناق" قال: اضربوا الأعناق. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الضحاك "فاضربوا فوق الأعناق" يقول: اضربوا الرقاب. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "واضربوا منهم كل بنان" قال: يعني بالبنان الأطراف. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عطية "واضربوا منهم كل بنان" قال: كل مفصل.
الزحف: الدنو قليلاً قليلاً، وأصله الاندفاع على الإلية، ثم سمي كل ماش في الحرب إلى آخر زاحفاً. والتزاحف: التداني والتقارب، تقول: زحف إلى العدو زحفاً، وازدحف القوم: أي مشى بعضهم إلى بعض وانتصاب زحفاً إما على أنه مصدر لفعل محذوف: أي تزحفون زحفاً، أو على أنه حال من المؤمنين: أي حال كونكم زاحفين إلى الكفار، أو حال من الذين كفروا: أي حال كون الكفار زاحفين إليكم، أو حال من الفريقين أي متزاحفين "فلا تولوهم الأدبار" نهى الله المؤمنين أن ينهزموا عن الكفار إذا لقوهم وقد دب بعضهم إلى بعض للقتال، فظاهر هذه الآية العموم لكل المؤمنين في كل زمن، وعلى كل حال إلا حالة التحرف والتحيز. وقد روي عن عمر وابن عمر وابن عباس وأبي هريرة وأبي سعيد وأبي نضرة وعكرمة ونافع والحسن وقتادة ويزيد وابن أبي حبيب والضحاك أن تحريم الفرار من الزحف في هذه الآية مختص بيوم بدر، وأن أهل بدر لم يكن لهم أن ينحازوا، ولو انحازوا لانحازوا إلى المشركين، إذ لم يكن في الأرض يومئذ مسلمون غيرهم ولا لهم فئة إلا النبي صلى الله عليه وسلم فأما بعد ذلك فإن بعضهم فئة لبعض، وبه قال أبو حنيفة.
قالوا: ويؤيده قوله: 16- "ومن يولهم يومئذ دبره" فإنه إشارة إلى يوم بدر، وقيل: إن هذه الآية منسوخة بآية الضعف. وذهب جمهور العلماء إلى أن هذه الآية محكمة عامة غير خاصة، وأن الفرار من الزحف محرم، ويؤيد هذا أن هذه الآية نزلت بعد انقضاء الحرب في يوم بدر. وأجيب عن قول الأولين بأن الإشارة في "يومئذ" إلى يوم بدر بأن الإشارة إلى يوم الزحف كما يفيده السياق، ولا منافاة بين هذه الآية وآية الضعف، بل هذه الآية مقيدة بها فيكون الفرار من الزحف محرماً بشرط ما بينه الله في آية الضعف، ولا وجه لما ذكروه من أنه لم يكن في الأرض يوم بدر مسلمون غير من حضرها فقد كان في المدينة إذ ذاك خلق كثير لم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالخروج، لأنه صلى الله عليه وسلم ومن خرج معه لم يكونوا يرون في الابتداء أنه سيكون قتال. ويؤيد هذا ورود الأحاديث الصحيحة المصرحة بأن الفرار من الزحف من جملة الكبائر كما في حديث: "اجتنبوا السبع الموبقات، وفيه: والتوالي يوم الزحف" ونحوه من الأحاديث وهذا البحث تطول ذيوله وتتشعب طرقه، وهو مبين في مواطنه. قال ابن عطية: والأدبار جمع دبر، والعبارة بالدبر في هذه الآية متمكنة في الفصاحة لما في ذلك من الشناعة على الفار والذم له. قوله: "إلا متحرفاً لقتال" التحرف: الزوال عن جهة الاستواء، والمراد به هنا التحرف من جانب إلى جانب في المعركة طلباً لمكائد الحرب وخدعاً للعدو، وكمن يوهم أنهم منهزم ليتبعه العدو فيكر عليه ويتمكن منه، ونحو ذلك من مكائد الحرب فإن الحرب خدعة. قوله: "أو متحيزاً إلى فئة" أي إلى جماعة من المسلمين غير الجماعة المقابلة للعدو وانتصاب متحرفاً ومتحيزاً على الاستثناء من المولين: أي ومن يولهم دبره إلا رجلاً منهم متحرفاً أو متحيزاً ويجوز انتصابهما على الحال، ويكون حرف الاستثناء لغواً لا عمل له، وجملة "فقد باء بغضب من الله" جزاء للشرط. والمعنى: من ينهزم ويفر من الزحف فقد رجع بغضب كائن من الله إلا المتحرف والمتحيز "ومأواه جهنم" أي المكان الذي يأوي إليه هو النار فقراره أوقعه إلى ما هو أشد بلاء مما فر منهم وأعظم عقوبة. والمأوى: ما يأوي إليه الإنسان "وبئس المصير" ما صار إليه من عذاب النار. وقد اشتملت هذه الآية على هذا الوعيد الشديد لمن يفر عن الزحف وفي ذلك دلالة على أنه من الكبائر الموبقة.
قوله: 17- "فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم" الفاء جواب شرط مقدر: أي إذا عرفتم ما قصه الله عليكم من إمداده لكم بالملائكة وإيقاع الرعب في قلوبهم فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم بما يسره لكم من الأسباب الموجبة للنصر. قوله: "وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى". اختلف المفسرون في هذا الرمي على أقوال: فروي عن مالك أن المراد به ما كان منه صلى الله عليه وسلم في يوم حنين، فإنه رمى المشركين بقبضة من حصباء الوادي فأصابت كل واحد منهم، وقيل: المراد به الرمية التي رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بن خلف بالحربة في عنقه فانهزم ومات منها، وقيل: المراد به السهم الذي رمى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حصن خيبر، فسار في الهواء حتى أصاب ابن أبي الحقيق وهو على فراشه وهذه الأقوال ضعيفة، فإن الآية نزلت عقب وقعة بدر. وأيضاً المشهور في كتب السير والحديث في قتل ابن أبي الحقيق أنه وقع على صورة غير هذه الصورة. والصحيح كما قال ابن إسحاق وغيره أن المراد بالرمي المذكور في هذه الآية هو ما كان منه صلى الله عليه وسلم في يوم بدر، فإنه أخذ قبضة من تراب فرمى بها في وجوه المشركين فأصابت كل واحد منهم ودخلت في عينيه ومنخريه وأنفه. قال ثعلب: المعنى "وما رميت" الفزع والرعب في قلوبهم "إذ رميت" بالحصباء فانهزموا "ولكن الله رمى" أي أعانك وأظفرك، والعرب تقول: رمى الله لك: أي أعانك وأظفرك وصنع لك. وقد حكى مثل هذا أبو عبيدة في كتاب المجاز. وقال محمد بن يزيد المبرد: المعنى "وما رميت" بقوتك "إذ رميت" ولكنك بقوة الله رميت، وقيل المعنى: إن تلك الرمية بالقبضة من التراب التي رميتها لم ترمها أنت على الحقيقة، لأنك لو رميتها ما بلغ أثرها إلا ما يبلغه رمي البشر، ولكنها كانت رمية الله حيث أثرت ذلك الأثر العظيم، فأثبت الرمية لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأن صورتها وجدت منه، ونفاها عنه لأن أثرها الذي لا يطيقه البشر فعل الله عز وجل فكأن الله فاعل الرمية على الحقيقة، وكأنها لم توجد من رسول الله صلى الله عليه وسلم اصلاً هكذا في الكشاف. قوله: "وليبلي المؤمنين منه بلاء حسناً" البلاء هاهنا النعمة، والمعنى: ولينعم على المؤمنين إنعاماً جميلاً، واللام متعلقة بمحذوف: أي وللإنعام عليهم بنعمه الجميلة فعل ذلك لا لغيره، أو الواو عاطفة لما بعدها على علة مقدرة قبلها: أي ولكن الله رمى ليمحق الكافرين وليبلي المؤمنين منه بلاء حسناً "إن الله سميع عليم" لدعائهم عليم بأحوالهم.
والإشارة بقوله ذلكم إلى البلاء الحسن، وهو في محل رفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف: أي الغرض 18- "ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين" أي إن الغرض منه سبحانه بما وقع مما حكته الآيات السابقة إبلاء المؤمنين وتوهين كيد الكافرين، وقيل المشار إليه القتل والرمي. وقد قرئ بتشديد الهاء وتخفيفها مع التنوين. وقرأ الحسن بتخفيف الهاء مع الإضافة. والكيد: المكر، وقد تقدم بيانه. وقد أخرج البخاري في تاريخه والنسائي وابن أبي حاتم وابن مردويه عن نافع أنه سأل ابن عمر قال: إنا قوم لا نثبت عند قتال عدونا ولا ندري من الفئة أمامنا أو عسكرنا؟ فقال لي: الفئة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إن الله يقول: "إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم الأدبار" قال: إنما نزلت هذه الآية في أهل بدر لا قبلها ولا بعدها. وأخرج عبد بن حميد وأبو داود والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس في ناسخه وأبو الشيخ والحاكم وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري في قوله: "ومن يولهم يومئذ دبره" الآية قال: إنها كانت لأهل بدر خاصة. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب قال: لا تغرنكم هذه الآية فإنما كانت يوم بدر وأنا فئة لكل مسلم. وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال: نزلت في أهل بدر خاصة ما كان لهم أن ينهزموا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتركوه. وقد روى اختصاص هذه الآية بأهل بدر عن جماعة من التابعين ومن بعدهم وقد قدمنا الإشارة إلى ذلك. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير في قوله: "إلا متحرفاً لقتال" يعني مستطرداً يريد الكرة على المشركين "أو متحيزاً إلى فئة" يعني أو ينحاز إلى أصحابه من غير هزيمة "فقد باء بغضب من الله" يقول: استوجبوا سخطاً من الله "ومأواه جهنم وبئس المصير" فهذا يوم بدر خاصة كان شديداً على المسلمين يومئذ ليقطع دابر الكافرين وهو أول قتال قاتل المشركين من أهل مكة. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الضحاك قال: المتحرف المتقدم من أصحابه أن يرى عورة من العدو فيصيبها. والمتحيز: الفار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك من فر اليوم إلى أميره وأصحابه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن عطاء بن أبي رباح في قوله: "ومن يولهم يومئذ دبره" قال: هذه الآية منسوخة بالآية التي في الأنفال "الآن خفف الله عنكم" الآية. وأخرج سعيد بن منصور وابن سعد وابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد والبخاري في الأدب المفرد واللفظ له، وأبو داود والترمذي وحسنه، وابن ماجه وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر قال:" كنا في غزاة فحاص الناس حيصة، قلنا: كيف نلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد فررنا من الزحف وبؤنا بالغضب فأتينا رسول الله قبل صلاة الفجر، فخرج فقال:من القوم؟ فقلنا: نحن الفرارون، فقال: لا، بل أنتم العكارون، فقبلنا يده فقال: أنا فئتكم وأنا فئة المسلمين، ثم قرأ: "إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة"". وقد روي في تحريم الفرار من الزحف، وأنه من الكبائر أحاديث، وورد عن جماعة من الصحابة أنه من الكبائر كما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس. وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عمر. وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "فلم تقتلوهم" قال لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حين قال: هذا قتلت وهذا قتلت "وما رميت إذ رميت" قال لمحمد صلى الله عليه وسلم حين حصب الكفار. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في قوله: "وما رميت إذ رميت" قال: رماهم يوم بدر بالحصباء. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن حكيم بن حزام قال:" لما كان يوم بدر سمعنا صوتاً من السماء إلى الأرض كأنه صوت حصاة وقعت في طست، ورمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتلك الحصباء وقال:شاهت الوجوه فانهزمنا، فذلك قوله تعالى: "وما رميت إذ رميت" الآية". وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن جابر قال: سمعت صوت حصيات وقعن من السماء يوم بدر كأنهن وقعن في طست، فلما اصطف الناس أخذهن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرمى بهن في وجوه المشركين فانهزموا، فذلك قوله: "وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى". وأخرج الطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه "عن ابن عباس في قوله: "وما رميت إذ رميت" قال: قال رسول الله لعلي:ناولي قبضة من حصباء، فناوله فرمى بها في وجوه القوم فما بقي أحد من القوم إلا امتلأت عيناه عن الحصباء فنزلت هذه الآية: "وما رميت إذ رميت"". وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب قال:" لما كان يوم أحد أخذ أبي بن خلف يركض فرسه حتى دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم واعترض رجال من المسلمين لأبي بن خلف ليقتلوه، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:استأخروا، فاستأخروا فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حربته في يده فرمى بها أبي بن خلف وكسر ضلعاً من أضلاعه، فرجع أبي بن خلف إلى أصحابه ثقيلاً، فاحتملوه حين ولوا قافلين فطفقوا يقولون لا بأس، فقال أبي حين قالوا له ذلك: والله لو كانت بالناس لقتلتهم، ألم يقل إني أقتلك إن شاء الله، فانطلق به أصحابه ينعشونه حتى مات ببعض الطريق فدفنوه". قال ابن المسيب: وفي ذلك أنزل الله "وما رميت إذ رميت". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب والزهري نحوه، وإسناده صحيح إليهما، وقد أخرجه الحاكم في المستدرك. قال ابن كثير: وهذا القول عن هذين الإمامين غريب جداً، ولعلهما أرادا أن الآية تتناولهما بعمومهما، وهكذا قال فيما قاله عبد الرحمن بن جبير كما سيأتي. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن عبد الرحمن بن جبير: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم ابن أبي الحقيق دعا بقوس فرمى بها الحصن، فأقبل السهم حتى قتل ابن أبي الحقيق في فراشه، فأنزل الله: "وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى". وأخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم عن عروة بن الزبير في قوله: "ولكن الله رمى" أي لم يكن ذلك برميتك لولا الذي جعل الله من نصرك وما ألقى في صدور عدوك حتى هزمهم "وليبلي المؤمنين منه بلاء حسناً" أي ليعرف المؤمنين من نعمته عليهم في إظهارهم على عدوهم مع كثرة عدوهم وقلة عددهم ليعرفوا بذلك حقه ويشكروا بذلك نعمته.
الاستفتاح: طلب النصر، وقد اختلف في المخاطبين بالآية من هم؟ فقيل: إنها خطاب للكفار تهكماً بهم، والمعنى: إن تستنصروا الله على محمد فقد جاءكم النصر، وقد كانوا عند خروجهم من مكة سألوا الله أن ينصر أحق الطائفتين بالنصر فتهكم الله بهم، وسمى ما حل بهم من الهلاك نصراً، ومعنى بقية الآية على هذا القول "وإن تنتهوا" عما كنتم عليه من الكفر والعداوة لرسول الله "فهو" أي الانتهاء "خير لكم وإن تعودوا" إلى ما كنتم عليه من الكفر والعداوة "نعد" بتسليط المؤمنين عليكم ونصرهم كما سلطناهم ونصرناهم في يوم بدر "ولن تغني عنكم فئتكم" أي جماعتكم "شيئاً ولو كثرت" أي لا تغني عنكم في حال من الأحوال ولو في حال كثرتها، ثم قال: "وأن الله مع المؤمنين" ومن كان الله معه فهو المنصور ومن كان الله عليه فهو المخذول. قرئ بكسر إن وفتحها فالكسر على الاستئناف، والفتح على تقدير: ولأن الله مع المؤمنين فعل ذلك. وقيل: إن الآية خطاب للمؤمنين، والمعنى إن تستنصروا الله فقد جاءكم النصر في يوم بدر، وإن تنتهوا عن مثل ما فعلتموه من أخذ الغنائم وفداء الأسرى قبل الإذن لكم بذلك فهو خير لكم، وإن تعودوا إلى مثل ذلك نعد إلى توبيخكم كما في قوله: "لولا كتاب من الله سبق" الآية، ولا يخفى أنه يأبى هذا القول معنى "ولن تغني عنكم فئتكم شيئاً" ويأباه أيضاً "وأن الله مع المؤمنين" وتوجيه ذلك لا يمكن إلا بتكلف وتعسف وقيل: إن الخطاب في "إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح" للمؤمنين وما بعده للكافرين، ولا يخفى ما في هذا من تفكيك النظم وعود الضمائر الجارية في الكلام على نمط واحد إلى طائفتين مختلفتين. وقد أخرج ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه وابن منده والحاكم وصححه والبيهقي في الدلائل عن ابن شهاب عن عبد الله بن ثعلبة بن صغير أن أبا جهل قال حين التقى القوم: اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لا نعرف فأحنه الغداة، فكان ذلك استفتاحاً منه فنزلت "إن تستفتحوا" الآية. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عطية قال: قال أبو جهل يوم بدر: اللهم انصر أهدى الفئتين، وأفضل الفئتين، وخير الفئتين، فنزلت الآية. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس "إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح" قال: كفار قريش في قولهم: ربنا افتح بيننا وبين محمد وأصحابه، ففتح بينهم يوم بدر. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن عكرمة في قوله: "إن تستفتحوا" قال: إن تستقضوا فقد جاءكم القضاء في يوم بدر. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله: "وإن تنتهوا" قال: عن قتال محمد صلى الله عليه وسلم "وإن تعودوا نعد" قال: إن تستفتحوا الثانية أفتح لمحمد "وأن الله مع المؤمنين" قال: مع محمد وأصحابه. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة "وإن تعودوا نعد" يقول: نعد لكم بالأسر والقتل.
أمر الله سبحانه المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله ونهاهم عن التولي عن رسوله، فالضمير في 20- "عنه" عائد إلى الرسول، لأن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي من طاعة الله، و "من يطع الرسول فقد أطاع الله" ويحتمل أن يكون هذا الضمير راجعاً إلى الله وإلى رسوله كما في قوله: "والله ورسوله أحق أن يرضوه" وقيل: الضمير راجع إلى الأمر الذي دل عليه أطيعوا، وأصل تولوا تتولوا، فطرحت إحدى التاءين، هذا تفسير الآية على ظاهر الخطاب للمؤمنين، وبه قال الجمهور، وقيل: إنه خطاب للمنافقين، والمعنى: يا أيها الذين آمنوا بألسنتهم فقط. قال ابن عطية: وهذا وإن كان محتملاً على بعد فهو ضعيف جداً، لأن الله وصف من خاطبه في هذه الآية بالإيمان وهو التصديق، والمنافقون لا يتصفون من التصديق بشيء، وأبعد من هذا من قال: الخطاب لبني إسرائيل، فإنه أجنبي من الآية، وجملة "وأنتم تسمعون" في محل نصب على الحال، والمعنى: وأنتم تسمعون ما يتلى عليكم من الحجج والبراهين وتصدقون بها ولستم كالصم والبكم.
21- "ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا" وهم المشركون أو المنافقون أو اليهود أو الجميع من هؤلاء، فإنهم يسمعون بآذانهم من غير فهم ولا عمل، فهم كالذي لم يسمع أصلاً لأنه لم ينتفع بما سمعه.
ثم أخبر سبحانه بـ 22- "إن شر الدواب" أي ما دب على الأرض "عند الله" أي في حكمه "الصم البكم" أي الذين لا يسمعون ولا ينطقون، وصفوا بذلك مع كونهم ممن يسمع وينطق لعدم انتفاعهم بالسمع والنطق "الذين لا يعقلون" ما فيه النفع لهم فيأتونه، وما فيه الضرر عليهم فيجتنبونه فهم شر الدواب عند الله، لأنها تميز بعض تمييز، وتفرق بين ما ينفعها ويضرها.
23- "ولو علم الله فيهم" أي في هؤلاء الصم البكم "خيراً لأسمعهم" جواب كل ما سألوا عنه، وقيل "لأسمعهم" كلام الموتى الذين طلبوا إحياءهم لأنهم طلبوا إحياء قصي بن كلاب وغيره ليشهدوا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم "ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون" لأنه قد سبق في علمه أنهم لا يؤمنون وجملة " وتراهم يعرضون " في محل نصب على الحال. وقد أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "وهم لا يسمعون" قال: غاضبون. وأخرج ابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب في قوله: "إن شر الدواب عند الله" الآية قال: إن هذه الآية نزلت في فلان وأصحاب له. وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد والبخاري وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "إن شر الدواب عند الله" قال: هم نفر من قريش من بني عبد الدار. وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله: "الصم البكم الذين لا يعقلون" قال: لا يتبعون الحق. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال: نزلت هذه الآية في النضر بن الحرث وقومه، ولعله المكنى عنه بفلان فيما تقدم من قول علي رضي الله عنه. وأخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم عن عروة بن الزبير في قوله: "ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم" أي لأنفذ لهم قولهم الذي قالوا بألسنتهم، ولكن القلوب خالفت ذلك منهم. وأخرج أبو الشيخ عن عكرمة في الآية قال: قالوا نحن صم عما يدعونا إليه محمد لا نسمعه، بكم لا نجيبه فيه بتصديق قتلوا جميعاً بأحد، وكانوا أصحاب اللواء يوم أحد.
الأمر هنا بالاستجابة مؤكد لما سبق من الأمر بالطاعة، ووحد الضمير هنا حيث قال: "إذا دعاكم" كما وحده في قوله: " ولا تتولوا " وقد قدمنا الكلام في وجه ذلك، والاستجابة: الطاعة. قال أبو عبيدة: معنى استجيبوا: أجيبوا، وإن كان استجاب يتعدى باللام، وأجاب بنفسه كما في قوله: "يا قومنا أجيبوا داعي الله"، وقد يتعدى استجاب بنفسه كما قول الشاعر: وداع دعا يا من يجيب إلى الندى فلم يستجبه عند ذاك مجيب "إذا دعاكم لما يحييكم" اللام متعلقة بقوله: "استجيبوا" أي استجيبوا لما يحييكم إذا دعاكم، ولا مانع من أن تكون متعلقة بدعا: أي إذا دعاكم إلى ما فيه حياتكم من علوم الشريعة، فإن العلم حياة كما أن الجهل موت، فالحياة هنا مستعارة للعلم. قال الجمهور من المفسرين: المعنى استجيبوا للطاعة وما تضمنه القرآن من أوامر ونواهي ففيه الحياة الأبدية والنعمة السرمدية، وقيل: المراد بقوله: "لما يحييكم" الجهاد فإنه سبب الحياة في الظاهر، لأن العدو إذا لم يغز غزا، ويستدل بهذا الأمر بالاستجابة على أنه يجب على كل مسلم إذا بلغه قول الله أو قول رسوله في حكم من الأحكام الشرعية أن يبادر إلى العمل به كائناً ما كان ويدع ما خالفه من الرأي وأقوال الرجال. وفي هذه الآية الشريفة أعظم باعث على العمل بنصوص الأدلة وترك التقيد بالمذاهب، وعدم الاعتداد بما يخالف ما في الكتاب والسنة كائناً ما كان. قوله: "واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه" قيل معناه: بادروا إلى الاستجابة قبل أن لا تتمكنوا منها بزوال القلوب التي تعقلون بها بالموت الذي كتبه الله عليكم، وقيل معناه: إنه خاف المسلمون يوم بدر كثرة العدو، فأعلمهم الله أنه يحول بين المرء وقلبه بأن يبدلهم بعد الخوف أمناً، ويبدل عدوهم من الأمن خوفاً، وقيل: هو من باب التمثيل لقربه سبحانه من العبد كقوله: "ونحن أقرب إليه من حبل الوريد" ومعناه: أنه مطلع على ضمائر القلوب لا تخفى عليه منها خافية. واختار ابن جرير أن هذا من باب الإخبار من الله عز وجل بأنه أملك لقلوب عباده منهم، وأنه يحول بينهم وبينها إذا شاء حتى لا يدرك الإنسان شيئاً إلا بمشيئته عز وجل، ولا يخفاك أنه لا مانع من حمل الآية على جميع هذه المعاني "وأنه إليه تحشرون" معطوف على " أن الله يحول بين المرء وقلبه " وأنكم محشورون إليه وهو مجازيكم بالخير خيراً، وبالشر شراً. قال الفراء: ولو استأنفت فكسرت همزة "إنه" لكان صواباً، ولعل مراده أن مثل هذا جائز في العربية.
قوله: 25- "واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة" أي اتقوا فتنة تتعدى الظالم فتصيب الصالح والطالح، ولا تختص إصابتها بمن يباشر الظلم منكم. وقد اختلف النحاة في دخول هذه النون المؤكدة في "تصيبن" فقال الفراء: هو بمنزلة قولك: انزل عن الدابة لا تطرحنك فهو جواب الأمر بلفظ النهي: أي إن تنزل عنها لا تطرحنك، ومثله قوله تعالى: "ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده" أي إن تدخلوا لا يحطمنكم، فدخلت النون لما فيه من معنى الجزاء. وقال المبرد: إنه نهي بعد أمر. والمعنى: النهي للظالمين: أي لا يقربن الظلم، ومثله ما روي عن سيبويه: لا أرينك هاهنا، فإن معناه: لا تكن هاهنا، فإن من كان هاهنا رأيته. وقال الجرجاني: إن لا تصيبن نهي في موضع وصف لفتنة، وقرأ علي وزيد بن أبي ثابت وأبي وابن مسعود " لا تصيبن " على أن اللام جواب لقسم محذوف، والتقدير: اتقوا فتنة والله لتصيبن الذين ظلموا منكم خاصة، فيكون معنى هذه القراءة مخالفاً لمعنى قراءة الجماعة، لأنها تفيد أن الفتنة تصيب الظالم خاصة بخلاف قراءة الجماعة. "واعلموا أن الله شديد العقاب" ومن شدة عقابه أنه يصيب بالعذاب من لم يباشر أسبابه، وقد وردت الآيات القرآنية بأنه لا يصاب أحد إلا بذنبه، ولا يعذب إلا بجنايته، فيمكن حمل ما في هذه الآية على العقوبات التي تكون بتسليط العباد بعضهم على بعض، ويمكن أن تكون هذه الآية خاصة بالعقوبات العامة، والله أعلم، ويمكن أن يقال: إن الذين لم يظلموا قد تسببوا للعقوبة بأسباب كترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فتكون الإصابة المتعدية للظالم إلى غيره مختصة بمن ترك ما يجب عليه عند ظهور الظلم. وقد أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "إذا دعاكم لما يحييكم" قال: للحق. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في الآية: قال هو هذا القرآن فيه الحياة والثقة والنجاة والعصمة في الدنيا والآخرة. وأخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم عن عروة بن الزبير في قوله: "إذا دعاكم لما يحييكم" أي للحرب التي أعزكم الله بها بعد الذل، وقواكم بها بعد الضعف، ومنعكم بها من العذاب بعد القهر منهم لكم، وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي سعيد بن المعلى قال:" كنت أصلي في المسجد فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجبه، ثم أتيته فقلت: يا رسول الله إني كنت أصلي، فقال:ألم يقل الله تعالى: "استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم"". الحديث، وفيه دليل على ما ذكرنا من أن الآية تعم كل دعاء من الله أو من رسوله. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وصححه من طرق عن ابن عباس في قوله: "واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه" قال: يحول بين المؤمن وبين الكفر ومعاصي الله، ويحول بين الكافر وبين الإيمان وطاعة الله. وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس في الآية قال: علمه يحول بين المرء وقلبه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن مجاهد في الآية قال: يحول بين المرء وقلبه حتى يتركه لا يعقل. وأخرج عبد بن حميد عن الحسن في الآية قال: يحول بين المرء وقلبه حتى يتركه لا يعقل. وأخرج عبد بن حميد عن الحسن في الآية قال: في القرب منه. وأخرج أحمد والبزار وابن المنذر وابن مردويه وابن عساكر عن مطرف قال: قلت للزبير يا أبا عبد الله ضيعتم الخليفة حتى قتل، ثم جئتم تطلبون بدمه. قال الزبير: إنا قرأنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان "واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة" ولم نكن نحسب أنا أهلها حتى وقعت فينا حيث وقعت. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال: قرأ الزبير "واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة" قال: البلاء والأمر الذي هو كائن. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن الحسن في الآية قال: نزلت في علي وعثمان وطلحة والزبير. وأخرج عبد بن حميد عن الضحاك قال: نزلت في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خاصة. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن السدي قال: نزلت في أهل بدر خاصة فأصابتهم يوم الجمل فاقتتلوا، فكان من المقتولين طلحة والزبير وهما من أهل بدر. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في الآية قال: تصيب الظالم والصالح عامة. وأخرج أبو الشيخ عن مجاهد مثله. وأخرج أبو الشيخ عن مجاهد في الآية قال: هي مثل "يحول بين المرء وقلبه" حتى يتركه لا يعقل. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال: أمر الله المؤمنين أن لا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم الله بالعذاب وقد وردت الأحاديث الصحيحة الكثيرة بأن هذه الأمة إذا لم يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر عمهم الله بعذاب من عنده.
الخطاب بقوله: 26- "واذكروا إذ أنتم قليل" للمهاجرين: أي اذكروا وقت قلتكم، و "مستضعفون" خبر ثاني للمبتدأ، والأرض: هي أرض مكة، والخطف: الأخذ بسرعة، والمراد بالناس: مشركو قريش، وقيل: فارس والروم "فآواكم" يقال: آوى إليه بالمد وبالقصر بمعنى: انضم إليه، فالمعنى: ضمكم الله إلى المدينة أو إلى الأنصار "وأيدكم بنصره" أي قواكم بالنصر في مواطن الحرب التي منها يوم بدر، أو قواكم بالملائكة يوم بدر "ورزقكم من الطيبات" التي من جملتها الغنائم "لعلكم تشكرون" أي إرادة أن تشكروا هذه النعم التي أنعم بها عليكم.
والخون أصله كما في الكشاف: النقص كما أن الوفاء التمام، ثم استعمل في ضد الأمانة والوفاء، لأنك إذا خنت الرجل في شيء فقد أدخلت عليه النقصان، وقيل معناه: الغدر وإخفاء الشيء. ومنه قوله تعالى: "يعلم خائنة الأعين" نهاهم الله عن أن يخونوه بترك شيء مما افترضه عليهم، أو يخونوا رسوله بترك شيء مما أمهنهم عليه، أو بترك شيء مما سنه لهم، أو يخونوا شيئاً من الأمانات التي اؤتمنوا عليها، وسميت أمانات لأنه يؤمن معها من منع الحق، مأخذوة من الأمن، وجملة 27- "وأنتم تعلمون" في محل نصب على الحال: أي وأنتم تعلمون أن ذلك الفعل خيانة فتفعلون الخيانة عن عمد، أو أنتم من أهل العلم لا من أهل الجهل.
ثم قال: "واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة" لأنهم سبب الوقوع في كثير من الذنوب، فصاروا من هذه الحيثية محنة يختبر الله بها عباده، وإن كانوا من حيثية أخرى زينة الحياة الدنيا كما في الآية الأخرى: "وأن الله عنده أجر عظيم" فآثروا حقه على أموالكم وأولادكم ليحصل لكم ما عنده من الأجر المذكور. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: "واذكروا إذ أنتم قليل" قال: كان هذا الحي من العرب أذل الناس ذلاً، وأشقاه عيشاً، وأجوعه بطوناً، وأعراه جلوداً، وأبينه ضلالة، من عاش عاش شقياً، ومن مات منهم ردي في النار يؤكلون ولا يأكلون لا والله ما نعلم قبيلاً من حاضري الأرض يومئذ كان أشر منزلاً منهم حتى جاء الله بالإسلام، فمكن به في البلاد، ووسع به في الرزق وجعلهم به ملوكاً على رقاب الناس، وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم فاشكروا لله نعمه، فإن ربكم منعم يحب الشكر وأهل الشكر في مزيد من الله عز وجل. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله: "يتخطفكم الناس" قال: في الجاهلية بمكة "فآواكم" إلى الإسلام. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن ابي حاتم وأبو الشيخ عن وهب في قوله: "يتخطفكم الناس" قال: الناس إذ ذاك فارس والروم. وأخرج أبو الشيخ وأبو نعيم والديلمي في مسند الفردوس عن ابن عباس "عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: "واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس" قيل: يا رسول الله ومن الناس؟ قال:أهل فارس". وأخرج ابن جرير وابن ابي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله: "فآواكم" قال: إلى الأنصار بالمدينة "وأيدكم بنصره" قال: يوم بدر. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن جابر بن عبد الله "أن أبا سفيان خرج من مكة فأتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبا سفيان بمكة كذا وكذا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:إن أبا سفيان في مكان كذا وكذا فأخرجوا إليه واكتموافكتب رجل من المنافقين إلى أبي سفيان إن محمداً يريدكم فخذوا حذركم، فأنزل الله: "يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول" الآية". وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن ابي حاتم وأبو الشيخ عن عبد الله بن أبي قتادة قال: نزلت هذه الآية "لا تخونوا الله والرسول" في أبي لبابة بن عبد المنذر سألوه يوم قريظة ما هذا الأمر؟ فأشار إلى حلقه أنه الذبح فنزلت. قال أبو لبابة: ما زالت قدماي حتى علمت أني خنت الله ورسوله. وأخرج سنيد وابن جرير عن الزهري نحوه بأطول منه. وأخرج عبد بن حميد عن الكلبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا لبابة إلى قريظة وكان حليفاً لهم، فأومأ بيده أنه الذبح فنزلت. وأخرج أبو الشيخ عن السدي في هذه الآية أنها نزلت في أبي لبابة ونسختها الآية التي في براءة "وآخرون اعترفوا بذنوبهم". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "لا تخونوا الله" قال: بترك فرائضه "والرسول" بترك سننه وارتكاب معصيته "وتخونوا أماناتكم" يقول: لا تنقصوها، والأمانة: الأعمال التي ائتمن الله عليها العباد. وأخرج ابن جرير عن المغيرة بن شعبة قال: نزلت هذه الآية في قتل عثمان، ولعل مراده أن من جملة ما يدخل تحت عمومها قتل عثمان. وأخرج أبو الشيخ عن يزيد بن أبي حبيب في الآية قال: هو الإخلال بالسلاح في المغازي، ولعل مراده أن هذا مما يندرج تحت عمومها. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن مسعود قال: ما منكم من أحد إلا وهو يشتمل على فتنة، لأن الله يقول: "إنما أموالكم وأولادكم فتنة" فمن استعاذ منكم فليستعذ بالله من مضلات الفتن. وأخرج هؤلاء عن ابن زيد في الآية قال: فتنة الاختبار اختبرهم، وقرأ "ونبلوكم بالشر والخير فتنة".
جعل سبحانه التقوى شرطاً في الجعل المذكور مع سبق علمه بأنهم يتقون أو لا يتقون جرياً على ما يخاطب به الناس بعضهم بعضاً، والتقوى: اتقاء مخالفة أوامره والوقوع في مناهيه، والفرقان ما يفرق به بين الحق والباطل، والمعنى: أنه يجعل لهم من ثبات القلوب، وثقوب البصائر: وحسن الهداية ما يفرقون به بينهما عند الالتباس، وقيل: الفرقان المخرج من الشبهات والنجاة من كل ما يخافونه، ومنه قول الشاعر: ما لك من طول الأسى فرقان بعد قطين رحلوا وبانوا ومنه قول الآخر: وكيف أرجى الخلد والموت طالبي وما لي من كأس المنية فرقان وقال الفراء: المراد بالفرقان الفتح والنصر. قال ابن إسحاق: الفرقان الفصل بين الحق والباطل، وبمثله قال ابن زيد. وقال السدي: الفرقان النجاة. ويؤيد تفسير الفرقان بالمخرج والنجاة قوله تعالى: "ومن يتق الله يجعل له مخرجاً" وبه قال مجاهد ومالك بن أنس 29- "ويكفر عنكم سيئاتكم" أي يسترها حتى تكون غير ظاهرة "ويغفر لكم" ما اقترفتم من الذنوب، وقد قيل إن المراد بالسيئات الصغائر، وبالذنوب التي تغفر الكبائر، وقيل: المعنى أنه يغفر لهم ما تقدم من الذنوب وما تأخر "والله ذو الفضل العظيم" فهو المتفضل على عباده بتكفير السيئات ومغفرة الذنوب. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "يجعل لكم فرقاناً" قال: هو المخرج. وأخرج ابن جرير عنه قال: هو النجاة. وأخرج ابن جرير عن عكرمة مثله. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس قال: هو النضر.
قوله: 30- "وإذ يمكر بك الذين كفروا" الظرف معمول لفعل محذوف: أي واذكر يا محمد وقت مكر الكافرين بك أو معطوف على ما تقدم من قوله واذكروا ذكر الله رسوله هذه النعمة العظمى التي أنعم بها عليه، وهي نجاته من مكر الكافرين وكيدهم كما سيأتي بيانه "ليثبتوك" يثبتوك بالجراحات كما قال ثعلب وأبو حاتم وغيرهما، وعنه قول الشاعر: فقلت ويحكم ما في صحيفتكم قالوا الخليفة أمسى مثبتاً وجعا وقيل: المعنى ليحبسوك، يقال أثبته: إذا حبسه، وقيل: ليوثقوك، ومنه: "فشدوا الوثاق". وقرأ الشعبي: " يبيتون " من البيات. وقرئ ليثبتوك بالتشديد. "أو يخرجوك" معطوف على ما قبله: أي يخرجوك من مكة التي هي بلدك وبلد أهلك، وجملة "ويمكرون ويمكر الله" مستأنفة، والمكر: التدبير في الأمر في خفية، والمعنى: أنهم يخفون ما يعدونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم من المكايد فيجازيهم الله على ذلك ويرد كيدهم في نحورهم، وسمى ما يقع منه تعالى مكراً مشاكلة كما في نظائره "والله خير الماكرين" أي المجازين لمكر الماكرين بمثل فعلهم فهو يعذبهم على مكرهم من حيث لا يشعرون، فيكون ذلك أشد ضرراً عليهم وأعظم بلاء من مكرهم.
قوله: 31- "وإذا تتلى عليهم آياتنا" أي التي تأتيهم بها وتتلوها عليهم "قالوا" تعنتاً وتمرداً وبعداً عن الحق "قد سمعنا" ما تتلوه علينا "لو نشاء لقلنا مثل هذا" الذي تلوته علينا، قيل: إنهم قالوا هذا توهماً منهم أنهم يقدرون على ذلك، فلما راموا أن يقولوا مثله عجزوا عنه، ثم قال عناداً وتمرداً: "إن هذا إلا أساطير الأولين" أي ما يسطره الوراقون من أخبار الأولين. وقد تقدم بيانه مستوفى.
32- "وإذ قالوا" أي واذكر إذ قالوا "اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك" بنصب الحق على أنه خبر كان، والضمير للفصل، ويجوز الرفع. قال الزجاج: ولا أعلم أحداً قرأ بها ولا اختلاف بين النحوين في إجازتها. ولكن القراءة سنة ، والمعنى إن كان القرءان الذي جاءنا به محمد هو الحق " فأمطر علينا " قالوا : هذه المقالة مبالغة في الجحود والإنكار . قال أبو عبيدة : يقال أمطر في العذاب ومطر في الرحمة. وقال في الكشاف: قد كثر الإمطار في معنى العذاب "أو ائتنا بعذاب أليم" سألوا أن يعذبوا بالرجم بالحجارة من السماء أو بغيرها من أنواع العذاب الشديد.
فأجاب الله عليهم بقوله: 33- "وما كان الله ليعذبهم وأنت" يا محمد "فيهم" موجود فإنك ما دمت فيهم فهم في مهلة من العذاب الذي هو الاستئصال "وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون". روي أنهم كانوا يقولون في الطواف غفرانك: أي وما كان الله معذبهم في حال كونهم يستغفرون، وقيل المعنى: لو كانوا ممن يؤمن بالله ويستغفره لم يعذبهم، وقيل: إن الاستغفار راجع إلى المسلمين الذين هم بين أظهرهم: أي وما كان الله ليعذبهم وفيهم من يستغفر من المسلمين، فلما خرجوا من بين أظهرهم عذبهم بيوم بدر وما بعده، وقيل المعنى: وما كان الله معذبهم وفي أصلابهم من يستغفر الله. وقد أخرج عبد الرزاق وأحمد وعبد بن حميد وابن المنذر والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل والخطيب عن ابن عباس في قوله: "وإذ يمكر بك الذين كفروا" قال: تشاورت قريش ليلة بمكة فقال بعضهم: إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق، يريدون النبي صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم: بل اقتلوه، وقال بعضهم: بل أخرجوه، فاطلع الله نبيه على ذلك، فبات علي على فراش النبي صلى الله عليه وسلم حتى لحق بالغار فلما أصبحوا ثاروا إليه، فلما رأوه علياً رد الله مكرهم فقالوا: أين صاحبك هذا؟ فقال: لا أدري، فاقتصوا أثره، فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم، فصعدوا في الجبل فمروا بالغار فرأوا على بابه نسج العنكبوت فقالوا: لو دخل هنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه، فمكث فيه ثلاث ليال. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو نعيم والبيهقي عن ابن عباس فذكر القصة بأطول مما هنا. وفيها ذكر الشيخ النجدي: أي إبليس ومشورته عليهم عند اجتماعهم في دار الندوة للمشاورة في أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وأن أبا جهل أشار بأن يأخذوا من كل قبيلة من قبائل قريش غلاماً ويعطوا كل واحد منهم سيفاً ثم يضربونه ضربة رجل واحد، فإذا قتلوه تفرق دمه في القبائل، فقال الشيخ النجدي: هذا والله هو الرأي، فتفرقوا على ذلك. وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عبيد بن عمير قال: لما ائتمروا بالنبي صلى الله عليه وسلم ليثبتوه أو يقتلوه أو يخرجوه قال له عمه أبو طالب: هل تدري ما ائتمروا بك؟ قال: يريدون أن يسجنوني أو يقتلوني أو يخرجوني، قال: من حدثك بهذا؟ قال: ربي، قال: نعم الرب ربك استوص به خيراً، قال: أنا أستوصي به؟ بل هو يستوصي بي. وأخرجه ابن جرير من طريق أخرى عنه. وهذا لا يصح، فقد كان أبو طالب مات قبل وقت الهجرة بسنين. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن جريج في قوله: "وإذ يمكر بك الذين كفروا" قال: "ليثبتوك" يعني ليوثقوك. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن سعيد بن جبير قال: "قتل النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدراً صبراً عقبة بن أبي معيط وطعيمة بن عدي والنضر بن الحارث، وكان المقداد أسر النضر، فلما أمر بقتله قال المقداد: يا رسول الله أسيري، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:إنه كان يقول في كتاب الله ما يقول، قال: وفيه أنزلت هذه الآية: " وإذا تتلى عليهم آياتنا "" وهذا مرسل. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي أنها نزلت في النضر بن الحارث. وأخرج البخاري وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي عن أنس بن مالك قال: قال أبو جهل بن هشام "اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك" الآية فنزلت: "وما كان الله ليعذبهم" الآية. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة أنها نزلت في أبي جهل. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في الآية أنها نزلت في النضر بن الحارث. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ عن مجاهد مثله. وأخرج ابن جرير عن عطاء نحوه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال: كان المشركون يطوفون بالبيت ويقولون: لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك. ويقولون: غفرانك غفرانك. فأنزل الله: "وما كان الله ليعذبهم" الآية. قال ابن عباس، كان فيهم أمانان: النبي صلى الله عليه وسلم، والاستغفار، فذهب النبي صلى الله عليه وسلم وبقي الاستغفار. وأخرج الترمذي وضعفه عن أبي موسى الأشعري قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أنزل الله علي أمانين لأمتي "وما كان الله ليعذبهم" الآية، فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار". وأخرج أبو الشيخ والحاكم وصححه والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي هريرة قال: كان فيكم أمانان مضى أحدهما وبقي الآخر قال: "وما كان الله ليعذبهم" الآية. وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس نحوه. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ والطبراني وابن مردويه والحاكم وابن عساكر عن أبي موسى الأشعري نحوه أيضاً، والأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مطلق الاستغفار كثيرة جداً معروفة في كتب الحديث.
قوله: 34- " وما لهم أن لا يعذبهم الله " لما بين سبحانه أن المانع من تعذيبهم هو الأمران المتقدمان وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم بين ظهورهم، ووقوع الاستغفار. ذكر بعد ذلك أن هؤلاء الكفار، أعني كفار مكة مستحقون لعذاب الله لما ارتكبوا من القبائح. والمعنى: أي شيء لهم يمنع من تعذيبهم؟ قال الأخفش: إن أن زائدة. قال النحاس: لو كان كما قال لرفع يعذبهم، وجملة "وهم يصدون عن المسجد الحرام" في محل نصب على الحال: أي وما يمنع من تعذيبهم؟ والحال أنهم يصدون الناس عن المسجد الحرام كما وقع منهم عام الحديبية من منع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من البيت، وجملة "وما كانوا أولياءه" في محل نصب على أنها حال من فاعل "يصدون"، وهذا كالرد لما كانوا يقولونه من أنهم ولاة البيت، وأن أمره مفوض إليهم، ثم قال مبيناً لمن له ذلك: "إن أولياؤه إلا المتقون" أي ما أولياؤه إلا من كان في عداد المتقين للشرك والمعاصي "ولكن أكثرهم لا يعلمون" ذلك، والحكم على الأكثرين بالجهل يفيد أن الأقلين يعلمون ولكنهم يعاندون.
قوله: 35- "وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية" المكاء: الصفير من مكا يمكو مكاء، ومنه قول عنترة: وخليل غانية تركت مجندلاً تمكو فريصته كشدق الأعلم أي تصوت، ومنه مكت است الدابة: إذا نفخت بالريح، قيل المكاء: هو الصفير على لحن طائر أبيض بالحجاز يقال له المكاء. قال الشاعر: إذا غرد المكاء في غير دوحة فويل لأهل الشاء والحمرات والتصدية: التصفيق، يقال: صدى يصدي تصدية: إذا صفق، ومنه قول عمر بن الأطنابة: وظلوا جميعاً لهم ضجة مكاء لدى البيت بالتصدية أي بالتصفيق، وقيل المكاء: الضرب بالأيدي، والتصدية: الصياح، وقيل المكاء: إدخالهم أصابعهم في أفواههم، والتصدية: الصفير، وقيل التصدية: صدهم عن البيت، قيل: والأصل على هذا تصددة فأبدل من إحدى الدالين ياء. ومعنى الآية: أن المشركين كانوا يصفرون ويصفقون عند البيت الذي هو موضع للصلاة والعبادة، فوضعوا ذلك موضع الصلاة قاصدين به أن يشغلوا المصلين من المسلمين عن الصلاة، وقرئ بنصب صلاتهم على أنها خبر كان، وما بعده اسمها. قوله: "فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون" هذا التفات إلى مخاطبة الكفار تهديداً لهم ومبالغة في إدخال الروعة في قلوبهم، والمراد به: عذاب الدنيا كيوم بدر وعذاب الآخرة.
قوله: 36- "إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله" لما فرغ سبحانه من شرح أحوال هؤلاء الكفرة في الطاعات البدنية أتبعها شرح أحوالهم في الطاعات المالية. والمعنى: أن غرض هؤلاء الكفار في إنفاق أموالهم هو الصد عن سبيل الحق بمحاربة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجمع الجيوش لذلك، وإنفاق أموالهم عليها وذلك كما وقع من كفار قريش يوم بدر، ويوم أحد، ويوم الأحزاب، فإن الرؤساء كانوا ينفقون أموالهم على الجيش، ثم أخبر الله سبحانه عن الغيب على وجه الإعجاز فقال: "فسينفقونها" أي سيقع منهم هذا الإنفاق "ثم تكون" كما وعد الله به في مثل قوله: "كتب الله لأغلبن أنا ورسلي". ومعنى "ثم" في الموضعين إما التراخي في الزمان لما بين الإنفاق المذكور وبين ظهور دولة الإسلام من الامتداد، وإما التراخي في الرتبة لما بين بذل المال وعدم حصول المقصود من المباينة ثم قال: "والذين كفروا إلى جهنم يحشرون" أي استمروا على الكفر، لأن من هؤلاء الكفار المذكورين سابقاً من أسلم وحسن إسلامه: أي يساقون إليها لا إلى غيرها.
ثم بين العلة التي لأجلها فعل بهم ما فعله فقال: 37- "ليميز الله الخبيث" أي الفريق الخبيث من الكفار "من" الفريق "الطيب" وهم المؤمنون "ويجعل الخبيث بعضه على بعض" أي يجعل فريق الكفار الخبيث بعضه على بعض "فيركمه جميعاً" عبارة عن الجمع والضم: أي يجمع بعضهم على بعض، ويضم بعضهم إلى بعض حتى يتراكموا لفرط ازدحامهم، يقال: ركم الشيء يركمه: إذا جمعه وألقى بعضه على بعض، والإشارة بقوله: "أولئك" إلى الفريق الخبيث "هم الخاسرون" أي الكاملون في الخسران، وقيل: الخبيث والطيب: صفة للمال، والتقدير يميز المال الخبيث الذي أنفقه المشركون من المال الطيب الذي أنفقه المسلمون، فيضم تلك الأموال الخبيثة بعضها إلى بعض فيلقيه في جهنم ويعذبهم بها كما في قوله تعالى: "فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم". قال في الكشاف: واللام على هذا متعلقة بقوله: "ثم تكون عليهم حسرة"، وعلى الأول بيحشرون، و "أولئك" إشارة إلى الذين كفروا انتهى. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس "وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون" ثم استثنى أهل الشرك فقال: " وما لهم أن لا يعذبهم الله ". وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن سعيد بن جبير في قوله: " وما لهم أن لا يعذبهم الله " قال: عذابهم فتح مكة. وأخرج ابن إسحاق وأبو حاتم عن عباد بن عبد الله بن الزبير " وما لهم أن لا يعذبهم الله " وهم يجحدون بآيات الله ويكذبون رسله. وأخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم عن عروة بن الزبير في قوله: "وهم يصدون عن المسجد الحرام" أي من آمن بالله وعبده، أنت ومن اتبعك "وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون" الذين يخرجون منه ويقيمون الصلاة عنده: أي أنت ومن آمن بك. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "إن أولياؤه إلا المتقون" قال: من كانوا، حيث كانوا. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن سعيد بن جبير قال: كانت قريش يعارضون النبي صلى الله عليه وسلم في الطواف ويستهزئون ويصفرون ويصفقون، فنزلت: "وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية". وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والضياء عن ابن عباس قال: كانت قريش يطوفون بالكعبة عراة تصفر وتصفق، فأنزل الله: "وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية" قال: والمكاء الصفير، إنما شبهوا بصفير الطير. وتصدية: التصفيق وأنزل الله فيهم: "قل من حرم زينة الله" الآية. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس نحوه. وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عنه نحوه أيضاً. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عمر قال: المكاء الصفير، والتصدية التصفيق. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد: قال: المكاء إدخال أصابعهم في أفواههم، والتصدية الصفير، يخلطون بذلك كله على محمد صلى الله عليه وسلم صلاته. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي: قال: المكاء الصفير على نحو طير أبيض يقال له المكاء يكون بأرض الحجاز، والتصدية التصفيق. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير في قوله: "إلا مكاء" قال: كانوا يشبكون أصابعهم ويصفرون فيهن "وتصدية" قال: صدهم الناس. وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة قال: كان المشركون يطوفون بالبيت على الشمال، وهو قوله: "وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية" فالمكاء مثل نفخ البوق، والتصدية طوافهم على الشمال. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الضحاك في قوله: "فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون" قال: يعني أهل بدر عذبهم الله بالقتل والأسر. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل كلهم من طريقه: قال: حدثني الزهري ومحمد بن يحيى بن حبان وعاصم بن عمر بن قتادة والحسين بن عبد الرحمن بن عمرو قالوا: لما أصيب قريش يوم بدر ورجع فلهم إلى مكة ورجع أبو سفيان بعيره، مشى عبد الله بن أبي ربيعة وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية في رجال من قريش أصيب آباؤهم وأبناؤهم، فكلموا أبا سفيان ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة فقالوا: يا معشر قريش إن محمداً قد وتركم وقتل خياركم، فأعينوا بهذا المال على حربه فلعلنا أن ندرك منه ثأراً، ففعلوا، ففيهم كما ذكر ابن عباس أنزل الله: "إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله" إلى "والذين كفروا إلى جهنم يحشرون". وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في أبي سفيان بن حرب. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ عن مجاهد نحوه. وأخرج هؤلاء وغيرهم عن سعيد بن جبير نحوه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الحكم بن عتيبة في الآية قال: نزلت في أبي سفيان أنفق على مشركي قريش يوم أحد أربعين أوقية من ذهب وكانت الوقية يومئذ اثنين وأربعين مثقالاً من ذهب. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن شمر بن عطية في قوله: " حتى يميز الخبيث من الطيب " قال: يميز يوم القيامة ما كان من عمر صالح في الدنيا، ثم تؤخذ الدنيا بأسرها فتلقى في جهنم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله: "فيركمه جميعاً" قال: يجمعه جميعاً.
أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول للكفار هذا المعنى وسواء قاله بهذه العبارة أو غيرها. قال ابن عطية: ولو كان كما قال الكسائي إنه في مصحف عبد الله بن مسعود (قل للذين كفروا إن تنتهوا) يعني بالتاء المثناة من فوق لما تأدت الرسالة إلا بتلك الألفاظ بعينها. وقال في الكشاف: أي قل لأجلهم هذا القول، وهو 38- "إن ينتهوا" ولو كان بمعنى خاطبهم لقيل إن تنتهوا يغفر لكم، وهي قراءة ابن مسعود، ونحوه "وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيراً ما سبقونا إليه" خاطبوا به غيرهم لأجلهم ليسمعوه: أي إن ينتهوا عما هم عليه من عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتاله بالدخول في الإسلام "يغفر لهم ما قد سلف" لهم من العداوة انتهى، وقيل معناه: إن ينتهوا عن الكفر. قال ابن عطية: والحامل على ذلك جواب الشرط بـ "يغفر لهم ما قد سلف"، ومغفرة ما قد سلف لا تكون إلا لمنته عن الكفر. وفي هذه الآية دليل على أن الإسلام يجب ما قبله "وإن يعودوا" إلى القتال والعداوة أو إلى الكفر الذي هم عليه ويكون العود بمعنى الاستمرار " فقد مضت سنة الأولين " هذه العبارة مشتملة على الوعيد والتهديد والتمثيل بمن هلك من الأمم في سالف الدهر بعذاب الله: أي قد مضت سنة الله فيمن فعل مثل فعل هؤلاء من الأولين من الأمم أن يصيبه بعذاب فليتوقعوا مثل ذلك.
39- "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة" أي كفر، وقد تقدم تفسير هذا في البقرة مستوفى "فإن انتهوا" عما ذكر "فإن الله بما يعملون بصير" لا يخفى عليه ما وقع منهم من الانتهاء.
40- "وإن تولوا" عما أمروا به من الانتهاء "فاعلموا" أيها المؤمنون " بل الله مولاكم " أي ناصركم عليهم "نعم المولى ونعم النصير" فمن والاه فاز ومن نصره غلب. وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "فقد مضت سنة الأولين" قال: في قريش وغيرها يوم بدر، والأمم قبل ذلك. وأخرج أحمد ومسلم عن" عمرو بن العاص قال: لما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: أبسط يدك فلأبايعك، فبسط يمينه فقبضت يدي، وقال:ما لك؟ قلت: أردت أن أشترط، قال:تشترط ماذا؟ قلت: أن تستغفر لي، قال: أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله؟".وقد ثبت في الصحيح من حديث، ابن مسعود "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الإسلام يجب ما قبله، والتوبة تجب ما قبلها" وقد فسر كثير من السلف قوله تعالى: "فقد مضت سنة الأولين" بما مضى في الأمم المتقدمة من عذاب من قاتل الأنبياء وصمم على الكفر. وقال السدي ومحمد بن إسحاق: المراد بالآية يوم بدر. وفسر جمهور السلف الفتنة المذكورة هنا بالكفر. وقال محمد بن إسحاق: بلغني عن الزهري عن عروة بن الزبير وغيره من علمائنا "حتى لا تكون فتنة" حتى لا يفتن مسلم عن دينه.
لما أمر الله سبحانه بالقتال بقوله: "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة" وكانت المقاتلة مظنة حصول الغنيمة ذكر حكم الغنيمة والغنيمة قد قدمنا أن أصلها إصابة الغنم من العدو، ثم استعملت في كل ما يصاب منهم وقد تستعمل في كل ما ينال بسعي، ومنه قول الشاعر: وقد طوفت في الآفاق حتى رضيت من الغنيمة بالإياب ومثله قول الآخر: ومطعم الغنم يوم الغنم مطعمه أنى توجه والمحروم محروم وأما معنى الغنيمة في الشرع، فحكى القرطبي الاتفاق على أن المراد بقوله تعالى: 41- "واعلموا أنما غنمتم من شيء" مال الكفار إذا ظفر بهم المسلمون على وجه الغلبة والقهر. قال: ولا تقتضي اللغة هذا التخصيص، ولكن عرف الشرع قيد اللفظ بهذا النوع. وقد ادعى ابن عبد البر الإجماع على أن هذه الآية بعد قوله: "يسألونك عن الأنفال" وأن أربعة أخماس الغنيمة مقسومة على الغانمين، وأن قوله: "يسألونك عن الأنفال" نزلت حين تشاجر أهل بدر في غنائم بدر على ما تقدم أول السورة، وقيل إنها أعني قوله: "يسألونك عن الأنفال" محكمة غير منسوخة، وأن الغنيمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وليست مقسومة بين الغانمين وكذلك لمن بعده من الأئمة، حكاه الماوردي عن كثير من المالكية، قالوا: وللإمام أن يخرجها عنهم، واحتجوا بفتح مكة وقصة حنين وكان أبو عبيدة يقول: افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عنوة ومن على أهلها فردها عليهم ولم يقسمها ولم يجعلها فيئاً، وقد حكى الإجماع جماعة من أهل العلم على أن أربعة أخماس الغنيمة للغانمين، وممن حكى ذلك ابن المنذر وابن عبد البر والداودي والمازري والقاضي عياض وابن العربي، والأحاديث الواردة في قسمة الغنيمة بين الغانمين وكيفيتها كثيرة جداً. قال القرطبي: ولم يقل أحد فيما أعلم أن قوله تعالى: "يسألونك عن الأنفال" الآية ناسخ لقوله: "واعلموا أنما غنمتم من شيء" الآية، بل قال الجمهور: إن قوله: "واعلموا أنما غنمتم من شيء" ناسخ، وهم الذين لا يجوز عليهم التحريف ولا التبديل لكتاب الله. وأما قصة فتح مكة فلا حجة فيها لاختلاف العلماء في فتحها، قال: وأما قصة حنين فقد عوض الأنصار لما قالوا تعطي الغنائم قريشاً وتتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم نفسه، فقال لهم:أما ترضون أن يرجع الناس بالدنيا وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيوتكم كما في مسلم وغيره، وليس لغيره أن يقول هذا القول، بل ذلك خاص به. قوله: "أنما غنمتم من شيء" يشمل كل شيء يصدق عليه اسم الغنيمة و "من شيء" بيان لما الموصولة، وقد خصص الإجماع من عموم الآية: الأسارى، فإن الخيرة فيها إلى الإمام بلا خلاف، وكذلك سلب المقتول إذا نادى به الإمام، وقيل: كذلك الأرض المغنومة. ورد بأنه لا إجماع على الأرض. قوله: "فأن لله خمسه" قرأ النخعي: "فإن لله" بكسر إن. وقرأ الباقون بفتحها على أن أن وما بعدها مبتدأ وخبره محذوف، والتقدير: فحق أو فواجب أن لله خمسه. وقد اختلف العلماء في كيفية قسمة الخمس على أقوال ستة: الأول: قالت طائفة: يقسم الخمس على ستة فيجعل السدس للكعبة، وهو الذي لله، والثاني: لرسول الله، والثالث: لذوي القربى، والرابع: لليتامى، والخامس: للمساكين، والسادس: لابن السبيل. والقول الثاني: قاله أبو العالية والربيع: إنها تقسم الغنيمة على خمسة، فيعزل منها سهم واحد ويقسم أربعة على الغانمين، ثم يضرب يده في السهم الذي عزله فما قبضه من شيء جعله للكعبة، ثم يقسم بقية السهم الذي عزله على خسمة للرسول ومن بعده الآية. القول الثالث: روي عن زين العابدين علي بن الحسين أنه قال: إن الخمس لنا، فقيل له: إن الله يقول: "واليتامى والمساكين وابن السبيل" فقال: يتامانا ومساكيننا وأبناء سبيلنا. القول الرابع: قول الشافعي: إن الخمس يقسم على خمسة، وإن سهم الله وسهم رسوله واحد يصرف في مصالح المؤمنين، والأربعة الأخماس على الأربعة الأصناف المذكورة في الآية. القول الخامس: قول أبي حنيفة: إنه يقسم الخمس على ثلاثة: اليتامى، والمساكين، وابن السبيل، وقد ارتفع حكم قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بموته كما ارتفع حكم سهمه. قال: ويبدأ من الخمس بإصلاح القناطر وبناء المساجد وأرزاق القضاة والجند. وروي نحو هذا عن الشافعي. القول السادس: قول مالك: إنه موكول إلى نظر الإمام واجتهاده، فيأخذ منه بغير تقدير، ويعطي منه الغزاة باجتهاد، ويصرف الباقي في مصالح المسلمين. قال القرطبي. وبه قال الخلفاء الأربعة وبه عملوا، وعليه يدل قوله صلى الله عليه وسلم: "ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس، والخمس مردود عليكم" فإنه لم يقسمه أخماساً ولا أثلاثاً، وإنما ذكر ما في الآية من ذكره على وجه التنبيه عليهم، لأنهم من أهل من يدفع إليه. قال الزجاج محتجاً لهذا القول: قال الله تعالى: "يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل" وجائز بإجماع أن ينفق في غير هذه الأصناف إذا رأى ذلك. قوله: "ولذي القربى" قيل: إعادة اللام في ذي القربى دون من بعدهم لدفع توهم اشتراكهم في سهم النبي صلى الله عليه وسلم. وقد اختلف العلماء في القربى على أقوال: الأول أنهم قريش كلها، روي ذلك عن بعض السلف، واستدل بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما صعد الصفا جعل يهتف ببطون قريش كلها قائلاً: يا بني فلان يا بني فلان. وقال الشافعي وأحمد وأبو ثور ومجاهد وقتادة وابن جريج ومسلم بن خالد: هم بنو هاشم وبنو المطلب لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد، وشبك بين أصابعه" وهو في الصحيح وقيل هم بنو هاشم خاصة، وبه قال مالك والثوري والأوزاعي وغيرهم، وهو مروي عن علي بن الحسين ومجاهد. قوله: "إن كنتم آمنتم بالله". قال الزجاج عن فرقة: إن المعنى فاعلموا أن الله مولاكم إن كنتم آمنتم بالله، وقالت فرقة أخرى: إن "إن" متعلقة بقوله: "واعلموا أنما غنمتم" قال ابن عطية: وهذا هو الصحيح لأن قوله: "واعلموا" يتضمن الأمر بالانقياد والتسليم لأمر الله في الغنائم، فعلق إن بقوله: "واعلموا" على هذا المعنى: أي إن كنتم مؤمنين بالله فانقادوا وسلموا الأمر لله فيما أعلمكم به من حال قسمة الغنيمة. وقال في الكشاف: إنه متعلق بمحذوف يدل عليه "واعلموا" بمعنى إن كنتم آمنتم بالله فاعلموا أن الخمس من الغنيمة يجب التقرب به، فاقطعوا عنه أطماعكم، واقتنعوا بالأخماس الأربعة، وليس المراد بالعلم المجرد، ولكن العلم المتضمن بالعمل والطاعة لأمر الله، لأن العلم المجرد يستوي فيه المؤمن والكافر انتهى. قوله: "وما أنزلنا على عبدنا" معطوف على الاسم الجليل: أي إن كنتم آمنتم بالله وبما أنزلنا، و "يوم الفرقان" يوم بدر، لأنه فرق بين أهل الحق وأهل الباطل "الجمعان" الفريقان من المسلمين والكافرين "والله على كل شيء قدير" ومن قدرته العظيمة نصر الفريق الأقل على الفريق الأكثر.
قوله: 42- "إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى" قرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب بكسر العين في العدوة في الموضعين، وقرأ الباقون بالضم فيها، و إذ بدل من يوم الفرقان، ويجوز أن يكون العامل محذوفاً: أي واذكروا إذ أنتم. والعدوة: جانب الوادي، والدنيا: تأنيث الأدنى: والقصوى: تأنيث الأقصى، من دنا يدنو، وقصا يقصو، ويقال: القصيا، والأصل الواو، وهي لغة أهل الحجاز، والعدوة الدنيا كانت مما يلي المدينة، والقصوى كانت مما يلي مكة. والمعنى: وقت نزولكم بالجانب الأدنى من الوادي إلى جهة المدينة، وعدوكم بالجانب الأقصى منه مما يلي مكة. وجملة "والركب أسفل منكم" في محل نصب على الحال، وانتصاب "أسفل" على الظرف، ومحله الرفع على الخبرية: أي والحال أن الركب في مكان أسفل من المكان الذي أنتم فيه. وأجاز الأخفش والكسائي والفراء رفع أسفل على معنى أشد سفلاً منكم والركب: جمع راكب، ولا تقول العرب ركب إلا للجماعة الراكبي الإبل، ولا يقال لمن كان على فرس وغيرها ركب، وكذا قال ابن فارس، وحكاه ابن السكيت عن أكثر أهل اللغة. والمراد بالركب هاهنا ركب أبي سفيان، وهي المراد بالعير، فإنهم كانوا في موضل أسفل منهم مما يلي ساحل البحر. قيل: وفائدة ذكر هذه الحالة التي كانوا عليها من كونهم بالعدوة الدنيا وعدوهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منهم الدلالة على قوة شأن العدو وشوكته، وذلك لأن العدوة القصوى التي أناخ بها المشركون كان فيها الماء، وكانت أرضاً لا يابس بها، وأما العدوة الدنيا فكانت رخوة تسوخ فيها الأقدام ولا ماء بها، وكانت العير وراء ظهر العدو مع كثرة عددهم، فامتن الله على المسلمين بنصرتهم عليهم والحال هذه. قوله: "ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد" أي لو تواعدتم أنتم والمشركون من أهل مكة على أن تلتقوا في هذا الموضع للقتال لخالف بعضكم بعضاً، فثبطكم قلتكم وكثرتهم عن الوفاء بالموعد وثبطهم ما في قلوبهم من المهابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم "ولكن" جمع الله بينكم في هذا الموطن "ليقضي الله أمراً كان مفعولاً" أي حقيقاً بأن يفعل من نصر أوليائه وخذلان أعدائه وإعزاز دينه وإذلال الكفر. فأخرج المسلمين لأخذ العير وغنيمتها عند أنفسهم. وأخرج الكافرين للمدافعة عنها، ولم يكن في حساب الطائفتين أن يقع هذا الاتفاق على هذه الصفة، واللام في ليقضي متعلقة بمحذوف، والتقدير: جمعهم ليقضي. وجملة " ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي " بدل من الجملة التي قبلها: أي ليموت من يموت عن بينة ويعيش عن بينة لئلا يبقى لأحد على الله حجة، وقيل: الهلاك والحياة مستعاران للكفر والإسلام: أي ليصدر إسلام من أسلم عن وضوح بينة ويقين بأنه دين الحق، ويصدر كفر من كفر عن وضوح بينة لا عن مخالجة شبهة. قرأ نافع وخلف وسهل ويعقوب والبزي وأبو بكر " من حي " بياءين على الأصل. وقرأ الباقون بياء واحدة على الإدغام، وهي اختيار أبي عبيد لأنها كذلك وقعت في المصحف "وإن الله لسميع عليم" أي سميع بكفر الكافرين عليم به، وسميع بإيمان المؤمنين عليم به. وقد أخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم عن عباد بن عبد الله بن الزبير قال: ثم وضع مقاسم الفيء، فقال: "واعلموا أنما غنمتم من شيء" بعد الذي كان مضى من بدر "فأن لله خمسه" إلى آخر الآية. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم عن قيس بن مسلم الجدلي قال: سألت الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب ابن الحنفية عن قول الله: "واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه" قال: هذا مفتاح كلام، لله الدنيا والآخرة "وللرسول ولذي القربى" فاختلفوا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذين السهمين. قال قائل منهم: سهم ذي القربى لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال قائل منهم: سهم ذي القربى لقرابة الخليفة، وقال قائل منهم: سهم النبي صلى الله عليه وسلم للخليفة من بعده، واجتمع رأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يجعلوا هذين السهمين في الخيل والعدة في سبيل الله، فكان ذلك في خلافة أبي بكر وعمر. وأخرج ابن جرير والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث سرية فغنموا خمس الغنيمة فضرب ذلك في خمسه. ثم قرأ: "واعلموا أنما غنمتم" الآية، قال قوله: "فأن لله خمسه" مفتاح كلام، لله ما في السموات وما في الأرض، فجعل الله سهم الله والرسول واحداً "ولذي القربى" فجعل هذين السهمين قوة في الخيل والسلاح، وجعل سهم اليتامى والمساكين وابن السبيل لا يعطيه غيرهم، وجعل الأربعة الأسهم الباقية للفرس سهماً ولراكبه سهماً وللراجل سهماً. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال: كانت الغنيمة تقسم على خمسة أخماس: فأربعة منها بين من قاتل عليها وخمس واحد يقسم على أربعة أخماس، فربع لله وللرسول ولذي القربة، يعني قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما كان لله وللرسول فهو لقرابة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يأخذ النبي صلى الله عليه وسلم من الخمس شيئاً، والربع الثاني لليتامى، والربع الثالث للمساكين، والربع الرابع لابن السبيل، وهو الضيف الفقير الذي ينزل بالمسلمين. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله: "واعلموا أنما غنمتم من شيء" الآية قال: كان يجاء بالغنيمة فتوضع، فيقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على خمسة أسهم، فيعزل سهماً منها ويقسم أربعة أسهم بين الناس، يعني لمن شهد الوقعة، ثم يضرب بيده في جميع السهم الذي عزله، فما قبض عليه من شيء جعله للكعبة، فهو الذي سمى الله لا تجعلوا لله نصيباً فأن لله الدنيا والآخرة، ثم يعمد إلى بقية السهم فيقسمه على خمسة أسهم: سهم للنبي صلى الله عليه وسلم، وسهم لذي القربى وسهم لليتامى، وسهم للمساكين، وسهم لابن السبيل. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يجعل سهم الله في السلاح والكراع وفي سبيل الله وفي كسوة الكعبة وطيبها وما تحتاج إليه الكعبة، ويجعل سهم الرسول في الكراع والسلاح ونفقة أهله، وسهم ذي القربى لقرابته يضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم مع سهمه مع الناس، ولليتامى والمساكين وابن السبيل ثلاثة أسهم يضعها رسول الله فيمن شاء حيث شاء، ليس لبني عبد المطلب في هذه الثلاثة الأسهم ولرسول الله صلى الله عليه وسلم سهم من سهام الناس. وأخرج ابن أبي حاتم عن حسين المعلم قال: سألت عبد الله بن بريدة عن قوله: "فأن لله خمسه وللرسول" فقال: الذي لله لنبيه والذي للرسول لأزواجه. وأخرج الشافعي وعبد الرزاق وابن أبي شيبة ومسلم وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عباس أن نجدة كتب إليه يسأله عن ذوي القربى الذين ذكر الله، فكتب إليه إنا كنا نرى أنا هم فأبى ذلك علينا قومنا، وقالوا قريش كلها ذوو قربى. وزيادة قوله: وقالوا قريش كلها تفرد بها أبو معشر، وفيه ضعف. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر من وجه آخر عن ابن عباس: أن نجدة الحروري أرسل إليه يسأله عن سهم ذي القربى، ويقول: لمن تراه؟ فقال ابن عباس: هو لقربى رسول الله صلى الله عليه وسلم قسمه لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان عمر عرض علينا من ذلك عرضاً رأيناه دون حقنا فرددناه عليهم وأبينا أن نقبله، وكان عرض عليهم إن يعين ناكحهم وأن يقضي عن غارمهم وأن يعطي فقيرهم وأبى أن يزديهم على ذلك. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: رغبت لكم عن غسالة الأيدي، لأن لكم في خمس الخمس ما يكفيكم أو يغنيكم. رواه ابن أبي حاتم عن إبراهيم بن مهدي المصيصي، حدثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه عن حنش عن عكرمة عنه مرفوعاً. قال ابن كثير: هذا حديث حسن الإسناد، وإبراهيم بن مهدي هذا وثقه أبو حاتم. وقال يحيى بن معين: يأتي بمناكير. وأخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم عن الزهري وعبد الله بن أبي بكر عن جبير بن مطعم:" أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم سهم ذوي القربى من خيبر على بني هاشم وبني المطلب، قال: فمشيت أنا وعثمان بن عفان حتى دخلنا عليه، فقلنا: يا رسول الله هؤلاء إخوانك من بني هاشم لا ننكر فضلهم لمكانك منهم، أرأيت إخواننا من بني المطلب أعطيتهم دوننا فإنما نحن وهم بمنزلة واحدة في النسب؟ فقال:إنهم لم يفارقونا في الجاهلية والإسلام". وقد أخرجه مسلم في صحيحه. وأخرج ابن مردويه عن زيد بن أرقم قال: آل محمد الذين أعطوا الخمس: آل علي، وآل العباس، وآل جعفر، وآل عقيل. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: كان للنبي صلى الله عليه وسلم شيء واحد من المغنم يصطفيه لنفسه، إما خادم وإما فرس، ثم يصيب بعد ذلك من الخمس. وأخرج ابن أبي شيبة وابن مردويه عن علي قال: قلت يا رسول الله: ألا وليتني ما خصنا الله به من الخمس؟ فولانيه. وأخرج الحاكم وصححه عنه قال: ولاني رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس الخمس فوضعته مواضعه حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "يوم الفرقان" قال: هو يوم بدر، وبدر ما بين مكة والمدينة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس في قوله: "يوم الفرقان" قال: هو يوم بدر فرق الله فيه بين الحق والباطل. وأخرج ابن مردويه عن علي بن أبي طالب قال: كانت ليلة الفرقان ليلة التقى الجمعان في صبيحتها ليلة الجمعة لسبع عشرة مضت من رمضان، وأخرج عنه ابن جرير أيضاً. وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "إذ أنتم بالعدوة الدنيا" قال: العدوة الدنيا شاطئ الوادي "والركب أسفل منكم". قال أبو سفيان. وأخرج ابن المنذر عن عكرمة قال: العدوة الدنيا شفير الوادي الأدنى، والعدوة القصوى شفير الوادي الأقصى.
إذ منصوب بفعل مقدر: أي اذكر أو هو بدل ثان من يوم الفرقان. والمعنى: أن النبي صلى الله عليه وسلم رآهم في منامه قليلاً فقص ذلك على أصحابه، فكان ذلك سبباً لثباتهم، ولو رآهم في منامه كثيراً لفشلوا وجبنوا عن قتالهم وتنازعوا في الأمر هل يلاقونهم أم لا؟ 43- "ولكن الله سلم" أي سلمهم وعصمهم من الفشل والتنازع فقللهم في عين رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام، وقيل: عني بالمنام محل النوم، وهو العين: أي في موضع منامك وهو عينك، روي ذلك عن الحسن. قال الزجاج: هذا مذهب حسن ولكن الأول أسوغ في العربية لقوله: " وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم " فدل بهذا على أن هذه رؤية الالتقاء، وأن تلك رؤية النوم.
قوله: 44- "وإذ يريكموهم" الظرف منصوب بمضمر معطوف على الأول: أي واذكروا وقت إراءتكم إياها حال كونهم قليلاً، حتى قال القائل من المسلمين لآخر: أتراهم سبعين؟ قال: هم نحو المائة، وقلل المسلمين في أعين المشركين حتى قال قائلهم: إنما هم أكلة جزور، وكان هذا قبل القتال، فلما شرعوا فيه كثر الله المسلمين في أعين المشركين، كما قال في آل عمران: "يرونهم مثليهم رأي العين"، ووجه تقليل المسلمين في أعين المشركين هو أنهم إذا رأوهم قليلاً أقدموا على القتال غير خائفين، ثم يرونهم كثيراً فيفشلون وتكون الدائرة عليهم، ويحل بهم عذاب الله وسوط عقابه، واللام في "ليقضي الله أمراً كان مفعولاً" متعلقة بمحذوف كما سبق مثله قريباً، وإنما كرره لاختلاف المعلل به "وإلى الله ترجع الأمور" كلها يفعل فيها ما يريد ويقضي في شأنها ما يشاء. وقد أخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "إذ يريكهم الله في منامك قليلاً" قال: أراه الله إياهم في منامه قليلاً، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بذلك فكان ذلك تثبيتاً لهم. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: " ولو أراكهم كثيرا لفشلتم " يقول: لجبنتم "ولتنازعتم في الأمر" قال: لاختلفتم. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ولكن الله سلم" أي أتم. وأخرج وابن جرير وابن أبي حاتم عنه "ولكن الله سلم" يقول: سلم لهم أمرهم حتى أظهرهم على عدوهم. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن مسعود في قوله: "وإذ يريكموهم" الآية قال: لقد قلوا في أعيننا يوم بدر حتى قلت لرجل إلى جنبي: تراهم سبعين؟ قال: لا بل هم مائة، حتى أخذنا رجلاً منهم فسألناه قال: كنا ألفاً. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عكرمة في الآية قال: حضض بعضهم على بعض. قال ابن كثير: إسناده صحيح. وأخرج ابن إسحاق عن عباد بن عبد الله بن الزبير في قوله: "ليقضي الله أمراً كان مفعولاً" أي ليلف بينهم الحرب للنقمة ممن أراد الانتقام منه، والإنعام على من أراد النعمة عليه من أهل ولايته.
قوله: 45- " إذا لقيتم فئة " اللقاء الحرب، والفئة الجماعية: أي إذا حاربتم جماعة من المشركين "فاثبتوا" لهم ولا تجبنوا عنهم، وهذا لا ينافي الرخصة المتقدمة في قوله: "إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة" فإن الأمر بالثبات هو في حال السعة، والرخصة هي في حال الضرورة. وقد لا يحصل الثبات إلا بالتحرف والتحيز "واذكروا الله" أي اذكروا الله عند جزع قلوبكم فإن ذكره يعين على الثبات في الشدائد، وقيل المعنى: اثبتوا بقلوبكم واذكروا بألسنتكم فإن القلب قد يسكن عند اللقاء ويضطرب اللسان، فأمرهم بالذكر حتى يجتمع ثبات القلب واللسان، قيل: وينبغي أن يكون الذكر في هذه الحالة بما قاله أصحاب طالوت "ربنا أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين". وفي الآية دليل على مشروعية الذكر في جميع الأحوال، حتى في هذه الحالة التي ترجف فيها القلوب وتزيع عندها البصائر.
ثم أمرهم بطاعة الله فيما يأمرهم به وطاعة رسوله فيما يرشدهم إليه، ونهاهم عن التنازع وهو الاختلاف في الرأي، فإن ذلك يتسبب عنه الفشل، وهو الجبن في الحرب. والفاء جواب النهي، والفعل منصوب بإضمار أن، ويجوز أن يكون الفعل معطوفاً على تنازعوا مجزوماً بجازمه. قوله: 46- "وتذهب ريحكم" قرئ بنصب الفعل، وجزمه عطفاً على تفشلوا على الوجهين، والريح: القوة والنصر، كما يقال: الريح لفلان إذا كان غالباً في الأمر، وقيل: الريح الدولة شبهت في نفوذ أمرها بالريح في هبوبها، ومنه قول الشاعر: إذا هبت رياحك فاغتنمها فعقبى كل خافقة سكون وقيل: المراد بالريح ريح الصبا، لأن بها كان ينصر النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أمرهم بالصبر على شدائد الحرب وأخبرهم بأنه مع الصابرين في كل أمر ينبغي الصبر فيه، ويا حبذا هذه المعية التي لا يغلب من رزقها غالب، ولا يؤتى صاحبها من جهة من الجهات وإن كانت كثيرة.
ثم نهاهم عن أن تكون حالتهم كحالة هؤلاء الذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس وهم قريش، فإنهم خرجوا يوم بدر ليحفظوا العير التي مع أبي سفيان ومعهم القيان والمعازف، فلما بلغوا الجحفة بلغهم أن العير قد نجت وسلمت، فلم يرجعوا بل قالوا: لا بد لهم من الوصول إلى بدر ليشربوا الخمر وتغني لهم القيان وتسمع العرب بمخرجهم، فكان ذلك منهم بطراً وأشراً وطلباً للثناء من الناس وللتمدح إليهم والفخر عندهم وهو الرياء، قيل والبطر في اللغة: التقوي بنعم الله على معاصيه وهو مصدر في موضع الحال: أي خرجوا بطرين مرائين، وقيل: هو مفعول له وكذا رياء: أي خرجوا للبطر والرياء. وقوله: "ويصدون" معطوف على بطراً، والمعنى كما تقدم: أي خرجوا بطرين مرائين صادين عن سبيل الله أو للصدر عن سبيل الله، والصد: إضلال الناس والحيلولة بينهم وبين طرق الهداية، ويجوز أن يكون ويصدون معطوفاً على يخرجون، والمعنى: يجمعون بين الخروج على تلك الصفة والصد "والله بما يعملون محيط" لا تخفى عليه من أعمالهم خافية فهو مجازيهم عليها.
قوله: 48- "وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم" الظرف متعلق بمحذوف: أي واذكر يا محمد وقت تزيين الشيطان لهم أعمالهم، والتزيين: التحسين، وقد روي أن الشيطان تمثل لهم وقال لهم تلك المقالة وهي: "لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم" أي مجير لكم من كل عدو أو من بني كنانة، ومعنى الجار هنا: الدافع عن صاحبه أنواع الضرر كما يدفع الجار عن الجار، وكان في صورة سراقة بن مالك بن جعشم، وهو من بني بكر بن كنانة، وكانت قريش تخاف من بني بكر أن يأتوهم من ورائهم، وقيل المعنى: إنه ألقى في روعهم هذه المقالة، وخيل إليهم أنهم لا يغلبون ولا يطاقون "فلما تراءت الفئتان" أي فئة المسلمين والمشركين "نكص على عقبيه" أي رجع القهقرى، ومنه قول الشاعر: ليس النكوص على الأعقاب مكرمة إن المكارم إقدام على الأمل وقول الآخر: وما نفع المستأخرين نكوصهم ولا ضر أهل السابقات التقدم وقيل: معنى نكص هاهنا: بطل كيده وذهب ما خيله "وقال إني بريء منكم" أي تبرأ منهم لما رأى أمارات النصر مع المسلمين بإمداد الله لهم بالملائكة، ثم علل ذلك بقوله: "إني أرى ما لا ترون" يعني الملائكة، ثم علل بعلة أخرى فقال: "إني أخاف الله" قيل: خاف أن يصاب بمكروه من الملائكة الذين حضروا الوقعة، وقيل: إن دعوى الخوف كذب منه، ولكنه رأى أنه لا قوة له ولا للمشركين فاعتل بذلك، وجملة "والله شديد العقاب" يحتمل أن تكون من تمام كلام إبليس، ويحتمل أن تكون كلاماً مستأنفاً من جهة الله سبحانه.
قوله: 49- "إذ يقول المنافقون" الظرف معمول لفعل محذوف هو اذكر، ويجوز أن يتعلق بنكص أو بزين أو بشديد العقاب، قيل: المنافقون هم الذين أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر "والذين في قلوبهم مرض" هم الشاكون من غير نفاق بل لكونهم حديثي عهد بالإسلام فوافقوا المنافقين في قولهم بهذه المقالة، أعني "غر هؤلاء" أي المسلمين "دينهم" حتى تكلفوا ما لا طاقة لهم به من قتال قريش، وقيل: الذين في قلوبهم مرض هم المشركون، ولا يبعد أن يراد بهم اليهود الساكنون في المدينة وما حولها، وأنهم هم والمنافقون من أهل المدينة قالوا هذه المقالة عند خروج المسلمين إلى بدر لما رأوهم في قلة من العدد وضعف من العدد، فأجاب الله عليهم بقوله: "من يتوكل على الله فإن الله عزيز" لا يغلبه غالب، ولا يذل من توكل عليه "حكيم" له الحكمة البالغة التي تقصر عندها العقول. وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: "واذكروا الله" قال: افترض الله ذكره عند أشغل ما يكونون: عند الضراب بالسيوف. وأخرج الحاكم وصححه عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثنتان لا يردان: الدعاء عند النداء وعند البأس حين يلحم بعضهم بعضاً". وأخرج الحاكم وصححه عن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكره الصوت عند القتال. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: "ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم" يقول: لا تختلفوا فتجبنوا ويذهب نصركم. وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "وتذهب ريحكم" قال: نصركم وقد ذهب ريح أصحاب محمد حين نازعوه يوم أحد. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم" الآية، يعني المشركين الذين قاتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر. وأخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي قال: لما خرجت قريش من مكة إلى بدر خرجوا بالقيان والدفوف، فأنزل الله هذه الآية. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن مجاهد في الآية قال: أبو جهل وأصحابه يوم بدر. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في الآية قال: "كان مشركو قريش الذين قاتلوا نبي الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر خرجوا ولهم بغي وفخر، وقد قيل لهم يومئذ ارجعوا فقد انطلقت عيركم وقد ظفرتم فقالوا: لا والله حتى يتحدث أهل الحجاز بمسيرنا وعددنا، وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال يومئذ:اللهم إن قريشاً قد أقبلت بفخرها وخيلائها لتجادل رسولك" وذكر لنا أنه قال يومئذ: "جاءت من مكة أفلاذها". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: جاء إبليس في جند من الشياطين ومعه راية في صورة رجال من بني مدلج، والشيطان في صورة سراقة بن مالك بن جعشم فقال الشيطان: "لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم" وأقبل جبريل على إبليس فلما رآه وكانت يده في يد رجل من المشركين انتزع إبليس يده وولى مدبراً وشيعته فقال الرجل: يا سراقة إنك جار لنا فقال: " إني أرى ما لا ترون " وذلك حين رأى الملائكة "إني أخاف الله والله شديد العقاب"، قال ولما دنا القوم بعضهم من بعض قلل الله المسلمين في أعين المشركين وقلل المشركين في أعين المسلمين فقال المشركون: وما هؤلاء غر هؤلاء دينهم وإنما قالوا ذلك من قلتهم في أعينهم وظنوا أنهم سيهزمونهم لا يشكون في ذلك، فقال الله: "ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم".وأخرج الطبراني وأبو نعيم عن رفاعة بن رافع الأنصاري قال: لما رأى إبليس ما تفعل الملائكة بالمشركين يوم بدر أشفق أن يخلص القتل إليه فتشبث به الحارث بن هشام وهو يظن أنه سراقة بن مالك، فوكز في صدر الحارث فألقاه ثم خرج هارباً حتى ألقى نفسه في البحر ورفع يديه فقال: اللهم إن أسألك نظرتك إياي. وأخرج الواقدي وابن مردويه عن ابن عباس نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: "إني أرى ما لا ترون" قال: ذكر لنا أنه رأى جبريل تنزل معه الملائكة، فعلم عدو الله أنه لا يدان له بالملائكة وقال: "إني أخاف الله" كذب عدو الله ما به مخافة الله، ولكن علم أنه لا قوة له به ولا منعة له. وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن معمر قال: ذكروا أنهم أقبلوا على سراقة بن مالك بعد ذلك، فأنكر أن يكون قال شيئاً من ذلك. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "إذ يقول المنافقون" قال: وهم يومئذ في المسلمين. وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن في قوله: "والذين في قلوبهم مرض" قال: هم قوم لم يشهدوا القتال يوم بدر فسموا منافقين. وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن الكلبي في قوله: "والذين في قلوبهم مرض" قال: هم قوم كانوا أقروا بالإسلام وهم بمكة ثم خرجوا مع المشركين يوم بدر، فلما رأوا المسلمين قالوا: " غر هؤلاء دينهم ". وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن الشعبي نحوه.
قوله: 50- "ولو ترى" الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لكل من يصلح له كما تقدم تحقيقه في غير موضع، والمعنى: ولو رأيت، لأن لو تقلب المضارع ماضياً، و "إذ" ظرف لترى، والمفعول محذوف: أي ولو ترى الكافرين وقت توفي الملائكة لهم، قيل: أراد بالذين كفروا من لم يقتل يوم بدر، وقيل: هي فيمن قتل ببدر وجواب لو محذوف تقديره لرأيت أمراً عظيماً، وجملة "يضربون وجوههم" في محل نصب على الحال، والمراد بأدبارهم أستاههم، كنى عنها بالأدبار، وقيل: ظهورهم، قيل: هذا الضرب يكون عند الموت كما يفيده ذكر التوفي، وقيل: هو يوم القيامة حين يسيرون بهم إلى النار. قوله: "وذوقوا عذاب الحريق" قاله الفراء، المعنى: ويقولون ذوقوا عذاب الحريق، والجملة معطوفة على يضربون، وقيل: إنه يقول لهم هذه المقالة خزنة جهنم، والذوق قد يكون محسوساً، وقد يوضع موضع الابتلاء والاختبار، وأصله من الذوق بالفم.
والإشارة بقوله: 51- "ذلك" إلى ما تقدم من الضرب والعذاب والباء في "بما قدمت أيديكم" سببية: أي ذلك واقع بسبب ما كسبتم من المعاصي واقترفتم من الذنوب، وجملة "وأن الله ليس بظلام للعبيد" في محل رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف: أي والأمر أنه لا يظلمهم، ويجوز أن تكون معطوفة على الجملة الواقعة خبراً لقوله: "ذلك" وهي "بما قدمت أيديكم" أي ذلك العذاب بسبب المعاصي، وبسبب "أن الله ليس بظلام للعبيد" لأنه سبحانه قد أرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه، وأوضح لهم السبيل، وهداهم النجدين كما قال سبحانه: "وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون".
قوله: 52- "كدأب آل فرعون" لما ذكر الله سبحانه ما أنزله بأهل بدر أتبعه بما يدل على أن هذه سنته في فرق الكافرين، والدأب: العادة، والكاف في محل الرفع على الخبرية لمبتدأ محذوف: أي دأب هؤلاء مثل دأب آل فرعون "والذين من قبلهم". والمعنى: أنه جوزي هؤلاء كما جوزي أولئك، فكانت العادة في عذاب هؤلاء كالعادة الماضية لله في تعذيب طوائف الكفر، وجملة قوله: "كفروا بآيات الله" مفسرة لدأب آل فرعون: أي دأبهم هذا هو أنهم كفروا بآيات الله، فتسبب عن كفرهم أخذ الله سبحانه لهم، والمراد بذنوبهم: معاصيهم المترتبة على كفرهم، فيكون الباء في "بذنوبهم" للملابسة، أي فأخذهم متلبسين بذنوبهم غير تائبين عنها، وجملة "إن الله قوي شديد العقاب" معترضة مقررة لمضمون ما قبلها.
والإشارة بقوله: 53- "ذلك" إلى العقاب الذي أنزله الله بهم، وهو مبتدأ وخبره ما بعده، والجملة جارية مجرى التعليل لما حل بهم من عذاب الله. والمعنى: أن ذلك العقاب بسبب أن عادة الله في عباده عدم تغيير نعمه التي ينعم بها عليهم "حتى يغيروا ما بأنفسهم" من الأحوال والأخلاق بكفران نعم الله وغمط إحسانه وإهمال أوامره ونواهيه، وذلك كما كان من آل فرعون ومن قبلهم ومن قريش ومن يماثلهم من المشركين، فإن الله فتح لهم أبواب الخيرات في الدنيا ومن عليهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب، فقابلوا هذه النعم بالكفر فاستحقوا تغيير النعم كما غيروا ما كان يجب عليهم سلوكه، والعمل به من شكرها وقبولها، وجملة "وأن الله سميع عليم" معطوفة على "بأن الله لم يك مغيراً نعمة" داخلة معها في التعليل: أي ذلك بسبب أن الله لم يك مغيراً إلخ، وبسبب أن الله سميع عليم يسمع ما يقولونه ويعلم ما يفعلونه. وقرئ بكسر الهمزة على الاستئناف.
ثم كرر ما تقدم، فقال: 54- "كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآيات ربهم" لقصد التأكيد مع زيادة أنه كالبيان للأخذ بالذنوب بأنه كان بالإغراق، وقيل: إن الأول باعتبار ما فعله آل فرعون ومن شبه بهم، والثاني باعتبار ما فعل بهم، وقيل: المراد بالأول كفرهم بالله، وبالثاني تكذيبهم الأنبياء، وقيل غير ذلك مما لا يخلو عن تعسف، والكلام في "أهلكناهم بذنوبهم" كالكلام المتقدم في "فأخذهم الله بذنوبهم"، "وأغرقنا آل فرعون" معطوف على أهلكناهم عطف الخاص على العام لفظاعته وكونه من أشد أنواع الإهلاك، ثم حكم على الطائفتين من آل فرعون والذين من قبلهم، ومن كفار قريش بالظلم لأنفسهم، بما تسببوا به لعذاب الله من الكفر بالله وآياته ورسله وبالظلم لغيرهم، كما كان يجري منهم في معاملاتهم للناس بأنواع الظلم. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك في قوله: "ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة" قال: الذين قتلهم الله ببدر من المشركين. وأخرج ابن جرير عن الحسن قال: قال رجل يا رسول الله إني رأيت بظهر أبي جهل مثل الشوك قال: ذلك ضرب الملائكة. وهذا مرسل. وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "وأدبارهم" قال: وأستاههم، ولكن الله كريم يكني. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله: " ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " قال: نعمة الله: محمد صلى الله عليه وسلم أنعم الله به على قريش فكفروا فنقله الله إلى الأنصار.
قوله: 55- "إن شر الدواب" أي شر ما يدب على وجه الأرض "عند الله" أي في حكمه "الذين كفروا" أي المصرون على الكفر المتمادون في الضلال، ولهذا قال: "فهم لا يؤمنون" أي إن هذا شأنهم لا يؤمنون أبداً، ولا يرجعون عن الغواية أصلاً، وجعلهم شر الدواب لا شر الناس إيماء إلى انسلاخهم عن الإنسانية ودخولهم في جنس غير الناس من أنواع الحيوان لعدم تعقلهم لما فيه رشادهم.
قوله: 56- "الذين عاهدت منهم" بدل من الذين كفروا أو عطف بيان أو في محل نصب على الذم. والمعنى: أن هؤلاء الكافرين الذين هم شر الدواب عند الله هم هؤلاء الذين عاهدت منهم: أي أخذت منهم عهدهم "ثم" هم "ينقضون عهدهم" الذي عاهدتم "في كل مرة" من مرات المعاهدة "و" الحال أنـ " وهم لا يتقون " النقض ولا يخافون عاقبته ولا يتجنبون أسبابه، وقيل إن من في قوله: "منهم" للتبعيض، ومفعول عاهدت محذوف: أي الذين عاهدتهم، وهم بعض أولئك الكفرة: يعني الأشراف منهم، وعطف المستقبل وهو ثم ينقضون على الماضي، وهو عاهدت للدلالة على استمرار النقض منهم، وهؤلاء هم قريظة عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يعينوا الكفار فلم يفوا بذلك كما سيأتي.
ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشدة والغلظة عليهم، فقال: "فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم" أي فإما تصادفنهم في ثقاف وتلقاهم في حالة تقدر عليهم فيها وتتمكن من غلبهم "فشرد بهم من خلفهم" أي ففرق بقتلهم والتنكيل بهم من خلفهم من المحاربين لك من أهل الشرك حتى يهابوا جانبك ويكفوا عن حربك مخافة أن ينزل بهم ما نزل بهؤلاء. والثقاف في أصل اللغة: ما يشد به القناة أو نحوها ومنه قول النابغة: تدعو قعيباً وقد غص الحديد بها غص الثقاف على ضم الأنابيب يقال: ثقفته: وجدته، وفلان ثقف: سريع الوجود لما يحاوله، والتشريد: التفريق مع الاضطراب. وقال أبو عبيدة: "شرد بهم" سمع بهم. وقال الزجاج: افعل بهم فعلاً من القتل تفرق به من خلفهم، يقال: شردت بني فلان: قلعتهم عن مواضعهم وطردتهم عنها حتى فارقوها. قال الشاعر: أطوف في الأباطح كل يوم مخافة أن يشردني حكيم ومنه شرد البعير: إذا فارق صاحبه، وروي عن ابن مسعود أنه قرأ: (فشرذ بهم) بالذال المعجمة. قال قطرب: التشريذ بالذال المعجمة هو التنكيل، وبالمهملة هو التفريق. وقال المهدي: الذال المعجمة لا وجه لها إلا أن تكون بدلاً من الدال المهملة لتقاربهما. قال: ولا يعرف فشرذ في اللغة، وقرئ "من خلفهم" بكسر الميم والفاء.
قوله: 58- "وإما تخافن من قوم خيانة" أي غشاً ونقضاً للعهد من القوم المعاهدين "فانبذ إليهم" أي فاطرح إليهم العهد الذي بينك وبينهم "على سواء" على طريق مستوية. والمعنى: أنه يخبرهم إخباراً ظاهراً مكشوفاً بالنقض ولا يناجزهم الحرب بغتة، وقيل معنى "على سواء" على وجه يستوي في العلم بالنقض أقصاهم وأدناهم، أو تستوي أنت وهم فيه، قال الكسائي: السواء العدل، وقد يكون بمعنى الوسط، ومنه قوله: "في سواء الجحيم"، ومنه قول حسان: يا ويح أنصار النبي ورهطه بعد المغيب في سواء الملحد ومن الأول قول الشاعر: فاضرب وجوه الغدر الأعداء حتى يجيبوك إلى سواء وقيل معنى: "فانبذ إليهم على سواء" على جهر لا على سر والظاهر أن هذه الآية عامة في كل معاهد يخاف من وقوع النقض منه. قال ابن عطية: والذي يظهر من ألفاظ القرآن أن أمر بني قريظة انقضى عند قوله: "فشرد بهم من خلفهم" ثم ابتدأ تبارك وتعالى في هذه الآية يأمره بما يصنعه في المستقبل مع من يخاف منه خيانة، وجملة "إن الله لا يحب الخائنين" تعليل لما قبلها، يحتمل أن تكون تحذيراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن المناجزة قبل أن ينبذ إليهم على سواء، ويحتمل أن تكون عائدة إلى القوم الذين تخاف منهم الخيانة.
قوله: 59- "ولا تحسبن" قرأ ابن عامر ويزيد وحفص بالياء التحتية، وقرأ الباقون بالمثناة من فوق. فعلى القراءة الأولى يكون الذين كفروا فاعل الحسبان، ويكون مفعوله الأول محذوفاً: أي لا يحسبن الذين كفروا أنفسهم، ومفعوله الثاني سبقوا ومعناه: فاتوا وأفلتوا من أن يظفر بهم. وعلى القراءة الثانية يكون الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومفعوله الأول الذين كفروا، والثاني سبقوا، وقرئ " ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون " وقرئ يحسبن بكسر الياء، وجملة "إنهم لا يعجزون" تعليل لما قبلها، أي إنهم لا يفوتون ولا يجدون طالبهم عاجزاً عن إدراكهم. وقرأ ابن عامر أنهم بفتح الهمزة، والباقون بكسرها، وكلا القراءتين مفيدة لكون الجملة تعليلية، وقيل: المراد بهذه الآية من أفلت من وقعة بدر من المشركين. والمعنى: أنهم وإن أفلتوا من هذه الوقعة ونجوا فإنهم لا يعجزون، بل هم واقعون في عذاب الله في الدنيا أو في الآخرة. وقد زعم جماعة من النحويين منهم أبو حاتم أن قراءة من قرأ يحسبن بالتحتية لحن، لا تحل القراءة بها لأنه لم يأت ليحسبن بمفعول، وهو يحتاج إلى مفعولين. قال النحاس: وهذا تحامل شديد، ومعنى هذه القراءة: ولا يحسبن من خلفهم الذين كفروا سبقوا، فيكون الضمير يعود على ما قتدم إلا أن القراءة بالتاء أبين. وقال المهدوي: يجوز على هذه القراءة أن يكون الذين كفروا فاعلاً، والمفعول الأول محذوف. والمعنى: ولا يحسبن الذين كفروا أنفسهم سبقوا. قال مكي: ويجوز أن يضمر مع سبقوا أن فتسد مسد المفعولين، والتقدير: ولا يحسبن الذين كفروا أن سبقوا، فهو مثل "أحسب الناس أن يتركوا" في سد أن مسد المفعولين.
ثم أمر سبحانه بإعداد القوة للأعداء، والقوة كل ما يتقوى به في الحرب، ومن ذلك السلاح والقسي. وقد ثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يقول: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ألا إن القوة الرمي، قالها ثلاث مرات". وقيل هي الحصون، والمصير إلى التفسير الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم متعين. قوله: 60- "ومن رباط الخيل". قرأ الحسن وعمرو بن دينار وأبو حيوة (ومن ربط الخيل) بضم الراء والباء ككتب: جمع كتاب. قال أبو حاتم: الرباط من الخيل الخمس فما فوقها، وهي الخيل التي ترتبط بإزار العدو، ومنه قول الشاعر: أمر الإله بربطها لعدوه في الحرب إن الله خير موفق قال في الكشاف: والرباط اسم للخيل التي تربط في سبيل الله، ويجوز أن يسمى بالرباط الذي هو بمعنى المرابطة، ويجوز أن يكون جمع ربيط كفصيل وفصال انتهى. ومن فسر القوة بكل ما يتقوى به في الحرب جعل عطف الخيل من عطف الخاص على العام، وجملة "ترهبون به عدو الله وعدوكم" في محل نصب على الحال والترهيب والتخويف، والضمير في به عائد إلى ما في ما استطعتم أو إلى المصدر المفهوم من وأعدوا وهو الإعداد. والمراد بعدو الله وعدوهم هم المشركون من أهل مكة وغيرهم من مشركي العرب. قوله: "وآخرين من دونهم" معطوف على عدو الله وعدوكم، ومعنى من دونهم: من غيرهم، قيل هم اليهود، وقيل فارس والروم، وقيل الجن، ورجحه ابن جرير. وقيل المراد بالآخرين من غيرهم كل من لا تعرف عداوته قاله السهيلي. وقيل هم بنو قريظة خاصة، وقيل غير ذلك، والأولى الوقف في تعيينهم لقوله: "لا تعلمونهم الله يعلمهم". قوله: "وما تنفقوا من شيء في سبيل الله" أي في الجهاد وإن كان يسيراً حقاً "يوف إليكم" جزاؤه في الآخرة، فالحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة كما قررناه سابقاً "وأنتم لا تظلمون" في شيء من هذه النفقة التي تنفقونها في سبيل الله: أي من ثوابها بل يصير ذلك إليكم وافياً وافراً كاملاً: "وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيماً" "أني لا أضيع عمل عامل منكم". وقد أخرج أبو الشيخ عن سعيد بن جبير قال: نزلت "إن شر الدواب عند الله" الآية في ستة رهط من اليهود فيهم ابن تابوت. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم" قال: قريظة يوم الخندق مالأوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أعداءه. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "فشرد بهم من خلفهم" قال: نكل بهم من بعدهم. وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال: نكل بهم من وراءهم. وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير في الآية قال: أنذر بهم. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة قال: عظ بهم من سواهم من الناس. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد قال: أخفهم بهم. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله: "لعلهم يذكرون" يقولون: لعلهم يحذرون أن ينكثوا فيصنع بهم مثل ذلك. وأخرج أبو الشيخ عن ابن شهاب قال: دخل جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قد وضعت السلاح وما زلنا في طلب القوم فاخرج فإن الله قد أذن لك في قريظة، وأنزل فيهم "وإما تخافن من قوم خيانة" الآية. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "إنهم لا يعجزون" قال: لا يفوتونا. وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة" قال: الرمي والسيوف والسلاح. وأخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم عن عباد بن عبد الله بن الزبير في قوله: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة" قال: أمرهم بإعداد الخيل. وأخرج أبو الشيخ والبيهقي في الشعب عن عكرمة في الآية قال: القوة ذكور الخيل، والرباط الإناث. وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد مثله. وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب في الآية قال: القوة الفرس إلى السهم فما دونه. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة قال: القوة الحصون، و "من رباط الخيل" قال: الإناث. وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "ترهبون به عدو الله وعدوكم" قال: تخزون به عدو الله وعدوكم. وقد ورد في استحباب الرمي وما فيه من الأجر أحاديث كثيرة. وكذلك ورد في استحباب اتخاذ الخيل وإعدادها وكثرة ثواب صاحبها أحاديث لا يتسع المقام لبسطها. وقد أفرد ذلك جماعة من العلماء بمصنفات.
الجنوح: الميل، يقال: جنح الرجل إلى الرجل: مال إليه، ومنه قيل للأضالع جوانح لأنها مالت إلى الحنوة، وجنحت الإبل: إذا مالت أعناقها في السير، ومنه قول ذي الرمة: إذا مات فوق الرحل أحييت روحه بذكراك والعيس المراسيل جنح ومثله قول عنترة: جوانح قد أيقن أن قبيله إذا ما التقى الجمعان أول غالب يعني الطير، والسلم: الصلح. قرأ الأعمش وأبو بكر وابن محيصن والمفضل بكسر السين، وقرأ الباقون بفتحها. وقرأ العقيلي "فاجنح" بضم النون، وقرأ الباقون بفتحها. والأولى لغة قيس، والثانية لغة تميم. قال ابن جني: ولغة قيس هي القياس، والسلم تؤنث كما تؤنث الحرب، أو هي مؤولة بالخصلة، أو الفعلة. وقد اختلف أهل العلم هل هذه الآية منسوخة أم محكمة؟ فقيل: هي منسوخة بقوله: "فاقتلوا المشركين" وقيل: ليست بمنسوخة، لأن المراد بها قبول الجزية، وقد قبلها منهم الصحابة فمن بعدهم، فتكون خاصة بأهل الكتاب، وقيل: إن المشركين إن دعوا إلى الصلح جاز أن يجابوا إليه، وتمسك المانعون من مصالحة المشركين بقوله تعالى: " فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ". وقيدوا عدم الجواز بما إذا كان المسلمون في عزة وقوة لا إذا لم يكونوا كذلك، فهو جائز كما وقع منه صلى الله عليه وسلم من مهادنة قريش، وما زالت الخلفاء والصحابة على ذلك، وكلام أهل العلم في هذه المسألة معروف مقرر في مواطنه "وتوكل على الله" في جنوحك للسلم ولا تخف من مكرمهم، فـ "إنه" سبحانه "هو السميع" لما يقولون "العليم" بما يفعلون.
62- "وإن يريدوا أن يخدعوك" بالصلح، وهم مضمرون الغدر والخدع "فإن حسبك الله" أي كافيك ما تخافه من شرورهم بالنكث والغدر، وجملة "هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين" تعليلية: أي لا تخف من خدعهم ومكرهم فإن الله الذي قواك عليهم بالنصر فيما مضى، وهو يوم بدر هو الذي سينصرك ويقويك عليهم عند حدوث الخدع والنكث، والمراد بالمؤمنين المهاجرين والأنصار.
ثم بين كيف كان تأييده بالمؤمنين فقال: 63- "وألف بين قلوبهم" وظاهره العموم وأن ائتلاف قلوب المؤمنين هو من أسباب النصر التي أيد الله بها رسوله. وقال جمهور المفسرين: المراد الأوس والخزرج، فقد كان بينهم عصبية شديدة وحروب عظيمة فألف الله بين قلوبهم بالإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: أراد التأليف بين المهاجرين والأنصار، والحمل على العموم أولى، فقد كانت العرب قبل البعثة المحمدية يأكل بعضهم بعضاً ولا يحترم ماله ولا دمه، حتى جاء الإسلام فصاروا يداً واحدة، وذهب ما كان بينهم من العصبية، وجملة "لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم" مقررة لمضمون ما قبلها. والمعنى أن ما كان بينهم من العصبية والعداوة قد بلغ إلى حد لا يمكن دفعه بحال من الأحوال، ولو أنفق الطالب له جميع ما في الأرض لم يتم له ما طلبه من التأليف، لأن أمرهم في ذلك قد تفاقم جداً "ولكن الله ألف بينهم" بعظيم قدرته وبديع صنعه "إنه عزيز" لا يغالبه مغالب، ولا يستعصي عليه أمر من الأمور "حكيم" في تدبيره ونفوذ نهيه وأمره. وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "وإن جنحوا للسلم" قال: قريظة. وأخرج أبو الشيخ عن السدي في الآية قال: نزلت في بني قريظة نسختها "فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم" إلى آخر الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: السلم الطاعة. وأخرج أبو الشيخ عنه في الآية قال: إن رضوا فارض. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في الآية قال: إن أرادوا الصلح فأرده. وأخرج أبو عبيد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال: نسختها هذه الآية: "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر" إلى قوله: "وهم صاغرون". وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر والنحاس في ناسخه وأبو الشيخ عن قتادة قال: ثم نسخ ذلك "فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم". وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "وإن يريدوا أن يخدعوك" قال: قريظة. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله: "وبالمؤمنين" قال: بالأنصار. وأخرج ابن مردويه عن النعمان بن بشير نحوه. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس نحوه أيضاً. وأخرج ابن عساكر عن أبي هريرة قال: مكتوب على العرش لا إله إلا الله، أنا الله وحدي لا شريك لي، ومحمد عبدي ورسولي أيدته بعلمي، وذلك قوله: "هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين". وأخرج ابن المبارك وابن أبي شيبة وابن أبي الدنيا والنسائي والبزار وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود أن هذه الآية نزلت في المتحابين في الله "لو أنفقت ما في الأرض جميعاً" الآية. وأخرج أبو عبيد وابن المنذر وأبو الشيخ والبيهقي في شعب الإيمان، واللفظ له عن ابن عباس قال: قرابة الرحم تقطع، ومنة المنعم تكفر، ولم نر مثل تقارب القلوب، يقول الله: "لو أنفقت ما في الأرض جميعاً" الآية. وأخرج ابن المبارك وعبد الرزاق وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم والبيهقي عنه نحوه، وليس في هذا عن ابن عباس ما يدل على أنه سبب النزول، ولكن الشأن في قول ابن مسعود رضي الله عنه: إن هذه الآية نزلت في المتحابين في الله مع أن الواقع قبلها "هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين" والواقع بعدها "يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين" ومع كون الضمير في قوله: "ما ألفت بين قلوبهم" يرجع إلى المؤمنين المذكورين قبله بلا شك ولا شبهة، وكذلك الضمير في قوله: "ولكن الله ألف بينهم" فإن هذا يدل على أن التأليف المذكور هو بين المؤمنين الذين أيد الله بهم رسوله صلى الله عليه وسلم.
قوله: 64- "يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين" ليس هذا تكريراً لما قبله فإن الأول مقيد بإرادة الخدع "وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله" فهذه كفاية خاصة، وفي قوله: "يا أيها النبي حسبك الله" كفاية عامة غير مقيدة: أي حسبك الله في كل حال، والواو في قوله: "ومن اتبعك" يحتمل أن تكون للعطف على الاسم الشريف. والمعنى: حسبك الله وحسبك المؤمنون: أي كافيك الله وكافيك المؤمنون، ويحتمل أن تكون بمعنى مع كما تقول: حسبك وزيداً درهم، والمعنى: كافيك وكافي المؤمنين الله، لأن عطف الظاهر على المضمر في مثل هذه الصورة ممتنع كما تقرر في علم النحو، وأجازه الكوفيون. قال الفراء: ليس بكثير في كلامهم أن تقول حسبك وأخيك، بل المستعمل أن يقال: حسبك وحسب أخيك بإعادة الجار، فلو كان قوله: "ومن اتبعك" مجروراً لقيل: حسبك الله وحسب من اتبعك، واختار النصب على المفعول معه النحاس. وقيل: يجوز أن يكون المعنى: ومن اتبعك من المؤمنين حسبهم الله فحذف الخبر.
قوله: 65- "حرض المؤمنين على القتال" أي حثهم وحضهم، والتحريض في اللغة: المبالغة في الحث وهو كالتحضيض، مأخوذ من الحرض، وهو أن ينهكه المرض ويتبالغ فيه حتى يشفي على الموت كأنه ينسبه إلى الهلاك لو تخلف عن المأمور به، ثم بشرهم تثبيتاً لقلوبهم وتسكيناً لخواطرهم بأن الصابرين منهم في القتال يغلبون عشرة أمثالهم من الكفار، فقال: "إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين" ثم زاد هذا إيضاحاً مفيداً لعدم اختصاص هذه البشارة بهذا العدد، بل هي جارية في كل عدد فقال: " وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا " وفي هذا دلالة على أن الجماعة من المؤمنين قليلاً كانوا أو كثيراً لا يغلبهم عشرة أمثالهم من الكفار بحال من الأحوال وقد وجد في الخارج ما يخالف ذلك، فكم من طائفة من طوائف الكفار يغلبون من هو مثل عشرهم من المسلمين، بل مثل نصفهم بل مثلهم. وأجيب عن ذلك بأن وجود هذا في الخارج لا يخالف ما في الآية لاحتمال أن لا تكون الطائفة من المؤمنين متصفة بصفة الصبر، وقيل: إن هذا الخبر الواقع في الآية هو في معنى الأمر كقوله تعالى: "والوالدات يرضعن" "والمطلقات يتربصن" فالمؤمنون كانوا مأمورين من جهة الله سبحانه بأن تثبت الجماعة منهم لعشرة أمثالهم، ثم لما شق ذلك عليهم واستعظموه خفف عنهم ورخص لهم لما علمه سبحانه من وجود الضعف فيهم فقال: " فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين " إلى آخر الآية. فأوجب على الواحد أن يثبت لاثنين من الكفار. وقرأ حمزة عن عاصم "ضعفاً" بفتح الضاد. وقوله: "بأنهم قوم لا يفقهون" متعلق بقوله: "يغلبوا" أي إن هذا الغلب بسبب جهلهم وعدم فقههم، وأنهم يقاتلون على غير بصيرة، ومن كان هكذا فهو مغلوب في الغالب. وقد قيل في نكتة التنصيص على غلب العشرين للمائتين، والمائة للألف أن سراياه التي كان بعثها صلى الله عليه وسلم كان لا ينقص عددها عن العشرين ولا يجاوز المائة، وقيل في التنصيص فيما بعد ذلك على غلب المائة للمائتين والألف للألفين على أنه بشارة للمسلمين بأن عساكر الإسلام سيجاوز عددها العشرات والمئات إلى الألوف.
66- " الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين " ثم أخبرهم بأن هذا الغلب هو بإذن الله وتسهيله وتيسيره لا بقوتهم وجلادتهم، ثم بشرهم بأنه مع الصابرين، وفيه الترغيب إلى الصبر والتأكيد عليهم بلزومه والتوصية به، وأنه من أعظم أسباب النجاح والفلاح والنصر والظفر، لأن من كان الله معه لم يستقم لأحد أن يغلبه. وقد اختلف أهل العلم هل هذا التخفيف نسخ أم لا؟ ولا يتعلق بذلك كثير فائدة. وقد أخرج البزار عن ابن عباس قال: لما أسلم عمر قال المشركون: قد انتصف القوم منا اليوم، وأنزل الله: "يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين". وأخرج الطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس قال: لما أسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم تسعة وثلاثون رجلاً وامرأة، ثم إن عمر أسلم صاروا أربعين فنزل: "يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين". وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن سعيد بن جبير قال: لما أسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة وثلاثون وست نسوة ثم أسلم عمر نزلت: "يا أيها النبي حسبك الله". وأخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم عن الزهري في الآية قال: نزلت في الأنصار. وأخرج البخاري في تاريخه وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الشعبي في قوله : " يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين " قال : حسبك الله وحسب من اتبعك . وأخرج البخاري وابن المنذروابن أبي حاتم وأبو الشيخوابن مردويه والبيهقي في الشعب عن ابن عباس قال: لما نزلت "إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين" فكتب عليهم أن لا يفر واحد من عشرة، وأن لا يفر عشرون من مائتين، ثم نزلت: "الآن خفف الله عنكم" الآية فكتب أن لا يفر مائة من مائتين قال سفيان وقال ابن شبرمة: وأرى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثل هذا، إن كانا رجلين أمرهما وإن كانوا ثلاثة فهو في سعة من تركهم. وأخرج البخاري والنحاس في ناسخه وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال: لما نزلت "إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين" شق ذلك على المسلمين حين فرض عليهم أن لا يفر واحد من عشرة، فجاء التخفيف "الآن خفف الله عنكم" الآية قال: فلما خفف الله عنهم من العدة نقص من الصبر بقدر ما خفف عنهم.
هذا حكم آخر من أحكام الجهاد. ومعنى 67- "ما كان لنبي" ما صح له وما استقام، قرأ أبو عمرو وسهيل ويعقوب ويزيد والمضل "أن تكون" بالفوقية وقرأ الباقون بالتحتية وقرأ أيضاً يزيد والمفضل أسارى وقرأ الباقون أسرى والأسرى جمع أسير، مثل قتلى وقتيل، وجرحى وجريح. ويقال في جمع أسير أيضاً أسارى بضم الهمزة وفتحها، وهو مأخوذ من الأسر، وهو القد، لأنهم كانوا يشدون به الأسير، فسمي كل أخيذ وإن لم يشد بالقد أسيراً. قال الأعشى: وقيدني الشعر في بيته كما قيدت الأسرات الحمارا وقال أبو عمرو بن العلاء: الأسرى هم غير الموثقين عندما يؤخذون والأسارى هم الموثقون رقاً. والإثخان: كثرة القتل والمبالغة فيه، تقول العرب: أثخن فلان في هذا الأمر: أي بالغ فيه. فالمعنى: ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يبالغ في قتل الكافرين ويستكثر من ذلك، وقيل معنى الإثخان: التمكن، وقيل هو القوة. أخبر الله سبحانه أن قتل المشركين يوم بدر كان أولى من أسرهم وفدائهم ثم لما كثر المسلمون رخص الله في ذلك فقال: "فإما مناً بعد وإما فداء" كما يأتي في سورة القتال إن شاء الله. قوله: "تريدون عرض" الحياة "الدنيا" أي نفعها ومتاعها بما قبضتم من الفداء، وسمي عرضاً لأنه سريع الزوال كما تزول الأعراض التي هي مقابل الجواهر "والله يريد الآخرة" أي يريد لكم الدار الآخرة بما يحصل لكم من الثواب في الإثخان بالقتل. وقرئ يريد الآخرة بالجر على تقدير مضاف وهو المذكور قبله: أي والله يريد عرض الآخرة "والله عزيز" لا يغالب "حكيم" في كل أفعاله.
قوله: 68- "لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم". اختلف المفسرون في هذا الكتاب الذي سبق ما هو؟ على أقوال: الأول: ما سبق في علم الله من أنه سيحل لهذه الأمة الغنائم بعد أن كانت محرمة على سائر الأمم، والثاني: أنه مغفرة الله لأهل بدر ما تقدم من ذنوبهم وما تأخر كما في الحديث الصحيح: "إن الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم". القول الثالث: هو أنه لا يعذبهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم كما قال سبحانه: "وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم". القول الرابع: أنه لا يعذب أحداً بذنب فعله جاهلاً لكونه ذنباً. القول الخامس: أنه ما قضاه الله من محو الصغائر باجتناب الكبائر. القول السادس: أنه لا يعذب أحداً إلا بعد تأكيد الحجة وتقديم النهي ولم يتقدم نهي عن ذلك. وذهب ابن جرير الطبري إلى أن هذه المعاني كلها داخلة تحت اللفظ وأنه يعمها "لمسكم" أي لحل بكم "فيما أخذتم" أي لأجل ما أخذتم من الفداء "عذاب عظيم".
والفاء في 69- "فكلوا مما غنمتم" لترتيب ما بعدها على سبب محذوف: أي قد أبحت لكم الغنائم فكلوا مما غنمتم ويجوز أن تكون عاطفة على مقدر محذوف: أي اتركوا الفداء فكلوا مما غنمتم من غيره، وقيل إن "ما" عبارة عن الفداء: أي كلوا من الفداء الذي غنمتم فإنه من جملة الغنائم التي أحلها الله لكم و "حلالاً طيباً" منتصبان على الحال أو صفة المصدر المحذوف: أي أكلاً حلالاً طيباً "واتقوا الله" فيما يستقبل فلا تقدموا على شيء لم يأذن الله لكم به "إن الله غفور" لما فرط منكم "رحيم" بكم فلذلك رخص لكم في أخذ الفداء في مستقبل الزمان. وقد أخرج أحمد عن أنس قال: "استشار النبي صلى الله عليه وسلم الناس في الأسارى يوم بدر فقال:إن الله قد أمكنم منهم. فقام عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله اضرب أعناقهم. فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم. ثم عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أيها الناس إن الله قد أمكنكم منهم، وإنما هم إخوانكم بالأمس، فقام عمر فقال: يا رسول الله اضرب أعناقهم. فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم ثم عاد فقال مثل ذلك فقام أبو بكر الصديق فقال: يا رسول الله نرى أن تعفو عنهم وأن تقبل منهم الفداء، فعفا عنهم وقبل منهم الفداء، فأنزل الله: "لولا كتاب من الله سبق" الآية". وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والترمذي وحسنه وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن مسعود قال:" لما كان يوم بدر جيء بالأسارى وفيهم العباس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تريدون في هؤلاء الأسارى؟فقال أبو بكر: يا رسول الله قومك وأهلك فاستبقهم لعل الله أن يتوب عليهم، وقال عمر: يا رسول الله كذبوك وأخرجوك وقاتلوك قدمهم فاضرب أعناقهم، وقال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله انظر وادياً كثير الحطب فأضرمه عليهم ناراً، فقال العباس وهو يسمع: قطعت رحمك فدخل النبي صلى الله عليه وسلم عليهم ولم يرد عليهم شيئاً، فقال أناس: يأخذ بقول أبي بكر، وقال أناس: يأخذ بقول عمر، وقال قوم: يأخذ بقول عبد الله بن رواحة، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن الله ليلين قلوب رجال فيه حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله ليشدد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة، مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم عليه السلام قال: "من تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم" ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى عليه السلام قال: "إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم"، ومثلك يا عمر مثل نوح عليه السلام إذ قال: "رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً"، ومثلك يا عمر مثل موسى عليه السلام إذ قال: "ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم" أنتم عالة فلا ينفلتن أحد منهم إلا بفداء أو ضرب عنق، فقال عبد الله: يا رسول الله إلا سهيل بن بيضاء فإني سمعته يذكر الإسلام، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما رأيتني في يوم أخوف من أن تقع علي الحجارة من السماء من ذلك اليوم حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إلا سهيل بن بيضاء، فأنزل الله: "ما كان لنبي أن يكون له أسرى" الآية". وأخرج الحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في سننه عن علي قال:" قال النبي صلى الله عليه وسلم في الأسارى يوم بدر: إن شئتم قتلتموهم، وإن شئتم فاديتم واستمتعتم بالفداء، واستشهد منكم بعدتهم، فكان آخر السبعين ثابت بن قيس استشهد باليمامة". وأخرج عبد الرزاق في مصنفه وابن أبي شيبة عن عبيدة نحوه. وأخرج الحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن عمر قال: " لما أسر الأسارى يوم بدر أسر العباس فيمن أسره، أسره رجل من الأنصار وقد وعدته الأنصار أن يقتلوه، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لم أنم الليلة من أجل عمي العباس، وقد زعمت الأنصار أنهم قاتلوه، فقال له عمر: فآتيهم؟ قال: نعم، فأتى عمر الأنصار فقال: أرسلوا العباس، فقالوا: لا والله لا نرسل، فقال لهم عمر: فإن كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم رضا، قالوا: فإن كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم رضا فخذه، فأخذه عمر، فلما صار في يده قال له: يا عباس أسلم، فوالله إن تسلم أحب إلي من أن يسلم الخطاب، وما ذاك إلا لما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه إسلامك، قال: فاستشار رسول الله أبا بكر فقال أبو بكر: عشيرتك فأرسلهم، فاستشار عمر فقال: اقتلهم، ففاداهم رسول الله، فأنزل الله: "ما كان لنبي أن يكون له أسرى" الآية". وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "حتى يثخن في الأرض" يقول حتى يظهروا على الأرض. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد قال: الإثخان هو القتل. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن مجاهد أيضاً في الآية قال: ثم نزلت الرخصة بعد، إن شئت فمن، وإن شئت ففاد. وأخرج ابن المنذر عن قتادة "تريدون عرض الدنيا" قال: أراد أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يوم بدر الفداء ففادوهم بأربعة آلاف أربعة آلاف. وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة "تريدون عرض الدنيا" قال: الخراج. وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "لولا كتاب من الله سبق" قال: سبق لهم المغفرة. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير قال: ما سبق لأهل بدر من السعادة. وأخرج النسائي وابن مردويه وأبو الشيخ عن ابن عباس قال: سبقت لهم من الله الرحمة قبل أن يعملوا بالمعصية. وأخرج أبو حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد قال: سبق أن لا يعذب أحداً حتى يبين له ويتقدم إليه.
اختلاف القراء في أسرى والأسارى هو هنا كما سبق في الآية التي قبل هذه، خاطب الله النبي صلى الله عليه وسلم بهذا: أي قل لهؤلاء الأسرى الذين هم في أيديكم أسرتموهم يوم بدر وأخذتم منهم الفداء 70- "إن يعلم الله في قلوبكم خيراً" من حسن إيمان، وصلاح نية، وخلوص طوية "يؤتكم خيراً مما أخذ منكم" من الفداء: أي يعوضكم في هذه الدنيا رزقاً خيراً منه، وأنفع لكم، أو في الآخرة بما يكتبه لكم من المثوبة بالأعمال الصالحة "ويغفر لكم" ذنوبكم "والله غفور رحيم" شأنه المغفرة لعباده والرحمة لهم.
ولما ذكر ما ذكره من العوض لمن علم في قلبه خيراً ذكر من هو على ضد ذلك منهم فقال: 71- "وإن يريدوا خيانتك" بما قالوه لك بألسنتهم من أنهم قد آمنوا بك وصدقوك ولم يكن ذلك منهم عن عزيمة صحيحة ونية خالصة، بل هو مماكرة ومخادعة، فليس ذلك بمستبعد منهم فإنهم قد فعلوا ما هو أعظم منه، وهو أنهم خانوا الله من قبل أن تظفر بهم، فكفروا به وقاتلوا رسوله "فأمكن منهم" بأن نصرك عليهم في يوم بدر فقتلت منهم من قتلت وأسرت من أسرت "والله عليم" بما في ضمائرهم "حكيم" في أفعاله بهم. وقد أخرج الحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن عائشة قالت:" لما بعث أهل مكة في فداء أسراهم بعثت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في فداء أبي العاص وبعثت فيه بقلادة. فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رق رقة مباشرة وقال:إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها، وقال العباس: إني كنت مسلماً يا رسول الله، قال: الله أعلم بإسلامك، فإن تكن كما تقول فالله يجزيك، فافد نفسك وابني أخويك نوفل بن الحارث وعقيل بن أبي طالب وحليفك عتبة بن عمرو، قال: ما ذاك عندي يا رسول الله، قال: فأين المال الذي دفنت أنت وأم الفضل؟، فقلت لها: إن أصبت فهذا المال لبني؟ فقال: والله يا رسول الله إن هذا لشيء ما علمه غيري وغيرها، فاحسب لي ما أصبتم مني عشرون أوقية من مال كان معي، قال:لا أفعل، ففدى نفسه وابني أخويه وحليفه ونزلت: "قل لمن في أيديكم من الأسرى" الآية، فأعطاني مكان العشرين الأوقية في الإسلام عشرين عبداً كلهم في يده مال يضرب به مع ما أرجو من مغفرة الله". وأخرج ابن سعد والحاكم وصححه عن أبي موسى "أن العلاء بن الحضرمي بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمال من البحرين ثمانين ألفاً، فما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم مال أكثر منه، فنشر على حصير، وجاء الناس فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيهم، وما كان يومئذ عدد ولا وزن، فجاء العباس فقال: يا رسول الله إني أعطيت فدائي وفداء عقيل يوم بدر أعطني من هذا المال، فقال: خذ، فحثا في خميصته ثم ذهب ينصرف فلم يستطع، فرفع رأسه وقال: يا رسول الله ارفع علي، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وذهب وهو يقول: أما أحد اللذين وعد الله فقد أنجزنا وما ندري ما يصنع في الأخرى " قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم " فهذا خير مما أخذ مني ولا أدري ما يصنع في المغفرة". والروايات في هذا الباب كثيرة. وأخرج ابن سعد وابن عساكر عن ابن عباس في الآية قال: نزلت في الأسارى يوم بدر منهم العباس بن عبد المطلب، ونوفل بن الحارث، وعقيل بن أبي طالب. وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عنه في قوله: "وإن يريدوا خيانتك" إن كان قولهم كذباً "فقد خانوا الله من قبل" فقد كفروا وقاتلوك " فأمكن " ـك الله "منهم".
ختم الله سبحانه هذه السورة بذكر الموالاة ليعلم كل فريق وليه الذي يستعين به، وسمى سبحانه المهاجرين إلى المدينة بهذا الاسم، لأنهم هجروا أوطانهم وفارقوها طلباً لما عند الله، وإجابة لداعيه "والذين آووا ونصروا" هم الأنصار والإشارة بقوله: "أولئك" إشارة إلى الموصول الأول والآخر، وهو مبتدأ وخبره الجملة المذكورة بعده، ويجوز أن يكون "بعضهم" بدلاً من اسم الإشارة، والخبر "أولياء بعض" أي بعضهم أولياء بعض في النصرة والمعونة، وقيل المعنى: إن بعضهم أولياء بعض في الميراث. وقد كانوا يتوارثون بالهجرة والنصرة، ثم نسخ ذلك بقوله سبحانه: " وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض ". قوله: "والذين آمنوا" مبتدأ، وخبره "ما لكم من ولايتهم من شيء". قرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة "من ولايتهم" بكسر الواو. وقرأ الباقون بفتحها: أي ما لكم من نصرتهم وإعانتهم، أو من ميراثهم، ولو كانوا من قراباتكم لعدم وقوع الهجرة منهم "حتى يهاجروا" فيكون لهم ما كان للطائفة الأولى الجامعين بين الإيمان والهجرة "وإن استنصروكم" أي هؤلاء الذين آمنوا ولم يهاجروا إذا طلبوا منكم النصرة لهم على المشركين "فعليكم النصر" أي فواجب عليكم النصر "إلا" أن يستنصروكم "على قوم بينكم وبينهم ميثاق" فلا تنصروهم ولا تنقضوا العهد الذي بينكم وبين أولئك القوم حتى تنقضي مدته. قال الزجاج: ويجوز فعليكم النصر بالنصب على الإغراء.
قوله: 73- "والذين كفروا" مبتدأ خبره "بعضهم أولياء بعض" أي بعضهم ينصر بعضاً ويتولاه في أموره، أو يرثه إذا مات، وفيه تعريض للمسلمين بأنهم لا يناصرون الكفار ولا يتولونهم. قوله: "إلا تفعلوه" الضمير يرجع إلى ما أمروا به قبل هذا من موالاة المؤمنين ومناصرتهم على التفصيل المذكور، وترك موالاة الكافرين "تكن فتنة في الأرض" أي تقع فتنة إن لم تفعلوا ذلك "وفساد كبير" أي مفسدة كبيرة في الدين والدنيا.
ثم بين سبحانه حكماً آخر يتعلق بالمؤمنين المهاجرين المجاهدين في سبيل الله والمؤمنين الذين أووا من هاجر إليهم ونصروهم وهم الأنصار، فقال: 74- "أولئك هم المؤمنون حقاً" أي الكاملون في الإيمان، وليس في هذا تكرير لما قبله فإنه وارد في الثناء على هؤلاء، والأول وارد في إيجاب الموالاة والنصرة، ثم أخبر سبحانه أن "لهم" منه "مغفرة" لذنوبهم في الآخرة "و" لهم في الدنيا "رزق كريم" خالص عن الكدر طيب مستلذ.
ثم أخبر سبحانه بأن من هاجر بعد هجرتهم وجاهد مع المجاهدين الأولين والأنصار فهو من جملتهم: أي من جملة المهاجرين الأولين والأنصار في استحقاق ما استحقوه من الموالاة والمناصرة وكمال الإيمان والمغفرة والرزق الكريم، ثم بين سبحانه بأن أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض من غيرهم ممن لم يكن بينه وبينهم رحم في الميراث، والمراد بهم القرابات فيتناول كل قرابة، وقيل المراد بهم هنا العصبات، قالوا: ومنه قول العرب: وصلتك رحم فإنهم لا يريدون قرابة الأم. قالوا: ومنه قول قتيلة: ظلت سيوف بني أبيه تنوشه لله أرحــام هناك تشقق ولا يخفاك أنه ليس في هذا ما يمنع من إطلاقه على غير العصبات، وقد استدل بهذه الآية من أثبت ميراث ذوي الأرحام، وهم من ليس بعصبة ولا ذي سهم على حسب اصطلاح أهل علم المواريث، والخلاف في ذلك معروف مقرر في مواطنه، وقد قيل: إن هذه الآية ناسخه للميراث بالموالاة والنصرة عند من فسر ما تقدم من قوله: "بعضهم أولياء بعض" وما بعده بالتوارث، وأما من فسرها بالنصرة والمعونة فيجعل هذه الآية إخباراً منه سبحانه وتعالى بأن القرابات 75- " بعضهم أولى ببعض في كتاب الله " أي في حكمه أو في اللوح المحفوظ أو في القرآن، ويدخل في هذه الأولوية الميراث دخولاً أولياً لوجود سببه، أعني القرابة "إن الله بكل شيء عليم" لا يخفى عليه شيء من الأشياء كائناً ما كان، ومن جملة ذلك ما تضمنته هذه الآيات. وقد أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "إن الذين آمنوا وهاجروا" الآية قال: إن المؤمنين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثلاث منازل، منهم المؤمن المهاجر المباين لقومه، وفي قوله: "والذين آووا ونصروا" قال: آووا ونصروا وأعلنوا ما أعلن أهل الهجرة وشهروا السيوف على من كذب وجحد، فهذان مؤمنان جعل الله بعضهم أولياء بعض، وفي قوله: "والذين آمنوا ولم يهاجروا" قال: كانوا يتوارثون بينهم إذا توفي المؤمن المهاجر بالولاية في الدين، وكان الذي آمن ولم يهاجر لا يرث من أجل أنه لم يهاجر ولم ينصر، فبرأ الله المؤمنين المهاجرين من ميراثهم، وهي الولاية التي قال: "ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق" كان حقاً على المؤمنين الذين آووا ونصروا إذا استنصروهم في الدين أن ينصروهم إن قوتلوا إلا أن يستنصروا على قوم بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم ميثاق، فلا نصر لهم عليهم إلا على العدو الذي لا ميثاق لهم، ثم أنزل الله بعد ذلك أن ألحق كل ذي رحم برحمه من المؤمنين الذين آمنوا "والذين آمنوا ولم يهاجروا" فجعل لكل إنسان من المؤمنين نصيباً مفروضاً لقوله: " وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض " الآية، وفي رواية لابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: " أولئك بعضهم أولياء بعض " قال: يعني في الميراث جعل الله الميراث للمهاجرين والأنصار دون الأرحام "والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء" ما لكم من ميراثهم من شيء "حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين" يعني إن استنصر الأعراب المسلمون المهاجرين والأنصار على عدو لهم فعليهم أن ينصروهم إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق، فكانوا يعملون على ذلك حتى أنزل الله هذه الآية: " وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض " فنسخت الآية التي قبلها، وصارت المواريث لذوي الأرحام. وأخرج أبو عبيد وأبو داود وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً في هذه الآيات قال: كان المهاجر لا يتولى الأعرابي ولا يرثه وهو مؤمن، ولا يرث الأعرابي المهاجر، فنسختها هذه الآية: " وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عنه أيضاً قال: قال رجل من المسلمين: لنورثن ذوي القربى منا من المشركين، فنزلت: " والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير ". وأخرج أحمد وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن جرير بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المهاجرون بعضهم أولياء بعض في الدنيا والآخرة، والطلقاء من قريش، والعتقاء من ثقيف بعضهم أولياء بعض في الدنيا والآخرة". وأخرج الحاكم وصححه وابن مردويه عن أسامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يتوارث أهل ملتين، ولا يرث مسلم كافراً، ولا كافراً مسلماً، ثم قرأ: "والذين كفروا بعضهم أولياء بعض" الآية". وأخرج ابن سعد وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عن الزبير بن العوام قال: أنزل الله فينا خاصة معشر قريش: " وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله " وذلك أنا معشر قريش لما قدمنا المدينة قدمنا ولا أموال لنا، فوجدنا الأنصار نعم الإخوان. فواخيناهم ووارثناهم فآخونا، فآخى أبو بكر خارجة بن زيد، وآخى عمر فلاناً، وآخى عثمان بن عفان رجلاً من بني زريق بن سعد الزرقي، قال الزبير: وآخيت أنا كعب بن مالك، ووارثونا ووارثناهم فلما كان يوم أحد قيل لي: قد قتل أخوك كعب بن مالك، فجئته فانتقلته فوجدت السلاح قد ثقلته فيما يرى، فوالله يا بني لو مات يومئذ عن الدنيا ما ورثه غيري، حتى أنزل الله هذه الآية فينا معشر قريش والأنصار فرجعنا إلى مواريثنا. وأخرج أبو داود الطيالسي والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس قال: آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه وورث بعضهم من بعض، حتى نزلت هذه الآية: " وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض " فتركوا ذلك وتوارثوا بالنسب.