هي أربع وثلاثون آية، وقيل خمس وثلاثون وهي مكية. قال القرطبي: في قول جميعهم: وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير قالا: نزلت سورة حم الأحقاف بمكة. وأخرج ابن الضريس والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال: "أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة الأحقاف وأقرأها آخر فخالف قراءته، فقلت من أقرأكها؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: والله لقد أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم غير ذا، فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت يا رسول الله ألم تقرئني كذا وكذا؟ قال: بلى، وقال الآخر: ألم تقرئني كذا وكذا؟ قال: بلى، فتمعر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ليقرأ كل واحد منكما ما سمع، فإنما هلك من كان قبلكم بالاختلاف". قوله: 1- "حم" قد تقدم الكلام على هذا في سورة غافر وما بعدها مستوفى وذكرنا وجه الإعراب وبيان ما هو الحق من أن فواتح السور من المتشابه الذي يجب أن يوكل علمه إلى من أنزله.
2- "تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم" قد تقدم الكلام على هذا في سورة غافر وما بعدها مستوفى وذكرنا وجه الإعراب وبيان ما هو الحق من أن فواتح السور من المتشابه الذي يجب أن يوكل علمه إلى من أنزله.
2- "ما خلقنا السموات والأرض وما بينهما" من المخلوقات بأسرها "إلا بالحق" هو استثناء مفرغ من أعلم الأحوال أي إلا خلقاً ملتبساً بالحق الذي تقتضيه المشيئة الإلهية، وقوله: "وأجل مسمى" معطوف على الحق: أي إلا بالحق، وبأجل مسمى على تقدير مضاف محذوف: أي وبتقدير أجل مسمى، وهذا الأجل هو يوم القيامة، فإنها تنتهي فيه السموات والأرض وما بينهما وتبدل الأرض غير الأرض والسموات. وقيل المراد بالأجل المسمى هو انتهاء أجل كل فرد من أفراد المخلوقات، والأول لغير شيء، بل خلقه للثواب والعقاب "والذين كفروا عما أنذروا معرضون" أي عما أنذروا وخوفوا به في القرآن من البعث والحساب والجزاء معرضون عنه غير مؤمنين به، وما في قوله: "ما أنذروا" يجوز أن تكون الموصولة، ويجوز أن تكون المصدرية.
3- "قل أرأيتم ما تدعون من دون الله" أي أخبروني ما تعبدون من دون الله من الأصنام "أروني ماذا خلقوا من الأرض" أي أي شيء خلقوا منها، وقوله: "أروني" يحتمل أن يكون تأكيداً لقوله أرأيتم: أي أخبروني أروني والمفعول الثاني لأرأيتم "ماذا خلقوا"، ويحتمل أن لا يكون تأكيداً، بل يكون هذا من باب التنازع، لأن أرأيتم يطلب مفعولاً ثانياً، و"أروني" كذلك "أم لهم شرك في السموات" أم هذه هي المنقطعة المقدرة ببل والهمزة، والمعنى: بل ألهم شركة مع الله فيها، والاستفهام للتوبيخ والتقريع "ائتوني بكتاب من قبل هذا" هذا تبكيت لهم وإظهار لعجزهم وقصورهم عن الإتيان بذلك، والإشارة بقوله هذا إلى القرآن، فإنه قد صرح ببطلان الشرك، وأن الله واحد لا شريك له، وأن الساعة حق لا ريب فيها، فهل للمشركين من كتاب يخالف هذا الكتاب، أو حجة تنافي هذه الحجة "أو أثارة من علم". قال في الصحاح: أو أثارة من علم بقية منه، وكذا الأثرة بالتحريك. قال ابن قتيبة: أي بقية من علم الأولين. وقال الفراء والمبرد: يعني ما يؤثر عن كتب الأولين. قال الواحدي: وهو معنى قول المفسرين. قال عطاء: أو شيء تأثرونه عن نبي كان قبل محمد صلى الله عليه وسلم. قال مقاتل: أو رواية من علم عن الأنبياء. وقال الزجاج أو أثارة: يقال أثرت الحديث آثره أثرة وأثارة وأثراً: إذا ذكرته عن غيرك. قرأ الجمهور "أثارة" على المصدر كالسماحة والغواية. وقرأ ابن عباس وزيد بن علي وعكرمة والسلمي والحسن وأبو رجاء بفتح الهمزة والثاء من غير ألف. وقرأ الكسائي " أثارة " بضم الهمزة وسكون الثاء "إن كنتم صادقين" في دعواكم التي تدعونها، وهي قولكم إن لله شريكاً ولم تأتوا بشيء من ذلك فتبين بطلان قولهم لقيام البرهان العقلي والنقلي على خلافه.
4- " ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له " أي لا أحد أضل منه ولا أجهل فإنه دعا من لا يسمع، فكيف يطمع في الإجابة فضلاً عن جلب نفع أو دفع ضر؟ فتبين بهذا أنه أجهل الجاهلين وأضل الضالين، والاستفهام للترقيع والتوبيخ، وقوله: "إلى يوم القيامة" غاية لعدم الاستجابة "وهم عن دعائهم غافلون" الضمير الأول للأصنام، والثاني لعابديها، والمعنى: والأصنام التي يدعونها عن دعائهم إياها غافلون عن ذلك، لا يسمعون ولا يعقلون لكونهم جمادات، والجمع في الضميرين باعتبار معنى من، وأجرى على الأصنام ما هو للعقلاء لاعتقاد المشركين فيها أنها تعقل.
5- "وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء" أي إذا حشر الناس العابدين للأصنام كان الأصنام لهم أعداء يتبرأ بعضهم من بعض ويلعن بعضهم بعضاً وقد قيل إن الله يخلق الحياة في الأصنام فتكذبهم. وقيل المراد أنها تكذيبهم وتعاديهم بلسان الحال لا بلسان المقال. وأما الملائكة والمسيح وعزير والشيطاين فإنهم يتبرأون ممن عبدهم يوم القيامة كما في قوله تعالى: "تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون" "وكانوا بعبادتهم كافرين" أي كان المعبودون بعبادة المشركين إياهم كافرين: أي جاحدين مكذبين وقيل الضمير في "كانوا" للعابدين كما في قوله: "والله ربنا ما كنا مشركين"، والأول أولى.
6- "وإذا تتلى عليهم آياتنا" أي آيات القرآن حال كونها "بينات" واضحات المعاني ظاهرات الدلالات "قال الذين كفروا للحق" أي لأجله وفي شأنه، وهو عبارة عن الآيات "لما جاءهم" أي وقت أن جاءهم "هذا سحر مبين" أي ظاهر السحرية.
7- "أم يقولون افتراه" أم هي المنقطعة: أي بل أيقولون افتراه والاستفهام للإنكار والتعجب من صنيعهم، وبل للانتقال عن تسميتهم الآيات سحراً إلى قولهم: إن رسول الله افترى ما جاء به، وفي ذلك من التوبيخ والتقريع ما لا يخفى. ثم أمره الله سبحانه أن يجيب عنهم فقال: "قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئاً" أي قل إن افتريته على سبيل الفرض والتقدير: كما تدعون، فلا تقدرون على أن تردوا عني عقاب الله، فكيف افتري على الله لأجلكم وأنتم لا تقدرون على دفع عقابه عني "هو أعلم بما تفيضون فيه" أي تخوضون فيه من التكذيب والإفاضة في الشيء الخوض فيه والاندفاع فيه، يقال أفاضوا في الحديث: أي اندفعوا فيه، وأفاض البعير: إذا دفع جرته من كرشه. والمعنى: الله أعلم بما تقولون في القرآن وتخوضون فيه من التكذيب له والقول بأنه سحر وكهانة: "كفى به شهيداً بيني وبينكم" فإنه يشهد لي بأن القرآن من عنده وأني قد بلغتكم، ويشهد عليكم بالتكذيب والجحود، وفي هذا وعيد شديد "وهو الغفور الرحيم" لمن تاب وآمن وصدق بالقرآن وعمل بما فيه: أي كثير المغفرة والرحمة بليغهما.
8- "قل ما كنت بدعاً من الرسل" البدع من كل شيء المبدأ: أي ما أنا بأول رسول، قد بعث الله قبلي كثيراً من الرسل. قيل البدع بمعنى البديع كالخف والخفيف، والبديع ما لم ير له مثل، من الابتداع وهو الاختراع، وشيء بدع بالكسر: أي مبتدع، وفلان بدع في هذا الأمر: أي بديع كذا قال الأخفش، وأنشد قطرب: فما أنا بدع من حوادث تعتري رجالاً غدت من بعد موسى وأسعدا وقرأ عكرمة وأبو حيوة وابن أبي عبلة "بدعا" بفتح الدال على تقدير حذف المضاف: أي ما كنت ذا بدع، وقرأ مجاهد بفتح الباب وكسر الدال على الوصف "وما أدري ما يفعل بي ولا بكم" أي ما يفعل بي فيما يستقبل من الزمان هل أبقى في مكة أو أخرج منها؟ وهل أموت أو أقتل؟ وهل تعجل لكم العقوبة أم تمهلون؟ وهذا إنما هو في الدنيا. وأما في الآخرة فقد علم أنه وأمته في الجنة وأن الكافرين في النار. وقيل إن المعنى: ما أدري ما يفعل بي ولا يكم يوم القيامة، وإنها لما نزلت فرح المشركون وقالوا: كيف نتبع نبيا لا يدري ما يفعل به ولا بنا، وأنه لا فضل له علينا؟ فنزل قوله تعالى: "ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر" والأول أولى " إن أتبع إلا ما يوحى إلي " قرأ الجمهور "يوحى" مبينا للمفعول: أي ما أتبع إلا القرآن ولا أبتدع من عندي شيئاً، والمعنى: قصر أفعاله صلى الله عليه وسلم على الوحي لا قصر اتباعه على الوحي "وما أنا إلا نذير مبين" أي أنذركم عقاب الله وأخوفكم عذابه على وجه الايضاح. وقد أخرج أحمد وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه من طريف أبي سلمة بن عبد الرحمن عن ابن عباس "أو أثارة من علم" قال: الخط. قال سفيان: ,لا أعلم إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم، يعني أن الحديث مرفوع لا موقوف على ابن عباس. وأخرج عبد بن حميد وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كان نبي من الأنبياء يخط، فمن صادف مثل خطه علم" ومعنى هذا ثابت في الصحيح ولأهل العلم فيه تفاسير مختلفة. ومن أين لنا أن هذه الخطوط الرملية موافقة لذلك الخط، وأين السند الصحيح إلى ذلك النبي، أو إلى نبينا صلى الله عليه وسلم أن هذا الخط هو على صورة كذا، فليس ما يفعله أهل الرمل إلا جهالات وضلالات. وأخرج ابن مردويه عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أو أثارة من علم" قال: حسن الخط. وأخرج الطبراني في الأوسط والحاكم من طريق الشعبي عن ابن عباس: "أو أثارة من علم" قال: خط كان يخطه العرب في الأرض. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس "أو أثارة من علم" يقول: بينة من الأمر. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه في قوله: "قل ما كنت بدعا من الرسل" يقول لست بأول الرسل "وما أدري ما يفعل بي ولا بكم" فأنزل الله بعد هذا "ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر" وقوله: " ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات " الآية، فأعلم سبحانه نبيه ما يفعل به وبالمؤمنين جمياً. وأخرج أبو داود في ناسخه عنه أيضاً أن هذه الآية منسوخة بقوله: "ليغفر لك الله" وقد ثبت في صحيح البخاري وغيره من حديث أم العلاء قالت: "لما مات عثمان بن مظعون قلت: رحمك الله أبا السائب شهادتي عليك لقد أكرمك الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما يدريك أن الله أكرمه؟ أما هو فقد جاءه اليقين من ربه وإني لأرجو له الخير، والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي ولا بكم، قالت أم العلاء: فوالله لا أزكي بعده أحداً".
9- "قل أرأيتم" أي أخبروني "إن كان من عند الله" يعني ما يوحى إليه من القرآن، وقيل المراد محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمعنى: إن كان مرسلاً من عند غير الله، وقوله: "وكفرتم به" في محل نصب على الحال بتقدير قد، وكذلك قوله: "وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله" والمعنى: أخبروني إن كان ذلك في الحقيقة من عند الله والحال أنكم قد كفرتم به، وشهد شاهد من بني إسرائيل العالمين بما أنزل الله في التوراة على مثله: أي القرآن من المعاني الموجودة في التوراة المطابقة له من إثبات التوحيد والبعث والنشور وغير ذلك. وهذه المثلية هي باعتبار تطابق المعاني وإن اختلفت الألفاظ. وقال الجرجاني: مثل صلة، والمعنى: وشهد شاهد عليه أنه من عند الله، وكذا قال الواحدي: "فآمن" الشاهد بالقرآن لما تبين له أنه من كلام الله ومن جنس ما ينزله على رسله وهذا الشاهد من بني إسرائيل هو عبد الله بن سلام كما قال الحسن ومجاهد وقتادة وعكرمة وغيرهم، وفي هذا نظر فإن السورة مكية بالإجماع، وعبد الله بن سلام كان إسلامه بعد الهجرة، فيكون المراد بالشاهد رجلاً من أهل الكتاب قد آمن بالقرآن في مكة وصدقه، واختار هذا ابن جرير، وسيأتي في آخر البحث ما يترجح به أنه عبد الله بن سلام وأن هذه الآية مدنية لا مكية. وروي عن مسروق أن المراد بالرجل موسى عليه السلام، وقوله: "واستكبرتم" معطوف على شهد: أي آمن الشاهد واستكبرتم أنتم عن الإيمان "إن الله لا يهدي القوم الظالمين" فحرمهم الله سبحانه الهداية لظلمهم لأنفسهم بالكفر بعد قيام الحجة الظاهرة على وجوب الإيمان، ومن فقد هداية الله له ضل. وقد اختلف في جواب الشرط ماذا هو؟ فقال الزجاج: محذوف تقديره أتؤمنون، وقيل قوله: "فآمن واستكبرتم" وقيل محذوف تقديره: فقد ظلمتم لدلالة "إن الله لا يهدي القوم الظالمين" عليه، وقيل تقديره: فمن أضل منكم، كما في قوله: "أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل" الآية. وقال أو علي الفارسي تقديره أتأمنون عقوبة الله، وقيل التقدير: ألستم ظالمين.
ثم ذكر سبحانه نوعاً آخر من أقاويلهم الباطلة فقال: 10- "وقال الذين كفروا للذين آمنوا" أي لأجلهم، ويجوز أن تكون هذه اللام هي لام التبليغ "لو كان خيراً ما سبقونا إليه" أي لو كان ما جاء به محمد من القرآن والنبوة خيراً ما سبقونا إليه لأنهم عند أنفسهم المستحقون للسبق إلى كل مكرمة، ولم يعلموا أن الله سبحانه يختص برحمته من يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء ويصطفي لدينه من يشاء " وإذ لم يهتدوا به " أي بالقرآن، وقيل بمحمد صلى الله عليه وسلم، وقيل بالإيمان "فسيقولون هذا إفك قديم" فجاوزوا نفي خيرية القرآن إلى دعوى أنه كذب قديم كما قالوا أساطير الأولين، والعامل في إذ مقدر: أي ظهر عنادهم، ولا يجوز أن يعمل فيه فسيقولون لتضاد الزمانين: أعني المضي والاستقبال ولأجل الفاء أيضاً، وقيل إن العامل فيه فعل مقدر من جنس المذكور: أي لم يهتدوا به.
وإذا لم يهتدوا به فسيقولون: 11- "ومن قبله كتاب موسى" قرأ الجمهور بكسر الميم من "من" على أنها حرف جر، وهي مع مجرورها خبر مقدم، وكتاب موسى مبتدأ مؤخر، والجملة في محل نصب على الحال، أو هي مستأنفة، والكلام مسوق لرد قولهم "هذا إفك قديم" فإن كونه قد تقدم القرآن كتاب موسى، وهو التوراة وتوافقا في أصول الشرائع يدل على أنه حق وأنه من عند الله، ويقتضي بطلان قولهم. وقرئ بفتح ميم من على أنها موصولة ونصب "كتاب": أي وآتينا من قبله كتاب موسى، ورويت هذه القراءة عن الكلبي "إماماً ورحمة" أي يقتدي به في الدين ورحمة من الله لمن آمن به، وهما منتصبان على الحال. قاله الزجاج وغيره. وقال الأخفش على القطع، وقال أبو عبيدة: أي جعلناه إماماً ورحمة "وهذا كتاب مصدق" يعني القرآن فإنه مصدق لكتاب موسى الذي هو إمام ورحمة ولغيره من كتب الله، وقيد مصدق للنبي صلى الله عليه وسلم، وانتصاب "لساناً عربياً" على الحال الموطئة وصاحبها الضمير في مصدق العائد إلى كتاب، وجوز أبو البقاء أن يكون مفعولاً لمصدق، والأول أولى، وقيل هو على حذف مضاف: أي ذا لسان عربي، وهو النبي صلى الله عليه وسلم "لينذر الذين ظلموا" قرأ الجمهور "لينذر" بالتحتية على أن فاعله ضمير يرجع إلى الكتاب: أي لينذر الكتاب الذين ظلموا، وقيل الضمير راجع إلى الله، وقيل إلى الرسول، والأول أولى. وقرأ نافع وابن عامر والبزي بالفوقية على أن فاعله النبي صلى الله عليه وسلم، واختار هذه القراءة أبو حاتم وأبو عبيد، وقوله: "وبشرى للمحسنين" في محل نصب عطفاً على محل لينذر. وقال الزجاج: الأجود أن يكون في محل رفع: أي وهو بشرى، وقيل على المصدرية لفعل محذوف: أي وتبشر بشرى، وقوله: "للمحسنين" متعلق ببشرى.
12- "إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا" أي جمعوا بين التوحيد والاستقامة على الشريعة، وقد تقدم تفسير هذا في سورة السجدة "فلا خوف عليهم" الفاء زائدة في خبر الموصول لما فيه من معنى الشرط "ولا هم يحزنون" المعنى: أنهم لا يخافون من وقوع مكروه بهم، ولا يحزنون من فوات محبوب وأن ذلك مستمر دائم.
13- "أولئك أصحاب الجنة" أي أولئك الموصوفون بما ذكر أصحاب الجنة التي هي دار المؤمنين حال كونهم "خالدين فيها" وفي هذه الآية من الترغيب أمر عظيم، فإن نفي الخوف والحزن على الدوام والاستقرار في الجنة على الأبد مما لا تطلب الأنفس سواه ولا تتشوف إلى ما عداه "جزاء بما كانوا يعملون" أي يجزون جزاء بسبب أعمالهم التي عملوها من الطاعات لله وترك معاصيه.
14- "ووصينا الإنسان بوالديه حسناً" قرأ الجمهور "حسناً" بضم الحاء وسكون السين. وقرأ علي والسلمي بفتحهما. وقرأ ابن عباس والكوفيون "إحساناً" وقد تقدم في سورة العنكبوت "ووصينا الإنسان بوالديه حسناً" من غير اختلاف بين القراء وتقدم في سورة الأنعام وسورة بني إسرائيل "وبالوالدين إحساناً" فلعل هذا هو وجه اختلاف القراء في هذه الآية، وعلى جميع هذه القراءات فانتصابه على المصدرية: أي وصيناه أن يحسن إليهما حسناً، أو إحساناً. وقيل على أنه مفعول به بتضمين وصينا معنى ألزمنا، وقيل على أنه مفعول له "حملته أمه كرها ووضعته كرهاً" قرأ الجمهور "كرهاً" في الموضعين بضم الكاف. وقرأ أبو عمر وأهل الحجاز [بفتحها]. قال الكسائي: وهما لغتان بمعنى واحد. قال أبو حاتم: الكره بالفتح لا يحسن لأنه الغضب والغلبة، واختار أبو عبيد قراءة الفتح قال: لأن لفظ الكره في القرآن كله بالفتح إلا التي في سورة البقرة "كتب عليكم القتال وهو كره لكم" وقيل إن الكره بالضم ما حمل الإنسان على نفسه، وبالفتح ما حمل على غيره. وإنما ذكر سبحانه حمل الأم ووضعها تأكيداً لوجوب الإحسان إليها الذي وصى الله به، والمعنى: أنها حملته ذات كره ووضعته ذات كره. ثم بين سبحانه مدة حمله وفصاله فقال: "حمله وفصاله ثلاثون شهراً" أي مدتهما هذه المدة من عند ابتداء حمله إلى أن يفصل من الرضاع: أي يفطم عنه، وقد استدل بهذه الآية على أن أقل الحمل ستة أشهر، لأن مدة الرضاع سنتان: أي مدة الرضاع الكامل كما في قوله: "حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة" فذكر سبحانه في هذه الآية أقل مدة الحمل، وأكثر مدة الرضاع. وفي هذه الآية إشارة إلى أن حق الأم آكد من حق الأب لأنها حملته بمشقة ووضعته بمشقة، وأرضعته هذه المدة بتعب ونصب ولم يشاركها الأب في شيء من ذلك. قرأ الجمهور "وفصاله" بالألف، وقرأ الحسن ويعقوب وقتادة والجحدي " وفصاله " بفتح الفاء وسكون الصاد بغير ألف، والفصل والفصال بمعنى: كالفطم والفطام والقطف والقطاف "حتى إذا بلغ أشده" أي بلغ استحكام قوته وعقله، وقد مضى تحقيق الأشد مستوفى ولا بد من تقدير جملة تكون حتى غاية لها: أي عاش واستمرت حياته حتى بلغ أشده، قيل بلغ عمره ثماني عشرة سنة، وقيل الأشد الحلم قاله الشعبي وابن زيد. وقال الحسن: هو بلوغ الأربعين، والأول أولى لقوله: "وبلغ أربعين سنة" فإن هذا يفيد أن بلوغ الأربعين هو شيء وراء بلوغ الأشد. قال المفسرون: لم يبعث الله نبياً قط إلا بعد أربعين سنة "قال رب أوزعني" أي ألهمني. قال الجوهري: استوزعت الله فأوزعني: أي استلهمته فألهمني "أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي" أي ألهمني شكر ما أنعمت به علي من الهداية، وعلى والدي من التحنن علي منهما حين ربياني صغيراً. وقيل أنعمت علي بالصحة والعافية، وعلى والدي بالغنى والثروة، والأولى عدم تقييد النعمة عليه وعلى أبويه بنعمة مخصوصة "وأن أعمل صالحاً ترضاه" أي وألهمني أن أعمل عملاً صالحاً ترضاه مني "وأصلح لي في ذريتي" أي اجعل ذريتي صالحين راسخين في الصلاح متمكنين منه. وفي هذه الآية دليل على أنه ينبغي لمن بلغ عمره أربعين سنة أن يستكثر من هذه الدعوات، وقد روي أنها نزلت في أبي بكر كما سيأتي في آخر البحث "إني تبت إليك" من ذنوبي "وإني من المسلمين" أي المستسلمين لك المنقادين لطاعتك المخلصين لتوحيدك.
والإشارة بقوله: 15- "أولئك" إلى الإنسان المذكور، والجمع لأنه يراد به الجنس وهو مبتدأ، وخبره "الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا" من أعمال الخير في الدنيا والمراد بالأحسن الحسن كقوله: "واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم" وقيل إن اسم التفضيل على معناه، ويراد به ما يثاب العبد عليه من الأعمال، لا ما لا يثاب عليه كالمباح فإنه حسن وليس بأحسن "ونتجاوز عن سيئاتهم" فلا نعاقبهم عليها. قرأ الجمهور "يتقبل" و" نتجاوز " على بناء الفعلين للمفعول. وقرأ حمزة والكسائي بالنون فيهما على إسنادهما إلى الله سبحانه، والتجاوز الغفران، وأصله من جزت الشيء: إذا لم تقف عليه، ومعنى "في أصحاب الجنة" أنهم كائنون في عدادهم منتظمون في سلكهم، فالجار والمجرور في محل النصب على الحال كقولك: أكرمني الأمير في أصحابه: أي كائناً في جملتهم، وقيل إن في بمعنى مع: أي مع أصحاب الجنة، وقيل إنهما خبر مبتدأ محذوف: أي هم في أصحاب الجنة "وعد الصدق الذي كانوا يوعدون" ووعد الصدق مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة، لأن قوله: "أولئك الذين نتقبل عنهم" الخ في معنى الوعد بالتقبل والتجاوز، ويجوز أن يكون مصدر الفعل محذوف. أي وعدهم الله وعد الصدق الذي كانوا يوعدون به على ألسن الرسل في الدنيا. وقد أخرج أبو يعلى وابن جرير والطبراني والحاكم وصححه عن عوف بن مالك الأشجعي قال: "انطلق النبي صلى الله عليه وسلم وأنا معه حتى دخلنا كنيسة اليهود يوم عيدهم، فكرهوا دخولنا عليهم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا معشر اليهود أروني اثني عشر رجلاً منكم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله يحط الله يحط الله تعالى عن كل يهودي تحت أديهم السماء الغضب الذي عليه"، فسكتوا فما أجابه منهم أحد، ثم رد عليهم فلم يجبه أحد ثلاثاً، فقال: أبيتم فوالله لأنا الحاشر، وأنا العاقب، وأنا المقفي آمنتم أو كذبتم، ثم انصرف وأنا معه حتى كدنا أن نخرج، فإذا رجل من خلقه فقال: كما أنت يا محمد فأقبل، فقال ذلك الرجل: أي رجل تعلموني فيكم يا معشر اليهود، فقالوا، والله ما نعلم فينا رجلاً أعلم بكتاب الله ولا أفقه منك ولا من أبيك ولا من جدك، قال: فإني أشهد بالله أنه النبي الذي تجدونه مكتوباً في التوراة والإنجيل، قالوا كذبت، ثم ردوا عليه وقالوا شراً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذبتم لن يقبل منكم قولكم، فخرجنا ونحن ثلاثة، رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا وابن سلام، فأنزل الله "قل أرأيتم إن كان من عند الله" إلى قوله: "لا يهدي القوم الظالمين" وصححه السيوطي. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن سعد بن أبي وقاص قال: ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأحد يمشي على وجه الأرض إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام، وفيه نزلت "وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله". وأخرج الترمذي وابن جرير وابن مردويه عن عبد الله بن سلام قال: نزل في آيات من كتاب الله نزلت في "وشهد شاهد من بني إسرائيل" ونزل في "قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس "وشهد شاهد من بني إسرائيل" قال. عبد الله بن سلام، وقد روي نحو هذا عن جماعة من التابعين. وفيه دليل على أن هذه الآية مدنية فيخصص بها عموم قولهم إن سورة الأحقاف كلها مكية. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة قال: قال ناس من المشركين نحن أعز ونحن ونحن، فلو كان خيراً ما سبقنا إليه فلان وفلان، فنزل "وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيراً ما سبقونا إليه". وأخرج ابن المنذر عن عون بن أبي شداد قال: كانت لعمر بن الخطاب أمة أسلمت قبله: يقال لها زنيرة، وكان عمر يضربها على الإسلام، وكان كفار قريش يقولون: لو كان خيراً ما سبقتنا إليه زنيرة، فأنزل الله في شأنها "وقال الذين كفروا" الآية. وأخرج الطبراني عن سمرة بن جندب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بنو غفار وأسلم كانوا لكثير من الناس فتنة، يقولون لو كان خيراً ما جعلهم الله أول الناس فيه". وأخرج ابن عساكر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: نزل قوله: "ووصينا الإنسان بوالديه" الآية إلى قوله: "وعد الصدق الذي كانوا يوعدون" في أبي بكر الصديق. وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن نافع بن جبير أن ابن عباس أخبره قال: إني لصاحب المرأة التي أتى بها عمر وضعت لستة أشهر فأنكر الناس ذلك. فقلت لعمر: لم تظلم؟ قال كيف؟ قلت اقرأ "وحمله وفصاله ثلاثون شهراً" "والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين" كم الحول؟ قال سنة، قلت: كم السنة؟ قال إثنا عشر شهراً، قلت فأربعة وعشرون شهراً حولان كاملان، ويؤخر الله من الحمل ما شاء ويقدم ما شاء، فاستراح عمر إلى قولي. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه أنه كان يقول: إذا ولدت المرأة لتسعة أشهر كفاها من الرضاع أحد وعشرون شهراً، وإذا ولدت لسبعة أشهر كفاها من الرضاع ثلاثة وعشرون شهراً، وإذا وضعت لستة أشهر فحولان كاملان، لأن الله يقول: "وحمله وفصاله ثلاثون شهراً". وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً قال: أنزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق "حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني" الآية، فاستجاب الله له فأسلم والده جميعاً وإخوته وولده كلهم، ونزلت فيه أيضاً "فأما من أعطى واتقى" إلى آخر السورة.
لما ذكر سبحانه من شكر نعمة الله سبحانه عليه وعلى والديه ذكر من قال لهما قولاً يدل على التضجر منهما عند دعوتهما له إلى الإيمان فقال: 16- "والذي قال لوالديه أف لكما" الموصول عبارة عن الجنس القائل ذلك القول ولهذا أخبر عنه بالجمع، وأف كلمة تصدر عن قائلها عند تضجره من شيء يرد عليه. قرأ نافع وحفص "أف" بكسر الفاء مع التنوين. وقرأ ابن كثير وابن عامر وابن محيصن بفتحها من غير تنوين، وقرأ الباقون بكسر من غير تنوين وهي لغات، وقد مضى بيان الكلام في هذا في سورة بني إسرائيل، واللام في قوله "لكما" لبيان التأفيف: أي التأفيف لكما كما في قوله: "هيت لك" قرأ الجمهور "أتعدانني" بنونين مخففتين، وفتح ياءه أهل المدينة ومكة وأسكنها الباقون. وقرأ أبو حيوة والمغيرة وهشام بإدغام إحدى النونين في الأخرى، ورويت هذه القراءة عن نافع. وقرأ الحسن وشيبة وأبو جعفر وعبد الوارث عن أبي عمرو بفتح النون الأولى، كأنهم فروا من توالي مثلين مكسورين. وقرأ الجمهور "أن أخرج" بضم الهمزة وفتح الراء مبيناً للمفعول. وقرأ الحسن ونصر وأبو العالية والأعمش وأبو معمر بفتح الهمزة وضم الراء مبيناً للفاعل. والمعنى: أتعدانني أنني أن أبعث بعد الموت، وجملة "وقد خلت القرون من قبلي" في محل نصب على الحال: أي والحال أن قد مضت القرون من قبلي فماتوا ولم يبعث منهم أحد، وهكذا جملة "وهما يستغيثان الله" في محل نصب على الحال: أي والحال أنهما يستغيثان الله له، ويطلبان منه التوفيق إلى الإيمان، واستغاث يتعدى بنفسه وبالباء: يقال استغاث الله واستغاث به. وقال الرازي: معناه يستغيثان بالله من كفره، فلما حذف الجار وصل الفعل، وقيل الاستغاثة الدعاء فلا حاجة إلى الباء. قال الفراء: يقال أجاب الله دعاءه وغواثه، وقوله: "ويلك" هو بتقدير القول: أي يقولان له ويلك، وليس المراد به الدعاء عليه، بل الحث له على الإيمان، ولهذا قالا له: "آمن إن وعد الله حق" أي آمن بالبعث إن وعد الله حق لا خلف فيه "فيقول" عند ذلك مكذباً لما قالاه: "ما هذا إلا أساطير الأولين" أي ما هذا الذي تقولاته من البعث إلا أحاديث الأولين وأباطيلهم التي [سطرونها] في الكتب، قرأ الجمهور: "إن وعد الله" بكسر إن على الاستئناف أو التعليل وقرأ عمر بن فايد والأعرج بفتحها على أنها معمولة لآمن بتقدير الباء. أي آمن بأن وعد الله بالبعث حق.
17- "أولئك الذين حق عليهم القول" أي أولئك القائلون هذه المقالات هم الذين حق عليهم القول: أي وجب عليهم العذاب بقوله سبحانه لإبليس: "لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين" كما يفيده قوله: "في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس"، وجملة "إنهم كانوا خاسرين" تعليل لما قبله، وهذا يدفع كون سبب نزول الآية عبد الرحمن بن أبي بكر وأنه الذي قال لوالديه ما قال، فإنه من أفاضل المؤمنين، وليس ممن حقت عليه كلمة العذاب، وسيأتي بيان النزول في آخر البحث إن شاء الله.
18- "ولكل درجات مما عملوا" أي لكل فريق من الفريقين المؤمنين والكافرين من الجن والإنس مراتب عند الله يوم القيامة بأعمالهم. قال ابن زيد: درجات أهل النار في هذه الآية تذهب سفلاً، ودرجات أهل الجنة تذهب علوا "وليوفيهم أعمالهم" أي جزاء أعمالهم. قرأ الجمهور " ليوفيهم " بالنون. وقرأ ابن كثير وابن محيصن وعاصم وأبو عمرو ويعقوب بالياء التحتية. واختار أبو عبيد القراءة الأولى واختار الثانية أبو حاتم "وهم لا يظلمون" أي لا يزاد مسيء ولا ينقص محسن بل يوفى كل فريق ما يستحقه من خير وشر، والجملة في محل نصب على الحال، أو مستأنفة مقررة لما قبلها.
19- "ويوم يعرض الذين كفروا على النار" الظرف متعلق بمحذوف: أي اذكر لهم يا محمد يوم ينكشف الغطاء فينظرون إلى النار ويقربون منها، وقيل معنى يعرضون يعذبون من قولهم: عرضه على السيف، وقيل في الكلام قلب. والمعنى: تعرض النار عليهم "أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا" أي يقال لهم ذلك، قيل وهذا القدر هو الناصب للظرف، والأول أولى قرأ الجمهور: "أذهبتم" بهمزة واحدة، وقرأ الحسن ونصر وأبو العالية ويعقوب وابن كثير بهمزتين مخففتين، ومعنى الاستفهام التقريع والتوبيخ. قال الفراء والزجاج: العرب توبخ بالاستفهام وبغيره، فالتوبيخ كائن على القراءتين. قال الكلبي: المراد بالطيبات اللذات وما كانوا فيه من المعايش "واستمتعتم بها" أي بالطيبات، والمعنى: أنهم اتبعوا الشهوات واللذات التي في معاصي الله سبحانه، ولم يبالوا بالذنب تكذيباً منهم لما جاءت به الرسل من الوعد بالحساب والعقاب والثواب "فاليوم تجزون عذاب الهون" أي العذاب الذي فيه ذل لكم وخزي عليكم. قال مجاهد وقتادة: الهون الهوان بلغة قريش " بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق " أي بسبب تكبركم عن عبادة الله والإيمان به وتوحيده "وبما كنتم تفسقون" أي [تخرجون] عن طاعة الله وتعملون بمعاصيه، فجعل السبب في عذابهم أمرين: التكبر عن اتباع الحق، والعمل بمعاصي الله سبحانه وتعالى، وهذا شأن الكفرة فإنهم قد جمعوا بينهما. وقد أخرج البخاري عن يوسف بن ماهك قال: كان مروان على الحجاز استعمله معاوية بن أبي سفيان، فخطب فجعل يذكر يزيد بن معاوية لكي يبايع له بعد أبيه، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر شيئاً، فقال خذوه، فدخل بيت عائشة فلم يقدروا عليه، فقال مروان: إن هذا أنزل فيه "والذي قال لوالديه أف لكما" فقالت عائشة: ما أنزل الله فينا شيئاً من القرآن إلا أن الله أنزل عذري. وأخرج عبد بن حميد والنسائي وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه عن محمد بن زياد قال: لما بايع معاوية لابنه، قال مروان: سنة أبي بكر وعمر، فقال عبد الرحمن سنة هرقل وقيصر، فقال مروان: هذا الذي قال الله فيه "والذي قال لوالديه أف لكما" الآية، فبلغ ذلك عائشة فقالت: كذب مروان والله ما هو به، ولو شئت أن أسمي الذي نزلت فيه لسميته، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن أبا مروان ومروان في صلبه، فمروان من لعنه الله. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية قال: هذا ابن لأبي بكر. وأخرج نحوه أبو حاتم عن السدي، ولا يصح هذا كما قدمنا.
قوله: 20- "واذكر أخا عاد" أي واذكر يا محمد لقومك أخا عاد، وهو هود بن عبد الله بن رباح كان أخاهم في النسب، لا في الدين، وقوله: " إذ أنذر قومه " بدل اشتمال منه: أي وقت إنذاره إياهم "بالأحقاف" وهي ديار عاد جمع حقف، وهو الرمل العظيم المستطيل المعوج قاله الخليل وغيره وكانوا قهروا أهل الأرض بقوتهم، والمعنى أن الله سبحانه أمره أن يذكر لقومه قصتهم ليتعظوا ويخافوا، وقيل أمره بأن يتذكر في نفسه قصتهم مع هود ليقتدي به ويهون عليه تكذيب قومه. قال عطاء: الأحقاف رمال بلاد الشحر. وقال مقاتل: هي باليمين في حضر موت وقال ابن زيد: هي رمال مبسوطة مستطيلة كهيئة الجبال، ولم تبلغ أن تكون جبالاً "وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه" أي وقد مضت الرسل من قبله ومن بعده كذا قال الفراء وغيره. وفي قراءة ابن مسعود: من بين يديه ومن بعده والجملة في محل نصب على الحال، ويجوز أن تكون معترضة بين إنذار هود وبين قوله لقومه: "إني أخاف عليكم" والأول أولى. والمعنى: أعلمهم أن الرسل الذين بعثوا قبله والذين سيبعثون بعده كلهم منذرون نحو إنذاره، ثم رجع إلى كلام هود لقومه، فقال حاكياً عنه "إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم" وقيل إن جعل تلك الجملة اعتراضية أولى بالمقام وأوفق بالمعنى.
21- "قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا" أي لتصرفنا عن عبادتها، وقيل لتزيلنا، وقيل لتمنعنا والمعنى متقارب، ومنه قول عروة بن أذينة: إن تك عن حسن الصنيعة مأفو كا ففي آخرين قد أفكوا يقول: إن لم توفق للإحسان فأنت في قوم قد صرفوا عن ذلك "فأتنا بما تعدنا" من العذاب العظيم "إن كنت من الصادقين" في وعدك لنا به.
22- "قال إنما العلم عند الله" أي إنما العلم بوقت مجيئه عند الله لا عندي "وأبلغكم ما أرسلت به" إليكم من ربكم من الإنذار والإعذار، فأما العلم بوقت مجيء العذاب فما أوحاه إلي "ولكني أراكم قوماً تجهلون" حيث بقيتم مصرين على كفركم ولم تهتدوا بما جئتكم به، بل اقترحتم علي ما ليس من وظائف الرسل.
23- "فلما رأوه عارضاً" الضمير يرجع إلى ما في قوله: "بما تعدنا". وقال المبرد والزجاج: الضمير في "رأوه" يعود إلى غير مذكور وبينه قوله: "عارضاً" فالضمير يعود إلى السحاب: أي فلما رأوا السحاب عارضاً، فعارضاً نصب على التكرير: يعني التفسير، وسمي السحاب عارضاً لأنه يبدو في عرض السماء. قال الجوهري: العارض السحاب يعترض في الأفق، ومنه قوله: "هذا عارض ممطرنا" وانتصاب عارضاً على الحال أو التمييز "مستقبل أوديتهم" أي متوجهاً نحو أوديتهم. قال المفسرون: كانت عاد قد حبس عنهم المطر أياماً، فساق الله إليهم سحابة سوداء، فخرجت عليهم من واد لهم: يقال له المعتب، فلما رأوه مستقبل أوديتهم استبشروا، و"قالوا هذا عارض ممطرنا" أي غير فيه مطر، وقوله: "مستقبل أوديتهم" صفة لعارض لأن إضافته لفظية لا معنوية، فصح وصف النكرة به، وهكذا ممطرنا، فلما قالوا ذلك أجاب عليهم هود، فقال: "بل هو ما استعجلتم به" يعني من العذاب حيث قالوا: " فأتنا بما تعدنا " وقوله: "ريح" بدل من ما، أو خبر مبتدأ محذوف، وجملة "فيها عذاب أليم" صفة لريح، والريح التي عذبوا بها نشأت من ذلك السحاب الذي رأوه.
24- "تدمر كل شيء بأمر ربها" هذه الجملة صفة ثانية لريح: أي تهلك كل شيء مرت به من نفوس عاد وأموالها، والتدمير: الإهلاك، وكذا الدمار، وقرئ يدمر بالتحتية مفتوحة وسكون الدال وضم الميم ورفع كل على الفاعلية من دمر دماراً، ومعنى "بأمر ربها" أن ذلك بقضائه وقدره " فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم " أي لا ترى أنت يا محمد أو كل من يصلح للرؤية إلا مساكنهم بعد ذهاب أنفسهم وأموالهم. قرأ الجمهور "لا ترى" بالفوقية على الخطاب، ونصب "مساكنهم". وقرأ حمزة وعاصم بالتحتية مضمونة مبنياً للمفعول ورفع مساكنهم. قال سيبويه: معناه لا يرى أشخاصهم إلا مساكنهم، واختار أبو عبيد وأبو حاتم القراءة الثانية. قال الكسائي والزجاج: معناها لا يرى شيء إلا مساكنهم فهي محمولة على المعنى كما تقول: ما قال إلا هند، والمعنى: ما قام أحد إلا هند، وفي الكلام حذف، والتقدير: فجاءتهم الريح فدمرتهم فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم "كذلك نجزي القوم المجرمين" أي مثل ذلك الجزاء نجزي هؤلاء، وقد مر بيان هذه القصة في سورة الأعراف.
25- "ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه" قال المبرد: ما في قوله فيما بمنزلة الذي وإن بمنزلة ما: يعني النافية، وتقديره: ولقد مكناهم في الذي ما مكناكم فيه من المال وطول العمر وقوة الأبدان، وقيل إن زائدة وتقديره: ولقد مكناهم فيما مكناكم فيه، وبه [قال] القتيبي، ومثله قول الشاعر: فما إن طبق جبن ولكن منايانا ودولة آخرينا والأول أولى لأنه أبلغ في التوبيخ لكفار قريش وأمثالهم "وجعلنا لهم سمعاً وأبصاراً وأفئدة" أي إنهم أعرضوا عن قبول الحجة والتذكر مع ما أعطاها الله من الحواس التي بها تدرك الأدلة، ولهذا قال: "فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء" أي فما نفعهم ما أعطاهم الله من ذلك حيث لم يتوصلوا به إلى التوحيد وصحة الوعد والوعيد، وقد قدمنا من الكلام على وجه إفراد السمع وجمع البصر ما يغني عن الإعادة، ومن في "من شيء" زائدة، والتقدير: فما أغنى عنهم شيء من الإغناء ولا نفعهم بوجه من وجوه النفع " إذ كانوا يجحدون بآيات الله " الظرف متعلق بأغنى، وفيها معنى التعليل: أي لأنهم كانوا يجحدون "وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون" أي أحاط بهم العذاب الذي كانوا يستعجلونه بطريق الاستهزاء حيث قالوا " فأتنا بما تعدنا ".
26- "ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى" الخطاب لأهل مكة، والمراد بما حولهم من القرى قرى ثمود، وقرى لوط ونحوهما مما كان مجاوراً لبلاد الحجاز، وكانت أخبارهم متواترة عندهم "وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون" أي بينا الحجج ونوعناها لكي يرجعوا عن كفرهم فلم يرجعوا.
ثم ذكر سبحانه أنه لم ينصرهم من عذاب الله ناصر فقال: 27- "فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قرباناً آلهة" أي فهلا نصرهم آلهتهم التي تقربوا بها بزعمهم إلى الله لتشفع لهم حيث قالوا "هؤلاء شفعاؤنا عند الله" ومنعتهم من الهلاك الواقع بهم. قال الكسائي: القربان كل ما يتقرب به إلى الله من طاعة ونسيكة والجمع قرابين كالرهبان والرهابين، وأحد مفعولي اتخذوا ضمير راجع إلى الموصول، والثاني آلهة، وقرباناً حال، ولا يصح أن يكون قرباناً مفعولاً ثانياً، وآلهة بدلاً منه لفساد المعنى، وقيل يصح ذلك ولا يفسد المعنى، ورجحه ابن عطية وأبو البقاء وأبو حيان، وأنكر أن يكون في المعنى فساد على هذا الوجه "بل ضلوا عنهم" أي غابوا عن نصرهم ولم يحضروا عند الحاجة إليهم، وقيل بل هلكوا، وقيل الضمير في ضلوا راجح إلى الكفار: أي تركوا الأصنام وتبرأوا منها، والأول أولى، والإشارة بقوله: "وذلك" إلى ضلال آلهتهم. والمعنى وذلك الضلال والضياع أثر "إفكهم" الذي هو اتخاذهم إياها آلهة وزعمهم أنها تقربهم إلى الله. قرأ الجمهور "إفكهم" بكسر الهمزة وسكون الفاء مصدر أفك يأفك إفكاً: أي كذبهم. وقرأ ابن عباس وابن الزبير ومجاهد بفتح الهمزة والفاء والكاف على أنه فعل: أي ذلك القول صرفهم عن التوحيد. وقرأ عكرمة بفتح الهمزة وتشديد الفاء: أي صيرهم آفكين. قال أبو حاتم: يعني قلبهم عما كانوا عليه من النعيم، وروي عن ابن عباس أنه قرأ بالمد وكسر الفاء بمعنى صارفهم "وما كانوا يفترون" معطوف على إفكهم: أي وأثر افترائهم أو أثر الذي كانوا يفترونه. والمعنى: وذلك إفكهم: أي كذبهم الذي كانوا يقولون إنها تقربهم إلى الله وتشفع لهم "وما كانوا يفترون" أي يكذبون أنها آلهة. وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: الأحقاف جبل بالشام. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عنه في قوله: "هذا عارض ممطرنا" قال: هو السحاب. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة قالت: " ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجماً ضاحكاً حتى أرى منه لهواته، إنما كان يتبسم، وكان إذا رأى غيماً أو ريحاً عرف ذلك في وجهه، قلت: يارسول الله، الناس إذا رأوا الغيم فرحوا أن يكون فيه المطر. وأراك إذا رأيته عرفت في وجهك الكراهية، قال: يا عائشة: وما يؤمنني أن يكون فيه عذاب، قد عذب قوم بالريح وقد رأى قوم العذاب، فقالوا: "هذا عارض ممطرنا"". وأخرج مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه عنها قالت:" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عصفت الريح قال:اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به، فإذا تخيلت السماء تغير لونه وخرج ودخل وأقبل وأدبر، فإذا مطرت سري عنه، فسألته فقال: لا أدري، لعله كما قال قوم عاد "هذا عارض ممطرنا"". وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب السحاب وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس في قوله: "فلما رأوه عارضاً مستقبل أوديتهم" قالوا غيم فيه مطر، فأول ما عرفوا أنه عذاب رأوا ما كان خارجاً من رجالهم ومواشيهم تطير بين السماء والأرض مثل الريش دخلوا بيوتهم وغلقوا أبوابهم، فجاءت الريح ففتحت أبوابهم ومالك عليهم بالرمل، فكانوا تحت الرمل سبع ليل وثمانية أيام حسوماً لهم أنين، ثم أمر الله الريح فكشفت عنهم الرمل وطرحتهم في البحر، [فهو] قوله: "فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم". وأخرج عبد بن حميد وابن جرير والحاكم وصححه عن ابن عباس قال: ما أرسل الله على عاد من الريح إلا قدر خاتمي هذا. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله: " ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه " يقول: لم نمكنكم. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً في الآية قال: عاد مكنوا في الأرض أفضل مما مكنت فيه هذه الأمة، وكانوا أشد قوة وأكثر أموالاً وأطول أعماراً.
لما بين سبحانه أن في الإنس من آمن، وفيهم من كفر بين أيضاً أن في الجن كذلك، فقال: 28- " وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن " العامل في الظرف مقدر: أي واذكر إذ صرفنا. أي وجهنا إليك نفراً من الجن وبعثناهم إليك، وقوله: "يستمعون القرآن" في محل نصب صفة ثانية لنفراً أو حال لأن النكرة قد تخصصت بالصفة الأولى "فلما حضروه" أي حضروا القرآن عند تلاوته، وقيل حضروا النبي صلى الله عليه وسلم، ويكون في الكلام التفات من الخطاب إلى الغيبة، والأول أولى "قالوا أنصتوا" أي قال بعضهم لبعض اسكتوا، أمروا بعضهم بعضاً بذلك لأجل أن يسمعوا "فلما قضي" قرأ الجمهور "قضي" مبنياً للمفعول: أي فرغ من تلاوته. وقرأ حبيب بن عبيد الله بن الزبير ولاحق بن حميد وأبو مجلز على البناء للفاعل: أي فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من تلاوته، والقراءة أولى تؤيد أن الضمير في حضروه للقرآن، والقراءة الثانية تؤيد أنه للنبي صلى الله عليه وسلم "ولوا إلى قومهم منذرين" أي انصرفوا قاصدين إلى ما وراءهم من قومهم منذرين لهم عن مخالفة القرآن ومحذرين لهم، وانتصاب: منذرين على الحال المقدرة أي مقدرين الإنذار، وهذا يدل على أنهم آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، وسيأتي في آخر البحث بيان ذلك.
29- "قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى" يعنون القرآن، وفي الكلام حذف، والتقدير: فوصلوا إلى قومهم فقالوا يا قومنا. قال عطاء: كانوا يهوداً فأسلموا "مصدقاً لما بين يديه" أي لما قبله من الكتب المنزلة "يهدي إلى الحق" أي إلى الدين الحق "وإلى طريق مستقيم" أي إلى طريق الله القويم. قال مقاتل: لم يبعث الله نبياً إلى الجن والإنس قبل محمد صلى الله عليه وسلم.
30- "يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به" يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم أو القرآن "يغفر لكم من ذنوبكم" أي بعضها، وهو ما عدا حق العباد، وقيل إن من هنا لابتداء الغاية. والمعنى: أنه يقع ابتداء الغفران من الذنوب ثم ينتهي إلى غفران ترك ما هو الأولى، وقيل هي زائدة "ويجركم من عذاب أليم" وهو عذاب النار، وفي هذه الآية دليل على أن حكم الجن حكم الإنس في الثواب والعقاب والتعبد بالأوامر والنواهي. وقال الحسن ليس لمؤمني الجن ثواب غير نجاتهم من النار، وبه قال أبو حنيفة. والأول أولى، وبه قال مالك والشافعي وابن أبي ليلى. وعلى القول الأول، فقال القائلون به أنهم بعد نجاتهم من النار يقال لهم: كونوا تراباً، كما يقال للبهائم والثاني أرجح. وقد قال الله سبحانه في مخاطبة الجن والإنس " ولمن خاف مقام ربه جنتان * فبأي آلاء ربكما تكذبان " فامتن سبحانه على الثقلين بأن جعل جزاء محسنهم الجنة، ولا ينافي هذا الاقتصار هاهنا على ذكر إجارتهم من عذاب أليم، ومما يؤيد هذا أن الله سبحانه قد جازى كافرهم بالنار وهو مقام عدل، فكيف لا يجازي محسنهم بالجنة وهو مقام فضل، ومما يؤيده هذا أيضاً ما في القرآن الكريم في غير موضع أن جزاء المؤمنين الجنة، وجزاء من عمل الصالحات الجنة، وجزاء من قال لا إله إلا الله الجنة، وغير ذلك مما هو كثير في الكتاب والسنة. وقد اختلف أهل العلم هل أرسل الله إلى الجن رسلاً منهم أم لا، وظاهر الآيات القرآنية أن الرسل من الإنس فقط كما في قوله: "وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم من أهل القرى". وقال: " وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق " وقال سبحانه في إبراهيم الخليل: "وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب"، فكل نبي بعثه الله بعد إبراهيم فهو من ذريته، وأما قوله تعالى في سورة الأنعام: "يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم" فقيل المراد من مجموع الجنسين وصدق على أحدهما، وهم الإنس: كقوله: "يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان" أي من أحدهما.
31- "ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض" أي لا يفوت الله ولا يسبقه ولا يقدر على الهرب منه، لأنه وإن هرب كل مهرب فهو في الأرض لا سبيل له إلى الخروج منها، وفي هذا ترهيب شديد وليس له من دونه أولياء أي أنصار يمنعونه من عذاب الله، بين سبحانه بعد استحالة نجاته بنفسه استحالة نجاته بواسطة غيره، والإشارة بقوله: "أولئك" إلى من لا يجب داعي الله، وأخبر أنهم "في ضلال مبين" أي ظاهر واضح.
ثم ذكر سبحانه دليلاً على البعث، فقال: 32- "أولم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض" الرؤية هنا هي القلبية التي بمعنى العلم والهمزة للإنكار والواو للعطف على مقدر: أي ألم يتفكروا ولم يعلموا أن الذي خلق هذه الأجرام العظام من السموات والأرض ابتداء "ولم يعي بخلقهن" أي لم يعجز عن ذلك ولا ضعف عنه، يقال عي بالأمر وعيي: إذا لم يهتد لوجهه، ومنه قول الشاعر: عيوا بأمرهم كما عيت ببيضتها الحمامة قرأ الجمهور ولم يعي بسكون العين وفتح الياء مضارع عيي. وقرأ الحسن بكسر العين وسكون الياء "بقادر على أن يحيي الموتى". قال أبو عبيدة والأخفش: الباء زائدة للتوكيد، كما في قوله: "وكفى بالله شهيداً". قال الكسائي والفراء والزجاج: العرب تدخل الباء مع الجحد والاستفهام، فتقول ما أظنك بقائم، والجار والمجرور في محل رفع على أنهما خبر لأن، وقرأ ابن مسعود وعيسى بن عمر والأعرج والجحدي وابن أبي إسحاق ويعقوب وزيد بن علي "يقدر" على صيغة المضارع، واختار أبو عبيدة القراءة الأولى، واختار أبو حاتم القراءة الثانية قال: لأن دخول الباء في خبر أن قبيح "بلى إنه على كل شيء قدير" لا يعجزه شيء.
33- "ويوم يعرض الذين كفروا على النار" الظرف متعلق بقول مقدر: أي يقال ذلك اليوم للذين كفروا "أليس هذا بالحق" وهذه الجملة هي المحكمة بالقول، والإشارة بهذا إلى ما هو مشاهد لهم يوم عرضهم على النار، وفي الاكتفاء بمجرد الإشارة من التهويل للمشار إليه والتفخيم لشأنه ما لا يخفى، كأنه أمر لا يمكن التعبير عنه بلفظ يدل عليه "قالوا بلى وربنا" اعترفوا حين لا ينفعهم الاعتراف، وأكدوا هذا الاعتراف بالقسم، لأن المشاهدة هي حق اليقين الذي لا يمكن جحده ولا إنكاره "قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون" أي بسبب كفركم بهذا في الدنيا وإنكاركم له، وفي هذا الأمر لهم بذوق العذاب توبيخ بالغ وتهكم عظيم.
لما قرر سبحانه الأدلة على النبوة والتوحيد والمعاد أمر رسوله بالصبر فقال: 34- " فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل " والفاء جواب شرط محذوف: أي إذا عرفت ذلك وقامت عليه البراهين ولم ينجع في الكافرين فاصبر كما صبروا أولوا العزم: أي أرباب الثبات والحزم فإنك منهم. قال مجاهد: أولوا العزم من الرسل خمسة: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم، وهم أصحاب الشرائع. وقال أبو العالية: هم نوح وهود وإبراهيم، فأمر الله رسوله أن يكون رابعهم. وقال السدي. هم ستة إبراهيم وموسى وداود وسليمان وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم، وقيل نوح وهود وصالح وشعيب ولوط وموسى. وقال ابن جريح: إن منهم إسماعيل ويعقوب وأيوب وليس منهم يونس. وقال الشعبي والكلبي: هم الذين أمروا بالقتال، فأظهروا المكاشفة وجاهدوا الكفرة، وقيل هم نجباء الرسل المذكورون في سورة الأنعام وهم ثمانية عشر: إبراهيم وإسحاق ويعقوب ونوح وداود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهرون وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس وإسماعيل واليسع ويونس ولوط. واختار هذا الحسين بن الفضل لقوله بعد ذكرهم: "أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده" وقيل إن الرسل كلهم أولو العزم، وقيل هم اثنا عشر نبياً إلى بني إسرائيل. وقال الحسن: هم أربعة: إبراهيم وموسى وداود وعيسى "ولا تستعجل لهم" أي لا تستعجل العذاب يا محمد للكفار. لما أمره سبحانه بالصبر ونهاه عن استعجال العذاب لقومه رجاء أن يؤمنوا قال: "كأنهم يوم يرون ما يوعدون" من العذاب "لم يلبثوا إلا ساعة من نهار" أي كأنهم يوم يشاهدونه في الآخرة لم يلبثوا في الدنيا إلا قدر ساعة من ساعات الأيام لما يشاهدونه من الهول العظيم والبلاء المقيم. قرأ الجمهور "بلاغ" بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف: أي هذا الذي وعظتهم به بلاغ، أو تلك الساعة بلاغ، أو هذا القرآن بلاغ، أو هو مبتدأ، والخبر لهم الواقع بعد قوله: "ولا تستعجل" أي لهم بلاغ، وقرأ الحسن وعيسى بن عمر وزيد بن علي بلاغاً بالنصب على المصدر: أي بلغ بلاغاً، وقرأ أبو مجلز بلغ بصيغة الأمر. وقرئ بلغ بصيغة الماضي " فهل يهلك إلا القوم الفاسقون " قرأ الجمهور فهل يهلك على البناء للمفعول. وقرأ ابن محيصن على البناء للفاعل، والمعنى: أنه لا يهلك بعذاب الله إلا القوم الخارجون عن الطاعة الواقعون في معاصي الله. قال قتادة: لا يهلك على الله إلا هالك مشرك. قيل وهذه الآية أقوى آية في الرجاء. قال الزجاج: تأويله لا يهلك مع رحمة الله وفضله إلا القوم الفاسقون. وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن منيع والحاكم وصححه ابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل عن ابن مسعود قال: هبطوا، يعني الجن على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن ببطن نخلة، فلما سمعوه قالوا أنصتوا، قالوا صه، وكانوا تسعة أحدهم زوبعة، فأنزل الله: " وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن " إلى قوله: "ضلال مبين". وأخرج أحمد وابن جرير وابن مردويه عن الزبير " وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن " قال: بنخلة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العشاء الآخرة "كادوا يكونون عليه لبداً". وأخرج ابن جرير والطبراني وابن مردويه "وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن" الآية. قال كانوا تسعة نفر من أهل نصيبين فجعلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم رسلاً إلى قومهم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن مردويه وأبو نعيم نحوه أيضاً قال: صرفت الجن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين وكانوا أشراف الجن بنصيبين. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن مسروق قال: سألت ابن مسعود من آذن النبي صلى الله عليه وسلم بالجن ليلة استمعوا القرآن؟ قال: آذنته بهم شجرة. وأخرج عبد بن حميد وأحمد ومسلم والترمذي عن علقمة قال: قلت لابن مسعود: هل صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم منكم أحداً ليلة الجن؟ قال: ما صحبه منا أحد، ولكنا فقدناه ذات ليلة، فقلنا اغتيل، استطير، ما فعل؟ قال: فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فلما كان في وجه الصبح إذا نحن به يجيء من قبل حراء، فأخبرناه فقال: إنه أتاني داعي الجن فأتيتهم فقرأت عليهم القرآن، فانطلق فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم. وأخرج أحمد عن ابن مسعود قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لية الجن. وقد روي نحو هذا من طرق. والجمع بين الروايات بالحمل على قصتين وقعت منه صلى الله عليه وسلم مع الجن حضر إحداهما ابن مسعود ولم يحضر في الأخرى. وقد وردت أحاديث كثيرة أن الجن بعد هذا وفدت على رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة بعد مرة وأخذوا عنه الشرائع. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال: " أولو العزم من الرسل " النبي صلى الله عليه وسلم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى. وأخرج ابن مردويه عنه قال: هم الذين أمروا بالقتال حتى مضوا على ذلك نوح وهود وصالح وموسى وداود وسليمان. وأخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال: بلغني أن أولي العزم من الرسل كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر. وأخرج ابن أبي حاتم والديلمي عن عائشة قالت: ظل رسول الله صلى الله عليه وسلم صائماً ثم طوى، ثم ظل صائماً ثم طوى، ثم ظل صائماً قال: يا عائشة إن الدين لا ينبغي لمحمد ولا لآل محمد، يا عائشة إن الله لم يرض من أولي العزم من الرسل إلا بالصبر على مكروهها والصبر عن محبوبها، ثم لم يرض مني إلا أن يكلفني ما كلفهم، فقال: " فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل " وإني والله لأصبرن كما صبروا جهدي، ولا قوة إلا بالله.