وتسمى سورة القتال، وسورة الذين كفروا. وهي تسع وثلاثون آية، وقيل ثمان وثلاثون وهي مدنية. قال الماوردي: في قول الجميع، إلا ابن عباس وقتادة فإنهما قالا: إلا آية منها نزلت بعد حجة الوداع حين خرج من مكة وجعل ينظر إلى البيت وهو يبكي حزناً عليه، فنزل قوله تعالى: "وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك" وقال الثعلبي: إنها مكية. وحكاه ابن هبة الله عن الضحاك وسعيد بن جبير وهو غلط من القول، فالسورة مدنية كما لا يخفى. وقد أخرج ابن الضريس عن ابن عباس قال: نزلت سورة القتال بالمدينة. وأخرج النحاس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عنه قال: نزلت سورة محمد مدنية. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير قال: نزلت بالمدينة سورة الذين كفروا. وأخرج الطبراني في الأوسط عن ابن عمران أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بهم في المغرب "الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله". قوله: 1- "الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله" هم كفار قريش كفروا بالله وصدوا أنفسهم وغيرهم عن سبيل الله، وهو دين الإسلام بنهيهم عن الدخول فيه، كذا قال مجاهد والسدي. وقال الضحاك: معنى عن سبيل الله: عن بيت الله بمنع قاصديه. وقيل هم أهل الكتاب والموصول مبتدأ وخبره "أضل أعمالهم" أي أبطلها وجعلها ضائعة. قال الضحاك: معنى أضل أعمالهم أبطل كيدهم ومكرهم بالنبي صلى الله عليه وسلم وجعل الدائرة عليهم في كفرهم. وقيل أبطل ما عملوه في الكفر مما كانوا يسمونه مكارم أخلاق، من صلة الأرحام وفك الأسارى وقرى الأضياف، وهذه وإن كانت باطلة من أصلها، لكن المعنى أنه سبحانه حكم ببطلانها.
ولما ذكر فريق الكافرين أتبعهم بذكر فريق المؤمنين قال: 2- "والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد" ظاهر هذا العموم فيدخل تحته كل مؤمن من المؤمنين الذين يعملون الصالحات ولا يمنع من ذلك خصوص سببها، فقد قيل إنها نزلت في الأنصار، وقيل في ناس من قريش، وقيل في مؤمني أهل الكتاب، ولكن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وخص سبحانه الإيمان بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم بالذكر مع اندراجه تحت مطلق الإيمان المذكور قبله تنبيهاً على شرفه وعلو مكانه وجملة "وهو الحق من ربهم" معترضة بين المبتدأ، وهو قوله: "والذين آمنوا"، وبين خبره وهو قول: "كفر عنهم سيئاتهم" ومعنى كونه الحق أنه الناسخ لما قبله، وقوله: "من ربهم" في محل نصب على الحال، ومعنى كفر عنهم سيئاتهم: أي السيئات التي عملوها فيما مضى فإنه غفرها لهم بالإيمان والعمل الصالح "وأصلح بالهم" أي شأنهم وحالهم. قال مجاهد: شأنهم، وقال قتادة: حالهم، وقيل أمرهم، والمعاني متقاربة. قال المبرد: البال الحال هاهنا. قيل والمعنى: أنه عصمهم عن المعاصي في حياتهم وأرشدهم إلى أعمال الخير، وليس المراد إصلاح حال دنياهم من إعطائهم المال، ونحو ذلك، وقال النقاش: إن المعنى أصلح نياتهم، ومنه قول الشاعر: فإن تقبلي بالود أقبل بمثله وإن تدبري أذهب إلى حال باليا
والإشارة بقوله: 3- "ذلك" إشارة إلى ما مر مما أوعد به الكفار ووعد به المؤمنين، وهو مبتدأ خبره ما بعده. وقيل إنه خبر مبتدأ محذوف: أي الأمر ذلك بـ سبب "أن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم" فالباطل الشرك، والحق التوحيد والإيمان، والمعنى: أن ذلك الإضلال لأعمال الكافرين بسبب اتباعهم الباطل من الشرك بالله والعمل بمعاصيه، وذلك التكفير لسيئات المؤمنين وإصلاح بالهم بسبب اتباعهم للحق الذي أمر الله باتباعه من التوحيد والإيمان وعمل الطاعات "كذلك يضرب الله للناس أمثالهم" أي مثل ذلك الضرب بين للناس أمثالهم: أي أحوال الفريقين الجارية مجرى الأمثال في الغرابة. قال الزجاج: "كذلك يضرب" بين الله للناس أمثال حسنات المؤمنين وإضلال أعمال الكافرين: يعني أن من كان كافراً أضل الله عمله، ومن كان مؤمناً كفر الله سيئاته.
4- "فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب" لما بين سبحانه حال الفريقين أمر بجهاد الكفار، والمراد بالذين كفروا المشكرين ومن لم يكن صاحب عهد من أهل الكتاب، وانتصاب فضرب على أنه مصدر لفعل محذوف. قال الزجاج: أي فاضربوا الرقاب ضرباً، وخص الرقاب بالذكر لأن القتل أكثر ما يكون بقطعها، وقيل هو منصوب على الإغراء. قال أبو عبيدة: هو كقولهم: يا نفس صبراً، وقيل التقدير: اقصدوا ضرب الرقاب. وقيل إنما خص ضرب الرقاب لأن في التعبير عنه من الغلظة والشدة ما ليس في نفس القتل، وهي حز العنق وإطارة العضو الذي هو رأس البدن وعلوه وأحسن أعضائه "حتى إذا أثخنتموهم" أي بالغتم في قتلهم وأكثرتم القتل فيهم، وهذه غاية للأمر بضرب الرقاب، لا لبيان غاية القتل، وهو مأخوذ من الشيء الثخين: أي الغليظ، وقد مضى تحقيق معناه في سورة الأنفال "فشدوا الوثاق" الوثاق بالفتح ويجيء بالكسر: اسم الشيء الذي يوثق به كالرباط. قال الجوهري: وأوثقه في الوثاق: أي شده، قال: والوثاق بكسر الواو لغة فيه. قرأ الجمهور "فشدوا" بضم الشين، وقرأ السلمي بكسرها. وإنما أمر سبحانه بشد الوثاق لئلا ينفلتوا، والمعنى: إذا بالغتم في قتلهم فأسروهم وأحيطوهم بالوثاق "فإما منا بعد وإما فداء" أي فإما أن تمنوا عليهم بعد الأسر منا، أو تفدوا فداء، والمن: الإطلاق بغير عوض، والفداء: ما يفدي به الأسير نفسه من الأسر، ولم يذكر القتل هنا اكتفاء بما تقدم. قرأ الجمهور "فداء" بالمد. وقرأ ابن كثير " فهدى " بالقصر، وإنما قدم المن على الفداء، لأنه من مكارم الأخلاق، ولهذا كانت العرب تفتخر به، كما قال شاعرهم: ولا نقتل الأسرى ولكن نفكهم إذا أثقل الأعناق حمل المغارم ثم ذكر سبحانه الغاية لذلك فقال: "حتى تضع الحرب أوزارها" أوزار الحرب التي لا تقوم إلا بها من السلام والكراع، أسند الوضع إليها وهو لأهلها على طريق المجاز، والمعنى: أن المسلمين مخيرون بين تلك الأمور إلى غاية هي أن لا يكون حرب مع الكفار. قال مجاهد: المعنى حتى لا يكون دين غير دين الإسلام وبه قال الحسن والكلبي. قال الكسائي: حتى يسلم الخلق: قال الفراء: حتى يؤمنوا ويذهب الكفر. وقيل المعنى: حتى يضع الأعداء المحاربون أوزارهم، وهو سلاحهم بالهزيمة أو الموادعة. وروي عن الحسن وعطاء أنهما قالا: في الآية تقديم وتأخير، والمعنى: فضرب الرقاب حتى تضع الحرب أوزارها، فإذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق. وقد اختلف العلماء في هذه الآية هل هي محكمة أو منسوخة، فقيل إنها منسوخة في أهل الأوثان وأنه لا يجوز أن يفادوا ولا يمن عليهم، والناسخ لها قوله: "فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم" وقوله: "فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم" وقوله: "وقاتلوا المشركين كافة" وبهذا قال قتادة والضحاك والسدي وابن جريح وكثير من الكوفيين: قالوا: والمائدة آخر ما نزل، فوجب أن يقتل كل مشرك إلا من قامت الدلالة على تركه من النساء والصبيان ومن تؤخذ منه الجزية، وهذا هو المشهور من مذهب أبي حنيفة. وقيل إن هذه الآية ناسخة لقوله: "فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم" روي ذلك عن عطاء وغيره.وقال كثير من العلماء: إن الآية محكمة والإمام مخير بين القتل والأسر، وبعد الأسر مخير بين المن والفداء. وبه قال مالك والشافعي والثوري والأوزاعي وأبو عبيد وغيرهم. وهذا هو الراجح لأن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين من بعده فعلوا ذلك. وقال سعيد بن جبير: لا يكون فداء ولا أسر إلا بعد الإثخان والقتل بالسيف لقوله: "ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض" فإذا أسر بعد ذلك فللإمام أن يحكم بما رآه من قتل أو غيره " ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم " محل ذلك الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف: أي الأمر ذلك، وقيل في محل نصب على المفعولية بتقدير فعل: أي افعلوا ذلك، ويجوز أن يكون مبتدأ وخبره محذوف يدل عليه ما تقدم: أي ذلك حكم الكفار، ومعنى لو يشاء الله لانتصر منهم: أي قادر على الانتصار منهم بالانتقام منهم وإهلاكهم وتعذيبهم بما شاء من أنواع العذاب "ولكن" أمركم بحربهم "ليبلو بعضكم ببعض" أي ليتخير بعضكم ببعض فيعلم المجاهدين في سبيله والصابرين على ابتلائه ويجزل ثوابهم ويعذب الكفار بأيديهم "والذين قتلوا في سبيل الله" قرأ الجمهور "قاتلوا" مبنياً للفاعل، وقرأ أبو عمرو وحفص "قتلوا" مبنياً للمفعول، وقرأ الحسن بالتشديد مبنياً للمفعول أيضاً. وقرأ الجحدي وعيسى بن عمر وأبو حيوة قتلوا على البناء للفاعل مع التخفيف من غير ألف، والمعنى على القراءة الأولى والرابعة: أن المجاهدين في سبيل الله ثوابهم غير ضائع، وعلى القراءة الثانية والثالثة: أن المقتولين في سبيل الله كذلك لا يضع الله سبحانه أجرهم. قال قتادة: ذكر لنا أن هذه الآية نزلت يوم أحد.
ثم ذكر سبحانه ما لهم عنده من جزيل الثواب فقال: 5- "سيهديهم" أي سيهديهم الله سبحانه إلى الرشد في الدنيا ويعطيهم الثواب في الآخرة "ويصلح بالهم" أي حالهم وشأنهم وأمرهم. قال أبو العالية: قد ترد الهداية، والمراد بها إرشاد المؤمنين إلى مسالك الجنان والطريق المفضية إليها، وقال ابن زياد: يهديهم إلى محاجة منكر ونكير.
6- "ويدخلهم الجنة عرفها لهم" أي بينها لهم حتى عرفوها من غير استدلال، وذلك أنهم إذا دخلوا الجنة تفرقوا إلى منازلهم. قال الواحدي: هذا قول عامة المفسرين. وقال الحسن: وصف الله لهم الجنة في الدنيا، فلما دخلوها عرفوها بصفتها. وقيل فيه حذف: أي عرفوا طرقها ومساكنها وبيوتها. وقيل هذا التعريف بدليل يدلهم عليها، وهو الملك الموكل بالعلد يسير بين يديه حتى يدخله منزله. كذا قال مقاتل. وقيل معنى "عرفها لهم" طيبها بأنواع الملاذ، مأخوذ من العرف، وهو الرائحة.
ثم وعدهم سبحانه على نصر دينه بقوله: 7- "يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم" أي إن تنصروا دين الله ينصركم على الكفار ويفتح لكم، ومثله قوله: "ولينصرن الله من ينصره". قال قطرب: إن تنصروا نبي الله ينصركم "ويثبت أقدامكم" أي عند القتال وتثبيت الأقدام عبارة عن النصر والمعونة في مواطن الحرب، وقيل على الإسلام، وقيل على الصراط.
8- "والذين كفروا فتعساً لهم" الموصول في محل رفع على أنه مبتدأ وخبره محذوف تقديره فتعسوا بدليل ما بعده، ودخلت الفاء تشبيهاً للمبتدأ بالشرط، وانتصاب تعساً على المصدر للفعل المقدر خبراً. قال الفراء: مثل سقياً لهم ورعياً، وأصل التعس الانحطاط والعثار. قال ابن السكيت: التعس أن يجر على وجهه، والنكس أن يجر على رأسه، قال: والتعس أيضاً الهلاك. قال الجوهري: وأصله الكب وهو ضد الانتعاش، ومنه قول مجمع بن هلال: تقول وقد أفردتها من حليلها تعست كما أتعستني يا مجمع قال المبرد: أي فمكروهاً لهم، وقال ابن جريح: بعداً لهم، وقال السدي: خزياً لهم. وقال ابن زيد: شقاءً لهم. وقال الحسن: شتماً لهم. وقال ثعلب: هلاكاً لهم، وقال الضحاك: خيبة لهم: وقال أبو العالية: شقوة لهم، حكاه النقاش. وقال الضحاك: رغماً لهم. وقال ثعلب أيضاً: شراً لهم. وقال أبو العالية: شقوة لهم. واللام في لهم للبيان كما في قوله: "هيت لك" وقوله: "وأضل أعمالهم" معطوف على ما قبله داخل معه في خبرية الموصول.
والإشارة بقوله: 9- "ذلك" إلى ما تقدم مما ذكره الله من التعس والإضلال: أي الأمر ذلك، أو ذلك الأمر "بأنهم كرهوا ما أنزل الله" على رسوله من القرآن، أو ما أنزل على رسله من كتبه لاشتمالها على ما في القرآن من التوحيد والبعث "فأحبط" الله "أعمالهم" بذلك السبب، والمراد بالأعمال ما كانوا عملوا من أعمال الخير في الصورة وإن كانت باطلة من الأصل، لأن عمل الكافر لا يقبل قبل إسلامه.
ثم خوف سبحانه الكفار وأرشدهم إلى الاعتبار بحال من قبلهم فقال: 10- "أفلم يسيروا في الأرض" أي ألم يسيروا في أرض عاد وثموط وقوم لوط وغيرهم ليعتبروا "فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم" أي آخر أمر الكافرين قبلهم، فإن آثار العذاب في ديارهم باقية. ثم بين سبحانه ما صنع بمن قبلهم فقال: "دمر الله عليهم" والجملة مستأنفة جواب سؤال مقدر، والتدمير والهلاك: أي أهلكهم واستأصلهم، يقال دمره ودمر عليه بمعنى. ثم توعد مشركي مكة فقال: "وللكافرين أمثالها" أي لهؤلاء الكافرين أمثال عاقبة من قبلهم من الأمم الكافرة. قال الزجاج وابن جرير: الضمير في أمثالها يرجع إلى عاقبة الذين من قبلهم، وإنما جمع لأن العواقب متعددة بحسب تعدد الأمم المعذبة، وقيل أمثال العقوبة، وقيل الهلكة، وقيل التدميرة والأول أولى لرجوع الضمير إلى ما هو مذكور قبله.
والإشارة بقوله: 11- "ذلك" إلى ما ذكر من أن للكافرين أمثالها "بأن الله مولى الذين آمنوا" أي بسبب أن الله ناصرهم "وأن الكافرين لا مولى لهم" أي لا ناصر يدفع عنهم. وقرأ ابن مسعود ذلك بأن الله ولي الذين آمنوا قال قتادة: نزلت يوم أحد.
12- "إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار" قد تقدم تفسير الآية في غير موضع، وتقدم كيفية جري الأنهار من تحت الجنات، والجملة مسوقة لبيان ولاية الله للمؤمنين "والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام" أي يتمتعون بمتاع الدنيا وينتفعون به كأنهم أنعام ليس لهم همة إلا بطونهم وفروجهم، ساهون عن العاقبة لاهون بما هم فيه "والنار مثوى لهم" أي مقام يقيمون به، ومنزل ينزلونه ويستقرون فيه، والجملة في محل نصب على الحال أو مستأنفة. وقد أخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه ابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله" قال: هم أهل مكة قريش نزلت فيهم "والذين آمنوا وعملوا الصالحات" قال: هم أهل المدينة الأنصار "وأصلح بالهم" قال: أمرهم. وأخرج ابن المنذر عنه في قوله: "أضل أعمالهم" قال: كانت لهم أعمال فاضلة لا يقبل الله مع الكفر عملاً. وأخرج النحاس عنه أيضاً في قوله: "فإما مناً بعد وإما فداء" قال: فجعل الله النبي والمؤمنين بالخيار في الأسار، إن شاءوا قتلوهم، وإن شاءوا استعبدوهم، وإن شاءوا فادوهم. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عنه أيضاً في الآية قال: هذا منسوخ نسختها: "فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين". وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن الحسن قال: أتي الحجاج بأسارى، فدفع إلى ابن عمر رجلاً يقتله، فقال ابن عمر: ليس بهذا أمرنا إنما قال الله "حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما مناً بعد وإما فداء". وأخرج عبد الرزاق في المصنف وابن المنذر وابن مردويه عن ليث قال: قلت لمجاهد: بلغني أن ابن عباس قال: لا يحل قتل الأساري، لأن الله قال: "فإما مناً بعد وإما فداء" فقال مجاهد: لا تعبأ بهذا شيئاً أدركت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلهم ينكر هذا، ويقول هذه منسوخة إنما كانت في الهدنة التي كانت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين، فأما اليوم فلا، يقول الله: "اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم" ويقول: "فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب" فإن كان من مشركي العرب لم يقبل شيئ منهم إلا الإسلام، فإن لم يسلموا فالقتل، وأما من سواهم فإنهم إذا أسروا فالمسلمون فيهم بالخيار إن شاءوا قتلوهم وإن شاءوا استحيوهم وإن شاءوا فادوهم إذا لم يتحولوا عن دينهم، فإن أظهروا الإسلام لم يفادوا. ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل الصغير والمرأة والشيخ الفاني. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يوشك من عاش منكم أن يلقى عيسى ابن مريم إماماً مهدياً وحكماً عدلاً، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، وتوضع الجزية، وتضع الحرب أوزارها". وأخرج ابن سعد وأحمد والنسائي والبغوي والطبراني وابن مردويه عن سلمة بن نفيل عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث قال: "لا تضع الحرب أوزارها حتى يخرج يأجوج ومأجوج". وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس "وللكافرين أمثالها" قال: لكفار قومك يا محمد مثل ما دمرت به القرى فأهلكوا بالسيف.
خوف سبحانه الكفار بأنه قد أهلك من هو أشد منهم فقال: 13- "وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم" قد قدمنا أن "كأين" مركبة من الكاف وأي وأنها بمعنى كم الخبرية: أي وكم من قرية، وأنشد الأخفش قول الوليد: وكأين رأينا من ملوك وسوقة ومفتاح قيد للأسير المكبل ومعنى الآية: وكم من أهل قرية هم أشد قوة من أهل قريتك التي أخرجوك منها أهلكناهم "فلا ناصر لهم" فبالأولى من هو أضعف منهم وهم قريش الذين هم أهل قرية النبي صلى الله عليه وسلم وهي مكة، فالكلام على حذف المضاف كما في قوله: "واسأل القرية" قال مقاتل: أي أهلكناهم بالعذاب حين كذبوا رسولهم.
ثم ذكر سبحانه الفرق بين حال المؤمن وحال الكافر فقال: 14- "أفمن كان على بينة من ربه" والهمزة للإنكار، والفاء للعطف على مقدر كنظائره، ومن مبتدأ، والخبر " كمن زين له سوء عمله " وأفرد في هذا باعتبار لفظ من، وجمع في قوله: "واتبعوا أهواءهم" باعتبار معناها، والمعنى: أنه لا يستوي من كان على يقين من ربه ولا يكون كمن زين له سوء عمله، وهو عبادة الأوثان والإشراك بالله والعمل بمعاصي الله، واتبعوا أهواءهم في عبادتها، وانهمكوا في أنواع الضلالات بلا شبهة توجب الشك فضلاً عن حجة نيرة.
ثم لما بين سبحانه الفرق بين الفرقين في الاهتداء والضلال بين الفرق في مرجعهما ومآلهما فقال: 15- "مثل الجنة التي وعد المتقون" والجملة مستأنفة لشرح محاسن الجنة وبيان ما فيها، ومعنى مثل الجنة وصفها العجيب الشأن، وهو مبتدأ وخبره محذوف. قال النضر بن شمي: تقديره ما يسمعون، وقدره سيبويه فيما يتلى عليكم مثل الجنة، قال: والمثل هو الوصف ومعناه وصف الجنة، وجملة "فيها أنهار من ماء غير آسن" الخ مفسرة للمثل. وقيل إن مثل زائدة، وقيل إن مثل الجنة مبتدأ، والخبر فيها أنهار، وقيل خبره كمن هو خالد، والآسن المتغير، يقال أسن الماء يأسن أسونا: إذا تغيرت رائحته، ومثله الآجن، ومنه قول زهير: قد أترك القرن مصفراً أنامله يميد في الرمح ميد المالح الأسن قرأ الجمهور "آسن" بالمد. وقرأ حميد وابن كثير بالقصر، وهما لغتان كحاذر وحذر. وقال الأخفش: إن الممدود يراد به الاستقبال، والمقصود يراد به الحال "وأنهار من لبن لم يتغير طعمه" أي لم يحمض كما تغير ألبان الدنيا، لأنها لم تخرج من ضروع الإبل والغنم والبقر "وأنهار من خمر لذة للشاربين" أي لذيذة لهم طيبة الشرب لا يتكرهها الشاربون، يقال شراب لذ ولذيذ وفيه لذة بمعنى، ومثل هذه الآية قوله: "بيضاء لذة للشاربين" قرأ الجمهور "لذة" بالجر صفة لخمر، وقرئ بالنصب على أنه مصدر، أو مفعول له. وقرئ بالرفع صفة لأنهار "وأنهار من عسل مصفى" أي مصفى مما يخالطه من الشمع والقذى والعكر والكدر "ولهم فيها من كل الثمرات" أي لأهل الجنة في الجنة مع ما ذكر من الأشربة من كل الثمرات: أي من كل صنف من أصنافها، ومن زائدة للتوكيد "ومغفرة من ربهم" لذنوبهم، وتنكير مغفرة للتعظيم: أي ولهم مغفرة عظيمة كائنة من ربهم "كمن هو خالد في النار" هو خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير: أم من هو في نعيم الجنة على هذه الصفة خالداً فيها كمن هو خالد في النار أو خبر لقوله مثل الجنة كما تقدم. ورجح الأول الفراء فقال: أراد أمن كان في هذا النعيم كما هو خالد في النار. وقال الزجاج: أي أفمن كان على بينة من ربه وأعطي هذه الأشياء كمن زين له سوء عمله وهو خالد في النار، فقوله "كمن" بدل من قوله "أفمن زين له سوء عمله" وقال ابن كيسان: ليس مثل الجنة التي فيها الثمار والأنهار كمثل النار التي فيها الحميم والزقوم، وليس مثل أهل الجنة في النعيم كمثل أهل النار في العذاب الأليم، قوله: "وسقوا ماء حميماً" عطف على الصلة عطف جملة فعلية على اسمية لكنه راعى في الأولى لفظ من، وفي الثانية معناها، والحميم الماء الحار الشديد الغليان، فإذا شربوه قطع أمعاءهم، وهو معنى قوله: "فقطع أمعاءهم" لفرط حرارته. والأمعاء جمع معي، وهي ما في البطون من الحوايا.
16- "ومنهم من يستمع إليك" أي من هؤلاء الكفار الذين يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام "من يستمع إليك" وهم المنافقون، أفرد الضمير باعتبار لفظ من، وجمع في قوله: "حتى إذا خرجوا من عندك" باعتبار معناها، والمعنى: أن المنافقين كانوا يحضرون مواقف وعظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ومواطن خطبه التي يمليها على المسلمين حتى إذا خرجوا من عنده "قالوا للذين أوتوا العلم" وهم علماء الصحابة، وقيل عبد الله بن عباس، وقيل عبد الله بن مسعود، وقيل أبو الدرداء، والأول أولى: أي سألوا أهل العلم فقالوا لهم "ماذا قال آنفاً" أي ماذا قال النبي الساعة على طريقة الاستهزاء، والمعنى: أنا لم نلتفت إلى قوله، وآنفاً يراد به الساعة التي هي أقرب الأوقات، ومنه أمر آنف: أي مستأنف، وروضة أنف: أي لم يرعها أحد، وانتصابه على الظرفية: أي وقتاً مؤتنفاً، أو حال من الضمير في قال. قال الزجاج: هو من استأنفت الشيء: إذا ابتدأته، وأصله مأخوذ من أنف الشيء لما تقدم منه، مستعار من الجارحة، ومنه قول الشاعر: ويحرم سر جارتهم عليهم ويأكل جارهم أنف القصاع والإشارة بقوله: "أولئك "إلى المذكورين من المنافقين "الذين طبع الله على قلوبهم" فلم يؤمنوا ولا توجهت قلوبهم إلى شيء من الخير "واتبعوا أهواءهم" في الكفر والعناد.
ثم ذكر حال أضدادهم فقال: 17- "والذين اهتدوا زادهم هدى" أي والذين اهتدوا إلى طريق الخير، فآمنوا بالله وعملوا بما أمرهم به زادهم هدى بالتوفيق، وقيل زادهم النبي صلى الله عليه وسلم: وقيل زادهم القرآن. وقال الفراء: زادهم إعراض المنافقين واستهزاؤهم هدى وقيل زادهم نزول الناسخ هدى، وعلى كل تقدير فالمواد أنه زادهم إيماناً وعلماً وبصيرة في الدين "وآتاهم تقواهم" أي ألهمهم إياها وأعانهم عليها. والتقوى. قال الربيع: هي الخشية. وقال السدي: هي ثواب الآخرة. وقال مقاتل: هي التوفيق للعمل الذي يرضاه، وقيل العمل بالناسخ وترك المنسوخ، وقيل ترك الرخص والأخذ بالعزائم.
18- "فهل ينظرون إلا الساعة" أي القيامة "أن تأتيهم بغتة" أي فجأة، وفي هذا وعيد للكفار شديد، وقوله: "أن تأتيهم بغتة" بدل من الساعة بدل اشتمال. وقرأ أبو جعفر الرواسي " وإذا لم تأتهم " بإن الشرطية "فقد جاء أشراطها" أي أماراتها وعلاماتها وكانوا قد قرأوا في كتبهم أن النبي صلى الله عليه وسلم آخر الأنبياء، فبعثته من أشراطها، قاله الحسن والضحاك. والأشراط جمع شرط بسكون الراء وفتحها. وقيل المراد بأشراطها هنا: أسبابها التي هي دون معظمها. وقيل أراد بعلامات الساعة انشقاق القمر والدخان، كذا قال الحسن. وقال الكلبي: كثرة المال والتجارة وشهادة الزور وقطع الأرحام وقلة الكرام وكثرة اللئام، ومنه قول أبي زيد الأسود: فإن كنت قد أزمعت بالصرم بيننا فقد جعلت أشراط أوله تبدو "فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم" ذكراهم مبتدأ وخبره فأنى لهم: أي أنى لهم التذكر إذا جاءتهم الساعة كقوله: "يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى" وإذا جاءتهم اعتراض بين المبتدأ والخبر.
19- "فاعلم أنه لا إله إلا الله" أي إذا علمت أن مدار الخير هو التوحيد والطاعة، ومدار الشر هو الشرك والعمل بمعاصي الله فاعلم أنه لا إله غيره ولا رب سواه، والمعنى: اثبت على ذلك واستمر عليه، لأنه صلى الله عليه وسلم قد كان عالماً بأنه لا إليه إلا الله قبل هذا، وقيل ما علمته استدلالاً فاعلمه خبراً يقيناً. وقيل المعنى: فاذكر أنه لا إله إلا الله، فعبر عن الذكر بالعلم "واستغفر لذنبك" أي استغفر الله أن يقع منك ذنب، أو استغفر الله ليعصمك، أو استغفره مما ربما يصدر منك من ترك الأولى. وقيل الخطاب له، والمراد الأمة، ويأبى هذا قوله: "وللمؤمنين والمؤمنات" فإن المراد به استغفاره لذنوب أمته بالدعاء لهم بالمغفرة عما فرط من ذنوبهم "والله يعلم متقلبكم" في أعمالكم "ومثواكم" في الدار الآخرة، وقيل متقلبكم في أعمالكم نهاراً ومثواكم في ليلكم نياماً. وقيل متقلبكم في أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات ومثواكم في الأرض: أي مقامكم فيها. قال ابن كيسان متقلبكم من ظهر إلى بطن في الدنيا، ومثواكم في القبور. وقد أخرج عبد بن حميد وأبو يعلى وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج من مكة إلى الغار التفت إلى مكة وقال: أنت أحب بلاد الله إلي، ولولا أن أهلك أخرجوني منك لم أخرج، فأعتى الأعداء من عتا على الله في حرمه، أو قتل غير قاتله، أو قتل بدخول الجاهلية" فأنزل الله "وكأين من قرية" الآية. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس "أنهار من ماء غير آسن" قال: غير متغير. وأخرج أحمد والترمذي وصححه وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في البعث عن معاوية بن حيدة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "في الجنة بحر اللبن وبحر الماء وبحر العسل وبحر الخمر ثم تشقق الأنهار منها". وأخرج الحارث بن أبي أسامة في مسنده والبيهقي عن كعب قال: نهر النيل نهر العسل في الجنة، ونهر دجلة نهر اللبن في الجنة، ونهر الفرات نهر الخمر في الجنة، ونهر سيحان نهر الماء في الجنة. وأخرج ابن جرير والحاكم وصححه من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله: "حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفاً" قال: كنت فيمن يسأل. وأخرج عبد بن حميد من وجه آخر عنه في الآية قال: أنا منهم. وفي هذا منقبة لابن عباس جليلة لأنه كان إذا ذاك صبياً غير بالغ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم مات وهو في سن البلوغ، فسؤال الناس له عن معاني القرآن في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ووصف الله سبحانه للمسؤولين بأنهم الذين أوتوا العلم وهو منهم من أعظم الأدلة على سعة علمه ومزيد فقهه في كتاب الله وسنة رسوله، مع كون أترابه وأهل سنه إذ ذاك يلعبون مع الصبيان. وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: كانوا يدخلون على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا خرجوا من عنده قالوا لابن عباس: ماذا قال آنفاً؟ فيقول كذا وكذا، وكان ابن عباس أصغر القوم، فأنزل الله الآية، فكان ابن عباس من الذين أوتوا العلم وأخرج ابن أبي شيبة وابن عساكر عن ابن بريدة في الآية قال: هو عبد الله بن مسعود. وأخرج ابن عساكر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: هو عبد الله بن مسعود. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم" قال: لما أنزل القرآن آمنوا به، فكان هدى، فلما تبين الناسخ من المنسوخ زادهم هدى. وأخرج ابن المنذر عنه "فقد جاء أشراطها" قال: أول الساعات، وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بعثت أنا والساعة كهاتين، وأشار بالوسطى والسبابة" ومثله عند البخاري من حديث سهل بن سعد. وفي الباب أحاديث كثيرة فيها بيان أشراط الساعة وبيان ما قد وقع منها وما لم يكن قد وقع، وهي تأتي في مصنف مستقل فلا نطيل بذكرها. وأخرج الطبراني وابن مردويه والديلمي عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الاستغفار ثم قرأ "فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات"". وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد والترمذي وصححه وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة في قوله: "واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لأستغفر الله في اليوم سبعين مرة". وأخرج أحمد ومسلم والترمذي والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن عبد الله بن سرجس قال: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأكلت معه من طعام، فقلت: غفر الله لك يا رسول الله، قال: ولك، فقيل: أتستغفر لك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم ولكم وقرأ "واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات"" وقد ورد أحاديث في استغفاره صلى الله عليه وسلم لنفسه ولأمته وترغيبه في الاستغفار. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس "والله يعلم متقلبكم" في الدنيا "ومثواكم" في الآخرة.
سأل المؤمنون ربهم عز وجل أن ينزل على رسوله صلى الله عليه وسلم سورة يأمرهم فيها بقتال الكفار حرضاً منهم على الجهاد ونيل ما أعد الله للمجاهدين من جزيل الثواب، فحكى الله عنهم ذلك بقوله: 20- "ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة" أي هلا نزلت "فإذا أنزلت سورة محكمة" أي غير منسوخة "وذكر فيها القتال" أي فرض الجهاد قال قتادة: كل سورة ذكر فيها الجهاد فهي محكمة، وهي أشد القرآن على المنافقين، وفي قراءة ابن مسعود فإذا أنزلت سورة محدثة أي محدثه النزول. قرأ الجمهور "فإذا أنزلت" وذكر على بناء الفعلين للمفعول. وقرأ زيد بن علي وابن عمير نزلت وذكر على بناء الفعلين للفاعل ونصب القتال "رأيت الذين في قلوبهم مرض" أي شك، وهم المنافقون "ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت" أي ينظرون إليك نظر من شخص بصره عند الموت لجبنهم عن القتال وميلهم إلى الكفار. قال ابن قتيبة والزجاج: يريد أنهم يشخصون نحوك بأبصارهم وينظرون إليك نظراً شديداً كما ينظر الشاخص بصره عند الموت "فأولى لهم" قال الجوهري: وقولهم أولى لك تهديد ووعيد، وكذا قال مقاتل والكلبي وقتادة. قال الأصمعي: معنى قولهم في التهديد أولى لك أي وليك وقاربك ما تكره، وأنشد قول الشاعر: فعادى بين هاديتين منها وأولى أن يزيد على الثلاث أي قارب أن يزيد. قال ثعلب: ولم يقل في أحسن مما قاله الأصمعي. وقال المبرد: لمن هم بالغضب ثم أفلت أولى لك: أي قاربت الغضب. وقال الجرحاني: هو مأخوذ من الويل: أي فويل لهم، وكذا قال في الكشاف. قال قتادة أيضاً: كأنه قال العقاب أولى لهم.
وقوله: 21- "طاعة وقول معروف" كلام مستأنف: أي أمرهم طاعة، أو طاعة وقول معروف خير لكم. قال الخليل وسيبويه: إن التقدير والطاعة وقول معروف أحسن وأمثل لكم من غيرهما. وقيل إن طاعة خبر أولى، وقيل إن طاعة صفة لسورة، وقيل إن لهم خبر مقدم وطاعة مبتدأ مؤخر، والأول أولى "فإذا عزم الأمر" عزم الأمر جد الأمر: أي جد القتال ووجب وفرض، وأسند العزم إلى الأمر وهو لأصحابه مجازاً، وجواب إذا قيل هو فلو صدقوا الله وقيل محذوف تقديره كرهوه. قال المفسرون معناه إذا جد الأمر ولزم فرض القتال خالفوا وتخلفوا "فلو صدقوا الله" في إظهار الإيمان والطاعة "لكان خيراً لهم" من المعصية والمخالفة.
22- "فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم" هذا خطاب للذين في قلوبهم مرض بطريق الالتفات لمزيد التوبيخ والتقريع. قال الكلبي: أي فهل عسيتم إن توليتم أمر الأمة أن تفسدوا في الأرض بالظلم. وقال كعب "أن تفسدوا في الأرض" أي بقتل بعضكم بعضاً، وقال قتادة: إن توليتم عن طاعة كتاب الله عز وجل أن تفسدوا في الأرض بسفك الدماء وتقطعوا أرحامكم. وقال ابن جريح: إن توليتم عن الطاعة، وقيل أعرضتم عن القتال وفارقتم أحكامه. قرأ الجمهور "توليتم" مبنياً للفاعل، وقرأ علي بن أبي طالب بضم التاء والواو وكسر اللام مبنياً للمفعول، وبها قرأ ابن أبي إسحاق وورش عن يعقوب، ومعناها فهل عسيتم إن ولي عليكم ولاة جائرين أن تخرجوا عليهم في الفتنة وتحاربوهم وتقطعوا أرحامكم بالبغي والظلم والقتل. وقرأ الجمهور "وتقطعوا" بالتشديد على التكثير، وقرأ أبو عمرو في رواية عنه وسلام وعيسى ويعقوب بالتخفيف من القطع يقال: عسيت أن أفعل كذا، وعسيت بالفتح والكسر لغتان، ذكره الجوهري وغيره، وخبر عسيتم هو أن تفسدوا، والجملة الشرطية بينهما اعتراض.
والإشارة بقوله: 23- "أولئك" إلى المخاطبين بما تقدم وهو مبتدأ وخبره: "الذين لعنهم الله": أي أبعدهم من رحمته وطردهم عنها "فأصمهم" عن استماع الحق "وأعمى أبصارهم" عن مشاهدة ما يستدلون به على التوحيد والبعث وحقية سائر ما دعاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والاستفهام في قوله: 24- "أفلا يتدبرون القرآن" للإنكار، والمعنى: أفلا يتفهمونه فيعلمون بما اشتمل عليه من المواعظ الزاجرة والحجج الظاهرة والبراهين القاطعة التي تكفي من له فهم وعقل وتزجره عن الكفر بالله والإشراك به والعمل بمعاصيه "أم على قلوب أقفالها" أم هي المنقطعة: أي بل أعلى قلوب أقفالها فهم لا يفهمون ولا يعقلون. قال مقاتل: يعني الطبع على القلوب والأقفال استعارة لانغلاق القلب عن معرفة الحق، وإضافة الأقفال إلى القلوب للتنبيه على أن المراد بها ما هو للقلوب بمنزلة الأقفال للأبواب، ومعنى الآية أنه لا يدخل في قلوبهم الإيمان ولا يخرج منها الكفر والشرك، لأن الله سبحانه قد طبع عليها، والمراد بهذه القلوب قلوب هؤلاء المخاطبين. قرأ الجمهور "أقفالها" بالجمع، وقرئ " أقفالها " بكسر الهمزة على أنه مصدر كالإقبال.
25- "إن الذين ارتدوا على أدبارهم" أي رجعوا كفاراً كما كانوا، قال قتادة: هم كفار أهل الكتاب كفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد ما عرفوا نعته عندهم، وبه قال ابن جرير: وقال الضحاك والسدي: هم المنافقون قعدوا عن القتال، وهذا أولى لأن السياق في المنافقين "من بعد ما تبين لهم الهدى" بما جاءهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم من المعجزات الظاهرة والدلائل الواضحة "الشيطان سول لهم" أي زين لهم خطاياهم وسهل لهم الوقوع فيها، وهذه الجملة خبر إن، ومعنى "وأملى لهم" أن الشيطان مد لهم في الأمل ووعدهم طول العمر، وقيل إن الذي أملى لهم هو الله عز وجل على معنى أنه لم يعاجلهم بالعقوبة. قرأ الجمهور "أملى" مبنياً للفاعل، وقرأ أبو عمرو وابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر وأبو جعفر وشيبة على البناء للمفعول. قيل وعلى هذه القراءة يكون الفاعل هو الله أو الشيطان كالقراءة الأولى، وقد اختار القول بأن الفاعل الله الفراء والمفضل، والأولى اختيار أنه الشيطان لتقدم ذكره قريباً.
والإشارة بقوله: 26- "ذلك" إلى ما تقدم من ارتدادهم، وهو مبتدأ وخبره "بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله" وهم المشركون "سنطيعكم في بعض الأمر" وهذا البعض هو عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومخالفة ما جاء به. وقيل المعنى: إن المنافقين قالوا لليهود: سنطيعكم في بعض الأمر، وقيل إن القائلين اليهود والذين كرهوا ما أنزل الله: المنافقون، وقيل إن الإشارة بقوله ذلك إلى الإملاء، وقيل إلى التسويل، والأول أولى. ويؤيده كون القائلين المنافقين والكارهين اليهود قوله تعالى: " ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا وإن قوتلتم لننصرنكم " ولما كان قولهم المذكور للذين كرهوا ما أنزل الله بطريقة السر بينهم. قال الله سبحانه: " والله يعلم إسرارهم " قرأ الجمهور بفتح الهمزة جمع سر، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم. وقرأ الكوفيون وحمزة والنسائي وحفص عن عاصم وابن وثاب والأعمش بكسر الهمزة على المصدر: أي إخفاءهم.
27- "فكيف إذا توفتهم الملائكة" الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، وكيف في محل رفع على أنها خبر مقدم، والتقدير: فكيف علمه بأسرارهم إذا توفتهم الملائكة، أو في محل نصب بفعل محذوف: أي فكيف يصنعون، أو خبر لكان مقدرة: أي فكيف يكونون، والظرف معمول للمقدر، قرأ الجمهور "توفتهم" وقرأ الأعمش توفاهم وجملة "يضربون وجوههم وأدبارهم" في محل نصب على الحال من فاعل توفتهم أو من مفعوله: أي ضاربين وجوههم وضاربين أدبارهم، وفي الكلام تخويف وتشديد، والمعنى: أنه إذا تأخر عنهم العذاب فسيكون حالهم هذا، وهو تصوير لتوفيهم على أقبح حال وأشنعه. وقيل ذلك عند القتال نصرة من الملائكة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل ذلك يوم القيامة، والأول أولى.
والإشارة بقوله: 28- "ذلك" إلى التوفي المذكور على الصفة المذكورة، وهو مبتدأ وخبره "بأنهم اتبعوا ما أسخط الله" أي بسبب اتباعهم ما يسخط الله من الكفر والمعاصي، وقيل كتمانهم ما في التوراة من نعت نبياً صلى الله عليه وسلم، والأول أولى لما في الصيغة من العموم "وكرهوا رضوانه" أي كرهوا ما يرضاه الله من الإيمان والتوحيد والطاعة "فأحبط" الله "أعمالهم" بهذا السبب، والمراد بأعمالهم الأعمال التي صورتها صورة الطاعة وإلا فلا عمل لكافر، أو ما كانوا قد عملوا من الخير قبل الردة.
29- "أم حسب الذين في قلوبهم مرض" يعني المنافقين المذكورين سابقاً، وأم هي المنقطعة: أي بل أحسب المنافقون "أن لن يخرج الله أضغانهم" الإخراج بمعني الإظهار، والأضغان جمع ضغن، وهو ما يضمر من المكروه. واختلف في معناه، فقيل هو الغش، وقيل الحسد، وقيل الحقد. قال الجوهري: الضغن والضغينة الحقد. وقال قطرب: هو في الآية العداوة، وأن هي المخففة من الثقيلة واسمها ضمير شأن مقدر.
30- "ولو نشاء لأريناكهم" أي لأعلمناكهم وعرفناكهم بأعيانهم معرفة تقوم مقام الرؤية، تقول العرب: سأريك ما أصنع: أي سأعلمك "فلعرفتهم بسيماهم" أي بعلامتهم الخاصة بهم التي يتميزون بها. قال الزجاج: المعنى لو نشاء لجعلنا على المنافقين علامة، وهي السيما فلعرفتهم بتلك العلامة، والفاء لترتيب المعرفة على الإراءة، وما بعدها معطوف على جواب لو وكررت في المعطوف للتأكيد، وأما اللام في قوله: "ولتعرفنهم في لحن القول" فهي جواب قسم محذوف. قال المفسرون: لحن القول فحواه ومقصده ومغزاه وما يعرضون به من تهجين أمرك وأمر المسلمين، وكان بعد هذا لا يتكلم منافق عنده إلا عرفه. قال أبو زيد: لحنت له اللحن: إذا قلت له قولاً يفقهه عنك ويخفى على غيره، ومنه قول الشاعر: منطق صائب وتلحن أحياناً وخير الكلام ما كان لحناً أي أحسنه ما كان تعريضاً بعهمه المخاطب ولا يفهمه غيره لفطنته وذكائه، وأصل اللحن إمالة الكلام إلى نحو من الأنحاء لغرض من الأغراض "والله يعلم أعمالكم" لا تخفى عليه منها خافية فجازيكم بها، وفيه وعيد شديد.
31- "ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين" أي لنعاملنكم معاملة المختبر، وذلك بأن نأمركم بالجهاد حتى نعلم من امتثل الأمر بالجهاد وصبر على دينه ومشاق ما كلف به. قرأ الجمهور الأفعال الثلاثة بالنون، وقرأ أبو بكر عن عاصم بالتحتية فيها كلها، ومعنى "ونبلو أخباركم" نظهرها ونكشفها امتحاناً لكم ليظهر للناس من أطاع أمره الله به، ومن عصى، ومن لم يتمثل. وقرأ الجمهور "ونبلو" بنصب الواو عطفاً على قوله "حتى نعلم" وروى ورش عن يعقوب إسكانها على القطع عما قبله. وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم بحقو الرحمن، فقال مه، قالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة قال: نعم أترضي أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت بلى. قال: فذلك لك، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرأوا إن شئتم "فهل عسيتم" الآية إلى قوله "أم على قلوب أقفالها"" والأحاديث في صلة الرحم كثيرة جداً. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: "إن الذين ارتدوا على أدبارهم" قال: هم أهل النفاق. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله: "أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم" قال: أعمالهم خبثهم والحسد الذي في قلوبهم، ثم دل الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم بعد على المنافقين فكان يدعو باسم الرجل من أهل النفاق. وأخرج ابن مردويه وابن عساكر عن أبي سعيد الخدري في قوله: "ولتعرفنهم في لحن القول" قال: ببغضهم علي بن أبي طالب.
قوله: 32- "إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله" المراد بهؤلاء هم المنافقون، وقيل أهل الكتاب، وقيل هم المطمعون يوم بدر من المشركين. ومعنى صدهم عن سبيل الله: منعهم للناس عن الإسلام واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم "و" ومعنى "شاقوا الرسول" عادوه وخالفوه "من بعد ما تبين لهم الهدى" أي علموا أنه صلى الله عليه وسلم نبي من عند الله بما شاهدوا من المعجزات الواضحة والحجج القاطعة "لن يضروا الله شيئاً" بتركهم الإيمان وإصرارهم على الكفر وما ضروا إلا أنفسهم "وسيحبط أعمالهم" أي يبطلها، والمراد بهذه الأعمال ما صورته صورة أعمال الخير كإطعام الطعام وصلة الأرحام وسائر ما كانوا يفعلونه من الخير وإن كانت باطلة من الأصل لأن الكفر مانع، وقيل المراد بالأعمال المكائد التي نصبوها لإبطال دين الله والغوائل التي كانوا يبغونها برسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم أمر سبحانه عباده المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله فقال: 33- "يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول" فيما أمرتم به من الشرائع المذكورة في كتاب الله وسنة رسوله، ثم نهاهم عن أن يبطلوا أعمالهم كما أبطلت الكفار أعمالها بالإصرار على الكفر فقال: "ولا تبطلوا أعمالكم" قال الحسن: أي لا تبطلوا حسناتكم بالمعاصي. وقال الزهري: بالكبائر. وقال الكلبي وابن جريج: بالرياء والسمعة. وقال مقاتل: بالمن. والظاهر النهي عن كل سبب من الأسباب التي توصل إلى بطلان الأعمال كائناً ما كان من غير تخصيص بنوع معين.
ثم بين سبحانه أنه لا يغفر للمصرين على الكفر والصد عن سبيل الله فقال: 34- "إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم" فقيد سبحانه عدم المغفرة بالموت على الكفر، لأن باب التوبة وطريق المغفرة لا يغلقان على من كان حياً، وظاهر الآية العموم وإن كان السبب خاصاً.
ثم نهى سبحانه المؤمنين عن الوهن والضعف فقال: 35- "فلا تهنوا" أي تضعفوا عن القتال، والوهن الضعف "وتدعوا إلى السلم" أي ولا تدعوا الكفار إلى الصلح ابتداء منكم، فإن ذلك لا يكون إلا عند الضعف. قال الزجاج: منع الله المسلمين أن يدعوا الكفار إلى الصلح وأمرهم بحربهم حتى يسلموا. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وتدعوا بتشديد الدال من ادعى القوم وتداعوا. قال قتادة: معنى الآية: لا تكونوا أول الطائفتين ضرعت إلى صاحبتها. واختلف أهل العلم في هذه الآية هل هي محكمة أو منسوخة؟ فقيل إنها محكمة، وإنها ناسخة لقوله: "وإن جنحوا للسلم فاجنح لها" وقيل منسوخة بهذه الآية. ولا يخفاك أنه لا مقتضى للقول بالنسخ، فإن الله سبحانه نهى المسلمين في هذه الآية عن أن يدعوا إلى السلم ابتداء ولم ينه عن قبول السلم إذا جنح إليه المشركون، فالآيتان محكمتان ولم يتواردوا على محل واحد حتى يحتاج إلى دعوى النسخ أو التخصيص، وجملة "وأنتم الأعلون" في محل نصب على الحال، أو مستأنفة مقررة لما قبلها من النهي: أي وأنتم الغالبون بالسيف والحجة. قال الكلبي: أي آخر الأمر لكم وإن غلبوكم في بعض الأوقات، وكذا جملة قوله: "والله معكم" في محل نصب على الحال: أي معكم بالنصر والمعونة عليهم "ولن يتركم أعمالكم" أي لن ينقصكم شيئاً من [ثواب] أعمالكم، يقال وتره وتراً: إذا نقصه حقه وأصله من وترت الرجل: إذا قتلت له قريباً أو نهبت له مالاً، ويقال فلان مأتور: إذا قتل له قتيل ولم يؤخذ بدمه. قال الجوهري: أي لن ينقصكم في أعمالكم كما تقول دخلت البيت وأنت تريد في البيت. قال الفراء: هو مشتق من الوتر وهو الدخل، وقيل مشتق من الوتر وهو الفرد، فكأن المعنى: لون يفردكم بغير ثواب.
36- "إنما الحياة الدنيا لعب ولهو" أي باطل وغرور لا أصل لشيء منها ولا ثبات له ولا اعتداء به "وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم" أي إن تؤمنوا بالله وتتقوا الكفر والمعاصي يؤتكم جزاء ذلك في الآخرة، والأجر والثواب على الطاعة "ولا يسألكم أموالكم" أي لا يأمركم بإخراجها جميعها في الزكاة وسائر وجوه الطاعات، بل أمركم بإخراج القليل منها وهو الزكاة. وقيل المعنى: لا يسألكم أموالكم إنما يسألكم أمواله لأنه أملك لها، وهو المنعم عليكم بإعطائها. وقيل لا يسألكم أموالكم أجراً على تبليغ الرسالة كما في قوله: "ما أسألكم عليه من أجر" والأول أولى.
37- "إن يسألكموها" أي أموالكم كلها "فيحفكم" قال المفسرون: يجهدكم ويلحف عليكم بمسألة جميعها، يقال أحفى بالمسألة وألحف وألح بمعنى واحد، والمحفي المستقصي في السؤال، والإحفاء الاستقصاء في الكلام، ومنه إحفاء الشارب: أي استئصاله، وجواب الشرط قوله: "تبخلوا" أي إن يأمركم بإخراج جميع أموالكم تبخلوا بها وتمتنعوا من الامتثال "ويخرج أضغانكم" معطوف على جواب الشرط، ولهذا قرأ الجمهور يخرج بالجزم، وروي عن أبي عمرو أنه قرأ بالرفع على الاستئناف، وروي عنه أنه قرأ بفتح الياء وضم الراء ورفع أضغانكم، وروي عن يعقوب الحضرمي أنه قرأ بالنون، وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن محيصن وحميد بالفوقية المفتوحة مع ضم الراء. وعلى قراءة الجمهور فالفاعل ضمير يعود إلى الله سبحانه، أو إلى البخل المدلول عليه بتبخلوا. والأضغان: الأحقاد، والمعنى: أنها تظهر عند ذلك. قال قتادة: قد علم الله أن في سؤال المال خروج الأضغان.
38- "ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله" أي ها أنتم هؤلاء أيها المؤمنون تدعون لتنفقوا في الجهاد وفي طريق الخير "فمنكم من يبخل" بما يطلب منه ويدعى إليه من الإنفاق في سبيل الله، وإذا كان منكم من يبخل باليسير من المال، فكيف لا تبخلون بالكثير وهو جميع الأموال. ثم بين سبحانه أن ضرر البخل عائد على النفس فقال: "ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه" أي يمنعها الأجر والثواب ببخله، وبخل يتعدى بعلى تارة وبعن أخرى. وقيل إن أصله أن يتعدى بعلى ولا يتعدى بعن إلا إذا ضمن معنى الإمساك "والله الغني" المطلق المتنزه عن الحاجة إلى أموالكم "وأنتم الفقراء" إلى الله وإلى ما عنده من الخير والرحمة، وجملة "وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم" معطوفة على الشرطية المتقدمة وهي وإن تؤمنوا، والمعنى: وإن تعرضوا عن الإيمان والتقوى يستبدل قوماً آخرين يكونون مكانكم هم أطوع لله منكم "ثم لا يكونوا أمثالكم" في التولي عن الإيمان والتقوى. قال عكرمة: هم فارس والروم. وقال الحسن: هم العجم. وقال شريح بن عبيد: هم أهل اليمن، وقيل الأنصار، وقيل الملائكة، وقيل التابعون. وقال مجاهد: هم من شاء الله من سائر الناس. قال ابن جرير: والمعنى "ثم لا يكونوا أمثالكم" في البخل بالإنفاق في سبيل الله. وقد أخرج عبد بن حميد ومحمد بن نصر في كتاب الصلاة وابن أبي حاتم عن أبي العالية قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرون أنه لا يضر مع لا إله إلا الله ذنب كما لا ينفع مع الشرك عمل حتى نزلت "أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم" فخافوا أن يبطل الذنب العمل، ولفظ عبد بن حميد: فخافوا الكبائر أن تحبط أعمالهم. وأخرج ابن نصر وابن جرير وابن مردويه عن ابن عمر قال: كنا معشر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم نرى أنه ليس شيء من الحسنات إلا مقبول حتى نزلت "أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم" فلما نزلت هذه الآية قلنا: ما هذا الذي يبطل أعمالنا؟ فقلنا: الكبائر الموجبات والفواحش فكنا إذا رأينا من أصاب شيئاً منها قلنا قد هلك، حتى نزلت هذه الآية "إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء" فلما نزلت كففنا عن القول في ذلك، وكنا إذا رأينا أحداً أصاب منها شيئاً خفنا عليه وإن لم يصب منها شيئاً رجوناه. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: "يتركم" قال: لما نزلت "وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم" قالوا من هؤلاء؟ وسلمان إلى جانب النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: هم الفرس، هذا وقومه. وفي إسناده مسلم بن خالد الزنجي وقد تفرد به، وفيه مقال معروف. وأخرجه عنه عبد الرزاق وعبد بن حميد والترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط، والبيهقي في الدلائل عن أبي هريرة قال: "تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية "وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم" فقالوا: يا رسول الله من هؤلاء الذين إن تولينا استبدلوا بنا ثم لا يكونوا أمثالنا؟ فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على منكب سلمان ثم قال:هذا وقومه، والذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطاً بالثريا لتناوله رجال من فارس" وفي إسناده أيضاً مسلم بن خالد الزنجي. وأخرج ابن مردويه من حديث جابر نحوه.