هي ستون آية، وهي مكية. قال القرطبي في قول الجميع وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: نزلت سورة الذاريات بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. قوله: 1- "والذاريات ذروا" يقال ذرت الريح التراب تذروه ذرواً، وأذرته تذريه ذرياً، أقسم سبحانه بالرياح التي تذري التراب، وانتصار ذرواً على المصدرية، والعامل فيها اسم الفاعل والمفعول محذوف. قرأ أبو عمرو وحمزة بإدغام تاء الذاريات في ذال ذرواً. وقرأ الباقون بدون إدغام. وقيل المقسم به مقدر وهو رب الذاريات وما بعدها، والأول أولى.
2- "فالحاملات وقرا" هي السحاب تحمل الماء كما تحمل ذوات الأربع الوقر، وانتصاب وقراً على أنه مفعول به كما يقال حمل فلان عدلاً ثقيلاً. قرأ الجمهور "وقراً" بكسر الواو اسم ما يوقر: أي يحمل، وقرئ بفتحها على أنه مصدر والعامل فيه اسم الفاعل، أو على تسمية المحمول بالمصدر مبالغة.
3- "فالجاريات يسرا" هي السفن الجارية في البحر بالرياح جرياً سهلاً. وانتصاب يسراً على المصدرية، أو صفة لمصدر محذوف، أو على الحال: أي جرياً ذا يسر. وقيل هي الرياح. وقيل السحاب، والأول أولى. واليسر: السهل في كل شيء.
4- "فالمقسمات أمراً" هي الملائكة التي تقسم الأمور. قال الفراء: تأتي بأمر مختلف: جبريل بالغلظة، وميكائيل صاحب الرحمة، وملك الموت يأتي بالموت، وقيل تأتي بأمر مختلف من الجدب والخصب والمطر والموت والحوادث. وقيل هي السحب التي يقسم الله بها أمر العباد، وقيل إن المراد بالذاريات والحاملات والجاريات والمقسمات الرياح، فإنها توصف بجميع ذلك لأنها تذرو التراب وتحمل السحاب وتجري في الهواء وتقسم الأمطار، وهو ضعيف جداً. وانتصاب أمراً على المفعول به، وقيل على الحال: أي مأمورة، والأول أولى.
5- "إنما توعدون لصادق" هذا جواب القسم: أي إنما توعدون من الثواب والعقاب لكائن لا محالة. وما يجوز أن تكون موصولة والعائد محذوف، وأن تكون مصدرية. ووجه تخصيص هذه الأمور بالإقسام بها كونها أموراً بديعة مخالفة لمقتضى العادة، فمن قدر عليها فهو قادر على البعث الموعود به.
6- "وإن الدين لواقع".
7- "والسماء ذات الحبك" قرأ الجمهور "الحبك" بضم الحاء والباء، وقرئ بضم الحاء وسكون الباء وبكسر الحاء وفتح الباء وبكسر الحاء وضم الباء. قال ابن عطية: هي لغات، والمراد بالسماء هنا هي المعروفة، وقيل المراد بها السحاب، والأول أولى. واختلف المفسرون في تفسير الحبك، فقال مجاهد وقتادة والربيع وغيرهم: المعنى ذات الخلق المستوي الحسن. قال ابن الأعرابي: كل شيء أحكمته وأحسنت عمله فقد حبكته واحتبكته. وقال الحسن وسعيد بن جبير: ذات الزينة. وروي عن الحسن أيضاً أنه قال: ذات النجوم. وقال الضحاك: ذات الطرائق، وبه قال الفراء، يقال لما تراه من الماء والرمل إذا أصابته الريح حبك. قال الفراء: الحبك بكسر: كل شيء كالرمل إذا مرت به الريح الساكنة والماء إذا مرت به الريح، ويقال لدرع الحديد حبك، ومنه قول الشاعر: كأنما جللها الحواك طنفسة في وشيها حباك أي طرق، وقيل الحبك الشدة، والمعنى: والسماء ذات الشدة، والمحبوك الشديد الخلق من فرس أو غيره، ومنه قول الشاعر: قد غدا يحملني في أنفه لاحق الأطلين محبوك ممر وقال الآخر: مرج الدين فأعددت له مشرف الحارك محبوك الكتد قال الواحدي بعد حكاية القول الأول: هذا قول الأكثرين.
8- "إنكم لفي قول مختلف" هذا جواب القسم بالسماء ذات الحبك: أي إنكم يا أهل مكة لفي قول مختلف متناقض في محمد صلى الله عليه وسلم. بعضكم يقول إنه شاعر. وبعضكم يقول إنه ساحر، وبعضكم يقول إنه مجنون. ووجه تخصيص القسم بالسماء المتصفة بتلك الصفة تشبيه أقوالهم في اختلافها باختلاف طرائق السماء، واستعمال الحبك في الطرائق هو الذي عليه أهل اللغة، وإن كان الأكثر من المفسرين على خلافه. على أنه يمكن أن ترجع تلك الأقوال في تفسير الحلك إلى هذا، وذلك بأن يقال: إن ما في السماء من الطرائق يصح أن يكون سبباً لمزيد حسنها واستواء خلقها وحصول الزينة فيها ومزيدة القوة لها. وقيل إن المراد بكونهم في قول مختلف أن بعضهم ينفي الحشر وبعضهم يشك فيه، وقيل كونهم يقرون أن الله خالقهم ويعبدون الأصنام.
9- "يؤفك عنه من أفك" أي يصرف عن الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، أو عن الحق، وهو البعث والتوحيد من صرف. وقيل يصرف عن ذلك الاختلاف من صرفه الله عنه بالعصمة والتوفيق، يقال أفكه يأفكه إفكاً: أي قبله عن الشيء وصرفه عنه، ومنه قوله تعالى: "قالوا أجئتنا لتأفكنا" وقال مجاهد: يؤفن عنه من أفن، والأفن فساد العقل، وقيل يحرمه من حرم. وقال قطرب: يجدع عنه من جدع. وقال اليزيدي: يدفع عنه من دفع.
10- "قتل الخراصون" هذا دعاء عليهم. وحكى الواحدي عن المفسرين جميعاً أن المعنى: لعن الكذابون. قال ابن الأنباري: والقتل إذا أخبر به عن الله كان بمعنى اللعن، لأن من لعنه الله فهو بمنزلة المقتول الهالك. قال الفراء: معنى قتل لعن. والخراصون الكذابون الذي يتخرصون فيما لا يعلمون فيقولون: إن محمداً مجنون كذاب شاعر ساحر. قال الزجاج: الخراصون هم الكذابون، والخرص: حرز ما على النخل من الرطب تمراً، والخراص: الذي يخرصها، وليس هو المراد هنا.
ثم قال: 11- "الذين هم في غمرة ساهون" أي في غفلة وعمى جهالة عن أمور الآخرة، ومعنى ساهون: لاهون غافلون، والسهو: الغفلة عن الشيء وذهابه عن القلب، وأصل الغمرة ما ستر الشيء وغطاه، ومنها غمرات الموت.
12- "يسألون أيان يوم الدين" أي يقولون متى يوم الجزاء تكذيباً منهم واستهزاء.
ثم أخبر سبحانه عن ذلك اليوم فقال: 13- "يوم هم على النار يفتنون" أي يحرقون ويعذبون، يقال فتنت الذهب: إذا أحرقته لتختبره، وأصل الفتنة الاختبار. قال عكرمة: ألم تر أن الذهب إذا أدخل النار قيل فتن. وانتصاب يوم بمضمر: أي الجزاء: يوم هم على النار، ويجوز أن يكون بدلاً من يوم الدين، والفتح للبناء لكونه مضافاً إلى الجملة، وقيل هو منصوب بتقدير أعني. وقرأ ابن أبي عبلة برفع يوم على البدل من يوم الدين.
وجملة 14- "ذوقوا فتنتكم" هي بقتدير القول: أي يقال لهم ذوقوا عذابكم قاله ابن زيد. وقال مجاهد: حريقكم، ورجح الأول الفراء، وجملة "هذا الذي كنتم به تستعجلون" من جملة ما هو محكي بالقول: أي هذا ما كنتم تطلبون تعجيله استهزاءً منكم، وقيل هي بدل من فتنتكم.
15- "إن المتقين في جنات وعيون" لما ذكر سبحانه حال أهل النار ذكر حال أهل الجنة: أي هم في بستانين فيها عيون جارية لا يبلغ وصفها الواصفون.
16- " آخذين ما آتاهم ربهم " أي قابلين ما أعطاهم ربهم من الخير والكرامة، وجملة "إنهم كانوا قبل ذلك محسنين" تعليل لما قبلها: أي لأنهم كانوا في الدنيا محسنين في أعمالهم الصالحة من فعل ما أمروا به وترك ما نهو عنه.
ثم بين إحسانهم الذي وصفهم به فقال: 17- "كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون" الهجوع: النوم بالليل دون النهار، والمعنى: كانوا قليلاً ما ينامون منالليل، وما زائدة، ويجوز أن تكون مصدرية أو موصولة: أي كانوا قليلاً من من الليل هجوعهم أو ما يهجعون فيه، ومن ذلك قول أبي قيس بن الأسلت: قد حصت البيضة رأسي فما أطعم نوماً غير تهجاع والتهجاع: القليل من النوم، ومن ذلك قول عمرو بن معدي كرب: أمن ريحانة الداعي السميع يهيجني وأصحابي هجوع وقيل ما نافية: أي ما كانوا ينامون قليلاً من الليل، فكيف بالكثير منه، وهذا ضعيف جداً. وهذا قول من قال: إن المعنى كان عددهم قليلاً. ثم ابتدأ فقال: "ما يهجعون" وبه قال ابن الأنباري وهو أضعف مما قبله. وقال قتادة في تفسير هذه الآية كانوا يصلون بين العشاءين، وبه قال أبو العالية وابن وهب.
18- "وبالأسحار هم يستغفرون" أي يطلبون أوقات السحر من الله سبحانه أن يغفر ذنوبهم. قال الحسن: مدوا الصلاة إلى الأسحار، ثم أخذوا بالأسحار الاستغفار. وقال الكلبي ومقاتل ومجاهد: هم بالأسحار الاستغفار. وقال الكلبي ومقاتل ومجاهد: هم بالأسحار يصلون، وذلك أن صلاتهم طلب منهم للمغفرة. وقال الضحاك: هي صلاة الفجر.
ثم ذكر سبحانه صدقاتهم فقال: 19- "وفي أموالهم حق للسائل والمحروم" أي يجعلون في أموالهم على أنفسهم حقاً للسائل والمحروم تقرباً إلى الله عز وجل. وقال محمد بن سيرين وقتادة: الحق هنا الزكاة المفروضة، والأول أولى، فيحمل على صدقة النفل وصلة الرحم وقرى الضيف، لأن السورة مكية، والزكاة لم تفرض إلا بالمدينة، وسيأتي في سورة سأل سائل " في أموالهم حق معلوم * للسائل والمحروم ". بزيادة معلوم، والسائل هو الذي يسأل الناس لفاقته. واختلف في تفسير المحروم، فقيل هو الذي يتعفف عن السؤال حتى يحسبه الناس غنياً فلا يتصدقون عليه، وبه قال قتادة والزهري. وقال الحسن ومحمد ابن الحنفية: هو الذي لا سهم له في الغنيمة ولا يجري عليه من الفيء شيء، وقال زيد بن أسلم: هو الذي أصيب ثمره أو زرعه أو ماشيته. قال القرطبي: هو الذي أصابته الجائحة، وقيل الذي لا يكتسب، وقيل هو الذي لا يجد غنىً يغنيه، وقيل هو الذي يطلب الدنيا وتدبر عنه، وقيل هو المملوك، وقيل الكلب، وقيل غير ذلك. قال الشعبي: لي اليوم سبعون سنة منذ احتلمت أسأل عن المحروم، فما أنا اليوم بأعلم مني فيه يومئذ، والذي ينبغي التعويل عليه ما يدل عليه المعنى اللغوي، والمحروم في اللغة الممنوع، من الحرمان وهو المنع، فيدخل تحته من حرم الرزق من الأصل، ومن أصيب ماله بجائحة أذهبته، ومن حرم العطاء، ومن حرم الصدقة لتعففه.
ثم ذكر سبحانه ما نصبه من الدلائل الدالة على توحيده وصدق وعده ووعيده فقال: 20- "وفي الأرض آيات للموقنين" أي دلائل واضحة وعلامات ظاهرة من الجبال والبر والبحر والأشجار والأنهار والثمار، وفيها آثار الهلاك للأمم الكافرة المكذبة لما جاءت به رسل الله ودعتهم إليه، وخص الموقنين بالله لأنهم الذين يعترفون بذلك ويتدبرون فيه فينتفعون به.
21- "وفي أنفسكم أفلا تبصرون" أي وفي أنفسكم آيات تدل على توحيد الله وصدق ما جاءت به الرسل، فإنه خلقهم نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظماً إلى أن ينفخ فيه الروح، ثم تختلف بعد ذلك صورهم وألوانهم وطبائعهم وألسنتهم، ثم نفس خلقهم على هذه الصفة العجيبة الشأن من لحم ودم وعظم وأعضاء وحواس ومجاري ومنافس، ومعنى "أفلا تبصرون" أفلا تنظرون بعين البصيرة، فتستدلون بذلك على الخالق الرزاق المتفرد بالألوهية، وأنه لا شريك له وال ضد ولا ند، وأن وعده الحق، وقوله الحق وأن ما جاءت إليكم به رسله هو الحق الذي لا شك فيه ولا شبهة تعتريه، وقيل المراد بالأنفس الأرواح: أي وفي نفوسكم التي بها حياتكم آيات.
22- "وفي السماء رزقكم" أي سبب رزقكم، وهو المطر فإنه سبب الأرزاق. قال سعيد بن جبير والضحاك: الرزق هنا ما ينزل من السماء من مطر وثلج. وقيل المراد بالسماء السحاب: أي وفي السحاب رزقكم، وقيل المراد بالسماء المطر، وسماه سماء لأنه ينزل من جهتها، ومنه قول الشاعر: إذا نزل السماء بأرض قوم رعيناه وإن كانوا غضابا وقال ابن كيسان: يعني وعلى رب السماء رزقكم، ونظيره "وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها" وهو بعيد. وقال سفيان الثوري: أي عند الله في السماء رزقكم. وقيل المعنى: وفي السماء تقدير رزقكم. قرأ الجمهور "رزقكم" بالإفراد، وقرأ يعقوب وابن محيصن ومجاهد أرزاقكم بالجمع "وما توعدون" من الجنة والنار، قاله مجاهد. قال عطاء: من الثواب والعقاب، وقال الكلبي: من الخير والشر، قال ابن سيرين: ما توعدون من أمر الساعة. وبه قال الربيع. والأولى الحمل على ما هو أعم من هذه الأقوال، فإن جزاء الأعمال مكتوب في السماء، والقضاء والقدر ينزل منها، والجنة والنار فيها.
ثم أقسم سبحانه بنفسه فقال: 23- "فورب السماء والأرض إنه لحق" أي ما أخبركم به في هذه الآيات. قال الزجاج: هو ما ذكر من أمر الرزق والآيات. قال الكلبي: يعني ما قص في الكتاب. وقال مقاتل: يعني من أمر الساعة. وقيل إن ما في قوله: "وما توعدون" مبتدأ وخبره فورب السماء والأرض إنه لحق، فيكون الضمير لما. ثم قال سبحانه "مثل ما أنكم تنطقون" قرأ الجمهور بنصب "مثل" على تقدير: كمثل نطقكم، وما زائدة، كذا قال بعض الكوفيون إنه منصوب بنزع الخافض. وقال الزجاج والفراء. يجوز أن ينتصب على التوكيد: أي لحق حقاً مثل نطقكمظ. وقال المازني: إن مثل مع ما بمنزلة شيء واحد فبني على الفتح. وقال سيبويه: هو مبني لإضافته إلى غير متمكن، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم. وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر والأعمش "مثل" بالرفع على أنه صفة لحق، لأن مثل نكرة وإن أضيفت فهي لا تتعرف بالإضافة كغير. ورجح قول المازني أبو علي الفارسي، قال ومثله قول حميد: وويحاً لمن لم يدر ما هن ويحما فبني ويح مع ما ولم يلحقه التنوين، ومعنى الآية تشبيه تحقيق ما أخبر الله عنه بتحقيق نطق الآدمي ووجوده، وهذا كما تقول: إنه لحق كما أنك هاهنا، وإنه لحق كما أنك تتكلم، والمعنى: أنه في صدقه ووجوده، وهذا كما تقول: إنه لحق كما أنك هاهنا، وإنه لحق كما أنك تتكلم، والمعنى: أنه في صدقه ووجوده كالذي تعرفه ضرورة. وقد أخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري والدارقطني في الأفراد والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب من طرق عن علي بن أبي طالب في قوله: "والذاريات ذرواً" قال: الرياح "فالحاملات وقراً" قال: السحاب "فالجاريات يسراً" قال: السفن "فالمقسمات أمراً" قال: الملائكة. وأخرج البزار والدارقطني في الإفراد، وابن مردويه وابن عساكر عن عمر بن الخطاب مثله ورفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي إسناده أبو بكر بن سبرة هو لين الحديث، وسعيد بن سلام وليس من أصحاب الحديث، كذا قال البزار. قال ابن كثير: فهذا الحديث ضعيف رفعه وأقرب ما فيه أنه موقوف على عمر. وأخرج الفريابي وابن مردويه عن ابن عباس مثل قول علي. وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس "والسماء ذات الحبك" قال: حسنها واستواؤها. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عنه في الآية قال: ذات البهاء والجمال وإن بنيانها كالبرد المسلسل. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن عمر مثله. وأخرج ابن منيع عن علي قال: هي السماء السابعة. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "يؤفك عنه من أفك" قال: يضل عنه من ضل. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً " قتل الخراصون " قال : لعن المرتابون . وأخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم عنه أيضا قال: هم الكهنة "الذين هم في غمرة ساهون" قال: في غفلة لاهون. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً قال: الغمرة الكفر والشك. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال: في ضلالتهم يتمادون، وفي قوله: "يوم هم على النار يفتنون" قال: يعذبون. وأخرج هؤلاء عنه أيضاً في قوله: " آخذين ما آتاهم ربهم " قال: الفرائض "إنهم كانوا قبل ذلك محسنين" قال: قبل أن تنزل الفرائض يعملون. وأخرج هؤلاء أيضاً والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عنه أيضاً "كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون" قال: ما تأتي عليهم ليلة ينامون حتى يصبحوا إلا يصلون فيها. وأخرج ابن نصر وابن جرير وابن المنذر عنه أيضاً في الآية يقول: قليلاً ما كانوا ينامون. وأخرج أبو داود وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في سننه عن أنس في الآية قال: كانوا يصلون بين المغرب والعشاء. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عمر "وبالأسحار هم يستغفرون" قال: يصلون. وأخرج ابن ابي حاتم عن ابن عباس "في أموالهم حق" قال: سوى الزكاة يصل بها رحماً أو يقري بها ضيفاً أو يعين بها محروماً. وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال: السائل الذي يسأل الناس، والمحروم الذي ليس له سهم من فيء المسلمين. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً قال: المحروم هو المحارف الذي يطلب الدنيا وتدبر عنه ولا يسأل الناس، فأمر الله المؤمنين برفده. وأخرج ابن أبي حاتم عن عائشة في الآية. قالت: هو المحارف الذي لا يكاد يتيسر له مكسبه. وأخرج الترمذي والبيهقي في سننه عن فاطمة بنت قيس "أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية قال: إن في المال حقاً سوى الزكاة، وتلا هذه الآية "ليس البر أن تولوا وجوهكم" إلى قوله: "وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة"". وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن عبد الله بن الزبير في قوله: "وفي أنفسكم أفلا تبصرون" قال: سبيل الغائط والبول.
قوله: 24- "هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين" ذكر سبحانه قصة إبراهيم ليبين أنه أهلك بسبب التكذيب من أهلك. وفي الاستفهام تنبيه على أن هذا الحديث ليس مما قد علم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه إنما علمه بطريق الوحي. وقيل إن هل بمعنى قد، كما في قوله: "هل أتى على الإنسان حين من الدهر" والضيف مصدر يطلق على الواحد والاثنين والجماعة، وقد تقدم الكلام على قصة ضيف إبراهيم في سورة هود وسورة الحجر، والمراد بكونهم مكرمين: أنهم مكرمون عند الله سبحانه لأنه ملائكة جاءوا إليه في صورة بني آدم، كما قال تعالى في وصفهم في آية أخرى "بل عباد مكرمون" وقيل هم جبريل وميكائيل وإسرافيل. وقال مقاتل ومجاهد: أكرمهم إبراهيم وأحسن إليهم وقام على رؤوسهم، وكان لا يقوم على رؤوس الضيف، وأمر امراته أن تخدمهم. وقال الكلبي: أكرمهم بالعجل.
25- "إذ دخلوا عليه" العامل في الظرف حديث: أي هل أتاك حديثهم الواقع في وقت دخولهم عليه، أو العامل فيه ضيف لأنه مصدر، أو العامل فيه المكرمين، أو العامل فيه فعل مضمر: أي اذكر "فقالوا سلاماً" أي نسلم عليك سلاماً "قال سلام" أي قال إبراهيم سلام. قرأ الجمهور بنصب "سلاماً" الأول ورفع الثاني، فنصب الأول على المصدرية بتقدير الفعل كما ذكرنا، والمراد به التحتية، ويحتمل أن يكون المعنى: فقالوا كلاماً حسناص لأنه كلام سلم به المتكلم من أن يلغو، فيكون على هذا مفعولاً به. وأما الثاني فرفعه على أنه مبتدأ محذوف الخبر: أي عليكم سلام، وعدل به إلى الرفع لقصد إفادة الجملة الإسمية للدوام والثبات، بخلاف الفعلية فإنه لمجرد التجدد والحدوث، ولهذا قال أهل المعاني: إن سلام إبراهيم أبلغ من سلام الملائكة. وقرئ بالرفع في الموضعين، وقرئ بالنصب فيهما. وقرأ أهل الكوفة إلا عاصماً بكسر السين، وقرء سلم فيهما "قوم منكرون" ارتفاع قوم على أنه خبر مبتدأ محذوف: أي أنتم قوم منكرون. قيل إنه قال هذا في نفسه ولم يخاطبهم به، لأن ذلك يخالف الإكرام. قيل إنه انكرهم لكونهم ابتدأوا بالسلام ولم يكن ذلك معهوداً عند قومه، وقيل لأنه رأى فيهم ما يخالف بعض الصور البشرية، وقيل لأنه رآهم على غير صورة الملائكة الذي يعرفهم، وقيل غير ذلك.
26- "فراغ إلى أهله" قال الزجاج: أي عدل إلى أهله، وقيل ذهب إليهم في خفية من ضويفه، والمعنى متقارب وقد تقدم تفسيره في سورة الصافات. يقا راغ وارتاغ بمعنى طلب، وماذا يريغ: أي يريد ويطلب، وأراغ إلى كذا: مال إليه سراً وحاد "فجاء بعجل سمين" أي فجاء ضيفه بعجل قد شواه لهم كما في سورة هود "بعجل حنيذ" وفي الكلام حذف تدل عليه الفاء الفصيحة: أي فذبح عجلاً فحنذه فجاء به.
27- " فقربه إليهم" أي قرب العجل إليهم ووضعه بين أيدهم فـ"قال ألا تأكلون" الاستفهام للإنكار، وذلك أنه لما قربه إليهم لما قربه غليهم لم يأكلوا منه. قال في الصحاح: العجل ولد القر، والعجول مثله والجمع العجاجيل والأنثى عجلة، وقيل العجل في بعض اللغات الشاة.
28- "فأوجس منهم خيفة" أي أحسن في نفسه خوفاً منهم لما لم يأكلوا مما قربه إليهم. وقيل معنى أوجس أضمر، وإنما وقع له ذلك لما لم يتحرموا بطعامه، ومن أخلاق الناس أن من أكل من طعام إنسان صار آمناً منه، فظن إبراهيم أنهم جاءوا للشر ولم يأتوا للخير. وقيل إنه وقع في قلبه أنهم ملائكة، فلما رأوا ما ظهر عليه من أمارات الخوف "قالوا لا تخف" وأعلموه أنهم ملائكة مرسلون إليه من جهة الله سبحانه "وبشروه بغلام عليم" أي بشروه بغلام يولد له كثير العلم عند أن يبلغ مبالغ الرجال، والمبشر به عند الجمهور هو إسحاق. وقال مجاهد وحده: إنه إسماعيل، وهو مردود بقوله: "وبشرناه بإسحاق" وقد قدمنا تحقيق هذا المقام بما لا يحتاج الناظر فيه إلى غيره.
29- "فأقبلت امرأته في صرة" لم يكن هذا الإقبال من مكان إلى مكان، وإنما هو كقولك: أقبل يشتمني أي أخذ في شتمي، كذا قال الفراء وغيره. والصرة الصيحة والضجة، وقيل الجماعة من الناس. قال الجوهري: الصرة: الضجة والصيحة، والصرة: الجماعة، والصرة الشدة من كرب أو غيره، والمعنى: أنها أقبلت في صيحة، أو في ضجة، أو في جماعة من الناس يستمعون كلام الملائكة، ومن هذا قول امرئ القيس: فألحقه بالهاديات ودونه جراجرها في صرة لم تزيل وقوله: "في صرة" في محل نصب على الحال "فصكت وجهها" أي ضربت بيدها على وجهها كما جرت بذلك عادة النساء عند التعجب. قال مقاتل والكلبي: جمعت أصابعها فضربت جبينها تعجباً، ومعنى الصك: ضرب الشيء بالشيء العريض، يقال صكه: أي ضربه "وقالت عجوز عقيم" أي كيف ألد وأنا عجوز عقيم، استبعدت ذلك لكبر سنها، ولكونها عقيماً لا تلد.
30- "قالوا كذلك قال ربك" أي كما قلنا لك وأخبرناك قال: ربك فلا تشكي في ذلك ولا تعجبي منه، فإن ما أراده الله كائن لا محالة ولم نقل ذلك من جهة أنفسنا، وقد كانت إذ ذاك بنت تسع وتسعين سنة، وإبراهيم ابن مائة سنة، وقد سبق بيان هذا مستوفى، وجملة "إنه هو الحكيم العليم" تعليل لما قبلها: أي حكيم في أفعاله وأقواله، عليم بكل شيء.
وجملة 31- "قال فما خطبكم أيها المرسلون" مستأنفة جوباً عن سؤال مقدر، كأنه قيل: فماذا قال إبراهيم بعد هذا القول من الملائكة، والخطب الشأن والقصة، والمعنى: فما شأنكم وما قصتكم أيها المرسلون من جهة الله، وما ذاك الأمر الذي لأجله أرسلكم سوى هذه البشارة.
32- "قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين" يريدون قوم لوط.
33- "لنرسل عليهم حجارة من طين" أي لنرجمهم بحجارة من طين متحجر. وانتصاب " مسومة " على الصفة لحجارة أو على الحال في الضمير المستكن في الجار والمجرور أو من الحجارة لكونها وصفة بالجار والمجرور .
34- ومعنى " مسومة " معلمة بعلامات تعرف بها قيل كانت مخططة بسواد وبياض وقيل بسواد وحمرة وقيل معروفة بأنها حجارة العذاب، وقيل مكتوب على كل حجر من يهلك بها ، وقوله " عند ربك " ظرف لمسومة أي : معلمة عنده " للمسرفين " المتمادين في الضلالة المتجاوزين الحد في الفجور وقال مقاتل : للمشركين. والشرك أسرف الذنوب وأعظمها .
35- "فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين" هذا كلام من جهة الله سبحانه: أي لما أردنا إهلاك قوم لوط أخرجنا من كان في قرى قوم لوط من قومه المؤمنين به.
36- "فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين" أي غير أهل بيت. يقال بيت شريف ويراد به أهله، قيل وهم أهل بيت لوط، والإسلام: الانقياد والاستسلام لأمر الله سبحانه، فكل مؤمن مسلم، ومن ذلك قوله: "قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا" وقد أوضح الفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الإسلام والإيمان في الحديث في الصحيحين وغيرهما الثابت من طرق أنه" سئل عن الإسلام فقال: أن تشهد أن لا إله إلا الله وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتحج البيت وتصوم رمضان. وسئل عن الإيمان فقال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، والقدر خيره وشره" فالمرجع في الفرق بينهما هو هذا الذي قاله الصادق والمصدوق، ولا التفات إلى غيره مما قاله أهل العلم في رسم كل واحد منهما برسوم مضطربة مختلفة مختلة متناقضة، وأما ما في الكتاب العزيز من اختلاف مواضع استعمال الإسلام والإيمان فذلك باعتبار المعاني اللغوية والاستعمالات العربية، والواجب تقديم الحقيقة الشرعية على اللغوية، والحقيقة الشرعية هي هذه التي أخبرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأجاب سؤال السائل له عن ذلك بها.
37- "وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم" أي وتركنا في تلك القرى علامة ودلالة تدل على ما أصابهم من العذاب، كل من يخاف عذاب الله ويخشاه من أهل ذلك الزمان ومن بعدهم، وهذه الآية هي آثار العذاب في تلك القرى، فإنها ظاهرة بينة، وقيل هي الحجارة التي رجموا بها، وإنما خص الذين يخافون العذاب الأليم لأنهم الذين يتعظون بالمواعظ ويتفكرون في الآيات دون غيرهم ممن لا يخاف ذلك وهم المشركون المكذبون بالبعث والوعد والوعيد. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "في صرة" قال: في صيحة "فصكت وجهها" قال: لطمت. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين" قال: لوط وابنتيه. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: كانوا ثلاثة عشر.
قوله: 38- "وفي موسى" معطوف على قوله فيها بإعادة الخافض، والتقدير: وتركنا في قصة موسى آية أو معطوف على "وفي الأرض" والتقدير: وفي الأرض وفي موسى آيات، قاله الفراء وابن عطية والزمخشري. قال أبو حيان: وهو بعيد جداً ينزه القرآن عن مثله، ويجوز أن يكون متعلقاً بجعلنا مقدراً للدلالة "وتركنا عليه" قيل ويجوز أن يعطف على وتركنا على طريقة قول القائل: علفتها تبناً وماءً بارداً والتقدير: وتركنا فيها آية، وجعلنا في موسى آية. قال أبو حيان: ولا حاجة إلى إضمار، وجعلنا لأنه قد أمكن أن يكون العامل في المجرور وتركنا. والوجه الأول هو الأولى، وما عداه متكلف متعسف لم تلجئ إليه حاجة ولا دعت إليه ضرورة "إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين" الظرف متعلق بمحذوف هو نعت الآية: أي كائنة وقت أرسلناه، أو بآية نفسها، والأول أولى. والسلطان المبين الحجة الظاهرة الواضحة، وهي العصا وما معها من الآيات.
39- "فتولى بركنه" التولي: الإعراض، والركن: الجانب. قاله الأخفش. والمعنى: أعرض بجانبه كما في قوله: "أعرض ونأى بجانبه" قال الجوهري: ركن الشيء جانبه الأقوى، وهو يأوي إلى ركن شديد: أي عز ومنعة. وقال ابن زيد ومجاهد وغيرهما: الركن جمعه وجنوده الذين كان يتقوى بهم، ومنه قوله تعالى: "أو آوي إلى ركن شديد" أي عشيرة ومنعة، وقيل الركن: نفس القوة، وبه قال قتادة وغيره، ومنه قول عنترة: فما أوهي مراس الحرب ركني ولكن ما تقادم من زماني "وقال ساحر أو مجنون" أي قال فرعون: في حق موسى هو ساحر أو مجنون فردد فيما رآه من أحوال موسى بين كونه ساحراً أو مجنوناً، وهذا من اللعين مغالطة وإيهام لقومه، فإنه يعلم أن ما رآه من الخوارق لا يتيسر على يد ساحر ولا يفعله من به جنون. وقيل إن أو بمعنى الواو، لأنه قد قال ذلك جميعاً ولم يتردد، قاله المؤرج والفراء، كقوله: " ولا تطع منهم آثما أو كفورا ".
40- "فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم" أي طرحناهم في البحر، وجملة "وهو مليم" في محل نصب على الحال: أي آت بما يلام عليه حين ادعى الربوبية وكفر بالله وطغى في عصيانه.
41- "وفي عاد" أي وتركنا في قصة عاد آية "إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم" وهي التي لا خير فيها ولا بركة، لا تلقح شجراً ولا تحمل مطراً، إنما هي ريح الإهلاك والعذاب.
ثم وصف سبحانه هذه الريح فقال: 42- "ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم" أي ما تذر من شيء مرت عليه من أنفسهم وأنعامهم وأموالهم إلا جعلته كالشيء الهالك البالي. قال الشاعر: تركتني حين كف الدهر من بصري وإذ بقيت كعظم الرمة البالي وقال قتادة: إنه الذي ديس من يابس النبات، وقال السدي وأبو العالية: إنه التراب المدقوق، وقال قطرب: إنه الرماد، وأصل الكلمة من رم العظم: إذا بلي فهو رميم، والرمة: العظام البالية.
43- "وفي ثمود إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين" أي وتركنا في قصة ثمود آية وقت قلنا لهم عيشوا متمتعين بالدنيا إلى حين وقت الهلاك، وهو ثلاثة أيام كما في قوله: "تمتعوا في داركم ثلاثة أيام".
44- "فعتوا عن أمر ربهم" أي تكبروا عن امتثال أمر الله "فأخذتهم الصاعقة" وهي كل عذاب مهلك. قرأ الجمهور "الصاعقة" وقرأ عمر بن الخطاب وحميد وابن محيصن ومجاهد والكسائي " الصاعقة " وقد مر الكلام على الصاعقة في البقرة، وفي مواضع "وهم ينظرون" أي يرونها عياناً، والجملة في محل نصب على الحال، وقيل إن المعنى: ينتظرون ما وعدوه من العذاب، والأول أولى.
45- "فما استطاعوا من قيام" أي لم يقدروا على القيام. قال قتادة: من نهوض: يعني لم ينهضوا من تلك الصرعة، والمعنى: أنهم عجزوا عن القيام فضلاً عن الهرب، ومثله قوله: "فأصبحوا في دارهم جاثمين" "وما كانوا منتصرين" أي ممتنعين من عذاب الله بغيرهم.
46- "وقوم نوح من قبل" أي من قبل هؤلاء المهلكين، فإن زمانهم متقدم على زمن فرعون وعاد وثمود "إنهم كانوا قوماً فاسقين" أي خارجين عن طاعة الله. قرأ حمزة والكسائي وأبو عمرو بخفض "قوم" أي وفي قوم نوح آية، وقرأ الباقون بالنصب: أي وأهلكنا قوم نوح، أو هو معطوف على مفعول أخذتهم الصاعقة، أو على مفعول نبذناهم: أي نبذناهم ونبذنا قوم نوح، أو يكون العامل فيه اذكر.
47- "والسماء بنيناها بأيد" أي بقوة وقدرة، قرأ الجمهور بنصب السماء على الاشتغال، والتقدير: وبنينا السماء بنيناها. وقرأ أبو السماك وابن مقسم برفعها على الابتداء "وإنا لموسعون" الموسع ذو الوسع والسعة، والمعنى: إنا لذوا سعة بخلقها وخلق غيرها لا نعجز عن ذلك، وقيل لقادرون، من الوسع بمعنى الطاقة والقدرة، وقيل إنا لموسوعون الرزق بالمطر، قال الجوهري: وأوسع الرجل: صار ذا سعة وغنى.
48- "والأرض فرشناها" قرأ الجمهور بنصب "الأرض" على الاشتغال، وقرأ أبو السماك وابن مقسم برفعها كما تقدم في قوله: "والسماء بنيناها" ومعنى فرشناها: بسطناها كالفراش "فنعم الماهدون" أي نحن، يقال مهدت الفراش: بسطته ووطأته، وتمهدي الأمور: تسويتها وإصلاحها.
49- "ومن كل شيء خلقنا زوجين" أي صنفين ونوعين من ذكر وأنثى وبر وبحر وشمس وقمر وحلو ومر وسماء وأرض وليل ونهار ونور وظلمة وجن وإنس وخير وشر "لعلكم تذكرون" أي خلقنا ذلك هكذا لتذكروا فتعرفوا أنه خالق كل شيء وتستدلوا بذلك على توحيده وصدق وعده ووعيده.
50- "ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين" أي قل لهم يا محمد: ففروا إلى الله بالتوبة من ذنوبكم عن الكفر والمعاصي، وجملة "إني لكم منه نذير مبين" تعليل للأمر بالفرار، وقيل معنى "ففروا إلى الله" اخرجوا من مكة. وقال الحسين بن الفضل/ احترزوا من كل شيء غير الله، فمن فر إلى غيره لم يمتنع منه. وقيل فروا من طاعة الشيطان إلى طاعة الرحمن، وقيل فروا من الجهل إلى العلم، ومعنى "إني لكم منه" أي من جهته منذر بين الإنذار.
51- "ولا تجعلوا مع الله إلهاً آخر" نهاهم عن الشرك بالله بعد أمرهم بالفرار إلى الله. وجملة "إني لكم منه نذير مبين" تعليل للنهي.
52- "كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون" في هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم بيان أن هذا شأن الأمم المتقدمة وأن ما وقع من العرب من التكذيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ووصفه بالسحر والجنون قد كان ممن قبلهم لرسلهم، و"كذلك" في محل رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف: أي الأمر كذلك. ثم فسر ما أجمله بقوله: "ما أتى" الخ، أو في محل نصب نعتاً لمصدر محذوف: أي أنذركم إنذاراً كإنذار من تقدمني من الرسل الذين أنذروا قومهم، والأول أولى.
53- "أتواصوا به" الاستفهام للتقريع والتوبيخ والتعجيب من حالهم: أي هل أوصى أولهم آخرهم بالتكذيب وتوطأوا عليه "بل هم قوم طاغون" إضراب عن التواصي إلى ما جمعهم من الطغيان: أي لم يتواصوا بذلك، بل جمعهم الطغيان وهو مجاوزة الحد في الكفر.
ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بالإعراض عنهم فقال: 54- "فتول عنهم" أي أعرض عنهم وكف عن جدالهم ودعائهم إلى الحق، فقد فعلت ما أمرك الله به وبلغت رسالته "فما أنت بملوم" عند الله بعد هذا لأنك قد أديت ما عليك، وهذا منسوخ بآية السيف.
ثم لما أمره بالإعراض عنهم أمره بأن لا يترك التذكير والموعظة بالتي هي أحسن فقال: 55- "وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين" قال الكلبي: المعنى عظ بالقرآن من آمن من قومك فإن الذكرى تنفعهم. وقال مقاتل: عظ كفار مكة فإن الذكرى تنفع من كان في علم الله أنه يؤمن. وقيل ذكرهم بالعقوبة وأيام الله، وخص المؤمنين بالتذكير لأنهم المنتفعون به.
وجملة 56- "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون" مستأنفة مقررة لما قبلها، لأن كون خلقهم لمجرد العبادة مما ينشط رسول الله صلى الله عليه وسلم للتذكير وينشطهم للإجابة. قيل هذا خاص في من سبق من علم الله سبحانه أنه يعبده، فهو عموم مراد به الخصوص. قال الواحدي: قال المفسرون: هذا خاص لأهل طاعته، يعني من أهل من الفريقين. قال: وهذا قول الكلبي والضحاك واختيار الفراء وابن قتيبة. قال القشيري: والآية دخلها التخصيص بالقطع، لأن المجانين لم يؤمروا بالعبادة ولا أراجها منهم، وقد قال: "ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس" ومن خلق لجهنم لا يكون ممن خلق للعبادة. فالآية محمولة على المؤمنين منهم، ويدل عليه قراءة ابن مسعود وأبي بن كعب "وما خلقت الجن والإنس من المؤمنين إلا ليعبدون". وقال مجاهد: إن المعنى: إلا ليعرفوني. قال الثعلبي: وهذا قول حسن، لأنه لو لم يخلقهم لما عرف وجوده وتوحيده. وروي عن مجاهد أنه قال: المعنى إلا لآمرهم وأنهاهم، ويدل عليه قوله: "وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون" واختار هذا الزجاج. وقال زيد بن أسلم: هو ما جبلوا عليه من السعادة والشقاوة، فخلق السعداء من الجن والإنس للعبادة، وخلق الأشقياء للمعصية. وقال الكلبي: المعنى إلا ليوحدون، فأما المؤمن فيوحده في الشدة والرخاء، وأما الكافر فيوحده في الشدة دون النعمة كما في قوله: "وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين" وقال جماعة: إلا ليخضعوا لي ويتذللوا، ومعنى العبادة في اللغة: الذل والخضوع والانقياد، وكل مخلوق من الإنس والجن خاضع لقضاء الله متذلل لمشيئته منقاد لما قدره عليه. خلقهم على ما أراد، ورزقهم كما قضى، لا يملك أحد منهم لنفسه نفعاً ولا ضرراً. ووجه تقديم الجن على الإنس هاهنا تقدم وجودهم.
57- "ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون" هذه الجملة فيها بيان استغنائه سبحانه عن عباده، وأنه لا يريد منهم منفعة كما تريده السادة من عبيدهم، بل هو الغني المطلق الرازق المعطي. وقيل المعنى: ما أريد منهم أن يرزقوا أحداً من خلقي ولا أن يرزقوا أنفسهم، ولا يطعموا أحداً من خلقي ولا يطعموا أنفسهم، وإنما أسند الإطعام إلى نفسه لأن الخلق عيال الله. فمن أطعم عيال الله فهو كمن أطعمه. وهذا كما ورد في قوله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله عبدي استطعمتك فلم تطعمني" أي لم تطعم عبادي، ومن في قوله: "من رزق" زائدة لتأكيد العموم.
ثم بين سبحانه أنه هو الرزاق لا غيره، فقال: 58- "إن الله هو الرزاق" لا رزاق سواه ولا معطي غيره، فهو الذي يرزق مخلوقاته ويقوم بما يصلحهم فلا يشتغلوا بغير ما خلقوا له من العبادة "ذو القوة المتين" ارتفاع المتين على أنه وصف للرزاق، أو لذو، أو خبر مبتدأ محذوف، أو خبر بعد خبر. قرأ الجمهور " الرزاق " وقرأ ابن محيصن الرازق وقرأ الجمهور " المتين " بالرفع ، وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش بالجر صفة للقوة، والتذكير لكون تأنيثها غير حقيقي. قال الفراء: كان حقه المتينة، فذكرها لأنه ذهب بها إلى الشيء المبرم المحكم الفتل، يقال حبل متين: أي محكم الفتل، ومعنى المتين: الشديد القوة هنا.
59- "فإن للذين ظلموا ذنوباً مثل ذنوب أصحابهم" أي ظلموا أنفسهم بالكفر والمعاصي، فإن لهم ذنوباً: أي طويل الشر لا ينقضي، وأصل الذنوب في اللغة الدلوا العظيمة، ومن استعمال الذنوب في النصيب من الشيء قول الشاعر: لعمرك والمنايا طارقات لكل بني أب منها ذنوب وما في الآية مأخوذ من مقاسمه السقاة الماء بالدلو الكبير، فهو تمثيل، جعل الذنوب. مكان الحظ والنصيب قاله ابن قتيبة "فلا يستعجلون" أي لا يطلبوا مني أن أعجل لهم العذاب كما في في قولهم: " فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين ".
60- "فويل للذين كفروا من يومهم الذي يوعدون" قيل هو يوم القيامة وقيل يوم بدر، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر في قوله: "فتولى بركنه" عن ابن عباس قال: بقومه. وأخرج الفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عنه في قوله: "الريح العقيم" قال: الشديدة التي لا تلقح شيئاً. وأخرج ابن جرير عنه أيضاً قال: لا تلقح الشجر ولا تثير السحاب، وفي قوله: "إلا جعلته كالرميم" قال: كالشيء الهالك. وأخرج الفريابي وابن المنذر عن علي بن أبي طالب قال: الريح العقيم النكباء. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله: "والسماء بنيناها بأيد" قال: بقوة. وأخرج أبو داود في ناسخه وابن المنذر عنه في قوله: "فتول عنهم فما أنت بملوم" قال: أمره الله أن يتولى عنهم ليعذبهم، وعذر محمداً صلى الله عليه وسلم، ثم قال: "وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين" فنسختها. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله: "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون" قال: ليقروا بالعبودية طوعاً أو كرهاً. وأخرج ابن المنذر عنه في الآية قال: على ما خلقتهم عليه من طاعتي ومعصيتي وشقوتي وسعادتي. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عنه أيضاً في قوله: "المتين" يقول: الشديد. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: "ذنوباً" قال: دلواً.