islamkingdomfaceBook islamkingdomtwitter islamkingdominstagram islamkingdomyoutube islamkingdomnew

فتح القدير
19570

4-النساء

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا

هي مدنية كلها. قال القرطبي: إلا آية واحدة نزلت بمكة عام الفتح في عثمان بن طلحة الحجبي، وهي قوله تعالى "إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها" على ما سيأتي إن شاء الله، قال النقاش: وقيل: نزلت عند هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، وعلى ما تقدم عن بعض أهل العلم أن قوله تعالى "يا أيها الناس" حيثما وقع، فإنه مكي يلزم أن يكون هذه السورة مكياً، وبه قال علقمة وغيره. وقال النحاس: هذه الآية مكية. قال القرطبي: والصحيح الأول، فإن في صحيح البخاري عن عائشة أنها قالت: ما نزلت سورة النساء إلا وأنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. يعني قد بنى بها. ولا خلاف بين العماء أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما بنى بعائشة بالمدينة، ومن تبين أحكامها علم أنها مدنية لا شك فيها. قال: وأما من قال: "يا أيها الناس" مكي حيث وقع فليس بصحيح، فإن البقرة مدنية وفيها "يا أيها الناس" في موضعين. وقد أخرج ابن الضريس في فضائله والنحاس في ناسخه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: نزلت سورة النساء بالمدينة، وفي إسناده العوفي وهو ضعيف، وكذا أخرجه ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير وزيد بن ثابت، وأخرجه ابن المنذر عن قتادة. وقد ورد في فضل هذه السورة ما أخرجه الحاكم في مستدركه عن عبد الله بن مسعود قال: إن في سورة النساء لخمس آيات ما يسرني أن لي بها الدنيا وما فيها "إن الله لا يظلم مثقال ذرة" الآية، "إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه" الآية، "إن الله لا يغفر أن يشرك به" الآية، "ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم" الآية. ثم قال: هذا إسناد صحيح إن كان عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود سمع من أبيه، وقد اختلف في ذلك. وأخرجه عبد الرزاق عن معمر عن رجل عن ابن مسعود قال: خمس آيات من النساء هن أحب إلي من الدنيا جميعاً "إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه" الآية "وإن تك حسنة يضاعفها" الآية "إن الله لا يغفر أن يشرك به" الآية "من يعمل سوءاً أو يظلم نفسه" الآية "والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم" الآية. ورواه ابن جرير. ثم روي من طريق صالح المري عن قتادة عن ابن عباس قال: ثمان آيات نزلت في سورة النساء هن خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت، وذكر ما ذكره ابن مسعود، وزاد "يريد الله ليبين لكم" الآية "والله يريد أن يتوب عليكم" الآية "يريد الله أن يخفف عنكم" الآية. وأخرج أحمد وابن الضريس ومحمد بن نصر والحاكم وصححه والبيهقي عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أخذ السبع فهو حبر". وأخرج البيهقي في الشعب عن واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعطيت مكان التوراة السبع الطوال والمئين كل سورة بلغت مائة فصاعداً"، والمثاني كل سورة دون المئين وفوق المفصل. وأخرج أبو يعلى وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن أنس قال: "وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة شيئاً فلما أصبح قيل: يا رسول الله إن أثر الوجع عليك لبين، قال: أما إني على ما ترون بحمد الله قد قرات السبع الطوال". وأخرج أحمد عن حذيفة قال: "قمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ السبع الطوال في سبع ركعات". وأخرج عبد الرزاق عن بعض أهل النبي صلى الله عليه وسلم "أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بالسبع الطوال في ركعة واحدة". وأخرج الحاكم عن ابن عباس أنه قال: "سلوني عن سورة النساء فإني قرأت القرآن وأنا صغير" قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف عنه قال: "من قرأ سورة النساء فعلم ما يحجب مما لا يحجب علم الفرائض". المراد بالناس الموجودون عند الخطاب من بني آدم، ويدخل من سيوجد بدليل خارجي وهو الإجماع على أنهم مكلفون بما كلف به الموجودون، أو تغليب الموجودين على من لم يوجد كما غلب الذكور على الإناث في قوله "اتقوا ربكم" لاختصاص ذلك بجمع المذكر. والمراد بالنفس الواحدة هنا آدم. وقرأ ابن أبي عبلة واحد بغير هاء على مراعاة المعنى، فالتأنيث باعتبار اللفظ، والتذكير باعتبار المعنى. قوله 1- "وخلق منها زوجها" قيل: هو معطوف على مقدر يدل عليه الكلام: أي خلقكم من نفس واحدة خلقها أولاً، وخلق منها زوجها، وقيل: على خلقكم، فيكون الفعل الثاني داخلاً مع الأول في حيز الصلة. والمعنى: وخلق من تلك النفس التي هي عبارة عن آدم زوجها وهي حواء. وقد تقدم في البقرة معنى التقوى والرب والزوج والبث، والضمير في قوله "منها" راجع إلى آدم وحواء المعبر عنها بالنفس والزوج. وقوله "كثيراً" وصف مؤكد لما تفيده صيغة الجمع لكونها من جموع الكثرة وقيل: هو نعت لمصدر محذوف: أي بثاً كثيراً. وقوله "ونساء" أي كثيرة، وترك التصريح به استغناء بالوصف الأول. قوله "واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام" قرأ أهل الكوفة بحذف التاء الثانية، وأصله تتساءلون تخفيفاً لاجتماع المثلين. وقرأ أهل المدينة وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بإدغام التاء في السين، والمعنى: يسأل بعضكم بعضاً بالله والرحم، فإنهم كانوا يقرنون بينهما في السؤال والمناشدة، فيقولون: أسألك بالله والرحم، وأنشدك الله والرحم، وقرأ النخعي وقتادة والأعمش وحمزة "والأرحام" بالجر. وقرأ الباقون بالنصب. وقد اختلف أئمة النحو في توجيه قراءة الجر، فأما البصريون فقالوا: هي لحن لا تجوز القراءة بها. وأما الكوفيون فقالوا: هي قراءة قبيحة. قال سيبويه في توجيه هذا القبح: إن المضمر المجرور بمنزلة التنوين، والتنوين لا يعطف عليه. وقال الزجاج وجماعة بقبح عطف الاسم الظاهر على المضمر في الخفض إلا بإعادة الخافض كقوله تعالى "فخسفنا به وبداره الأرض" وجوز سيبويه ذلك في ضرورة الشعر، وأنشد: فاليوم قربت تهجونا وتمدحنا فاذهب فما بك والأيام من عجب ومثله قول الآخر: تعلق في مثل السواري سيوفنا وما بينها والكعب بهو نفانف بعطف الكعب على الضمير في بينها. وحكى أبو علي الفارسي أن المبرد قال: لو صليت خلف إمام يقرأ "واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام" بالجر، لأخذت نعلي ومضيت. وقد رد الإمام أبو نصر القشيري ما قاله القادحون في قراءة الجر فقال: ومثل هذا الكلام مردود عند أئمة الدين، لأن القراءات التي قرأ بها أئمة القراء أثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم تواتراً، ولا يخفى عليك أن دعوى التواتر باطلة يعرف ذلك من يعرف الأسانيد التي رووها بها، ولكن ينبغي أن يحتج للجواز بورود ذلك في أشعار العرب كما تقدم، وكما في قوله بعضهم: وحسبك والضحاك سيف مهند وقول الآخر: وقد رام آفاق السماء فلم يجد له مصعداً فيها ولا الأرض مقعدا وقول الآخر: ما إن بها والأمور من تلف وقول الآخر: أكر على الكتيبة لست أدري أحتفي كان فيها أم سواها فسواها في موضع جر عطفاً على الضمير في فيها، ومنه قوله تعالى "وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين". وأما قراءة النصف فمعناها واضح جلي لأنه عطف الرحم على الاسم الشريف: أي اتقوا الله واتقوا الأرحام فلا تقطعوها، فإنها مما أمر الله به ان يوصل، وقيل: إنه عطف على محل الجار والمجرور في قوله "به" كقولك مررت بزيد وعمراً: أي اتقوا الله الذي تساءلون به وتتساءلون بالأرحام. والأول أولى. وقرأ عبد الله بن يزيد والأرحام بالرفع على الابتداء والخبر مقدر: أي والأرحام صلوها أو والأرحام أهل أن توصل، وقيل: إن الرفع على الإغراء عند من يرفع به، ومنه قول الشاعر: إن قوماً منهم عمير وأشبا ه عـمــير ومنـهـــم الســفـاح لجديـرون باللقــاء إذا قـا ل أخ النجدة السلاح السلاح والأرحام: اسم لجميع الأقارب من غير فرق بين المحرم وغيره، لا خلاف في هذا بين أهل الشرع ولا بين أهل اللغة. وقد خصص أبو حنيفة وبعض الزيدية الرحم بالمحرم في منع الرجوع في الهبة مع موافقتهم على أن معناها أعم، ولا وجه لهذا التخصيص. قال القرطبي: اتفقت الملة على أن صلة الرحم واجبة وأن قطيعتها محرمة انتهى. وقد وردت بذلك الأحاديث الكثيرة الصحيحة. والرقيب: المراقب وهي صيغة مبالغة، يقال: رقبت أرقب رقبة ورقباناً: إذا انتظرت.

وَآَتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا

قوله 2- "وآتوا اليتامى أموالهم" خطاب للأولياء والأوصياء. والإيتاء: الإعطاء. واليتيم: من لا أب له. وقد خصصه الشرع بمن لم يبلغ الحلم. وقد تقدم تفسير معناه في البقرة مستوفى، وأطلق اسم اليتيم عليهم عند إعطائهم أموالهم، مع أنهم لا يعطونها إلا بعد ارتفاع اسم اليتم بالبلوغ مجازاً باعتبار ما كانوا عليه، ويجوز أن يراد باليتامى المعنى الحقيقي، وبالإيتاء ما يدفعه الأولياء والأوصياء إليهم من النفقة والكسوة لا دفعها جميعها وهذه الآية مقيدة بالآية الأخرى وهي قوله تعالى "فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم" فلا يكون مجرد ارتفاع اليتم بالبلوغ مسوغاً لدفع أموالهم إليهم حتى يؤنس منهم الرشد. قوله "ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب" نهي لهم عن أن يصنعوا صنع الجاهلية في أموا اليتامى فإنهم كانوا يأخذون الطيب من أموال اليتامى ويعوضونه بالرديء من أموالهم ولا يرون بذلك بأساً، وقيل المعنى: لا تأكلوا أموا اليتامى وهي محرمة خبيثة وتدعوا الطيب من أموالكم. وقيل: المراد لا تتعجلوا أكل الخبيث من أموالهم وتدعوا انتظار الرزق الحلال من عند الله. والأول أولى، فإن تبدل الشيء بالشيء في اللغة أخذه مكانه وكذلك استبداله، ومنه قوله تعالى: "ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل" وقوله "أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير". وأما التبديل فقد يستعمل كذلك كما في قوله "وبدلناهم بجنتيهم جنتين" وأخرى بالعكس كما في قولك بدلت الحلقة بالخاتم: إذا أذبتها وجعلتها خاتماً، نص عليه الأزهري. قوله "ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم" ذهب جماعة من المفسرين إلى أن المنهي عنه في هذه الآية هو الخلط فيكون الفعل مضمناً معنى الضم: أي لا تأكلوا أموالهم مضمومة إلى أموالكم، ثم نسخ هذا بقوله تعالى "وإن تخالطوهم فإخوانكم" وقيل: إن إلى بمعنى مع كقوله تعالى "من أنصاري إلى الله". والأول أولى. والحوب: الإثم يقال: حاب الرجل يحوب حوباً: إذا أثم، وأصله الزجر للإبل، فسمي الإثم حوباً لأنه يزجر عنه. والحوبة: الحاجة. والحوب أيضاً: الوحشة، وفيه ثلاث لغات: ضم الحاء وهي قراءة الجمهور. وفتح الحاء وهي قراءة الحسن، قال الأخفش: وهي لغة تميم. والثالثة الحاب. وقرأ أبي بن كعب حاباً على المصدر كقال قالاً. والتحوب التحزن، ومنه قول طفيل: فذوقوا كما ذقنا عداه يحجر من الغيظ في أكبادنا والتحوب

وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا

قوله 3- " وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فانكحوا " وجه ارتباط الجزاء بالشرط أن الرجل كان يكفل اليتيمة لكونه ولياً لها ويريد أن يتزوجها فلا يقسط لها في مهرها: أي يعدل فيه ويعطيها ما يعطيها غيره من الأزواج، فنهاهم الله أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن ويبلغوا بهن أعلى ما هو لهن من الصداق، وأمروا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن ويبلغوا بهن أعلى ما هو لهن من الصداق، وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن، فهذا سبب نزول الآية كما سيأتي، فهو نهي يخص هذه الصورة. وقال جماعة من السلف: إن هذه الآية ناسخة لما كان في الجاهلية وفي أول الإسلام من أن للرجل أن يتزوج من الحرائر ما شاء، فقصرهم بهذه الآية على أربع، فيكون وجه ارتباط الجزاء بالشرط أنهم إذا خافوا ألا يقسطوا في اليتامى فكذلك يخافون ألا يقسطوا في النساء، لأنهم كانوا يتحرجون في اليتامى ولا يتحرجون في النساء والخوف من الأضداد، فإن المخوف قد يكون معلوماً، وقد يكون مظنوناً، ولهذا اختلف الأئمة في معناه في الآية، فقال أبو عبيدة: "خفتم" بمعنى أيقنتم. وقال آخرون "خفتم" بمعنى ظننتم. قال ابن عطية: وهو الذي اختاره الحذاق وأنه على بابه من الظن لا من اليقين، والمعنى: من غلب على ظنه التقصير في العدل لليتيمة فليتركها وينكح غيرها. وقرأ النخعي وابن وثاب "تقسطوا" بفتح التاء من قسط: إذا جار، فتكون هذه القراءة على تقدير زيادة لا، كأنه قال: وإن خفتم أن تقسطوا. وحكى الزجاج أن أقسط يستعمل استعمال قسط، والمعروف عند أهل اللغة أن أقسط بمعنى عدل، وقسط بمعنى جار، وما في قوله "ما طاب" موصولة، وجاء بما مكان من لأنهما قد يتعاقبان فيقع كل واحد منهما مكان الآخر كما في قوله "والسماء وما بناها" " فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع ". وقال البصريون: إن ما تقع للنعوت كما تقع لما لا يعقل، يقال ما عندك، فيقال: ظريف وكريم، فالمعنى: فانكحوا الطيب من النساء: أي الحلال، وما حرمه الله فليس بطيب، وقيل: إن ما هنا مدية: أي ما دمتم مستحسنين للنكاح، وضعفه ابن عطية. وقال الفراء: إن ما ها هنا مصدرية. قال النحاس: وهذا بعيد جداً. وقرأ ابن أبي عبلة "فانكحوا ما طاب". وقد اتفق أهل العلم على أن هذا الشرط المذكور في الآية لا مفهوم له، وأنه يجوز لمن لم يخف أن يقسط في اليتامى أن ينكح أكثر من واحدة، ومن في قوله "من النساء" إما بيانية أو تبعيضية، لأن المراد غير اليتائم. قوله "مثنى وثلاث ورباع" في محل نصب على البدل من ما كما قاله أبو علي الفارسي، وقيل على الحال، وهذه الألفاظ لا تتصرف للعدل والوصفية كما هو مبين في علم النحو والأصل: انكحوا ما طاب لكم من النساء اثنتين اثنتين، وثلاثاً ثلاثاً، وأربعاً أربعاً. وقد استدل بالآية على تحريم ما زاد على الأربع، وبينوا ذلك بأنه خطاب لجميع الأمة، وأن كل ناكح له أن يختار ما أراد من هذا العدد، كما يقال للجماعة: اقتسموا هذا المال وهو ألف درهم، أو هذا المال الذي في البدرة درهمين درهمين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة. وهذا مسلم إذا كان المقسوم قد ذكرت جملته أو عين مكانه، أما لو كان مطلقاً كما يقال: اقتسموا الدراهم، ويراد به ما كسبوه فليس المعنى هكذا. والآية من الباب الآخر لا من الباب الأول. على أن من قال لقوم يقتسمون مالاً معيناً كثيراً: اقتسموه مثنى وثلاث ورباع، فقسموا بعضه بينهم درهمين درهمين، وثلاثة ثلاثة، وبعضه أربعة أربعة كان هذا هو المعنى العربي، ومعلوم أنه إذا قال القائل جاءني القوم مثنى وهم مائة ألف، كان المعنى أنهم جاؤوه اثنين اثنين، وهكذا في جاء القوم ثلاث ورباع، والخطاب للجميع بمنزلة الخطاب لكل فرد فرد كما في قوله "اقتلوا المشركين" "أقيموا الصلاة" "آتوا الزكاة" ونحوها، فقوله "فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع" معناه لينكح كل فرد منكم ما طاب له من النساء اثنتين اثنتين، وثلاثاً ثلاثاً، وأربعاً أربعاً، هذا ما تقتضيه لغة العرب. فالآية تدل على خلاف ما استدلوا بها عليه، ويؤيد هذا قوله تعالى في آخر الآية " فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة " فإنه وإن كان خطاباً للجميع فهو بمنزلة الخطاب لكل فرد فرد. فالأولى أن يستدل على تحريم الزيادة على الأربع بالسنة لا بالقرآن. وأما استدلال من استدل بالآية على جواز نكاح التسع باعتبار الواو الجامعة، فكأنه قال: انكحوا مجموع هذا العدد المذكور، فهذا جهل بالمعنى العربي، ولو قال: انكحوا اثنتين وثلاثاً وأربعاً كان هذا القول له وجه وأما مع المجيء بصيغة العدل فلا، وإنما جاء سبحانه بالواو الجامعة دون أو، لأن التخيير يشعر بأنه لا يجوز إلا أحد الأعداد المذكورة دون غيره، وذلك ليس بمراد من النظم القرآني. وقرأ النخعي ويحيى بن وثاب ثلث وربع بغير ألف. قوله " فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة " فانكحوا واحدة كما يدل على ذلك قوله "فانكحوا ما طاب" وقيل: التقدير فالزموا أو فاختاروا واحدة. والأول أولى، والمعنى: فإن خفتم ألا تعدلوا بين الزوجات في القسم ونحوه فانكحوا واحدة، وفيه المنع من الزيادة على الواحدة لمن خاف ذلك. وقرئ بالرفع على أنه مبتدأ والخبر محذوف. قال الكسائي: أي فواحدة تقنع، وقيل التقدير: فواحدة فيها كفاية، ويجوز أن تكون واحدة على قراءة الرفع خبر مبتدأ محذوف: أي فالمقنع واحدة. قوله "أو ما ملكت أيمانكم" معطوف على واحدة: أي فانكحوا واحدة أو انكحوا ما ملكت أيمانكم من السراري وإن كثر عددهن كما يفيده الموصول. والمراد نكاحهن بطريق الملك لا بطريق النكاح، وفيه دليل على أنه لا حق للمملوكات في القسم كما يدل على ذلك جعله قسيماً للواحدة في الأمن من عدم العدل، وإسناد الملك إلى اليمين، لكونها المباشرة لقبض الأموال وإقباضها ولسائر الأمور التي تنسب إلى الشخص في الغالب، ومنه: إذا ما راية نصبت لمجد تلقاها عرابة باليمين قوله " ذلك أدنى أن لا تعولوا " أي: ذلك أقرب إلى ألا تعولوا: أي تجوروا، من عال الرجل يعول: إذا مال وجار، ومنه قولهم عال السهم عن الهدف: مال عنه، وعال الميزان إذا مال، ومنه: قالوا اتبعنا رسول الله واطرحوا قول الرسول وعالوا في الموازين ومنه قول أبي طالب: بميزان صدق لا يغل شعيرة له شاهد من نفسه غير عائل ومنه أيضاً: فنحن ثلاثة وثلاث ذود لقد عال الزمان على عيال والمعنى: إن خفتم عدم العدل بين الزوجات، فهذه التي أمرتم بها أقرب إلى عدم الجور، ويقال: عال الرجل يعيل: إذا افتقر وصار عالة، ومنه قوله تعالى "وإن خفتم عيلة"، ومنه قول الشاعر: وما يدري الفقير متى غناه وما يدري الغني متى يعيل وقال الشافعي " أن لا تعولوا " ألا تكثر عيالكم. قال الثعلبي: وما قال هذا غيره، وإنما يقال أعال يعيل: إذا كثر عياله. وذكر ابن العربي أن عال تأتي لسبعة معان: الأول عال مال. الثاني زاد. الثالث جار. الرابع افتقر. الخامس أثقل. السادس قام بمؤونة العيال، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "وابدأ بمن تعول". السابع عال غلب، ومنه عيل صبري، قال ويقال أعال الرجل: كثر عياله. وأما عال بمعنى كثر عياله فلا يصح، ويجاب عن إنكار الثعلبي لما قاله الشافعي، وكذلك إنكار ابن العربي لذلك، بأنه قد سبق الشافعي إلى القول به زيد بن أسلم وجابر بن زيد وهما إمامان من أئمة المسلمين لا يفسران القرآن هما والإمام الشافعي بما لا وجه له في العربية. وقد أخرج ذلك عنهما الدارقطني في سننه. وقد حكاه القرطبي عن الكسائي وأبي عمر الدوري وابن الأعرابي، وقال أبو حاتم: كان الشافعي أعلم بلغة العرب منا ولعله لغة. وقال الثعلبي: قال أستاذنا أبو القاسم بن حبيب: سألت أبا عمر الدوري عن هذا وكان إماماً في اللغة غير مدافع، فقال: هي لغة حمير، وأنشد: وإن الموت يأخذ كل حي بلا شك وإن أمشى وعالا أي: وإن كثرت ماشيته وعياله. وقرأ طلحة بن مصرف " أن لا تعبدوا " قال ابن عطية: وقدح الزجاج في تأويل عال من العيال بأن الله سبحانه قد أباح كثرة السراري، وفي ذلك تكثير العيال، فكيف يكون أقرب إلى أن لا يكثروا، وهذا القدح غير صحيح، لأن السراري إنما هي مال يتصرف فيه بالبيع، وإنما العيال الحرائر ذوات الحقوق الواجبة. وقد حكى ابن الأعرابي أن العرب تقول: عال الرجل إذا كثر عياله، وكفى بهذا. وقد ورد عال لمعان غير السبعة التي ذكرها ابن العربي، منها عال: اشتد وتفاقم، حكاه الجوهري، وعال الرجل في الأرض: إذا ضرب فيها، حكاه الهروي، وعال: إذا أعجز، حكاه الأحمر، فهذه ثلاثة معان غير السبعة، والرابع عال كثر عياله، فجملة معاني عال أحد عشر معنى.

وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا

قوله 4- "وآتوا النساء صدقاتهن نحلة" الخطاب للأزواج، وقيل: للأولياء. والصدقات بضم الدال جمع صدقة كثمرة، قال الأخفش: وبنو تميم يقولون صدقة والجمع صدقات، وإن شئت فتحت وإن شئت أسكنت. والنحلة بكسر النون وضمها لغتان، وأصلها العطاء نحلت فلاناً: أعطيته، وعلى هذا فهي منصوبة على المصدرية، لأن الإيتاء بمعنى الإعطاء، وقيل: النخلة التدين فمعنى نحلة تدينا، قاله الزجاج، وعلى هذا فهي منصوبة على المفعول له. وقال قتادة: النحلة الفريضة، وعلى هذا فهي منصوبة على الحال، وقيل: النحلة طيبة النفس، قال أبو عبيد: ولا تكون النحلة إلا عن طيبة نفس. ومعنى الآية على كون الخطاب للأزواج: أعطوا النساء اللاتي نكحتموهن مهورهن التي لهن عليكم عطية أو ديانة منكم أو فريضة عليكم أو طيبة من أنفسكم. ومعناها على كون الخطاب للأولياء: أعطوا النساء من قراباتكم التي قبضتم مهورهن من أزواجهن تلك المهور. وقد كان الولي يأخذ مهر قريبته في الجاهلية ولا يعطيها شيئاً، حكي ذلك عن أبي صالح والكلبي. والأول أولى لأن الضمائر من أول السياق للأزواج. وفي الآية دليل على أن الصداق واجب على الأزواج للنساء، وهو مجمع عليه كما قال القرطبي، قال: وأجمع العلماء أنه لا حد لكثيره، واختلفوا في قليله. وقرأ قتادة صدقاتهن بضم الصاد وسكون الدال. وقرأ النخعي وابن وثاب بضمهما. وقرأ الجمهور بفتح الصاد وضم الدال. قوله "فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً" الضمير في منه راجع إلى الصداق الذي هو واحد الصدقات أو إلى المذكور وهو الصدقات، أو هو بمنزلة اسم الإشارة، كأنه قال من ذلك، ونفساً تمييز. وقال أصحاب سيبويه: منصوب بإضمار فعل لا تمييز: أي أعني نفساً. والأول أولى. وبه قال الجمهور. والمعنى: فإن طبن: أي النساء لكم أيها الأزواج أو الأولياء عن شيء من المهر "فكلوه هنيئاً مريئاً" وفي قوله "طبن" دليل على أن المعتبر في تحليل ذلك منهن لهم إنما هو طيبة النفس لا مجرد ما يصدر منها من الألفاظ التي لا يتحقق معها طيبة النفس، فإذا ظهر منها ما يدل على عدم طيبة نفسها لم يحل للزوج ولا للولي وإن كانت قد تلفظت بالهبة أو النذر أو نحوهما. وما أقوى دلالة هذه الآية على عدم اعتبار ما يصدر من النساء من الألفاظ المفيدة للتمليك بمجردها لنقصان عقولهن وضعف إدراكهن وسرعة انخداعهن وانجذابهن إلى ما يراد منهن بأيسر ترغيب أو ترهيب. وقوله "هنيئاً مريئاً" منصوبان على أنهما صفتان لمصدر محذوف: أي أكلاً هنيئاً مريئاً أو قائمان مقام المصدر، أو على الحال، يقال: هناه الطعام الشراب يهينه ومرأه وأمرأه من الهنيء والمريء، والفعل هنأ ومرأ: أي أتى من غير مشقة ولا غيظ، وقيل: هو الطيب الذي لا تنغيص فيه، وقيل: المحمود العاقبة الطيب الهضم، وقيل: ما لا إثم فيه، والمقصود هنا أنه حلال لهم خالص عن الشوائب، وخص الأكل لأنه معظم ما يراد بالمال وإن كان سائر الانتفاعات به جائزة كالأكل. وقد أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله "خلقكم من نفس واحدة" قال: آدم "وخلق منها زوجها" قال: حواء من قصرى آدم: أي قصيرى أضلاعه. وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس مثله. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر قال: خلقت حواء من خلف آدم الأيسر. وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك قال: من ضلع الخلف وهو من أسفل الأضلاع. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس "واتقوا الله الذي تساءلون به" قال: تعاطون به. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن الربيع قال: تعاقدون وتعاهدون. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: يقول أسألك بالله والرحم. وأخرج ابن جرير عن الحسن نحوه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: اتقوا الله الذي تساءلون به واتقوا الأرحام وصلوها. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد "إن الله كان عليكم رقيباً" قال: حفيظاً. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: إن رجلاً من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له فلما بلغ اليتيم طلب ماله فمنعه عمه، فخاصمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت "وآتوا اليتامى أموالهم" يعني الأوصياء، يقول: أعطوا اليتامى أموالهم "ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب" يقول: لا تستبدلوا الحرام من أموال الناس بالحلال من أموالكم، يقول لا تذروا أموالكم الحلال وتأكلوا أموالهم الحرام. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الإيمان عن مجاهد قال: لا تعجل بالرزق الحرام قبل أن يأتيك الحلال الذي قدر لك "ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم" قال: مع أموالكم تخلطونها فتأكلونها جميعاً "إنه كان حوباً" إثماً. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في الآية قال: كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء ولا يورثون الصغار يأخذه الأكبر، فنصيبه من الميراث طيب وهذا الذي يأخذ خبيث. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة قال مع أموالكم. وأخرج ابن جرير عن الحسن قال: لما نزلت هذه الآية في أموال اليتامى كرهوا أن يخالطوهم، وجعل ولي اليتيم يعزل مال اليتيم عن ماله، فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله "يسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم" قال: فخالطوهم. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما أن عروة سأل عائشة عن قول الله عز وجل: " وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى " قالت: يابن أختي هذه اليتيمى تكون في حجر وليها تشركه في مالها ويعجبه مالها وجمالها، فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها، فيعطيها مثل ما يعطيها غيره، فنهوا عن أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن ويبلغوا بهن أعلى سننهن في الصداق، وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن، وأن الناس قد استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية، فأنزل الله "ويستفتونك في النساء" قالت عائشة: وقول الله في الآية الأخرى "وترغبون أن تنكحوهن" رغبة أحدكم عن يتيمته حين تكون قليلة المال والجمال، فنهوا أن ينكحوا من رغبوا في ماله وجماله من باقي النساء إلا بالقسط من أجل رغبتهم عنهن إذا كن قليلات المال والجمال. وأخرج البخاري عن عائشة: أن رجلاً كانت له يتيمة فنكحها وكان لها عذق فكان يمسكها عليه ولم يكن لها من نفسه شيء، فنزلت " وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى " أحسبه قال: كانت شريكته في ذلك العذق وفي ماله. وقد روي هذا المعنى من طرق. وأخرج ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس في الآية قال: كان الرجل يتزوج بمال اليتيم ما شاء الله تعالى، فنهى الله عن ذلك. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال: قصر الرجال على أربع نسوة من أجل أموال اليتامى. وأخرج خأسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله " وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى " قال: كان الرجل يتزوج ما شاء فقال: كما تخافون ألا تعدلوا في اليتامى فخافوا ألا تعدلوا فيهن فقصرهم على الأربع. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال: كانوا في الجاهلية ينكحون عشراً من النساء الأيامى، وكانوا يعظمون شأن اليتيم، فتفقدوا من دينهم شأن اليتامى وتركوا ما كانوا ينكحون في الجاهلية. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في الآية قال: كما خفتم ألا تعدلوا في اليتامى فخافوا ألا تعدلوا في النساء إذا جمعتموهن عندكم. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق محمد بن أبي موسى الأشعري عنه قال: فإن خفتم الزنا فانكحوهن، يقول: كما خفتم في أموال اليتامى ألا تقسطوا فيها فكذلك فخافوا على أنفسكم ما لم تنكحوا. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي مالك "ما طاب لكم" قال: ما أحل لكم. وأخرج ابن جرير عن الحسن وسعيد بن جبير مثله. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن عائشة نحوه. وأخرج الشافعي وابن أبي شيبة وأحمد والترمذي وابن ماجه والنحاس في ناسخه والدارقطني والبيهقي عن ابن عمر "أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وتحته عشر نسوة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: اختر منهن" وفي لفظ "أمسك منهن أربعاً وفارق سائرهن" هذا الحديث أخرجه هؤلاء المذكورين من طرق عن إسماعيل بن علية وغندر وزيد بن زريع وسعيد بن أبي عروبة وسفيان الثوري وعيسى بن يونس وعبد الرحمن بن محمد المحاربي والفضل بن موسى وغيرهم من الحفاظ عن معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه فذكره. وقد علل البخاري هذا الحديث فحكى عنه الترمذي أنه قال: هذا حديث غير محفوظ. والصحيح ما روي عن شعيب وغيره عن الزهري حدثت عن محمد بن سويد الثقفي أن غيلان بن سلمة، فذكره، وأما حديث الزهري عن أبيه: أن رجلاً من ثقيف طلق نساءه فقال له عمر: لأرجمن قبرك كما رجم قبر أبي رغال. وقد رواه معمر عن الزهري مرسلاً، وهكذا رواه مالك عن الزهري مرسلاً. قال أبو زرعة: وهو أصح. ورواه عقيل عن الزهري بلغنا عن عثمان بن محمد بن أبو سويد قال: أبو حاتم: وهذا وهم، إنما هو الزهري بلغنا عن عثمان بن أبي سويد. وقد سامه أحمد برجال الصحيح فقال: حدثنا إسماعيل ومحمد بن جعفر قالا: حدثنا معمر عن الزهري قال أبو جعفر في حديثه: أخبرنا ابن شهاب عن سالم عن أبيه أن غيلان فذكره وقد روي من غير طريق معمر والزهري، فأخرجه البيهقي عن أيوب عن نافع وسالم عن ابن عمر أن غيلان فذكره. وأخرج أبو داود وابن ماجه في سننهما عن عمير الأسدي قال: أسلمت وعندي ثمان نسوة، فذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: اختر منهن أربعاً. قال ابن كثير: إن إسناده حسن. وأخرج الشافعي في مسنده عن نوفل بن معاوية الديلي قال: أسلمت وعندي خمس نسوة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمسك أربعاً وفارق الأخرى". وأخرج ابن ماجه والنحاس في ناسخه عن قيس بن الحارث الأسدي قال: "أسلمت وكان تحتي ثمان نسوة، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: اختر منهن أربعاً وخل سائرهن، ففعلت" وهذه شواهد للحديث الأول كما قال البيهقي. وأخرج ابن أبي شيبة والبيهقي في سننه عن الحكم قال: أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن المملوك لا يجمع من النساء فوق اثنتين. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية يقول: إن خفت ألا تعدل في أربع فثلاث وإلا فثنتين وإلا فواحدة، فإن خفت ألا تعدل في واحدة فما ملكت يمينك. وأخرج ابن جرير عن الربيع مثله. وأخرج أيضاً عن الضحاك " فإن خفتم أن لا تعدلوا " قال: في المجامعة والحب. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي: "أو ما ملكت أيمانكم" قال: السراري. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان في صحيحه عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم " ذلك أدنى أن لا تعولوا " قال: ألا تجوروا. قال ابن أبي حاتم قال أبي: هذا حديث خطأ، والصحيح عن عائشة موقوف. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة في المصنف وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس في قوله " أن لا تعولوا " قال: ألا تميلوا. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة قال: ألا تميلوا، ثم قال: أما سمعت قول أبي طالب: بميزان قسط لا يخيس شعيرة ووازن صدق وزنه غير عائل وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد: قال: ألا تميلوا. وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي رزين وأبي مالك والضحاك مثله. وأخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم في الآية، قال: ذلك أدنى ألا يكثر من تعولوا. وأخرج ابن أبي حاتم عن سفيان بن عيينة: قال: ألا تفتقروا. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي صالح قال: كان الرجل إذا زوج أيمة أخذ صداقها دونها، فنهاهم الله عن ذلك ونزلت "وآتوا النساء صدقاتهن نحلة". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله "نحلة" قال: يعني بالنحلة المهر. وأخرج ابن أبي حاتم عن عائشة " نحلة " قالت : واجبة . وأخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن ابن جريج "وآتوا النساء صدقاتهن نحلة" قال: فريضة مسماة. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة مثله. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير "فإن طبن لكم" قال: هي للأزواج. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن عكرمة "فإن طبن لكم عن شيء منه" قال: من الصداق. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق علي عن ابن عباس "فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً" يقول: إذا كان من غير ضرار ولا خديعة فهو هنيء مريء كما قال الله.

وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا

هذا رجوع إلى بقية الأحكام المتعلقة بأموال اليتامى. وقد تقدم الأمر بدفع أموالهم إليهم في قوله تعالى "وآتوا اليتامى أموالهم" فبين سبحانه ها هنا أن السفيه وغير البالغ لا يجوز دفع ماله إليه. وقد تقدم في البقرة معنى السفيه لغة. واختلف أهل العلم في هؤلاء السفهاء من هم؟ فقال سعيد بن جبير: هم اليتامى لا تؤنوهم أموالكم. قال النحاس: وهذا من أحسن ما قيل في الآية. وقال مالك: هم الأولاد الصغار لا تعطوهم أموالكم فيفسدوها وتبقوا بلا شيء. وقال مجاهد: هم النساء. قال النحاس وغيره: وهذا القول لا يصح إنما تقول العرب سفائه أو سفيهات. واختلفوا في وجه إضافة الأموال إلى المخاطبين وهي للسفهاء، فقيل: أضافها إليهم لأنها بأيديهم وهم الناظرون فيها كقوله "فسلموا على أنفسكم"، وقوله "فاقتلوا أنفسكم" أي: ليسلم بعضكم على بعض، وليقتل بعضكم بعضاً، وقيل: أضافها إليهم لأنها من جنس أموالهم، فإن الأموال جعلت مشتركة بين الخلق في الأصل، وقيل: المراد أموال المخاطبين حقيقة، وبه قال أبو موسى الأشعري وابن عباس والحسن وقتادة. والمراد النهي عن دفعها إلى من لا يحسن تدبيرها كالنساء والصبيان، ومن هو ضعيف الإدراك لا يهتدي إلى وجوه النفع التي تصلح المال، ولا يتحنب وجوه الضرر التي تهلكه وتذهب به. قوله 5- " التي جعل الله لكم قياما " المفعول الأول محذوف، والتقدير التي جعلها الله لكم، وقيماً قراءة أهل المدينة وأبي عامر، وقرأ غيرهم "قياماً" وقرأ عبد الله بن عمر قواماً والقيام والقوام: ما يقيمك، يقال: فلان قيام أهله وقوام بيته وهو الذي يقيم شأنه: أي يصلحه، ولما انكسرت القاف في قوام أبدلوا الواو ياءً. قال الكسائي والفراء: قيماً وقواماً بمعنى قياماً، وهو منصوب على المصدر: أي لا تؤتوا السفهاء أموالكم التي تصلح بها أموركم فتقومون بها قياماً وقال الأخفش: المعنى قائمة بأموركم فذهب إلى أنها جمع. وقال البصريون قيماً جمع قيمة كديمة وديم: أي جعلها الله قيمة للأشياء. وخطأ أبو علي الفارسي هذا القول وقال: هي مصدر كقيام وقوام. والمعنى: أنها صلاح للحال وثبات له، فأما على قول من قال إن المراد أموالهم على ما يقتضيه ظاهر الإضافة فالمعنى واضح. وأما على قول من قال إنها أموال اليتامى فالمعنى أنها من جنس ما تقوم معايشكم ويصلح به حالكم من الأموال. وقرأ الحسن والنخعي " التي جعل " قال الفراء: الأكثر في كلام العرب النساء اللواتي والأموال التي، وكذلك غير الأموال، ذكره النحاس. قوله "وارزقوهم فيها واكسوهم" أي: اجعلوا لهم فيها رزقاً أو افرضوا لهم وهذا فيمن تلزم نفقته وكسوته من الزوجات والأولاد ونحوهم. وأما على قول من قال إن الأموال هي أموال اليتامى، فالمعنى اتجروا فيها حتى تربحوا وتنفقوهم من الأرباح، أو اجعلوا لهم من أموالهم رزقاً ينفقونه على أنفسهم ويكتسون به. وقد استدل بهذه الآية على جواز الحجر على السفهاء، وبه قال الجمهور. وقال أبو حنيفة لا يحجر على من بلغ عاقلاً، واستدل بها أيضاً على وجوب نفقة القرابة، والخلاف في ذلك معروف في مواطنه. قوله "وقولوا لهم قولاً معروفاً" قيل ادعوا لهم: بارك الله فيكم، وحاطكم، وصنع لكم، وقيل معناه: عدوهم وعداً حسناً قولوا لهم: إن رشدتم دفعنا إليكم أموالكم، ويقول الأب لابنه: مالي سيصير إليك، وأنت إن شاء الله صاحبه ونحو ذلك. والظاهر من الآية ما يصدق عليه مسمى القول الجميل ففيه إرشاد إلى حسن الخلق مع الأهل والأولاد أو مع الأيتام المكفولين. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه "خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي".

وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْ

قوله: 6- "وابتلوا اليتامى" الابتلاء: الاختبار. وقد تقدم تحقيقه. وقد اختلفوا في معنى الاختبار، فقيل: هو أن يتأمل الوصي أخلاق يتيمه ليعلم بنجابته وحسن تصرفه فيدفع إليه ماله إذا بلغ النكاح وآنس منه الرشد، وقيل معنى الاختبار: أن يدفع إليه شيئاً من ماله ويأمره بالتصرف فيه حتى يعلم حقيقة حاله، وقيل معنى الاختبار: أن يرد النظر إليه في نفقة الدار ليعرف كيف تدبيره، وإن كانت جارية رد إليها ما يرد إلى ربة البيت من تدبير بيتها. والمراد ببلوغ النكاح بلوغ الحلم لقوله تعالى "وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم" ومن علامات البلوغ الإنبات، وبلوغ خمس عشرة سنة. وقال مالك وأبو حنيفة وغيرهما: لا يحكم لمن لم يحتلم بالبلوغ إلا بعد مضي سبع عشرة سنة، وهذه العلامات تعم الذكر والأنثى، وتختص الأنثى بالحبل والحيض. قوله "فإن آنستم" أي: أبصرتم ورأيتم، ومنه قوله "آنس من جانب الطور ناراً". قال الأزهري: تقول العرب اذهب فاستأنس هل ترى أحداً، معناه: تبصر، وقيل: هو هنا بمعنى وجد وتعلم: أي فإن وجدتم وعلمتم منهم رشداً. وقراءة الجمهور "رشداً" بضم الراء وسكون الشين. وقرأ ابن مسعود والسلمي وعيسى الثقفي بفتح الراء والشين، قيل هما لغتان، وقيل: هو بالضم مصدر رشد وبالفتح مصدر رشد. واختلف أهل العلم في معنى الرشد ها هنا، فقيل: الصلاح في العقل والدين، وقيل: في العقل خاصة. قال سعيد بن جبير والشعبي: إنه لا يدفع إلى اليتيم ماله إذا لم يؤنس رشده وإن كان شيخاً. قال الضحاك: وإن بلغ مائة سنة. وجمهور العلماء على أن الرشد لا يكون إلا بعد البلوغ، وعلى أنه إن لم يرشد بعد بلوغ الحلم لا يزول عنه الحجر. وقال أبو حنيفة، لا يحجر على الحر البالغ وإن كان أفسق الناس وأشدهم تبذيراً، وبه قال النخعي وزفر وظاهر النظم القرآني أنها لا تدفع إليهم أموالهم إلا بعد بلوغ غاية هي بلوغ النكاح مقيدة هذه الغاية بإيناس الرشد، فلا بد من مجموع الأمرين فلا تدفع إلى اليتامى أموالهم قبل البلوغ وإن كانوا معروفين بالرشد، ولا بعد البلوغ إلا بعد إيناس الرشد منهم. والمراد بالرشد نوعه وهو المتعلق بحسن التصرف في أمواله وعدم التبذير بها ووضعها في مواضعها. قوله "ولا تأكلوها إسرافاً وبداراً أن يكبروا" الإسراف في اللغة: الإفراط ومجاوزة الحد. وقال النضر بن شميل: السرف والتبذير، والبدار المبادرة "أن يكبروا" في موضع نصب بقوله "بدارا" أي لا تأكلوا أموال اليتامى أكل إسراف وأكل مبادرة لكبرهم، أو لا تأكلوا لأجل السرف ولأجل المبادرة أو لا تأكلوها مسرفين ومبادرين لكبرهم وتقولوا ننفق أموال اليتامى فيما نشتهي قبل أن يبلغوا فينتزعوها من أيدينا. قوله "ومن كان غنياً فليستعفف ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف" بين سبحانه ما يحل لهم من أموال اليتامى، فأمر الغني بالاستعفاف وتوفير مال الصبي عليه وعدم تناوله منه، وسوغ للفقير أن يأكل بالمعروف. واختلف أهل العلم في الأكل بالمعروف ما هو؟ فقال قوم: هو القرض إذا احتاج إليه ويقضي متى أيسر الله عليه، وبه قال عمر بن الخطاب وابن عباس وعبيدة السلماني وابن جبير والشعبي ومجاهد وأبو العالية والأوزاعي قال النخعي وعطاء والحسن وقتادة: لا قضاء على الفقير فيما يأكل بالمعروف، وبه قال جمهور العلماء. وهذا بالنظم القرآني ألصق فإن إباحة الأكل للفقير مشعرة بجواز ذلك له من غير قرض. والمراد بالمعروف المتعارف به بين الناس، فلا يترفه بأموال اليتامى ويبالغ في التنعم بالمأكول والمشروب والملبوس، ولا يدع نفسه عن سد الفاقة وستر العورة. والخطاب في هذه الآية لأولياء الأيتام القائمين بما يصلحهم كالأب والحد ووصيهما. وقال بعض أهل العلم: المراد بالآية اليتيم إن كان غنياً وسع عليه وعف من ماله، وإن كان فقيراً كان الإنفاق عليه بقدر ما يحصل له، وهذا القول في غاية السقوط. قوله: "فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم" أي: إذا حصل مقتضى الدفع فدفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم أنهم قد قبضوها منكم لتندفع عنكم التهم وتأمنوا عاقبة الدعاوى الصادرة منهم وقيل: إن الإشهاد المشروع هو ما أنفقه عليهم الأولياء قبل رشدهم، وقيل هو على رد ما استقرضه إلى أموالهم وظاهر النظم القرآني مشروعية الإشهاد على ما دفع إليهم من أموالهم وهو يعم الإنفاق قبل الرشد، والدفع للجميع إليهم بعد الرشد "وكفى بالله حسيباً" أي: حاسباً لأعمالكم شاهداً عليكم في كل شيء تعملونه، ومن جملة ذلك معاملتكم لليتامى في أموالهم، وفيه وعيد عظيم، والباء زائدة، أي كفى الله. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله "ولا تؤتوا السفهاء أموالكم" يقول: لا تعمد إلى مالك وما خولك الله وجعله لك معيشة، فتعطيه امرأتك أو ابنتك، ثم تضطر إلى ما في أيديهم، ولكن أمسك مالك وأصلحه وكن أنت الذي تنفق عليهم في كسوتهم ورزقهم ومؤونتهم. قال: وقوله "قواماً" يعني قوامكم من معايشكم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه من طريق العوفي في الآية يقول: لا تسلط السفيه من ولدك على مالك وأمره أن يرزقه منه ويكسوه. وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال: هم بنوك والنساء. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن النساء السفهاء إلا التي أطاعت قيمها". وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال: هم الخدم، وهم شياطين الإنس. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن مسعود قال: النساء والصبيان. وأخرج ابن جرير عن حضرمي: أن رجلاً عمد فدفع ماله إلى امرأته فوضعته في غير الحق، فقال الله "ولا تؤتوا السفهاء أموالكم". وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن سعيد بن جبير قال: هم اليتامى والنساء. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عكرمة قال: هو مال اليتيم يكون عندك، يقول: لا تؤته إياه وأنفق عليه حتى يبلغ. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله "وارزقوهم" يقول: أنفقوا عليهم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد "وقولوا لهم قولاً معروفاً" قال: أمروا أن يقولوا لهم قولاً معروفاً في البر والصلة. وأخرج ابن جرير عن ابن جريج "وقولوا لهم قولاً معروفاً" قال: عدة تعدونهم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله "وابتلوا اليتامى" يعني اختبروا اليتامى عند الحلم "فإن آنستم" عرفتم "منهم رشداً" في حالهم والإصلاح في أموالهم "فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافاً وبداراً" يعني تأكل مال اليتيم ببادرة قبل أن يبلغ فتحول بينه وبين ماله. وأخرج البخاري وغيره عن عائشة قالت: أنزلت هذه الآية في ولي اليتيم "ومن كان غنياً فليستعفف ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف" بقدر قيامه عليه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وصححه عن ابن عباس "ومن كان غنياً فليستعفف" قال بغناه: "ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف" قال: يأكل من ماله يقوت على نفسه حتى لا يحتاج إلى مال اليتيم. وأخرج ابن جرير عنه قال: هو القرض. وأخرج عبد بن حميد والبيهقي عن ابن عباس قال: إن كان فقيراً أخذ من فضل اللبن وأخذ من فضل القوت ولا يجاوزه، وما يستر عورته من الثياب، فإن أيسر قضاه وإن أعسر فهو في حل. وأخرج عبد الرزاق وابن سعد وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في سننه من طرق عن عمر بن الخطاب قال: إني أنزلت نفسي من مال الله منزلة ولي اليتيم، إن استغنيت استعففت، وإن احتجت أخذت منه بالمعروف، فإذا أيسرت قضيت. وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن أبي حاتم عن ابن عمر "أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ليس لي مال ولي يتيم فقال: كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبذر ولا متأثل مالاً ومن غير أن تقي مالك بماله". وأخرج أبو داود والنحاس كلاهما في الناسخ وابن المنذر عن ابن عباس في قوله "ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف" قال: نسختها "إن الذين يأكلون أموال اليتامى" الآية.

لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا

لما ذكر سبحانه حكم أموال اليتامى وصله بأحكام المواريث وكيفية قسمتها بين الورثة. وأفرد سبحانه ذكر النساء بعد ذكر الرجال، ولم يقل للرجال والنساء نصيب، للإيذان بأصالتهن في هذا الحكم، ودفع ما كانت عليه الجاهلية من عدم توريث النساء، وفي ذكر القرابة بيان لعلة الميراث مع التعميم لما يصدق عليه مسمى القرابة من دون تخصيص. وقوله 7- " مما قل منه أو كثر " بدل من قوله "مما ترك" بإعادة الجر، والضمير في قوله "منه" راجع إلى المبدل منه. وقوله "نصيباً" منتصب على الحال أو على المصدرية أو على الاختصاص، وسيأتي ذكر السبب في نزول هذه الآية إن شاء الله تعالى، وقد أجمل الله سبحانه في هذه المواضع قدر النصيب المفروض، ثم أنزل قوله "يوصيكم الله في أولادكم" فتبين ميراث كل فرد.

وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا

قوله: 8- " وإذا حضر القسمة أولو القربى " المراد بالقرارة هنا غير الوارثين، وكذا اليتامى والمساكين، شرع الله سبحانه أنهم إذا حضروا قسمة التركة كان لهم منها رزق، فيرضخ لهم المتقاسمون شيئاً منها. وقد ذهب قوم إلى أن الآية محكمة وأن الأمر للندب. وذهب آخرون إلى أنها منسوخة بقوله تعالى "يوصيكم الله في أولادكم" والأول أرجح، لأن المذكور في الآية للقرابة غير الوارثين ليس هو من جملة الميراث حتى يقال: إنها منسوخة بآية المواريث، إلا أن تقولوا: إن أولي القربى المذكورين هنا هم الوارثون كان للنسخ وجه. وقالت طائفة: إن هذا الرضخ لغير الوارث من القرابة واجب بمقدار ما تطيب به أنفس الورثة وهو معنى الأمر الحقيقي فلا يصار إلى الندب إلا لقرينه، والضمير في قوله "منه" راجع إلى المقسوم المدلول عليه بالقسمة، وقيل: راجع إلى ما ترك. والقول المعروف: هو القول الجميل الذي ليس فيه من بما صار إليهم من الرضخ ولا أذى.

وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا

قوله 9- "وليخش الذين لو تركوا" هم الأوصياء كما ذهب إليه طائفة من المفسرين، وفيه وعظ لهم بأن يفعلوا باليتامى الذي في حجورهم ما يحبون أن يفعل بأولادهم من بعدهم، وقالت طائفة: المراد جميع الناس أمروا باتقاء الله في الأيتام وأولاد الناس وإن لم يكونوا في حجورهم، وقال آخرون: إن المراد بهم من يحضر الميت عند موته، أمروا بتقوى الله، وبأن يقولوا للمحتضر قولاً سديداً من إرشادهم إلى التخلص عن حقوق الله وحقوق بني آدم، وإلى الوصية بالقرب المقربة إلى الله سبحانه، وإلى ترك التبذير بماله وإحرام ورثته كما يخشون على ورثتهم من بعدهم لو تركوهم فقراء عالة يتكففون الناس،وقال ابن عطية: الناس صنفان يصلح لأحدهما أن يقال له عند موته ما لا يصلح للآخر، وذلك أن الرجل إذا ترك ورثته مستقلين بأنفسهم أغنياء حسن أن يندب إلى الوصية، ويحمل على أن يقدم لنفسه، وإذا ترك ورثة ضعفاء مفلسين حسن أن يندب إلى الترك لهم والاحتياط، فإن أجره في قصد ذلك كأجره في المساكين. قال القرطبي: وهذا التفصيل صحيح. قوله "لو تركوا" صلة الموصول، والفاء في قوله "فليتقوا" لترتيب ما بعدها على ما قبلها، والمعنى: وليخش الذين صفتهم وحالهم أنهم لو شارفوا أن يتركوا خلفهم ذرية ضعافاً، وذلك عند احتضارهم خافوا عليهم الضياع بعدهم لذهاب كافلهم وكاسبهم، ثم أمرهم بتقوى الله، والقول السديد للمحتضرين، أو لأولادهم من بعدهم على ما سبق.

إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا

قوله 10- "إن الذين يأكلون أموال اليتامى" استئناف يتضمن النهي عن ظلم الأيتام من الأولياء والأوصياء وانتصاب قوله "ظلماً" على المصدرية: أي أكل ظلم، أو على الحالية: أي ظالمين لهم. قوله "إنما يأكلون في بطونهم ناراً" أي: ما يكون سبباً للنار، تعبيراً بالمسبب عن السبب، وقد تقدم تفسير مثل هذه الآية. وقوله "وسيصلون" قراءة عاصم وابن عامر بضم الياء على ما لم يسم فاعله. وقرأ أبو حيوة بضم الياء وفتح الصاد وتشديد اللام من التصلية بكثرة الفعل مرة بعد أخرى. وقرأ الباقون بفتح الياء من صلى النار يصلاها، والصلى هو التسخن بقرب النار أو مباشرتها، ومنه قول الحارث بن عباد: لم أكن من جناتها علم اللـ ـه وإني لحرها اليوم صالي والسعير: الجمر المشتعل. وقد أخرج أبو الشيخ عن ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية لا يورثون البنات. ولا الصغار حتى يدركوا، فمات رجل من الأنصار يقال له أوس بن ثابت وترك ابنتين وابناً صغيراً، فجاء ابنا عمه وهما عصبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذا ميراثه كله، فجاءت امرأته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية، فأرسل إليهما رسول الله فقال: لا تحركا من الميراث شيئاً، فإنه قد أنزل علي شيء احترت فيه إن للذكر والأنثى نصيباً، ثم نزل بعد ذلك "ويستفتونك في النساء"، وثم نزل "يوصيكم الله في أولادكم" فدعا بالميراث، فأعطى المرأة الثمن، وقسم ما بقي للذكر مثل حظ الأنثيين. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة في الآية قال: نزلت في أم كلثوم ابنة أم كحلة أو أم كحة وثعلبة بن أوس وسويد وهم من الأنصار، كان أحدهم زوجها والآخر عم ولدها، فقالت: يا رسول الله توفي زوجي وتركني وابنته فلم نورث من ماله، فقال عم ولدها: يا رسول الله لا يركب فرساً ولا ينكي عدواً ويكسب عليها ولا يكتسب، فنزلت. وأخرج البخاري وغيره عن ابن عباس في قوله تعالى "وإذا حضر القسمة" قال: هي محكمة وليست بمنسوخة. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن خطاب بن عبد الله في هذه الآية قال: قضى بها أبو موسى. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وأبو داود في ناسخه وابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد في الآية قال: هي واجبة على أهل الميراث ما طابت به أنفسهم. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة عن الحسن والزهري قالا: هي محكمة ما طابت به أنفسهم. وأخرج أبو داود في ناسخه وابن جرير والحاكم وصححه عن ابن عباس قال: يرضخ لهم فإن كان في ماله تقصير اعتذر إليهم فهو قولاً معروفاً. وأخرج ابن المنذر عن عائشة أنها لم تنسخ. وأخرج أبو داود في ناسخه وابن جرير وابن أبي حاتم أن هذه الآية منسوخة بآية الميراث. وأخرج أبو داود في ناسخه وعبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، عن سعيد بن المسيب قال: هي منسوخة. وأخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير قال: إن كانوا كباراً يرضخوا، وإن كانوا صغاراً اعتذروا إليهم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه في قوله "وليخش الذين لو تركوا" قال: هذا في الرجل يحضر الرجل عند موته فيسمعه يوصي وصية تضر بورثته، فأمر الله الذي يسمعه أن يتقي الله ويوفقه ويسدده للصواب، ولينظر لورثته كما يحب أن يصنع لورثته إذا خشي عليهم الضيعة. وقد روي نحو هذا من طرق. وأخرج ابن أبي شيبة وأبو يعلى والطبراني وابن حبان في صحيحه وابن أبي حاتم عن أبي برزة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يبعث يوم القيامة قوم من قبورهم تأجج أفواههم ناراً، فقيل: يا رسول الله من هم؟ قال: ألم تر أن الله يقول "إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً""؟ وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم، عن أبي سعيد الخدري قال: حدثنا النبي صلى الله عليه وسلم عن ليلة أسري به قال: "نظرت فإذا بقوم لهم مشافر كمشافر الإبل، وقد وكل بهم من يأخذ بمشافرهم ثم يجعل في أفواههم صخراً من نار فيقذف في في أحدهم حتى يخرج من أسافلهم ولهم جؤار وصراخ، فقلت: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء "الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً"". وأخرج ابن جرير عن زيد بن أسلم قال: هذه الآية لأهل الشرك حين كانوا لا يورثونهم ويأكلون أموالهم.

يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إ

هذا تفصيل لما أجمل في قوله تعالى "للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون" الآية، وقد استدل بذلك على جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة، وهذه الآية ركن من أركان الدين وعمدة من عمد الأحكام وأم من أمهات الآيات لاشتمالها على ما يهم من علم الفرائض، وقد كان هذا العلم من أجل علوم الصحابة وأكثر مناظراتهم فيه، وسيأتي بعد كمال تفسير ما اشتمل عليه كلام الله من الفرائض ذكر بعض فضائل هذا العلم إن شاء الله. قوله 11- "يوصيكم الله في أولادكم" أي: في بيان ميراثهم. وقد اختلفوا هل يدخل أولاد الأولاد أم لا، فقالت الشافعية: إنهم يدخلون مجازاً لا حقيقة، وقالت الحنفية: إنه يتناولهم لفظ الأولاد حقيقة إذا لم يوجد أولاد الصلب، ولا خلاف أن بني البنين كالبنين في الميراث مع عدمهم، وإنما هذا الخلاف في دلالة لفظ الأولاد على أولادهم مع عدمهم، ويدخل في لفظ الأولاد من كان منهم كافراً، ويخرج بالسنة، وكذلك يدخل القاتل عمداً، ويخرج أيضاً بالسنة والإجماع، ويدخل فيه الخنثى. قال القرطبي: وأجمع العلماء أنه يورث من حيث يبول، فإن بال منهما، فمن حيث سبق، فإن خرج البول منهما من غير سبق أحدهما فله نصف الذكر ونصف نصيب الأنثى، وقيل: يعطى أقل النصيبين، وهو نصيب الأنثى، قاله يحيى بن آدم، وهو قول الشافعي. وهذه الآية ناسخة لما كان في صدر الإسلام من الموارثة بالحلف والهجرة والمعاقدة، وقد أجمع العلماء على أنه إذا كان مع الأولاد من له فرض مسمى أعطيه، وكان ما بقي من المال للذكر مثل حظ الأنثيين، للحديث الثابت في الصحيحين وغيرهما بلفظ "ألحقوا الفرائض بأهلها، فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر" إلا إذا كان ساقطاً معهم كالأخوة لأم. وقوله "للذكر مثل حظ الأنثيين" جملة مستأنفة لبيان الوصية في الأولاد، فلا بد من تقدير ضمير يرجع إليهم: ويوصيكم الله في أولادكم للذكر منهم مثل حظ الأنثيين. والمراد حال اجتماع الذكور والإناث، وأما حال الانفراد فللذكر جميع الميراث وللأنثى النصف وللاثنتين فصاعداً الثلثان. قوله "فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك" أي: فإن كن الأولاد، والتأنيث باعتبار الخبر، أو البنات، أو المولودات نساء ليس معهن ذكر فوق اثنتين: أي زائدات على اثنتين على أن فوق صفة لنساء أو يكون خبراً ثانياً لكان "فلهن ثلثا ما ترك" الميت المدلول عليه بقرينة المقام. وظاهر النظم القرآني أن الثلثين فريضة الثلاث من البنات فصاعداً، ولم يسم للاثنتين فريضة، ولهذا اختلف أهل العلم في فريضتهما فذهب الجمهور إلى أنة لهما إذا انفردتا عن البنين الثلثين، وذهب ابن عباس إلى أن فريضتهما النصف، اجتج الجمهور بالقياس على الأختين فإن الله سبحانه قال في شأنهما "فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان" فألحقوا البنتين بالأختين في استحقاقهما الثلثين كما ألحقوا الأخوات إذا زدن على اثنتين بالبنات في الاشتراك في الثلثين، وقيل: في الآية ما يدل على أن للبنتين الثلثين، وذلك أنه لما كان للواحدة مع أخيها الثلث كان للإبنتين إذا انفردتا الثلثان، هكذا احتج بهذه الحجة إسماعيل بن عياش والمبرد. قال النحاس: وهذا الاحتجاج عند أهل النظر غلط، لأن الاختلاف في البنتين إذا انفردتا عن البنين، وأيضاً للمخالف أن يقول إذا ترك بنتين وابناً فللبنتين النصف، فهذا دليل على أن هذا فرضهما، ويمكن تأييد ما احتج به الجمهور بأن الله سبحانه لما فرض للبنت الواحدة إذا انفردت النصف بقوله تعالى "وإن كانت واحدة فلها النصف" كان فرض البنتين إذا انفردتا فوق فرض الواحدة، وأوجب القياس على الأختين الاقتصار للبنتين على الثلثين. وقيل: إن فوق زائدة، والمعنى: وإن كن نساء اثنتين كقوله تعالى "فاضربوا فوق الأعناق" أي الأعناق، ورد هذا النحاس وابن عطية فقالا: هو خطأ، لأن الظروف وجميع الأسماء لا تجوز في كلام العرب أن تزاد لغير معنى. قال ابن عطية: ولأن قوله "فوق الأعناق" هو الفصيح، وليست فوق زائدة، بل هي محكمة المعنى، لأن ضربة العنق إنما يجب أن تكون فوق العظام في المفصل دون الدماغ، كما قال دريد بن الصمة: اخفض عن الدماغ، وارفع عن العظم، فهكذا كنت أضرب أعناق الأبطال انتهى. وأيضاً لو كان لفظ فوق زائداً كما قالوا لقال فلهما ثلثا ما ترك ولم يقل فلهن ثلثا ما ترك، وأوضح ما يحتج به للجمهور ما أخرجه ابن أبي شيبة وأحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وأبو يعلى وابن أبي حاتم وابن حبان والحاكم والبيهقي في سننه عن جابر قال: جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله هاتان ابنتا سعد بن الربيع قتل أبوهما معك في أحد شهيداً، وإن عمهما أخذ مالهما، فلم يدع لهما مالاً ولا ينكحان إلا ولهما مال، فقال: يقضي الله في ذلك، فنزلت آية الميراث "يوصيكم الله في أولادكم" الآية، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمهما فقال: أعط ابنتي سعد الثلثين وأمهما الثمن وما بقي فهو لك، أخرجوه من طرق عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر قال الترمذي: ولا يعرف إلا من حديثه. قوله "وإن كانت واحدة فلها النصف" قرأ نافع وأهل المدينة " واحدة " بالرفع على أن كان تامة بمعنى: فإن وجدت واحدة أو حدثت واحدة. وقرأ الباقون بالنصب قال النحاس: وهذه قراءة حسنة: أي وإن كانت المتروكة أو المولودة واحدة. قوله "ولأبويه لكل واحد منهما السدس" أي: لأبوي المي، وهو كناية عن غير مذكور، وجاز ذلك لدلالة الكلام عليه و"لكل واحد منهما السدس" بدل من قوله "ولأبويه" بتكرير العامل للتأكيد والتفصيل. وقرأ الحسن ونعيم بن ميسرة "السدس" بسكون الدال، وكذلك قرأ الثلث والربع إلى العشر بالسكون، وهي لغة بني تميم وربيعة، وقرأ الجمهور بالتحريك ضماً، وهي لغة أهل الحجاز وبني أسد في جميعها. والمراد بالأبوين الأب والأم والتثنية على لفظ الأب للتغليب. وقد اختلف العلماء في الجد، هل هو بمنزلة الأب فتسقط به الأخوة أم لا؟ فذهب أبو بكر الصديق إلى أنه بمنزلة الأب، ولم يخالفه أحد من الصحابة أيام خلافته، واختلفوا في ذلك بعد وفاته فقال بقول أبي بكر، ابن عباس وعبد الله بن الزبير وعائشة ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وأبو الدرداء وأبو هريرة وعطاء وطاوس والحسن وقتادة وأبو حنيفة وأبو ثور وإسحاق، واحتجوا بمثل قوله تعالى "ملة أبيكم إبراهيم" وقوله: "يا بني آدم" وقوله صلى الله عليه وسلم: "ارموا يا بني إسماعيل". وذهب علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت وابن مسعود إلى توريث الجد مع الإخوة لأبوين أو لأب، ولا ينقص معهم من الثلث، ولا ينقص مع ذوي الفروض من السدس في قول زيد ومالك والأوزاعي وأبي يوسف ومحمد والشافعي. وقيل: يشرك بين الجد والإخوة إلى السدس. ولا ينقصه من السدس شيئاً مع ذوي الفروض وغيرهم، وهو قول ابن أبي ليلى وطائفة. وذهب الجمهور إلى أن الجد يسقط بني الإخوة، وروى الشعبي عن علي أنه أجرى بني الإخوة في القاسمة مجرى الإخوة. وأجمع العلماء على أن الجد لا يرث مع الأب شيئاً، وأجمع العلماء على أن للجدة السدس إذا لم يكن للميت أم، وأجمعوا على أن الأب لا يسقط الجدة أم الأم. واختلفوا في توريث الجدة وابنها حي، فروي عن زيد بن ثابت وعثمان وعلي أنها لا ترث وابنها حي، وبه قال مالك والثوري والأوزاعي وأبو ثور وأصحاب الرأي. وروي عن عمر وابن مسعود وأبي موسى أنها ترث معه وروي أيضاً عن علي وعثمان، وبه قال شريح وجابر بن زيد وعبيد الله بن الحسن وشريك وأحمد وإسحاق وابن المنذر. قوله "إن كان له ولد" الولد يقع على الذكر والأنثى، لكنه إذا كان الموجود الذكر من الأولاد وحده أو مع الأنثى منهم فليس للجد إلا السدس، وإن كان الموجود أنثى كان للجد السدس بالفرض وهو عصبة فيما عدا السدس وأولاد ابن الميت كأولاد الميت. قوله "فإن لم يكن له ولد" أي: ولا ولد ابن لما تقدم من الإجماع "وورثه أبواه" منفردين عن سائر الورثة كما ذهب إليه الجمهور من أن الأم لا تأخذ ثلث التركة إلا إذا لم يكن للميت وارث غير الأبوين، أما لو كان معهما أحد الزوجين فليس للأم إلا ثلث الباقي بعد الموجود من الزوجين. وروي عن ابن عباس أن للأم ثلث الأصل مع أحد الزوجين، وهو يستلزم تفضيل الأم على الأب في مسألة زوج وأبوين مع الاتفاق على أنه أفضل منهما عند انفرادهما عن أحد الزوجين. قوله "فإن كان له إخوة فلأمه السدس" إطلاق الإخوة يدل على أنه لا فرق بين الإخوة لأبوين أو لأحدهما. وقد أجمع أهل العلم على أن الإثنين من الإخوة يقومون مقام الثلاثة فصاعداً في حجب الأم إلى السدس إلا ما يروى عن ابن عباس أنه جعل الاثنين كالواحد في عدم الحجب. وأجمعوا أيضاً على أن الأختين فصاعداً كالأخوين في حجب الأم. قوله "من بعد وصية يوصي بها أو دين" قرأ ابن كثير وابن عامر وعاصم يوصى بفتح الصاد. وقرأ الباقون بكسرها، واختار الكسر أبو عبيد وأبو حاتم لأنه جرى ذكر الميت قبل هذا. قال الأخفش: وتصديق ذلك قوله: "يوصين" و"توصون". واختلف في وجه تقديم الوصية على الدين مع كونه مقدماً عليها بالإجماع، فقيل: المقصود تقديم الأمرين على الميراث من غير قصد إلى الترتيب بينهما- وقيل: لما كانت الوصية أقل لزوماً من الدين قدمت اهتماماً بها، وقيل: قدمت لكثرة وقوعها فصارت كالأمر اللازم لكل ميت، وقيل: قدمت لكونها حظ المساكين والفقراء، وأخر الدين لكونه حظ غريم يطلبه بقوة وسلطان، وقيل: لما كانت الوصية ناشئة من جهة الميت قدمت، بخلاف الدين فإنه ثابت مؤدى ذكر أو لم يذكر، وقيل: قدمت لكونها تشبه الميراث في كونها مأخوذة من غير عوض، فربما يشق على الورثة إخراجها، بخلاف الدين فإن نفوسهم مطمئنة بأدائه، وهذه الوصية مقيدة بقوله تعالى "غير مضار" كما سيأتي إن شاء الله. قوله "آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً" قيل خبر قوله "آباؤكم وأبناؤكم" مقدر أي هم المقسوم عليهم وقيل: إن الخبر قوله "لا تدرون" وما بعده "وأقرب" خبر قوله "أيهم" و"نفعاً" تمييز: أي لا تدرون أيهم قريب لكم نفعه في الدعاء لكم والصدقة عنكم كما في الحديث الصحيح "أو ولد صالح يدعو له". وقال ابن عباس والحسن: قد يكون الابن أفضل فيشفع في أبيه. وقال بعض المفسرين: إن الابن إذا كان أرفع درجة من أبيه في الآخرة سأل الله أن يرفع إليه أباه، وإذا كان الأب أرفع درجة من ابنه سأل الله أن يرفع ابنه إليه، وقيل: المراد النفع في الدنيا والآخرة، قاله ابن زيد، وقيل المعنى: إنكم لا تدرون من أنفع لكم من آبائكم وأبنائكم، أمن أوصى منهم فعرضكم لثواب الآخرة بإمضاء وصيته فهو أقرب لكم نفعاً، أو من ترك الوصية ووفر عليكم عرض الدنيا؟ وقوى هذا صاحب الكشاف، قال: لأن الجملة اعتراضية، ومن حق الاعتراض أن يؤكد ما اعترض بينه، ويناسبه قوله "فريضة من الله" نصب على المصدر المؤكد، إذ معنى "يوصيكم" يفرض عليكم. وقال مكي وغيره: هي حال مؤكدة، والعامل يوصيكم. والأول أولى "إن الله كان عليماً" بقسمة المواريث "حكيماً" حكم بقسمتها وبينها لأهلها. وقال الزجاج: "عليماً" بالأشياء قبل خلقها "حكيماً" فيما يقدره ويمضيه منها.

وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ ف

قوله 12- "ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد" الخطاب هنا للرجال. والمراد بالولد ولد الصلب أو ولد الولد لما قدمنا من الإجماع "فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن" وهذا مجمع عليه لم يختلف أهل العلم في أن للزوج مع عدم الولد النصف ومع وجوده وإن سفل الربع. وقوله "من بعد وصية" إلخ الكلام فيه كما تقدم. قوله "ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم" هذا النصيب مع الولد والنصيب مع عدمه تنفرد به الواحدة من الزوجات ويشترك فيه الأكثر من واحدة لا خلاف في ذلك، والكلام في الوصية والدين كما تقدم. قوله "وإن كان رجل يورث كلالة" المراد بالرجل الميت و"يورث" على البناء للمفعول من ورث لا من أورث وهو خبر كان و"كلالة" حال من ضمير "يورث" أي: يورث حال كونه ذا كلالة، أو على أن الخبر كلالة ويورث صفة لرجل: أي إن كان رجل يورث ذا كلالة ليس له ولد ولا والد، وقرئ "يورث" مخففاً ومشدداً فيكون كلالة مفعولاً أو حالاً، والمفعول محذوف: أي يورث، وأريد حال كونه ذا كلالة، أو يكون مفعولاً له: أي لأجل الكلالة. والكلالة مصدر من تكلله النسب: أي أحاط به، وبه سمي الإكليل لإحاطته بالرأس. وهو الميت الذي لا ولد له ولا والد، هذا قول أبي بكر الصديق وعمر وعلي وجمهور أهل العلم، وبه قال صاحب كتاب العين وأبي منصور اللغوي وابن عرفة والقتيبي وأبو عبيد وابن الأنباري. وقد قيل إنه إجماع. قال ابن كثير: وبه يقول أهل المدينة والكوفة والبصرة، وهو قول الفقهاء السبعة والأئمة الأربعة وجمهور الخلف والسلف بل جميعهم. وقد حكى الإجماع غير واحد، وورد فيه حديث مرفوع انتهى. وروى أبو حاتم والأثرم عن أبي عبيدة أنه قال: الكلالة كل من لم يرثه أب أو ابن أو أخ فهو عند العرب كلالة. قال أبو عمر بن عبد البر: ذكر أبي عبيدة الأخ هنا مع الأب والابن في شرط الكلالة غلط لا وجه له، ولم يذكره في شرط الكلالة غيره، وما يروى عن أبي بكر وعمر من أن الكلالة من لا ولد له خاصة فقد رجعا عنه. وقال ابن زيد: الكلالة: الحي والميت جميعاً، وإنما سموا القرابة كلالة لأنهم أطافوا بالميت من جوانبه وليسوا منه ولا هو منهم، بخلاف الابن والأب فإنهما طرفان له، فإذا ذهبا تكلله النسب، وقيل: إن الكلالة مأخوذة من الكلال وهو الإعياء فكأنه يصير الميراث إلى الوارث عن بعد وإعياء. وقال ابن الأعرابي: إن الكلالة بنو العم الأباعد. وبالجملة فمن قرأ "يورث كلالة" بكسر الراء مشددة وهو بعض الكوفيين أو مخففة، وهو الحسن وأيوب جعل الكلالة القرابة ومن قرأ "يورث" بفتح الراء وهم الجمهور احتمل أن يكون الكلالة الميت، واحتمل أن يكون القرابة. وقد روي عن علي وابن مسعود وزيد بن ثابت وابن عباس والشعبي أن الكلالة ما كان سوى الولد والوالد من الورثة. قال الطبري: الصواب أن الكلالة هم الذين يرثون الميت من عدا ولده ووالده، لصحة خبر جابر "فقلت: يا رسول الله إنما يرثني كلالة أفأوصي بمالي كله؟ قال: لا" انتهى. وروي عن عطاء أنه قال: الكلالة المال. قال ابن العربي: وهذا قول ضعيف لا وجه له. وقال صاحب الكشاف: إن الكلالة تنطلق على ثلاثة: على من لم يخلف ولداً ولا والداً، وعلى من ليس بولد ولا والد من المخلفين، وعلى القرابة من غير جهة الولد والوالد انتهى. قوله "أو امرأة" معطوف على رجل مقيد بما قيد به: أي أو امرأة تورث كلالة. قوله "وله أخ أو أخت" قرأ سعد بن أبي وقاص من أم، وسيأتي ذكر من أخرج ذلك عنه. قال القرطبي: أجمع العلماء أن الإخوة ها هنا هم الإخوة لأم قال: ولا خلاف بين أهل العلم أن الإخوة للأب والأم أو للأب ليس ميراثهم هكذا، فدل إجماعهم على أن الإخوة المذكورين في قوله تعالى "وإن كانوا إخوة رجالاً ونساءً فللذكر مثل حظ الأنثيين" هم الإخوة لأبوين أو لأب، وأفرد الضمير في قوله "وله أخ أو أخت" لأن المراد كل واحد منهما كما جرت بذلك عادة العرب إذا ذكروا اسمين مستويين في الحكم فإنهم قد يذكرون الضمير الراجع إليهما مفرداً كما في قوله تعالى "واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة" وقوله "يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله". وقد يذكرونه مثنى كما في قوله "إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما". وقد قدمنا في هذا كلاماً أطول من المذكور هنا. قوله "فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث" الإشارة بقوله: من ذلك إلى قوله "وله أخ أو أخت" أي: أكثر من الأخ المنفرد أو الأخت المنفردة بواحد، وذلك بأن يكون الموجود اثنين فصاعداً، ذكرين أو أنثيين أو ذكراً وأنثى. وقد استدل بذلك على أن الذكر كالأنثى من الإخوة لأم، لأن الله شرك بينهم في الثلث، ولم يذكر فضل الذكر على الأنثى كما ذكره في البنين والإخوة لأبوين أو لأب. قال القرطبي: وهذا إجماع. ودلت الآية على أن الإخوة لأم إذا استكملت بهم المسألة كانوا أقدم من الإخوة لأبوين أو لأب، وذلك في المسألة المسماة بالحمارية، وهي إذا تركت الميتة زوجاً وأماً وأخوين لأم وإخوة لأبوين، فإن للزوج النصف وللأم السدس وللأخوين لأم الثلث ولا شيء للإخوة لأبوين. ووجه ذلك أنه قد وجد الشرط الذي يرث عنده الإخوة من الأم وهو كون الميت كلالة، ويؤيد هذا حديث: "ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر" وهو في الصحيحين وغيرهما وقد قررنا دلالة الآية والحديث على ذلك في الرسالة التي سميناها المباحث الدرية في المسألة الحمارية. وفي هذه المسألة خلاف بين الصحابة فمن بعدهم معروف. قوله "من بعد وصية يوصي بها أو دين" الكلام فيه كما تقدم. قوله "غير مضار" أي: يوصي حال كونه غير مضار لورثته بوجه من وجوه الضرار، كأن يقر بشيء ليس عليه أو يوصي بوصية لا مقصد له فيها إلا الإضرار بالورثة. أو يوصي لوارث مطلقاً أو لغيره بزيادة على الثلث ولم تجزه الورثة، وهذا القيد أعني قوله: "غير مضار" راجع إلى الوصية والدين المذكورين فهو قيد لهما، فما صدر من الإقرارات بالديون أو الوصايا المنهي عنها له، أو التي لا مقصد لصاحبها إلا المضارة لورثته فهو باطل مردود لا ينفد منه شيء، لا الثلث ولا دونه، قال القرطبي: وأجمع العلماء على أن الوصية للوارث لا تجوز انتهى. وهذا القيد أعني عدم الضرار هو قيد لجميع ما تقدم من الوصية والدين. قال أبو السعود في تفسيره: وتخصيص القيد بهذا المقام لما أن الورثة مظنة لتفريط الميت في حقهم. قوله "وصية من الله" نصب على المصدر: أي يوصيكم بذلك وصية من الله كقوله "فريضة من الله" قال ابن عطية: ويصح أن يعمل فيها مضار. والمعنى: أن يقع الضرر بها أو بسببها فأوقع عليها تجوزاً، فتكون وصية على هذا مفعولاً بها، لأن الاسم الفاعل قد اعتمد على ذي الحال أو لكونه منفياً معنى، وقرأ الحسن "وصية من الله" بالجر على إضافة اسم الفاعل إليها كقوله: يا سارق الليلة أهل الدار. وفي كون هذه الوصية من الله سبحانه دليل على أنه قد وصى عباده بهذه التفاصيل المذكورة في الفرائض، وأن كل وصية من عباده تخالفها فهي مسبوقة بوصية الله، وذلك كالوصايا المتضمنة لتفضيل بعض الورثة على بعض أو المشتملة على الضرار بوجه من الوجوه.

تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ

والإشارة بقوله 13- "تلك" إلى الأحكام المتقدمة وسماها حدوداً لكونها لا تجوز مجاوزتها ولا يحل تعديها "ومن يطع الله ورسوله" في قسمة المواريث وغيرها من الأحكام الشرعية كما يفيده عموم اللفظ " يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار ".

وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ

وهكذا قوله 14- "ومن يعص الله ورسوله" قرأ نافع وابن عامر "ندخله" بالنون. وقرأ الباقون بالياء التحتية. قوله "وله عذاب مهين" أي: وله بعد إدخاله النار عذاب لا يعرف كنهه. وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن جابر قال: دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: ما تأمرني أن أصنع في مالي يا رسول الله؟ فنزلت. وقد قدمنا أن سبب النزول سؤال امرأة سعد بن الربيع. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي قال: كان أهل الجاهلية لا يورثون الجواري ولا الضعفاء من الغلمان، لا يرث الرجل من ولده إلا من أطاق القتال. فمات عبد الرحمن أخو حسان الشاعر وترك امرأة يقال لها أم كحة وترك خمس جوار، فأخذ الورثة ماله، فشكت ذلك أم كحة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله هذه الآية "فإن كن نساء فوق اثنتين" ثم قال في أم كحة: "ولهن الربع مما تركتم". وأخرج سعيد بن منصور والحاكم والبيهقي عن ابن مسعود قال: كان عمر بن الخطاب إذا سلك بنا طريقاً فاتبعناه وجدناه سهلاً، وأنه سئل عن امرأة وأبوين فقال للمرأة الربع، وللأم ثلث ما بقي، وما بقي فللأب. وأخرج عبد الرزاق والبيهقي عن زيد بن ثابت نحوه. وأخرج ابن جرير والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن ابن عباس أنه دخل على عثمان فقال: إن الأخوين لا يردان الأم عن الثلث. قال الله "فإن كان له إخوة" والأخوان ليسا بلسان قومك إخوة، فقال عثمان: لا أستطيع أن أرد ما كان قبلي ومضى في الأمصار وتواريث به الناس. وأخرج الحاكم والبيهقي في سننه عن زيد بن ثابت أنه قال: إن العرب تسمي الأخوين إخوة. وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد والترمذي وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الجارود والدارقطني والبيهقي في سننه عن علي قال: إنكم تقرأون هذه الآية "من بعد وصية يوصي بها أو دين" وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالدين قبل الوصية، وأن أعيان بني الأم يتوارثون دون بني العلات. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله "آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً" يقول: أطوعكم لله من الآباء والأبناء أرفعكم درجة عند الله يوم القيامة، لأن الله سبحانه شفع للمؤمنين بعضهم في بعض. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله "أقرب لكم نفعاً" قال: في الدنيا. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد والدارمي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن سعد بن أبي وقاص أنه كان يقرأ " وله أخ أو أخت ". وأخرج البيهقي عن الشعبي قال: ما ورث أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الإخوة من الأم مع الجد شيئاً قط. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن شهاب قال: قضى عمر أن ميراث الأخوة لأم بينهم للذكر مثل الأنثى، قال: ولا أرى عمر قضى بذلك حتى علمه من رسول الله، ولهذه الآية التي قال الله "فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث". وأخرج ابن أبي شيبة وعبد الرزاق وعبد بن حميد والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس قال: الإضرار في الوصية من الكبائر، ثم قرأ "غير مضار". وقد رواه ابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي عنه مرفوعاً. وفي إسناده عمر بن المغيرة أبو حفص المصيصي. قال أبو القاسم بن عساكر: ويعرف بمفتي المساكين، وروى عنه غير واحد من الأئمة، قال فيه أبو حاتم الرازي: هو شيخ. قال: وعلي بن المديني: هو مجهول لا أعرفه. قال ابن جرير: والصحيح الموقوف انتهى. ورجال إسناد هذا الموقوف رجال الصحيح، فإن النسائي رواه في سننه عن علي بن حجر عن علي بن مسهر عن داود بن أبي هند عن عكرمة عنه. وأخرج أحمد وعبد بن حميد وأبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجه واللفظ له والبيهقي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعون سنة، فإذا أوصى حاف في وصيته فيختم له بشر عمله فيدخل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الشر سبعين سنة، فيعدل في وصيته فيختم له بخير عمله فيدخل الجنة" ثم يقول أبو هريرة: اقرأوا إن شئتم "تلك حدود الله" إلى قوله "عذاب مهين" وفي إسناده شهر بن حوشب، وفيه مقال معروف. وأخرج ابن ماجه عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قطع ميراث وارثه قطع الله ميراثه من الجنة يوم القيامة". وأخرجه البيهقي في الشعب من حديث أبي هريرة مرفوعاً. وأخرجه ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور عن سليمان بن موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر نحوه. وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث سعد بن أبي وقاص "أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه يعوده في مرضه فقال: إن لي مالاً كثيراً وليس يرثني إلا ابنة لي أفأتصدق بالثلثين؟ فقال: لا، قال: فالشطر؟ قال: لا، قال: فالثلث؟ قال: الثلث والثلث كثير، إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس". وأخرج ابن أبي شيبة عن معاذ بن جبل قال: إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم زيادة في حسناتكم: يعني الوصية. وفي الصحيحين عن ابن عباس قال: وددت أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الثلث كثير". وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عمر قال: ذكر عند عمر الثلث في الوصية فقال: الثلث وسط لا بخس ولا شطط. وأخرج ابن أبي شيبة عن علي قال: لأن أوصي بالخمس أحب إلي من أن أوصي بالربع، ولأن أوصي بالربع أحب إلي من أن أوصي بالثلث، ومن أوصى بالثلث لم يترك. فائدة ورد في الترغيب في تعلم الفرائض وتعليمها ما أخرجه الحاكم والبيهقي في سننه عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تعلموا الفرائض وعلموه الناس، فإني امرؤ مقبوض، وإن العلم سيقبض وتظهر الفتن حتى يختلف الاثنان في الفريضة لا يجدان من يقضي بها". وأخرجاه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تعلموا الفرائض وعلموه، فإنه نصف العلم، وإنه ينسى، وهو أول ما ينزع من أمتي". وقد روي عن عمر وابن مسعود وأنس آثار في الترغيب في الفرائض، وكذلك روي عن جماعة من التابعين ومن بعدهم.

وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا

لما ذكر سبحانه في هذه السورة الإحسان إلى النساء وإيصال صدقاتهن إليهن وميراثهن مع الرجال، ذكر التغليظ عليهن فيما يأتين به من الفاحشة لئلا يتوهمن أنه يسوغ لهن ترك التعفف 15- "واللاتي" جمع التي بحسب المعنى دون اللفظ، وفيه لغات: اللاتي بإثبات التاء والياء، واللات بحذف الياء وإبقاء الكسرة لتدل عليها، واللائي بالهمزة والياء، واللاء بكسر الهمزة وحذف الياء، ويقال في جمع الجمع اللواتي واللوائي واللوات واللواء. والفاحشة: الفعلة القبيحة، وهي مصدر كالعافية والعاقبة، وقرأ ابن مسعود " الفاحشة ". والمراد بها هنا الزنا خاصة، وإتيانها فعلها ومباشرتها. والمراد بقوله "من نسائكم" المسلمات، وكذا "منكم" المراد به المسلمون. قوله "فأمسكوهن في البيوت" كان هذا في أول الإسلام ثم نسخ بقوله تعالى "الزانية والزاني فاجلدوا"، وذهب بعض أهل العلم إلى أن الحبس المذكور وكذلك الأذى باقيان مع الجلد، لأنه لا تعارض بينها بل الجمع ممكن. قوله "أو يجعل الله لهن سبيلاً" هو ما في حديث عبادة الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام" الحديث.

وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآَذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا

قوله 16- "واللذان يأتيانها منكم" اللذان تثنية الذي، وكان القياس أن يقال اللذيان كرحيان. قال سيبويه: حذفت الياء ليفرق بين الأسماء الممكنة وبين الأسماء المبهمة. وقال أبو علي: حذفت الياء تخفيفاً. وقرأ ابن كثير "اللذان" بتشديد النون وهي لغة قريش، وفيه لغة أخرى وهي "اللذا" بحذف النون، وقرأ الباقون بتخفيف النون. قال سيبويه: المعنى وفيما يتلى عليكم اللذان يأتيانها: أي الفاحشة منكم، ودخلت الفاء في الجواب لأن في الكلام معنى الشرط. والمراد باللذان هنا الزاني والزانية تغليباً، وقيل: الآية الأولى في النساء خاصة محصنات وغير محصنات، والثانية في الرجال خاصة وجاء بلفظ التثنية لبيان صنفي الرجال من أحصن ومن لم يحصن فعقوبة النساء الحبس وعقوبة الرجال الأذى واختار هذا النحاس ورواه عن ابن عباس ورواه القرطبي عن مجاهد وغيره واستحسنه. وقال السدي وقتادة وغيرهما الآية الأولى في النساء المحصنات ويدخل معهن الرجال المحصنون، والآية الثانية في الرجل والمرأة البكرين، ورجحه الطبري وضعفه النحاس وقال: تغليب المؤنث على المذكر بعيد. وقال ابن عطية: إن معنى هذا القول تام إلا أن لفظ الآية يقلق عنه، وقيل: كان الإمساك للمرأة الزانية دون الرجل فخصت المرأة بالذكر في الإمساك ثم جمعا في الإيذاء قال قتادة: كانت المراة تحبس ويؤذيان جميعاً. واختلف المفسرون في تفسير الأذى، فقيل: التوبيخ والتعيير، وقيل: السب والجفاء من دون تعيير، وقيل: النيل باللسان والضرب بالنعال، وقد ذهب قوم إلى أن الأذى منسوخ كالحبس، وقيل: ليس بمنسوخ كما تقدم في الحبس. قوله "فإن تابا" أي: من الفاحشة "وأصلحا" العمل فيما بعد "فأعرضوا عنهما" أي: اتركوهما وكفوا عنهما الأذى، وهذا كان قبل نزول الحدود على ما تقدم من الخلاف.

إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا

قوله 17- "إنما التوبة على الله" استئناف لبيان أن التوبة ليست بمقبولة على الإطلاق كما ينبئ عنه قوله "توابا رحيماً" بل إنما تقبل من البعض دون البعض كما بينه النظم القرآني ها هنا، فقوله "إنما التوبة" مبتدأ خبره قوله "للذين يعملون السوء بجهالة". وقوله "على الله" متعلق بما تعلق به الخبر من الاستقرار، أو متعلق بمحذوف وقع حالاً عند من يجوز تقديم الحال التي هي ظرف على عاملها المعنوي، وقيل المعنى: إنما التوبة على فضل الله ورحمته بعباده، وقيل المعنى: إنما التوبة واجبة على الله، وهذا على مذهب المعتزلة لأنهم يوجبون على الله عز وجل واجبات من جملتها قبول توبة التائبين، وقيل: على هنا بمعنى عند، وقيل: بمعنى من. وقد اتفقت الأمة على أن التوبة فرض على المؤمنين لقوله تعالى " وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون " وذهب الجمهور إلى أنها تصح من ذنب دون ذنب خلافاً للمعتزلة، وقيل إن قوله "على الله" هو الخبر. وقوله "للذين يعملون" متعلق بما تعلق به الخبر أو بمحذوف وقع حالاً. والسوء هنا: العمل السيء. وقوله "بجهالة" متعلق بمحذوف وقع صفة أو حالاً: أي يعملونها متصفين بالجهالة أو جاهلين. وقد حكى القرطبي عن قتادة أنه قال: أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن كل معصية فهي بجهالة عمداً كانت أو جهلاً. وحكي عن الضحاك ومجاهد أن الجهالة هنا العمد وقال عكرمة: أمور الدنيا كلها جهالة، ومنه قوله تعالى "إنما الحياة الدنيا لعب ولهو" وقال الزجاج: معناه بجهالة اختيارهم اللذة الفانية على اللذة الباقية، وقيل معناه: أنهم لا يعلمون كنه العقوبة، ذكره ابن فورك وضعفه ابن عطية. قوله "ثم يتوبون من قريب" معناه: قبل أن يحضرهم الموت كما يدل عليه قوله "حتى إذا حضر أحدهم الموت" وبه قال أبو مجلز والضحاك وعكرمة وغيرهم، والمراد قبل المعاينة للملائكة وغلبة المرء على نفسه، ومن في قوله: "من قريب" للتبعيض: أي يتوبون بعض زمان قريب، وهو ما عدا وقت حضور الموت، وقيل معناه قبل المرض، وهو ضعيف، بل باطل لما قدمنا، ولما أخرجه أحمد والترمذي وحسنه وابن ماجه والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر" وقيل معناه: يتوبون على قرب عهد من الذنب من غير إصرار. قوله: "فأولئك يتوب الله عليهم" هو وعد منه سبحانه بأنه يتوب عليهم بعد بيانه أن التوبة لهم مقصورة عليهم.

وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآَنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا

وقوله 18- "وليست التوبة للذين يعملون السيئات" تصريح بما فهم من حصر التوبة فيما سبق على من عمل السوء بجهالة ثم تاب من قريب قوله "حتى إذا حضر أحدهم الموت" حتى حرف ابتداء، والجملة المذكورة بعدها غاية لما قبلها، وحضور الموت حضور علاماته وبلوغ المريض إلى حالة السياق ومصيره مغلوباً على نفسه مشغولاً بخروجها من بدنه، وهو وقت الغرغرة المذكورة في الحديث السابق، وهي بلوغ روحه حلقومه، قاله الهروي. وقوله "قال إني تبت الآن" أي: وقت حضور الموت. قوله "ولا الذين يموتون وهم كفار" معطوف على الموصول في قوله "للذين يعملون السيئات" أي: ليست التوبة لأولئك ولا للذين يموتون وهم كفار مع أنه لا توبة لهم رأساً، وإنما ذكروا مبالغة في بيان عدم قبول توبة من حضرهم الموت، وأن وجودها كعدمها. وقد أخرج البزار وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني عن ابن عباس في قوله "واللاتي يأتين الفاحشة" قال: كانت المرأة إذا فجرت حبست في البيوت، فإن ماتت ماتت وإن عاشت عاشت، حتى نزلت الآية في سورة النور "الزانية والزاني فاجلدوا" فجعل الله لهن سبيلاً. فمن عمل شيئاً جلد وأرسل، وقد روي هذا عنه من وجوه. وأخرج أبو داود في سننه عنه والبيهقي في قوله "واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم" إلى قوله "سبيلاً" ثم جمعهما جميعاً، فقال " واللذان يأتيانها منكم فآذوهما " ثم نسخ ذلك بآية الجلد، وقد قال بالنسخ جماعة من التابعين، أخرجه أبو داود والبيهقي عن مجاهد وأخرجه عبد بن حميد وأبو داود في ناسخه وابن جرير وابن المنذر عن قتادة، وأخرجه البيهقي في سننه عن الحسن، وأخرجه ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير، وأخرجه ابن جرير عن السدي. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله "واللذان يأتيانها منكم" قال: كان الرجل إذا زنا أوذي بالتعيير وضرب بالنعال، فأنزل الله بعد هذه الآية "الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة" فإن كانا محصنين رجما في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد "واللذان يأتيانها منكم" قال: الرجلان الفاعلان. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير "واللذان يأتيانها منكم" يعني البكرين. وأخرج ابن جرير عن عطاء قال: الرجل والمرأة. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله "إنما التوبة على الله" الآية قال: هذه للمؤمنين، وفي قوله "وليست التوبة للذين يعملون السيئات" قال: هذه لأهل النفاق "ولا الذين يموتون وهم كفار" قال: هذه لأهل الشرك. وأخرج ابن جرير عن الربيع مثله. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن قتادة قال: اجتمع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فرأوا أن كل شيء عصي به فهو جهالة عمداً كان أو غيره. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن أبي العالية أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون: كل ذنب أصابه عبد فهو جهالة. وأخرج ابن جرير من طريق الكلبي عن أبي عن صالح عن ابن عباس في قوله "إنما التوبة على الله" الآية، قال: من عمل السوء فهو جاهل من جهالته عمل السوء ‌"ثم يتوبون من قريب" قال: في الحياة والصحة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه قال: القريب ما بينه وبين أن ينظر إلى ملك الموت. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير والبيهقي في الشعب عن الضحاك قال: كل شيء قبل الموت فهو قريب له التوبة ما بينه وبين أن يعاين ملك الموت فإذا تاب حين ينظر إلى ملك الموت فليس له ذلك. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال: القريب: ما لم يغرغر. وقد وردت أحاديث كثيرة في قبول توبة العبد ما لم يغرغر، ذكرها ابن كثير في تفسيره، ومنها الحديث الذي قدمنا ذكره.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آَتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَ

هذا متصل بما تقدم من ذكر الزوجات والمقصود نفي الظلم عنهن، والخطاب للأولياء، ومعنى الآية يتضح بمعرفة سبب نزولها، وهو ما أخرجه البخاري وغيره عن ابن عباس في قوله 19- "يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً" قال: كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته، إن شاء بعضهم تزوجها، وإن شاءوا زوجوها وإن شاءوا لم يزوجوها، فهم أحق بها من أهلها، فنزلت. وفي لفظ لأبي داود عنه في هذه الآية: كان الرجل يرث امرأة ذي قرابته فيعضلها حتى يموت أو ترد إليه صداقها. وفي لفظ لابن جرير وابن أبي حاتم عنه: فإن كانت جميلة تزوجها، وإن كانت دميمة حبسها حتى تموت فيرثها. وقد روي هذا السبب بألفاظ، فمعنى "لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً" أي: لا يحل لكم أن تأخذوهن بطريق الإرث فتزعمون أنكم أحق بهن من غيركم وتحبسونهن لأنفسكم ولا‌ يحل لكم أن "تعضلوهن" عن أن يتزوجن غيركم لتأخذوا ميراثهن إذا متن، أو ليدفعن إليكم صداقهن إذا أذنتم لهن بالنكاح. قال الزهري وأبو مجلز: كان من عاداتهم إذا مات الرجل وله زوجة ألقى ابنه من غيرها أو أقرب عصبته ثوبه على المرأة فيصير أحق بها من نفسها ومن أوليائها، فإن شاء تزوجها بغير صداق إلا الصداق الذي أصدقها الميت، وإن شاء زوجها من غيره وأخذ صداقها ولم يعطها شيئاً، وإن شاء عضلها لتفتدي منه بما ورثت من الميت أو تموت فيرثها، فنزلت الآية. وقيل: الخطاب لأزواج النساء إذا حبسوهن مع سوء العشرة طمعاً في إرثهن، أو يفتدين ببعض مهورهن واختاره ابن عطية. قال: ودليل ذلك قوله "إلا أن يأتين بفاحشة" إذا أتت بفاحشة فليس للولي حبسها حتى تذهب بمالها إجماعاً من الأمة، وإنما ذلك للزوج. قال الحسن: إذا زنت البكر فإنها تجلد مائة وتنفى وترد إلى زوجها ما أخذت منه. وقال أبو قلابة: إذا زنت امرأة الرجل فلا بأس أن يضارها ويشق عليها حتى تفتدي منه. وقال السدي: إذا فعلن ذلك فخذوا مهورهن. وقال قوم: الفاحشة البذاءة باللسان، وسوء العشرة قولاً وفعلاً. وقال مالك وجماعة من أهل العلم: للزوج أن يأخذ من الناشز جميع ما تملك. هذا كله على أن الخطاب في قوله "ولا تعضلوهن" للأزواج، وقد عرفت مما قدمنا في سبب النزول أن الخطاب في قوله "ولا تعضلوهن" لمن خوطب بقوله "لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً" فيكون المعنى: ولا يحل لكم أن تمنعوهن من الزواج "لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن" أي: ما آتاهن من ترثونه "إلا أن يأتين بفاحشة مبينة" جاز لكم حبسهن عن الأزواج، ولا يخفى ما في هذا من التعسف مع عدم جواز حبس من أتت بفاحشة عن أن تتزوج وتستعف من الزنا، وكما أن جعل قوله "ولا تعضلوهن" خطاباً للأولياء فيه هذا التعسف، كذلك جعل قوله "لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً" خطاباً للأزواج فيه تعسف ظاهر مع مخالفته لسبب نزول الآية الذي ذكرناه، والأولى أن يقال: إن الخطاب في قوله "لا يحل لكم" للمسلمين: أي لا يحل لكم معاشر المسلمين أن ترثوا النساء كرهاً كما تفعله الجاهلية، ولا يحل لكم معاشر المسلمين أن تعضلوا أزواجكم: أي تحسبوهن عندكم مع عدم رغوبكم فيهن، بل لقصد أن تذهبوا ببعض ما آتيتموهن من المهر يفتدين به من الحبس والبقاء تحتكم، وفي عقدتكم مع كراهتكم لهن "إلا أن يأتين بفاحشة مبينة" جاز لكم مخالعتهن ببعض ما آتيتموهن. قوله "مبينة" قرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص وحمزة والكسائي بكسر الياء. وقرأ الباقون بفتحها. وقرأ ابن عباس "مبينة" بكسر الباء وسكون الياء من أبان الشيء فهو مبين. قوله "وعاشروهن بالمعروف" أي: يما هو معروف في هذه الشريعة وبين أهلها من حسن المعاشرة، وهو خطاب للأزواج أو لما هو أعم، وذلك يختلف باختلاف الأزواج في الغنى والفقر والرفاعة والوضاعة "فإن كرهتموهن" لسبب من الأسباب من غير ارتكاب فاحشة ولا نشوز "فعسى" أن يؤول الأمر إلى ما تحبونه من ذهاب الكراهة وتبدلها بالمحبة، فيكون في ذلك خير كثير من استدامة الصحبة وحصول الأولاد، فيكون الجزاء على هذا محذوفاً مدلولاً عليه بعلته: أي فإن كرهتموهن فاصبروا ‌"فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً".أوK

وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا

قوله 20- "وآتيتم إحداهن قنطاراً" قد تقدم بيانه في آل عمران والمراد به هنا المال الكثير فلا تأخذوا منه شيئاً. قيل: هي محكمة، وقيل: هي منسوخة بقوله تعالى في سورة البقرة " ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا أن لا يقيما حدود الله " والأولى أن الكل محكم والمراد هنا غير المختلعة لا يحل لزوجها أن يأخذ مما آتاها شيئاً. قوله "أتأخذونه بهتاناً وإثماً مبيناً" الاستفهام للإنكار والتقريع. والجملة مقررة للجملة الأولى المشتملة على النهي.

وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا

وقوله 21- "وكيف تأخذونه" إنكار بعد إنكار مشتمل على العلة التي تقتضي منع الأخذ: وهي الإفضاء. قال الهروي: وهو إذا كانا في لحاف واحد جامع أو لم يجامع، وقال الفراء: الإفضاء أن يخلو الرجل والمرأة وإن لم يجامعها. وقال ابن عباس ومجاهد والسدي: الإفضاء في هذه الآية: الجماع، وأصل الإفضاء في اللغة المخالطة، يقال للشيء المختلط فضاء، ويقال القوم فوضى وفضاء: أي مختلطون لا أمير عليهم. قوله "وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً" معطوف على الجملة التي قبله: أي والحال أن قد أفضى بعضكم إلى بعض، وقد أخذن منكم ميثاقاً غليظاً وهو عقد النكاح، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله" وقيل: هو قوله تعالى "فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان" وقيل: هو الأولاد.

وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آَبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا

قوله 22- "ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء" نهي عما كانت عليه الجاهلية من نكاح نساء آبائهم إذا ماتوا، وهو شروع في بيان من يحرم نكاحه من النساء ومن لا يحرم. ثم بين سبحانه وجه النهي عنه فقال "إنه كان فاحشة ومقتاً وساء سبيلاً" هذه الصفات الثلاث تدل على أنه من أشد المحرمات وأقبحها، وقد كانت الجاهلية تسميه نكاح المقت. قال ثعلب: سألت ابن الأعرابي عن نكاح المقت فقال: هو أن يتزوج الرجل امرأة أبيه إذا طلقها أو مات عنها، ويقال لهذا الضيزم، وأصل المقت البغض، من مقته يمقته مقتاً فهو ممقوت ومقيت. قوله "إلا ما قد سلف" هو استثناء منقطع أي: لكن ما قد سلف فاجتنبوه ودعوه، وقيل: إلا بمعنى بعد: أي بعد ما سلف، وقيل: المعنى ولا ما سلف، وقيل: هو استثناء متصل من قوله "ما نكح آباؤكم" يفيد المبالغة في التحريم بإخراج الكلام مخرج التعلق بالمحال: يعني إن أمكنكم أن تنكحوا ما قد سلف فانكحوا، فلا يحل لكم غيره. قوله "وساء سبيلاً" هي جارية مجرى بئس في الذم والعمل، والمخصوص بالذم محذوف: أي ساء سبيلاً سبيل ذلك النكاح، وقيل: إنها جارية مجرى سائر الأفعال، وفيها ضمير يعود إلى ما قبلها. وقد أخرج النسائي وابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف قال: لما توفي أبو قيس بن الأسلت أراد ابنه أن يتزوج امرأته، وقد كان لهم ذلك في الجاهلية، فأنزل الله "لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً". وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن عكرمة قال: نزلت هذه الآية في كبيشة بنت معمر بن معن بن عاصم من الأوس كانت عند أبي قيس بن الأسلت، فتوفي عنها فجنح عليها ابنه، فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: لا أنا ورثت زوجي ولا أنا تركت فأنكح، فنزلت هذه الآية. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر عن عبد الرحمن بن البيلماني في قوله " لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن " قال: نزلت هاتان الآيتان إحداهما في أمر الجاهلية، والأخرى في أمر الإسلام. قال ابن المبارك "أن ترثوا النساء كرهاً" في الجاهلية، ولا تعضلوهن في الإسلام. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن أبي مالك في قوله "ولا تعضلوهن" قال: لا تضر بامرأتك لتفتدي منك. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد "ولا تعضلوهن" يعني: أن ينكحن أزواجهن كالعضل في سورة البقرة. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد قال: كان العضل في قريش بمكة: ينكح الرجل المرأة الشريفة فلعلها لا توافقه فيفارقها على أن لا تتزوج إلا بإذنه، فيأتي بالشهود فيكتب ذلك عليها ويشهد، فإذا خطبها خاطب فإن أعطته وأرضته أذن لها وإلا عضلها، وقد قدمنا عن ابن عباس في بيان السبب ما عرفت. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله "إلا أن يأتين بفاحشة مبينة" قال: البغض والنشوز، فإذا فعلت ذلك فقد حل له منها الفدية. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة نحوه. وأخرج ابن جرير عن الضحاك نحوه أيضاً. وأخرج ابن جرير عن الحسن قال الفاحشة هنا الزنا. وأخرج ابن جرير عن أبي قلابة وابن سيرين نحوه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي في قوله "وعاشروهن بالمعروف" قال: خالطوهن. قال ابن جرير: صحفه بعض الرواة وإنما هو خالقوهن وأخرج ابن المنذر عن عكرمة قال: حقها عليك الصحبة الحسنة والكسوة والرزق المعروف. وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل "وعاشروهن بالمعروف" يعني صحبتهن بالمعروف " فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا " فيطلقها فتتزوج من بعده رجلاً فيجعل الله له منها ولداً ويجعل الله في تزويجها خيراً كثيراً. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: الخير الكثير أن يعطف عليها فترزق ولدها ويجعل الله في ولدها خيراً كثيراً. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي نحوه. وأخرج عبد بن حميد عن الحسن نحو ما قال مقاتل. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله "وإن أردتم استبدال زوج" الآية، قال: إن كرهت امرأتك وأعجبك غيرها فطلقت هذه وتزوجت تلك فأعط هذه مهرها وإن كان قنطاراً. وأخرج سعيد بن منصور وأبو يعلى. قال السيوطي بسند جيد: أن عمر نهى الناس أن يزيدوا النساء في صدقاتهن على أربعمائة درهم، فاعترضت له امرأة من قريش فقالت: أما سمعت ما أنزل الله يقول "وآتيتم إحداهن قنطاراً" فقال: اللهم غفراً كل الناس أفقه من عمر، فركب المنبر فقال: يا أيها الناس إني كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في صدقاتهن على أربعمائة درهم، فمن شاء أن يعطي ماله ما أحب. قال أبو يعلى: وأظنه قال: فمن طابت نفسه فليفعل. قال ابن كثير: إسناده جيد قوي، وقد رويت هذه القصة بألفاظ مختلفة، هذا أحدها. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: الإفضاء هو الجماع، ولكن الله يكني. وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن ابن عباس في قوله "وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً" قال: الغليظ: إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن قتادة نحوه وقال: وقد كان ذلك يؤخذ عنه عقد النكاح: الله عليك لتمسكن بمعروف أو لتسرحن بإحسان. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن ابن أبي مليكة أن ابن عمر كان إذا نكح قال: أنكحتك على ما أمر الله به، إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان. وأخرج ابن أبي شيبة عن أنس بن مالك نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عباس نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة عن عكرمة ومجاهد في قوله: "وأخذن منكم ميثاقاً غليظا " قال: أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: هو قول الرجل: ملكت. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: كلمة النكاح التي تستحل بها فروجهن. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والبيهقي في سننه في قوله تعالى "ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء" أنها نزلت لما أراد ابن أبي قيس الأسلت أن يتزوج امرأة أبيه بعد موته. وأخرج ابن المنذر عن الضحاك "إلا ما قد سلف" إلا ما كان في الجاهلية. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وأحمد والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن البراء قال: لقيت خالي ومعه الراية قلت: أين تريد؟ قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه من بعده، فأمرني أن أضرب عنقه وآخذ ماله.

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللّ

قوله 23- "حرمت عليكم أمهاتكم" أي: نكاحهن، وقد بين الله سبحانه في هذه الآية ما يحل وما يحرم من النساء فحرم سبعاً من النسب، وستاً من الرضاع والصهر، وألحقت السنة المتواترة تحريم الجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها، ووقع عليه الإجماع. فالسبع المحرمات من النسب الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت. والمحرمات بالصهر والرضاع: الأمهات من الرضاعة والأخوات من الرضاعة وأمهات النساء والربائب وحلائل الأبناء والجمع بين الأختين، فهؤلاء ست، والسابعة منكوحات الآباء، والثامنة الجمع بين المرأة وعمتها. قال الطحاوي: وكل هذا من المحكم المتفق عليه، وغير جائز نكاح واحدة منهن بالإجماع إلا أمهات النساء اللواتي لم يدخل بهن أزواجهن، فإن جمهور السلف ذهبوا إلى أن الأم تحرم بالعقد على الابنة، ولا تحرم الابنة إلا بالدخول بالأم. وقال بعض السلف: الأم والربيبة سواء لا تحرم منهما واحدة إلا بالدخول بالأخرى. قالوا: ومعنى قوله "وأمهات نسائكم" أي: اللاتي دخلتم بهن، وزعموا أن قيد الدخول راجع إلى الأمهات والربائب جميعاً، رواه خلاس عن علي بن أبي طالب. وروي عن ابن عباس وجابر وزيد بن ثابت وابن الزبير ومجاهد، قال القرطبي: ورواية خلاس عن علي لا تقوم بها حجة، ولا تصح روايته عند أهل الحديث، والصحيح عنه مثل قول الجماعة. وقد أجيب عن قولهم إن قيد الدخول راجع إلى الأمهات والربائب بأن ذلك لا يجوز من جهة الإعراب، وبيانه أن الخبرين إذا اختلفا في العامل لم يكن نعتهما واحداً، فلا يجوز من جهة الإعراب، وبيانه أن الخبرين إذا اختلفا في العامل لم يكن نعتهما واحداً، فلا يجوز عند النحويين مررت بنسائك وهويت نساء زيد الظريفات، على أن يكون الظريف نعتاً للجميع، فكذلك في الآية لا يجوز أن يكون اللاتي دخلتم بهن نعتاً لهم جميعاً، لأن الخبرين مختلفان. قال ابن المنذر: والصحيح قول الجمهور لدخول جميع أمهات النساء في قوله "وأمهات نسائكم". ومما يدل على ما ذهب إليه الجمهور ما أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في سننه من طريقين عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا نكح الرجل المرأة فلا يحل له أن يتزوج أمها دخل بالابنة أو لم يدخل، وإذا تزوج الأم فلم يدخل بها ثم طلقها، فإن شاء تزوج الابنة" قال ابن كثير في تفسيره مستدلاً للجمهور: وقد روي في ذلك خبر غير أن في إسناده نظراً، فذكر هذا الحديث ثم قال، وهذا الخبر وإن كان في إسناده ما فيه، فإن إجماع الحجة على صحة القول به يغني عن الاستشهاد على صحته بغيره، قال في الكشاف: وقد اتفقوا على أن تحريم أمهات النساء مبهم دون تحريم الربائب على ما عليه ظاهر كلام الله تعالى انتهى. ودعوى الإجماع مدفوعة بخلاف من تقدم. واعلم أنه يدخل في لفظ الأمهات أمهاتهن وجداتهن وأم الأب وجداته وإن علون، لأن كلهن أمهات لمن ولده من ولدته وإن سفل. ويدخل في لفظ البنات بنات الأولاد وإن سفلن، والأخوات تصدق على الأخت لأبوين أو لأحدهما، والعمة اسم لكل أنثى شاركت أباك أو جدك في أصليه أو أحدهما. وقد تكون العمة من جهة الأم وهي أخت أب الأم. والخالة اسم لكل أنثى شاركت أمك في أصليها أو في أحدهما، وقد تكون الخالة من جهة الأب وهي أخت أم أبيك، وبنت الأخ اسم لكل أنثى لأخيك عليها ولادة بواسطة ومباشرة وإن بعدت، وكذلك بنت الأخت. قوله "وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم" هذا مطلق مقيد بما ورد في السنة من كون الرضاع في الحولين إلا في مثل قصة إرضاع سالم مولى أبي حنيفة، وظاهر النظم القرآني أنه يثبت حكم الرضاع بما يصدق عليه مسمى الرضاع لغة وشرعاً، ولكنه قد ورد تقييده بخمس رضعات في أحاديث صحيحة، والبحث عن تقرير ذلك وتحقيقه يطول، وقد استوفيناه في مصنفاتنا وقررنا ما هو الحق في كثير من مباحث الرضاع. قوله "وأخواتكم من الرضاعة" الأخت من الرضاع هي التي أرضعتها أمك بلبان أبيك سواء أرضعتها معك أو مع من قبلك أو بعدك من الإخوة والأخوات، والأخت من الأم هي التي أرضعتها أمك بلبان رجل آخر. قوله "وأمهات نسائكم" قد تقدم الكلام على اعتبار الدخول وعدمه. والمحرمات بالمصاهرة أربع: أم المرأة وابنتها وزوجة الأب وزوجة الابن. قوله " وربائبكم " الربيبة بنت امرأة الرجل من غيره، سميت بذلك لأنه يربيها في حجره فهي مربوبة فعلية بمعنى مفعولة. قال القرطبي: واتفق الفقهاء على أن الربيبة تحرم على زوج أمها إذا دخل بالأم وإن لم تكن الربيبة في حجره، وشذ بعض المتقدمين وأهل الظاهر، فقالوا: لا تحرم الربيبة إلا أن تكون في حجر المتزوج، فلو كانت في بلد آخر وفارق الأم فله أن يتزوج بها، وقد روي ذلك عن علي. قال ابن المنذر والطحاوي: لم يثبت ذلك عن علي لأن راويه إبراهيم بن عبيد عن مالك بن أوس بن الحدثان عن علي، وإبراهيم هذا لا يعرف. وقال ابن كثير في تفسيره بعد إخراج هذا عن علي: وهذا إسناد قوي ثابت إلى علي بن أبي طالب على شرط مسلم. والحجور جمع حجر. والراجح أنهن في حضانة أمهاتهن تحت حماية أزواجهن كما هو الغالب- وقيل المراد بالحجور البيوت: أي في بيوتكم، حكاه الأثرم عن أبي عبيدة. قوله "فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم" أي: في نكاح الربائب، وهو تصريح بما دل عليه مفهوم ما قبله. وقد اختلف أهل العلم في معنى الدخول الموجب لتحريم الربائب: فروي عن ابن عباس أنه قال: الدخول الجماع وهو قول طاوس وعمرو بن دينار وغيرهما. وقال مالك والثوري وأبو حنيفة والأوزاعي والليث والزيدية: إن الزوج إذا لمس الأم لشهوة حرمت عليها ابنتها وهو أحد قولي الشافعي. قال ابن جرير الطبري: وفي إجماع الجميع أن خلوة الرجل بامرأته لا تحرم ابنتها عليه إذا طلقها قبل مسيسها ومباشرتها وقبل النظر إلى فرجها لشهوة ما يدل على أن معنى ذلك هو الوصول إليها بالجماع انتهى. وهكذا حكى الإجماع القرطبي فقال: وأجمع العلماء على أن الرجل إذا تزوج المرأة ثم طلقها أو ماتت قبل أن يدخل بها حل له نكاح ابنتها. واختلفوا في النظر، فقال مالك: إذا نظر إلى شعرها أو صدرها أو شيء من محاسنها للذة حرمت عليه أمها وابنتها. وقال الكوفيون: إذا نظر إلى فرجها للشهوة كان بمنزلة اللمس للشهوة، وكذا قال الثوري ولم يذكر الشهوة. وقال ابن أبي ليلى: لا تحرم بالنظر حتى يلمس، وهو قول الشافعي. والذي ينبغي التعويل عليه في مثل هذا الخلاف هو النظر في معنى الدخول شرعاً أو لغة، فإن كان خاصاً بالجماع فلا وجه لإلحاق غيره به من لمس أو نظر أو غيرهما، وإن كان معناه أوسع من الجماع بحيث يصدق على ما حصل فيه نوع استمتاع كان مناط التحريم هو ذلك. وأما الربيبة في ملك اليمين فقد روي عن عمر بن الخطاب أنه كره ذلك. وقال ابن عباس: أحلتهما آية وحرمتهما آية ولم أكن لأفعله. وقال ابن عبد البر: لا خلاف بين العلماء أنه لا يحل لأحد أن يطأ امرأة وابنتها من ملك اليمين لأن الله حرم ذلك في النكاح قال "وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم" وملك اليمين عندهم تبع للنكاح إلا ما روي عن عمر وابن عباس، وليس على ذلك أحد من أئمة الفتوى ولا من تبعهم انتهى. قوله "وحلائل أبنائكم" الحلائل: جمع حليلة وهي الزوجة، سميت بذلك لأنها تحل مع الزوج حيث حل فهي فعيلة بمعنى فاعلة. وذهب الزجاج وقوم إلى أنها من لفظة الحلال فهي حليلة بمعنى محللة. وقيل: لأن كل واحد منهما يحل إزار صاحبه. وقد أجمع العلماء على تحريم ما عقد عليه الآباء على الأبناء وما عقد عليه الأبناء على الآباء سواء كان مع العقد وطء أو لم يكن، لقوله تعالى "ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء" وقوله "وحلائل أبنائكم". واختلف الفقهاء في العقد إذا كان فاسداً هل يقتضي التحريم أم لا؟ كما هو مبين في كتب الفروع. قال ابن المنذر: أجمع كل من يحفظ عنه العلم من علماء الأمصار أن الرجل إذا وطئ امرأة بنكاح فاسد أنها تحرم على أبيه وابنه وعلى أجداده. وأجمع على أن عقد الشراء على الجارية لا يحرمها على أبيه وابنه، فإذا اشترى جارية فلمس أو قبل حرمت على أبيه وابنه لا أعلمهم يختلفون فيه، فوجب تحريم ذلك تسليماً لهم. ولما اختلفوا في تحريمها بالنظر دون اللمس لم يجز ذلك لاختلافهم قال: لا يصح عن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ما قلناه. قوله: "الذين من أصلابكم" وصف للأبناء: أي دون من تبنيتم من أولاد غيركم كما كانوا يفعلونه في الجاهلية، ومنه قوله تعالى "فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطراً" ومنه قوله تعالى "وما جعل أدعياءكم أبناءكم" ومنه: "ما كان محمد أبا أحد من رجالكم" وأما زوجة الابن من الرضاع فقد ذهب الجمهور إلى أنها تحرم على أبيه، وقد قيل إنه إجماع مع أن الابن من الرضاع ليس من أولاد الصلب. ووجهه ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" ولا خلاف أن أولاد الأولاد وإن سفلوا بمنزلة أولاد الصلب في تحريم نكاح نسائهم على آبائهم. وقد اختلف أهل العلم في وطء الزنا هل يقتضي التحريم أم لا؟ فقال أكثر أهل العلم: إذا أصاب رجل امرأة بزنا لم يحرم عليه نكاحها بذلك، وكذلك لا تحرم عليه امرأته إذا زنا بأمها أو بابنتها، وحسبه أن يقام عليه الحد، وكذلك يجوز له عندهم أن يتزوج بأم من زنى بها وبابنتها. وقالت طائفة من أهل العلم: إن الزنا يقتضي التحريم. حكي ذلك عن عمران بن حصين والشعبي وعطاء والحسن وسفيان الثوري وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي، وحكي ذلك عن مالك، والصحيح عنه كقول الجمهور. احتج الجمهور بقوله تعالى "وأمهات نسائكم" وبقوله "وحلائل أبنائكم" والموطوءة بالزنا لا يصدق عليها أنها من نسائهم ولا من حلائل أبنائهم. وقد أخرج الدارقطني عن عائشة قالت: "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل زنى بامرأة فأراد أن يتزوجها أو ابنتها، فقال: لا يحرم الحرام الحلال". واحتج المحرمون بما روي في قصة جريج الثابتة في الصحيح أنه قال: يا غلام من أبوك؟ فقال: فلان الراعي، فنسب الابن نفسه إلى أبيه من الزنا، وهذا احتجاج ساقط، واحتجوا أيضاً بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ينظر الله إلى رجل نظر إلى فرج امرأة وابنتها ولم يفصل بين الحلال والحرام". ويجاب عنه بأن هذا مطلق مقيد بما ورد من الأدلة الدالة على أن الحرام لا يحرم الحلال. واختلفوا في اللواط هل يقتضي التحريم أم لا؟ فقال الثوري: إذا لاط بالصبي حرمت عليه أمه، وهو قول أحمد بن حنبل قال: إذا تلوط بابن امرأته أو أبيها أو أخيها حرمت عليه امرأته. وقال الأوزاعي: إذا لاط بغلام وولد للمفجور به بنت لم يجز للفاجر أن يتزوجها لأنها بنت من قد دخل به. ولا يخفى ما في قول هؤلاء من الضعف والسقوط النازل عن قول القائلين بأن وطء الحرام يقتضي التحريم بدرجات لعدم صلاحية ما تمسك به أولئك من الشبه على ما زعمه هؤلاء من اقتضاء اللواط للتحريم. قوله "وأن تجمعوا بين الأختين" أي: وحرم عليكم أن تجمعوا بين الأختين فهو في محل رفع عطفاً على المحرمات السابقة، وهو يشمل الجمع بينهما بالنكاح والوطء بملك اليمين. وقيل: إن الآية خاصة بالجمع في النكاح لا في ملك اليمين، وأما في الوطء بالملك فلا حق بالنكاح، وقد أجمعت الأمة على منع جمعهما في عقد النكاح. واختلفوا في الأختين بملك اليمين، فذهب كافة العلماء إلى أنه يجوز الجمع بينهما في الوطء بالملك، وأجمعوا على أنه يجوز الجمع بينهما في الملك فقط. وقد توقف بعض السلف في الجمع بين الأختين في الوطء بالملك، وسيأتي بيان ذلك. واختلفوا في جواز عقد النكاح على أخت الجارية التي توطأ بالملك. فقال الأوزاعي: إذا وطئ جارية له بملك يمين لم يجز له أن يتزوج أختها. وقال الشافعي: ملك اليمين لا يمنع نكاح الأخت. وقد ذهبت الظاهرية إلى جواز الجمع بين الأختين بملك اليمين في الوطء كما يجوز الجمع بينهما في الملك. قال ابن عبد البر بعد أن ذكر ما روي عن عثمان بن عفان من جواز الجمع بين الأختين في الوطء بالملك: وقد روي مثل قول عثمان عن طائفة من السلف منهم ابن عباس، ولكنهم اختلف عليهم ولم يلتفت إلى ذلك أحد من فقهاء الأمصار بالحجاز ولا بالعراق ولا ما وراءها من المشرق ولا بالشام ولا المغرب إلا من شذ عن جماعتهم باتباع الظاهر ونفي القياس. وقد ترك من تعمد ذلك. وجماعة الفقهاء متفقون على أنه لا يحل الجمع بين الأختين بملك اليمين في الوطء كما لا يحل ذلك في النكاح. وقد أجمع المسلمون على أن معنى قوله "حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم" إلى آخر الآية، أن النكاح بملك اليمين في هؤلاء كلهن سواء، فكذلك يجب أن يكون قياساً ونظراً الجمع بين الأختين وأمهات النساء والربائب، وكذا هو عند جمهورهم، وهي الحجة المحجوج بها من خالفها وشذ عنها، والله المحمود انتهى. وأقول: ها هنا إشكال، وهو أنه قد تقرر أن النكاح يقال على العقد فقط، وعلى الوطء فقط، والخلاف في كون أحدهما حقيقة والآخر مجازاً، أو كونهما حقيقتين معروف، فإن حملنا هذا التحريم المذكور في هذه الآية وهي قوله "حرمت عليكم أمهاتكم" إلى آخرها، على أن المراد تحريم العقد عليهن لم يكن في قوله تعالى "وأن تجمعوا بين الأختين" دلالة على تحريم الجمع بين المملوكتين في الوطء بالملك، وما وقع من إجماع المسلمين على أن قوله "حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم" إلى آخره، يستوي فيه الحرائر والإماء والعقد، والملك لا يستلزم أن يكون محل الخلاف، وهو الجمع بين الأختين في الوطء بملك اليمين مثل محل الإجماع، ومجرد القياس في مثل هذا الموطن لا تقوم به الحجة لما يرد عليه من النقوض، وإن حملنا التحريم المذكور في الآية على الوطء فقط لم يصح ذلك للإجماع على تحريم عقد النكاح على جميع المذكورات من أول الآية إلى آخرها، فلم يبق إلا حمل التحريم في الآية على تحريم عقد النكاح، فيحتاج القائل بتحريم الجمع بين الأختين في الوطء بالملك إلى دليل ولا ينفعه أن ذلك قول الجمهور، فالحق لا يعرف بالرجال، فإن جاء به خالصاً عن شوب الكدر فبها ونعمت، وإلا كان الأصل الحل، ولا يصح حمل النكاح في الآية على معنييه جميعاً أعني العقد والوطء، لأنه من باب الجمع بين الحقيقة والمجاز وهو ممنوع، أو من باب الجمع بين معنيي المشترك، وفيه الخلاف المعروف في الأصول فتدبر هذا. وقد اختلف أهل العلم إذا كان الرجل يطأ مملوكته بالملك ثم أراد أن يطأ أختها بالملك، فقال علي وابن عمر والحسن البصري والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق: لا يجوز له وطء الثانية حتى يحرم فرج الأخرى بإخراجها من ملكه ببيع أو عتق أو بأن يزوجها. قال ابن المنذر: وفيه قول ثان لقتادة، وهو أنه ينوي تحريم الأولى على نفسه ولا يقربها، ثم يمسك عنها حتى تستبرئ المحرمة ثم يغشى الثانية. وفيه قول ثالث، وهو أنه لا يقرب واحدة منهما، هكذا قال الحكيم وحماد. وروي معنى ذلك عن النخعي. وقال مالك: إذا كان عنده أختان بملك فله أن يطأ أيتهما شاء، والكف عن الأخرى موكول إلى أمانته، فإن أراد وطء الأخرى فيلزمه أن يحرم على نفسه فرج الأولى بفعل يفعله من إخراج عن الملك أو تزويج أو بيع أو عتق أو كتابة أو إخدام طويل، فإن كان يطأ إحداهما ثم وثب على الأخرى دون أن يحرم الأولى وقف عنهما ولم يجز له قرب إحداهما حتى يحرم الأخرى ولم يوكل ذلك إلى أمانته لأنه متهم. قال القرطبي: وقد أجمع العلماء على أن الرجل إذا طلق زوجته طلاقاً يملك رجعتها أنه ليس له أن ينكح أختها حتى تنقضي عدة المطلقة. واختلفوا إذا طلقها طلاقاً لا يملك رجعتها، فقالت طائفة: ليس له أن ينكح أختها ولا رابعة حتى تنقضي عدة التي طلق. روي ذلك عن علي وزيد بن ثابت ومجاهد وعطاء والنخعي والثوري وأحمد بن حنبل وأصحاب الرأي. وقال طائفة: له أن ينكح أختها وينكح الرابعة لمن كان تحته أربع وطلق واحدة منهن طلاقاً بائناً. روي ذلك عن سعيد بن المسيب والحسن والقاسم وعروة بن الزبير وابن أبي ليلى والشافعي وأبي ثور وأبي عبيد. قال ابن المنذر: ولا أحسبه إلا قول مالك. وهو أيضاً إحدى الروايتين عن زيد بن ثابت وعطاء. قوله "إلا ما قد سلف" يحتمل أن يكون معناه معنى ما تقدم من قوله تعالى "ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف" ويحتمل معنى آخر، وهو جواز ما سلف وأنه إذا جرى الجمع في الجاهلية كان النكاح صحيحاً، وإذا جرى في الإسلام خير بين الأختين. والصواب الاحتمال الأول.أ

وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُ

قوله 24- "والمحصنات من النساء" عطف على المحرمات المذكورات. وأصل التحصن التمنع، ومنه قوله تعالى "لتحصنكم من بأسكم" أي لتمنعكم، ومنه الحصان بكسر الحاء للفرس لأنه يمنع صاحبه من الهلاك. والحصان بفتح الحاء: المرأة العفيفة لمنعها نفسها، ومنه قول حسان: حصان رزان ما تزن بريبة وتصبح غرثى من لحوم الغوافل والمصدر الحصانة بفتح الحاء. والمراد بالمحصنات هنا ذوات الأزواج. وقد ورد الإحصان في القرآن لمعان، هذا أحدها. والثاني يراد به الحرة، ومنه قوله تعالى "ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات" وقوله "والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم". والثالث يراد به العفيفة ومنه قوله تعالى "محصنات غير مسافحات"، "محصنين غير مسافحين". والرابع المسلمة، ومنه قوله تعالى "فإذا أحصن". وقد اختلف أهل العلم في تفسير هذه الآية، أعني قوله "والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم" فقال ابن عباس وأبو سعيد الخدري وأبو قلابة ومكحول والزهري: المراد بالمحصنات هنا: المسبيات ذوات الأزواج خاصة، أي هن محرمات علكم إلا ما ملكت أيمانكم بالسبي من أرض الحرب، فإن تلك حلال وإن كان لها زوج، وهو قول الشافعي: أي أن السباء يقطع العصمة، وبه قال ابن وهب وابن عبد الحكم وروياه عن مالك، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه وأحمد وإسحاق وأبو ثور. واختلفوا في استبرائها بماذا يكون؟ كما هو مدون في كتب الفروع. وقالت طائفة: المحصنات في هذه الآية العفائف، وبه قال أبو العالية وعبيدة السلماني وطاوس وسعيد بن جبير وعطاء، ورواه عبيدة عن عمر. ومعنى الآية عندهم: كل النساء حرام إلا ما ملكت أيمانكم: أي تملكون عصمتهن بالنكاح وتملكون الرقبة بالشراء. وحكى ابن جرير الطبري أن رجلاً قال لسعيد بن جبير: أما رأيت ابن عباس حين سئل عن هذه الآية فلم يقل فيها شيئاً؟ فقال: كان ابن عباس لا يعلمها. وروى ابن جرير أيضاً عن مجاهد أنه قال: لو أعلم من يفسر لي هذه الآية لضربت إليه أكباد الإبل انتهى. ومعنى الآية والله أعلم لا سترة به. أي وحرمت عليكم المحصنات من النساء: أي المزوجات أعم من أن يكن مسلمات أو كافرات إلا ما ملكت أيمانكم منهن، أما يسبي فإنها تحل ولو كانت ذات زوج، أو بشراء فإنها تحل ولو كانت مزوجة، وينفسخ النكاح الذي كان عليها بخروجها عن ملك سيدها الذي زوجها، وسيأتي ذكر سبب نزول الآية إن شاء الله، والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وقد قرئ "المحصنات" بفتح الصاد وكسرها، فالفتح على أن الأزواج أحصنوهن، والكسر على أنهن أحصن فروجهن عن غير أزواجهن أو أحصن أزواجهن. قوله "كتاب الله عليكم" منصوب على المصدرية: أي كتب الله ذلك عليكم كتاباً. وقال الزجاج والكوفيون: إنه منصوب على الإغراء: أي الزموا كتاب الله، أو عليكم كتاب الله، واعترضه أبو علي الفارسي بأن الإغراء لا يجوز فيه تقديم المنصوب وهذا الاعتراض إنما يتوجه على قول من قال: إنه منصوب بعليكم المذكور في الآية، وروي عن عبيدة السلماني أنه قال: إن قوله "كتاب الله عليكم" إشارة إلى قوله تعالى "مثنى وثلاث ورباع" وهو بعيد بل هو إشارة إلى التحريم المذكور في قوله "حرمت عليكم" إلى آخر الآية. قوله "وأحل لكم ما وراء ذلكم" قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص وأحل على البناء للمجهول، وقرأ الباقون على البناء للمعلوم عطفاً على الفعل المقدر في قوله "كتاب الله عليكم" وقيل على قوله "حرمت عليكم" ولا يقدح في ذلك اختلاف الفعلين، وفيه دلالة على أنه يحل لهم نكاح ما سوى المذكورات، وهذا عام مخصوص بما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من تحريم الجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها. وقد أبعد من قال: إن تحريم الجمع بين المذكورات مأخوذ من الآية هذه لأنه حرم الجمع بين الأختين، فيكون ما في معناه في حكمه، وهو الجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها، وكذلك تحريم نكاح الأمة لمن يستطيع نكاح حرة كما سيأتي، فإنه يخصص هذا العموم. قوله "أن تبتغوا بأموالكم" في محل نصب على العلة: أي حرم عليكم ما حرم وأحل لكم ما أحل لأجل أن تبتغوا بأموالكم النساء الللاتي أجلهن الله لكم ولا تبتغوا بها الحرام فتذهب حال كونكم "محصنين" أي متعففين عن الزنا "غير مسافحين" أي غير زانين. والسفاح: الزنا وهو مأخوذ من سفح الماء: أي صبه وسيلانه، فكأنه سبحانه أمرهم بأن يطلبوا بأموالهم النساء على وجه النكاح، لا على وجه السفاح، وقيل إن قوله "أن تبتغوا بأموالكم" بدل من ما في قوله "ما وراء ذلكم" أي وأحل لكم الابتغاء بأموالكم. والأول أولى، وأراد سبحانه بالأموال المذكورة ما يدفعونه في مهور الحرائر وأثمان الإماء. قوله "فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن" ما موصولة فيها معنى الشرط، والفاء في قوله "فآتوهن" لتضمن الموصول معنى الشرط، والعائد محذوف: أي فآتوهن أجورهن عليه. وقد اختلف أهل العلم في معنى الآية: فقال الحسن ومجاهد وغيرهما: المعنى فما انتفعتم وتلذذتم بالجماع من النساء بالنكاح الشرعي "فآتوهن أجورهن" أي مهورهن. وقال الجمهور: إن المراد بهذه الآية نكاح المتعة الذي كان في صدر الإسلام، ويؤيد ذلك قراءة أبي بن كعب وابن عباس وسعيد بن جبير فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن ثم نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم كما صح ذلك من حديث علي قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن نكاح المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر، وهو في الصحيحين وغيرهما، وفي صحيح مسلم من حديث سبرة بن معبد الجهني عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم فتح مكة "يا أيها الناس إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، والله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيلها ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً". وفي لفظ لمسلم أن ذلك كان في حجة الوداع، فهذا هو الناسخ. وقال سعيد بن جبير: نسختها آيات الميراث إذ المتعة لا ميراث فيها. وقالت عائشة والقاسم بن محمد: تحريمها ونسخها في القرآن، وذلك قوله تعالى " والذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين " وليست المنكوحة بالمتعة من أزواجهم ولا مما ملكت أيمانهم، فإن من شأن الزوجة أن ترث وتورث، وليست المستمتع بها كذلك. وقد روي عن ابن عباس أنه قال بجواز المتعة وأنها باقية لم تنسخ. وروي عنه أنه رجع عن ذلك عند أن بلغه الناسخ. وقد قال بجوازها جماعة من الروافض ولا اعتبار بأقوالهم. وقد أتعب نفسه بعض المتأخرين بتكثير الكلام على هذه المسألة وتقوية ما قاله المجوزون لها، وليس هذا المقام مقام بيان بطلان كلامه. وقد طولنا البحث ودفعنا الشبه الباطلة التي تمسك بها المجوزون لها في شرحنا للمنتقى فليرجع إليه. قوله "فريضة" منتصب على المصدرية المؤكدة أو على الحال: أي مفروضة. قوله "ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة" أي: من زيادة أو نقصان في المهر فإن ذلك سائغ عند التراضي، هذا عند من قال بأن الآية في النكاح الشرعي، وأما عند الجمهور القائلين بأنها في المتعة، فالمعنى التراضي في زيادة مدة المتعة أو نقصانها أو في زيادة ما دفعه إليها إلى مقابل الاستمتاع بها أو نقصانه.

وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآَتُوهُ

قوله 25- "ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات" الطول: الغنى والسعة، قاله ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير والسدي وابن زيد ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وجمهور أهل العلم. ومعنى الآية: فمن لم يستطع منكم غنى وسعة في ماله يقدر بها على نكاح المحصنات المؤمنات فلينكح من فتياتكم المؤمنات، يقال: طال يطول طولاً في الإفضال والقدرة، وفلان ذو طول: أي ذو قدرة في ماله. والطول بالضم: ضد القصر. وقال قتادة والنخعي وعطاء والثوري: إن الطول الصبر. ومعنى الآية عندهم أن من كان يهوى أمة حتى صار لذلك لا يستطيع أن يتزوج غيرها، فإن له أن يتزوجها إذا لم يملك نفسه وخاف أن يبغي بها، وإن كان يجد سعة في المال لنكاح حرة. وقال أبو حنيفة وهو مروي عن مالك: إن الطول المرأة الحرة فمن كان تحته حرة لم يحل له أن ينكح الأمة، ومن لم يكن تحته حرة جاز له أن يتزوج أمة ولو كان غنياً، وبه قال أبو يوسف، واختاره ابن جرير واحتج له. والقول الأول هو المطابق لمعنى الآية، ولا يخلو ما عداه عن تكلف، فلا يجوز للرجل أن يتزوج بالأمة إلا إذا كان لا يقدر على أن يتزوج بالحرة لعدم وجود ما يحتاج إليه في نكاحها من مهر وغيره. وقد استدل بقوله: "من فتياتكم المؤمنات" على أنه لا يجوز نكاح الأمة الكتابية، وبه قال أهل الحجاز وجوزه أهل العراق، ودخلت الفاء في قوله " فمن ما ملكت أيمانكم " لتضمن المبتدأ معنى الشرط. وقوله "من فتياتكم المؤمنات" في محل نصب على الحال، فقد عرفت أنه لا يجوز للرجل الحر أن يتزوج بالمملوكة إلا بشرط عدم القدرة على الحرة. والشرط الثاني ما سيذكره الله سبحانه آخر الآية من قوله "ذلك لمن خشي العنت منكم" فلا يحل للفقير أن يتزوج بالمملوكة إلا إذا كان يخشى على نفسه العنت. والمراد هنا الأمة المملوكة للغير، وأما أمة الإنسان نفسه فقد وقع الإجماع على أنه لا يجوز له أن يتزوجها، وهي تحت ملكه لتعارض الحقوق واختلافها. والفتيات جمع فتاة، والعرب تقول للمملوك فتى وللمملوكة فتاة. وفي الحديث الصحيح "لا يقولن أحدكم عبدي وأمتي، ولكن ليقل فتاي وفتاتي". قوله "والله أعلم بإيمانكم" فيه تسلية لمن ينكح الأمة إذا اجتمع فيه الشرطان المذكوران: أي كلكم بنو آدم وأكرمكم عند الله أتقاكم، فلا تستنكفوا من الزواج بالإماء عند الضرورة، فربما كان إيمان بعض الإماء أفضل من إيمان بعض الحرائر. والجملة اعتراضية. وقوله "بعضكم من بعض" مبتدأ وخبر ومعناه: أنهم متصلون في الأنساب لأنهم جميعاً بنو آدم، أو متصلون في الدين لأنهم جميعاً أهل ملة واحدة وكتابهم واحد ونبيهم واحد. والمراد بهذا توطئة نفوس العرب، لأنهم كانوا يستهجنون أولاد الإماء ويستصغرونهم ويغضون منهم "فانكحوهن بإذن أهلهن" أي بإذن المالكين لهن، لأن منافعهن لهم لا يجوز لغيرهم أن ينتفع بشيء منها إلا بإذن من هي له. قوله "وآتوهن أجورهن بالمعروف" أي: أدوا إليهن مهورهن بما هو بالمعروف في الشرع، وقد استدل بهذا من قال: إن الأمة أحق بمهرها من سيدها، وإليه ذهب مالك، وذهب الجمهور إلى أن المهر للسيد، وإنما أضافها إليهن، لأن التأدية إليهن تأدية إلى سيدهن لكونهن ماله. قوله "محصنات" أي: عفائف. وقرأ الكسائي "محصنات" بكسر الصاد في جميع القرآن إلا في قوله "والمحصنات من النساء" وقرأ الباقون بالفتح في جميع القرآن. قوله "غير مسافحات" أي غير معلنات بالزنا. والأخدان: الأخلاء، والخدن والخدين المخادن: أي المصاحب- وقيل ذات الخدن: هي التي تزني سراً، فهو مقابل للمسافحة، وهي التي تجاهر بالزنا، وقيل: المسافحة، المبذولة، وذات الخدن، التي تزني بواحد. وكانت العرب تعيب الإعلان بالزنا ولا تعيب اتخاذ الأخدان، ثم رفع الإسلام جميع ذلك، قال الله "ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن". قوله "فإذا أحصن" قرأ عاصم وحمزة والكسائي بفتح الهمزة. وقرأ الباقون بضمها، والمراد بالإحصان هنا الإسلام. روي ذلك عن ابن مسعود وابن عمر وأنس والأسود بن يزيد وزر بن حبيش وسعيد بن جبير وعطاء وإبراهيم النخعي والشعبي والسدي وروي عن عمر بن الخطاب بإسناد منقطع وهو الذي نص عليه الشافعي، وبه قال الجمهور. قال ابن عباس وأبو الدرداء ومجاهد وعكرمة وطاوس وسعيد بن جبير والحسن وقتادة وغيرهم: إنه التزويج. وروي عن الشافعي فعلى القول الأول لا حد على الأمة الكافرة. وعلى القول الثاني لا حد على الأمة التي لم تتزوج. وقال القاسم وسالم: إحصانها إسلامها وعفافها. وقال ابن جرير: إن معنى القراءتين مختلف، فمن قرأ أحصن بضم الهمزة فمعناه التزويج ومن قرأ بفتح الهمزة فمعناه الإسلام. وقال قوم: إن الإحصان المذكور في الآية هو التزويج، ولكن الحد واجب على الأمة المسلمة إذا زنت قبل أن تتزوج بالسنة، وبه قال الزهري. قال ابن عبد البر: ظاهر قول الله عز وجل يقتضي أنه لا حد على الأمة وإن كانت مسلمة إلا بعد التزويج، ثم جاءت السنة بجلدها وإن لم تحصن، وكان ذلك زيادة بيان. قال القرطبي: ظهر المسلم حمى لا يستباح إلا بيقين، ولا يقين مع الاختلاف لولا ما جاء في صحيح السنة من الجلد. قال ابن كثير في تفسيره: والأظهر والله أعلم أن المراد بالإحصان هنا التزويج، لأن سياق الآية يدل عليه حيث يقول سبحانه "ومن لم يستطع منكم طولاً" إلى قوله "فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب" فالسياق كله في الفتيات المؤمنات فتعين أن المراد بقوله "فإذا أحصن" أي: تزوجن كما فسره به ابن عباس ومن تبعه، قال: وعلى كل من القولين إشكال على مذهب الجمهور، لأنهم يقولون: إن الأمة إذا زنت فعليها خمسون جلدة سواء كانت مسلمة أو كافرة مزوجة أو بكراً، مع أن مفهوم الآية يقتضي أنه لا حد على غير المحصنة من الإماء. وقد اختلف أجوبتهم عن ذلك، ثم ذكر أن منهم من أجاب وهم الجمهور بتقديم منطوق الأحاديث على هذا المفهوم، ومنهم من عمل على مفهوم الآية، وقال: إذا زنت ولم تحصن فلا حد عليها وإنما تضرب تأديباً. قال: وهو المحكي عن ابن عباس وإليه ذهب طاوس وسعيد بن جبير وأبو عبيد وداود الظاهري في رواية عنه، فهؤلاء قدموا مفهوم الآية على العموم، وأجابوا عن مثل حديث أبي هريرة وزيد بن خالد في الصحيحين وغيرهما "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الأمة: إذا زنت ولم تحصن، قال: إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها ثم بيعوها ولو بضفير" بأن المراد بالجلد هنا التأديب وهو تعسف، وأيضاً قد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ولا يثرب عليها. ثم إن زنت فليجلدها الحد" الحديث. ولمسلم من حديث علي قال: "يا أيها الناس أقيموا على أرقائكم الحد من أحصن ومن لم يحصن، فإن أمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم زنت فأمرني أن أجلدها" الحديث. وأما ما أخرجه سعيد بن منصور وابن خزيمة والبيهقي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس على الأمة حد حتى تحصن بزوج، فإذا أحصنت بزوج فعليها نصف ما على المحصنات من العذاب" فقد قال ابن خزيمة والبيهقي: إن رفعه خطأ، والصواب وقفه. قوله "فإن أتين بفاحشة" الفاحشة هنا الزنا "فعليهن نصف ما على المحصنات" أي الحرائر الأبكار، لأن الثيب عليها الرجم وهو لا يتبعض، وقيل: المراد بالمحصنات هنا المزوجات، لأن عليهن الجلد والرجم، والرجم لا يتبعض، فصار عليهن نصف ما عليهن من الجلد. والمراد بالعذاب هنا الجلد، وإنما نقص حد الإماء عن حد الحرائر لأنهن أضعف، وقيل: لأنهن لا يصلن إلى مرادهن كما تصل الحرائر، وقيل: لأن العقوبة تجب على قدر النعمة كما في قوله تعالى "يضاعف لها العذاب ضعفين" ولم يذكر الله سبحانه في هذه الآية العبيد وهم لاحقون بالإماء بطريق القياس وكما يكون على الإماء والعبيد نصف الحد في الزنا، كذلك يكون عليهم نصف الحد في القذف والشرب، والإشارة بقوله: "ذلك لمن خشي العنت منكم" إلى نكاح الإماء. والعنت: الوقوع في الإثم، وأصله في اللغة انكسار العظم بعد الجبر، ثم استعير لكل مشقة "وأن تصبروا" عن نكاح الإماء "خير لكم" من نكاحهن: أي صبركم خير لكم لأن نكاحهن يفضي إلى إرقاق الولد والغض من النفس.

يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ

قوله 26- "يريد الله ليبين لكم" اللام هنا هي لام كي التي تعاقب أن. قال الفراء: العرب تعاقب بين لام كي وأن، فتأتي باللام التي على معنى كي في موضع أن في أردت وأمرت، فيقولون: أردت أن تفعل وأردت لتفعل، ومنه "يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم" "وأمرت لأعدل بينكم" "وأمرنا لنسلم لرب العالمين" ومنه: أريد لأنسى ذكرها فكأنما تمثل لي ليلى بكل سبيل وحكى الزجاج هذا القول وقال: لو كانت اللام بمعنى أن لدخلت عليها لام أخرى كما تقول: جئت كي تكرمني، ثم تقول: جئت لكي تكرمني، وأنشد: أردت لكيما يعلم الناس أنها سراويل قيس والوفود شهود وقيل: اللام زائدة لتأكيد معنى الاستقبال، أو لتأكيد إرادة التبيين، ومفعول يبين محذوف: أي ليبين لكم ما خفي عليكم من الخير، وقيل: مفعول يريد محذوف: أي يريد الله هذا ليبين لكم، وبه قال البصريون وهو مروي عن سيبويه، وقيل: اللام بنفسها ناصبة للفعل من غير إضمار أن، وهي وما بعدها مفعول للفعل المتقدم، وهو مثل قول الفراء السابق، وقال بعض البصريين: إن قوله "يريد" مؤول بالمصدر مرفوع بالابتداء مثل: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه. ومعنى الآية: يريد الله ليبين لكم مصالح دينكم وما يحل لكم وما يحرم عليكم "ويهديكم سنن الذين من قبلكم" أي: طرقهم، وهم الأنبياء وأتباعهم لتقتدوا بهم "ويتوب عليكم" أي: ويريد أن يتوب عليكم فتوبوا إليه وتلافوا ما فرط منكم بالتوبة يغفر لكم ذنوبكم.

وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا

27- "والله يريد أن يتوب عليكم" هذا تأكيد لما قد فهم من قوله "ويتوب عليكم" المتقدم، وقيل: الأول معناه للإرشاد إلى الطاعات: والثاني فعل أسبابها، وقيل: إن الثاني لبيان كمال منفعة إرادته سبحانه وكمال ضرر ما يريده الذين يتبعون الشهوات، وليس المراد به مجرد إرادة التوبة حتى يكون من باب التكرير للتأكيد، قيل: هذه الإرادة منه سبحانه في جميع أحكام الشرع، وقيل: في نكاح الأمة فقط. واختلف في تعيين المتبعين للشهوات، فقيل: هم الزناة، وقيل: اليهود والنصارى، وقيل: اليهود خاصة، وقيل: هم المجوس لأنهم أرادوا أن يتبعهم المسلمون في نكاح الأخوات من الأب. والأول أولى. والميل: العدول عن طريق الاستواء. والمراد بالشهوات هنا ما حرمه الشرع ودون ما أحله، ووصف الميل بالعظم بالنسبة إلى ميل من اقترف خطيئة نادراً.

يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا

قوله 28- " يريد الله أن يخفف عنكم " بما مر من الترخيص لكم، أو بكل ما فيه تخفيف عليكم "وخلق الإنسان ضعيفاً" عاجزاً غير قادر على ملك نفسه ودفعها عن شهواتها وفاء بحق التكليف فهو محتاج من هذه الحيثية إلى التخفيف. فلهذا أراد الله سبحانه التخفيف عنه. وقد أخرج البخاري وغيره عن ابن عباس قال: حرم من النسب سبع ومن الصهر سبع، ثم قرأ "حرمت عليكم أمهاتكم" إلى قوله "وبنات الأخت" هذا من النسب، وباقي الآية من الصهر، والسابعة "ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء". وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر والبيهقي عن عمران بن حصين في قوله "وأمهات نسائكم" قال: هي مبهمة. وأخرج هؤلاء عن ابن عباس قال: هي مبهمة إذا طلق الرجل امرأته قبل أن يدخل بها أو ماتت لم تحل له أمها. وأخرج هؤلاء إلا البيهقي عن علي في الرجل يتزوج المرأة ثم يطلقها، أو ماتت قبل أن يدخل بها هل تحل له أمها؟ قال: هي بمنزلة الربيبة. وأخرج هؤلاء عن زيد بن ثابت أنه كان يقول: إذا ماتت عنده فأخذ ميراثها كره أن يخلف على أمها، وإذا طلقها قبل أن يدخل بها فلا بأس أن يتزوج أمها. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد قال في قوله "وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم" أريد بهما الدخول جميعاً. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن عبد الله بن الزبير قال: الربيبة والأم سواء لا بأس بهما إذا لم يدخل بالمرأة. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي حاتم بسند صحيح عن مالك بن أوس بن الحدثان قال: كانت عندي امرأة فتوفيت، وقد ولدت لي فوجدت عليها، فلقيني علي بن أبي طالب فقال: ما لك؟ فقلت: توفيت المرأة، فقال علي: لها ابنة؟ قلت: نعم وهي بالطائف، قال: كانت في حجرك؟ قلت: لا. قال: فانكحها، قلت: فأين قول الله "وربائبكم اللاتي في حجوركم"؟ قال: إنها لم تكن في حجرك. وقد قدمنا قول من قال: إنه إسناد ثابت على شرط مسلم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال: الدخول الجماع. وأخرج عبد الرزاق في المصنف وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عطاء قال: كنا نتحدث أن محمداً صلى الله عليه وسلم لما نكح امرأة زيد قال المشركون بمكة في ذلك، فأنزل الله: " وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم" ونزلت " وما جعل أدعياءكم أبناءكم " ونزلت "ما كان محمد أبا أحد من رجالكم". وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله "وأن تجمعوا بين الأختين" قال: يعني في النكاح. وأخرج عبد بن حميد عنه في الآية قال: ذلك في الحرائر، فأما المماليك فلا بأس. وأخرج ابن المنذر عنه نحوه من طريق أخرى. وأخرج مالك والشافعي وعبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن عثمان بن عفان: أن رجلاً سأله عن الأختين في ملك اليمين هل يجمع بينهما؟ قال: أحلتهما آية وحرمتهما آية، وما كنت لأصنع ذلك، فخرج من عنده، فلقي رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أراه علي بن أبي طالب، فسأله عن ذلك فقال: لو كان لي من الأمر شيء ثم وجدت أحداً فعل ذلك لجعلته نكالاً. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر والبيهقي عن علي: أنه سئل عن رجل له أمتان أختان، وطئ إحداهما وأراد أن يطأ الأخرى، فقال: لا حتى يخرجها من ملكه، وقيل: فإن زوجها عبده؟ قال: لا حتى يخرجها من ملكه. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي حاتم والطبراني عن ابن مسعود: أنه سئل عن الرجل يجمع بين الأختين الأمتين فكرهه، فقيل يقول الله "إلا ما ملكت أيمانكم" فقال: وبعيرك أيضاً مما ملكت يمينك. وأخرج ابن أبي شيبة والبيهقي من طريق أبي صالح عن علي بن أبي طالب قال في الأختين المملوكتين: أحلتهما آية وحرمتهما آية ولا آمر ولا أنهي، ولا أحل ولا أحرم، ولا أفعل أنا وأهل بيتي. وأخرج أحمد عن قيس قال: قلت لابن عباس: أيقع الرجل على المرأة وابنتها مملوكتين له؟ فقال: أحلتهما آية وحرمتهما آية، ولم أكن لأفعله. وأخرج عبد الرزاق والبيهقي عنه في الأختين من ملك اليمين: أحلتهما آية وحرمتهما آية. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد والبيهقي عن ابن عمر قال: إذا كان للرجل جاريتان أختان فغشي إحداهما فلا يقرب الأخرى حتى يخرج التي غشي من ملكه. وأخرج البيهقي عن مقاتل بن سليمان قال: إنما قال الله في نساء الآباء "إلا ما قد سلف" لأن العرب كانوا ينكحون نساء الآباء، ثم حرم النسب والصهر فلم يقل إلا ما قد سلف، لأن العرب كانت لا تنكح النسب والصهر. وقال في الأختين "إلا ما قد سلف" لأنهم كانوا يجمعون بينهما فحرم جمعهما جميعاً إلا ما قد سلف قبل التحريم "إن الله كان غفوراً رحيماً" لما كان من جماع الأختين قبل التحريم. وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم عن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث يوم حنين جيشاً إلى أوطاس، فلقوا عدواً فقاتلوهم، فظهروا عليهم وأصابوا لهم سبايا، فكأن ناساً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تحرجوا من غشيانهن من أجل أزواجهن من المشركين، فأنزل الله في ذلك "والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم" يقول: إلا ما أفاء الله عليكم. وأخرج الطبراني عن ابن عباس أن ذلك سبب نزول الآية. وأخرج ابن أبي شيبة عن سعيد بن جبير مثله. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي عن ابن عباس في قوله "والمحصنات من النساء" قال: كل ذات زوج إتيانها زنا إلا ما سبيت. وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة والطبراني عن علي وابن مسعود في قوله "والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم" قال: على المشركات إذا سبين حلت له. وقال ابن مسعود: المشركات والمسلمات. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود قال: إذا بيعت الأمة ولها زوج فسيدها أحق ببضعها. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله "والمحصنات من النساء" قال: ذوات الأزواج. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن أنس بن مالك مثله. وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن مسعود مثله. وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله "والمحصنات" قال: العفيفة العاقلة من مسلمة أو من أهل الكتاب. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عنه في الآية قال: لا يحل له أن يتزوج فوق الأربع، فما زاد فهو عليه حرام كأمه وأخته. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن أبي العالية في قوله "والمحصنات من النساء" قال: يقول انكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع، ثم حرم ما حرم من النسب والصهر، ثم قال "والمحصنات من النساء" فرجع إلى أول السورة فقال: هن حرام أيضاً، إلا لمن نكح بصداق وسنة وشهود. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن جرير عن عبيدة قال: أحل الله لك أربعاً في أول السورة، وحرم نكاح كل محصنة بعد الأربع إلا ما ملكت يمينك. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الإحصان إحصانان: إحصان نكاح، وإحصان عفاف" فمن قرأها والمحصنات بكسر الصاد فهن العفائف، ومن قرأها والمحصنات بالفتح فهن المتزوجات. قال ابن أبي حاتم: قال أبي هذا حديث منكر. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله "وأحل لكم ما وراء ذلكم" قال: ما وراء هذا النسب. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي قال: ما دون الأربع. وأخرج ابن جرير عن عطاء قال: ما وراء ذات القرابة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن قتادة في قوله "وأحل لكم ما وراء ذلكم" قال: ما ملكت أيمانكم. وأخرج ابن أبي حاتم عن عبيدة السلماني نحوه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله "محصنين غير مسافحين" قال: غير زانين. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس مثله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله "وآتوهن أجورهن" يقول: إذا تزوج الرجل منكم المرأة ثم نكحها مرة واحدة فقد وجب صداقها كله والاستمتاع هو النكاح، وهو قوله "وآتوا النساء صدقاتهن". وأخرج الطبراني والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال: كانت المتعة في أول الإسلام، وكانوا يقرأون هذه الآية فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى الآية، فكان الرجل يقدم البلدة ليس له بها معرفة فيتزوج بقدر ما يرى أنه يفرغ من حاجته ليحفظ متاعه ويصلح شأنه. حتى نزلت هذه الآية "حرمت عليكم أمهاتكم" فنسخت الأولى فحرمت المتعة وتصديقها من القرآن " إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم " وما سوى هذا الفرج فهو حرام. وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن الأنباري في المصاحف والحاكم وصححه أن ابن عباس قرأ فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن أبي بن كعب أنه قرأها كذلك. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد، أن هذه الآية في نكاح المتعة، وكذلك أخرج ابن جرير عن السدي والأحاديث في تحليل المتعة ثم تحريمها، وهل كان نسخها مرة أو مرتين؟ مذكورة في كتب الحديث. وقد أخرج ابن جرير في تهذيبه وابن المنذر والطبراني والبيهقي عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: ماذا صنعت ذهبت الركاب بفتياك وقالت فيها الشعراء قال: وما قالوا؟ قلت: قالوا: أقــول للشــيخ لمــا طــال مجلســه يا صاح هل لك في فتيا ابن عباس هل لك في رخصة الأعطاف آنسة تكـون مثواك حتى مصــدر النـاس فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، لا والله ما بهذا أفتيت ولا هذا أردت ولا أحللتها إلا للمضطر وفي لفظ ولا أحللت منها إلا ما أحل الله من الميتة والدم ولحم الخنزير. وأخرج ابن جرير عن حضرمي أن رجالاً كانوا يفرضون المهر ثم عسى أن تدرك أحدهم العسرة، فقال الله "ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله "ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به" قال: الراضي أن يوفي لها صداقها ثم يخيرها. وأخرج ابن جرير عن زيد في الآية قال: إن وضعت لك منه شيئاً فهو سائغ. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عباس "ومن لم يستطع منكم طولاً" يقول: من لم يكن له سعة "أن ينكح المحصنات" يقول الحرائر: " فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات " فلينكح من إماء المؤمنين "محصنات غير مسافحات" يعني عفائف غير زواني في سر ولا علانية "ولا متخذات أخدان" يعني أخلاء "فإذا أحصن" ثم إذا تزوجت حراً ثم زنت "فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب" قال: من الجلد "ذلك لمن خشي العنت منكم" هو الزنا، فليس لأحد من الأحرار أن ينكح الأمة إلا أن لا يقدر على حرة وهو يخشى العنت "وأن تصبروا" عن نكاح الإماء "فهو خير لكم". وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والبيهقي عن مجاهد "ومن لم يستطع منكم طولاً" يعني: من لا يجد منكم غنى "أن ينكح المحصنات" يعني الحرائر فلينكح الأمة المؤمنة "وأن تصبروا" عن نكاح الإماء "خير لكم" وهو حلال. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عنه قال: مما وسع الله به على هذه الأمة نكاح الأمة النصرانية واليهودية وإن كان موسراً. وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة والبيهقي عنه قال: لا يصلح نكاح إماء أهل الكتاب، لأن الله يقول "من فتياتكم المؤمنات". وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة عن الحسن "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تنكح الأمة على الحرة والحرة على الأمة، ومن وجد طولاً لحرة فلا ينكح أمة". وأخرج ابن أبي شيبة والبيهقي عن ابن عباس قال: لا يتزوج الحر من الإماء إلا واحدة وأخرج ابن أبي شيبة عن قتادة نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل في قوله: "والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض" يقول: أنتم إخوة بعضكم من بعض. وأخرج ابن المنذر عن السدي "فانكحوهن بإذن أهلهن" قال: بإذن مواليهن "وآتوهن أجورهن" قال: مهورهن. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: المسافحات المعلنات بالزنا، والمتخذات أخدان: ذات الخليل الواحد. قال: كان أهل الجاهلية يحرمون ما ظهر من الزنا ويستحلون ما خفي، فأنزل الله "ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن". وأخرج ابن أبي حاتم عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإذا أحصن" قال: إحصانها إسلامها. وقال علي: اجلدوهن. قال ابن أبي حاتم حديث منكر وقال ابن كثير في إسناده ضعيف ومبهم لم يسم، ومثله لا تقوم به حجة. وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن ابن عباس قال: حد العبد يفتري على الحر أربعون. وأخرج ابن جرير عنه قال: العنت الزنا. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي "ويريد الذين يتبعون الشهوات" قال: هم اليهود والنصارى. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس "ويريد الذين يتبعون الشهوات" قال: الزنا. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد "يريد الله أن يخفف عنكم" يقول: في نكاح الأمة وفي كل شيء فيه يسر. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد "يريد الله أن يخفف عنكم" قال: رخص لكم في نكاح الإماء "وخلق الإنسان ضعيفاً" قال: لو لم يرخص له فيها. وأخرج ابن جرير والبيهقي في الشعب عن ابن عباس قال: ثماني آيات نزلت في سورة النساء هن خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت: أولهن "يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم"، والثانية "والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً"، والثالثة "يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفاً"، والرابعة "إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلاً كريماً"، والخامسة "إن الله لا يظلم مثقال ذرة" الآية، والسادسة "ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله" الآية، والسابعة "إن الله لا يغفر أن يشرك به" الآية، والثامنة " والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله " للذين عملوا من الذنوب "غفوراً رحيماً".

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا

الباطل: ما ليس بحق، ووجوه ذلك كثيرة، ومن الباطل البيوعات التي نهى عنها الشرع. والتجارة في اللغة عبارة عن المعارضة، وهذا الاستثناء منقطع: أي لكن تجارة عن تراض منكم جائزة بينكم، أو لكن كون تجارة عن تراض منكم حلالاً لكم. وقوله 29- "عن تراض" صفة لتجارة: أي كائنة عن تراض، وإنما نص الله سبحانه على التجارة دون سائر أنواع المعاوضات لكونها أكثرها وأغلبها، وتطلق التجارة على جزاء الأعمال من الله على وجه المجاز، ومنه قوله تعالى: "هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم". وقوله "يرجون تجارة لن تبور". واختلف العلماء في التراضي، فقالت طائفة: تمامه وجوبه بافتراق الأبدان بعد عقد البيع، أو بأن يقول أحدهما لصاحبه: اختركما في الحديث الصحيح "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا أو يقول أحدهما لصاحبه: اختر". وإليه ذهب جماعة من الصحابة والتابعين، وبه قال الشافعي والثوري والأوزاعي والليث وابن عيينة وإسحاق وغيرهم. وقال مالك وأبو حنيفة: تمام البيع هو أن يعقد البيع بالألسنة فيرتفع بذلك الخيار وأجابوا عن الحديث بما لا طائل تحته. وقد قرئ تجارة بالرفع على أن كان تامة، وتجارة بالنصب على أنها ناقصة. قوله "ولا تقتلوا أنفسكم" أي: لا يقتل بعضكم أيها المسلمون بعضاً إلا بسبب أثبته الشرع، أو لا تقتلوا أنفسكم باقتراف المعاصي أو المراد النهي عن أن يقتل الإنسان نفسه حقيقة. ولا مانع من حمل الآية على جميع المعاني. ومما يدل على ذلك احتجاج عمرو بن العاص بها حين لم يغتسل بالماء البارد حين أجنب في غزاة ذات السلاسل، فقرر النبي صلى الله عليه وسلم احتجاجه وهو في مسند أحمد وسنن أبي داود وغيرهما.

وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا

قوله 30- "ومن يفعل ذلك" أي: القتل خاصة أو أكل أموال الناس ظلماً والقتل عدواناً وظلماً، وقيل: هو إشارة إلى كل ما نهي عنه في هذه السورة وقال ابن جرير: إنه عائد على ما نهي عنه من آخر وعيد وهو قوله تعالى "يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً" لأن كل ما نهي عنه من أول السورة قرن به وعيد إلا من قوله "يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم" فإنه لا وعيد بعده إلا قوله "ومن يفعل ذلك عدواناً وظلماً" والعدوان: تجاوز الحد. والظلم: وضع الشيء في غير موضعه، وقيل: إن معنى العدوان والظلم واحد، وتكريره لقصد التأكيد كما في قول الشاعر: وألفى قولها كذباً ومينا وخرج بقيد العدوان والظلم ما كان من القتل بحق كالقصاص وقتل المرتد وسائر الحدود الشرعية وكذلك قتل الخطأ. قوله "فسوف نصليه" جواب الشرط: أي ندخله ناراً عظيمة "وكان ذلك" أي: إصلاؤه النار "على الله يسيراً" لأنه لا يعجزه شيء. وقرئ: نصليه بفتح النون، روي ذلك عن الأعمش والنخعي، وهو على هذه القراءة منقول من صلى، ومنه شاة مصلية.

إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا

قوله 31- "إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم" أي: إن تجتنبوا كبائر الذنوب التي نهاكم الله عنها "نكفر عنكم سيئاتكم" أي: ذنوبكم التي هي صغائر، وحمل السيئات على الصغائر هنا متعين لذكر الكبائر قبلها، وجعل اجتنابها شرطاً لتكفير السيئات. وقد اختلف أهل الأصول في تحقيق معنى الكبائر ثم في عددها، فأما في تحقيقها فقيل: إن الذنوب كلها كبائر، وإنما يقال لبعضها صغيرة بالإضافة إلى ما هو أكبر منها، كما يقال: الزنا صغيرة بالإضافة إلى الكفر، والقبلة المحرمة صغيرة بالإضافة إلى الزنا، وقد روي نحو هذا عن الاسفرايني والجويني والقشيري وغيرهم قالوا: والمراد بالكبائر التي يكون اجتنابها سبباً لتكفير السيئات هي الشرك، واستدلوا على ذلك بقراءة من قرأ " إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه " وعلى قراءة الجمع، فالمراد أجناس الكفر، واستدلوا على ما قالوه بقوله تعالى "إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء" قالوا: فهذه الآية مقيدة لقوله "إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه" وقال ابن عباس: الكبيرة كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب. وقال ابن مسعود: الكبائر ما نهى الله عنه في هذه السورة إلى ثلاث وثلاثين آية. وقال سعيد بن جبير: كل ذنب نسبه الله إلى النار فهو كبيرة. وقال جماعة من أهل الأصول: الكبائر كل ذنب رتب الله عليه الحد أو صرح بالوعيد فيه. وقيل غير ذلك مما لا فائدة في التطويل بذكره. وأما الاختلاف في عددها فقيل: إنها سبع، وقيل: سبعون، وقيل: سبعمائة، وقيل: غير منحصرة، ولكن بعضها أكبر من بعض، وسيأتي ما ورد في ذلك إن شاء الله. قوله "وندخلكم مدخلاً" أي: مكان دخول وهو الجنة "كريماً" أي: حسناً مرضياً، وقد قرأ أبو عمرو وابن كثير وابن عامر والكوفيون "مدخلا" بضم الميم. وقرأ أهل المدينة بفتح الميم، وكلاهما اسم مكان، ويجوز أن يكون مصدراً. وقد أخرج ابن أبي حاتم والطبراني، قال السيوطي بسند صحيح عن ابن مسعود في قوله تعالى "يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل" قال: إنها محكمة ما نسخت ولا تنسخ إلى يوم القيامة. وأخرج ابن جرير عن عكرمة والحسن في الآية قال: كان الرجل يتحرج أن يأكل عند أحد من الناس بعد ما نزلت هذه الآية، فنسخ ذلك الآية التي في النور "ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم" الآية. وأخرج ابن ماجه وابن المنذر عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما البيع عن تراض". وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي صالح وعكرمة في قوله تعالى "ولا تقتلوا أنفسكم" قالا: نهاهم عن قتل بعضهم بعضاً. وأخرج ابن المنذر عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن جرير عن عطاء بن أبي رباح نحوه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن السدي: "ولا تقتلوا أنفسكم" قال: أهل دينكم. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله "ومن يفعل ذلك عدواناً وظلماً" يعني: متعمداً اعتداءً بغير حق "وكان ذلك على الله يسيراً" يقول: كان عذابه على الله هيناً. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: أرأيت قوله تعالى "ومن يفعل ذلك عدواناً وظلماً فسوف نصليه ناراً" في كل ذلك أم في قوله "ولا تقتلوا أنفسكم"؟ قال: بل في قوله "ولا تقتلوا أنفسكم". وأخرج عبد بن حميد عن أنس بن مالك قال: هان ما سألكم ربكم "إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم". وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والطبراني والبيهقي في الشعب عن ابن عباس قال: كل ما نهى عنه فهو كبيرة، وقد ذكرت الطرفة: يعني النظرة. وأخرج ابن جرير عنه قال: كل شيء عصي الله فيه هو كبيرة. وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال: كل ما وعد الله عليه النار كبيرة. وأخرج ابن جرير والبيهقي في الشعب عنه قال: الكبائر كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب. وأخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير ما قدمناه عنه. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن ابن عباس: أنه سئل عن الكبائر أسبع هي؟ قال: هي إلى السبعين أقرب. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه: أن رجلاً سأله كم الكبائر أسبع هي؟ قال: هي إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع، غير أنه لا كبيرة مع استغفار، ولا صغيرة مع إصرار. وأخرج البيهقي في الشعب عنه كل ذنب أصر عليه العبد كبيرة، وليس بكبيرة ما تاب عنه العبد. وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: وما هي يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، والسحر، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات" وثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي بكرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين وكان متكئاً فجلس فقال: ألا وقول الزور، وشهادة الزور، فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت". وأخرج البخاري وغيره عن ابن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين وقتل النفس شك شعبة واليمين الغموس". وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عمر وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه، قالوا: وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه". والأحاديث في تعداد الكبائر وتعيينها كثيرة جداً، فمن رام الوقوف على ما ورد في ذلك، فعليه بكتاب الزواجر في الكبائر، فإنه قد أجمع فأوعى. واعلم أنه لا بد من تقييد ما في هذه الآية من تكفير السيئات بمجرد اجتناب الكبائر بما أخرجه النسائي وابن ماجه وابن جرير وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن أبي هريرة وأبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس على المنبر ثم قال: "والذي نفسي بيده ما من عبد يصلي الصلوات الخمس ويصوم رمضان ويؤدي الزكاة ويجتنب الكبائر السبع إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يوم القيامة حتى إنها لتصفق، ثم تلا "إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم"". وأخرج أبو عبيد في فضائله وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والطبراني والحاكم والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود قال: إن في سورة النساء خمس آيات ما يسرني أن لي بها الدنيا وما فيها، ولقد علمت أن العلماء إذا مروا بها يعرفونها: قوله تعالى "إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه" الآية، وقوله "إن الله لا يظلم مثقال ذرة" الآية، وقوله "إن الله لا يغفر أن يشرك به" الآية، وقوله " ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك " الآية، وقوله "ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه" الآية.

وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا

قوله 32- "ولا تتمنوا" التمني نوع من الإرادة يتعلق بالمستقبل، كالتلهف نوع منها يتعلق بالماضي، وفيه النهي عن أن يتمنى الإنسان ما فضل الله به غيره من الناس عليه، فإن ذلك نوع من عدم الرضا بالقسمة التي قسمها الله بين عباده على مقتضى إرادته وحكمته البالغة، وفيه أيضاً نوع من الحسد المنهي عنه إذا صحبه إرادة زوال تلك النعمة عن الغير. وقد اختلف العلماء في الغبطة هل تجوز أم لا؟ وهي أن يتمنى أن يكون به حال مثل حال صاحبه من دون أن يتمنى زوال ذلك الحال عن صاحبه، فذهب الجمهور إلى جواز ذلك، واستدلوا بالحديث الصحيح "لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الله وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار" وقد بوب عليه البخاري باب الاغتباط في العلم والحكم وعموم لفظ الآية يقتضي تحريم تمني ما وقع به التفضيل سواء كان مصحوباً بما يصير به من جنس الحسد أم لا، وما ورد في السنة من جواز ذلك في أمور معينة يكون مخصصاً لهذا العموم، وسيأتي ذكر سبب نزول الآية، ولكن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وقوله "للرجال نصيب" إلخ، فيه تخصيص بعد التعميم ورجوع إلى ما يتضمنه سبب نزول الآية من أن أم سلمة قالت: يا رسول الله يغزو الرجال ولا نغزي ولا نقاتل فنستشهد، وإنما لنا نصف الميراث فنزلت. أخرجه عبد الرزاق وسعيد بن منصور وعبد بن حميد والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم والبيهقي، وقد روي نحو هذا السبب من طرق بألفاظ مختلفة. والمعنى في الآية: أن الله جعل لكل من الفريقين نصيباً على حسب ما تقتضيه إرادته وحكمته، وعبر عن ذلك المجعول لكل فريق من فريقي النساء والرجال بالنصيب مما اكتسبوا على طريق الاستعارة التبعية شبه اقتضاء حال كل فريق لنصيبه باكتسابه إياه. قال قتادة: للرجال نصيب مما اكتسبوا من الثواب والعقاب وللنساء كذلك. وقال ابن عباس: المراد بذلك الميراث والاكتساب على هذا القول بمعنى ما ذكرناه. قوله "واسألوا الله من فضله" عطف على قوله "ولا تتمنوا" وتوسيط التعليل بقوله "للرجال نصيب" إلخ. بين المعطوف والمعطوف عليه لتقرير ما تضمنه النهي، وهذا الأمر يدل على وجوب سؤال الله سبحانه من فضله كما قاله جماعة من أهل العلم.

وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآَتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا

قوله 33- "ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون" أي: جعلنا لكل إنسان ورثة موالي يلون ميراثه، فلكل مفعول ثان قدم على الفعل لتأكيد الشمول، وهذه الجملة مقررة لمضمون ما قبلها: أي ليتبع كل أحد ما قسم الله له من الميراث، ولا يتمن ما فضل الله به غيره عليه- وقد قيل إن هذه الآية منسوخة بقوله بعدها " والذين عقدت أيمانكم " وقيل: العكس كما روى ذلك ابن جرير. وذهب الجمهور إلى أن الناسخ لقوله " والذين عقدت أيمانكم " قوله تعالى " وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض " والموالي جمع مولى، وهو يطلق على المعتق والمعتق والناصر وابن العم والجار وقيل: والمراد هنا العصبة: أي ولكل جعلنا عصبة يرثون ما أبقت الفرائض. قوله " والذين عقدت أيمانكم " المراد بهم موالي الموالاة: كان الرجل من أهل الجاهلية يعاقد الرجل: أي يحالفه فيستحق من ميراثه نصيباً، ثم ثبت في صدر الإسلام بهذه الآية، ثم نسخ بقوله " وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض ". وقراءة الجمهور عاقدت وروي عن حمزة أنه قرأ عقدت بتشديد القاف على التكثير: أي والذين عقدت لهم أيمانكم الحلف، أو عقدت عهودهم أيمانكم، والتقدير على قراءة الجمهور: والذين عاقدتهم أيمانكم فآتوهم نصيبهم: أي ما جعلتموه لهم بعقد الحلف.

الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُ

قوله 34- "الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض" هذه الجملة مستأنفة مشتملة على بيان العلة التي استحق بها الرجال الزيادة، كأنه قيل: كيف استحق الرجال ما استحقوا مما لم تشاركهم فيه النساء، فقال "الرجال قوامون" إلخ، والمراد أنهم يقومون بالذب عنهن كما تقوم الحكام والأمراء بالذب عن الرعاية، وهم أيضاً يقومون ما يحتجن إليه من النفقة والكسوة والمسكن وجاء بصيغة المبالغة في قوله "قوامون" ليدل على أصالتهم في هذا الأمر، والباء في قوله "بما فضل الله" للسببية والضمير في قوله "بعضهم على بعض" للرجال والنساء: أي إنما استحقوا هذه المزية لتفضيل الله للرجال على النساء بما فضلهم به من كون فيهم الخلفاء والسلاطين والحكام والأمراء والغزاة وغير ذلك من الأمور. قوله "وبما أنفقوا" أي: وبسبب ما أنفقوا من أموالهم، وما مصدرية أو موصولة، وكذلك هي في قوله "بما فضل الله" ومن تبعيضية، والمراد ما أنفقوه في الإنفاق على النساء، وبما دفعوه في مهورهن من أموالهم، وكذلك ما ينفقونه في الجهاد وما يلزمهم في العقل. وقد استدل جماعة من العلماء بهذه الآية على جواز فسخ النكاح إذا عجز الزوج عن نفقة زوجته وكسوتها، وبه قال مالك والشافعي وغيرهما. قوله "فالصالحات" أي من النساء "قانتات" أي: مطيعات لله قائمات بما يجب عليهن من حقوق الله وحقوق أزواجهن "حافظات للغيب" أي: لما يجب حفظه عند غيبة أزواجهن عنهن من حفظ نفوسهن وحفظ أموالهم، وما في قوله "بما حفظ الله" مصدرية: أي بحفظ الله. والمعنى: أنهن حافظات لغيب أزواجهن بحفظ الله لهن ومعونته وتسديده، أو حافظات له بما استحفظهن من أداء الأمانة إلى أزواجهن على الوجه الذي أمر الله به، أو حافظات له بحفظ الله لهن بما أوصى به الأزواج في شأنهن من حسن العشرة، ويجوز أن تكون ما موصولة والعائد محذوف. وقرأ أبو جعفر "بما حفظ الله" بنصب الاسم الشريف. والمعنى بما حفظن الله: أي حفظن أمره، أو حفظن دينه، فحذف الضمير الراجع إليهن للعلم به، وما على هذه القراءة مصدرية، أو موصولة، كالقراءة الأولى: أي بحفظهن الله، أو بالذي حفظن الله به. قوله "واللاتي تخافون نشوزهن" هذا خطاب للأزواج، قيل: الخوف هنا على بابه، وهو حالة تحدث في القلب عند حدوث أمر مكروه، أو عند ظن حدوثه، وقيل: المراد بالخوف هنا العلم. والنشوز: العصيان. وقد تقدم بيان أصل معناه في اللغة. قال ابن فارس: يقال نشزت المرأة: استعصت على بعلها، ونشز بعلها عليها: إذا ضربها وجفاها "فعظوهن" أي: ذكروهن بما أوجبه الله عليهن من الطاعة وحسن العشرة، ورغبوهن ورهبوهن "واهجروهن في المضاجع" يقال هجره: أي تباعد منه. والمضاجع: جمع مضجع، وهو محل الاضطجاع: أي تباعدوا عن مضاجعتهن ولا تدخلوهن تحت ما تجعلونه عليكم حال الاضطجاع من الثياب، وقيل: هو أن يوليها ظهره عند الاضطجاع، وقيل: هو كناية عن ترك جماعها، وقيل: لا تبيت معه في البيت الذي يضطجع فيه "واضربوهن" أي ضرباً غير مبرح. وظاهر النظم القرآني أنه يجوز للزوج أن يفعل جميع هذه الأمور عند مخافة النشوز، وقيل: إنه لا يهجرها إلا بعد عدم تأثير الوعظ، فإن أثر الوعظ لم ينتقل إلى الهجر، وإن كفاه الهجر لم ينتقل إلى الضرب "فإن أطعنكم" كما يجب وتركن النشوز "فلا تبغوا عليهن سبيلا" أي: لا تتعرضوا لهن بشيء مما يكرهن لا بقول ولا بفعل، وقيل المعنى: لا تكلفوهن الحب لكم فإنه لا يدخل تحت اختيارهن "إن الله كان علياً كبيراً" إشارة إلى الأزواج بخفض الجناح ولين الجانب: أي وإن كنتم تقدرون عليهن فاذكروا قدرة الله عليكم فإنها فوق كل قدرة، والله بالمرصاد لكم. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله "ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض" يقول: لا يتمنى الرجل فيقول: ليت أن لي مال فلان وأهله، فنهى الله سبحانه عن ذلك، ولكن يسأل الله من فضله "للرجال نصيب مما اكتسبوا" يعني: مما ترك الوالدان والأقربون للذكر مثل حظ الأنثيين. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة: أن سبب نزول الآية أن النساء قلن: لو جعل أنصباؤنا في الميراث كأنصباء الرجال؟ وقال الرجال: إنا لنرجو أن نفضل على النساء بحسناتنا في الآخرة كما فضلنا عليهن في الميراث. وقد تقدم ذكر سبب النزول. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله "واسألوا الله من فضله" قال: ليس بعرض الدنيا. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير "واسألوا الله من فضله" قال العبادة ليس من أمر الدنيا. وأخرج الترمذي عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سلوا الله من فضله، فإن الله يحب أن يسأل". قال الترمذي: كذا رواه حماد بن واقد وليس بالحافظ، ورواه أبو نعيم عن إسرائيل عن حكيم بن جبير عن رجل عن النبي صلى الله عليه وسلم. وحديث أبي نعيم أشبه أن يكون أصح وكذا رواه ابن جرير وابن مردويه، ورواه أيضاً ابن مردويه من حديث ابن عباس. وأخرج البخاري وأبو داود والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم والبيهقي في سننه عن ابن عباس "ولكل جعلنا موالي" قال: ورثة " والذين عقدت أيمانكم " قال: كان المهاجرون لما قدموا المدينة يرث المهاجري الأنصاري دون ذوي رحمه للأخوة التي آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهم، فلما نزلت "ولكل جعلنا موالي" نسخت، ثم قال " والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم " من النصر والرفادة والنصيحة، وقد ذهب الميراث ويوصى له. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه "ولكل جعلنا موالي" قال: عصبة " والذين عقدت أيمانكم " قال: كان الرجلان أيهما مات ورثه الآخر، فأنزل الله " وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا " يقول: إلا أن يوصوا لأوليائهم الذين عاقدوا وصية فهو لهم جائز من ثلث مال الميت وهو المعروف. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في الآية قال: كان الرجل قبل الإسلام يعاقد الرجل يقول: ترثني وأرثك، وكان الأحياء يتحالفون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل حلف كان في الجاهلية أو عقد أدركه الإسلام فلا يزيده الإسلام إلا شدة ولا عقد ولا حلف في الإسلام- فنسختها هذه الآية " وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض "". وأخرج أبو داود وابن جرير وابن مردويه والبيهقي عنه في الآية قال: كان الرجل يحالف الرجل ليس بينهما نسب فيرث أحدهما الآخر، فنسخ ذلك في الأنفال " وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض ". وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن: أن رجلاً من الأنصار لطم امرأته فجاءت تلتمس القصاص، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم بينهما القصاص، فنزل "ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه" فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل القرآن "الرجال قوامون على النساء" الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أردنا أمراً وأراد الله غيره. وأخرج ابن مردويه عن علي نحوه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس "الرجال قوامون على النساء" يعني: أمراء عليهن أن تطيعه فيما أمرها الله به من طاعته، وطاعته أن تكون محسنة إلى أهله حافظة لماله "بما فضل الله" فضله عليها بنفقته وسعيه "فالصالحات قانتات" قال: مطيعات "حافظات للغيب" يعني إذا كن كذا فأحسنوا إليهن. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة "حافظات للغيب" قال: حافظات للغيب بما استودعهن الله من حقه وحافظات لغيب أزواجهن. وأخرج ابن المنذر عن مجاهد قال: "حافظات للغيب" للأزواج. وأخرج ابن جرير عن السدي قال: تحفظ على زوجها ماله وفرجها حتى يرجع كما أمرها الله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عباس "واللاتي تخافون نشوزهن" قال: تلك المرأة تنشز وتستخف بحق زوجها ولا تطيع أمره، فأمره الله أن يعظها ويذكرها بالله ويعظم حقه عليها، فإن قبلت وإلا هجرها في المضجع ولا يكلمها من غير أن يذر نكاحها، وذلك عليها تشديد، فإن رجعت وإلا ضربها ضرباً غير مبرح ولا يكسر لها عظماً ولا يجرح بها جرحاً "فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً" يقول: إذا أطاعتك فلا تتجنى عليها العلل. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس "واهجروهن في المضاجع" قال: لا يجامعها. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عنه قال: يهجرها بلسانه ويغلط لها بالقول ولا يدع الجماع. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن جرير عن عكرمة نحوه. وأخرج ابن جرير عن عطاء: أنه سأل ابن عباس عن الضرب غير المبرح، فقال: بالسواك ونحوه. وقد أخرج الترمذي وصححه والنسائي وابن ماجه عن عمرو بن الأحوص: أنه شهد خطبة الوداع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيها أنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا واستوصوا بالنساء خيراً، ، فإنما هن عوان عندكم ليس تملكون منهن شيئاً غير ذلك إلا أن يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضرباً غير مبرح "فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا"". وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عبد الله بن زمعة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيضرب أحدكم امرأته كما يضرب العبد؟ ثم يجامعها في آخر اليوم".

وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا

قد تقدم معنى الشقاق في البقرة، وأصله أن كل واحد منهم يأخذ شقاً غير شق صاحبه: أي ناحية غير ناحيته وأضيف الشقاق إلى الظرف لإجرائه مجرى المفعول به كقوله تعالى: "بل مكر الليل والنهار" وقول الشاعر: يا سارق الليلة أهل الدار والخطاب للأمراء والحكام، والضمير في قوله 35- "بينهما" للزوجين لأنه قد تقدم ذكر ما يدل عليهما، وهو ذكر الرجال والنساء "فابعثوا" إلى الزوجين "حكماً" يحكم بينهما ممن يصلح لذلك عقلاً وديناً وإنصافاً وإنما نص الله سبحانه على أن الحكمين يكونان من أهل الزوجين لأنهما أقعد بمعرفة أحوالهما، وإذا لم يوجد من أهل الزوجين من يصلح للحكم بينهما كان الحكمان من غيرهم، وهذا إذ أشكل أمرهما ولم يتبين من هو المسيء منهما، فأما إذا عرف المسيء فإنه يؤخذ لصاحبه الحق منه، وعلى الحكمين أن يسعيا في إصلاح ذات البين جهدهما، فإن قدرا على ذلك عملا عليه، وإن أعياهما إصلاح حالهما ورأيا التفريق بينهما جاز لهما ذلك من دون أمر من الحاكم في البلد ولا توكيل بالفرقة من الزوجين. وبه قال مالك والأوزاعي وإسحاق، وهو مروي عن عثمان وعلي وابن عباس والشعبي والنخعي والشافعي، وحكاه ابن كثير عن الجمهور، قالوا: لأن الله قال "فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها" وهذا نص من الله سبحانه أنهما قاضيان لا وكيلان ولا شاهدان. وقال الكوفيون وعطاء وابن زيد والحسن وهو أحد قولي الشافعي: إن التفريق هو إلى الإمام أو الحاكم في البلد لا إليهما، ما لم يوكلهما الزوجان أو يأمرهما الإمام والحاكم، لأنهما رسولان شاهدان فليس إليهما التفريق، ويرشد إلى هذا قوله "إن يريدا" أي الحكمان "إصلاحاً" بين الزوجين "يوفق الله بينهما" لاقتصاره على ذكر الإصلاح دون التفريق. ومعنى: " إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما " أي: يوقع الموافقة بين الزوجين حتى يعودا إلى الألفة وحسن العشرة. ومعنى الإرادة: خلوص نيتهما لصلاح الحال بين الزوجين، وقيل: إن الضمير في قوله "يوفق الله بينهما" للحكمين كما في قوله "إن يريدا إصلاحاً" أي: يوفق بين الحكمين في اتحاد كلمتهما وحصول مقصودهما، وقيل: كلا الضميرين للزوجين: أي إن يريدا إصلاح ما بينهما من الشقاق أوقع الله بينهما الألفة والوفاق، وإذا اختلف الحكمان لم ينفذ حكمهما ولا يلزم قبول قولهما بلا خلاف. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله "وإن خفتم شقاق بينهما" قال: هذا الرجل والمرأة إذا تفاسد الذي بينهما أمر الله أن تبعثوا رجلاً صالحاً من أهل الرجل ورجلاً مثله من أهل المرأة فينظران أيهما المسيء، فإن كان الرجل هو المسيء حجبوا امرأته عنه وقسروه على النفقة، وإن كانت المرأة هي المسيئة قسروها على زوجها ومنعوها النفقة، فإن اجتمع رأيهما على أن يفرقا أو يجمعا فأمرهما جائز، فإن رأيا أن يجمعا فرضي أحد الزوجين وكره الآخر ذلك ثم مات أحدهما فإن الذي رضي يرث الذي كره ولا يرث الكاره الراضي "إن يريدا إصلاحاً" قال: هما الحكمان "يوفق الله بينهما" وكذلك كل مصلح يوفقه للحق والصواب. وأخرج الشافعي في الأم وعبد الرزاق في المصنف وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن عبيدة السلماني في هذه الآية قال: جاء رجل وامرأة إلى علي ومعهما فئام من الناس فأمرهم علي فبعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها، ثم قال للحكمين: تدريان ما عليكما؟ عليكما إن رأيتما أن تجمعا أن تجمعا، وإن رأيتما أن تفرقا أن تفرقا، قالت المرأة: رضيت بكتاب الله بما علي فيه ولي، وقال الرجل: أما الفرقة فلا، فقال: كذبت والله حتى تقر مثل الذي أقرت به. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس قال: بعثت أنا ومعاوية حكمين، فقيل لنا: إن رأيتما أن تجمعا جمعتما، وإن رأيتما أن تفرقا فرقتما، والذي بعثهما عثمان. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن الحسن قال: إنما يبعث الحكمان ليصلحا ويشهدا على الظالم بظلمه، فأما الفرقة فليست بأيديهما. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة نحوه. وأخرج البيهقي عن علي قال: إذا حكم أحد الحكمين ولم يحكم الآخر فليس حكمه بشيء حتى يجتمعا.

وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ

قد تقدم بيان معنى العبادة. وشيئاً إما مفعول به: أي لا تشركوا به شيئاً من الأشياء من غير فرق بين حي وميت وجماد وحيوان، وإما مصدر: أي لا تشركوا به شيئاً من الإشراك من غير فرق بين الشرك الأكبر والأصغر والواضح والخفي. وقوله 36- "إحساناً" مصدر لفعل محذوف: أي أحسنوا بالوالدين إحساناً. وقرأ ابن أبي عبلة بالرفع، وقد دل ذكر الإحسان إلى الوالدين بعد الأمر بعبادة الله والنهي عن الإشراك به على عظم حقهما، ومثله "أن اشكر لي ولوالديك" فأمر سبحانه بأن يشكرا معه. قوله "وبذي القربى" أي صاحب القرابة، وهو من يصح إطلاق اسم القربى عليه وإن كان بعيداً. "واليتامى والمساكين" قد تقدم تفسيرهم، والمعنى: وأحسنوا بذي القربى إلى آخر ما هو مذكور في هذه الآية "والجار ذي القربى" أي: القريب جواره، وقيل: هو من له مع الجوار في الدار قرب في النسب "والجار الجنب" المجانب وهو مقابل للجار ذي القربى، والمراد من يصدق عليه مسمى الجوار مع كون داره بعيدة، وفي ذلك دليل على تعميم الجيران بالإحسان إليهم سواء كانت الديار متقاربة أو متباعدة، وعلى أن الجوار حرمة مرعية مأمور بها. وفيه رد من على يظن أن الجار مختص بالملاصق دون من بينه وبينه حائل، أو مختص بالقريب دون البعيد، وقيل: إن المراد بالجار الجنب هنا هو الغريب، وقيل: هو الأجنبي الذي لا قرابة بينه وبين المجاور له. وقرأ الأعمش والمفضل "والجار الجنب" بفتح الجيم وسكون النون: أي ذي الجنب، وهو الناحية، وأنشد الأخفش: الناس جنب والأمير جنب وقيل: المراد بالجار ذي القربى: المسلم، وبالجار الجنب: اليهودي والنصراني. وقد اختلف أهل العلم في المقدار الذي يصدق عليه مسمى الجوار ويثبت لصاحبه الحق، فروي عن الأوزاعي والحسن أنه إلى حد أربعين داراً من كل ناحية، وروي عن الزهري نحوه، وقيل: من سمع إقامة الصلاة، وقيل: إذا جمعتهما محلة، وقيل: من سمع النداء. والأولى أن يرجع في معنى الجار إلى الشرع، فإن وجد فيه ما يقتضي بيانه وأنه يكون جاراً إلى حد كذا من الدور، أو من مسافة الأرض، كان العمل عليه متعيناً وإن لم يوجد رجع إلى معناه لغة أو عرفا. ولم يأت في الشرع ما يفيد أن الجار هو الذي بينه وبين جاره مقدار كذا، ولا ورد في لغة العرب أيضاً ما يفيد ذلك، بل المراد بالجار في اللغة: المجاور، ويطلق على معان. قال في القاموس: والجار والمجرور، والذي أجرته من أن يظلم، والمجير، والمستجير، والشريك في التجارة، وزوج المرأة وهي جارته، وفرج المرأة، وما قرب من المنازل، والاست كالجارة، والقاسم والحليف، والناصر انتهى. قال القرطبي في تفسيره: وروي "أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني نزلت محلة قوم، وإن أقربهم إلي جواراً أشدهم لي أذى فبعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر وعلياً يصيحون على أبواب المساجد: ألا إن أربعين داراً جار، ولا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه" انتهى. ولو ثبت هذا لكان مغنياً عن غيره، ولكنه رواه كما ترى من غير عزو له إلى أحد كتب الحديث المعروفة، وهو وإن كان إماماً في علم الرواية، فلا تقوم الحجة بما يرويه بغير سند مذكور ولا نقل عن كتاب مشهور، ولا سيما وهو يذكر الواهيات كثيراً كما يفعل في تذكرته، وقد ورد في القرآن ما يدل على أن المساكنة في مدينة مجاورة، قال الله تعالى "لئن لم ينته المنافقون" إلى قوله "ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا" فجعل اجتماعهم في المدينة جواراً. وأما الأعراف في مسمى الجوار فهي تختلف باختلاف أهلها، ولا يصح حمل القرآن على أعراف متعارفة واصطلاحات متواضعة. قوله "والصاحب بالجنب" قيل: هو الرفيق في السفر، قاله ابن عباس وسعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد والضحاك. وقال علي بن أبي طالب وابن مسعود وابن أبي ليلى: هو الزوجة. وقال ابن جريج: هو الذي يصحبك ويلزمك رجاء نفعك. ولا يبعد أن تتناول الآية جميع ما في هذه الأقوال مع زيادة عليها. وهو كل من صدق عليه أنه صاحب بالجنب: أي بجنبك كمن يقف بجنبك في تحصيل علم أو تعلم صناعة أو مباشرة تجارة أو نحو ذلك. قوله "وابن السبيل" قال مجاهد: هو الذي يجتاز بك ماراً، والسبيل الطريق، فنسب المسافر إليه لمروره عليه ولزومه إياه، فالأولى تفسيره بمن هو على سفر فإن على المقيم أن يحسن إليه، وقيل: هو المنقطع به، وقيل: هو الضيف. قوله "وما ملكت أيمانكم" أي: وأحسنوا إلى ما ملكت أيمانكم إحساناً، وهم العبيد والإماء، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم يطعمون مما يطعم مالكهم ويلبسون مما يلبس. والمختال ذو الخيلاء وهو الكبر والتيه: أي لا يحب من كان متكبراً تائهاً على الناس مفتخراً عليهم. والفخر: المدح للنفس والتطاول وتعديد المناقب، وخص هاتين الصفتين لأنهما يحملان صاحبهما على الأنفة مما ندب الله إليه في هذه الآية. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الإيمان من طرق عن ابن عباس في قوله "والجار ذي القربى" يعني: الذي بينك وبينه قرابة "والجار الجنب" يعني: الذي ليس بينك وبينه قرابة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن نوف البكالي قال: الجار ذي القربى: المسلم، والجار الجنب: اليهودي والنصراني. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس في قوله "والصاحب بالجنب" قال: الرفيق في السفر. وأخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير ومجاهد مثله. وأخرج الحكيم والترمذي في نوادر الأصول وابن المنذر وابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم "والصاحب بالجنب" قال: هو جليسك في الحضر ورفيقك في السفر وامرأتك التي تضاجعك. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن علي قال: هو المرأة. وأخرج هؤلاء والطبراني عن ابن مسعود مثله. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس مثله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله "وما ملكت أيمانكم" قال: مما خولك الله فأحسن صحبته: كل هذا أوصى الله به. وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل نحوه وقد ورد مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بر الوالدين وفي صلة القرابة، وفي الإحسان إلى اليتامى، وفي الإحسان إلى الجار، وفي القيام بما يحتاجه المماليك أحاديث كثيرة قد اشتملت عليها كتب السنة لا حاجة بنا إلى بسطها هنا، وهكذا ورد في ذم الكبر والاختيال والفخر ما هو معروف.

الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا

قوله 37- "الذين يبخلون" هم في محل نصب بدلاً من قوله "من كان مختالاً" أو على الدم، أو في محل رفع على الابتداء والخبر مقدم: أي لهم كذا وكذا من العذاب، ويجوز أن يكون مرفوعاً بدلاً من الضمير المستتر في قوله "مختالاً فخوراً" ويجوز أن يكون منصوباً على تقدير أعني، أو مرفوعاً على الخبر والمبتدأ مقدر: أي هم الذين يبخلون، والجملة في محل نصب على البدل. والبخل المذموم في الشرع هو الامتناع من أداء ما أوجب الله، وهؤلاء المذكورون في هذه الآية ضموا إلى ما وقعوا فيه من البخل الذي هو أشر خصال الشر ما هو أقبح منه وأدل على سقوط نفس فاعله، وبلوغه في الرذالة إلى غايتها، وهو أنهم مع بخلهم بأموالهم وكتمهم لما أنعم الله به عليهم من فضله "يأمرون الناس بالبخل" كأنهم يجدون في صدورهم من جود غيرهم بماله حرجاً ومضاضة، فلا كثر في عباده من أمثالكم، هذه أموالكم قد بخلتم بها لكونكم تظنون انتقاصها بإخراج بعضها في مواضعه، فما بالكم بخلتم بأموال غيركم؟ مع أنه لا يلحقكم في ذلك ضرر، وهل هذا إلا غاية اللوم ونهاية الحمق والرقاعة وقبح الطباع وسوء الاختيار. وقد تقدم اختلاف القراءات في البخل. وقد قيل: إن المراد بهذه الآية اليهود فإنهم جمعوا بين الاختيال والفخر والبخل بالمال وكتمان ما أنزل الله في التوراة، وقيل: المراد بها المنافقون، ولا يخفى أن اللفظ أوسع من ذلك وأكثر شمولاً وأعم فائدة.

وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا

قوله 38- "والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس" عطف على قوله "الذين يبخلون" ووجه ذلك أن الأولين قد فرطوا بالبخل وبأمر الناس به وبكتم ما آتاهم الله من فضله، وهؤلاء أفرطوا ببذل أموالهم في غير مواضعها لمجرد الرياء والسمعة كما يفعله من يريد أن يتسامع الناس بأنه كريم، ويتطاول على غيره بذلك ويشمخ بأنفه عليه، مع ما ضم إلى هذا الإنفاق الذي يعود عليه بالضرر من عدم الإيمان بالله وباليوم الآخر. قوله "ومن يكن الشيطان له قريناً" في الكلام إضمار، والتقدير، ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر فقرينهم الشيطان "ومن يكن الشيطان له قريناً فساء قريناً" والقرين المقارن، وهو الصاحب والخليل. والمعنى: من قبل الشيطان في الدنيا فقد قارنه فيها، أو فهو قرينة في النار فساء الشيطان قريناً.

وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا

39- "وماذا عليهم" أي: على هذه الطوائف "لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله" ابتغاء لوجهه وامتثالاً لأمره: أي وماذا يكون عليهم من ضرر لو فعلوا ذلك.

إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا

قوله 40- "إن الله لا يظلم مثقال ذرة" المثقال مفعال من الثقل كالمقدار من القدر، وهو منتصب على أنه نعت لمفعول محذوف: أي لا يظلم شيئاً مثقال ذرة. والذرة واحدة الذر. وهي النمل الصغار، وقيل: رأي النملة، وقيل: الذرة الخردلة، وقيل: كل جزء من أجزاء الهباء الذي يظهر فيما يدخل من الشمس من كوة أو غيرها ذرة. والأول هو المعنى اللغوي الذي يجب حمل القرآن عليه. والمراد من الكلام أن الله لا يظلم كثيراً ولا قليلاً: أي لا يبخسهم من ثواب أعمالهم ولا يزيد في عقاب ذنوبهم وزن ذرة فضلاً عما فوقها. قوله: "وإن تك حسنة يضاعفها" قرأ أهل الحجاز "حسنة" بالرفع. وقرأ من عداهم بالنصب، والمعنى على القراءة الأولى: إن توجد حسنة، على أن كان هي التامة لا الناقصة، وعلى القراءة الثانية: إن تك فعلته حسنة يضاعفها، وقيل إن التقدير: إن تك مثقال الذرة حسنة، وأنث ضمير المثقال لكونه مضافاً إلى المؤنث والأول أولى. وقرأ الحسن " يضاعفها " بالنون، وقرأ الباقون بالياء، وهي الأرجح لقوله "ويؤت من لدنه أجراً عظيماً" وقد تقدم الكلام في المضاعفة والمراد مضاعفة ثواب الحسنة.[

فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا

قوله 41- "فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد" كيف منصوبة بفعل مضمر كما هو رأي سيبويه، أو محلها رفع كل على الابتداء كما هو رأي غيره، والإشارة بقوله "هؤلاء" إلى الكفار، وقيل: إلى كفار قريش خاصة. والمعنى: فكيف يكون حال هؤلاء الكفار يوم القيامة إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً؟ وهذا الاستفهام معناه التوبيخ والتقريع.

يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا

42- "يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض" قرأ نافع وابن عامر "تسوى" بفتح التاء وتشديد السين، وقرأ حمزة والكسائي بفتح التاء وتخفيف السين، وقرأ الباقون بضم التاء وتخفيف السين، والمعنى على القراءة الأولى والثانية: أن الأرض هي التي تسوى بهم: أي أنهم تمنوا لو انفتحت لهم الأرض فساخوا فيها، وقيل الباء في قوله "بهم" بمعنى على: أي تسوى عليهم الأرض. وعلى القراءة الثالثة الفعل مبني للمفعول: أي لو سوى الله بهم الأرض فيجعلهم والأرض سواء حتى لا يبعثوا. قوله "ولا يكتمون الله حديثاً" عطف على " يود " أي : يومئذ يود الذين كفروا ويومئذ لا يكتمون الله حديثا ولا يقدرون على ذلك. قال الزجاج: قال بعضهم "ولا يكتمون الله حديثاً" مستانف لأن ما علمون ظاهر عند الله لا يقدرون على كتمانه. وقال بعضهم: هو معطوف. والمعنى: يودون أن الأرض سويت بهم وأنهم لم يكتموا الله حديثاً لأنه ظهر كذبهم. وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان كردم بن يزيد حليف كعب بن الأشرف وأسامة بن حبيب ونافع بن أبي نافع وبحري بن عمرو وحيي بن أخطب ورفاعة بن زيد بن التابوت يأتون رجالاً من الأنصار ينتصحون لهم فيقولون: لا تنفقوا أموالكم فإنا نخشى عليكم الفقر في ذهابها، ولا تسارعوا في النفقة فإنكم لا تدرون ما يكون؟ فأنزل الله فيهم "الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل" إلى قوله "وكان الله بهم عليماً". وقد أخرج ابن أبي حاتم عنه أنها نزلت في اليهود. وأخرجه عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد. وأخرجه ابن جرير عن سعيد بن جبير. وأخرجه عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن ابن عباس "إن الله لا يظلم مثقال ذرة" قال: رأس نملة حمراء. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله "وإن تك حسنة" وزن ذرة زادت على سيئاته "يضاعفها" فأما المشرك فيخفف به عنه العذاب ولا يخرج من النار أبداً. وأخرج البخاري وغيره عن ابن مسعود قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقرأ علي قلت يا رسول الله: اقرا عليك وعليك أنزل؟ قال: نعم إني أحب أن أسمعه من غيري، فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية "فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً" قال: حسبك الآن فإذا عيناه تذرفان". وأخرجه الحاكم وصححه من حديث عمرو بن حريث. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي من ابن عباس في قوله "لو تسوى بهم الأرض" يعني: أن تسوى الأرض بالجبال والأرض عليهم. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية يقول: ودوا لو انخرقت بهم الأرض فساخوا فيها. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله "ولا يكتمون الله حديثاً" قال: بجوارحهم.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أ

قوله 43- "يا أيها الذين آمنوا" جعل الخطاب خاصاً بالمؤمنين لأنهم كانوا يقربون الصلاة حال السكر، وأما الكفار فهم لا يقربونها سكارى ولا غير سكارى. قوله "لا تقربوا" قال أهل اللغة: إذا قيل: لا تقرب بفتح الراء معناه لا تتلبس بالفعل، وإذا كان بضم الراء كان معناه: لا تدن منه. والمراد هنا: النهي عن التلبس بالصلاة وغشيانها. وبه قال جماعة من المفسرين، وإليه ذهب أبو حنيفة. وقال آخرون: المراد مواضع الصلاة، وبه قال الشافعي: وعلى هذا فلا بد من تقدير مضاف، ويقوي هذا قوله "ولا جنباً إلا عابري سبيل" وقالت طائفة: المراد الصلاة ومواضعها معاً، لأنهم كانوا حينئذ لا يأتون المسجد إلا للصلاة، ولا يصلون إلا مجتمعين، فكانا متلازمين. قوله "وأنتم سكارى" الجملة في محل نصب على الحال، وسكارى جمع سكران، مثل كسالى جمع كسلان. وقرأ النخعي سكري بفتح السين، وهو تكسير سكران. وقرأ الأعمش سكرى كحبلى صفة مفردة. وقد ذهب العلماء كافة إلى أن المراد بالسكر هنا سكر الخمر، إلا الضحاك فإنه قال: المراد سكر النوم. وسيأتي بيان سبب نزول الآية، وبه يندفع ما يخالف الصواب من هذه الأقوال. قوله "حتى تعلموا ما تقولون" هذا غاية النهي عن قربان الصلاة في حال السكر: أي حتى يزول عنكم أثر السكر وتعلموا ما تقولونه، فإن السكران لا يعلم ما يقوله وقد تمسك بهذا من قال: إن طلاق السكران لا يقع، لانه إذا لم يعلم ما يقوله انتفى القصد. وبه قال عثمان بن عفان وابن عباس وطاوس وعطاء والقاسم وربيعة، وهو قول الليث بن سعد وإسحاق وأبي ثور والمزني، واختاره الطحاوي وقال: أجمع العلماء على أن طلاق المعتوه لا يجوز، والسكران معتوه كالموسوس. وأجازت طائفة وقوع طلاقه وهو محكي عن عمر بن الخطاب ومعاوية وجماعة من التابعين، وهو قول أبي حنيفة والثوري والأوزاعي. واختلف قول الشافعي في ذلك. وقال مالك: يلزمه الطلاق والقود في الجراح والقتل ولا يلزمه النكاح والبيع. قوله "ولا جنباً" عطف على محل الجملة الحالية، وهي قوله "وأنتم سكارى" والجنب لا يؤنث ولا يثنى ولا يجمع لأنه ملحق بالمصدر كالبعد والقرب. قال الفراء: يقال: جنب الرجل وأجنب من الجنابة، وقيل: يجمع الجنب في لغة على أجناب، مثل عنق وأعناق، وطنب وأطناب. وقوله "إلا عابري سبيل" استثناء مفرغ، أي: لا تقربوها في حال من الأحوال إلا في حال عبور السبيل. والمراد به هنا السفر، ويكون محل هذا الاستثناء المفرغ النصب على الحال من ضمير لا تقربوا بعد تقييده بالحال الثانية، وهي قوله "ولا جنباً" لا بالحال الأولى، وهي قوله "وأنتم سكارى" فيصير المعنى: لا تقربوا الصلاة حال كونكم جنباً إلا حال السفر، فإنه يجوز لكم أن تصلوا بالتيمم، وهذا قول علي وابن عباس وابن جبير والحكم وغيرهم، قالوا: لا يصح لأحد أن يقرب الصلاة وهو جنب إلا بعد الاغتسال إلا المسافر فإنه يتيمم، لأن الماء قد يعدم في السفر لا في الحضر، فإن الغالب أنه لا يعدم. وقال ابن مسعود وعكرمة والنخعي وعمرو بن دينار ومالك والشافعي: عابر السبيل هو المجتاز في المسجد، وهو مروي عن ابن عباس، فيكون معنى الآية على هذا لا تقربوا مواضع الصلاة: وهي المساجد في حال الجنابة إلا أن تكونوا مجتازين فيها من جانب إلى جانب، وفي القول الأول قوة من جهة كون الصلاة فيه باقية على معناها الحقيقي، وضعف من جهة ما في حمل عابر السبيل على المسافر، وإن معناه: أنه يقرب الصلاة عند عدم الماء بالتيمم، فإن هذا الحكم يكون في الحاضر إذا عدم الماء، كما يكون في المسافر وفي القول الثاني قوة من جهة عدم التكلف في معنى قوله "إلا عابري سبيل" وضعف من جهة حمل الصلاة على مواضعها، وبالجملة فالحال الأولى، أعني قوله "وأنتم سكارى" تقوي بقاء الصلاة على معناها الحقيقي من دون تقدير مضاف، وكذلك ما سيأتي من سبب نزول الآية يقوي ذلك. وقوله "إلا عابري سبيل" يقوي تقدير المضاف: أي لا تقربوا مواضع الصلاة. ويمكن أن يقال: إن بعض قيود النهي أعني "لا تقربوا" وهو قوله "وأنتم سكارى" يدل على أن المراد بالصلاة معناها الحقيقي وبعض قيود النهي وهو قوله "إلا عابري سبيل" يدل على أنه المراد مواضع الصلاة، ولا مانع من اعتبار كل واحد منهما مع قيده الدال عليه، ويكون ذلك بمنزلة نهيين مقيد كل واحد منهما بقيد، وهما لا تقربوا الصلاة التي هي ذات الأذكار والأركان وأنتم سكارى، ولا تقربوا مواضع الصلاة حال كونكم جنباً إلا حال عبوركم في المسجد من جانب إلى جانب، وغاية ما يقال في هذا أنه من الجمع بين الحقيقة والمجاز وهو جائز بتأويل مشهور. وقال ابن جرير بعد حكايته للقولين: الأولى قول من قال "ولا جنباً إلا عابري سبيل" إلا مجتازي طريق فيه، وذلك أنه قد بين حكم المسافر إذا عدم الماء، وهو جنب في قوله: "وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً" فكان معلوما بذلك : أي أن قوله " ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا " لو كان معنياً به المسافر لم يكن لإعادة ذكره في قوله "وإن كنتم مرضى أو على سفر" معنى مفهوم. وقد مضى ذكر حكمه قبل ذلك، فإن كان ذلك كذلك فتأويل الآية: يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا المساجد للصلاة مصلين فيها وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون، ولا تقربوها أيضاً جنباً حتى تغتسلوا إلا عابري سبيل. قال: والعابر السبيل المجتاز مراً وقطعاً، يقال منه: عبرت هذا الطريق فأنا أعبره عبراً وعبوراً، ومنه قيل: عبر فلان النهر إذا قطعه وجاوزه، ومنه قيل للناقة القوية: هي عبر أسفار لقوتها على قطع الأسفار. قال ابن كثير: وهذا الذي نصره يعني ابن جرير هو قول الجمهور، وهو الظاهر من الآية انتهى. قوله "حتى تغتسلوا" غاية للنهي عن قربان الصلاة أو مواضعها حال الجنابة. والمعنى: لا تقربوها حال الجنابة حتى تغتسلوا إلا حال عبوركم السبيل. قوله "وإن كنتم مرضى" المرض عبارة عن خروج البدن عن حد الاعتدال والاعتياد إلى الاعوجاج والشذوذ، وهو على ضربين كثير ويسير. والمراد هنا: أن يخاف على نفسه التلف أو الضرر باستعمال الماء، أو كان ضعيفاً في بدنه لا يقدر على الوصول إلى موضع الماء. وروي عن الحسن أنه يتطهر وإن مات، وهذا باطل يدفعه قوله تعالى "وما جعل عليكم في الدين من حرج". وقوله "ولا تقتلوا أنفسكم" وقوله: "يريد الله بكم اليسر". قوله "أو على سفر" فيه جواز التيمم لمن صدق عليه اسم المسافر، والخلاف مبسوط في كتب الفقه، وقد ذهب الجمهور إلى أنه لا يشترط أن يكون سفر قصر، وقال قوم: لا بد من ذلك. وقد أجمع العلماء على جواز التيمم للمسافر. واختلفوا في الحاضر، فذهب مالك وأصحابه وأبو حنيفة ومحمد إلى أنه يجوز في الحضر والسفر. وقال الشافعي: لا يجوز للحاضر الصحيح أن يتيمم إلا أن يخاف التلف. قوله "أو جاء أحد منكم من الغائط" هو المكان المنخفض والمجيء منه كناية عن الحدث، والجمع الغيطان والأغواط، وكانت العرب تقصد هذا الصنف من المواضع لقضاء الحاجة تستراً عن أعين الناس، ثم سمي الحدث الخارج من الإنسان من المواضع لقضاء الحاجة تستراً عن أعين الناس، ثم سمي الحدث الخارج من الإنسان غائطاً توسعاً، ويدخل في الغائط جميع الأحداث الناقضة للوضوء. قوله "أو لامستم النساء" قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وعاصم وابن عامر لامستم وقرأ حمزة والكسائي لمستم قيل: المراد بها بما في القراءتين الجماع، وقيل: المراد به مطلق المباشرة، وقيل: إنه يجمع الأمرين جميعاً. وقال محمد بن يزيد المبرد: الأولى في اللغة أن يكون لامستم بمعنى قبلتم ونحوه، ولمستم بمعنى: غشيتم. واختلف العلماء في معنى ذلك على أقوال، فقالت فرقة: الملامسة هنا مختصة باليد دون الجماع، قالوا: والجنب لا سبيل له إلى التيمم بل يغتسل أو يدع الصلاة حتى يجد الماء. وقد روي هذا عن عمر بن الخطاب وابن مسعود. قال ابن عبد البر: لم يقل بقولهما في هذه المسألة أحد من فقهاء الأمصار من أهل الرأي وحملة الآثار انتهى. وأيضاً الأحاديث الصحيحة تدفعه وتبطله كحديث عمار وعمران بن حصين وأبي ذر في تيمم الجنب. وقالت طائفة: هو الجماع كما في قوله "ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن"، وقوله "وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن" وهو مروي عن علي وأبي بن كعب وابن عباس ومجاهد وطاوس والحسن وعبيد بن عمير وسعيد بن جبير والشعبي وقتادة ومقاتل بن حبان وأبي حنيفة. وقال مالك: الملامس بالجماع يتيمم، والملامس باليد يتيمم إذا التذ، فإن لمسها بغير شهوة فلا وضوء، وبه قال أحمد وإسحاق. وقال الشافعي: إذا أفضى الرجل بشيء من بدنه إلى بدن المرأة سواء كان باليد أو غيرها من أعضاء الجسد انتقضت به الطهارة وإلا فلا. وحكاه القرطبي عن ابن مسعود وابن عمر والزهري وربيعة. وقال الأوزاعي: إذا كان اللمس باليد نقض الطهر، وإن كان بغير اليد لم ينقضه لقوله تعالى "فلمسوه بأيديهم" وقد احتجوا بحجج تزعم كل طائفة أن حجتها تدل على أن الملامسة المذكورة في الآية هي ما ذهبت إليه، وليس الأمر كذلك. فقد اختلفت الصحابة ومن بعدهم في معنى الملامسة المذكورة في الآية، وعلى فرض أنها ظاهرة في الجماع، فقد ثبتت القراءة المروية عن حمزة والكسائي بلفظ " أو لامستم " وهي محتملة بلا شك ولا شبهة ومع الاحتمال فلا تقوم الحجة بالمحتمل. وهذا الحكم تعم به البلوى ويثبت به التكليف العام، فلا يحل إثباته بمحتمل قد وقع النزاع في مفهومه. وإذا عرفت هذا فقد ثبتت السنة الصحيحة بوجوب التيمم على من اجتنب ولم يجد الماء، فكان الجنب داخلاً في الآية بهذا الدليل، وعلى فرض عدم دخوله فالسنة تكفي في ذلك. وأما وجوب الوضوء أو التيمم على من لمس المرأة بيده أو بشيء من بدنه فلا يصح القول به استدلالاً بهذه الآية لما عرفت من الاحتمال. وأما ما استدلوا به من أنه صلى الله عليه وسلم أتاه رجل فقال: يا رسول الله ما تقول في رجل لقي امرأة لا يعرفها؟ وليس يأتي الرجل من امرأته شيئاً إلا قد أتاه منها غير أنه لم يجامعها فأنزل الله "أقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين". أخرجه أحمد والترمذي والنسائي من حديث معاذ، قالوا: فأمره بالوضوء لأنه لمس المرأة ولم يجامعها، ولا يخفاك أنه لا دلالة بهذا الحديث على محل النزاع، فإن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمره بالوضوء ليأتي بالصلاة التي ذكرها الله سبحانه في هذه الآية، إذ لا صلاة إلا بوضوء. وأيضاً فالحديث منقطع لأنه من رواية ابن أبي ليلى عن معاذ ولم يلقه، وإذا عرفت هذا فالأصل البراءة عن هذا الحكم، فلا يثبت إلا بدليل خالص عن الشوائب الموجبة لقصوره عن الحجة. وأيضاً قد ثبت عن عائشة من طرق أنها قالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ ثم يقبل، ثم يصلي ولا يتوضا". وقد روي هذا الحديث بألفاظ مختلفة، رواه أحمد وابن أبي شيبة وأبو داود والنسائي وابن ماجه، وما قيل من أنه من رواية حبيب بن أبي ثابت عن عروة عن عائشة ولم يسمع من عروة فقد رواه أحمد في مسنده من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، ورواه ابن جرير من حديث ليث عن عطاء عن عائشة، ورواه أحمد أيضاً وأبو داود والنسائي من حديث أبي روق الهمداني عن إبراهيم التيمي عن عائشة ورواه أيضاً ابن جرير من حديث أم سلمة، ورواه أيضاً من حديث زينب السهمية. ولفظ حديث أم سلمة: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبلها وهو صائم ولا يفطر ولا يحدث وضوءاً". ولفظ حديث زينب السهمية: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل ثم يصلي ولا يتوضأ". ورواه أحمد عن زينب السهمية عن عائشة. قوله "فلم تجدوا ماء" هذا القيد إن كان راجعاً إلى جميع ما تقدم مما هو مذكور بعد الشرط، وهو المراض والسفر والمجيء من الغائط وملامسة النساء كان فيه دليل على أن المرض والسفر بمجردهما لا يسوغان التيمم، بل لا بد مع وجود أحد السببين من عدم الماء فلا يجوز للمريض أن يتيمم إلا إذا لم يجد ماء، ولا يجوز للمسافر أن يتيمم إلا إذا لم يجد ماء، ولكنه يشكل على هذا أن الصحيح كالمريض إذا لم يجد الماء تيمم، وكذلك المسافر عدم الماء في حقه غالب، وإن كان راجعاً إلى الصورتين الأخيرتين: أعني قوله "أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء" كما قال بعض المفسرين كان فيه إشكال، وهو أن من صدق عليه اسم المريض أو المسافر جاز له التيمم، وإن كان واجداً للماء قادراً على استعماله وقد قيل: إنه رجع هذا القيد إلى الآخرين مع كونه معتبراً في الأولين لندرة وقوعه فيهما. وأنت خبير بأن هذا كلام ساقط وتوجيه بارد. وقال مالك ومن تابعه: ذكر الله المرض والسفر في شرط التيمم اعتباراً بالأغلب في من لم يجد الماء بخلاف الحاضر، فإن الغالب وجوده، فلذلك لم ينص الله سبحانه عليه انتهى. والظاهر أن المرض بمجرده مسوغ للتيمم، وإن كان الماء موجوداً إذا كان يتضرر باستعماله في الحال أو في المال، ولا تعتبر خشية التلف فالله سبحانه يقول "يريد الله بكم اليسر" ويقول "وما جعل عليكم في الدين من حرج"، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "الدين يسر" ويقول: "يسروا ولا تعسروا" وقال: "قتلوه قتلهم الله" ويقول: "أمرت بالشريعة السمحة" فإذا قلنا: إن قيد عدم وجود الماء راجع إلى الجميع كان وجه التنصيص على المرض هو أنه يجوز له التيمم والماء حاضر موجود إذا كان استعماله يضره، فيكون اعتبار ذلك القيد في حقه إذا كان استعماله لا يضره، فإن في مجرد المرض مع عدم الضرر باستعمال الماء ما يكون مظنة لعجزه عن الطلب، لأنه يلحقه بالمرض نوع ضعف. وأما وجه التنصيص على المسافر فلا شك أن الضرب في الأرض مظنة لإعواز الماء في بعض البقاع دون بعض. قوله "فتيمموا" التيمم لغة: القصد، يقال: تيممت الشيء: قصدته، وتيممت الصعيد: تعمدته، وتيممته بسهمي ورمحي: قصدته دون من سواه، وأنشد الخليل: يممته الرمح شزراً ثم قلت له هذي البسالة لا لعب الزحاليق وقال امرؤ القيس: تيممتها من أذرعات وأهلها بيثرب أدنى دارها نظر عالي وقال: تيممت العين التي عند ضارج يفيء عليها الظل عرمضها ظامي قال ابن السكيت: قوله "فتيمموا" أي: اقصدوا، ثم كثر استعمال هذه الكلمة حتى صار التيمم مسح الوجه واليدين بالتراب. وقال ابن الأنباري في قولهم قد تيمم الرجل: معناه قد مسح التراب على وجهه. وهذا خلط منهما للمعنى اللغوي بالمعنى الشرعي، فإن العرب لا تعرف التيمم بمعنى مسح الوجه واليدين، وإنما هو معنى شرعي فقط، وظاهر الأمر الوجوب، وهو مجمع على ذلك. والأحاديث في هذا الباب كثيرة، قوله "صعيداً" الصعيد: وجه الأرض سواء كان عليه تراب أو لم يكن، قاله الخليل وابن الأعرابي والزجاج. قال الزجاج: لا أعلم فيه خلافاً بين أهل اللغة، قال الله تعالى "وإنا لجاعلون ما عليها صعيداً جرزاً" أي: أرضاً غليظة لا تنبت شيئاً، وقال تعالى "فتصبح صعيداً زلقا" وقال ذو الرمة: كأنه بالضحى يرمي الصعيد به ونابه في عظام الرأس خرطوم وإنما سمي صعيداً لأنه نهاية ما يصعد إليه من الأرض، وجمع الصعيد صعدات. وقد اختلف أهل العلم فيما يجزئ التيمم به، فقال مالك وأبو حنيفة والثوري والطبري: إنه يجزئ بوجه الأرض كله تراباً كان أو رملاً أو حجارةً، وحملوا قوله "طيباً" على الطاهر الذي ليس بنجس. وقال الشافعي وأحمد وأصحابهمما: إنه لا يجزئ التيمم إلا بالتراب فقط، واستدلوا بقوله تعالى "صعيداً زلقاً" أي: تراباً أملس طيباً، وكذلك استدلوا بقوله "طيباً" قالوا: والطيب التراب الذي ينبت. وقد تنوزع في معنى الطيب، فقيل: الطاهر كما تقدم، وقيل: المنبت كما هنا، وقيل: الحلال. والمحتمل لا تقوم به حجة ولو لم يوجد في الشيء الذي يتيمم به إلا ما في الكتاب العزيز، لكان الحق ما قاله الأولون، لكن ثبت في صحيح مسلم من حديث حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فضلنا الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض كلها مسجداً، وجعلت تربتها لنا طهوراً إذا لم نجد الماء" وفي لفظ "وجعل ترابها لنا طهوراً" فهذا مبين لمعنى الصعيد المذكور في الآية، أو مخصص لعمومه، أو مقيد لإطلاقه، ويؤيد هذا ما حكاه ابن فارس عن كتاب الخليل: تيمم الصعيد: أي أخذ من غباره انتهى، والحجر الصلد لا غبار له. قوله "فامسحوا بوجوهكم وأيديكم" هذا المسح مطلق يتناول المسح بضربة أو ضربتين، ويتناول المسح إلى المرفقين وبضربتين وما ورد في المسح إلى المرفقين أو إلى الرسغين، وقد بينته السنة بياناً شافياً، وقد جمعنا بين ما ورد في المسح بضربة وبضربتين وما ورد في المسح إلى الرسغ وإلى المرفقين في شرحنا للمنتقى وغيره من مؤلفاتنا بما لا يحتاج فيه إلى غيره. قوله "إن الله كان عفواً غفوراً" أي: عفا عنكم وغفر لكم تقصيركم ورحمكم بالترخيص لكم والتوسعة عليكم. وقد أخرج عبد بن حميد وأبو داود والترمذي وحسنه، والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه، والضياء في المختارة عن علي بن أبي طالب قال: صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاماً، فدعانا وسقانا من الخمر فأخذت الخمر منا، وحضرت الصلاة فقدموني فقرأت قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون، فأنزل الله "يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون". وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه: أن الذي صلى بهم عبد الرحمن. وأخرج ابن المنذر عن عكرمة في الآية قال: نزلت في أبي بكر وعمر وعلي وعبد الرحمن بن عوف وسعد، صنع لهم علي طعاماً وشراباً فأكلوا وشربوا، ثم صلى بهم المغرب فقرأ "قل يا أيها الكافرون" حتى ختمها فقال: ليس لي دين وليس لكم دين، فنزلت. وأخرج عبد بن حميد وأبو داود والنسائي والبيهقي في سننه عن ابن عباس في هذه الآية قال: نسختها "إنما الخمر والميسر" الآية. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الضحاك في الآية قال: لم يعن بها الخمر إنما عنى بها سكر النوم. وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس "وأنتم سكارى" قال: النعاس. وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة في المصنف وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن علي. قوله "ولا جنباً إلا عابري سبيل" قال: نزلت في المسافر تصيبه الجنابة فيتيمم ويصلي. وفي لفظ قال: لا يقرب الصلاة إلا أن يكون مسافراً تصيبه الجنابة فلا يجد الماء فيتيمم ويصلي حتى يجد الماء. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن ابن عباس في الآية يقول: لا تقربوا الصلاة وأنتم جنب إذا وجدتم الماء، فإن لم تجدوا الماء فقد أحللت أن تمسحوا بالأرض. وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد قال: لا يمر الجنب ولا الحائض في المسجد، إنما أنزلت "ولا جنباً إلا عابري سبيل" للمسافر يتيمم ثم يصلي. وأخرج الدارقطني والطبراني وأبو نعيم في المعرفة، وابن مردويه والبيهقي في سننه والضياء في المختارة عن الأسلع بن شريك قال: كنت أرحل ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأصابني جنابة في ليلة باردة، وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الرحلة، فكرهت أن أرحل ناقة وأنا جنب، وخشيت أن أغتسل بالماء البارد فأموت أو أمرض، فأمرت رجلاً من الأنصار فرحلها، ثم رضفت أحجار فأسخنت بها ماء فاغتسلت، ثم لحقت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقال: يا أسلع، ما لي أراك راحلتك تغيرت؟ قلت: يا رسول الله لم أرحلها، رحلها رجل من الأنصار، قال: ولم؟ قلت: إني أصابني جنابة فخشيت القر على نفسي، فأمرته أن يرحلها ورضفت أحجاراً فأسخنت بها ماء فاغتسلت به، فأنزل الله "يا أيها الذين آمنوا" إلى قوله "ولا جنباً إلا عابري سبيل". وأخرج ابن سعد وعبد بن حميد وابن جرير والطبراني والبيهقي من وجه آخر عن أسلع قال: "كنت أخدم النبي صلى الله عليه وسلم وأرحل له، فقال لي ذات ليلة: يا أسلع قم فارحل لي، قلت: يا رسول الله أصابتني جنابة، فسكت عني ساعة حتى جاء جبريل بآية الصعيد، فقال: قم يا أسلع فتيمم" الحديث. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عطاء الخراساني عن ابن عباس "لا تقربوا الصلاة" قال: المساجد. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي من طريق عطاء الخراساني عنه "ولا جنباً إلا عابري سبيل" قال: لا تدخلوا المسجد وأنتم جنب إلا عابري سبيل، قال: تمر به مرأ ولا تجلس. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود نحوه. وأخرج عبد الرزاق والبيهقي في سننه عنه أنه كان يرخص للجنب أن يمر في المسجد ولا يجلس فيه، ثم قرأ قوله ‌"ولا جنباً إلا عابري سبيل". وأخرج البيهقي عن أنس نحوه. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن جرير والبيهقي عن جابر قال: كان أحدنا يمر في المسجد وهو جنب مجتازاً. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله "وإن كنتم مرضى" قال: نزلت في رجل من الأنصار كان مريضاً فلم يستطع أن يقوم فيتوضأ ولم يكن له خادم فيناوله، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فأنزل الله هذه الآية. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس في قوله "وإن كنتم مرضى" قال: هو الرجل المجدور أو به الجراح أو القرح يجنب فيخاف إن اغتسل أن يموت فيتيمم. وأخرج ابن جرير عن إبراهيم النخعي قال: نال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جراح ففشت فيهم، ثم ابتلوا بالجنابة، فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت "وإن كنتم مرضى" الآية. وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم والبيهقي من طرق عن ابن مسعود في قوله "أو لامستم النساء" قال: اللمس ما دون الجماع والقبلة منه، وفيه الوضوء. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير عن ابن عمر أنه كان يتوضأ من قبلة المرأة، ويقول: هي اللماس. وأخرج الدارقطني والبيهقي والحاكم عن عمر قال: إن القبلة من اللمس فتوضأ منها. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن علي قال: اللمس هو الجماع ولكن الله كنى عنه. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر سعيد بن جبير قال: كنا في حجرة ابن عباس ومعنا عطاء بن أبي رباح ونفر من الموالي وعبيد بن عمير ونفر من العرب فتذاكرنا اللماس، فقلت أنا وعطاء والموالي: اللمس باليد، وقال عبيد بن عمير والعرب: هو الجماع، فدخلت على ابن عباس فأخبرته فقال: غلبت الموالي وأصابت العرب، ثم قال: إن اللمس والمس والمباشرة إلى الجماع ما هو، ولكن الله يكني ما شاء بما شاء. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال: إن أطيب الصعيد أرض الحرث.

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ

قوله 44- "ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب" كلام مستانف، والخطاب لكل من يتأتى منه الرؤية من المسلمين. والنصيب: الحظ، والمراد اليهود أوتوا نصيباً من التوارة. وقوله "يشترون" جملة حالية، والمراد بالاشتراء الاستبدال، وقد تقدم تحقيق معناه. والمعنى: أن اليهود استبدلوا الضلالة، وهي البقاء على اليهودية بعد وضوح الحجة على صحة نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم. قوله "ويريدون أن تضلوا السبيل" عطف على قوله "يشترون" مشارك له في بيان سوء صنيعهم وضعف اختيارهم: أي لم يكتفوا بما جنوه على أنفسهم من استبدال الضلالة بالهدى، بل أرادوا مع ضلالهم أن يتوصلوا بكتمهم وجحدهم إلى أن تضلوا أنتم أيها المؤمنون السبيل المستقيم الذي هو سبيل الحق.

وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا

45- "والله أعلم بأعدائكم" أيها المؤمنون وما يريدونه بكم من الإضلال، والجملة اعتراضية "وكفى بالله ولياً" لكم "وكفى بالله نصيراً" ينصركم في مواطن الحرب، فاكتفوا بولايته ونصره ولا تتولوا غيره ولا تستنصروه، والباء في قوله "بالله" في الموضعين زائدة.

مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَك

قوله 46- "من الذين هادوا" قال الزجاج: إن جعلت متعلقة بما قبل فلا يوقف على قوله "نصيراً" وإن جعلت منقطعة، فيجوز لوقف على "نصيراً" والتقدير: من الذين هادوا قوم يحرفون، ثم حذف، وهذا مذهب سيبويه، ومثله قول الشاعر: ‌‌‌لو قلت ما في قومها لم أيثم يفضلها في حسب وميسم قالوا: المعنى: لو قلت ما في قومها أحد يفضلها، ثم حذف. وقال الفراء: المحذوف لفظ من: أي من الذين هادوا من يحرفون الكلم كقوله "وما منا إلا له مقام معلوم" أي من له، ومنه قول ذي الرمة: فظلوا ومنهم دمعه سابق له أي من دمعه، وأنكره المبرد والزجاج، لأن حذف الموصول كحذف بعض الكلمة، وقيل: إن قوله "من الذين هادوا" بيان لقوله "الذين أوتوا نصيباً من الكتاب". والتحريف: الإمالة والإزالة: أي يميلونه ويزيلونه عن مواضعه ويجعلون مكانه غيره، أو المراد أنهم يتأولونه على غير تاويله وذمهم الله عز وجل بذلك، لأنهم يفعلونه عناداً وبغياً، وتأثيراً لغرض الدنيا. قوله "ويقولون سمعنا وعصينا" أي: سمعنا قولك وعصينا أمرك "واسمع غير مسمع" أي: اسمع حال كونك غير مسمع. وهو يحتمل أن يكون دعاء على النبي صلى الله عليه وسلم، والمعنى: اسمع لا سمعت، ويحتمل أن يكون المعنى: اسمع غير مسمع مكروهاً، أو اسمع غير مسمع جواباً. وقد تقدم الكلام في راعنا. ومعنى "لياً بألسنتهم" أنهم يلوونها عن الحق: أي يميلونها إلى ما في قلوبهم، وأصل اللي: الفتل، وهو منتصب على المصدر، ويجوز أن يكون مفعولاً لأجله. قوله "وطعناً في الدين" معطوف على لياً: أي يطعنون في الدين بقولهم: لو كان نبياً لعلم أنا نسبه، فأطلع الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك "ولو أنهم قالوا سمعنا" قولك "وأطعنا" أمرك "واسمع" ما نقول "وانظرنا" أي: لو قالوا هذا مكان قولهم راعنا "لكان خيراً لهم" مما قالوه "وأقوم" أي أعدل وأولى من قولهم الأول وهو قولهم "سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا" لما في هذا من المخالفة وسوء الأدب، واحتمال الذم في راعنا "ولكن" لم يسلكوا المسلك الحسن ويأتوا بما هو خير لهم وأقوم، ولهذا "لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلاً" أي: إلا إيماناً قليلاً، وهو الإيمان ببعض الكتب دون بعض وببعض الرسل دون بعض.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آَمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا

قوله 47- "يا أيها الذين أوتوا الكتاب" ذكر سبحانه أولاً أنهم أوتوا نصيباً من الكتاب، وهنا ذكر أنهم أوتوا الكتاب. والمراد أنهم أوتوا نصيباً منه، لأنهم لم يعملوا بجميع ما فيه، بل حرفوا وبدلوا. وقوله "مصدقاً" منتصب على الحال. والطمس: استئصال أثر الشيء، ومنه " فإذا النجوم طمست " يقال: نطمس بكسر الميم وضمها لغتان في المستقبل ويقال: طمس الأثر أي محاه كله، ومنه "ربنا اطمس على أموالهم" أي: أهلكها ويقال: هو مطموس البصر، ومنه "ولو نشاء لطمسنا على أعينهم" أي أعميناهم. واختلف العلماء في المعنى المراد بهذه الآية هل هو حقيقة؟ فيجعل الوجه كالقفا، فيذهب بالأنف والفم والحاجب والعين، أو ذلك عبارة عن الضلالة في قلوبهم وسلبهم التوفيق؟ فذهب إلى الأول طائفة، وذهب إلى الآخر آخرون، وعلى الأول فالمراد بقوله "فنردها على أدبارها" نجعلها قفا: أي نذهب بآثار الوجه وتخطيطه حتى يصير على هيئة القفا، وقيل: إنه بعد الطمس يردها إلى موضع القفا، والقفا إلى مواضعها، وهذا هو ألصق بالمعنى الذي يفيده قوله "فنردها على أدبارها". فإن قيل: كيف جاز أن يهددهم بطمس الوجوه إن لم يؤمنوا ولم يفعل ذلك بهم؟ فقيل: إنه لما آمن هؤلاء ومن اتبعهم رفع الوعيد عن الباقين. وقال المبرد: الوعيد باق منتظر وقال: لا بد من طمس في اليهود، ونسخ قبل يوم القيامة. قوله "أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت" الضمير عائد إلى أصحاب الوجوه، قيل: المراد باللعن هنا المسخ لأجل تشبيهه بلعن أصحاب السبت، وكان لعن أصحاب السبت مسخهم قردة وخنازير، وقيل: المراد نفس اللعنة وهم ملعونون بكل لسان. والمراد وقوع أحد الأمرين: إما الطمس، أو اللعن. وقد وقع اللعن، ولكنه يقوي الأول تشبيه هذا اللعن بلعن أهل السبت. قوله "وكان أمر الله مفعولاً" أي: كائناً موجوداً لا محالة، أو يراد بالأمر المأمور. والمعنى: أنه متى أراده كان، كقوله "إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون".

إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا

قوله 48- "إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء" هذا الحكم يشمل جميع طوائف الكفار من أهل الكتاب وغيرهم، ولا يختص بكفار أهل الحرب، لأن اليهود قالوا: عزير ابن الله، وقالت النصارى: المسيخ ابن الله، وقالوا: ثالث ثلاثة. ولا خلاف بين المسلمين أن المشرك إذا مات على شركه لم يكن من أهل المغفرة التي تفضل الله بها على غير أهل الشرك حسبما تقتضيه مشيئته، وأما غير أهل الشرك من عصاة المسلمين فداخلون تحت المشيئة يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء. قال ابن جرير: قد أبانت هذه الآية أن كل صاحب كبيرة في مشيئة الله عز وجل إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه ما لم تكن كبيرته شركاً بالله عز وجل. وظاهره أن المغفرة منه سبحانه تكون لمن اقتضته مشيئته تفضلاً منه ورحمة وإن لم يقع من ذلك المذنب توبة، وقيد ذلك المعتزلة بالتوبة. وقد تقدم قوله تعالى "إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم" وهي تدل على أن الله سبحانه يغفر سيئات من اجتنب الكبائر فيكون مجتنب الكبائر ممن قد شاء الله غفران سيئاته. وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: كان رفاعة بن زيد بن التابوت من عظماء اليهود، وإذا كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم لوى لسانه وقال: أرعنا سمعك يا محمد حتى نفهمك، ثم طعن في الإسلام وعابه، فأنزل الله فيه "ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب" الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله "يحرفون الكلم عن مواضعه" يعني: يحرفون حدود الله في التوراة. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله "يحرفون الكلم عن مواضعه" قال: تبديل اليهود التوراة "ويقولون سمعنا وعصينا" قالوا: سمعنا ما تقول ولا نطيعك "واسمع غير مسمع" قال: غير مقبول ما تقول "لياً بألسنتهم" قال: خلافاً يلووه به ألسنتهم "واسمع وانظرنا" قال: أفهمنا لا تعجل علينا. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني عن ابن عباس في قوله "واسمع غير مسمع" قال: يقولون اسمع لا سمعت. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال:" كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤساء من أحبار اليهود: منهم عبد الله بن صوريا وكعب نب أسد، فقال لهم: يا معشر اليهود اتقوا الله وأسلموا، فوالله إنكم لتعلمون أن الذي جئتكم به الحق. فقالوا: ما نعرف ذلك يا محمد، وأنزل الله فيهم "يا أيها الذين أوتوا الكتاب" الآية". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله "من قبل أن نطمس وجوهاً" قال: طمسها أن تعمى "فنردها على أدبارها" يقول: نجعل وجوههم من قبل أقفيتهم فيمشون القهقرى، ونجعل لأحدهم عينين في قفاه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله "من قبل أن نطمس وجوهاً" يقول: عن صراط الحق " فنردها على أدبارها" قال: في الضلالة. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني عن أبي أيوب الأنصاري قال:" جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن لي ابن أخ لا ينتهي عن الحرام، قال: وما دينه؟ قال: يصلي ويوحد الله، قال: استوهب منه دينه فإن أبى فابتعه منه، فطلب الرجل منه ذلك فأبى عليه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: وجدته شحيحاً على دينه، فنزلت "إن الله لا يغفر أن يشرك به" الآية". وأخرج ابن الضريس وأبو يعلى وابن المنذر وابن عدي بسند صحيح عن ابن عمر قال: كنا نمسك عن الاستغفار لأهل الكبائر حتى سمعنا من نبينا صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء" وقال: "إني ادخرت دعوتي وشفاعتي لأهل الكبائر من أمتي" فأمسكنا عن كثير مما كان في أنفسنا. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عمر قال:" لما نزلت "يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم" الآية. قام رجل فقال: والشرك يا نبي الله؟ فكره ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال "إن الله لا يغفر أن يشرك به" الآية". وأخرج ابن المنذر عن أبي مجلز أن سؤال هذا الرجل هو سبب نزول "إن الله لا يغفر أن يشرك به". وأخرج أبو داود في ناسخه وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال في هذه الآية: إن الله حرم المغفرة على من مات وهو كافر، وأرجأ أهل التوحيد إلى مشيئته فلم يؤيسهم من المغفرة. وأخرج الترمذي وحسنه عن علي قال: أحب آية إلي القرآن "إن الله لا يغفر أن يشرك به" الآية.

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا

قوله 49- "ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم" تعجيب من حالهم. وقد اتفق المفسرون على أن المراد اليهود. واختلفوا في المعنى الذي زكوا به أنفسهم، فقال الحسن وقتادة: هو قولهم "نحن أبناء الله وأحباؤه" وقولهم: "لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى" وقال الضحاك: هو قولهم لا ذنوب لنا ونحن كالأطفال، وقيل قولهم: إن آباءهم يشفعون لهم، وقيل: ثناء بعضهم على بعض. ومعنى التزكية: التطهير والتنزيه، فلا يبعد صدقها على جميع هذه التفاسير وعلى غيرها، واللفظ يتناول كل من زكى نفسه بحق أو بباطل من اليهود وغيرهم، ويدخل في هذا التقلب بالألقاب المتضمنة للتزكية كمحيي الدين وعز الدين ونحوهما. قوله "بل الله يزكي من يشاء" أي: ذلك إليه سبحانه فهو العالم بمن يستحق التزكية من عباده ومن لا يستحقها، فليدع العباد تزكية أنفسهم ويفوضوا أمر ذلك إلى الله سبحانه، فإن تزكيتهم لأنفسهم مجرد دعاوى فاسدة تحمل عليها محبة النفس وطلب العلو والترفع والتفاخر، ومثل هذه الآية قوله تعالى "فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى". قوله "ولا تظلمون" أي هؤلاء المزكون لأنفسهم "فتيلاً" وهو الخيط الذي في نواة التمر، وقيل: القشرة التي حول النواة، وقيل: هو ما يخرج بين أصبعيك أو كفيك من الوسخ إذا فتلتهما، فهو فتيل بمعنى مفتول، والمراد هنا: الكناية عن الشيء الحقير، ومثله "ولا يظلمون نقيراً" وهو النكتة التي في ظهر النواة. والمعنى: أن هؤلاء الذين يزكون أنفسهم يعاقبون على تزكيتهم لأنفسهم بقدر هذا الذنب ولا يظلمون بالزيادة على ما يستحقون، ويجوز أن يعود الضمير إلى "من يشاء" أي: لا يظلم هؤلاء الذين يزكيهم الله فتيلاً مما يستحقونه من الثواب.

انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا

ثم عجب النبي صلى الله عليه وسلم من تزكيتهم لأنفسهم فقال 50- "انظر كيف يفترون على الله الكذب" في قولهم ذلك. والافتراء: الاختلاق، ومنه افترى فلان على فلان: أي رماه بما ليس فيه، وفريت الشيء: قطعته، وفي قوله "وكفى به إثماً مبيناً" من تعظيم الذنب وتهويله ما لا يخفى.

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا سَبِيلًا

قوله 51- "ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب" هذا تعجيب من حالهم بعد التعجيب الأول وهم اليهود. واختلف المفسرون في معنى الجبت: فقال ابن عباس وابن جبير وأبو العالية، الجبت: الساحر بلسان الحبشة والطاغوت: الكاهن، وروي عن عمر بن الخطاب أن الجبت: السحر، والطاغوت الشيطان. وروي عن ابن مسعود أن الجبت والطاغوت ها هنا كعب بن الأشرف. وقال قتادة: الجبت: الشيطان، والطاغوت: الكاهن، وروي عن مالك أن الطاغوت: ما عبد من دون الله، والجبت: الشيطان، وقيل: هما كل معبود من دون الله أو مطاع في معصية الله. وأصل الجبت الجبس، وهو الذي لا سير فيه، فأبدلت التاء من السين قاله قطرب، وقيل: الجبت: إبليس، والطاغوت: أولياؤه. قوله "ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً" أي: يقول اليهود لكفار قريش: أنتم أهدى من الذين آمنوا بمحمد سبيلاً: أي أقوم ديناً، وأرشد طريقاً.

أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا

وقوله 52- "أولئك" إشارة إلى القائلين "الذين لعنهم الله" أي: طردهم وأبعدهم من رحمته "ومن يلعن الله فلن تجد له نصيراً" يدفع عنه ما نزل به من عذاب الله وسخطه.

أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا

قوله 53- "أم لهم نصيب من الملك" أم منقطعة، والاستفهام للإنكار، يعني ليس لهم نصيب من الملك " فإذا لا يؤتون الناس نقيرا " والفاء للسببية الجزائية لشرط محذوف: أي إن جعل لهم نصيب من الملك على أن معنى أم الإضراب عن الأول والاستئناف للثاني، وقيل: هي عاطفة على محذوف، والتقدير: أهم أولى بالنبوة ممن أرسلته، أم لهم نصيب من الملك، فإذن لا يؤتون الناس نقيراً؟ والنقير: النقرة في ظهر النواة، وقيل: ما نقر الرجل بأصبعه كما ينقر الأرض. والنقير أيضاً: خشبة تنقر وينبذ فيها. وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النقير كما ثبت في الصحيحين وغيرهما، والنقير: الأصل، يقال: فلان كريم النقير: أي كريم الأصل. والمراد هنا: المعنى الأول، والمقصود به المبالغة في الحقارة كالقطمير والفتيل. وإذن هنا ملغاة غير عاملة لدخول فاء العطف عليها، ولو نصب لجاز. قال سيبويه: إذن في عوامل الأفعال بمنزلة أظن في عوامل الأسماء التي تلغى إذ لم يكن الكلام معتمداً عليها، فإن كانت في أول الكلام وكان الذي بعدها مستقبلاً نصبت.

أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آَتَيْنَا آَلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآَتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا

قوله 54- "أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله" أم منقطعة مفيدة للانتقال عن توبيخهم بأمر إلى توبيخهم بآخر: أي بل يحسدون الناس يعني اليهود يحسدون النبي صلى الله عليه وسلم فقط، أو يحسدونه هو وأصحابه على ما آتاهم الله من فضله من النبوة والنصر وقهر الأعداء. قوله "فقد آتينا آل إبراهيم" هذا إلزام لليهود بما يعترفون به ولا ينكرونه: أي ليس ما آتينا محمداً وأصحابه من فضلنا ببدع حتى يحسدهم اليهود على ذلك، فهم يعلمون بما آتينا آل إبراهيم، وهم أسلاف محمد صلى الله عليه وسلم. وقد تقدم تفسير الكتاب والحكمة، والملك العظيم، قيل: هو ملك سليمان.

فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا

واختاره ابن جرير 55- "فمنهم" أي: اليهود "من آمن به" أي: بالنبي صلى الله عليه وسلم "ومنهم من صد عنه" أي: أعرض عنه، وقيل: الضمير في به راجع إلى ما ذكر من حديث آل إبراهيم، وقيل: الضمير راجع إلى إبراهيم. والمعنى: فمن آل إبراهيم من آمن بإبراهيم ومنهم من صد عنه، وقيل: الضمير يرجع إلى الكتاب، والأول أولى "وكفى بجهنم سعيراً" أي: ناراً مسعرة. وقد أخرج ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس قال: إن اليهود قالوا: إن آباءنا قد توفوا وهم لنا قربة عند الله وسيشفعون لنا ويزكوننا، فقال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم "ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم". وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال: كانت اليهود يقدمون صبيانهم يصلون بهم ويقربون قربانهم ويزعمون أنهم لا خطايا لهم ولا ذنوب وكذبوا، قال الله: إني لا أظهر ذا ذنب بآخر لا ذنب له، ثم أنزل الله "ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم". وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن أن التزكية قولهم "نحن أبناء الله وأحباؤه" وقالوا: "لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى". وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله "ولا يظلمون فتيلا" قال: الفتيل: ما خرج من بين الأصبعين. وفي لفظ آخر عنه: هو أن تدلك بين أصبعيك فما خرج منهما فهو ذلك. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر عنه قال: النقير: النقرة تكون في النواة التي نبتت منها النخلة. والفتيل: الذي يكون على شق النواة. والقطمير: القشر الذي يكون على النواة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه: قال: الفتيل الذي في الشق الذي في بطن النواة. وأخرج الطبراني والبيهقي في الدلائل عنه قال: قدم حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف مكة على قريش فخالفوهم على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا لهم: أنتم أهل العلم القديم وأهل الكتاب فأخبوانا عنا وعن محمد، قالوا: ما أنتم وما محمد؟ قالوا: ننحر الكوماء ونسقي اللبن على الماء، ونفك العناة ونسقي الحجيج ونصل الأرحام، قالوا: فما محمد؟ قالوا: صنبور: أي فرد ضعيف، قطع أرحامنا، واتبعه سراق الحجيج بنو غفار، فقالوا: لا بل أنتم خير منه وأهدى سبيلاً، فأنزل الله "ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت" الآية. وأخرجه سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة مرسلاً. وقد روي عن ابن عباس وعن عكرمة بلفظ آخر. وأخرج نحوه عبد بن حميد وابن جرير عن السدي عن أبي مالك. وأخرج نحوه أيضاً البيهقي في الدلائل وابن عساكر في تاريخه عن جابر بن عبد الله. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن عكرمة قال: الجبت والطاغوت صنمان. وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عمر في تفسير الجبت والطاغوت ما قدمناه عنه. وأخرج ابن جبير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: الجبت حيي بن أخطب، والطاغوت: كعب بن الأشرف. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: الجبت: الأصنام، والطاغوت: الذي يكون بين يدي الأصنام يعبرون عنها الكذب ليضلوا الناس. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: الجبت: اسم الشيطان بالحبشية، والطاغوت: كهان العرب. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله "أم لهم نصيب من الملك" قال: فليس لهم نصيب، ولو كان لهم نصيب لم يؤتوا الناس نقيرا. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس قال: النقير: النقطة التي في ظهر النواة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس قال: قال أهل الكتاب: زعم محمد أنه أوتي ما أوتي في تواضع وله تسع نسوة وليس له أهمية إلا النكاح، فأي ملك أفضل من هذا؟ فأنزل الله هذه الآية "أم يحسدون الناس" إلى قوله "ملكاً عظيماً" يعني: ملك سليمان. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة قال: الناس في هذا الموضع النبي خاصة. وأخرج ابن جرير عن قتادة قال: هم هذا الحي من العرب.

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا

قوله 56- "بآياتنا" الظاهر عدم تخصيص بعض الآيات دون بعض، و"سوف" كلمة تذكر للتهديد قاله سيبويه. وينوب عنها السين. وقد تقدم معنى نصلي في أول السورة. والمراد: سوف ندخلهم ناراً عظيمة. وقرأ حميد بن قيس "نصليهم" بفتح النون. قوله "كلما نضجت جلودهم" يقال: نضج الشيء نضجاً ونضاجاً، ونضج اللحم وفلان نضج الرأي: أي محكمه. والمعنى: أنها كلما احترقت جلودهم بدلهم الله جلوداً غيرها: أي أعطاهم مكان كل جلد محترق جلداً آخر غير محترق، فإن ذلك أبلغ في العذاب للشخص، لأن إحساسه لعمل النار في الجلد الذي يحترق أبلغ من إحساسه لعملها في الجلد المحترق، وقيل المراد بالجلود: السرابيل التي ذكرها في قوله "سرابيلهم من قطران" ولا موجب لترك المعنى الحقيقي ها هنا، وإن جاز إطلاق الجلود على السرابيل مجازاً كما في قول الشاعر: كسا اللوم تيما خضرة في جلودها فويل لتيم من سرابيلها الخضر وقيل المعنى: أعدنا الجلد الأول جديداً، ويأبى ذلك معنى التبديل. قوله "ليذوقوا العذاب" أي: ليحصل لهم الذوق الكامل بذلك التبديل، وقيل معناه: ليدوم لهم العذاب ولا ينقطع، ثم أتبع وصف حال الكفار بوصف حال المؤمنين.

وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا

وقد تقدم تفسير الجنات التي تجري من تحتها الأنهار. قوله 57- "لهم فيها أزواج مطهرة" أي: من الأدناس التي تكون في نساء الدنيا. والظل الظليل الكثيف الذي لا يدخله ما يدخل ظل الدنيا من الحر والسموم ونحو ذلك، وقيل: هو مجموع ظل الأشجار والقصور، وقيل: الظل الظليل: هو الدائم الذي لا يزول، واشتقاق الصفة من لفظ الموصوف للمبالغة كما يقال: ليل أليل. وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عمر في قوله " كلما نضجت جلودهم " قال: إذا احترقت جلودهم بدلناهم جلوداً بيضاء أمثال القراطيس. وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني عنه بسند ضعيف قال: قرئ عند عمر "كلما نضجت جلودهم" الآية، فقال معاذ: عندي تفسيرها تبدل في ساعة مائة مرة، فقال عمر: هكذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأخرجه أبو نعيم في الحلية وابن مردويه أن القائل كعب وأنه قال: تبدل في الساعة الواحدة عشرين ومائة مرة. وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن مسعود أن غلظ جلد الكافر اثنان وأربعون ذراعاً. وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس في قوله "ظلاً ظليلاً" قال: هو ظل العرش الذي لا يزول.

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا

هذه الآية من أمهات الآيات المشتملة على كثير من أحكام الشرع، لأن الظاهر أن الخطاب يشمل جميع الناس في جميع الناس في جميع الامانات، وقد روي عن علي وزيد بن أسلم وشهر بن حوشب أنها خطاب لولاة المسلمين، والأول أظهر، وورودها على سبب كما سيأتي لا ينافي ما فيها من العموم، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما تقرر في الأصول، وتدخل الولاة في هذا الخطاب دخولاً أولياً، فيجب عليهم تأدية ما لديهم من الأمانات ورد الظلامات وتحري العدل في أحكامهم، ويدخل غيرهم من الناس في الخطاب، فيجب عليهم رد ما لديهم من الأمانات والتحري في الشهادات والأخبار. وممن قال بعموم هذا الخطاب: البراء بن عازب وابن مسعود وابن عباس وأبي بن كعب، واختاره جمهور المفسرين، ومنهم ابن جرير، وأجمعوا على أن الأمانات مردودة إلى أربابها: الأبرار منهم والفجار، كما قال ابن المنذر. والأمانات جمع أمانة، وهي مصدر بمعنى المفعول. قوله 58- "وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل" أي: وإن الله يأمركم إذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل. والعدل: هو فصل الحكومة على ما في كتاب الله سبحانه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لا الحكم بالرأي المجرد، فإن ذلك ليس من الحق في شيء إلا إذا لم يوجد دليل تلك الحكومة في كتاب الله ولا في سنة رسوله، فلا بأس باجتهاد الرأي من الحاكم الذي يعلم بحكم الله سبحانه، وبما هو أقرب إلى الحق عند عدم وجود النص، وأما الحاكم الذي لا يدري بحكم الله ورسوله ولا بما هو أقرب إليهما فهو لا يدري ما هو العدل، لأنه لا يعقل الحجة إذا جاءته فضلاً عن أن يحكم بها بين عباد الله. قوله "نعما" ما موصوفة أو موصولة، وقد قدمنا البحث في مثل ذلك. وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتحج مكة وقبض مفاتح الكعبة من عثمان بن طلحة، فنزل جبريل عليه السلام برد المفتاح، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان طلحة ورده إليه، وقرأ هذه الآية. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن عساكر عن ابن جريج: أن هذه الآية نزلت في عثمان بن طلحة لما قبض منه صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة فدعاه ودفعه إليه. وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن أبي شيبة عن علي قال: حق على الإمام أن يحكم بما أنزل الله، وأن يؤدي الأمانة، فإذا فعل ذلك فحق على الناس أن يسمعوا له وأن يطيعوا وأن يجيبوا إذا دعوا. وأخرج أبو داود والترمذي والحاكم والبيهقي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أد الأمانة لمن ائتمنتك، ولا تخن من خانك" وقد ثبت في الصحيح أن من خان إذا اؤتمن ففيه خصلة من خصال النفاق.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ ت

لما أمر سبحانه القضاة والولاة إذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالحق، أمر الناس بطاعتهم ها هنا، وطاعة الله عز وجل هي امتثال أوامره ونواهيه، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم هي فيما أمر به ونهى عنه. وأولي الأمر: هم الأئمة والسلاطين والقضاة وكل من كانت له ولاية شرعية لا ولاية طاغوتية، والمراد طاعتهم فيما يأمرون به وينهون عنه ما لم تكن معصية، فلا طاعة لمخلوق في معصية الله كما ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال جابر بن عبد الله ومجاهد: إن أولي الأمر: هم أهل القرآن والعلم، وبه قال مالك والضحاك. وروي عن مجاهد أنهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. وقال ابن كيسان هم أهل العقل والرأي، والراجح القول الأول. قوله 59- "فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول" المنازعة المجاذبة، والنزع: الجذب، كأن كل واحد ينتزع حجة الآخر ويجذبها، والمراد الاختلاف والمجادلة، وظاهر قوله "في شيء" يتناول أمور الدين والدنيا، ولكنه لما قال "فردوه إلى الله والرسول" تبين به أن الشيء المتنازع فيه يختص بأمور الدين دون أمور الدنيا، والرد إلى الله: هو الرد إلى كتابه العزيز، والرد إلى الرسول: هو الرد إلى سنته المطهرة بعد موته، وأما في حياته فالرد إليه سؤاله، هذا معنى الرد إليهما، وقيل: معنى الرد أن يقولوا: الله أعلم، وهو قول ساقط وتفسير بارد، وليس الرد في هذه الآية إلا الرد المذكور في قوله تعالى "ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم" قوله "إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر" فيه دليل على أن هذا الرد متحتم على المتنازعين، وإنه شأن من يؤمن بالله واليوم الآخر، والإشارة بقوله "ذلك" إلى الرد المأمور به "خير" لكم "وأحسن تأويلاً" أي: مرجعاً، من الأول آل يؤول إلى كذا: أي صار إليه، والمعنى: أن ذلك الرد خير لكم وأحسن مرجعاً ترجعون إليه. ويجوز أن يكون المعنى أن الرد أحسن تأويلاً من تأويلكم الذي صرتم إليه عند التنازع. وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عباس في قوله "أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم" قال: نزلت في عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي إذ بعثه النبي صلى الله عليه وسلم في سرية، وقصته معروفة. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن عطاء في الآية قال: طاعة الله والرسول اتباع الكتاب والسنة "وأولي الأمر" قال: أولي الفقه والعلم. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي هريرة. قال "وأولي الأمر منكم" هم الأمراء، وفي لفظ هم أمراء السرايا. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد والحكيم الترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن جابر بن عبد الله في قوله "وأولي الأمر منكم" قال: أهل العلم. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير عن أبي العالية نحوه أيضاً. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله "فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول" قال: إلى كتاب الله وسنة رسوله. ثم قرأ "ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم". وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ميمون بن مهران في الآية قال: الرد إلى الله الرد إلى كتابه، والرد إلى رسوله ما دام حياً، فإذا قبض فإلى سنته. وأخرج ابن جرير عن قتادة والسدي مثله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن قتادة في قوله "ذلك خير وأحسن تأويلاً" يقول: ذلك أحسن ثواباً وخير عاقبة. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله "وأحسن تأويلاً" قال: وأحسن جزاءً. وقد وردت أحاديث كثيرة في طاعة الأمراء ثابتة في الصحيحين وغيرهما مقيدة بأن يكون ذلك في المعروف، وأنه لا طاعة في معصية الله.

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا

قوله 60- "ألم تر إلى الذين يزعمون" فيه تعجيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم من حال هؤلاء الذين ادعوا لأنفسهم أنهم قد جمعوا بين الإيمان بما أنزل على رسول الله، وهو القرآن، وما أنزل على من قبله من الأنبياء، فجاؤوا بما بنقض عليهم هذه الدعوى ويبطلها من أصلها ويوضح انهم ليسوا على شيء من ذلك أصلاً، وهو إرادتهم التحاكم إلى الطاغوت وقد أمروا فيما أنزل على رسول الله وعلى من قبله أن يكفروا به، وسيأتي بيان سبب نزول الآية، وبه يتضح معناها. وقد تقدم تفسير الطاغوت والاختلاف في معناه. قوله "ويريد الشيطان" معطوف على قوله "يريدون" والجملتان مسوقتان لبيان محل التعجب، كأنه قيل: ماذا يفعلون؟ فقيل: يريدون كذا، ويريد الشيطان كذا. وقوله "ضلالاً" مصدر للفعل المذكور بحذف الزوائد كقوله "والله أنبتكم من الأرض نباتاً" أو مصدر لفعل محذوف دل عليه الفعل المذكور، والتقدير: ويريد الشيطان أن يضلهم فيضلون ضلالاً.

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا

61- "وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدوداً" والصدود: اسم للمصدر، وهو الصد عند الخليل، وعند الكوفيين أنهما مصدران: أي يعرضون عنك إعراضاً.

فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا

قوله 62- "فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم" بيان لعاقبة أمرهم وما صار إليه حالهم: أي كيف يكون حالهم "إذا أصابتهم مصيبة" أي وقت إصابتهم، فإنهم يعجزون عند ذلك ولا يقدرون على الدفع. والمراد "بما قدمت أيديهم" ما فعلوه من المعاصي التي من جملتها التحاكم إلى الطاغوت " ثم جاؤوك " يعتذرون عن فعلهم، وهو عطف على "أصابتهم" وقوله "يحلفون" حال: أي جاؤوك حال كونهم حالفين "إن أردنا إلا إحساناً وتوفيقاً" أي: ما أردنا بتحاكمنا إلى غيرك إلا الإحسان لا الإساءة، والتوفيق بين الخصمين لا المخالفة لك. وقال ابن كيسان: معناه ما أردنا إلا عدلاً وحقاً مثل قوله "وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى".

أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا

فكذبهم الله بقوله 63- "أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم" من النفاق والعداوة للحق. قال الزجاج: معناه قد علم الله أنهم منافقون "فأعرض عنهم" أي: عن عقابهم، وقيل: عن قبول اعتذارهم "وعظهم" أي: خوفهم من النفاق "وقل لهم في أنفسهم" أي: في حق أنفسهم، وقيل معناه: قل لهم خالياً بهم ليس معهم غيرهم "قولاً بليغاً" أي: بالغاً في وعظهم إلى المقصود مؤثراً فيهم، وذلك بان توعدهم بسفك دمائهم وسبي نسائهم وسلب أموالهم.

وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا

64- "وما أرسلنا من رسول" من زائدة للتوكيد "إلا ليطاع" فيما أمر به ونهى عنه "بإذن الله" بعلمه، وقيل: بتوفيقه "ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم" بترك طاعتك والتحاكم إلى غيرك "جاءوك" متوسلين إليك متنصلين عن جناياتهم ومخالفتهم "فاستغفروا الله" لذنوبهم وتضرعوا إليك حتى قمت شفيعاً لهم فاستغفرت لهم، وإنما قال "واستغفر لهم الرسول" على طريقة الإلتفات لقصد التفخيم لشأن الرسول صلى الله عليه وسلم "لوجدوا الله تواباً رحيماً" أي: كثير التوبة عليهم والرحمة لهم.

فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا

قوله 65- "فلا وربك". قال ابن جرير: قوله "فلا" رد على ما تقدم ذكره، تقديره فليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك، ثم استأنف القسم بقوله "وربك لا يؤمنون" وقيل: إنه قدم لا على القسم اهتماماً بالنفي، وإظهاراً لقوته ثم كرره بعد القسم تأكيداً، وقيل: لا مزيدة لتأكيد معنى القسم لا لتأكيد معنى النفي، والتقدير: فوربك لا يؤمنون كما في قوله: "فلا أقسم بمواقع النجوم". "حتى يحكموك" أي جعلوك حكماً بينهم في جميع أمورهم لا يحكمون أحداً غيرك، وقيل: معناه يتحاكمون إليك، ولا ملجئ لذلك "فيما شجر بينهم" أي اختلف بينهم واختلط، ومنه الشجر لاختلاف أغصانه، ومنه قول طرفة: وهم الحكام أرباب الهدى وسعاة الناس في الأمر الشجر أي المخلتلف، ومنه تشاجر الرماح: أي اختلافها "ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت" قيل: هو معطوف على مقدر ينساق إليه الكلام: أي فتقضي بينهم ثم لا يجدوا. والحرج: الضيق، وقيل الشك، ومنه قيل للشجر الملتف: حرج وحرجة، وجمعها حراج، وقيل الحرج: الإثم، أي لا يجدون في أنفسهم إثماً بإنكارهم ما قضيت "ويسلموا تسليماً" أي: ينقادوا لأمرك وقضائك انقياداً لا يخالفونه في شيء. قال الزجاج: "تسليماً" مصدر مؤكد: أي ويسلمون لحكمك تسليماً لا يدخلون على أنفسهم شكاً ولا شبهة فيه. والظاهر أن هذا شامل لكل فرد في كل حكم كما يؤيد ذلك قوله "وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله"، وأما بعد موته فتحكيم الكتاب والسنة، وتحكيم الحاكم بما فيهما من الأئمة والقضاة إذا كان لا يحكم بالرأي المجرد مع وجود الدليل في الكتاب والسنة أو في أحدهما، وكان يعقل ما يرد عليه من حجج الكتاب والسنة، بأن يكون عالماً باللغة العربية وما يتعلق بها من نحو وتصريف ومعاني وبيان عارفاً بما يحتاج إليه من علم الأصول، بصيراً بالسنة المطهرة، مميزاً بين الصحيح وما يلحق به، والضعيف وما يلحق به، منصفاً غير متعصب لمذهب من المذاهب ولا لنحلة من النحل، ورعاً لا يحيف ولا يميل في حكمه، فمن كان هكذا فهو قائم في مقام النبوة مترجم عنها حاكم بأحكامها. وفي هذا الوعيد الشديد ما تقشعر له الجلود وترجف له الأفئدة، فإنه أولاً أقسم سبحانه بنفسه مؤكداً لهذا القسم بحرف النفي بأنهم لا يؤمنون، فنفى عنهم الإيمان الذي هو رأس مال صالحي عباد الله حتى تحصل لهم غاية هي تحكيم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لم يكتف سبحانه بذلك حتى قال "ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت" فضم إلى التحكيم أمراً آخر، هو عدم وجود حرج: أي حرج في صدورهم، فلا يكون مجرد التحكيم والإذعان كافياً حتى يكون من صميم القلب عن رضا واطمئنان وانئلاج قلب وطيب نفس، ثم لم يكتف بهذا كله، بل ضم إليه قوله "ويسلموا" أي: يذعنوا وينقادوا ظاهراً وباطناً، ثم لم يكتف بذلك، بل ضم إليه المصدر المؤكد فقال: "تسليماً" فلا يثبت الإيمان لعبد حتى يقع منه هذا التحكيم ولا يجد الحرج في صدره بما قضي عليه ويسلم لحكم الله وشرعه، تسليماً لا يخالطه رد ولا تشويه مخالفة. وقد أخرج ابن أبي حاتم والطبراني بسند قال السيوطي: صحيح عن ابن عباس، قال: كان برزة الأسلمي كاهناً يقضي بين اليهود فيما يتنافرون فيه، فتنافر إليه ناس من المسلمين، فأنزل الله "ألم تر إلى الذين يزعمون" الآية. وأخرج ابن إسحاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال: كان الجلاس بن الصامت قبل توبته ومعقب بن قشير ورافع بن زيد كانوا يدعون الإسلام، فدعاهم رجال من قومهم من المسلمين في خصومة كانت بينهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعوهم إلى الكهان حكام الجاهلية، فنزلت الآية المذكورة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله "يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت" قال: الطاغوت رجل من اليهود كان يقال له: كعب بن الأشرف، وكانوا إذا ما دعوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول ليحكم بينهم قالوا: بل نحاكمكم إلى كعب، فنزلت الآية. وأخرج ابن جرير عن الضحاك مثله. وأخرج البخاري ومسلم وأهل السنن وغيرهم عن عبد الله بن الزبير: "أن الزبير خاصم رجلاً من الأنصار قد شهد بدراً مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في شراج من الحرة، وكانا يسقيان به كلاهما النخل. فقال الأنصاري: سرح الماء يمر، فأبى عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اسق يا زبير، ثم أرسل الماء إلى جارك، فغضب الأنصاري وقال: يا رسول الله أن كان ابن عمتك؟ فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر، ثم أرسل الماء إلى جارك، واستوعى رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير حقه وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك أشار على الزبير برأي أراد فيه سعة له وللأنصاري، فلما أحفظ رسول الله الأنصاري. استوعى للزبير حقه في صريح الحكم، فقال الزبير: ما أحسب هذه الآية نزلت إلا في ذلك "فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم"". وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه من طريق ابن لهيعة عن الأسود: أن سبب نزول الآية أنه اختصم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان فقضى بينهما، فقال المقضي عليه: ردنا إلى عمر، فردهما، فقتل عمر الذي قال ردنا، ونزلت الآية، فأهدر النبي صلى الله عليه وسلم دم المقتول. وأخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن مكحول فذكر نحوه، وبين أن الذي قتله عمر كان منافقاً، وهما مرسلان، والقصة غريبة، وابن لهيعة فيه ضعف.

وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا

66- "لو" حرف امتناع، وأن مصدرية، أو تفسيرية، لأن "كتبنا" في معنى أمرنا. والمعنى: أن الله سبحانه لو كتب القتل والخروج من الديار على هؤلاء الموجودين من اليهود ما فعله إلا القليل منهم، أو لو كتب ذلك على المسلمين ما فعله إلا القليل منهم، والضمير في قوله "فعلوه" راجع إلى المكتوب الذي دل عليه كتبنا، أو إلى القتل والخروج المدلول عليهما بالفعلين، وتوحيد الضمير في مثل هذا قد قدمنا وجهه. قوله "إلا قليل" قرأه الجمهور بالرفع على البدل. وقرأ عبد الله بن عامر وعيسى بن عمر "إلا قليلاً" بالنصب على الاستثناء، وكذا هو في مصاحف أهل الشام، والرفع أجود عند النحاة. قوله "ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به" من اتباع الشرع والانقياد لرسول الله صلى الله عليه وسلم "لكان" ذلك "خيراً لهم" في الدنيا والآخرة، "وأشد تثبيتاً" لأقدامهم على الحق فلا يضطربون في أمر دينهم.

وَإِذًا لَآَتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا

67- "وإذاً لآتيناهم من لدنا أجراً عظيماً" أي: وقت فعلهم لما يوعظون به.

وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا

68- "ولهديناهم صراطاً مستقيماً" لا عوج فيه ليصلوا إلى الخير الذي يناله من امتثل ما أمر به وانقاد لمن يدعوه إلى الحق.

وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا

قوله 69- "ومن يطع الله والرسول" كلام مستأنف لبيان فضل طاعة الله والرسول، والإشارة بقوله "فأولئك" إلى المطيعين كما تفيده من "مع الذين أنعم الله عليهم" بدخول الجنة، والوصول إلى ما أعد الله لهم. والصديق المبالغ في الصدق كما تفيده الصيغة، وقيل: هم فضلاء أتباع الأنبياء. والشهداء: من ثبتت لهم الشهادة، والصالحين: أهل الأعمال الصالحة. والرفيق مأخوذ من الرفق، وهو لين الجانب، والمراد به المصاحب لارتفاقك بصحبته، ومنه الرفقة لارتفاق بعضهم ببعض، وهو منتصب على التمييز أو الحال كما قال الأخفش. وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله " ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم " هم يهود كما أمر أصحاب موسى أن يقتل بعضهم بعضاً. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن سفيان أنها نزلت في ثابت بن قيس بن شماس. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي نحوه. وقد روي من طرق أن جماعة من الصحابة قالوا: لما نزلت الآية لو فعل ربنا لفعلنا. أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن. وأخرجه ابن أبي حاتم عن عامر بن عبد الله بن الزبير. وأخرجه أيضاً عن شريح بن عبيد. وأخرج الطبراني وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية، والضياء المقدسي في صفة الجنة، وحسنه عن عائشة قالت:" جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: إنك لأحب إلي من نفسي، وإنك لأحب إلى من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتي فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتي وموتك وعرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وإني إذا دخلت الجنة خشيت أن لا أراك، فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزل جبريل بهذه الآية "ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم" الآية". وأخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس نحوه.

ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا

70- "ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليماً".

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا

قوله 71- "يا أيها الذين آمنوا" هذا خطاب لخلص المؤمنين، وأمر لهم بجهاد الكفار والخروج في سبيل الله، والحذر والحذر لغتان كالمثل والمثل. قال الفراء: أكثر الكلام الحذر. والحذر مسموع أيضاً، يقال: خذ حذرك أي إحذر، وقيل معنى الآية: الأمر لهم يأخذ السلاح حذراً، لأن به الحذر. قوله "فانفروا" نفر ينفر بكسر الفاء نفيراً، ونفرت الدابة تنفر بضم الفاء نفوراً. والمعنى: انهضوا لقتال العدو. أو النفير اسم للقوم الذين ينفرون، وأصله من النفار والنفور، وهو الفزع، ومنه قوله تعالى " ولوا على أدبارهم نفورا " أي: نافرين. قوله "ثبات" جمع ثبة: أي جماعة، والمعنى: انفروا جماعات متفرقات. قوله "أو انفروا جميعاً" أي: مجتمعين جيشاً واحداً. ومعنى الآية: الأمر لهم بأن ينفروا على أحد الوصفين ليكون ذلك أشد على عدوهم وليأمنوا من أن يتخطفهم الأعداء إذا نفر كل واحد منهم وحده أو نحو ذلك، وقيل: إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى "انفروا خفافاً وثقالاً" وبقوله " إلا تنفروا يعذبكم " والصحيح أن الآيتين جميعاً محكمتان: إحداهما في الوقت الذي يحتاج فيه إلى نفور الجميع، والأخرى عند الاكتفاء بنفور البعض دون البعض.

وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا

قوله 72- "وإن منكم لمن ليبطئن" التبطئة والإبطاء التأخر، والمراد: المنافقون كانوا يقعدون عن الخروج ويقعدون غيرهم. والمعنى: أن من دخلائكم وجنسكم ومن أظهر إيمانه لكم نفاقاً من يبطئ المؤمنين ويثبطهم، واللام في قوله "لمن" لام توكيد. وفي قوله "ليبطئن" لام جواب القسم، ومن في موضع نصب وصلتها الجملة، وقرأ مجاهد والنخعي والكلبي "ليبطئن" بالتخفيف "فإن أصابتكم مصيبة" من قتل أو هزيمة أو ذهاب مال. قال هذا المنافق: قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم حتى يصيبني ما أصابهم.

وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا

73- "ولئن أصابكم فضل من" غنيمة أو فتح "ليقولن" هذا المنافق قول نادم حاسد "يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيماً". قوله " كأن لم تكن بينكم وبينه مودة " جملة معترضة بين الفعل الذي هو ليقولن وبين مفعوله، وهو "يا ليتني" وقيل: إن في الكلام تقديماً وتأخيراً- وقيل المعنى: ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة: أي: كأن لم يعاقدكم على الجهاد، وقيل: هو في موضع نصب على الحال. وقرأ الحسن "ليقولن" بضم اللام على معنى من. وقرأ ابن كثير وحفص بن عاصم "كأن لم تكن" بالتاء على لفظ المودة. قوله "فأفوز" بالنصب على جواب التمني. وقرأ الحسن "فأفوز" بالرفع.

فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا

قوله 74- "فليقاتل في سبيل الله" هذا أمر للمؤمنين وقدم الظرف على الفاعل للاهتمام به، "الذين يشترون" معناه يبيعون وهم المؤمنون، والفاء في قوله "فليقاتل" جواب الشرط مقدر أي: إن لم يقاتل هؤلاء المذكورون سابقاً الموصوفون بين منهم لمن ليبطئن، فليقاتل المخلصون الباذلون أنفسهم البائعون للحياة الدنيا بالآخرة، ثم وعد المقاتلين في سبيل الله بأنه سيؤتيهم أجراً عظيماً لا يقادر قدره، وذلك أنه إذا قتل فاز بالشهادة التي هي أعلى درجات الأجور، وإن غلب وظفر كان له أجر من قاتل في سبيل الله مع ما قد ناله من العلو في الدنيا والغنيمة، وظاهر هذا يقتضي التسوية بين من قتل شهيداً أو انقلب غانماً، وربما يقال إن التسوية بينهما إنما هي في إيتاء الأجر العظيم، ولا يلزم أن يكون أجرهما مستوياً، فإن كون الشيء عظيماً هو من الأمور النسبية التي يكون بعضها عظيماً بالنسبة إلى ما هو دونه وحقيراً بالنسبة إلى ما هو فوقه.

وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا

قوله 75- "وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله" خطاب للمؤمنين المأمورين بالقتال على طريق الالتفات. قوله "والمستضعفين" مجرور عطفاً على الاسم الشريف أي: ما لكم لا تقاتلون في سبيل الله وسبيل المستضعفين حتى تخلصوهم من الأسر وتريحوهم مما هم فيه من الجهد. ويجوز أن يكون منصوباً على الاختصاص: أي وأخص المستضعفين فإنهم من أعظم ما يصدق عليه سبيل الله، واختار الأول الزجاج والأزهري. وقال محمد بن يزيد: أختار أن يكون المعنى وفي المستضعفين فيكون عطفاً على السبيل، والمراد بالمستضعفين هنا من كان بمكة من المؤمنين تحت إذلال الكفار، وهم الذين كان يدعو لهم النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: "اللهم أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين من المؤمنين" كما في الصحيح. ولا يبعد أن يقال: إن لفظ الآية أوسع، والاعتبار بعموم اللفظ لولا تقييده بقوله: "الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها" فإنه يشعر باختصاص ذلك بالمستضعفين الكائنين في مكة لأنه قد أجمع المفسرون على أن المراد بالقرية الظالم أهلها مكة. وقوله "من الرجال والنساء والولدان" بيان للمستضعفين.

الَّذِينَ آَمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا

قوله 76- "الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله" هذا ترغيب للمؤمنين وتنشيط لهم بأن قتالهم لهذا المقصد لا لغيره "والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت" أي: سبيل الشيطان أو الكهان أو الأصنام، وتفسير الطاغوت هنا بالشيطان أولى لقوله "فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفاً" أي: مكره ومكر من اتبعه من الكفار. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله "فانفروا ثبات" قال: عصباً، يعني سرايا متفرقين "أو انفروا جميعاً" يعني: كلكم. وأخرج أبو داود في ناسخه وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عنه قال في سورة النساء. "خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعاً" نسختها "وما كان المؤمنون لينفروا كافة". وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله "ثبات" أي: فرقاً قليلاً. وأخرج عن قتادة في قوله "أو انفروا جميعاً" أي: إذا نفر نبي الله صلى الله عليه وسلم فليس لأحد أن يتخلف عنه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي نحوه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله "وإن منكم لمن ليبطئن" إلى قوله "فسوف نؤتيه أجراً عظيماً" ما بين ذلك في المنافقين. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن مقاتل بن حبان في الآية قال: هو فيما بلغنا عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير "فليقاتل" يعني يقاتل المشركين "في سبيل الله" في طاعة الله "ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل" يعني: يقتله العدو "أو يغلب" يعني: يغلب العدو من المشركين "فسوف نؤتيه أجراً عظيماً" يعني: جزاءً وافراً في الجنة، فجعل القاتل والمقتول من المسلمين في جهاد المشركين شريكين في الأجر. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله "في سبيل الله والمستضعفين" قال: وفي المستضعفين. وأخرج ابن جرير عن الزهري قال: وسبيل المستضعفين. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه من طريق العوفي قال: المستضعفون أناس مسلمون كانوا بمكة لا يستطيعون أن يخرجوا منها. وأخرج البخاري عنه قال: "أنا وأمي من المستضعفين". وأخرج ابن جرير عنه قال: القرية الظالم أهلها مكة. وأخرج ابن أبي حاتم عن عائشة مثله. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: إذا رأيتم الشيطان فلا تخافوه واحملوا عليه "إن كيد الشيطان كان ضعيفاً". قال مجاهد: كان الشيطان يتراءى لي في الصلاة فكنت أذكر قول ابن عباس فأحمل عليه فيذهب عني.

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَ

قوله 77- "ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم" الآية، قيل: هم جماعة من الصحابة أمروا بترك القتال في مكة بعد أن تسرعوا إليه. فلما كتب عليهم بالمدينة تثبطوا عن القتال من غير شك في الدين بل خوفاً من الموت وفرقاً من هول القتل، وقيل: إنها نزلت في اليهود، وقيل في المنافقين أسلموا قبل فرض القتال، فلما فرض كرهوه، وهذا أشبه بالسياق لقوله: "وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب" وقوله "وإن تصبهم حسنة" الآية. ويبعد صدور مثل هذا من الصحابة. قوله "كخشية الله" صفة مصدر محذوف: أي خشية كخشية الله، أو حال: أي: تخشونهم مشبهين أهل خشية الله، والمصدر مضاف إلى المفعول: أي كخشيتهم الله. وقوله "أو أشد خشية" معطوف على "كخشية الله" في محل جر، أو معطوف على الجار والمجرور جميعاً فيكون في محل الحال كالمعطوف عليه أو للتنويع على معنى أن خشية بعضهم كخشية الله وخشية بعضهم أشد منها. قوله "وقالوا" عطف على ما يدل عليه قوله "إذا فريق منهم" أي: فلما كتب عليهم القتال فاجأ فريق منهم خشية الناس "وقالوا: ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا" أي: هلا أخرتنا، يريدون المهلة إلى وقت آخر قريب من الوقت الذي فرض عليهم فيه القتال، فأمره الله سبحانه بأن يجيب عليهم فقال "قل متاع الدنيا قليل" سريع الفناء لا يدوم لصاحبه، وثواب الآخرة خير لكم من المتاع القليل "لمن اتقى" منكم ورغب في الثواب الدائم "ولا تظلمون فتيلاً" أي: شيئاً حقيراً يسيراً، وقد تقدم تفسير الفتيل قريباً، وإذا كنتم توفرون أجوركم ولا تنقصون شيئاً منها، فكيف ترغبون عن ذلك وتشتغلون بمتاع الدنيا مع قلته وانقطاعه.

أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ

وقوله 78- "أينما تكونوا يدرككم الموت" كلام مبتدأ، وفيه حث لمن قعد عن القتال خشية الموت، وبيان لفساد ما خالطه من الجن وخامره من الخشية، فإن الموت إذا كان كائناً لا محالة. فمن لم يمت بالسيف مات بغيره والبروج جمع برج: وهو البناء المرتفع، والمشيدة: المرفعة من شاد القصر: إذا رفعه وطلاه بالشيد وهو الجص، وجواب لولا محذوف لدلالة ما قبله عليه. وقد اختلف في هذه البروج ما هي؟ فقيل: الحصون التي في الأرض، وقيل: هي القصور. قال الزجاج والقتيبي: ومعنى مشيدة مطولة، وقيل: معناه مطلية بالشيد وهو الجص، وقيل: المراد بالبروج بروج في سماء الدنيا مبنية حكاه مكي عن مالك، وقال: ألا ترى إلى قوله "والسماء ذات البروج"، "جعل في السماء بروجاً"، "ولقد جعلنا في السماء بروجاً" وقيل: إن المراد بالبروج المشيدة هنا قصور من حديد. وقرأ طلحة بن سليمان "يدرككم الموت" بالرفع على تقدير الفاء كما في قوله: وقال رائدهم أرسوا نزاولها

مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا

قوله 79- "وإن تصبهم حسنة" هذا وما بعده مختص بالمنافقين: أي إن تصبهم نعمة نسبوها إلى الله تعالى، وإن تصبهم بلية ونقمة نسبوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرد الله ذلك عليهم بقوله "قل كل من عند الله" ليس كما تزعمون، ثم نسبهم إلى الجهل وعدم الفهم فقال "فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً" أي: ما بالهم هكذا. قوله "ما أصابك من حسنة فمن الله" هذا الخطاب إما لكل من يصلح له من الناس، أو لرسول الله صلى الله عليه وسلم تعريضاً لأمته: أي: ما أصابك من خصب ورخاء وصحة وسلامة فمن الله بفضله ورحمته، وما أصابك من جهد وبلاء وشدة فمن نفسك بذنب أتيته فعوقبت عليه، وقيل: إن هذا من كلام الذين لا يفقهون حديثاً: أي فيقولون: ما أصابك من حسنة فمن الله، وقيل: إن ألف الاستفهام مضمرة: أي أفمن نفسك، ومثله قوله تعالى "وتلك نعمة تمنها علي" والمعنى: أو تلك نعمة ومثله قوله "فلما رأى القمر بازغاً قال: هذا ربي" أي: أهذا ربي ومنه قول أبي خراش الهذلي: رموني وقالوا يا خويلد لم ترع فقلت وأنكرت الوجوه هم هم أي: أهم أهم، وهذا خلاف الظاهر، وقد ورد في الكتاب العزيز ما يفيد مفاد هذه الآية كقوله تعالى "وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير"، وقوله "أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم". وقد يظن أن قوله "وما أصابك من سيئة فمن نفسك" مناف لقوله "قل كل من عند الله" ولقوله "وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله"، وقوله "ونبلوكم بالشر والخير فتنة" وقوله "وإذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مرد له وما لهم من دونه من وال" وليس الأمر كذلك. فالجمع ممكن كما هو مقرر في مواطنه. قوله "وأرسلناك للناس رسولاً" فيه البيان لعموم رسالته صلى الله عليه وسلم إلى الجميع كما يفيده التأكيد بالمصدر والعموم في الناس، ومثله قوله "وما أرسلناك إلا كافة للناس"، وقوله "يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً" "وكفى بالله شهيداً" على ذلك.

مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا

قوله 80- "من يطع الرسول فقد أطاع الله" فيه أن طاعة الرسول طاعة لله، وفي هذا من النداء بشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلو شانه وارتفاع مرتبته ما لا يقادر قدره ولا يبلغ مداه، ووجهه أن الرسول لا يأمر إلا بما أمر الله به، ولا ينهى إلا عما نهى الله عنه "ومن تولى" أي أعرض "فما أرسلناك عليهم حفيظاً" أي حافظاً لأعمالهم، إنما عليك البلاغ.

وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا

وقد نسخ هذا بآية السيف 81- "ويقولون طاعة" بالرفع على أنها خبر مبتدأ محذوف: أي أمرنا طاعة، أو شأننا طاعة. وقرأ الحسن والجحدري ونصر بن عاصم بالنصب على المصدر: أي نطيع طاعة وهذه في المنافقين في قول أكثر المفسرين: أي يقولون إذا كانوا عندك طاعة " فإذا برزوا من عندك " أي: خرجوا من عندك "بيت طائفة منهم" أي: زورت طائفة من هؤلاء القائلين غير الذي تقول لهم أنت وتأمرهم به، أو غير الذي تقول لك هي من الطاعة لك، وقيل معناه: غيروا وبدلوا وحرفوا قولك فيما عهدت إليهم، والتبييت: التبديل، ومنه قول الشاعر: أتوني فلم أرض ما بيتوا وكانوا أتوني بأمر نكر يقال بيت الرجل الأمر: إذا تدبره ليلاً، ومنه قوله تعالى "إذ يبيتون ما لا يرضى من القول". "والله يكتب ما يبيتون" أي: يثبته في صحائف أعمالهم ليجازيهم عليه. وقال الزجاج: المعنى ينزله عليك في الكتاب. قوله "فأعرض عنهم" أي: دعهم وشأنهم حتى يمكن الانتقام منهم، وقيل معناه: لا تخبر بأسمائهم، وقيل معناه: لا تعاقبهم. ثم أمره بالتوكل عليه والثقة به في النصر على عدوه قيل وهذا منسوخ بآية السيف. وقد أخرج النسائي وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن ابن عباس: "أن عبد الرحمن بن عوف وأصحاباً له أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا نبي الله كنا في عزة ونحن مشركون فلما آمنا صرنا أذلة؟ فقال: إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم، فلما حوله الله إلى المدينة أمره بالقتال فكفوا، فأنزل الله "ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم" الآية". وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في تفسير الآية نحوه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد: أنها نزلت في اليهود. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله "فلما كتب عليهم القتال إذا فريق" الآية، قال: نهى الله هذه الأمة أن يصنعوا صنيعهم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي في قوله "إلى أجل قريب" قال: هو الموت. وأخرجا نحوه عن ابن جريج. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة "في بروج مشيدة" قال: في قصور محصنة. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة نحوه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي العالية قال: هي قصور في السماء. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن سفيان نحوه. وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن قتادة في قوله "وإن تصبهم حسنة" يقول: نعمة "وإن تصبهم سيئة" قال: مصيبة "قل كل من عند الله" قال: النعم والمصائب. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله "وإن تصبهم حسنة" قال: هذه في السراء والضراء، وفي قوله "ما أصابك من حسنة" قال: هذه في الحسنات والسيئات. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله "قل كل من عند الله" يقول: الحسنة والسيئة من عند الله، أما الحسنة فأنعم بها عليك، وأما السيئة فابتلاك بها، وفي قوله "وما أصابك من سيئة" قال: ما أصابه يوم أحد أن شج وجهه وكسرت رباعيته. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق العوفي عنه في قوله "وما أصابك من سيئة فمن نفسك" قال: هذا يوم أحد يقول: ما كانت من نكبة فبذنبك وأنا قدرت ذلك. وأخرج ابن المنذر من طريق مجاهد أن ابن عباس كان يقرأ وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأنا كتبتها عليك قال مجاهد: وكذلك قراءة أبي وابن مسعود. وأخرج نحو قول مجاهد هذا ابن الأنباري في المصاحف. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله "ويقولون طاعة" قال: هم أناس كانوا يقولون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم آمنا بالله ورسوله ليأمنوا على دمائهم وأموالهم "فإذا برزوا" من عند رسول الله "بيت طائفة منهم" يقول: خالفوا إلى غير ما قالوا عنده فعابهم الله. وأخرج ابن جرير عنه قال: غير أولئك ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم.

أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا

الهمزة في قوله 82- "أفلا يتدبرون" للإنكار، والفاء للعطف على مقدر: أي أيعرضون عن القرآن فلا يتدبرونه، يقال تدبرت الشيء: تفكرت في عاقبته وتأملته، ثم استعمل في كل تأمل، والتدبير: أن يدبر الإنسان أمره كأنه ينظر إلى ما تصير إليه عاقبته، ودلت هذه الآية، وقوله تعالى "أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها" على وجوب التدبر للقرآن ليعرف معناه. والمعنى: أنهم لو تدبروه حق تدبره لوجدوه مؤتلفاً غير مختلف، صحيح المعاني، قوي المباني، بالغاً في البلاغة إلى أعلى درجاتها "ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً" أي: تفاوتاً وتناقضاً، ولا يدخل في هذا اختلاف مقادير الآيات والسور، لأن المراد اختلاف التناقض والتفاوت وعدم المطابقة للواقع، وهذا شأن كلام البشر لا سيما إذا طال وتعرض قائله للإخبار بالغيب، فإنه لا يوجد منه صحيحاً مطابقاً للواقع إلا القليل النادر.

وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّي

قوله 83- " وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به " يقال: أذاع الشيء وأذاع به: إذا أفشاه وأظهره، وهؤلاء هم جماعة من ضعفة المسلمين كانوا إذا سمعوا شيئاً من أمر المسلمين فيه أمن نحو ظفر المسلمين وقتل عدوهم، أو فيه خوف نحو هزيمة المسلمين وقتلهم أفشوه وهم يظنون أنه لا شيء عليهم في ذلك. قوله "ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم" وهم أهل العلم والعقول الراجحة الذين يرجعون إليهم في أمورهم أو هم الولاة عليهم "لعلمه الذين يستنبطونه منهم" أي: يستخرجونه بتدبيرهم وصحة عقولهم. والمعنى: أنهم لو تركوا الإذاعة للأخبار حتى يكون النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يذيعها أو يكون أولي الأمر منهم هم الذين يتولون ذلك، لانهم يعلمون ما ينبغي أن يفشى وما ينبغي أن يكتم. والاستنباط مأخوذ من استنبطت الماء: إذا استخرجته. والنبط: الماء المستنبط أول ما يخرج من ماء البئر عند حفرها، وقيل: إن هؤلاء الضعفة كانوا يسمعون إرجافات المنافقين على المسلمين فيذيعونها فتحصل بذلك المفسدة. قوله "ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا" أي: لولا ما تفضل الله به عليكم من إرسال رسوله وإنزال كتابه لاتبعتم الشيطان فبقيتم على كفركم إلا قليلاً منكم، أو إلا اتباعاً قليلاً منكم، وقيل المعنى: أذاعوا به إلا قليلاً منهم فإنه لم يذع ولم يفش، قاله الكسائي والأخفش والفراء وأبو عبيدة وأبو حاتم وابن جرير، وقيل المعنى لعلمه الذين يستنبطونه إلا قليلاً منهم، قاله الزجاج. وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة "ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً" يقول: إن قول الله لا يختلف وهو حق ليس فيه باطل، وإن قول الناس يختلف. وأخرج عبد بن حميد ومسلم وابن أبي حاتم من طريق ابن عباس عن عمر بن الخطاب قال: لما اعتزل النبي صلى الله عليه وسلم نساءه دخلت المسجد، فوجدت الناس ينكتون بالحصا ويقولون: طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه، فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي: لم يطلق نساءه، ونزلت هذه الآية "وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم" فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في الآية، قال: هذا في الإخبار إذا غزت سرية من المسلمين أخبر الناس عنها، فقالوا: أصاب المسلمون من عدوهم كذا وكذا، وأصاب العدو من المسلمين كذا وكذا، فأفشوه بينهم من غير أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم هو يخبرهم به. وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك "وإذا جاءهم" قال: هم أهل النفاق. وأخرج ابن جرير عن أبي معاذ مثله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله "ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان" قال: فانقطع الكلام. وقوله "إلا قليلاً" فهو في أول الآية يخبر عن المنافقين: قال " وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به " يعني: بالقليل المؤمنين.

فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا

الفاء في قوله 84- "فقاتل" قيل: هي متعلقة بقوله "ومن يقاتل في سبيل الله" إلخ: أي من أجل هذا فقاتل، وقيل: متعلقة بقوله "وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله" فقاتل، وقيل: هي جواب شرط محذوف يدل عليه السياق تقديره: إذا كان الأمر ما ذكر من عدم طاعة المنافقين فقاتل، أو إذا أفردوك وتركوك فقاتل. قال الزجاج: أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالجهاد وإن قاتل وحده، لأنه قد ضمن له النصر. قال ابن عطية: هذا ظاهر اللفظ، إلا أنه لم يجيء في خبر قط أن القتال فرض عليه دون الأمة، فالمعنى والله أعلم: أنه خطاب له في اللفظ، وفي المعنى له ولأمته: أي أنت يا محمد وكل واحد من أمتك يقال له "فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك" أي: لا تكلف غير نفسك ولا تلزم فعل غيرك، وهو استئناف مقرر لما قبله، لأن اختصاص تكليفه بفعل نفسه من موجبات مباشرته للقتال وحده، وقرئ "لا تكلف" بالجزم على النهي، وقرئ بالنون. قوله "وحرض المؤمنين" أي: حضهم على القتال والجهاد، يقال: حرضت فلاناً على كذا: إذا أمرته به، وحارض فلان على الأمر وأكب عليه وواظب عليه بمعنى واحد. قوله "عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا" فيه إطماع للمؤمنين بكف بأس الذين كفروا عنهم والاطماع من الله عز وجل واجب، فهو وعد منه سبحانه، ووعده كائن لا محالة "والله أشد بأساً" أي: أشد صولة وأعظم سلطاناً "وأشد تنكيلاً" أي: عقوبة، يقال: نكلت بالرجل تنكيلاً من النكال وهو العذاب. والمنكل الشيء الذي ينكل بالإنسان.

مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا

85- "من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها" أصل الشفاعة والشفعة ونحوهما من الشفع وهو الزوج، ومنه الشفيع لأنه يصير مع صاحب الحاجة شفعاً، ومنه ناقة شفوع: إذا جمعت بين محلبين في حلبة واحدة وناقة شفيع: إذا اجتمع لها حمل وولد يتبعها. والشفع: ضم واحد إلى واحد. والشفعة: ضم ملك الشريك إلى ملكه، فالشفاعة: ضم غيرك إلى جاهك ووسيلتك، فهي على التحقيق إظهار لمنزلة الشفيع عند المشفع واتصال منفعة إلى المشفوع له. والشفاعة الحسنة هي في البر والطاعة. والشفاعة السيئة في المعاصي، فمن شفع في الخير لينفع فله نصيب منها، أي من أجرها، ومن شفع في الشر كمن يسعى بالنميمة والغيبة كان له كفل منها، أي نصيب من وزرها. والكفل: الوزر والإثم، واشتقاقه من الكساء الذي يجعله الراكب على سنام البعير لئلا يسقط، يقال اكتفلت البعير: إذا أدركت على سنامه كساء وركبت عليه، لأنه لم يستعمل الظهر كله بل استعمل نصيباً منه ويستعمل في النصيب من الخير والشر. ومن استعماله في الخير قوله تعالى "يؤتكم كفلين من رحمته" "وكان الله على كل شيء مقيتاً" أي: مقتدراً، قاله الكسائي. وقال الفراء: المقيت الذي يعطي كل إنسان قوته، يقال: قته أقوته قوتاً، وأقته أقيته إقاتة فأنا قائت ومقيت، وحكى الكسائي أقات يقيت. وقال أبو عبيدة: المقيت الحافظ. قال النحاس: وقول أبي عبيدة لأنه مشتق من القوت، والقوت معناه: مقدار ما يحفظ الإنسان. وقال ابن فارس في المجمل: المقيت المقتدر. والمقيت: الحافظ والشاهد. وأما قول الشاعر: ألي الفضل أم علي إذا حو سبت إني على الحساب مقيت فقال ابن جرير الطبري إنه من غير هذا المعنى.

وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا

قوله 86- "وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها" التحية تفعلة من حييت، والأصل تحيية مثل ترضية وتسمية فأدغموا الياء في الياء وأصلها الدعاء بالحياة. والتحية: السلام، وهذا المعنى هو المراد هنا، ومثله قوله تعالى " وإذا جاؤوك حيوك بما لم يحيك به الله " وإلى هذا ذهب جماعة المفسرين، وروي عن مالك أن المراد بالتحية هنا تشميت العاطس. وقال أصحاب أبي حنيفة، التحتية هنا الهدية لقوله "أو ردوها" ولا يمكن رد السلام بعينه، وهذا فاسد لا ينبغي الالتفات إليه. والمراد بقوله "فحيوا بأحسن منها" أن يزيد في الجواب على ما قاله المبتدئ بالتحتية، فإذا قال المبتدئ: السلام عليكم، قال المجيب: وعليكم السلام ورحمة الله، وإذا زاد المبتدئ لفظاً زاد المجيب على جملة ما جاء به المبتدئ لفظاً أو ألفاظاً نحو: وبركاته ومرضاته وتحياته. قال القرطبي: أجمع العلماء على أن الابتداء بالسلام سنة مرغب فيها، ورده فريضة لقوله "فحيوا بأحسن منها أو ردوها" واختلفوا إذا رد واحد من جماعة هل يجزئ أو لا؟ فذهب مالك الشافعي إلى الإجزاء، وذهب الكوفيون إلى أنه لا يجزئ عن غيره، ويرد عليهم حديث علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يجزئ من الجماعة إذا مروا أن يسلم أحدهم، ويجزئ عن الجلوس أن يرد أحدهم" أخرجه أبو داود، وفي إسناده سعيد بن خالد الخزاعي المدني وليس به بأس، وقد ضعفه بعضهم. وقد حسن الحديث ابن عبد البر. ومعنى قوله "أو ردوها" الاقتصار على مثل اللفظ الذي جاء به المبتدئ، فإذا قال السلام عليكم، قال المجيب: وعليكم السلام. وقد ورد في السنة المطهرة في تعيين من يبتدئ بالسلام ومن يستحق التحية ومن لا يستحقها ما يغني عن البسط ها هنا. قوله "إن الله كان على كل شيء حسيباً" يحاسبكم على كل شيء، وقيل: معناه حفيظاً، وقيل: كافياً من قولهم أحسبني كذا: أي كفاني، ومثله "حسبك الله".

اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا

قوله 87- "الله لا إله إلا هو" مبتدأ وخبر، واللام في قوله "ليجمعنكم" جواب قسم محذوف: أي والله ليجمعنكم الله بالحشر إلى يوم القيامة: أي إلى حساب يوم القيامة، وقيل: إلى بمعنى في، وقيل: إنها زائدة. والمعنى: ليجمعنكم يوم القيامة، و"يوم القيامة" يوم القيام من القبور "لا ريب فيه" أي: في يوم القيامة، أو في الجمع: أي جمعاً لا ريب فيه "ومن أصدق من الله حديثاً" إنكار لأن يكون أحد أصدق منه سبحانه. وقرأ حمزة والكسائي ومن أزدق بالزاي. وقرأ الباقون بالصاد، والصاد الأصل. وقد تبدل زاياً لقرب مخرجها منها. وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي سنان في قوله "وحرض المؤمنين" قال: عظهم. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله "من يشفع شفاعة حسنة" الآية، قال: شفاعة الناس بعضهم لبعض. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله "يكن له نصيب منها" قال: حظ منها. وقوله "كفل منها" قال: الكفل هو الإثم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي قال: الكفل الحظ. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس في قوله "وكان الله على كل شيء مقيتاً" قال: حفيظاً. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن عبد الله بن رواحة: أنه سأله رجل عن قول الله "وكان الله على كل شيء مقيتاً" قال: يقيت كل إنسان بقدر عمله. وفي إسناده رجل مجهول. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله "مقيتاً" قال: شهيداً. وأخرج ابن جرير عنه "مقيتاً" قال: شهيداً حسيباً حفيظاً. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله "مقيتاً" قال: قادراً. وأخرج ابن جرير عن السدي قال: المقيت القدير. وأخرج أيضاً عن ابن زيد مثله. وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك قال: المقيت الرزاق. وأخرج ابن أبي شيبة والبخاري في الأدب المفرد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: من سلم عليك من خلق الله فاردد عليه وإن كان يهودياً أو نصرانياً أو مجوسياً، ذلك بأن الله يقول "وإذا حييتم بتحية" الآية. وأخرج أحمد في الزهد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه قال السيوطي بسند حسن عن سلمان الفارسي قال: "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليك يا رسول الله، فقال: وعليك ورحمة الله، ثم أتى آخر فقال: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله، فقال: وعليك ورحمة الله وبركاته، ثم جاء آخر فقال: السلام عليك ورحمة الله وبركاته، فقال له: وعليك، فقال له الرجل: يا نبي الله، بأبي أنت وأمي أتاك فلان وفلان فسلما عليك فرددت عليهما أكثر مما رددت علي؟ فقال: إنك لم تدع لنا شيئاً، قال الله: "وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها" فرددناها عليك". وأخرج البخاري في الأدب المفرد عن أبي هريرة: "أن رجلاً مر على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مجلس فقال: سلام عليكم، فقال: عشر حسنات، فمر رجل آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله، فقال: عشرون حسنة، فمر رجل آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فقال: ثلاثون حسنة". وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر مرفوعاً نحوه. وأخرج البيهقي عن سهل بن حنيف مرفوعاً نحوه أيضاً. وأخرج أحمد والدارمي وأبو داود والترمذي وحسنه والنسائي والبيهقي عن عمران بن حصين مرفوعاً نحوه أيضاً، وزاد بعد كل مرة أن النبي صلى الله عليه وسلم رد عليه، ثم قال: عشر إلى آخره. وأخرج أبو داود والبيهقي عن معاذ بن أنس الجهني مرفوعاً نحوه، وزاد بعد قوله وبركاته: ومغفرته، فقال: أربعون، يعني حسنة.

فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا

الاستفهام في قوله 88- "ما لكم" للإنكار، واسم الاستفهام مبتدأ وما بعده خبره. والمعنى: أي شيء كائن لكم "في المنافقين" أي: في أمرهم وشأنهم حال كونكم "فئتين" في ذلك. وحاصله الإنكار على المخاطبين أن يكون لهم شيء يوجب اختلافهم في شأن المنافقين. وقد اختلف النحويون في انتصاب فئتين، فقال الأخفش والبصريون على الحال كقولك: ما لك قائماً. وقال الكوفيون انتصابه على أنه خبر لكان، وهي مضمرة، والتقدير: فما لكم في المنافقين كنتم فئتين. وسبب نزول الآية ما سيأتي وبه يتضح المعنى. وقوله "والله أركسهم" معناه: ردهم إلى الكفر "بما كسبوا" وحكى الفراء والنضر بن شميل والكسائي أركسهم وركسهم: أي ردهم إلى الكفر ونكسهم، فالركس والنكس: قلب الشيء على رأسه، أو رد أوله إلى آخره، والمنكوس المركوس، وفي قراءة عبد الله بن مسعود وأبي " والله أركسهم " ومنه قول عبد الله بن رواحة: أركسوا في فئة مظلمة كسواد الليل يتلوها فتن والباء في قوله "بما كسبوا" سببية: أي أركسهم بسبب كسبهم، وهو لحوقهم بدار الكفر، والاستفهام في قوله "أتريدون أن تهدوا من أضل الله" للتقريع والتوبيخ، وفيه دليل على أن من أضله الله لا تنجع فيه هداية البشر "إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء". قوله "ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلاً" أي: طريقاً إلى الهداية.

وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِير

قوله 89- "ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء" هذا كلام مستأنف يتضمن بيان حال هؤلاء المنافقين وإيضاح أنهم يودون أن يكفر المؤمنون كما كفروا ويتمنوا ذلك عناداً وغلواً في الكفر وتمادياً في الضلال، فالكاف في قوله "كما" نعت مصدر محذوف: أي كفراً مثل كفرهم، أو حال كما روي عن سيبويه. قوله "فتكونون سواء" عطف على قوله "تكفرون" داخل في حكمه: أي ودوا كفركم ككفرهم، وودوا مساواتكم لهم. قوله "فلا تتخذوا منهم أولياء" جواب شرط محذوف: أي إذا كان حالهم ما ذكر فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يؤمنوا ويحققوا إيمانهم بالهجرة "فإن تولوا" عن ذلك "فخذوهم" إذا قدرتم عليهم "واقتلوهم حيث وجدتموهم" في الحل والحرم "ولا تتخذوا منهم ولياً" توالونه "ولا نصيراً" تستنصرون به.

إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَا

قوله 90- "إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق" هو مستثنى من قوله "فخذوهم واقتلوهم" أي: إلا الذين يتصلون ويدخلون في قوم بينكم وبينهم ميثاق بالجوار والحلف فلا تقتلوهم لما بينهم وبين من بينكم وبينهم عهد وميثاق فإن العهد يشملهم. هذا أصح ما قيل في معنى الآية وقيل: الاتصال هنا هو اتصال النسب. والمعنى: إلا الذين ينتسبون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق قاله أبو عبيدة، وقد أنكر ذلك أهل العلم عليه لأن النسب لا يمنع من القتال بالإجماع، فقد كان بين المسلمين وبين المشركين أنساب ولم يمنع ذلك من القتال. وقد اختلف في هؤلاء القوم الذين كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ميثاق، فقيل: هم قريش كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم ميثاق "والذين يصلون" إلى قريش هم بنو مدلج، وقيل: نزلت في هلال بن عويمر وسراقة بن جعشم وخزيمة بن عامر بن عبد بمناف كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد، وقل: خزاعة، وقيل: بنو بكر بن زيد. قوله " أو جاؤوكم حصرت صدورهم " عطف على قوله "يصلون" داخل في حكم الاستثناء: أي إلا الذين يصلون والذين جاءوكم، ويجوز أن يكون عطفاً على صفة قوم: أي إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق والذين يصلون إلى قوم جاءوكم حصرت صدورهم: أي ضاقت صدورهم عن القتال فأمسكوا عنه، والحصر الضيق والانقباض. قال الفراء: وهو أي حصرت صدورهم حال من المضمر المرفوع في جاءوكم كما تقول: جاء فلان ذهب عقله، أي: قد ذهب عقله. وقال الزجاج: هو خبر بعد خبر، أي جاءوكم، ثم أخبر فقال "حصرت صدورهم" فعلى هذا يكون حصرت بدلاً من جاءوكم، وقيل: حصرت في موضع خفض على النعت لقوم، وقيل التقدير: أو جاءوكم رجال أو قوم حصرت صدورهم. وقرأ الحسن " أو جاؤوكم حصرت صدورهم " نصباً على الحال. وقرئ حصرات وحاصرات، وقال محمد بن يزيد المبرد: حصرت صدورهم هو دعاء عليهم كما تقول: لعن الله الكافر، وضعفه بعض المفسرين، وقيل: أو بمعنى الواو. وقوله "أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم" هو متعلق بقوله "حصرت صدورهم" أي: حصرت صدورهم عن قتالكم والقتال معكم لقومهم، فضاقت صدورهم عن قتال الطائفتين وكرهوا ذلك "ولو شاء الله لسلطهم عليكم" ابتلاء منه لكم واختباراً كما قال سبحانه "ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم" أو تمحيصاً لكم أو عقوبة بذنوبكم، ولكنه سبحانه لم يشأ ذلك، واللام في قوله "فلقاتلوكم" جواب لو على تكرير الجواب: أي لو شاء الله لسلطهم ولقاتلوكم، والفاء للتعقيب "فإن اعتزلوكم" ولم يتعرضوا لقتالكم "وألقوا إليكم السلم" أي: استسلموا لكم وانقادوا "فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً" أي: طريقاً، فلا يحل لكم قتلهم ولا أسرهم ولا نهب أموالهم، فهذا الاستسلام يمنع من ذلك ويحرمه.

سَتَجِدُونَ آَخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْ

91- "ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم" فيظهرون لكم الإسلام ويظهرون لقومهم الكفر ليأمنوا من كلا الطائفتين، وهم قوم من أهل تهامة طلبوا الأمان من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأمنوا عنده وعند قومهم وقيل: هي في قوم من أهل مكة، وقيل: في نعيم بن مسعود فإنه كان يأمن المسلمين والمشركين، وقيل: في قوم من المنافقين، وقيل: في أسد وغطفان " كل ما ردوا إلى الفتنة " أي دعاهم قومهم إليها وطلبوا منهم قتال المسلمين "أركسوا فيها" أي: قلبوا فيها فرجعوا إلى قومهم وقاتلوا المسلمين، ومعنى الارتكاس الانتكاس "فإن لم يعتزلوكم" يعني: هؤلاء الذين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم "ويلقوا إليكم السلم" أي: يستسلمون لكم ويدخلون في عهدكم وصلحكم وينسلخون عن قومهم "ويكفوا أيديهم" عن قتالكم "فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم" أي: حيث وجدتموهم وتمكنتم منهم "وأولئكم" الموصوفون بتلك الصفات "جعلنا لكم عليهم سلطاناً مبيناً" أي: حجة واضحة تتسلطون بها عليهم وتقهرونهم بها بسبب ما في قلوبهم من المرض وما في صدورهم من الدغل، وارتكاسهم في الفتنة بأيسر عمل وأقل سعي. وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث زيد بن ثابت "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى أحد، فرجع ناس خرجوا معه، فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم فرقتين فرقة تقول نقتلهم وفرقة تقول لا، فأنزل الله "فما لكم في المنافقين فئتين" الآية كلها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنها طيبة وإنها تنفي الخبث كما تنفي النار خبث الفضة". هذا أصح ماروي في سبب نزول الآية، وقد رويت أسباب غير ذلك. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس "والله أركسهم" يقول: أوقعهم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه قال: ردهم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله "إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق" قال: نزلت في هلال بن عويمر وسراقة بن مالك المدلجي، وفي بني خزيمة بن عامر بن عبد مناف. وأخرج أبو داود في ناسخه وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس والبيهقي في سننه عنه في قوله "إلا الذين يصلون" الآية، قال: نسختها براءة "فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن السدي "حصرت صدورهم" يقول: ضاقت صدورهم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الربيع "وألقوا إليكم السلم" قال: الصلح. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله "فإن اعتزلوكم" الآية، قال: نسختها "فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم". وأخرج ابن جرير عن الحسن وعكرمة في هذه الآية قال: نسختها براءة. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله "ستجدون آخرين" الآية، قال: ناس من أهل مكة كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيسلمون رياء، ثم يرجعون إلى قومهم فيرتكسون في الأوثان يبتغون بذلك أن يأمنوا ها هنا وها هنا، فامر بقتالهم إن لم يعتزلوا ويصالحوا. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة أنهم ناس كانوا بتهامة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي أنها نزلت في نعيم بن مسعود.

وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَ

قوله 92- "وما كان لمؤمن" هذا النفي هو بمعنى النهي المقتضي للتحريم كقوله "وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله" ولو كان هذا النفي على معناه لكان خبراً وهو يستلزم صدقه، فلا يوجد مؤمن قتل مؤمناً قط، وقيل: المعنى ما كان له ذلك في عهد الله، وقيل: ما كان له ذلك فيما سلف كما ليس له الآين ذلك بوجه، ثم استثنى منه استثناءً منقطعاً فقال: إلا خطأ، أي ما كان له أن يقتله البتة، لكن إن قتله خطا فعليه كذا، هذا قول سيبويه والزجاج، وقيل: هو استثناء متصل، والمعنى: وما ثبت ولا وجد ولا ساغ لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأ إذ هو مغلوب حيئذ، وقيل المعنى: ولا خطأ. قال النحاس: ولا يعرف ذلك في كلام العرب، ولا يصح في المعنى لان الخطأ لا يحظر، وقيل إن المعنى: ما ينبغي أن يقتله لعلة من العلل إلا للخطأ وحده. فيكون قوله: خطأ منتصباً بانه مفعول له. ويجوز أن يكون صفة لمصدر محذوف: أي: إلا قتلاً خطأ، ووجوه الخطأ كثيرة ويضبطها عدم القصد، والخطأ الاسم من أخطأ إذا لم يعتمد. قوله "فتحرير رقبة مؤمنة" أي: فعليه تحرير رقبة مؤمنة يعتقها كفارة عن قتل الخطأ، وعبر بالرقبة عن جميع الذات. واختلف العلماء في تفسير الرقبة المؤمنة، فقيل: هي التي صلت وعقلت الإيمان فلا تجزئ الصغيرة، وبه قال ابن عباس والحسن والشعبي والنخعي وقتادة وغيرهم. وقال عطاء بن أبي رباح: إنها تجزئ الصغيرة المولودة بين المسلمين. وقال جماعة منهم مالك والشافعي: يجزئ كل من حكم له بوجوب الصلاة عليه إن مات، ولا يجزئ في قول جمهور العلماء أعمى ولا مقعد ولا أشل، ويجزئ عند الأكثر الأعرج والأعور. قال مالك إلا أن يكون عرجاً شديداً. ولا يجزئ عند أكثرهم المجنون، وفي المقام تفاصيل طويلة مذكورة في علم الفروع. قوله "ودية مسلمة إلى أهله" الدية: ما تعطى عوضاً عن دم المقتول إلى ورثته، والمسلمة: المدفوعة المؤداة، والأهل المراد بهم الورثة، وأجناس الدية وتفاصيلها قد بينتها السنة المطهرة. قوله "إلا أن يصدقوا" أي: إلا أن يتصدق أهل المقتول على القاتل بالدية، سمي العفو عنها صدقة ترغيباً فيه. وقرأ أبي: إلا يتصدقوا. وهذه الجملة المستثناة متعلقة بقوله "فدية مسلمة" أي: فعليه دية مسلمة إلا أن يقع العفو من الورثة عنها. قوله "فإن كان من قوم عدو لكم" أي: فإن كان المقتول من قوم عدو لكم وهم الكفار الحربيون، وهذه مسألة المؤمن الذي يقتله المسلمون في بلاد الكفار الذين كان منهم، ثم أسلم ولم يهاجر وهم يظنون أنه لم يسلم وأنه باق على دين قومه فلا دية على قاتله بل عليه تحرير رقبة مؤمنة. واختلفوا في وجه سقوط الدية، فقيل: وجهه أن أولياء القتيل كفار لا حق لهم في الدية، وقيل: وجهه أن هذا الذي آمن ولم يهاجر حرمته قليلة لقول الله تعالى "والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء" وقال بعض أهل العلم: إن ديته واجبة لبيت المال. قوله "وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق" أي: مؤقت أو مؤيد. وقرأ الحسن " وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله " أي: فعلى قاتله دية مؤداة إلى أهله من أهل الإسلام وهم ورثته "وتحرير رقبة مؤمنة" كما تقدم "فمن لم يجد" أي الرقبة ولا اتسع ماله لشرائها "فصيام شهرين متتابعين" أي فعليه صيام شهرين متتابعين، لم يفصل بين يومين من أيام صومهما إفطار في نهار، فلو أفطر استأنف، هذا قول الجمهور، وأما الإفطار لعذر شرعي كالحيض ونحوه فلا يوجب الاستئناف. واختلف في الإفطار لعرض المرض. قوله "توبة من الله" منصوب على أنه مفعول له: أي شرع ذلك لكل توبة، أي: قبولاً لتوبتكم، أو منصوب على المصدرية: أي تاب عليكم توبة، وقيل منصوب على الحال: أي حال كونه ذا توبة كائنة من الله.

وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا

قوله 93- "ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم" لما بين سبحانه حكم القاتل خطأ بين حكم القاتل عمداً. وقد اختلف العلماء في معنى العمد، فقال عطاء والنخعي وغيرهما: هو القتل بحديدة كالسيف والخنجر وسنان الرمح ونحو ذلك من المحدد، أو بما يعلم أن فيه الموت من ثقال الحجارة ونحوها. وقال الجمهور: إنه كل قتل من قاتل قاصد للفعل بحديدة أو بحجر أو بعصى أو بغير ذلك، وقيده بعض أهل العلم بأن يكون بما يقتل مثله في العادة. وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن القتل ينقسم إلى ثلاثة أقسام: عمد، وشبه عمد، وخطأ. واستدلوا على ذلك بأدلة ليس هذا مقام بسطها. وذهب آخرون إلى أنه ينقسم إلى قسمين: عمد، وخطأ ولا ثالث لهما. واستدلوا بأنه ليس في القرآن إلا القسمان. ويجاب عن ذلك بأن اقتصار القرآن على القسمين لا ينفي ثبوت قسم ثالث بالسنة وقد ثبت ذلك في السنة. وقد جاءت هذه الآية بتغليظ عقوبة القاتل عمداً، فجمع الله له فيها بين كون جهنم جزاء له: أي يستحقها بسبب هذا الذنب، وبين كونه خالداً فيها، وبين غضب الله عليه ولعنته له وإعداده له عذاباً عظيماً. وليس وراء هذا التشديد تشديد، ولا مثل هذا الوعيد وعيد. وانتصاب خالداً على الحال. وقوله "وغضب الله عليه" معطوف على مقدر، يدل عليه السياق: أي جعل جزاءه جهنم او حكم عليه أو جازاه وغضب عليه وأعد له. وقد اختلف العلماء هل لقاتل العمد من توبة أم لا توبة له؟ فروى البخاري عن سعيد بن جبير قال: اختلف فيها علماء أهل الكوفة، فرحلت فيها إلى ابن عباس فسألته عنها فقال: نزلت هذه الآية "ومن يقتل مؤمناً متعمداً" وهي آخر ما نزل وما نسختها شيء، وقد روى النسائي عنه نحو هذا. وروى النسائي عن زيد بن ثابت نحوه، وممن ذهب إلى أنه لا توبة له من السلف أبو هريرة وعبد الله بن عمرو وأبو سلمة وعبيد بن عمير والحسن وقتادة والضحاك بن مزاحم، نقله ابن أبي حاتم عنهم. وذهب الجمهور إلى أن التوبة منه مقبولة، واستدلوا بمثل قوله تعالى "إن الحسنات يذهبن السيئات" وقوله "وهو الذي يقبل التوبة عن عباده". وقوله "ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء" قالوا أيضاً: والجمع ممكن بين آية النساء هذه وآية الفرقان، فيكون معناهما: فجزاؤه جهنم إلا من تاب، لا سيما وقد اتحد السبب وهو القتل، والموجب وهو التوعد بالعقاب. واستدلوا أيضاً بالحديث المذكور في الصحيحين عن عبادة بن الصامت أنه صلى الله عليه وسلم: "قال بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ثم قال: فمن أصاب من ذلك شيئاً فستره الله فهو إلى الله إن شاء الله عفا عنه وإن شاء عذبه" وبحديث أبي هريرة الذي أخرجه مسلم في صحيحه وغيره في الذي قتل مائة نفس، وذهب جماعة منهم أبو حنيفة وأصحابه والشافعي إلى أن القاتل عمداً داخل تحت المشيئة تاب أو لم يتب. وقد أوضحت في شرحي على المنتقى متمسك كل فريق. والحق أن باب التوبة لم يغلق دون كل عاص، بل هو مفتوح لكل من قصده ورام الدخول منه، وإذا كان الشرك وهو أعظم الذنوب وأشدها تمحوه التوبة إلى الله ويقبل من صاحبه الخروج منه والدخول في باب التوبة، فكيف بما دونه من المعاصي التي من جملتها القتل عمداً، لكن لا بد في توبة قاتل العمد من الاعتراف بالقتل وتسليم نفسه للقصاص إن كان واجباً أو تسليم الدية إن لم يكن القصاص واجباً وكان القاتل غنياً متمكناً من تسليمها أو بعضها، وأما مجرد التوبة من القاتل عمداً وعزمه على أن لا يعود إلى قتل أحد من دون اعتراف ولا تسليم نفس فنحن لا يقطع بقبولها، والله أرحم الراحمين، هو الذي يحكم بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون. وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في قوله "وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأً" يقول: ما كان له ذلك فيما أتاه من ربه من عهد الله الذي عهد إليه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله "وما كان لمؤمن" الآية، قال: إن عياش بن أبي ربيعة قتل رجلاً مؤمناً كان يعذبه هو وأبو جهل وهو أخوه لأمه في اتباع النبي صلى الله عليه وسلم وعياش يحسب أن ذلك الرجل كافر. وأوضح من هذا السياق ما أخرجه ابن جرير عن عكرمة قال: كان الحارث بن يزيد من بني عامر بن لؤي يعذب عياش بن أبي ربيعة مع أبي جهل، ثم خرج مهاجراً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، يعني الحارث، فلقيه عياش بالحرة فعلاه بالسيف وهو يحسب أنه كافر، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فنزلت "وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأً" الآية، فقرأها النبي صلى الله عليه وسلم عليه ثم قال له: قم فحرر. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن السدي بأطول من هذا. وقد روي من طرق غير هذه. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد قال: نزلت في رجل قتله أبو الدرداء كان في سرية، فعدل ابو الدرداء إلى شعب يريد حاجة له، فوجد رجلاً من القوم في غنم فحمل عليه بالسيف فقال: لا إله إلا الله فضربه. وأخرج ابن منذه وأبو نعيم نحو ذلك ولكن فيه أن الذي قتل المتعوذ بكلمة الشهادة هو بكر بن حارثة الجهني. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله "فتحرير رقبة مؤمنة" قال: يعني بالمؤمنة من قد عقل الإيمان وصلى. وكل رقبة في القرآن لم تسم مؤمنة، فإنه يجوز المولود فما فوقه ممن ليس به زمانة، وفي قوله "ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا" قال: عليه الدية مسلمة إلا أن يتصدق بها عليه. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة قال: في حرف أبي فتحرير رقبة مؤمنة لا يجزئ فيها صبي. وأخرج عبد بن حميد وأبو داود والبيهقي عن أبي هريرة "أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم بجارية سوداء فقال: يا رسول الله إن علي عتق رقبة مؤمنة، فقال لها: أين الله؟ فأشارت إلى السماء بأصبعها، فقال لها: فمن أنا؟ فأشارت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى السماء: أي أنت رسول الله، فقال أعتقها فإنها مؤمنة". وقد روي من طرق وهو في صحيح مسلم من حديث معاوية بن الحكم السلمي. وقد وردت أحاديث في تقدير الدية، وفي الفرق بين دية الخطأ ودية شبه العمد، ودية المسلم ودية الكافر، وهي معروفة فلا حاجة لنا في ذكرها في هذا الموضع. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن إبراهيم النخعي في قوله "ودية مسلمة إلى أهله" قال: هذا المسلم الذي ورثته مسلمون "فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن" قال: هذا الرجل المسلم وقومه مشركون وليس بينهم وبين رسول الله عقد "وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق" قال: هذا الرجل المسلم وقومه مشركون وبينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عقد فيقتل فيكون ميراثه للمسلمين وتكون ديته لقومه لأنهم يعقلون عنه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله "فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن" يقول: فإن كان في أهل الحرب وهو مؤمن فقتله خطأ فعلى قاتله أن يكفر بتحرير رقبة مؤمنة، أو صيام شهرين متتابعين ولا دية عليه، وفي قوله "وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق" يقول: إذا كان كافراً في ذمتكم فقتل فعلى قاتله الدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر من طريق عطاء بن السائب عن أبي عياش قال: كان الرجل يجيء فيسلم. ثم يأتي قومه وهم مشركون فيقيم فيهم فتعزوهم جيوش النبي صلى الله عليه وسلم فيقتل الرجل فيمن يقتل، فأنزل الله هذه الآية "فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة" وليس له دية. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي في سننه من طريق عطاء بن السائب عن أبي يحيى عن ابن عباس نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله "توبة من الله" يعني: تجاوزاً من الله لهذه الأمة حيث جعل في قتل الخطا الكفارة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن عكرمة: أن رجلاً من الأنصار قتل أخا مقيس بن صبابة. فاعطاه النبي صلى الله عليه وسلم الدية فقبلها، ثم وثب على قاتل أخيه، وفيه نزلت الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير نحوه، وفيه أن مقيس بن صبابة لحق بمكة بعد ذلك وارتد عن الإسلام. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية "ومن يقتل مؤمناً متعمداً" بعد التي في سورة الفرقان بثمان سنين وهي قوله "والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر" إلى قوله: "غفوراً رحيماً". وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني عن زيد بن ثابت أن قوله "ومن يقتل مؤمناً متعمداً" نزلت بعد قوله "والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر" بستة أشهر. وأخرج ابن المنذر عنه قال: نزلت هذه الآية التي في النساء بعد قوله "ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء" بأربعة أشهر، والآثار عن الصحابة في هذا كثيرة جداً، والحق ما عرفناك.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ ق

هذا متصل بذكر الجهاد والقتال، والضرب: السير في الأرض، تقول العرب ضربت في الأرض: إذا سرت لتجارة أو غزو أو غيرهما، وتقول: ضربت الأرض بدون في: إذا قصدت قضاء حاجة الإنسان، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يخرج رجلان يضربان الغائط". قوله "فتبينوا" من التبين وهو التأمل، وهي قراءة الجماعة إلا حمزة فإنه قرأ فتثبتوا من التثبت. واختار القراءة الاولى أبو عبيدة وأبو حاتم قالا: لان من أمر بالتبين فقد أمر بالتثبت، وإنما خص السفر بالأمر بالتبين، مع أن التبين والتثبت في أمر القتل واجبان حضراً وسفراً بلا خلاف، لأن الحادثة التي هي سبب نزول الآية كانت في السفر كما سيأتي. قوله " ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام " وقرئ "السلام". ومعناهما واحد. واختار أبو عبيدة السلام. وخالفه أهل النظر فقالوا، السلم هنا أشبه لانه بمعنى الانقياد والتسليم. والمراد هنا: لا تقولوا لمن ألقى بيده إليكم واستسلم لست مؤمناً، فالسلم والسلام كلاهما بمعنى الاستسلام، وقيل: هما بمعنى الإسلام: أي: لا تقولوا لمن ألقى إليكم الإسلام: أي كلمته وهي الشهادة لست مؤمناً، وقيل: هما بمعنى التسليم الذي هو تحية أهل الإسلام: أي لا تقولوا لمن ألقى إليكم التسليم فقال السلام عليكم: لست مؤمناً. والمراد نهي المسلمين عن أن يهملوا ما جاء به الكافر مما يستدل به على إسلامه، ويقولوا: إنه إنما جاء بذلك تعوذاً وتقية، وقرأ أبو جعفر "لست مؤمناً" من أمنه: إذا أجرته فهو مؤمن. وقد استدل بهذه الآية على أن من قتل كافراً بعد أن قال لا إله إلا الله قتل به، لأنه قد عصم بهذه الكلمة دمه وماله وأهله، وإنما سقط القتل عمن وقع منه ذلك في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لأنهم تاولوا، وظنوا أن من قالها خوفاً من السلاح لا يكون مسلماً ولا يصير بها دمه معصوماً وأنه لا بد من أن يقول هذه الكلمة وهو مطمئن غير خائف، وفي حكم التكلم بكلمة الإسلام إظهار الانقياد بأن يقول: أنا مسلم أو أنا على دينكم، لما عرفت من أن معنى الآية الاستسلام والانقياد، وهو يحصل بكل ما يشعر بالإسلام من قول أو فعل، ومن جملة ذلك كلمة الشهادة وكلمة التسليم، فالقولان الآخران في معنى الآية داخلان تحت القول الأول. قوله "تبتغون عرض الحياة الدنيا" الجملة في محل نصب على الحال: أي لا تقولوا تلك المقالة طالبين الغنيمة، على أن يكون النهي راجعاً إلى القيد والمقيد لا إلى القيد فقط، وسمي متاع الدنيا عرضاً لأنه عارض زائل غير ثابت. قال أبو عبيدة: يقال: جميع متاع الدنيا عرض بفتح الراء، وأما العرض بسكون الراء فهو ما سوى الدنانير والدراهم، فكل عرض بالسكون عرض بالفتح، وليس كل عرض بالفتح عرضاً بالسكون. وفي كتاب العين: العرض ما نيل من الدنيا، ومنه قوله تعالى "تريدون عرض الدنيا" وجمعه عروض. وفي المجمل لابن فارس: والعرض ما يعترض للإنسان من مرض ونحوه، وعرض الدنيا ما كان فيها من مال قل أو أكثر، والعرض من الأثاث ما كان غير نقد. قوله "فعند الله مغانم كثيرة" هو تعليل للنهي: أي عند الله مما هو حلال لكم من دون ارتكاب محظور مغانم كثيرة تغتنمونها وتستغنون بها عن قتل من قد استسلم وانقاد، واغتنام ماله "كذلك كنتم من قبل" أي: كنتم كفاراً، فحقنت دماؤكم لما تكلمتم بكلمة الشهادة، أو كذلك كنتم من قبل، تخفون إيمانكم عن قومكم خوفاً على أنفسكم حتى من الله عليكم بإعزاز دينه فأظهرتم الإيمان وأعلنتم به، وكرر الأمر بالتبين للتأكد عليهم لكونه واجباً لا فسحة فيه ولا رخصة. وقد أخرج البخاري وغيره عن ابن عباس قال: لحق ناس من المسلمين رجلاً معه غنيمة له فقال السلام عليكم، فقتلوه وأخذوا غنيمة، فنزلت "يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا" الآية. وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد والترمذي وحسنه وابن جرير وابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال: مر رجل من بني سليم بنفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يسوق غنماً له فسلم عليهم فقالوا: ما سلم علينا إلا ليتعوذ منا، فعدوا إليه فقتلوه وأتوا بغنمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية "يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله". وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبو نعيم والبيهقي عن عبد الله بن أبي حدود الأسلمي قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إضم، فخرجت في نفر من المسلمين فيهم أبو قتادة الحرث بن ربعي ومحلم بن جثامة بن قيس الليثي، فخرجنا حتى إذا كنا ببطن إضم مر بنا عامر بن الأضبط الأشجعي على قعود له معه متيع ووطب من لبن، فلما مر بنا سلم علينا بتحية الإسلام، فأمسكنا عنه وحمل عليه محلم بن جثامة لشيء كان بينه وبينه فقتله وأخذ بعيره ومتيعه، فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرناه الخبر نزل فينا القرآن "يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا" الآية. وفي لفظ عند ابن إسحاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من حديث أبي حدرد هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمحلم: أقتلته بعدما قال آمنت بالله؟ فنزل القرآن. وأخرج ابن جرير من حديث ابن عمر أن محلماً جلس بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ليستغفر له، فقال: لا غفر الله لك، فقام وهو يتلقى دموعه ببرديه، فما مضت به ساعة حتى مات ودفنوه فلفظته الأرض، فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له، فقال: إن الأرض تقبل من هو شر من صاحبكم، ولكن الله أراد أن يعظكم، ثم طرحوه في جبل وألقوا عليه الحجارة، فنزلت "يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم" الآية. وأخرج البزار والدارقطني في الإفراد والطبراني والضياء في المختارة عن ابن عباس أن سبب نزول الآية: أن المقداد بن الأسود قتل رجلاً بعد ما قال: لا إله إلا الله. وفي سبب النزول روايات كثيرة، وهذا الذي ذكرناه أحسنها. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله "كذلك كنتم من قبل" قال: تستخفون بإيمانكم كما استخفى هذا الراعي بإيمانه: يعني الذين قتلوه بعد أن ألقى إليهم السلام وفي لفظ تكتمون إيمانكم من المشركين "فمن الله عليكم" فأظهر الإسلام فأعلنتم إيمانكم "فتبينوا" قال: وعيد من الله ثان. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله "كذلك كنتم من قبل" قال: كنتم كفاراً حتى من الله عليكم بالسلام وهداكم له.

لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّه

التفاوت بين درجات من قعد عن الجهاد من غير عذر، ودرجات من جاهد في سبيل الله بماله ونفسه وإن كان معلوماً، لكن أراد سبحانه بهذا الإخبار تنشيط المجاهدين ليرغبوا وتبكيت القاعدين ليأنفوا. قوله 95- "غير أولي الضرر" قرأ أهل الكوفة وأبو عمرو بالرفع على أنه وصف للقاعدين كما قال الأخفش، لأنهم لا يقصد بهم قوم بأعيانهم فصاروا كالنكرة فجاز وصفهم بغير. وقرأ أبو حيوة بكسر الراء على أنه وصف للمؤمنين. وقرأ أهل الحرمين بفتح الراء على الاستثناء من القاعدين أو من المؤمنين: أي إلا أولي الضرر فإنهم يستوون مع المجاهدين. ويجوز أن يكون منتصباً على الحال من القاعدين: أي لا يستوي القاعدون الأصحاء في حال صحتهم، وجازت الحال منهم، لان لفظهم لفظ المعرفة. قال العلماء: أهل الضرر هم أهل الأعذار لأنها أضرت بهم حتى منعتهم عن الجهاد، وظاهر النظم القرآني أن صاحب العذر يعطى مثل أجر المجاهد- وقيل: يعطى أجره من غير تضعيف فيفضله المجاهد بالتضعيف لأجل المباشرة. قال القرطبي: والأول أصح إن شاء الله للحديث الصحيح في ذلك "إن بالمدينة رجالاً ما قطعتم وادياً ولا سرتم مسيراً إلا كانوا معكم أولئك قوم حبسهم العذر". قال: وفي هذا المعنى ما ورد في الخبر "إذا مرض العبد قال الله تعالى: اكتبوا لعبدي ما كان يعمله في الصحة إلى أن يبرأ أو أقبضه إلي". قوله "فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة" هذا بيان لما بين الفريقين من التفاضل المفهوم من ذكر عدم الاستواء إجمالاً، والمراد هنا غير أولي الضرر حملاً للمطلق على المقيد، وقال هنا "درجة"، وقال فيما بعد "درجات" فقال قوم: التفضيل بالدرجة ثم بالدرجات إنما هو مبالغة وبيان وتأكيد. وقال آخرون: فضل الله المجاهدين على القاعدين من أولي الضرر بدرجة واحدة وفضل الله المجاهدين على القاعدين من غير أولي الضرر بدرجات، قاله ابن جريج والسدي وغيرهما، وقيل إن معنى درجة علواً: أي أعلى ذكرهم ورفعهم بالثناء والمدح، ودرجة منتصبة على التمييز أو المصدرية لوقوعها موقع المرة من التفضيل: أي فضل الله تفضيله أو على نزع الخافض أو على الحالية من المجاهدين أي: ذوي درجة. قوله "وكلاً" مفعول أول لقوله "وعد الله" قدم عليه لإفادته القصر: أي كل واحد من المجاهدين والقاعدين وعده الله الحسنى: أي المثوبة وهي الجنة. قوله "أجراً" هو منتصب على التمييز، وقيل: على المصدرية لأن فضل بمعنى آجر التقدير آجرهم أجراً، وقيل: مفعول ثان لفضل لتضمنه معنى الإعطاء، وقيل: منصوب بنزع الخافض، وقيل على الحال من درجات مقدم عليها.

دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا

96- " درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما " وأما انتصاب درجات ومغفرة ورحمة: فهي بدل من أجراً، وقيل إن مغفرة ورحمة ناصبهما أفعال مقدرة: أي غفر لهم مغفرة ورحمهم رحمة. وقد أخرج البخاري وأحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم عن زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أملى عليه: "لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله" فجاء ابن أم مكتوم وهو يمليها علي فقال: يا رسول الله لو أستطيع الجهاد لجاهدت، وكان أعمى؟، فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم وفخذه على فخذي "غير أولي الضرر". وقد أخرج هذا المعنى عبد بن حميد والترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم من حديث البراء. وأخرجه أيضاً سعيد بن منصور وأحمد وأبو داود وابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه من حديث خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه. وأخرج الترمذي وحسنه والنسائي وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال "لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر" عن بدر والخارجون إلى بدر. وأخرجه عنه أيضاً عبد الرزاق وعبد بن حميد والبخاري وابن جرير وابن المنذر. وأخرج عبد بن حميد والطبراني والبيهقي عنه قال: نزلت في قوم كانت تشغلهم أمراض وأوجاع، فأنزل الله عذرهم من السماء. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد عن أنس بن مالك قال: نزلت هذه الآية في ابن أم مكتوم، ولقد رأيته في بعض مشاهد المسلمين معه اللواء. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن جريج في قوله "فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة" قال: على أهل الضرر. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في قوله "وكلاً وعد الله الحسنى" قال: الجنة. وأخرج ابن جرير عن ابن جريج قال: كان يقال الإسلام درجة، والهجرة درجة في الإسلام، والجهاد في الهجرة درجة، والقتل في الجهاد درجة. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن محيريز في قوله "درجات" قال: الدرجات سبعون درجة ما بين الدرجتين عدو الفرس الجواد المضمر سبعين سنة. وأخرج نحوه عبد الرزاق في المصنف عن أبي مجلز. وأخرج البخاري والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة وأعلا الجنة، وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة".

إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا

قوله 97- "توفاهم" يحتمل أن يكون فعلاً ماضياً وحذفت منه علامة التأنيث، لأن تأنيث الملائكة غير حقيقي، ويحتمل أن يكون مستقبلاً، والأصل تتوفاهم، فحذفت إحدى التاءين. وحكى ابن فورك عن الحسن أن المعنى تحشرهم إلى النار- وقيل: تقبض أرواحهم وهو الأظهر. والمراد بالملائكة ملائكة الموت لقوله تعالى "قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم". وقوله "ظالمي أنفسهم" حال: أي في حال ظلمهم أنفسهم، وقول الملائكة "فيم كنتم" سؤال توبيخ: أي في شيء كنتم من أمور دينكم؟ وقيل: المعنى أكنتم في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أم كنتم مشركين، وقيل: إن معنى السؤال التقريع لهم بأنهم لم يكونوا في شيء من الدين. وقولهم "كنا مستضعفين في الأرض" يعني: مكة، لأن سبب النزول من أسلم بها ولم يهاجر كما سيأتي، ثم أوقفتهم الملائكة على دينهم وألزمتهم الحجة وقطعت معذرتهم فقالوا "ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها" قيل: المراد بهذه الأرض المدينة، والأولى العموم اعتباراً بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما هو الحق، فيراد بالأرض كل بقعة من بقاع الأرض تصلح الهجرة إليها، ويراد بالأرض الأولى كل أرض ينبغي الهجرة منها. قوله "مأواهم جهنم" هذه الجملة خبر لأولئك والجملة خبر إن في قوله "إن الذين توفاهم الملائكة" ودخول الفاء لتضمن اسم إن معنى الشرط "وساءت" أي جهنم "مصيرا" أي: مكاناً يصيرون إليه.

إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا

قوله 98- "إلا المستضعفين" هو استثناء من الضمير في مأواهم، وقيل: استثناء منقطع لعدم دخول المستضعفين في الموصول وضميره. وقوله "من الرجال والنساء والولدان" متعلق بمحذوف، أي: كائنين منهم، والمراد بالمستضعفين من الرجال الزمنى ونحوهم، والولدان كعياش بن أبي ربيعة وسلمة بن هشام، وإنما ذكر الولدان مع عدم التكليف لهم لقصد المبالغة في أمر الهجرة، وإيهام أنها تجب لو استطاعها غير المكلف، فكيف من كان مكلفاً، وقيل: أراد بالولدان المراهقين والمماليك. قوله "لا يستطيعون حيلة" صفة للمستضعفين أو للرجال والنساء والولدان، أو حال من الضمير في المستضعفين، وقيل: الحيلة لفظ عام لأنواع أسباب التخلص: أي: لا يجدون حيلة ولا طريقاً إلى ذلك، وقيل السبيل: سبيل المدينة.

فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا

99- "فأولئك" إشارة إلى المستضعفين الموصوفين بما ذكر "عسى الله أن يعفو عنهم" وجيء بكلمة الإطماع لتأكيد أمر الهجرة، حتى يظن أن تركها ممن لا تجب عليه يكون ذنباً يجب طلب العفو عنه.

وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا

قوله 100- "ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة" هذه الجملة متضمنة للترغيب في الهجرة والتنشيط إليها. وقوله "في سبيل الله" فيه دليل على أن الهجرة لا بد أن تكون بقصد صحيح ونية خالصة غير مشوبة بشيء من أمور الدنيا، ومنه الحديث الصحيح "فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه". وقد اختلف في معنى قوله سبحانه "يجد في الأرض مراغماً" فقال ابن عباس وجماعة من التابعين ومن بعدهم: المراغم المتحول والمذهب. وقال مجاهد: المراغم المتزحزح. وقال ابن زيد: المراغم المهاجر، وبه قال أبو عبيدة. قال النحاس: فهذه الأقوال متفقة المعاني، فالمراغم: المذهب والمتحول، وهو الموضع الذي يراغم فيه، وهو مشتق من الرغام وهو التراب، ورغم أنف فلان: أي لصق بالتراب، وراغمت فلاناً: هجرته وعاديته ولم أبال أن رغم أنفه، وقيل: إنما سمي مهاجراً ومراغماً، لأن الرجل كان إذا أسلم عادى قومه وهجرهم، فسمي خروجه مراغماً، وسمي مسيره إلى النبي صلى الله عليه وسلم هجرة. والحاصل في معنى الآية أن المهاجر يجد في الأرض مكاناً يسكن فيه على رغم أنف قومه الذين هاجرهم: أي على ذلهم وهوانهم. قوله "وسعة" أي: في البلاد، وقيل: في الرزق، ولا مانع من حمل السعة على ما هو أعم من ذلك. قوله "ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله" قرئ: يدركه بالجزم على أنه معطوف على فعل الشرط، وبالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، وبالنصب على إضمار أن. والمعنى: أن من أدركه الموت قبل أن يصل إلى مطلوبه، وهو المكان الذي قصد الهجرة إليه أو الأمر الذي قصد الهجرة له "فقد وقع أجره على الله" أي: ثبت ذلك عنده ثبوتاً لا يتخلف "وكان الله غفوراً" أي: كثير المغفرة "رحيماً" أي: كثير الرحمة. وقد استدل بهذه الآية على أن الهجرة واجبة على كل من كان بدار الشرك أو بدار يعمل فيها بمعاصي الله جهاراً إذا كان قادراً على الهجرة ولم يكن من المستضعفين لما في هذه الآية الكريمة من العموم وإن كان السبب خاصاً كما تقدم. وظاهرها عدم الفرق بين مكان ومكان وزمان وزمان. وقد ورد في الهجرة أحاديث، وورد ما يدل على أنه لا هجرة بعد الفتح. وقد أوضحنا ما هو الحق في شرحنا على المنتقى فليرجع إليه. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال: كان قوم من أهل مكة أسلموا وكانوا يستخفون بالإسلام، فأخرجهم المشركون معهم يوم بدر فأصيب بعضهم وقتل البعض فقال المسلمون: قد كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرهوا فاستغفروا لهم، فنزلت بهم هذه الآية "إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم" قال: فكتب إلي من بقي بمكة من المسلمين بهذه الآية، وأنه لا عذر لهم، فخرجوا فلحقهم المشركون فأعطوهم الفتنة، فنزلت فيهم هذه الآية "ومن الناس من يقول: آمنا بالله فإذا أوذي في الله" إلى آخر الآية فكتب المسلمون إليهم بذلك فحزنوا وأيسوا من كل خير، فنزلت فيهم "ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم" فكتبوا إليهم بذلك أن الله قد جعل لكم مخرجاً فاخرجوا فخرجوا فأدركهم المشركون فقاتلوهم حتى نجا من نجا، وقتل من قتل. وقد أخرجه البخاري وغيره عنه مقتصراً على أوله. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله "إن الذين توفاهم الملائكة" إلى قوله "وساءت مصيراً" قال: نزلت في قيس بن الفاكه بن المغيرة والحارث بن ربيعة بن الأسود وقيس ابن الوليد بن المغيرة وأبي العاص بن منبه بن الحجاج وعلي بن أمية بن خلف، قال: لما خرج المشركون من قريش وأتباعهم لمنع أبي سفيان بن حرب وعير قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأن يطلبوا ما نيل منهم يوم نخلة، خرجوا معهم بشباب كارهين كانوا قد أسلموا واجتمعوا ببدر على غير موعد، فقتلوا ببدر كفاراً ورجعوا عن الإسلام وهم هؤلاء الذين سميناهم. وأخرج نحوه عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن إسحاق. وقد روي نحو هذا من طرق. وقد أخرج البخاري وغيره عن ابن عباس أنه تلا هذه الآية "إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان" فقال: كنت أنا وأمي من المستضعفين أنا من الولدان وأمي من النساء. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله "لا يستطيعون حيلة" قال: قوة. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله "لا يستطيعون حيلة" قال: نهوضاً إلى المدينة "ولا يهتدون سبيلاً" قال: طريقاً إلى المدينة. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله "مراغماً كثيراً وسعة" قال: المراغم المتحول من أرض إلى أرض. والسعة: الرزق. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد "مراغما" قال: متزحزحاً عما يكره. وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء في قوله "وسعة" قال: ورخاء. وأخرج أيضاً عن مالك قال: سعة البلاد. وأخرج أبو يعلى وابن أبي حاتم والطبراني قال السيوطي بسند رجاله ثقات عن ابن عباس قال: خرج ضمرة بن جندب من بيته مهاجراً فقال لقومه: احملوني فأخرجوني من أرض الشرك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمات في الطريق قبل أن يصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فنزل الوحي "ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله" الآية. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من وجه آخر عنه نحوه. وأخرج ابن سعد وأحمد والحاكم وصححه عن عبد الله بن عتيك قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من خرج من بيته مجاهداً في سبيل الله، وأين المجاهدون في سبيل الله؟ فخر عن دابته فمات فقد وقع أجره على الله، أو لدغته دابة فمات فقد وقع أجره على الله، أو مات حتف أنفه فقد وقع أجره على الله: يعني: بحتف أنفه على فراشه، والله إنها لكلمة ما سمعتها من أحد من العرب قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن قتل قعصاء فقد استوجب الجنة". وأخرج أبو يعلى والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من خرج حاجاً فمات كتب له أجر الحاج إلى يوم القيامة ومن خرج معتمراً فمات كتب له أجر المعتمر إلى يوم القيامة، ومن خرج غازياً في سبيل الله فمات كتب له أجر الغازي إلى يوم القيامة". قال ابن كثير: وهذا حديث غريب من هذا الوجه.

وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا

قوله 101- "وإذا ضربتم" قد تقدم تفسير الضرب في الأرض قريباً. قوله "فليس عليكم جناح" فيه دليل على أن القصر ليس بواجب، وإليه ذهب الجمهور. وذهب الأقلون إلى أنه واجب، ومنهم عمر بن عبد العزيز والكوفيون والقاضي إسماعيل وحماد بن أبي سليمان، وهو مروي عن مالك. واستدلوا بحديث عائشة الثابت في الصحيح "فرضت الصلاة ركعتين ركعتين فزيدت في الحضر وأقرت في السفر" ولا يقدح في ذلك مخالفتها لما روت، فالعمل على الرواية الثانية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومثله حديث يعلى بن أمية قال: سألت عمر بن الخطاب قلت "ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا" وقد أمن الناس، فقال لي عمر: عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: "صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته". أخرجه أحمد ومسلم وأهل السنن. وظاهر قوله: "فاقبلوا صدقته" أن القصر واجب. قوله "إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا" ظاهر هذا الشرط أن القصر لا يجوز في السفر إلا مع خوف الفتنة من الكافرين لا مع الأمن، ولكنه قد تقرر بالسنة أن النبي صلى الله عليه وسلم قصر مع الأمن كما عرفت، فالقصر مع الخوف ثابت بالكتاب، والقصر مع الأمن ثابت بالسنة، ومفهوم الشرط لا يقوي على معارضة ما تواتر عنه صلى الله عليه وسلم من القصر مع الأمن. وقد قيل: إن هذا الشرط خرج مخرج الغالب، لأن الغالب على المسلمين إذ ذاك القصر للخوف في الأسفار، ولهذا قال يعلى بن أمية لعمر ما قال كما تقدم. وفي قراءة أبي: " أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا " بسقوط "إن خفتم" والمعنى على هذه القراءة: كراهة أن يفتنكم الذين كفروا. وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن هذه الآية إنما هي مبيحة للقصر في السفر للخائف من العدو، فمن كان آمناً فلا قصر له. وذهب آخرون إلى أن قوله "إن خفتم" ليس متصلاً بما قبله وأن الكلام تم عند قوله "من الصلاة" ثم افتتح فقال "إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا" فأقم لهم يا محمد صلاة الخوف. وقوله "إن الكافرين كانوا لكم عدواً مبيناً" معترض، ذكر معنى هذا الجرجاني والمهدوي وغيرهما. ورده القشيري والقاضي أبو بكر بن العربي. وقد حكى القرطبي عن ابن عباس معنى ما ذكره الجرجاني ومن معه، ومما يرد هذا ويدفعه الواو في قوله "وإذا كنت فيهم" وقد تكلف بعض المفسرين فقال: إن الواو زائدة وإن الجواب للشرط المذكور، أعني قوله "إن خفتم" هو قوله "فلتقم طائفة" وذهب قوم إلى أن ذكمر الخوف منسوخ بالسنة، وهي حديث عمر الذي قدمنا ذكره، وما ورد في معناه. قوله "أن يفتنكم الذين كفروا" قال الفراء: أهل الحجاز يقولون فتنت الرجل، وربيعة وقيس وأسد وجميع أهل نجد يقولون أفتنت الرجل، وفرق الخليل وسيبويه بينهما فقالا فتنته: جعلت فيه فتنة مثل كحلته، وأفتنته: جعلته مفتناً، وزعم الأصمعي أنه لا يعرف افتنته. والمراد بالفتنة القتال والتعرض بما يكره. قوله "عدواً" أي: أعداء.

وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُ

قوله 102- "وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة" هذا خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولمن بعده من أهل الأمر حكمه كما هو معروف في الأصول، ومثله قوله تعالى "خذ من أموالهم صدقة" ونحوه، وإلى هذا ذهب جمهور العلماء، وشذ أبو يوسف وإسماعيل بن علية فقالا: لا تصلى صلاة الخوف بعد النبي صلى الله عليه وسلم، لأن هذا الخطاب خاص برسول الله صلى الله عليه وسلم، قالا: ولا يلحق غيره به لما له صلى الله عليه وسلم من المزية العظمى، وهذا مدفوع فقد أمرنا الله باتباع رسوله والتأسي به، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "صلوا كما رأيتموني أصلي" والصحابة رضي الله عنهم أعرف بمعاني القرآن، وقد صلوها بعد موته في غير مرة كما ذلك معروف. ومعنى "أقمت لهم الصلاة" أردت الإقامة، كقوله " إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم ". وقوله " فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله " قوله "فلتقم طائفة منهم معك" يعني: بعد أن تجعلهم طائفتين، طائفة تقف بازاء العدو، وطائفة تقوم منهم معك في الصلاة "وليأخذوا أسلحتهم" أي: الطائفة التي تصلي معه، وقيل الضمير راجع إلأى الطائفة التي بإزاء العدو، والأول أظهر، لأن الطائفة القائمة بإزاء العدو لا بد أن تكون قائمة بأسلحتها، وإنما يحتاج إلى الأمر بذلك من كان في الصلاة، لأنه يظن أن ذلك ممنوع منه حال الصلاة فأمره الله بأن يكون آخذاً لسلاحه: أي غير واضع له. وليس المراد الأخذ باليد، بل المراد أن يكونوا حاملين لسلاحهم ليتناولوه من قرب إذا احتاجوا إليه، وليكون ذلك أقطع لرجاء عدوهم من إمكان فرصته فيهم. وقد قال بإرجاع الضمير من قوله "وليأخذوا أسلحتهم" إلى الطائفة القائمة بإزاء العدو ابن عباس قال: لان المصلية لا تحارب، وقال غيره: إن الضمير راجع إلى المصلية، وجوز الزجاج والنحاس أن يكون ذلك أمراً للطائفتين جميعاً لأنه أرهب للعدو. وقد أوجب أخذ السلاح في هذه الصلاة أهل الظاهر حملاً للأمر على الوجوب. وذهب أبو حنيفة إلى أن المصلين لا يحملون السلاح وأن ذلك يبطل الصلاة، وهو مدفوع بما في هذه الآية وبما في الأحاديث الصحيحة. قوله "فإذا سجدوا" أي: القائمون في الصلاة "فليكونوا" أي: الطائفة القائمة بإزاء العدو "من ورائكم" أي من وراء المصلين. ويحتمل أن يكون المعنى: فإذا سجد المصلون معه: أي أتموا الركعة تعبيراً بالسجود عن جميع الركعة أو عن جميع الصلاة "فليكونوا من ورائكم" أي: فلينصرفوا بعد الفراغ إلى مقابلة العدو للحراسة "ولتأت طائفة أخرى" وهي: القائمة في مقابلة العدو التي لم تصل "فليصلوا معك" على الصفة التي كانت عليها الطائفة الأولى "وليأخذوا" أي: هذه الطائفة الأخرى "حذرهم وأسلحتهم" زيادة التوصية للطائفة الأخرى بأخذ الحذر مع أخذ السلاح. قيل: وجهه أن هذه المرة مظنة لوقوف الكفرة على كون الطائفة القائمة مع النبي صلى الله عليه وسلم في شغل شاغل. وأما في المرة الأولى فربما يظنونهم قائمين للحرب، وقيل: لأن العدو لا يؤخر قصده عن هذا الوقت، لأنه آخر الصلاة، والسلاح ما يدفع به المرء عن نفسه في الحرب، ولم يبين في الآية الكريمة كم تصلي كل طائفة من الطائفتين؟ وقد وردت صلاة الخوف في السنة المطهرة على أنحاء مختلفة وصفات متعددة، وكلها صحيحة مجزئة من فعل واحدة منها فقد فعل ما أمر به، ومن ذهب من العلماء إلى اختيار صفة دون غيرها فقد أبعد عن الصواب وقد أوضحنا هذا في شرحنا للمنتقى، وفي سائر مؤلفاتنا. قوله "ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة" هذه الجملة متضمنة للعلة التي لأجلها أمرهم الله بالحذر وأخذ الصلاح: أي ودوا غفلتكم عن أخذ السلاح وعن الحذر ليصلوا إلى مقصودهم وينالوا فرصتهم، فيشدون عليكم شدة واحدة، والأمتعة ما يتمتع به في الحرب، ومنه الزاد والراحلة. قوله: "ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم" رخص لهم سبحانه في وضع السلاح إذا نالهم أذى من الممطر وفي حال المرض، لأنه يصعب مع هذين الأمرين حمل السلاح، ثم أمرهم بأخذ الحذر لئلا يأتيهم العدو على غرة وهم غافلون. وقد أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد عن أبي حنظلة قال: سألت ابن عمر عن صلاة السفر، فقال: ركعتان قلت: فأين قوله تعالى "إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا" ونحن آمنون؟ قال: سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأخرج عبد بن حميد والنسائي وابن ماجه وابن حبان والبيهقي عن أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد أنه سأل ابن عمر: أرأيت قصر الصلاة في السفر؟ إنا لا نجدها في كتاب الله، إنما نجد ذكر صلاة الخوف، فقال ابن عمر: يا ابن أخي إن الله أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم ولا نعلم شيئاً، فإنما نفعل كما رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل، وقصر الصلاة في السفر سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي الصحيحين وغيرهما عن حارثة بن وهب الخزاعي قال:" صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر بمنى أكثر ما كان الناس وآمنه ركعتين". وأخرج ابن أبي شيبة والترمذي وصححه والنسائي عن ابن عباس قال:" صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين مكة والمدينة ونحن آمنون لا نخاف شيئاً ركعتين". وأخرج ابن جرير عن علي قال: " سأل قوم من التجار رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله إنا نضرب في الأرض فكيف نصلي؟ فأنزل الله "وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة" ثم انقطع الوحي، فلما كان بعد ذلك بحول غزا النبي صلى الله عليه وسلم فصلى الظهر، فقال المشركون: قد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم هلا شددتم عليهم؟ فقال قائل منهم: إن لهم أخرى مثلها في أثرها، فأنزل الله بين الصلاتين " إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا * وإذا كنت فيهم " إلى قوله "إن الله أعد للكافرين عذاباً مهيناً" فنزلت صلاة الخوف". وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد وأبو داود والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والدارقطني والحاكم وصححه عن أبي عياس الزرقي قال: " كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان فاستقبلنا المشركون عليهم خالد بن الوليد وهم بيننا وبين القبلة فصلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: قد كانوا على حال لو أصبنا غرتهم، ثم قالوا: تأتي عليهم الآن صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وأنفسهم، فنزل جبريل بهذه الآيات "وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة" ثم ذكر صفة الصلاة التي صلوها مع النبي صلى الله عليه وسلم". والأحاديث في صفة صلاة الخوف كثيرة، وهي مستوفاة في مواطنها، فلا نطول بذكرها ها هنا. وأخرج البخاري وغيره عن ابن عباس في قوله "إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى" قال: نزلت في عبد الرحمن بن عوف كان جريحاً.

فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا

103- "قضيتم" بمعنى فرغتم من صلاة الخوف، وهو أحد معاني القضاء، ومثله "فإذا قضيتم مناسككم" "فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض". قوله "فاذكروا الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبكم" أي: في جميع الأحوال حتى في حال القتال. وقد ذهب جمهور العلماء إلى أن هذا الذكر المأمور به إنما هو أثر صلاة الخوف: أي إذا فرغتم من الصلاة فاذكروا الله في هذه الأحوال، وقيل معنى قوله "فإذا قضيتم الصلاة" إذا صليتم فصلوا قياماً وقعوداً أو على جنوبكم حسبما يقتضيه الحال عند ملاحمة القتال، فهي مثل قوله "فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً". قوله "فإذا اطمأننتم" أي: أمنتم وسكنت قلوبكم، والطمأنينة: سكون النفس من الخوف "فأقيموا الصلاة" أي: فأتوا بالصلاة التي دخل وقتها على الصفة المشروعة من الأذكار والأركان ولا تفعلوا ما أمكن، فإن ذلك إنما هو في حال الخوف. وقيل: المعنى في الآية أنهم يقضون ما صلوه في حال المسايفة، لأنها حالة قلق وانزعاج وتقصير في الأذكار والأركان وهو مروي عن الشافعي، والأول أرجح "إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً" أي: محدوداً معيناً، يقال: وقته فهو موقوت ووقته فهو موقت. والمعنى: إن الله افترض على عبادة الصلوات وكتبها عليهم في أوقاتها المحدودة لا يجوز لأحد أن يأتى بها في غير ذلك الوقت إلا لعذر شرعي من نوم أو سهو أو نحوهما.

وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا

قوله 104- "ولا تهنوا في ابتغاء القوم" أي: لا تضعفوا في طلبهم وأظهروا القوة والجلد. قوله "إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون" تعليل للنهي المذكور قبله: أي ليس ما تجدونه من ألم الجراح ومزاولة القتال مختصاً بكم، بل هو أمر مشترك بينكم وبينهم فليسوا بأولى منكم بالصبر على حر القتال ومرارة الحرب، ومع ذلك فلكم عليهم مزية لا توجد فيهم، وهي أنكم ترجون من الله من الأجر وعظيم الجزاء ما لا يرجونه لكفرهم وجحودهم، فأنتم أحق بالصبر منهم وأولى بعدم الضعف منهم، فإن أنفسكم قوية، لأنها ترى الموت مغنماً، وهم يرونه مغرماً. ونظير هذه الآية قوله تعالى "إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله" وقيل: إن الرجاء هنا بمعنى الخوف، لأن من رجا شيئاً فهو غير قاطع بحصوله، فلا يخلو من خوف ما يرجو. وقال الفراء والزجاج: لا يطلق الرجاء بمعنى الخوف إلا مع النفي كقوله تعالى "ما لكم لا ترجون لله وقاراً" أي لا تخافون له عظمة. وقرأ عبد الرحمن الأعرج " إن تكونوا " بفتح الهمزة: أي: لأن تكونوا. وقرأ منصور بن المعتمر تيلمون بكسر التاء ولا يجوز عند البصريين كسر التاء لثقله. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله "فاذكروا الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبكم" قال: بالليل والنهار في البر والبحر وفي السفر والحضر والغنى والفقر والسقم والصحة والسر والعلانية وعلى كل حال. وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن مسعود أنه بلغه أن قوماً يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم، فقال: إنما هذه إذا لم يستطع الرجل أن يصلي قائماً صلى قاعداً. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد "فإذا اطمأننتم" قال: إذا خرجتم من دار السفر إلى دار الإقامة "فأقيموا الصلاة" قال: أتموها. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة نحوه. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج نحوه أيضاً. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله "إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً" يعني: مفروضاً. وأخرج ابن جرير عنه قال: الموقوت الواجب. وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله "ولا تهنوا" قال: ولا تضعفوا. وأخرجوا ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله "تألمون" قال: توجعون "وترجون من الله ما لا يرجون" قال: ترجون الخير.

إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا

قوله 105- "بما أراك الله" إما بوحي أو بما هو جار على سنن ما قد أوحى الله به، وليس المراد هنا رؤية العين لأن الحكم لا يرى، بل المراد بما عرفه الله به وأرشده إليه. قوله "ولا تكن للخائنين" أي: لاجل الخائنين خصيماً: أي مخاصماً عنهم مجادلاً للمحقين بسببهم. وفيه دليل على أنه لا يجوز لأحد أن يخاصم عن أحد إلا بعد أن يعلم أنه محق.

وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا

قوله 106- "واستغفر الله" أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالاستغفار. قال ابن جرير: إن المعنى استغفر الله من ذنبك في خصامك للخائنين: وسيأتي بيان السبب الذي نزلت لأجله الآية، وبه يتضح المراد. وقيل المعنى: واستغفر الله للمذنبين من أمتك والمخاصمين بالباطل.

وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا

قوله 107- "ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم" أي: لا تحاجج عن الذين يخونون أنفسهم، والمجادلة مأخوذة من الجدل وهو الفتل، وقيل: مأخوذة من الجدالة وهي وجه الأرض لأن كل واحد من الخصمين يريد أن يلقي صاحبه عليها، وسمي ذلك خيانة لأنفسهم، لأن ضرر معصيتهم راجع إليهم. والخوان: كثير الخيانة، والأثيم: كثير الإثم، وعدم المحبة كناية عن البغض.

يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا

قوله 108- "يستخفون من الناس" أي: يستترون منهم كقوله "ومن هو مستخف بالليل" أي مستتر، وقيل معناه: يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله: أي لا يستترون منه أو لا يستحيون منه والحال أنه معهم في جميع أحوالهم عالم بما هم فيه فكيف يستخفون منه "إذ يبيتون" أي: يديرون الرأي بينهم، وسماه تبييتاً، لأن الغالب أن تكون إدارة الرأي بالليل "ما لا يرضى من القول" أي: من الرأي الذي أداروه بينهم، وسماه قولاً لأنه لا يحصل إلا بعد المقاولة بينهم.

هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا

قوله 109- "ها أنتم هؤلاء" يعني القوم الذين جادلوا عن صاحبهم السارق كما سيأتي، والجملة مبتدأ وخبر. قال الزجاج: "أولاء" بمعنى الذين و"جادلتم" بمعنى حاججتم "في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة" الاستفهام للإنكار والتوبيخ: أي فمن يخاصم ويجادل الله عنهم يوم القيامة عند تعذيبهم بذنوبهم؟ "أم من يكون عليهم وكيلاً" أي: مجادلاً ومخاصماً. والوكيل في الأصل: القائم بتدبير الأمور. والمعنى: من ذاك يقوم بأمرهم إذا أخذهم الله بعذابه. وقد أخرج الترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وصححه عن قتادة بن النعمان قال كان أهل بيت منا يقال لهم بنو أبيرق بشر وبشير ومبشر، وكان بشر رجلاً منافقاً يقول الشعر يهجو به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ينحله بعض العرب ثم يقول: قال فلان كذا وكذا، قال فلان كذا وكذا، فإذا سمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الشعر قالوا: والله ما يقول هذا الشعر إلا هذا الخبيث، فقال: أو كلما قال الرجال قصيدة أصموا فقالوا ابن الأبيرق قالها قال: وكانوا أهل بيت حاجة وفاقة في الجاهلية والإسلام، وكان الناس إنما طعامهم بالمدينة التمر والشعير، وكان الرجل إذا كان له يسار فقدمت ضافطة: أي حمولة من الشام من الدرمك ابتاع الرجل منها فخص نفسه، وأما العيال فإنما طعامهم التمر والشعير، فقدمت ضافطة من الشام فابتاع عمي رفاعة بن رافع حملاً من الدرمك، فجعله في مشربة، وفي المشربة سلاح له درعان وسيفاهما وما يصلحهما، فعدي عليه من تحت الليل فنقبت المشربة وأخذ الطعام والسلاح، فلما أصبح أتاني عمي رفاعة فقال: يا ابن أخي تعلم أن قد عدي علينا في ليلتنا هذه، فنقبت مشربتنا فذهب بطعامنا وسلاحنا، قال: فتحسسنا في الدار وسألنا، فقيل لنا: قد رأينا بني أبيرق استوقدوا ناراً في هذه الليلة ولا نرى فيما نرى إلا على بعض طعامكم، قال: وكان بنو أبيرق قالوا ونحن نسأل في الدار: والله ما نرى صاحبكم إلا لبيد بن سهل رجلاً منا له صلاح وإسلام، فلما سمع ذلك لبيد اخترط سيفه ثم أتى بني أبيرق وقال: أنا أسرق؟ فوالله ليخالطنكم هذا السيف أو لتبينن هذه السرقة، قالوا: إليك عنا أيها الرجل فوالله ما أنت بصاحبها، فسألنا في الدار حتى لم نشك أنهم أصحابها، فقال لي عمي: يا أهي لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، قال قتادة: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إن أهل بيت منا أهل جفاء عمدوا إلى عمي رفاعة بن زيد فنقبوا مشربة له وأخذوا سلاحه وطعامه فليردوا علينا سلاحنا، وأما الطعام فلا حاجة لنا فيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سأنظر في ذلك، فلما سمع ذلك بنو أبيرق أتوا رجلاً منهم يقال له أسير بن عروة فكلموه في ذلك واجتمع إليه ناس من أهل الدار، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله إن قتادة بن النعمان وعمه عمدوا إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة من غير بينة ولا ثبت، قال قتادة: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمته فقال: عمدت إلى أهل بيت ذكر منهم إسلام وصلاح ترميهم بالسرقة على غير بينة ولا ثبت، قال قتادة: فرجعت ولوددت أني خرجت من بعض مالي ولم أكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، فأتاني عمي رفاعة فقال لي: يا ابن أخي ما صنعت؟ فأخبرته بما قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: الله المستعان. فلم نلبث أن نزل القرآن "إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيماً" بني أبيرق "واستغفر الله" أي: مما قلت لقتادة " إن الله كان غفورا رحيما * ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم " إلى قوله "ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً" أي: لو استغفروا الله لغفر لهم "ومن يكسب إثماً" إلى قوله "فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً" قولهم للبيد "ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك" يعني: أسير بن عروة، فلما نزل القرآن أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسلاح فرده إلى رفاعة، قال قتادة: فلما أتيت عمي بالسلاح وكان شيخاً قد غشي في الجاهلية: أي كبر، وكنت أرى إسلامه مدخولاً فلما أتيته بالسلاح قال: يا ابن أخي هو في سبيل الله، فعرفت أن إسلامه كان صحيحاً، فلما نزل القرآن لحق بشير بالمشركين فنزل على سلافة بنت سعد فأنزل الله "ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى" إلى قوله "ضلالاً بعيداً" فلما نزل على سلافة رماها حسان بن ثابت بأبيات من شعر فأخذت رحله فوضعته على رأسها ثم خرجت فرمت به في الأبطح، ثم قالت: أهديت لي شعر حسان ما كنت تأتيني بخير. قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعلم أحداً أسنده غير محمد بن سلمة الحراني. ورواه يونس بن بكير وغير واحد عن محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة مرسلاً لم يذكر فيه عن أبيه عن جده. ورواه ابن أبي حاتم عن هاشم بن القاسم الحراني عن محمد بن الصانع، حدثنا أحمد بن أبي شعيب الحراني، حدثنا محمد بن سلمة فذكره بطوله. ورواه أبو الشيخ الأصبهاني في تفسيره عن محمد بن العباس بن أيوب والحسن بن يعقوب كلاهما عن الحسن بن أحمد بن أبي شعيب الحراني عن محمد بن سلمة به، ثم قال في آخره: قال محمد بن سلمة: سمع مني هذا الحديث يحيى بن معين وأحمد بن حنبل وإسحاق بن أبي إسرائيل. وقد رواه الحاكم في المستدرك عن أبي العباس الأصم عن أحمد بن عبد الجبار العطاردي عن يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق بمعناه أتم منه، ثم قال: هذا صحيح على شرط مسلم. وقد أخرجه ابن سعد عن محمود بن لبيد قال: غدا بشير فذكره مختصراً، وقد رويت هذه القصة مختصرة ومطولة عن جماعة من التابعين.

وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا

هذا من تمام القصة السابقة، والمراد بالسوء: القبيح الذي يسوء به 110- "أو يظلم نفسه" بفعل معصية من المعاصي أو ذنب من الذنوب التي لا تتعدى إلى غيره "ثم يستغفر الله" يطلب منه أن يغفر له ما قارفه من الذنب "يجد الله غفوراً" لذنبه "رحيماً" به، وفيه ترغيب لمن وقع منه السرق من بني أبيرق أن يتوب إلى الله ويستغفره، وأنه غفور لمن يستغفره رحيم به. وقال الضحاك: إن هذه الآية نزلت في شأن وحشي قاتل حمزة، أشرك بالله وقتل حمزة، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: هل لي من توبة؟ فنزلت. وعلى كل حال فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فهي لكل عبد من عباد الله أذنب ذنباً ثم استغفر الله سبحانه.

وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا

قوله 111- "ومن يكسب إثماً" من الآثام بذنب يذنبه "فإنما يكسبه على نفسه" أي عاقبته عائدة عليه، والكسب ما يجر به الإنسان إلى نفسه نفعاً أو يدفع به ضرراً، ولهذا لا يسمى فعل الرب كسباً، قاله القرطبي.

وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا

112- "ومن يكسب خطيئة أو إثماً" قيل: هما بمعنى واحد كرر للتأكيد. وقال الطبري: إن الخطيئة تكون عن عمد وعن غير عمد، والإثم لا يكون إلا عن عمد، وقيل: الخطيئة الصغيرة، والإثم: الكبيرة. قوله "ثم يرم به بريئاً" توحيد الضمير لكون العطف بأو، أو لتغليب الإثم على الخطيئة، وقيل: إنه يرجع إلى الكسب. قوله "فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً" لما كانت الذنوب لازمة لفاعلها كانت كالثقل الذي يحمل، ومثله "وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم". والبهتان مأخوذ من البهت: وهو الكذب على البريء بما ينبهت له ويتحير منه، يقال: بهته بهتاً وبهتاناً: إذا قال عليه ما لم يقل، ويقال بهت الرجل بالكسر: إذا دهش وتحير وبهت بالضم، ومنه "فبهت الذي كفر"، والإثم المبين: الواضح.

وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَا

قوله 113- "ولولا فضل الله عليك ورحمته" خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والمراد بهذا الفضل والرحمة لرسول الله أنه نبه على الحق في قصة بني أبيرق. وقيل: المراد بهما النبوة والعصمة "لهمت طائفة منهم" أي: من الجماعة الذين عضدوا بني أبيرق كما تقدم "أن يضلوك" عن الحق "وما يضلون إلا أنفسهم" لأن وبال ذلك عائد عليهم "وما يضرونك من شيء" لأن الله سبحانه هو عاصمك من الناس، ولأنك عملت بالظاهر ولا ضرر عليك في الحكم به قبل نزول الوحي، والجار والمجرور في محل نصب على المصدرية: أي وما يضرونك شيئاً من الضرر. قوله "وأنزل الله عليك الكتاب" قيل: هذا ابتداء كلام، وقيل الواو للحال: أي وما يضرونك من شيء حال إنزال الله عليك الكتاب والحكمة، أو مع إنزال الله ذلك عليك. قوله "وعلمك ما لم تكن تعلم" معطوف على أنزل: أي علمك بالوحي ما لم تكن تعلم من قبل "وكان فضل الله عليك عظيماً" إذ لا فضل أعظم من النبوة ونزول الوحي. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله "ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه" الآية. قال: أخبر الله عباده بحلمه وعفوه وكرمه وسعة رحمته ومغفرته، فمن أذنب ذنباً صغيراً كان أو كبيراً ثم استغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً ولو كانت ذنوبه أعظم من السموات والأرض والجبال. وأخرج عبد بن حميد عن ابن مسعود قال: من قرأ هاتين الآيتين من سورة النساء ثم استغفر الله غفر له " ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما " " ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول " الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله "وعلمك ما لم تكن تعلم" قال: علمه الله بيان الدنيا والآخرة بين حلاله وحرامه ليحتج بذلك على خلقه. وأخرج أيضاً عن الضحاك قال: علمه الخير والشر، وقد ورد في قبول الاستغفار، وأنه يمحو الذنب أحاديث كثيرة مدونه في كتب السنة.

لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا

النجوى: السر بين الاثنين أو الجماعة، تقول: ناجيت فلاناً مناجاة ونجاء وهم ينتجون ويتناجون، ونجوت فلاناً أنجوه نجوى: أي ناجيته، فنجوى مشتقة من نجوت الشيء أنجوه: أي خلصته وأفردته. والنجوة من الأرض المرتفع لانفراده بارتفاعه عما حوله، فالنجوى: المسارة مصدر. وقد تسمى به الجماعة كما يقال قوم عدم، قال الله تعالى "وإذ هم نجوى" فعلى الأول يكون الاستثناء منقطعاً: أي لكل من أمر بصدقة، أو متصلاً على تقدير إلا نجوى من أمر بصدقة، وعلى الثاني يكون الاستثناء متصلاً في موضع خفض على البدل من كثير: أي لا خير في كثير إلا فيمن أم بصدقة. وقد قال جماعة من المفسرين: إن النجوى كلام الجماعة المنفردة أو الاثنين سواء كان ذلك سراً أو جهراً، وبه قال الزجاج. قوله 114- "بصدقة" الظاهر أنها صدقة التطوع، وقيل إنها صدقة الفرض. والمعروف صدقة التطوع، والأول أولى. والمعروف لفظ عام يشمل جميع أنواع البر. وقال مقاتل: المعروف هنا القرض. والأول أول، ومنه قول الحطيئة: من يفعل الخير لا يعدم جوازيه لا يذهب العرف بين الله والناس ومنه الحديث: "كل معروف صدقة، وإن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق"، وقيل: المعروف إغاثة الملهوف. والإصلاح بين الناس عام في الدماء والأعراض والأموال، وفي كل شيء يقع التداعي فيه. قوله "ومن يفعل ذلك" إشارة إلى الأمور المذكورة، جعل مجرد الأمر بها خيراً، ثم رغب في فعلها بقوله "ومن يفعل ذلك" لأن فعلها أقرب إلى الله من مجرد الأمر بها، إذ خيرية الأمر بها إنما هي لكونه وسيلة إلى فعلها. قوله " ابتغاء مرضاة الله " علة للفعل، لأن من فعلها لغير ذلك فهو غير مستحق لهذا المدح والجزاء، بل قد يكون غير ناج من الوزر، والأعمال بالنيات.

وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا

115- "ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى" المشاققة: المعاداة والمخالفة. وتبين الهدى ظهوره، بأن يعلم صحة الرسالة بالبراهين الدالة على ذلك ثم يفعل المشاققة "ويتبع غير سبيل المؤمنين" أي: غير طريقهم وهو ما هم عليه من دين الإسلام والتمسك بأحكامه "نوله ما تولى" أي: نجعله والياً لما توالاه من الضلال "ونصله جهنم" قرأ عاصم وحمزة وأبو عمرو "نوله" "ونصله" بسكون الهاء في الموضعين. وقرأ الباقون بكسرهما وهما لغتان، وقرئ ونصله بفتح النون من صلاة، وقد تقدم بيان ذلك. وقد استدل جماعة من أهل العلم بهذه الآية على حجية الإجماع لقوله "ويتبع غير سبيل المؤمنين" ولا حجة في ذلك عندي، لأن المراد بغير سبيل المؤمنين هنا هو الخروج من دين الإسلام إلى غيره كما يفيده اللفظ ويشهد به السبب، فلا تصدق على عالم من علماء هذه الملة الإسلامية اجتهد في بعض مسائل دين الإسلام فأداه اجتهاده إلى مخالفة من بعصره من المجتهدين، فإنه إنما رام السلوك في سبيل المؤمنين، وهو الدين القويم والملة الحنيفية ولم يتبع غير سبيلهم. وقد أخرج عبد بن حميد والترمذي وابن ماجه وغيرهم عن أم حبيبة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلام ابن آدم كله عليه لا له إلا أمراً بمعروف أو نهياً عن منكر أو ذكراً لله عز وجل". قال سفيان الثوري هذا في كتاب الله "لا خير في كثير من نجواهم" الآية، وقوله "يوم يقوم الروح والملائكة صفاً لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا"، وقوله " والعصر* إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ". وقد وردت أحاديث صحيحة في الصمت والتحذير من آفات اللسان والترغيب في حفظه، وفي الحث على الإصلاح بين الناس. وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان في قوله "ومن يفعل ذلك" تصدق أو أقرض أو أصلح بين الناس. وأخرج أبو نصر السجزي في الإبانة عن أنس قال: "جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله أنزل علي القرآن يا أعرابي "لا خير في كثير من نجواهم" إلى قوله "فسوف نؤتيه أجراً عظيماً" يا أعرابي الأجر العظيم الجنة، قال الأعرابي: الحمد لله الذي هدانا للإسلام". وأخرج الترمذي والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يجمع الله هذه الأمة على الضلالة أبداً، ويد الله على الجماعة، فمن شذ شذر في النار". وأخرجه الترمذي والبيهقي أيضاً عن ابن عباس مرفوعاً.

إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا

قوله 116- "إن الله لا يغفر أن يشرك به" قد تقدم تفسير هذه الآية وتكريرها بلفظها للتأكيد، وقيل: كررت هنا لأجل قصة بني أبيرق، وقيل: إنها نزلت هنا لسبب غير قصة بني أبيرق. وهو ما رواه الثعلبي والقرطبي في تفسيرهما على الضحاك: أن شيخاً من الأعراب جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني شيخ منهمك في الذنوب والخطايا إلا أني لم أشرك بالله شيئاً مذ عرفته وآمنت به ولم أتخذ من دونه ولياً ولم أوقع المعاصي جرأة على الله ولا مكابرة له، وإني لنادم وتائب ومستغفر فما حالي عند الله؟ فأنزل الله تعالى "إن الله لا يغفر أن يشرك به" الآية "ومن يشرك بالله فقد ضل" عن الحق "ضلالاً بعيداً" لأن الشرك أعظم أنواع الضلال وأبعدها من الصواب.

إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا

117- "إن يدعون من دونه إلا إناثاً" أي: ما يدعون من دون الله إلا أصناماً لها أسماء مؤنثة كاللات والعزى ومناة، وقيل: المراد بالإناث الموات التي لا روح لها كالخشبة والحجر، وقيل: المراد بالإناث الملائكة لقولهم: الملائكة بنات الله. وقرئ وثنا بضم الواو والثاء جمع وثن، روى هذه القراءة ابن الأنباري عن عائشة. وقرأ ابن عباس إلا أثنا جمع وثن أيضاً، وأصله وثن فأبدلت الواو همزة، وقرأ الحسن إلا أنثا بضم الهمزة والنون بعدها مثلثة، جمع أنيث كغدير وغدر. وحكى الطبري أنه جمع إناث كثمار وثمر. وحكى هذه القراءة أبو عمرو الداني عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: وقرأ بها ابن عباس والحسن وأبو حيوة. وعلى جميع هذه القراءات فهذا الكلام خارج مخرج التوبيخ للمشركين والإزراء عليهم والتضعيف لعقولهم، لكونهم عبدوا من دون الله نوعاً من ضعيفاً "وإن يدعون إلا شيطاناً مريداً" أي: وما يدعون من دون الله إلا شيطاناً مريداً وهو إبليس لعنه الله، لأنهم إذا أطاعوه فيما سول لهم فقد عبدوه. وقد تقدم اشتقاق لفظ الشيطان. والمريد: المتمرد المعاتي، من مرد: إذا عتا. قال الأزهري: المريد الخارج عن الطاعة. وقد مرد الرجل مروداً: إذا عتا وخرج عن الطاعة، فهو مارد ومريد ومتمرد. وقال ابن عرفة: هو الذي ظهر شره، يقال شجرة مرداء: إذا تساقط ورقها وظهرت عيدانها، ومنه قيل للرجل أمرد: أي ظاهر مكان الشعر من عارضيه.

لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا

قوله 118- "لعنه الله" أصل اللعن الطرد والإبعاد. وقد تقدم، وهو في العرف إبعاد مقترن بسخط. قوله: " وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا " معطوف على قوله "لعنه الله" والجملتان صفة لشيطان: أي شيطاناً مريداً جامعاً بين لعنة الله له وبين هذا القول الشنيع. والنصيب المفروض: هو المقطوع المقدر: أي لأجعلن قطعة مقدرة من عباد الله تحت غوايتي وفي جانب إضلالي حتى أخرجهم من عبادة الله إلى الكفر به.

وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا

قوله 119- "ولأضلنهم" اللام جواب قسم محذوف. والإضلال: الصرف عن طريق الهداية إلى طريق الغواية، وهكذا اللام في قوله: "ولأمنينهم ولآمرنهم" والمراد بالأماني التي يمنيهم بها الشيطان: هي الأماني الباطلة الناشئة عن تسويله ووسوسته. وقوله: "ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام" أي: ولآمرنهم بتبتك آذان الأنعام: أي تقطيعها فليبتكنها بموجب أمري. والبتك: القطع، ومنه سيف باتك، يقال: بتكه وبتكه مخففاً ومشدداً، ومنه قوله زهير: طارت وفي كفه من ريشها بتك أي: قطع. وقد فعل الكفار ذلك امتثالاً لأمر الشيطان واتباعاً لرسمه، فشقوا آذان البحائر والسوائب كما ذلك معروف. قوله "ولآمرنهم فليغيرن خلق الله" أي: ولآمرنهم بتغيير خلق الله فليغيرنه بموجب أمري لهم. واختلف العلماء في هذا التغيير ما هو؟ فقالت طائفة: هو الخصاء وفقء الأعين وقطع الآذان. وقال آخرون: إن المراد بهذا التغيير هو أن الله سبحانه خلق الشمس والقمر والأحجار والنار ونحوها من المخلوقات لما خلقها له، فغيرها الكفار بأن جعلوها آلهة معبودة، وبه قال الزجاج، وقيل: المراد بهذا التغيير تغيير الفطرة التي فطر الله الناس عليها، ولا مانع من حمل الآية على جميع هذه الأمور حملاً شمولياً أو بدلياً. وقد رخص طائفة من العلماء في خصاء البهائم إذا قصد بذلك زيادة الانتفاع به لسمن أو غيره، وكره ذلك آخرون، وأما خصاء بني آدم فحرام، وقد كره قوم شراء الخصي. قال القرطبي: ولم يختلفوا أن خصاء بني آدم لا يحل ولا يجوز وأنه مثلة وتغيير لخلق الله وكذلك قطع سائر أعضائهم في غير حد ولا قود، قاله أبو عمر بن عبد البر "ومن يتخذ الشيطان ولياً من دون الله" باتباعه وامتثال ما يأمر به من دون اتباع لما أمر الله به ولا امتثال له "فقد خسر خسراناً مبيناً" أي واضحاً ظاهراً.

يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا

120- "يعدهم" المواعيد الباطلة "ويمنيهم" الأماني العاطلة "وما يعدهم الشيطان إلا غروراً" أي: وما يعدهم الشيطان بما يوقعه في خواطرهم من الوساوس الفارغة "إلا غروراً" يغرهم به ويظهر لهم فيه النفع وهو ضرر محض، وانتصاب غروراً على أنه قد نعت لمصدر محذوف: أي وعداً غروراً أو على أنه مفعول ثان أو مصدر على غير لفظه. قال ابن عرفة: الغرور ما رأيت له ظاهراً تحبه وله باطن مكروه، وهذه الجملة اعتراضية.

أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا

قوله 121- "أولئك" إشارة إلى أولياء الشيطان وهذا مبتدأ وخبره الجملة وهي قوله "مأواهم جهنم" قوله "محيصاً" أي: معدلاً، من حاص يحيص، وقيل: ملجأ ومخلصاً، والمحيص اسم مكان، وقيل: مصدر.

وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا

قوله 122- "والذين آمنوا" إلخ، جعل هذا الوعد للذين آمنوا مقترناً بالوعيد المتقدم للكافرين. قوله "وعد الله حقاً" قال في الكشاف مصدران: الأول مؤكد لنفسه، والثاني مؤكد لغيره، ووجهه أن الأول مؤكد لمضمون الجملة الإسمية ومضمونها وعد، والثاني مؤكد لغيره: أي حق ذلك حقاً. قوله "ومن أصدق من الله قيلا" هذه الجملة مؤكدة لما قبلها، والقيل مصدر قال كالقول: أي لا أجد أصدق قولاً من الله عز وجل، وقيل: إن قيلاً اسم لا مصدر، وإنه منتصب على التمييز. وقد أخرج الترمذي من حديث علي أنه قال: ما في القرآن آية أحب إلي من هذه الآية "إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء" قال الترمذي: حسن غريب. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن أبي مالك في قوله "إن يدعون من دونه إلا إناثاً" قال: اللات والعزة ومناة كلها مؤنثة. وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد المسند وابن المنذر وابن أبي حاتم والضياء في المختارة عن أبي بن كعب في الآية قال: مع كل صنم جنيه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس " إن يدعون من دونه إلا إناثا " قال: موتى. وأخرج مثله عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن. وأخرج مثله أيضاً عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة. وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر عن الحسن قال: كان لكل حي من أحياء العرب صنم يعبدونها يسمونها أنثى بني فلان، فأنزل الله "إن يدعون من دونه إلا إناثاً". وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن الضحاك قال المشركون: إن الملائكة بنات الله، وإنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى، قال: اتخذوهن أرباباً وصوروهن صور الجواري فحلوا وقلدوا، وقالوا: هؤلاء يشبهن بنات الله الذي نعبده: يعنون الملائكة. وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان في قوله "وقال لأتخذن من عبادك" إلخ، قال: هذا إبليس يقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلأى الجنة. وأخرج ابن المنذر عن الربيع مثله. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في قوله "فليبتكن آذان الأنعام" قال: التبتيك في البحيرة والسائبة يبتكون آذانها لطواغيتهم. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن أنس انه كره الإخصاء وقال فيه نزلت "ولآمرنهم فليغيرن خلق الله". وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس مثله. وأخرج ابن أبي شيبة والبيهقي عن ابن عمر قال:" نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خصاء البهائم والخيل". وأخرج ابن المنذر والبيهقي عن ابن عباس قال:" نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صبر الروح وإخصاء البهائم"، وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس في قوله "ولآمرنهم فليغيرن خلق الله" قال: دين الله. وأخرج ابن جرير عن الضحاك مثله. وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن سعيد بن جبير مثله أيضاً. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن قال: الوشم.

لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا

قرأ أبو جعفر بتخفيف الياء من أماني في الموضعين، واسم ليس محذوف: أي ليس دخول الجنة أو الفضل أو القرب من الله بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب كما يدل على ذلك سبب نزول الآية الآتي، وقيل: ضمير يعود إلى وعد الله، وهو بعيد، ومن أماني أهل الكتاب قولهم "لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى" وقولهم "نحن أبناء الله وأحباؤه" وقولهم "لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة". قوله 123- "من يعمل سوءاً يجز به" قيل: المراد بالسوء الشرك، وظاهر الآية أعم من ذلك، فكل من عمل سوءاً أي سوء كان فهو مجزي به من غير فرق بين المسلم والكافر. وفي هذه الجملة ما ترجف له القلوب من الوعيد الشديد، وقد كان لها في صدور المسلمين عند نزولها موقع عظيم كما ثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث أبي هريرة، قال:" لما نزلت "من يعمل سوءاً يجز به" بلغت من المسلمين مبلغاً شديداً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قاربوا وسددوا، ففي كل ما يصاب به المسلم كفارة حتى النكبة ينكبها والشوكة يشاكها" . قوله "ولا يجد له" قرأه الجماعة بالجزم عطفاً على الجزاء، وروى ابن بكار عن ابن عامر "ولا يجد" بالرفع استئنافاً: أي ليس لمن يعمل السوء من دون الله ولياً يواليه ولا نصيراً ينصره.

وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا

124- "ومن يعمل من الصالحات" أي بعضها حال كونه "من ذكر أو أنثى" وحال كونه مؤمناً، والحال الأولى لبيان من يعمل، والحال الأخرى لإفادة اشتراط الإيمان في كل عمل صالح "فأولئك" إشارة إلى العمل المتصف بالإيمان "يدخلون الجنة" قرأ أبو عمرو وابن كثير "يدخلون" بضم حرف المضارعة على البناء للمجهول. وقرأ الباقون بفتحها على البناء للمعلوم "ولا يظلمون نقيراً" أي: لا ينقصون شيئاً حقيراً، وقد تقدم تفسير النقير.

وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا

125- "ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله" أي: أخلص نفسه له حال كونه محسناً: أي عاملاً للحسنات "واتبع ملة إبراهيم" أي: دينه حال كون المتبع "حنيفاً" أي: مائلاً عن الأديان الباطلة إلى دين الحق، وهو الإسلام "واتخذ الله إبراهيم خليلاً" أي: جعله صفوة له وخصه بكراماته، قال ثعلب: إنما سمي الخليل خليلاً لأن محبته تتخلل القلب فلا تدع فيه خليلاً إلا ملأته، وأنشد قول بشار: قد تخللت مسلك الروح مني وبه سمي الخليل خليلا وخليل فعل بمعنى فاعل كالعليم بمعنى العالم، وقيل: هو بمعنى المفعول كالحبيب بمعنى المحبوب، وقد كان إبراهيم عليه السلام محبوباً لله ومحباً له، وقيل: الخليل من الاختصاص، فالله سبحانه اختص إبراهيم برسالته في ذلك الوقت واختاره لها، واختار هذا النحاس. وقال الزجاج: معنى الخليل الذي ليس في محبته خلل.

وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا

126- "ولله ما في السموات وما في الأرض" فيه إشارة إلى أنه سبحانه اتخذ إبراهيم خليلاً لطاعته لا لحاجته ولا للتكثر به والاعتضاد بمخاللته "وكان الله بكل شيء محيطاً" هذه الجملة مقررة لمعنى الجملة التي قبلها: أي أحاط علمه بكل شيء "لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها". وقد أخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: قالت العرب: لا نبعث ولا نحاسب، وقالت اليهود والنصارى "لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى" وقالوا: "لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة" فأنزل الله "ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به". وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر عن مسروق قال: احتج المسلمون وأهل الكتاب، فقال المسلمون: نحن أهدى منكم، وقال أهل الكتاب: نحن أهدى منكم، فنزلت ففلج عليهم المسلمون بهذه الآية " ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن " الآية. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مسروق قال: تفاخر النصارى وأهل الإسلام، فقال هؤلاء نحن أفضل منكم، وقال هؤلاء: نحن أفضل منكم فنزلت. وقد ورد معنى هذه الروايات من طرق كثيرة مختصرة ومطولة. وأخرج عبد بن حميد والترمذي وابن المنذر عن أبي بكر الصديق أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له لما نزلت هذه الآية: أما أنت وأصحابك يا أبا بكر فتجزون بذلك في الدنيا حتى تلقوا الله ليس لكم ذنوب، وأما الآخرون فيجمع لهم ذلك حتى يجزوا به يوم القيامة. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة وأبي سعيد أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا سقم ولا حزن حتى الهم يهمه إلا كفر الله به من سيئاته". وقد ورد في هذا المعنى أحاديث كثيرة. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس أن ابن عمر لقيه فسأله عن هذه الآية "ومن يعمل من الصالحات" قال: الفرائض. وأخرج الحاكم وصححه عن جندب أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول قبل أن يتوفى: "إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً". وأخرج الحاكم أيضاً وصححه عن ابن عباس قال: أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم والكلام لموسى والرؤية لمحمد صلى الله عليه وسلم؟.

وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأ

سبب نزول هذه الآية سؤال قوم من الصحابة عن أمر النساء وأحكامهن في الميراث وغيره، فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم "الله يفتيكم" أي: يبين لكم حكم ما سألتم عنه، وهذه الآية رجوع إلى ما افتتحت به السورة من أمر النساء، وكان قد بقيت لهم أحكام لم يعرفوها، فسألوا، فقيل لهم "الله يفتيكم". قوله "وما يتلى عليكم" معطوف على قوله "الله يفتيكم" والمعنى: والقرآن الذي يتلى عليكم يفتيكم فيهن. والمتلو في الكتاب في معنى اليتامى قوله تعالى " وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى " ويجوز أن يكون قوله "وما يتلى" معطوفاً على الضمير في قوله "يفتيكم" الراجع إلى المبتدأ لوقوع الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بالمفعول والجار والمجرور ويجوز أن يكون مبتدأ وفي الكتاب خبره على أن المراد به اللوح المحفوظ، وقد قيل في إعرابه غير ما ذكرنا، ولم نذكره لضعفه. وقوله "في يتامى النساء" على الوجه الأول والثاني صلة لقوله "يتلى" وعلى الوجه الثالث بدل من قوله "فيهن". " اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن " أي: ما فرض لهن من الميراث وغيره "وترغبون" معطوف على قوله "لا تؤتونهن" عطف جملة مثبتة على جملة منفية. وقيل: حال من فاعل "تؤتونهن". وقوله "أن تنكحوهن" يحتمل أن يكون التقدير في أن تنكحوهن: أي ترغبون في أن تنكحوهن لجمالهن، ويحتمل أن يكون التقدير في أن تنكحوهن: أي ترغبون في أن تنكحوهن لجمالهن، ويحتمل أن يكون التقدير وترغبون عن أن تنكحوهن لعدم جمالهن. قوله "والمستضعفين من الولدان" معطوف على يتامى النساء: أي وما يتلى عليكم في يتامى النساء وفي المستضعفين من الولدان، وهو قوله تعالى تعالى "يوصيكم الله في أولادكم" وقد كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء ولا من كان مستضعفاً من الولدان كما سلف، وإنما يورثون الرجال القائمين بالقتال وسائر الأمور. قوله "وأن تقوموا لليتامى بالقسط" معطوف على قوله "في يتامى النساء" كالمستضعفين أي: وما يتلى عليكم في يتامى النساء وفي المستضعفين وفي أن تقوموا لليتامى بالقسط: أي العدل، ويجوز أن يكون في محل نصب: أي ويأمركم أن تقوموا "وما تفعلوا من خير" في حقوق المذكورين " إن الله كان عليما " يجازيكم بحسب فعلكم من خير وشر. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله: "ويستفتونك في النساء" الآية، قال: كان أهل الجاهلية لا يورثون المولود حتى يكبر ولا يورثون المرأة، فلما كان الإسلام قال: "ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب" في أول السورة في الفرائض. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في الآية قال: كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء ولا الصبيان شيئاً، كانوا يقولون: لا يغزون ولا يغنمون خيراً ففرض الله لهن الميراث حقاً واجباً. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن سعيد بن جبير نحوه بأطول منه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن إبراهيم في الآية قال: كانوا إذا كانت الجارية يتيمة دميمة لم يعطوها ميراثها وحبسوها من التزويج حتى تموت فيرثونها، فأنزل الله هذا. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة في قوله "ويستفتونك في النساء" إلى قوله: "وترغبون أن تنكحوهن" قالت: هو الرجل تكون عنده اليتيمة هو وليها ووارثها قد شركته في ماله حتى في العذق، فيرغب أن ينكحها ويكره أن يزوجها رجلاً فتشركه في ماله بما شركته فيعضلها، فنزلت هذه الآية. وأخرج ابن المنذر من طريق ابن عون عن الحسن وابن سيرين في هذه الآية قال أحدهما: ترغبون فيهن، وقال الآخر: ترغبون عنهن.

وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير

امرأة مرفوعة بفعل مقدر يفسره ما بعده: أي وإن خافت امرأة، وخافت بمعنى: توقعت ما تخاف من زوجها وقيل: معناه تيقنت وهو خطأ. قال الزجاج: المعنى 128- "وإن امرأة خافت من بعلها" دوام النشوز. قال النحاس: الفرق بين النشوز والإعراض: أن النشوز التباعد، والإعراض أن لا يكلمها ولا يأنس بها، وظاهر الآية أنها تجوز المصالحة عند مخافة أي نشوز أو أعي إعراض، والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب الذي سيأتي، وظاهرها أنه يجوز التصالح بأي نوع من أنواعه، إما بإسقاط النوبة أو بعضها أو بعض النفقة أو بعض المهر. قوله " أن يصلحا " هكذا قرأه الجمهور، وقرأ الكوفيون "أن يصلحا" وقراءة الجمهور أولى لأن قاعدة العرب أن الفعل إذا كان بين اثنين فصاعداً قيل: تصالح الرجلان أو القوم، لا أصلح. وقوله "صلحاً" منصوب على أنه اسم مصدر أو على أنه مصدر محذوف الزوائد، أو منصوب بفعل محذوف: أي فيصلح حالهما صلحاً، وقيل: هو منصوب على المفعولية. وقوله "بينهما" ظرف للفعل أو في محل نصب على الحال. قوله "والصلح خير" لفظ عام يقتضي أن الصلح الذي تسكن إليه النفوس ويزول به الخلاف خير على الإطلاق أو خير من الفرقة أو من الخصومة، وهذه الجملة اعتراضية. قوله "وأحضرت الأنفس الشح" إخبار منه سبحانه بأن الشح في كل واحد منهما بل في كل الأنفس الإنسانية كائن وأنه جعل كأنه حاضر لها لا يغيب عنها بحال من الأحوال وأن ذلك بحكم الجبلة والطبيعة فالرجل يشح بما يلزمه للمرأة من حسن العشرة وحسن النفقة ونحوها، والمرأة تشح على الرجل بحقوقها اللازمة للزوج فلا تترك له شيئاً منها. وشح الأنفس: بخلها بما يلزمها أو يحسن فعله بوجه من الوجوه، ومنه "ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون". قوله "وإن تحسنوا وتتقوا" أي: تحسنوا عشرة النساء وتتقوا ما لا يجوز من النشوز والإعراض " فإن الله كان بما تعملون خبيرا " فيجازيكم يا معشر الأزواج بما تستحقونه.

وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا

قوله 129- "ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء" أخبر سبحانه بنفي استطاعتهم للعدل بين النساء على الوجه الذي لا ميل فيه ألبتة لما جبلت عليه الطباع البشرية من ميل النفس إلى هذه دون هذه، وزيادة هذه في المحبة ونقصان هذه، وذلك بحكم الخلقة بحيث لا يملكون قلوبهم ولا يستطيعون توقيف أنفسهم على التسوية، ولهذا كان يقول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: "اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما لا أملك" ولما كانوا لا يستطيعون ذلك ولو حرصوا عليه وبالغوا فيه نهاهم عز وجل عن أن يميلوا كل الميل، لأن ترك ذلك وتجنب الجور كل الجور في وسعهم وداخل تحت طاقتهم فلا يجوز لهم أن يميلوا عن إحداهن إلى الأخرى كل الميل حتى يذروا الأخرى كالمعلقة التي ليست ذات زوج ولا مطلقة تشبيهاً بالشيء الذي هو معلق غير مستقر على شيء، وفي قراءة أبي فتذروها كالمسجونة قوله "وإن تصلحوا" أي: ما أفسدتم من الأمور التي تركتم ما يجب عليكم فيها من عشرة النساء والعدل بينهن "وتتقوا" كل الميل الذي نهيتم عنه "فإن الله كان غفوراً رحيماً" لا يؤاخذكم بما فرط منكم.

وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا

قوله 130- "وإن يتفرقا" أي: لم يتصالحا بل فارق كل واحد منهما صاحبه "يغن الله كلاً" منهما: أي يجعله مستغنياً عن الآخر بأن يهيئ للرجل امرأة توافقه وتقر بها عينه، وللمرأة رجلاً تغتبط بصحبته ويرزقهما "من سعته" رزقاً يغنيهما به عن الحاجة "وكان الله واسعاً حكيماً" واسع الفضل صادرة أفعاله على جهة الإحكام والإتقان. وقد أخرج الترمذي وحسنه وابن المنذر والطبراني والبيهقي عن ابن عباس قال: خشيت سودة أن يطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله لا تطلقني وأجعل يومي لعائشة، ففعل ونزلت هذه الآية "وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً" الآية، قال ابن عباس: فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز. وأخرج أبو داود والحاكم وصححه والبيهقي عن عائشة أن سبب نزول الآية هو قصة سودة المذكورة. وأخرج البخاري وغيره عنها في الآية قالت: الرجل تكون عنده المرأة ليس بمستكثر منها يريد أن يفارقها فتقول: أجعلك من شأني في حل فنزلت هذه الآية. وأخرج الشافعي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة والبيهقي عن سعيد بن المسيب أن ابنة محمد بن سلمة كانت عند رافع بن خديج، فكره منها أمراً، إما كبراً أو غيره، فأراد طلاقها فقالت: لا تطلقني واقسم لي ما بدا لك فاصطلحا، وجرت السنة بذلك ونزل القرآن "وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً" الآية. وأخرج أبو داود الطيالسي وابن أبي شيبة وابن راهويه وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والبيهقي عن علي أنه سئل عن هذه الآية فقال: هو رجل عنده امرأتان، فتكون إحداهما قد عجزت أو تكون دميمة فيريد فراقها، فتصالحه على أن يكون عندها ليلة، وعند الأخرى ليالي ولا يفارقها، فما طابت به نفسها فلا بأس به، فإن رجعت سوى بينهما. وقد ورد عن جماعة من الصحابة نحو هذا، وثبت في الصحيحين من حديث عائشة قالت: "لما كبرت سودة بنت زمعة وهبت يومها لعائشة، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم لها بيوم سودة". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس في قوله "وأحضرت الأنفس الشح" قال: هواه في الشيء يحرص عليه، وفي قوله "ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء" قال: في الحب والجماع، وفي قوله "فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة" قال: لا هي أيمة ولا ذات زوج. وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن المنذر عن عائشة قالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل ثم يقول: اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك" وإسناده صحيح. وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد وأهل السنن عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وأحد شقيه ساقط". قال الترمذي: إنما أسنده همام. ورواه هشام الدستوائي عن قتادة قال: كان يقال، ولا يعرف هذا الحديث مرفوعاً إلا من حديث همام. وأخرج ابن المنذر عن ابن مسعود في قوله "ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء" قال: الجماع. وأخرج ابن أبي شيبة عن الحسن قال: الحب.

وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَ

قوله 131- "ولله ما في السموات وما في الأرض" هذه الجملة مستأنفة لتقرير كمال سعته سبحانه وشمول قدرته "ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم" أمرناهم فيما أنزلناه عليهم من الكتب، واللام في الكتاب للجنس "وإياكم" عطف على الموصول "أن اتقوا الله" أي: أمرناهم وأمرناكم بالتقوى وهو في موضع نصب بقوله "وصينا" أو منصوب بنزع الخافض. قال الأخفش: أي بأن اتقوا الله، ويجوز أن تكون أن مفسرة، لأن التوصية في معنى القول. قوله "وإن تكفروا فإن لله ما في السموات وما في الأرض" معطوف على قوله "أن اتقوا" أي: وصيناهم وإياكم بالتقوى وقلنا لهم ولكم إن تكفروا، وفائدة هذا التكرير التأكيد ليتنبه العباد على سعة ملكه وينظروا في ذلك ويعلموا أنه غني عن خلقه.

وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا

132- "ولله ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلاً".

إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآَخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا

133- "إن يشأ يذهبكم" أي يفنكم "ويأت بآخرين" أي: بقوم آخرين غيركم، وهو كقوله تعالى "وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم".

مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا

134- "من كان يريد ثواب الدنيا" وهو من يطلب بعمله شيئاً من أمور الدنيا كالمجاهد يطلب الغنيمة دون الأجر "فعند الله ثواب الدنيا والآخرة" فما باله يقتصر على أدنى الثوابين وأحقر الأجرين، وهلا طلب بعمله ما عند الله سبحانه، وهو ثواب الدنيا والآخرة فيحرزها جميعاً ويفوز بهما وظاهر الآية العموم. وقال ابن جرير الطبري: إنها خاصة بالمشركين والمنافقين "وكان الله سميعاً بصيراً" يسمع ما يقولونه ويبصر ما يفعلونه. وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله "وكان الله غنياً" عن خلقه "حميداً" قال: مستحمداً إليهم. وأخرجا أيضاً عن علي مثله. وأخرج ابن جرير عن قتادة في قوله "وكفى بالله وكيلاً" قال: حفيظاً. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عنه في قوله "إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين" قال: قادر والله ربنا على ذلك أن يهلك من خلقه ما شاء ويأتي بآخرين من بعدهم.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ

قوله 135- "قوامين" صيغة مبالغة: أي ليتكرر منكم القيام بالقسط، وهو العدل في شهادتكم على أنفسكم وهو الإقرار بما عليكم من الحقوق، وأما شهادته على والديه فبأن يشهد عليهما بحق للغير، وكذلك الشهادة على الأقربين وذكر الأبوين لوجوب برهما وكونهما أحب الخلق إليه، ثم ذكر الأقربين، لأنهم مظنة المودة والتعصب، فإذا شهدوا على هؤلاء بما عليهم فالأجنبي من الناس أحرى أن يشهدوا عليه. وقد قيل: إن معنى الشهادة على النفس أن يشهد بحق على من يخشى لحوق ضرر منه على نفسه وهو بعيد. وقوله "شهداء لله" خبر بعد خبر لكان، أو حال ولم ينصرف لأن فيه ألف التأنيث. وقال ابن عطية: الحال فيه ضعيفة في المعنى لأنها تحصص القيام بالقسط إلى معنى الشهادة فقط. وقوله "لله" أي: لمرضاته وثوابه. وقوله "ولو على أنفسكم" متعلق بشهداء، هذا المعنى الظاهر من الآية، وقيل معنى "شهداء لله" بالوحدانية فيتعلق قوله "ولو على أنفسكم" بقوامين، والأول أولى. قوله "إن يكن غنياً أو فقيراً" اسم كان مقدر: أي إن يكن المشهود عليه غنياً فلا يراعى لأجل غناه استجلاباً لنفعه وإشفاقاً عليه فيترك الشهادة عليه، أو فقيراً فلا يراعى لأجل فقره رحمة له وإشفاقاً عليه فيترك الشهادة عليه، وإنما قال "فالله أولى بهما" ولم يقل به مع أن التخيير إنما يدل على الحصول لواحد، لأن المعنى فالله أولى بكل واحد منهما وقال الأخفش: تكون أو بمعنى الواو، وقيل: إنه يجوز ذلك مع تقدم ذكرهما كما في قوله "وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس". وقد تقدم في مثل هذا ما هو أبسط مما هنا. وقرأ أبي "فالله أولى بهم". وقرأ ابن مسعود إن يكن غني أو فقير على أن كان تامة "فلا تتبعوا الهوى" نهاهم عن اتباع الهوى. وقوله "أن تعدلوا" في موضع نصب، وهو إما من العدل كأنه قال: فلا تتبعوا الهوى كراهة أن تعدلوا بين الناس، أو من العدول كأنه قال: فلا تتبعوا الهوى مخافة أن تعدلوا عن الحق، أو كراهة أن تعدلوا عن الحق. قوله: "وإن تلووا" من اللي، يقال: لويت فلاناً حقه: إذا دفعته عنه. والمراد لي الشهادة ميلاً إلى المشهود عليه. وقرأ ابن عامر والكوفيون " وإن تلووا " من الولاية: أي وإن تلوا الشهادة وتتركوا ما يجب عليكم من تأديتها على وجه الحق. وقد قيل إن هذه القراءة تفيد معنيين: الولاية، والإعراض. والقراءة الأولى تفيد معنى واحداً وهو الإعراض. وزعم بعض النحويين أن القراءة الثانية غلط ولحن، لأنه لا معنى للولاية ها هنا. قال النحاس وغيره: وليس يلزم هذا، ولكن يكون تلوا بمعنى تلووا، وذلك أن أصله تلووا فاستثقلت الضمة على الواو بعدها واو أخرى فألقيت الحركة على اللام وحذفت إحدى الواوين لالتقاء الساكنين، وذكر الزجاج نحوه. قوله "أو تعرضوا" أي: عن تأدية الشهادة من الأصل "فإن الله كان بما تعملون خبيراً" أي: بما تعملون من اللي والإعراض أو من كل عمل، وفي هذا وعيد شديد لمن لم يأت بالشهادة كما تجب عليه وقد روي أن هذه الآية تعم القاضي والشهود، أما الشهود فظاهر، وأما القاضي لذلك بأن يعرض عن أحد الخصمين أو يلوي عن الكلام معه، وقيل: هي خاصة بالشهود.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَال

قوله: 136- "يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله" أي: اثبتوا على إيمانكم ودوموا عليه، والخطاب هنا للمؤمنين جميعاً " والكتاب الذي نزل على رسوله " هو القرآن، واللام للعهد "والكتاب الذي أنزل من قبل" هو كل كتاب، واللام للجنس. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر "نزل" و"أنزل" بالضم. وقرأ الباقون بالفتح فيهما وقيل: إن الآية نزلت في المنافقين. والمعنى: يا أيها الذين آمنوا في الظاهر أخلصوا لله. وقيل: نزلت في المشركين، والمعنى: يا أيها الذين آمنوا باللات والعزى آمنوا بالله وهما ضعيفان. قوله: "ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر" أي بشيء من ذلك "فقد ضل" عن القصد "ضلالاً بعيداً" وذكر الرسول فيما سبق لذكر الكتاب الذي أنزل عليه، وذكر الرسل هنا لذكر الكتب جملة فناسبه ذكر الرسل جملة، وتقديم الملائكة على الرسل لأنه الوسائط بين الله وبين رسله. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله "يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين" الآية، قال: أمر الله المؤمنين أن يقولوا بالحق ولو على أنفسهم أو آبائهم أو أبنائهم لا يحابون غنياً لغناه ولا يرحمون مسكيناً لمسكنته، وفي قوله "فلا تتبعوا الهوى" فتذروا الحق فتجوروا "وإن تلووا" يعني بألسنتكم بالشهادة "أو تعرضوا" عنها. وأخرج أحمد وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية عنه في معنى الآية قال: الرجلان يجلسان عند القاضي فيكون لي القاضي وإعراضه لأحد الرجلين على الآخر. وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كانت البقرة أول سورة نزلت ثم أردفها سورة النساء، قال: فكان الرجل تكون عنده الشهادة قبل ابن عمه أو ذوي رحمه فيلوي بها لسانه أو يكتمها مما يرى من عسرته حتى يوسر فيقضي حين يوسر، فنزلت "كونوا قوامين بالقسط" الآية. وأخرج ابن جرير عنه أيضاً "وإن تلووا أو تعرضوا" يقول: تلوي لسانك بغير الحق وهي اللجلجة فلا تقيم الشهادة على وجهها. والإعراض: الترك. وأخرج الثعلبي عن ابن عباس "أن عبد الله بن سلام وأسداً وأسيداً ابني كعب وثعلبة بن قيس وسلاماً ابن أخت عبد الله بن سلام وسلمة ابن أخيه ويامين بن يامين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله إنا نؤمن بك وبكتابك وموسى والتوراة وعزير ونكفر بما سواه من الكتب والرسل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل آمنوا بالله ورسوله محمد وكتابه القرآن وبكل كتاب كان قبله، فقالوا: لا نفعل، فنزلت "يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله" الآية". وينبغي النظر في صحة هذا، فالثعلبي رحمه الله ليس من رجال الرواية ولا يفرق بين الصحيح والموضوع. وأخرج ابن المنذر عن الضحاك في هذه الآية قال: يعني بذلك أهل الكتاب، كان الله قد أخذ ميثاقهم في التوراة والإنجيل، وأقروا على أنفسهم أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، فلما بعث الله رسوله دعاهم إلى أن يؤمنوا بمحمد والقرآن وذكرهم الذي أخذ عليهم من الميثاق، فمنهم من صدق النبي صلى الله عليه وسلم واتبعه، ومنهم من كفر.

إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا

137- " إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا " أخبر الله سبحانه عن هذه الطائفة التي آمنت ثم كفرت ثم آمنت ثم كفرت ثم ازدادت كفراً بعد ذلك كله أنه لم يكن الله سبحانه ليغفر لهم ذنوبهم ولا ليهديهم سبيلاً يتوصلون به إلى الحق ويسلكونه إلى الخير لأنه يبعد منهم كل البعد أن يخلصوا لله ويؤمنوا إيماناً صحيحاً فإن هذا الاضطراب منهم تارة يدعون أنهم مؤمنون وتارة يمرقون من الإيمان ويرجعون إلى ما هو دأبهم وشأنهم من الكفر المستمر والجحود الدائم يدل أبلغ دلالة على أنهم متلاعبون بالدين ليست لهم نية صحيحة ولا قصد خالص. قيل: المراد بهؤلاء اليهود فإنهم آمنوا بموسى ثم كفروا بعزير، ثم آمنوا بعزير، ثم كفروا بعيسى، ثم ازدادوا كفراً بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: آمنوا بموسى، ثم كفروا به بعبادتهم العجل، ثم آمنوا به عند عوده إليهم، ثم كفروا بعيسى، ثم ازدادوا كفراً بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم والمراد بالآية أنهم ازدادوا كفراً واستمروا على ذلك كما هو الظاهر من حالهم وإلا فالكافر إذا آمن وأخلص إيمانه وأقلع عن الكفر فقد هداه الله السبيل الموجب للمغفرة، والإسلام يجب ما قبله، ولكن لما كان هذا مستبعداً منهم جداً كان غفران ذنوبهم وهدايتهم إلى سبيل الحق مستبعداً.

بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا

قوله 138- "بشر المنافقين بأن لهم عذاباً أليماً" إطلاق البشارة على ما هو شر خالص لهم تهكم بهم وقد مر تحقيقه.

الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا

وقوله 139- "الذين يتخذون الكافرين أولياء" وصف للمنافقين أو منصوب على الذم: أي يجعلون الكفار أولياء لهم يوالونهم على كفرهم ويمالئونهم على ضلالهم. وقوله: "من دون المؤمنين" في محل نصب على الحال: أي يوالون الكافرين متجاوزين ولاية المؤمنين "أيبتغون عندهم العزة" هذا الاستفهام للتقريع والتوبيخ، والجملة معترضة. قوله "فإن العزة لله جميعاً" هذه الجملة تعليل لما تقدم من توبيخهم بابتغاء العزة عند الكافرين وجميع أنواع العزة وأفرادها مختص بالله سبحانه، وما كان منها مع غيره فهو من فيضه وتفضله كما في قوله "ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين" والعزة: الغلبة، يقال عزه يعزه عزاً: إذا غلبه.

وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِر

140- "وقد نزل عليكم في الكتاب" الخطاب لجميع من أظهر الإيمان من مؤمن ومنافق، لأن من أظهر الإيمان فقد لزمه أن يمتثل ما أنزله الله، وقيل: إنه خطاب للمنافقين فقط كما يفيده التشديد والتوبيخ. وقرأ عاصم ويعقوب "نزل" بفتح النون والزاي وتشديدها، وفاعله ضمير راجع إلى اسم الله تعالى في قوله "فإن العزة لله جميعاً" وقرأ حميد بتخفيف الزاي مفتوحة مع فتح النون، وقرأ الباقون بضم النون مع كسر الزاي مشددة على البناء للمجهول. وقوله "أن إذا سمعتم آيات الله" في محل نصب على القراءة الأولى على أنه مفعول نزل. وفي محل رفع على القراءة الثانية على أنه فاعل، وفي محل رفع على أنه مفعول ما لم يسم فاعله على القراءة الثالثة. وأن هي المخففة من الثقيلة، والتقدير أنه إذا سمعتم آيات الله. والكتاب: هو القرآن. وقوله "يكفر بها ويستهزأ بها" حالان: أي إذا سمعتم الكفر والاتسهزاء بآيات الله فأوقع السماع على الآيات والمراد سماع الكفر والاستهزاء. وقوله "فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره" أي: أنزل عليكم في الكتاب أنكم عند هذا السماع للكفر والاستهزاء بآيات الله لا تقعدوا معهم ما داموا كذلك حتى يخوضوا في حديث غير حديث الكفر والاستهزاء بها. والذي أنزل الله عليهم الكتاب هو قوله تعالى "وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره" وقد كان جماعة من الداخلين في الإسلام يقعدون مع المشركين واليهود حال سخريتهم بالقرآن واستهزائهم به فنهوا عن ذلك. وفي هذه الآية باعتبار عموم لفظها الذي هو المعتبر دون خصوص السبب دليل على اجتناب كل موقف يخوض فيه أهله بما يفيد التنقص والاستهزاء للأدلة الشرعية، كما يقع كثيراً من أسراء التقليد الذين استبدلوا آراء الرجال بالكتاب والسنة ولم يبق في أيديهم سوى قال إمام مذهبنا كذا، وقال فلان من أتباعه بكذا، وإذا سمعوا من يستدل على تلك المسألة بآية قرآنية أو بحديث نبوي سخروا منه ولم يرفعوا إلى ما قاله رأساً ولا بالوا به بالة وظنوا أنه قد جاء بأمر فظيع وخطب شنيع وخالف مذهب إمامهم الذي نزلوه منزلة معلم الشرائع، بل بالغوا في ذلك حتى جعلوا رأيه الفائل، واجتهاده الذي هو عن منهج الحق مائل، مقدماً على الله وعلى كتابه وعلى رسوله، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ما صنعت هذه المذاهب بأهلها والأئمة الذين انتسب هؤلاء المقلدة إليهم برآء من فعلهم، فإنهم قد صرحوا في مؤلفاتهم بالنهي عن تقليدهم كما أوضحنا ذلك في رسالتنا المسماة بـ[القول المفيد في حكم التقليد] وفي مؤلفنا المسمى بـ[أدب الطلب ومنتهى الأرب] اللهم انفعنا بما علمتنا واجعلنا من المقتدين بالكتاب والسنة وباعد بيننا وبين آراء الرجال المبنية على شفا جرف هار، يا مجيب السائلين. قوله "إنكم إذا مثلهم" تعليل للنهي: أي إنكم إن فعلتم ذلك ولم تنتهوا فأنتم مثلهم في الكفر. قيل: وهذه المماثلة ليست في جميع الصفات، ولكنه إلزام شبه بحكم الظاهر كما في قول القائل: وكل قرين بالمقارن يقتدي وهذه الآية محكمة عند جميع أهل العلم إلا ما يروى عن الكلبي فإنه قال: هي منسوخة بقوله تعالى "وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء" وهو مردود فإن من التقوى اجتناب مجالس هؤلاء الذين يكفرون بآيات الله ويستهزئون بها. قوله "إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً" هذا تعليل لكونهم مثلهم في الكفر، قيل: وهم القاعدون والمقعود إليهم عند من جعل الخطاب موجهاً إلى المنافقين.

الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِ

قوله 141- "الذين يتربصون بكم" أي: ينتظرون بكم ما يتجدد ويحدث لكم من خير أو شر، والموصول في محل نصب على أنه صفة للمنافقين أو بدل منهم فقط دون الكافرين لأن التربص المذكور هو من المنافقين دون الكافرين، ويجوز أن يكون في محل نصب على الذم، " فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم " هذه الجملة والجملة التي بعدها حكاية لتربصهم: أي إن حصل لكم فتح من الله بالنصر على من يخالفكم من الكفار "قالوا" لكم "ألم نكن معكم" في الاتصاف بظاهر الإسلام والتزام أحكامه والمظاهرة والتسويد وتكثير العدد "وإن كان للكافرين نصيب" من الغلب لكم والظفر بكم "قالوا" للكافرين "ألم نستحوذ عليكم" أي: ألم نقهركم ونغلبكم ونتمكن منكم ولكن أبقينا عليكم. وقيل المعنى: إنهم قالوا للكفار الذين ظفروا بالمسلمين ألم نستحوذ عليكم حتى هابكم المسلمون وخذلناهم عنكم؟ والأول أولى، فإن معنى الاستحواذ: الغلب، يقال استحوذ على كذا: أي غلب عليه، ومنه قوله تعالى "استحوذ عليهم الشيطان" ولا يصح أن يقال: ألم نغلبكم حتى هابكم المسلمون، ولكن المعنى: ألم نغلبكم يا معشر الكافرين ونتمكن منكم فتركناكم وأبقينا عليكم حتى حصل لكم هذا الظفر بالمسلمين "ونمنعكم من المؤمنين" بتخذيلهم وتثبيطهم عنكم حتى ضعفت قلوبهم عن الدفع لكم وعجزوا عن الانتصاف منكم، والمراد أنهم يميلون مع من له الغلب والظفر من الطائفتين ويظهرون لهم أنهم كانوا معهم على الطائفة المغلوبة، وهذا شأن المنافقين أبعدهم الله، وشأن من حذا حذوهم من أهل الإسلام من التظهر لكل طائفة بأنه معها على الأخرى، والميل إلى من معه الحظ من الدنيا في مال أو جاه فيلقاه بالتملق والتودد والخضوع والذلة، ويلقى من لاحظ له من الدنيا بالشدة والغلظة وسوء الخلق ويزدري به ويكافحه بكل مكروه، فقبح الله أخلاق أهل النفاق وأبعدها. قوله "فالله يحكم بينكم يوم القيامة" بما انطوت عليه ضمائرهم من النفاق والبغض للحق وأهله، ففي هذا اليوم تنكشف الحقئق وتظهر الضمائر وإن حقنوا في الدنيا دماءهم وحفظوا أموالهم بالتكلم بكلمة الإسلام نفاقاً "ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً"، هذا في يوم القيامة إذا كان المراد بالسبيل النصر والغلب، أو في الدنيا إن كان المراد به الحجة. قال ابن عطية: قال جميع أهل التأويل: إن المراد بذلك يوم القيامة. قال ابن العربي: وهذا ضعيف لعدم فائدة الخبر فيه، وسببه توهم من توهم أن آخر الكلام يرجع إلى أوله يعني قوله "فالله يحكم بينكم يوم القيامة" وذلك يسقط فائدته، إذ يكون تكراراً هذا معنى كلامه، وقيل المعنى: إن الله لا يجعل للكافرين سبيلاً على المؤمنين يمحو به دولتهم ويذهب آثارهم ويستبيح بيضتهم كما يفيده الحديث الثابت في الصحيح "وأن لا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً ويسبي بعضهم بعضاً" وقيل: إنه سبحانه لا يجعل للكافرين سبيلا على المؤمنين ما داموا عاملين بالحق غير راضين بالباطل ولا تاركين للنهي عن المنكر كما قال تعالى "وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم" قال ابن العربي: وهذا نفيس جداً، وقيل: إن الله لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلاً شرعاً، فإن وجد فبخلاف الشرع. هذا خلاصة ما قاله أهل العلم في هذه الآية، وهي صالحة للاحتجاج بها على كثير من المسائل. وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في قوله "إن الذين آمنوا ثم كفروا" الآية، قال: هم اليهود والنصارى آمنت اليهود بالتوراة ثم كفرت، وآمنت النصارى بالإنجيل ثم كفرت. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عنه في الآية قال: هؤلاء اليهود آمنوا بالتوراة ثم كفروا، ثم ذكر النصارى فقال "ثم آمنوا ثم كفروا" يقول: آمنا بالإنجيل ثم كفروا، "ثم ازدادوا كفراً" بمحمد صلى الله عليه وسلم. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في الآية قال: هؤلاء المنافقون آمنوا مرتين ثم كفروا مرتين ثم ازدادوا كفراً بعد ذلك. وأخرج ابن أبي حاتم عن عباس في قوله "ثم ازدادوا كفراً" قال: تموا على كفرهم حتى ماتوا. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن أبي وائل قال: إن الرجل ليتكلم في المجلس بالكلمة من الكذب ليضحك بها جلساءه فيسخط الله عليهم جميعاً، فذكروا ذلك لإبراهيم النخعي، فقال: صدق أبو وائل، أو ليس ذلك في كتاب الله؟ " فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره ". وأخرج ابن المنذر عن مجاهد قال: أنزل في سورة الأنعام "حتى يخوضوا في حديث غيره" ثم ينزل التشديد في سورة النساء "إنكم إذاً مثلهم". وأخرج ابن المنذر عن سعيد بن جبير أن الله جامع المنافقين من أهل المدينة والكافرين من أهل مكة الذين خاضوا واستهزأوا بالقرآن في جهنم جميعاً. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن مجاهد "الذين يتربصون بكم" قال: هم المنافقون يتربصون بالمؤمنين "فإن كان لكم فتح من الله" إن أصاب المسلمين من عدوهم غنيمة قال المنافقون "ألم نكن" قد كنا "معكم" فأعطونا من الغنيمة مثل ما تأخذون "وإن كان للكافرين نصيب" يصيبونه من المسلمين قال المنافقون للكفار " ألم نستحوذ عليكم " ألم نبين لكم أنا على أما أنتم عليه، قد كنا نثبطهم عنكم. وأخرج ابن جرير عن السدي "ألم نستحوذ عليكم" قال: نغلب عليكم. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في الشعب والحاكم وصححه عن علي أنه قيل له: أرأيت هذه الآية "ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً" وهم يقاتلوننا فيظهرون ويقتلون، فقال: ادنه ادنه، ثم قال "فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً". وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال: في الآخرة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس نحوه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن أبي مالك نحوه أيضاً. وأخرج ابن جرير عن السدي "سبيلاً" قال: حجة.

إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا

قوله 142- "إن المنافقين يخادعون الله" هذا كلام مبتدأ يتضمن بيان بعض قبائح المنافقين وفضائحهم، وقد تقدم معنى الخدع في البقرة، ومخادعتهم لله هي أنهم يفعلون فعل المخادع من إظهار الإيمان وإبطان الكفر، ومعنى كون الله خادعهم: أنه صنع بهم صنع من يخادع من خادعه، وذلك أنه تركهم على ما هم عليه من التظهر بالإسلام في الدنيا، فعصم به أموالهم ودماءهم، وأخر عقوبتهم إلى الدار الآخرة، فجازهم على خداعهم بالدرك الأسفل من النار. قال في الكشاف: والخادع اسم فاعل من خادعته فخدعته إذا غلبته وكنت أخدع منه. والكسالى بضم الكاف جمع كسلان. وقرئ بفتحها، والمراد أنهم يصلون وهم متكاسلون متثاقلون لا يرجون ثواباً ولا يخافون عقاباً. والرياء إظهار الجميل ليراه الناس، لا لاتباع أمر الله، وقد تقدم بيانه، والمراءاة المفاعلة. قوله "ولا يذكرون الله إلا قليلاً" معطوف على يراؤون: أي لا يذكرونه سبحانه إلا ذكراً قليلاً أو لا يصلون إلا صلاة قليلة، ووصف الذكر بالقلة لعدم الإخلاص، أو لكونه غير مقبول أو لكونه قليلاً في نفسه، لأن الذي يفعل الطاعة لقصد الرياء، إنما يفعلها في المجامع ولا يفعلها خالياً كالمخلص.

مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا

قولبه 143- "مذبذبين بين ذلك" المذبذب المتردد بين أمرين، والذبذبة الاضطراب، يقال: ذبذبه فتذبذب، ومنه قول النابغة: ألم تر أن الله أعطاك سورة ترى كل ملك دونها يتذبذب قال ابن الجني: المذبذب القلق الذي لا يثبت على حال، فهؤلاء المنافقون مترددون بين المؤمنين والمشركين لا مخلصين الإيمان ولا مصرحين بالكفر. قال في الكشاف: وحقيقة المذبذب الذي يذب عن كلا الجانبين: أي يذاد ويدفع فلا يقر في جانب واحد، كما يقال: فلان يرمي به الرجوان، إلا أن الذبذبة فيها تكرير ليس في الذب، كأن المعنى: كلما مال إلى جانب ذب عنه انتهى. وقرأ الجمهور بضم الميم وفتح الذالين. وقرأ ابن عباس بكسر الذال الثانية، وفي حرف أبي متذبذبين وقرأ الحسن بفتح الميم والذالين، وانتصاب "مذبذبين" إما على الحال أو على الذم، والإشارة بقوله بين ذلك إلى الإيمان والكفر. قوله "لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء" أي: لا منسوبين إلى المؤمنين ولا إلى الكافرين، ومحل الجملة النصب على الحال، أو على البدل من مذبذبين أو على التفسير له "ومن يضلل الله" أي: يخذله ويسلبه التوفيق "فلن تجد له سبيلاً" أي: طريقاً يوصله إلى الحق.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا

قوله 144- "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين" أي: لا تجعلوهم خاصة لكم وبطانة توالونهم من دون إخوانكم من المؤمنين كما فعل المنافقون من موالاتهم للكافرين "أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطاناً مبيناً" الاستفهام للتقريع والتوبيخ: أي أتريدون أن تجعلوا الله عليكم حجة بينة يعذبكم بها بسبب ارتكابكم لما نهاكم عنه من موالاة الكافرين.

إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا

145- "إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار" قرأ الكوفيون "الدرك" بسكون الراء، وقرأ غيرهم بتحريكها. قال أبو علي: هما لغتان والجمع أدراك، وقيل: جمع المحرك أدراك مثل جمل وأجمال، وجمع الساكن أدرك مثل فلس وأفلس. قال النحاس: والتحريك أفصح. والدرك: الطبقة. والنار دركات سبع، فالمنافق في الدرك الأسفل منها، وهي الهاوية، لغلظ كفره وكثرة غوائله، وأعلى الدركات جهنم، ثم الحطمة، ثم السعير، ثم سقر، ثم الجحيم، ثم الهاوية. وقد تسمى جميعها باسم الطبقة العليا، أعاذنا الله من عذابها "ولن تجد لهم نصيراً" يخلصهم من ذلك الدرك والخطاب لكل من يصلح له أو للنبي صلى الله عليه وسلم.

إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا

146- "إلا الذين تابوا" استثناء من المنافقين: أي إلا الذين تابوا عن النفاق "وأصلحوا" ما أفسدوا من أحوالهم "وأخلصوا دينهم لله" أي: جعلوه خالصاً له غير مشوب بطاعة غيره. والاعتصام بالله: التمسك به والوثوق بوعده، والإشارة بقوله "أولئك" إلى الذين تابوا واتصفوا بالصفات السابقة. قوله "مع المؤمنين" قال الفراء: أي من المؤمنين يعني الذين لم يصدر منهم نفاق أصلاً. قال القتيبي: حاد عن كلامهم غضباً عليهم فقال "فأولئك مع المؤمنين" ولم يقل هم المؤمنون انتهى. والظاهر أن معنى مع معتبر هنا: أي فأولئك مصاحبون للمؤمنين في أحكام الدنيا والآخرة. ثم بين ما أعد الله للمؤمنين الذين هؤلاء معهم فقال "وسوف يؤت الله المؤمنين أجراً عظيماً" وحذفت الياء من يؤت في الخط كما حذفت في اللفظ لسكونها وسكون اللام بعدها، ومثله "يوم يدع الداع" و"سندع الزبانية" "يوم يناد المناد" ونحوها فإن الحذف في الجميع لالتقاء الساكنين.

مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا

قوله 147- "ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم" هذه الجملة متضمنة لبيان أنه لا غرض له سبحانه في التعذيب إلا مجرد المجازاة للعصاة. والمعنى: أي منفعة له في عذابكم إن شكرتم وآمنتم، فإن ذلك لا يزيد في ملكه كما أن ترك عذابكم لا ينقص من سلطانه "وكان الله شاكراً عليماً" أي: يشكر عباده على طاعته فيثيبهم عليها ويتقبلها منهم. والشكر في اللغة: الظهور، يقال شكور: إذا ظهر من سمنها فوق ما تعطى من العلف. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر عن الحسن في قوله "إن المنافقين يخادعون الله" الآية، قال: يلقي على مؤمن ومنافق نور يمشون به يوم القيامة حتى إذا انتهوا إلى الصراط طفئ نور المنافقين ومضى المؤمنون بنورهم فتلك خديعة الله إياهم. وأخرج ابن جرير عن السدي نحوه. وأخرج ابن المنذر عن مجاهد وسعيد بن جبير نحوه أيضاً، ولا أدري من أين جاء لهم هذا التفسير، فإن مثله لا ينقل إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرج ابن جرير عن ابن جريج في الآية قال: نزلت في عبد الله بن أبي وأبي عامر بن النعمان. وقد ورد في الأحاديث الصحيحة وصف صلاة المنافق، وأنه يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني شيطان قام فنقرها أربعاً لا يذكر فيها إلا قليلاً. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله "مذبذبين بين ذلك" قال: هم المنافقون "لا إلى هؤلاء" يقول: لا إلى أصحاب محمد "ولا إلى هؤلاء" اليهود، وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن مثل المنافق مثل الشاة الغائرة بين الغنمين تغير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة فلا تدري أيهما تتبع؟". وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في قوله "أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطاناً مبيناً" قال: إن الله السلطان على خلقه ولكنه يقول عذراً مبيناً. وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور والفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال: كل سلطان في القرآن فهو حجة والله سبحانه أعلم. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني عن ابن مسعود في قوله "إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار" قال: في توابيت من حديد مقفلة عليهم، وفي لفظ مبهمة عليهم: أي مغلقة لا يهتدى لمكان فتحها. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن أبي هريرة نحوه. وأخرج ابن أبي الدنيا عن ابن مسعود نحوه أيضاً. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة في قوله "ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم" الآية، قال: إن الله لا يعذب شاكراً ولا مؤمناً.

لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا

نفي الحب كناية عن البغض، وقراءة الجمهور 148- "إلا من ظلم" على البناء للمجهول. وقرأ زيد بن أسلم وابن أبي إسحاق والضحاك وابن عباس وابن جبير وعطاء بن السائب "إلا من ظلم" على البناء للمعلوم، وهو على القراءة الأولى استثناء متصل بتقدير مضاف محذوف: أي إلا جهر من ظلم، وقيل: إنه على القراءة الأولى أيضاً منقطع: أي لكن من ظلم فله أن يقول ظلمني فلان. واختلف أهل العلم في كيفية الجهر بالسوء الذي يجوز لمن ظلم، فقيل: هو أن يدعو على من ظلمه، وقيل: لا بأس أن يجهر بالسوء من القول على من ظلمه بأن يقول: فلان ظلمني أو هو ظالم أو نحو ذلك، وقيل معناه: إلا من أكره على أن يجهر بسوء من القول من كفر أو نحوه فهو مباح له، والآية على هذا في الإكراه، وكذا قال قطرب، قال: ويجوز أن يكون على البدل كأنه قال لا يحب الله إلا من ظلم: أي لا يحب الظالم بل يحب المظلوم. والظاهر من الآية أنه يجوز لمن ظلم أن يتكلم بالكلام الذي هو من السوء في جانب من ظلمه، ويؤيده الحديث الثابت في الصحيح بلفظ "لي الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته"، وأما على القراءة الثانية فالاستثناء منقطع: أي: إلا من ظلم في فعل أو قول فاجهروا له بالسوء من القول في معنى النهي عن فعله والتوبيخ له. وقال قوم: معنى الكلام: لا يحب الله أن يجهر أحد بالسوء من القول، لكن من ظلم فإنه يحهر بالسوء ظلماً وعدواناً وهو ظالم في ذلك، وهذا شأن كثير من الظلمة فإنهم مع ظلمهم يستطيلون بألسنتهم على من ظلموه وينالون من عرضه. وقال الزجاج: يجوز أن يكون المعنى إلا من ظلم فقال سوءاً، فإنه ينبغي أن يأخذوا على يديه ويكون استثناء ليس من الأول "وكان الله سميعاً عليماً" هذا تحذير للظالم بأن الله يسمع ما يصدر منه ويعلم به، ثم بعد أن أباح للمظلوم أن يجهر بالسوء ندب إلى ما هو الأولى والأفضل.

إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا

فقال 149- "إن تبدوا خيراً أو تخفوه أو تعفوا عن سوء" تصابون به "فإن الله كان عفواً" عن عباده "قديراً" على الانتقام منهم بما كسبت أيديهم فاقتدوا به سبحانه فإنه يعفو مع القدرة. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله "لا يحب الله الجهر بالسوء من القول" قال: لا يحب الله أن يدعو أحد على أحد إلا أن يكون مظلوماً فإنه رخص له أن يدعو على من ظلمه وإن يصبر فهو خير له. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في الآية قال: نزلت في رجل ضاف رجلاً بفلاة من الأرض فلم يضفه، ثم ذكر أنه لم يضفه لم يزد على ذلك. وأخرج ابن المنذر عن إسماعيل "لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم" قال: كان الضحاك بن مزاحم يقول: هذا على التقديم والتأخير، يقول الله ما فعل بعذابكم إن شكرتم وآمنتم إلا من ظلم، وكان يقرأها كذلك، ثم قال "لا يحب الله الجهر بالسوء من القول" أي: على كل حال هكذا قال، وهو قريب من التحريف لمعنى الآية. وقد أخرج ابن أبي شيبة والترمذي عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من دعا على من ظلمه فقد انتصر". وروى نحوه أبو داود عنها من وجه آخر. وقد أخرج أبو داود من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المتسابان ما قالاه، فعلى البادئ منهما ما لم يعتد المظلوم".

إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا

لما فرغ من ذكر المشركين والمنافقين ذكر الكفار من أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى، لأنهم كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم، فكان ذلك كالكفر بجميع الرسل والكتب المنزلة، والكفر بذلك كفر بالله، وينبغي حمل قوله 150- " إن الذين يكفرون بالله ورسله " على أنه استلزم ذلك كفرهم ببعض الكتب والرسل لا أنهم كفروا بالله ورسله جميعاً، فإن أهل الكتاب لم يكفروا بالله ولا بجميع رسله، لكنهم لما كفروا بالبعض كان ذلك كفر بالله وبجميع الرسل. ومعنى: "ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله" أنهم كفروا بالرسل بسبب كفرهم ببعضهم وآمنوا بالله، فكان ذلك تفريقاً بين الله وبين رسله "ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض" هم اليهود آمنوا بموسى وكفروا بعيسى ومحمد، كذلك النصارى آمنوا بعيسى وكفروا بمحمد "ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً" أي: يتخذوا بين الإيمان والكفر ديناً متوسطاً بينهما، فالإشارة بقوله "ذلك" إلى قوله: نؤمن ونكفر.

أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا

151- "أولئك هم الكافرون" أي: الكاملون في الكفر. وقوله "حقاً" مصدر مؤكد لمضمون الجملة: أي حق ذلك حقاً، أو هو صفة لمصدر الكافرين: أي كفراً حقاً.

وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا

قوله 152- "ولم يفرقوا بين أحد منهم" بأن يقولوا: نؤمن ببعض ونكفر ببعض، ودخول بين على أحد لكونه عاماً في المفرد مذكراً ومؤنثاً ومثناهما وجمعهما. وقد تقدم تحقيقه، والإشارة بقوله "أولئك" إلى الذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم. وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في الآية، قال "أولئك" أعداء الله اليهود والنصارى آمنت اليهود بالتوراة وموسى وكفروا بالإنجيل وعيسى، وآمنت النصارى بالإنجيل وعيسى وكفروا بالقرآن ومحمد، اتخذوا اليهودية والنصرانية وهما بدعتان ليستا من الله وتركوا الإسلام، وهو دين الله الذي بعث به رسله. وأخرج ابن جرير عن السدي وابن جريج نحوه.

يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ

قوله 153- "يسألك أهل الكتاب" هم اليهود سألوه صلى الله عليه وسلم أن يرقى إلى السماء وهم يرونه، فينزل عليهم كتاباً مكتوباً فيما يدعيه يدل على صدقه دفعة واحدة كما أتى موسى بالتوراة تعنتاً منهم، أبعدهم الله، فأخبره الله عز وجل بأنهم قد سألوا موسى سؤالاً أكبر من هذا السؤال، فقالوا "أرنا الله جهرة" أي: عياناً، وقد تقدم معناه في البقرة، وجهرة نعت لمصدر محذوف: أي رؤية جهرة. وقوله "فقد سألوا" جواب شرط مقدر: أي إن استكبرت هذا السؤال منهم لك فقد سألوا موسى أكبر من ذلك. قوله "فأخذتهم الصاعقة" هي النار التي نزلت عليهم من السماء فأهلكتهم، والباء في قوله "بظلمهم" لسببية: أي بسبب ظلمهم في سؤالهم الباطل لامتناع الرؤية عياناً في هذه الحالة، وذلك لا يستلزم امتناعها يوم القيامة، فقد جاءت بذلك لامتناع الرؤية عياناً في هذه الحالة، وذلك لا يستلزم امتناعها يوم القيامة، فقد جاءت بذلك الأحاديث المتواترة. ومن استدل بهذه الآية على امتناع الرؤية يوم القيامة فقد غلط غلطاً بيناً، ثم لم يكتفوا بهذا السؤال الباطل الذي نشأ منهم بسبب ظلمهم بعد ما رأوا المعجزات، بل ضموا إليه ما هو أقبح منه وهو عبادة العجل. وفي الكلام حذف والتقدير: فأحييناهم فاتخذوا العجل. والبينات: البراهين والدلائل، والمعجزات من اليد والعصا وفلق البحر وغيرها "فعفونا عن ذلك" أي: عما كان منهم من التعنت وعبادة العجل "وآتينا موسى سلطاناً مبيناً" أي: حجة بينة وهي الآيات التي جاء بها، وسميت سلطاناً، لأن من جاء بها قهر خصمه، ومن ذلك أمر الله سبحانه له بأن يأمرهم بقتل أنفسهم توبة عن معصيتهم، فإنه من جملة السلطان الذي قهرهم به.

وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا

154- "ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم" أي: بسبب ميثاقهم ليعطوه، لأنه روي أنهم امتنعوا من قبول شريعة موسى فرفع الله عليهم الطور فقبلوها، وقيل: إن المعنى بسبب نقضهم ميثاقهم الذي أخذ منهم، وهو العمل بما في التوراة وقد تقدم رفع الجبل في البقرة، وكذلك تفسير دخولهم الباب سجداً "وقلنا لهم لا تعدوا في السبت" فتأخذوا ما أمرتم بتركه فيه من الحيتان، وقد تقدم تفسير ذلك، وقرئ لا تعتدوا وتعدوا بفتح العين وتشديد الدال "وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً" مؤكداً وهو العهد الذي أخذه عليهم في التوراة، وقيل إنه عهد مؤكداً باليمين، فسمي غليظاً لذلك.

فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا

قوله 155- "فبما نقضهم ميثاقهم" ما مزيدة للتوكيد، أو نكرة، ونقضهم بدل منها، والباء متعلقة بمحذوف، والتقدير: فبنقضهم ميثاقهم لعناهم. وقال الكسائي: هو متعلق بما قبله والمعنى: فأخذتهم الصاعقة بظلمهم إلى قوله "فبما نقضهم ميثاقهم" قال: ففسر ظلمهم الذي أخذتهم الصاعقة بسببه بما بعده من نقضهم ميثاقهم وقتلهم الأنبياء وما بعده. وأنكر ذلك ابن جرير الطبري وغيره، لأن الذين أخذتهم الصاعقة كانوا على عهد موسى، والذين قتلوا الأنبياء ورموا مريم بالبهتان كانوا بعد موسى بزمان، فلم تأخذ الصاعقة الذين أخذتهم برمتهم بالبهتان. قال المهدوي وغيره: وهذا لا يلزم لأنه يجوز أن يخبر عنهم، والمراد آباؤهم، وقال الزجاج: المعنى فبنقضهم ميثاقهم حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم، لأن هذه القصة ممتدة إلى قوله "فبظلم من الذين هادوا حرمنا" ونقضهم الميثاق أنه أخذ عليهم أن يبينوا صفة النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل المعنى: فبنقضهم ميثاقهم وفعلهم كذا طبع الله على قلوبهم، وقيل المعنى: فبنقضهم لا يؤمنون إلا قليلاً، والفاء في قوله "فلا يؤمنون" مقحمة. قوله "وكفرهم بآيات الله" معطوف على ما قبله، وكذا قوله "وقتلهم"، والمراد بآيات الله كتبهم التي حرفوها، والمراد بالأنبياء الذين قتلوهم يحيى وزكرياء. وغلف جمع أغلف وهو المغطى بالغلاف: أي قلوبنا في أغطية فلا تفقه ما تقول. وقيل: إن غلف جمع غلاف، والمعنى: أن قلوبهم أوعية للعلم فلا حاجة لهم إلى علم غير ما قد حوته قلوبهم وهو كقولهم "قلوبنا في أكنة" وغرضهم بهذا رد حجة الرسل. قوله "بل طبع الله عليها بكفرهم" هذه الجملة اعتراضية: أي ليس عدم قبولهم للحق بسبب كونها غلفاً بحسب مقصدهم الذي يريدونه، بل بحسب الطبع من الله عليها. والطبع: الختم، وقد تقدم إيضاح معناه في البقرة، وقوله "فلا يؤمنون إلا قليلاً" أي: هي مطبوع عليها من الله بسبب كفرهم فلا يؤمنون إلا إيماناً قليلاً، أو إلا قليلاً منهم كعبد الله بن سلام ومن أسلم معه منهم.

وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا

وقوله 156- "وبكفرهم" معطوف على قولهم، وإعادة الجار لوقوع الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه، وهذا التكرير لإفادة أنهم كفروا كفراً بعد كفر، وقيل: إن المراد بهذا الكفر كفرهم بالمسيح، فحذف لدلالة ما بعد عليه. قوله "وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً" هو رميها بيوسف النجار، وكان من الصالحين. والبهتان: الكذب المفرط الذي يتعجب منه.

وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَل

قوله 157- "وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله" معطوف على ما قبله، وهو من جملة جناياتهم وذنوبهم لأنهم كذبوا بأنهم قتلوه وافتخروا بقتله وذكروه بالرسالة استهزاءً، لأنهم ينكرونها ولا يعترفون بأنه نبي، وما ادعوه من أنهم قتلوه قد اشتمل على بيان صفته وإيضاح حقيقته الإنجيل، وما فيه هو من تحريف النصارى: أبعدهم الله، فقد كذبوا وصدق الله القائل في كتابه العزيز "وما قتلوه وما صلبوه" والجملة حالية: أي قالوا ذلك والحال أنهم ما قتلوه وما صلبوه "ولكن شبه لهم" أي: ألقي شبهه على غيره، وقيل: لم يكونوا يعرفون شخصه وقتلوا الذي قتلوه وهم شاكون فيه "وإن الذين اختلفوا فيه" أي: في شأن عيسى، فقال بعضهم قتلناه، وقال من عاين رفعه إلى السماء ما قتلناه، وقيل: إن الاختلاف بينهم، هو أن النسطورية من النصارى قالوا: صلب عيسى من جهة ناسوته لا من جهة لاهوته، وقالت الملكانية: وقع القتل والصلب على المسيح بكماله ناسوته ولاهوته، ولهم من جنس هذا الاختلاف كلام طويل لا أصل له، ولهذا قال الله "وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه" أي: في تردد لا يخرج إلى حيز الصحة، ولا إلى حيز البطلان في اعتقادهم، بل هم مترددون مرتابون في شكهم يعمهون، وفي جهلهم يتحيرون، و"ما لهم به من علم إلا اتباع الظن" من زائدة لتوكيد نفي العلم، والاستثناء منقطع: أي لكنهم يتبعون الظن، وقيل: هو بدل بما قبله. والأول أولى. لا يقال إن اتباع الظن ينافي الشك الذي أخبر الله عنهم بأنهم فيه، لأن المراد هنا بالشك التردد كما قدمنا، والظن نوع منه، وليس المراد به هنا ترجح أحد الجانبين. قوله "وما قتلوه يقيناً" أي: قتلاً يقيناً على أنه صفة مصدر محذوف، أو متيقنين على أنه حال، وهذا على أن الضمير في قتلوه لعيسى، وقيل: إنه يعود إلى الظن، والمعنى: ما قتلوا ظنهم يقيناً كقولك قتلته علماً إذا علمته علماً تاماً. قال أبو عبيدة: ولو كان المعنى وما قتلوه عيسى يقيناً لقال وما قتلوه فقط، وقيل المعنى: وما قتلوه الذي شبه لهم، وقيل المعنى: بل رفعه الله إليه يقيناً، وهو خطأ، لأنه لا يعمل ما بعد بل فيما قبلها. وأجاز ابن الأنباري نصب يقيناً بفعل مضمر هو جواب قسم، ويكون "بل رفعه الله إليه" كلاماً مستأنفاً ولا وجه لهذه الأقوال، والضمائر قبل قتلوه وبعده لعيسى، وذكر اليقين هنا لقصد التهكم بهم لإشعاره بعلمهم في الجملة.

بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا

قوله 158- "بل رفعه الله إليه" رد عليهم وإثبات لما هو الصحيح، وقد تقدم ذكر رفعه عليه السلام في آل عمران.

وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا

قوله 159- "وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته" المراد بأهل الكتاب اليهود والنصارى، والمعنى: وما من أهل الكتاب أحد إلا والله ليؤمنن به قبل موته، والضمير في به راجع إلى عيسى، والضمير في موته راجع إلى ما دل عليه الكلام، وهو لفظ أحد المقدر أو الكتابي المدلول عليه بأهل الكتاب، وفيه دليل على أنه لا يموت يهودي أو نصراني إلا وقد آمن بالمسيح، وقيل: كلا الضميرين لعيسى، والمعنى: أنه لا يموت عيسى حتى يؤمن به كل كتابي في عصره، وقيل: الضمير الأول لله، وقيل: إلى محمد، وقد اختار كون الضميرين لعيسى ابن جرير، وقال به جماعة من السلف وهو الظاهر، والمراد الإيمان به عند نزوله في آخر الزمان كما وردت بذلك الأحاديث المتواترة "ويوم القيامة يكون" عيسى على أهل الكتاب "شهيداً" يشهد على اليهود بالتكذيب له، وعلى النصارى بالغلو فيه حتى قالوا هو ابن الله. وقد أخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي قال: جاء ناس من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن موسى جاء بالألواح من عند الله فأتنا بالألواح من عند الله حتى نصدقك، فأنزل الله "يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتاباً من السماء" إلى "وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً". وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريج في الآية قال: إن اليهود والنصارى قالوا لمحمد صلى الله عليه وسلم: لن نبايعك على ما تدعونا إليه حتى تأتينا بكتاب من عند الله إلى فلان أنك رسول الله وإلى فلان أنك رسول الله، فأنزل الله "يسألك أهل الكتاب" الآية. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله "أرنا الله جهرة" قال: إنهم إذا رأوه فقد رأوه، وإنما قالوا جهرة أرنا الله قال: هو مقدم ومؤخر. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة في قوله "ورفعنا فوقهم الطور" قال: جبل كانوا في أصله فرفعه الله فجعله فوقهم كأنه ظلة، فقال: لتأخذن أمري أو لأرمينكم به، فقالوا: نأخذه فأمسكه الله عنهم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله "وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً" قال: رموها بالزنا. وأخرج سعيد بن منصور والنسائي وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال: لما أراد الله أن يرفع عيسى إلى السماء خرج إلى أصحابه وفي البيت اثنا عشر رجلاً من الحواريين، فخرج عليهم من عين في البيت ورأسه يقطر ماء فقال: إن منكم من يكفر بي اثنتي عشرة مرة بعد أن آمن بي، ثم قال: أيكم يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني ويكون معي في درجتي؟ فقام شاب من أحدثهم سناً فقال له: اجلس، ثم أعاد عليهم، فقال الشاب فقال: اجلس، ثم أعاد عليهم، فقام الشاب فقال: أنا، فقال: أنت ذاك فألقي عليه شبه عيسى، ورفع عيسى في روزنة في البيت إلى السماء، قال: وجاء الطلب من اليهود فأخذوا الشبه فقتلوه ثم صلبوه، فكفر به بعضهم اثنتي عشرة مرة بعد أن آمن به وافترقوا ثلاث فرق، فقالت طائفة: كان الله فينا ما شاء ثم صعد إلى السماء، فهؤلاء اليعوقبية، وقالت فرقة: كان فينا ابن الله ما شاء ثم رفعه الله إليه، وهؤلاء النسطورية. وقالت فرقة: كان فينا عبد الله ورسوله وهؤلاء المسلمون فتظاهرت الكافرتان على المسلمة فقتلوها، فلم يزل الإسلام طامساً حتى بعث الله محمداً، فأنزل الله عليه "فآمنت طائفة من بني إسرائيل" يعني: الطائفة التي آمنت في زمن عيسى "وكفرت طائفة" يعني: التي كفرت في زمن عيسى "فأيدنا الذين آمنوا" في زمن عيسى بإظهار محمد دينهم على دين الكافرين. قال ابن كثير بعد أن ساقه بهذا اللفظ عن ابن أبي حاتم قال: حدثنا أحمد بن سنان، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فذكره. وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس وصدق ابن كثير، فهؤلاء كلهم من رجال الصحيح. وأخرجه النسائي من حديث أبي كريب عن أبي معاوية بنحوه. وقد رويت قصته عليه السلام من طرق بألفاظ مختلفة، وساقها عبد بن حميد وابن جرير عن وهب بن منبه على صفة قريبة مما في الإنجيل، وكذلك ساقها ابن المنذر عنه. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله "وما قتلوه يقيناً" قال: لم يقتلوا ظنهم يقيناً. وأخرج ابن المنذر عن مجاهد مثله. وأخرج ابن جرير عن ابن جويبر والسدي مثله أيضاً. وأخرج الفريابي وعبد بن حميد والحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته " قال: خروج عيسى ابن مريم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طرق عنه في الآية قال: قبل موت عيسى. وأخرجا عنه أيضاً قال: قبل موت اليهودي. وأخرج ابن جرير عنه قال: إنه سيدرك أناس من أهل الكتاب عيسى حين يبعث سيؤمنون به. وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر عنه قال: "ليس يهودي يموت أبداً حتى يؤمن بعيسى، قيل لابن عباس أرأيت إن خر من فوق بيت؟ قال: يتكلم به في الهواء، فقيل: أرأيت إن ضرب عنق أحدهم؟ قال: يتلجلج به لسانه". وقد روي نحو هذا عنه من طرق، وقال به جماعة من التابعين، وذهب كثير من التابعين فمن بعدهم إلى أن المراد قبل موت عيسى كما روي عن ابن عباس قبل هذا، وقيده كثير منهم بأنه يؤمن به من أدركه عند نزوله إلى الأرض. وقد تواترت الأحاديث بنزول عيسى حسبما أوضحنا ذلك في مؤلف مستقل يتضمن ذكر ما ورد في المنتظر والدجال والمسيح.

فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا

الباء في قوله 160- "فبظلم" للسببية، والتنكير والتنوين للتعظيم: أي فبسبب ظلم عظيم حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم، لا بسبب شيء آخر كما زعموا أنها كانت محرمة على من قبلهم. وقال الزجاج: هذا بدل من قوله "فبما نقضهم". والطيبات المذكورة هي ما نصه الله سبحانه "وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر" الآية. "وبصدهم" أنفسهم وغيرهم "عن سبيل الله" وهو اتباع محمد صلى الله عليه وسلم وتحريفهم وقتلهم الأنبياء وما صد منهم من الذنوب المعروفة. وقوله "كثيراً" مفعول للفعل المذكور: أي بصدهم ناساً كثيراً، أو صفة مصدر محذوف: أي صداً كثيراً.

وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا

161- "وأخذهم الربا وقد نهوا عنه" أي: معاملتهم فيما بينهم بالربا وأكلهم له وهو محرم عليهم "وأكلهم أموال الناس بالباطل" كالرشوة والسحت الذي كانوا يأخذونه.

لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَج

قوله 162- "لكن الراسخون في العلم منهم" استدراك من قوله "وأعتدنا للكافرين منهم عذاباً أليماً" أو "من الذين هادوا" وذلك أن اليهود أنكروا وقالوا: إن هذه الأشياء كانت حراماً في الأصل وأنت تحلها، فنزل "لكن الراسخون" والراسخ: هو المبالغ في علم الكتاب الثابت فيه، والرسوخ: الثبوت. وقد تقدم الكلام عليه في آل عمران. والمراد عبد الله بن سلام وكعب الأحبار ونحوهما. والراسخون مبتدأ، ويؤمنون خبره، والمؤمنون معطوف على الراسخون. والمراد بالمؤمنين إما من آمن من أهل الكتاب أو من المهاجرين والأنصار أو من الجميع. قوله "والمقيمين الصلاة" قرأ الحسن ومالك بن دينار وجماعة " والمقيمين الصلاة " على العطف على ما قبله، وكذا هو في مصحف ابن مسعود، واختلف في وجه نصبه على قراءة الجمهور على أقوال: الأول قول سيبويه أنه نصب على المدح: أي أعني المقيمين. قال سيبويه: هذا باب ما ينتصب على التعظيم، ومن ذلك "والمقيمين الصلاة" وأنشد: وكل قوم أطاعوا أمر سيدهم إلا نميراً أطاعت أمر غاويها الطـاعنين ولمـا يطعنـوا أحـدا والقائلـون لمـن دار نخيـلهــا وأنشد: لا يبعدن قومي الذين هم سم العداة وآفة الجزر النـازلـين بكــل مـعــترك والطيبـون معاقد الأزر قال النحاس: وهذا أصح ما قيل في المقيمين. وقال الكسائي والخليل: هو معطوف على قوله "بما أنزل إليك" قال الأخفش: وهذا بعيد لأن المعنى يكون هكذا: ويؤمنون بالمقيمين. ووجهه محمد بن يزيد المبرد بأن المقيمين هنا هم الملائكة، فيكون المعنى: يؤمنون بما أنزل إليك وبما أنزل من قبلك وبالملائكة واختار هذا. وحكي أن النصب على المدح بعيد، لأن المدح إنما يأتي بعد تمام الخبر، وخبر الراسخون هو قوله "أولئك سنؤتيهم أجراً عظيماً" وقيل: إن المقيمين معطوف على الضمير في قوله "منهم" وفيه أنه عطف على مضمر بدون إعادة الخافض وحكي عن عائشة أنها سئلت عن المقيمين في هذه الآية وعن قوله تعالى "إن هذان لساحران" وعن قوله "والصابئون" في المائدة؟ فقالت:يا ابن أخي الكتاب أخطأوا. أخرجه عنها أبو عبيد في فضائله وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر. وقال أبان بن عثمان كان الكاتب يملي علي فيكتب فكتب "لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون" ثم قال: ما أكتب؟ فقيل له: أكتب "والمقيمين الصلاة" فمن ثم وقع هذا. أخرجه عنه عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر. قال القشيري: وهذا باطل لأن الذين جمعوا الكتاب كانوا قدوة في اللغة فلا يظن بهم ذلك. ويجاب عن القشيري بأنه قد روي عن عثمان بن عفان أنه لما فرغ من المصحف وأتي به إليه قال: أرى فيه شيئاً من لحن ستقيمه العرب بألسنتها. أخرجه عنه ابن أبي داود من طرق. وقد رجح قول سيبويه كثير من أئمة النحو والتفسير، ورجح قول الخليل والكسائي ابن جرير الطبري والقفال، وعلى قول سيبويه تكون الجملة معترضة بين المبتدأ والخر على قول من قال: إن خبر الراسخون هو قوله "أولئك سنؤتيهم" أو بين المعطوف والمعطوف عليه إن جعلنا خبر الراسخون هو يؤمنون، وجعلنا قوله "والمؤتون الزكاة" عطفاً على المؤمنون لا على قول سيبويه أن المؤتون الزكاة مرفوع على الابتداء أو على تقدير مبتدأ محذوف: أي هم المؤتون الزكاة. قوله "والمؤمنون بالله واليوم الآخر" هم مؤمنو أهل الكتاب وصفوا أولاً بالرسوخ في العلم ثم بالإيمان بكتب الله وأنهم يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويؤمنون بالله واليوم الآخر، وقيل: المراد بهم المؤمنون من المهاجرين والأنصار كما سلف وأنهم جامعون بين هذه الأوصاف، والإشارة بقوله "أولئك سنؤتيهم أجراً عظيماً" إلى الراسخون وما عطف عليه.

إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُ

قوله 163- "إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده" هذا متصل بقوله "يسألك أهل الكتاب" والمعنى: أن أمر محمد صلى الله عليه وسلم كأمر من تقدمه من الأنبياء فما بالكم تطلبون منه ما لم يطلبه أحد من المعاصرين للرسل، والوحي إعلام في خفاء، يقال: وحي إليه بالكلام وحياً، وأوحى يوحي إيحاء، وخص نوحاً لكونه أول نبي شرعت على لسانه الشرائع، وقيل غير ذلك. والكاف في قوله "كما" نعت مصدر محذوف: أي: إيحاء مثل إيحائنا إلى نوح، أو حال: أي أوحينا إليك هذا الإيحاء حال كونه مشبهاً بإيحائنا إلى نوح. قوله "وأوحينا إلى إبراهيم" معطوف على "أوحينا إلى نوح" " وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط " وهم أولاد يعقوب كما تقدم "وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان" خص هؤلاء بالذكر بعد دخولهم في لفظ النبيين تشريفاً لهم كقوله "وملائكته ورسله وجبريل"، وقدم عيسى على أيوب ومن بعده مع كونهم في زمان قبل زمانه، رداً على اليهود الذي كفروا به، وأيضاً فالواو ليس إلا لمطلق الجمع. قوله "وآتينا داود زبوراً" معطوف على أوحينا. والزبور: كتاب داود. قال القرطبي: وهو مائة وخمسون سورة ليس فيها حكم ولا حلال ولا حرام، وإنما هي حكم ومواعظ انتهى. قلت: هو مائة وخمسون مزموراً. والمزمور: فصل يشتمل على كلام لداود يستغيث بالله من خصومه ويدعو الله عليهم ويستنصره، وتارة يأتي بمواعظ، وكان يقول ذلك في الغالب في الكنيسة، ويستعمل مع تكلمه بذلك شيئاً من الآلات التي لها نغمات حسنة، كما هو مصرح بذلك في كثير من تلك المزمورات. والزبير: الكتابة. والزبور بمعنى المزبور: أي المكتوب. كالرسول والحلوب والركوب. وقرأ حمزة "زبوراً" بضم الزاي، جمع زبر كفلس وفلوس. والزبر بمعنى المزبور، والأصل في الكلمة التوثيق يقال: بئر مزبورة: أي مطوية بالحجارة، والكتاب سمي زبوراً لقوة الوثيقة به.

وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا

قوله 164- "ورسلاً" منصوب بفعل مضمر يدل عليه "أوحينا" أي: وأرسلنا رسلاً "قد قصصناهم عليك من قبل" وقيل: هو منصوب بفعل دل عليه "قصصناهم" أي: وقصصنا رسلاً، ومثله ما أنشده سيبويه: أصبحت لا أحمل السلاح ولا أمـلك رأس البـعـــير إن نفـرا والذئب أخشاه إن مررت به وحدي وأخشى الرياح والمطرا أي: وأخشى الذئب. وقرأ أبي "رسل" بالرفع على تقدير، ومنهم رسل. ومعنى: "من قبل" أنه قصهم عليه من قبل هذه السورة، أو من قبل هذا اليوم. قيل: إنه لما قص الله في كتابه بعض أسماء أنبيائه ولم يذكر أسماء بعض قالت اليهود: ذكر محمد الأنبياء ولم يذكر موسى، فنزل "وكلم الله موسى تكليماً" وقراءة الجمهور برفع الاسم الشريف على أن الله هو الذي كلم موسى. وقرأ النخعي ويحيى بن وثاب بنصب الاسم الشريف على أن موسى هو الذي كلم الله سبحانه و"تكليما" مصدر مؤكد. وفائدة التأكيد دفع توهم كون التكليم مجازاً، كما قال الفراء إن العرب تسمي ما وصل إلى الإنسان كلاماً بأي طريق، وقيل: ما لم يؤكد بالمصدر، فإذا أكد لم يكن إلا حقيقة الكلام. قال النحاس: وأجمع النحويون على أنك إذا أكدت الفعل بالمصدر لم يكن مجازاً.

رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا

قوله 165- "رسلاً مبشرين ومنذرين" بدل من رسلاً الأول، أو منصوب بفعل مقدر: أي وأرسلنا، أو على الحال بأن يكون رسلاً موطئاً لما بعده، أو على المدح: أي مبشرين لأهل الطاعات ومنذرين لأهل المعاصي. قوله "لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل" أي: معذرة يعتذرون بها كما في قوله تعالى "ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا: ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً فنتبع آياتك" وسميت المعذرة حجة مع أنه لم يكن لأحد من العباد على الله حجة تنبيهاً على أن هذه المعذرة مقبولة لديه تفضلاً منه ورحمة. ومعنى قوله "بعد الرسل" بعد إرسال الرسل "وكان الله عزيزاً" لا يغالبه مغالب "حكيماً" في أفعاله التي من جملتها إرسال الرسل. وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد "وبصدهم عن سبيل الله كثيراً" قال: أنفسهم وغيرهم عن الحق. وأخرج ابن إسحاق في الدلائل عن ابن عباس في قوله "لكن الراسخون في العلم منهم" قال: نزلت في عبد الله بن سلام وأسيد بن شعبة وثعلبة بن شعبة حين فارقوا اليهود وأسلموا. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في الدلائل عنه أن بعض اليهود قال: يا محمد ما نعلم الله أنزل على بشر من شيء بعد موسى، فأنزل الله "إنا أوحينا إليك" الآية. وأخرج عبد بن حميد والحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن حبان في صحيحه والحاكم وابن عساكر عن أبي ذر قال: "قلت يا رسول الله كم الأنبياء؟ قال: مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً. قلت: كم الرسل منهم؟ قال: ثلثمائة وثلاثة عشر جم غفير. وأخرج نحوه ابن أبي حاتم عن أبي أمامة مرفوعاً إلا أنه قال: والرسل ثلثمائة وخمسة عشر". وأخرج أبو يعلى والحاكم بسند ضعيف عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كان فيمن خلا من إخواني من الأنبياء ثمانية آلاف نبي، ثم كان عيسى، ثم كنت أنا بعده". وأخرج الحاكم عن أنس بسند ضعيف نحوه. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا أحد أغير من الله، من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد أحب إليه المدح من الله، من أجل ذلك مدح نفسه، ولا أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين".

لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا

قوله 166- "لكن الله يشهد" الاسم الشريف مبتدأ والفعل خبره، ومع تشديد النون هو منصوب على أنه اسم لكن والاستدراك من محذوف مقدر كأنهم قالوا: ما نشهد لك يا محمد بهذا: أي الوحي والنبوة، فنزل "لكن الله يشهد". وقوله "والملائكة يشهدون" جملة معطوفة على الجملة الأولى أو جملة حالية، وكذلك قوله "أنزله بعلمه" جملة حالية: أي متلبساً بعلمه الذي لا يعلمه غيره من كونك أهلاً لما اصطفاك الله له من النبوة وأنزله عليك من القرآن "وكفى بالله شهيداً" أي: كفى الله شاهداً والباء زائدة، وشهادة الله سبحانه هي ما يصنعه من المعجزات الدالة على صحة النبوة، فإن وجود هذه المعجزات شهادة للنبي صلى الله عليه وسلم بصدق ما أخبر به من هذا وغيره.

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا

167- "إن الذين كفروا" بكل ما يجب الإيمان به، أو بهذا الأمر الخاص، وهو ما في هذا المقام "وصدوا عن سبيل الله" وهو دين الإسلام بإنكارهم نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بقولهم: ما نجد صفته في كتابنا وإنما النبوة في ولد هرون وداود، وبقولهم: إن شرع موسى لا ينسخ "قد ضلوا ضلالاً بعيداً" عن الحق بما فعلوا، لأنهم مع كفرهم منعوا غيرهم عن الحق.

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا

168- "إن الذين كفروا" بجحدهم "وظلموا" غيرهم بصدهم عن السبيل أو ظلموا محمداً بكتمانهم نبوته أو ظلموا أنفسهم بكفرهم، ويجوز الحمل على جميع هذه المعاني "لم يكن الله ليغفر لهم" إذا استمروا على كفرهم وماتوا كافرين " ولا ليهديهم طريقا * إلا طريق جهنم " لكونهم اقترفوا ما يوجب لهم ذلك بسوء اختيارهم وفرط شقائهم وجحدوا الواضح وعاندوا البين.

إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا

169- "خالدين فيها أبداً" أي: يدخلهم جهنم خالدين فيها، وهي حال مقدرة. وقوله "أبداً" منصوب على الظرفية، وهو لدفع احتمال أن الخلود هنا يراد به المكث الطويل "وكان ذلك" أي: تخليدهم في جهنم أو تكر المغفرة لهم والهداية مع الخلود في جهنم "على الله يسيراً" لأنه سبحانه لا يصعب عليه شيء "إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون".

يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآَمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا

170- "فآمنوا خيراً لكم" اختلف أئمة النحو في انتصاب خيراً على ماذا؟ فقال سيبويه والخليل بفعل مقدر: أي واقصدوا أو أتوا خيراً لكم، وقال الفراء: هو نعت لمصدر محذوف: أي فآمنوا إيماناً خيراً لكم، وذهب أبو عبيدة والكسائي إلى أنه خبر لكان مقدرة: أي فآمنوا يكن الإيمان خيراً لكم، وأقوى هذه الأقوال الثالث، ثم الأول، ثم الثاني على ضعف فيه "وإن تكفروا" أي: وإن تستمروا على كفركم "فإن لله ما في السموات والأرض" من مخلوقاته، وأنتم من جملتهم، ومن كان خالياً لكم ولها فهو قادر على مجازاتكم بقبيح أفعالكم، ففي هذه الجملة وعيد لهم مع إيضاح وجه البرهان وإماطة الستر عن الدليل بما يوجب عليهم القبول والإذعان. لأنهم يعترفون بأن الله خالقهم "ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله".

يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا

قوله 171- " يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم " الغلو: هو التجاوز في الحد ومنه غلا السعر يغلو غلاءً، وغلا الرجل في الأمر غلواً، وغلا بالجارية لحمها وعظمها إذا أسرعت الشباب فجاوزت لداتها. والمراد بالآية النهي لهم عن الإفراط تارة والتفريط أخرى، فمن الإفراط غلو النصارى في عيسى حتى جعلوه رباً، ومن التفريط غلو اليهود فيه عليه السلام حتى جعلوه لغير رشدة، وما أحسن قول الشاعر: ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد كلا طرفي قصد الأمور ذميم "ولا تقولوا على الله إلا الحق" وهو ما وصف به نفسه ووصفته به رسله، ولا تقولوا الباطل كقول اليهود عزير ابن الله، وقول النصارى: المسيح ابن الله "إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله" المسيح مبتدأ وعيسى بدل منه، وابن مريم صفة لعيسى، ورسول الله الخبر، ويجوز أن يكون عيسى ابن مريم عطف بيان والجملة تعليل للنهي، وقد تقدم الكلام على المسيح في آل عمران. قوله "وكلمته" عطف على رسول الله، و"ألقاها إلى مريم" حال، أي كونه بقوله كن فكان بشراً من غير أب، وقيل "كلمته" بشارة الله مريم ورسالته إليها على لسان جبرين بقوله "إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه" وقيل: الكلمة ها هنا بمعنى الآية، ومنه "وصدقت بكلمات ربها"، وقوله "ما نفدت كلمات الله". قوله "وروح منه" أي: يرسل جبريل فنفخ في درع مريم فحملت بإذن الله، وهذه الإضافة للتفضيل، وإن كان جميع الأرواح من خلقه تعالى، وقيل: قد يسمى من تظهر منه الأشياء العجيبة روحاً ويضاف إلى الله فيقال هذا روح من الله: أي من خلقه، كما يقال في النعمة إنها من الله وقيل "روح منه" أي: من خلقه كما قال تعالى "وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه" أي: من خلقه وقيل "روح منه" أي: رحمة منه، وقيل "روح منه" أي: برهان منه، وكان عيسى برهاناً وحجة على قومه. وقوله "منه" متعلق بمحذوف وقع صفة لروح، أي: كائنة منه وجعلت الروح منه سبحانه وإن كانت بنفخ جبريل لكونه تعالى الآمر لجبريل بالنفخ "فآمنوا بالله ورسله" أي: بأنه سبحانه إله واحد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، وبأن رسله صادقون مبلغون عن الله ما أمرهم بتبليغه، ولا تكذبوهم ولا تغلوا فيهم، فتجعلوا بعضهم آلهة. قوله "ولا تقولوا ثلاثة" ارتفاع ثلاثة على أنه خبر مبتدأ محذوف قال الزجاج: أي لا تقولوا آلهتنا ثلاثة، وقال الفراء وأبو عبيد: أي لا تقولوا هم ثلاثة كقوله "سيقولون ثلاثة" وقال أبو علي الفارسي: لا تقولوا هو ثالث ثلاثة، فحذف المبتدأ والمضاف، والنصارى مع تفرق مذاهبهم متفقون على التثليث، ويعنون بالثلاثة، الثلاثة الأقانيم فيجعلونه سبحانه جوهراً واحداً وله ثلاثة أقانيم، ويعنون بالأقانيم أقنوم الوجود، وأقنوم الحياة، وأقنوم العلم، وربما يعبرون عن الأقانيم بالآب والابن وروح القدس، فيعنون بالأب الوجود وبالروح الحياة وبالابن المسيح. وقيل: المراد بالآلهة الثلاثة: الله سبحانه وتعالى، ومريم، والمسيح. وقد اختبط النصارى في هذا اختباطاً طويلاً. ووقفنا في الأناجيل الأربعة التي يطلق عليها عندهم اسم الإنجيل على اختلاف كثير في عيسى: فتارة يوصف بأنه ابن الإنسان، وتارة يوصف بأنه ابن الله، وتارة يوصف بأنه ابن الرب، وهذا تناقض ظاهر وتلاعب بالدين. والحق ما أخبرنا الله به في القرآن، وما خالفه في التوراة والإنجيل أو الزبور فهو من تحريف المحرفين وتلاعب المتلاعبين. ومن أعجب ما رأيناه أن الأناجيل الأربعة كل واحد منها منسوب إلى واحد من أصحاب عيسى عليه السلام. وحاصل ما فيها جميعاً أن كل واحد من هؤلاء الأربعة ذكر سيرة عيسى من عند أن بعثه الله إلى أن رفعه إليه، وذكر ما جرى له من المعجزات والمراجعات لليهود ونحوهم، فاختلفت ألفاظهم، واتفقت معانيها، وقد يزيد بعضهم على بعض بحسب ما يقتضيه الحفظ والضبط، وذكر ما قاله عيسى وما قيل له، وليس فيها من كلام الله سبحانه شيء، ولا أنزل على عيسى من عنده كتاباً، بل كان عيسى عليه السلام يحتج عليهم بما في التوراة ويذكر أنه لم يأت بما يخالفها، وهكذا الزبور فإنه من أوله إلى آخره من كلام داود عليه السلام. وكلام الله أصدق، وكتابه أحق، وقد أخبرنا أن الانجيل كتابه ينزله على عبده ورسوله عيسى ابن مريم، وأن الزبور كتابه آتاه داود وأنزله عليه. قوله "انتهوا خيراً لكم" أي: انتهوا عن التثليث، وانتصاب خيراً هنا فيه الوجوه الثلاثة التي تقدمت في قوله "فآمنوا خيراً لكم". "إنما الله إله واحد" لا شريك له ولا صاحبة ولا ولد "سبحانه أن يكون له ولد" أي: أسبحه تسبيحاً عن أن يكون له ولد "له ما في السموات وما في الأرض" وما جعلتمون له شريكاً أو ولداً هو من جملة ذلك، والمملوك المخلوق لا يكون شريكاً ولا ولداً "وكفى بالله وكيلاً" بكل الخلق أمورهم إليه ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً. وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: "دخل جماعة من اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم: إني والله أعلم أنكم تعلمون أني رسول الله، قالوا: ما نعلم ذلك. فأنزل الله "لكن الله يشهد" الآية". وأخرج عبد بن حميد والحاكم وصححه والبيهقي في الدلائل عن أبي موسى أن النجاشي قال لجعفر: ما يقول صاحبك في ابن مريم؟ قال: يقول فيه قول الله هو روح الله وكلمته، أخرجه من البتول العذراء لم يقربها بشر، فتناول عوداً من الأرض فرفعه فقال: يا معشر القسيسين والرهبان ما يزيد هؤلاء على ما تقولون في ابن مريم ما يزن هذه. وأخرجه البيهقي في الدلائل عن ابن مسعود بأطول من هذا. وأخرج البخاري عن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله".

لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا

أصل يستنكف نكف وباقي الحروف زائدة، يقال: نكفت من الشيء واستنكفت منه وأنكفته: أي نزهته عما يستنكف منه. قال الزجاج: استنكف أي: أنف، مأخوذ من نكفت الدمع: إذا نحيته بأصبعك عن خديك، وقيل: هو من النكف وهو العيب، يقال: ما عليه في هذا الأمر نكف ولا كف: أي عيب. ومعنى الأول: لن يأنف عن العبودية ولن يتنزه عنها. ومعنى الثاني: لن يعيب العبودية ولن ينقطع عنها "ولا الملائكة المقربون" عطف على المسيح: أي ولن يستنكف الملائكة المقربون عن أن يكونوا عباداً لله. وقد استدل بهذا القائلون بتفضيل الملائكة على الأنبياء، وقرر صاحب الكشاف وجه الدلالة بما لا يسمن ولا يغني من جوع وادعى أن الذوق قاض بذلك، ونعم الذوق العربي إذا خالطه محبة المذهب وشابه شوائب الجمود كان هكذا، وكل من يفهم لغة العرب يعلم أن من قال لا يأنف من هذه المقالة إمام ولا مأموم أو لا كبير ولا صغير أولا جليل ولا حقير، ثم يدل هذا على أن المعطوف أعظم شأناً من المعطوف عليه، وعلى كل حال فما أردأ الاشتغال بهذه المسألة وما أقل فائدتها وما أبعدها عن أن تكون مركزاً من المراكز الشرعية الدينية وجسراً من الجسور "ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر" أي: يأنف تكبراً ويعد نفسه عن العبادة "فسيحشرهم إليه جميعاً" المستنكف وغيره، فيجازي كلاً بعمله. وترك ذكر غير المستنكف هنا لدلالة أول الكلام عليه، ولكون الحشر لكلا الطائفتين.

فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرً

173- "فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم" من غير أن يفوتهم منها شيء "وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذاباً أليماً" بسبب استنكافهم واستكبارهم "ولا يجدون لهم من دون الله ولياً" يواليهم "ولا نصيراً" ينصرهم.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا

قوله 174- "يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم" بما أنزله عليكم من كتبه وبمن أرسله إليكم من رسله، وما نصبه لهم من المعجزات. والبرهان: ما يبرهن به على المطلوب "وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً" وهو القرآن، وسماه نوراً لأنه يهتدى به من ظلمة الضلال.

فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا

175- "فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به" أي: بالله، وقيل: بالنور المذكور "فسيدخلهم في رحمة منه" يرحمهم بها "وفضل" يتفضل به عليهم "ويهديهم إليه" أي: إلى امتثال ما أمر به واجتناب ما نهى عنه أو إليه سبحانه وتعالى باعتبار مصيرهم إلى جزائه وتفضله "صراطاً مستقيماً" أي: طريقاً يسلكونه إليه مستعيماً لا عوج فيه، وهو التمسك بدين الإسلام وترك غيره من الأديان، قال أبو علي الفارسي: الهاء في قوله "إليه" راجعة إلى ما تقدم من اسم الله، وقيل: راجعة إلى القرآن، وقيل: إلى الفضل، وقيل: إلى الرحمة والفضل لأنهما بمعنى الثواب. وانتصاب صراطاً على أنه مفعول ثان للفعل المذكور، وقيل: على الحال. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال "لن يستنكف المسيح" لن يستكبر. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية والإسماعيلي في معجمه بسند ضعيف عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله "فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله" قال: أجورهم يدخلهم الجنة ويزيدهم من فضله الشفاعة فيمن وجبت له النار ممن صنع إليهم المعروف في الدنيا. وقد ساقه ابن كثير في تفسيره فقال: وقد روى ابن مردويه من طريق بقية عن إسماعيل بن عبد الله الكندي عن الأعمش عن شقيق عن ابن مسعود فذكره وقال: هذا إسناد لا يثبت، وإذا روي عن ابن مسعود موقوفاً فهو جيد. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن قتادة "قد جاءكم برهان" أي: بينة "وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً" قال: هذا القرآن. وأخرجا أيضاً عن مجاهد قال: برهان حجة. وأخرجا أيضاً عن ابن جريج في قوله "واعتصموا به" قال: القرآن.

يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ

قد تقدم الكلام في الكلالة في أول هذه السورة، وسيأتي ذكر المتفتي المقصود بقوله 176- "يستفتونك". قوله "إن امرؤ هلك" أي: إن امرؤ هلك كما تقدم في قوله "وإن امرأة خافت". وقوله "ليس له ولد" إما صفة لامرؤ أو حال، ولا وجه للمنع من كونه حالاً، والولد يطلق على الذكر والأنثى، واقتصر على عدم الولد هنا مع أن عدم الوالد معتبر في الكلالة اتكالاً على ظهور ذلك، قيل: والمراد بالولد هنا الابن، وهو أحد معنيي المشترك، لأن البنت لا تسقط الأخت. وقوله "وله أخت" عطف على قوله "ليس له ولد". والمراد بالأخت هنا هي الأخت لأبوين أو لأب لا لأم، فإن فرضها السدس كما ذكر سابقاً. وقد ذهب جمهور العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى أن الأخوات لأبوين أو لأب عصبة للبنات وإن لم يكن معهم أخ. وذهب ابن عباس إلى أن الأخوات لا يعصبن البنات، وإليه ذهب داود الظاهري وطائفة وقالوا: إنه لا ميراث للأخت لأبوين أو لأب مع البنت، واحتجوا بظاهر هذه الآية، فإنه جعل عدم الولد المتناول للذكر والأنثى قيداً في ميراث الأخت، وهذا استدلال صحيح لو لم يرد في السنة ما يدل على ثبوت ميراث الأخت مع البنت، وهو ما ثبت في الصحيح أن معاذاً قضى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في بنت وأخت فجعل للبنت النصف وللأخت النصف. وثبت في الصحيح أيضاً "أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في بنت وبنت ابن وأخت فجعل للبنت النصف ولبنت الابن السدس وللأخت الباقي" فكانت هذه السنة مقتضية لتفسير الولد بالابن دون البنت. قوله "وهو يرثها" أي المرء يرثها: أي يرث الأخت "إن لم يكن لها ولد" ذكر إن كان المراد بإرثه لها حيازته لجميع ما تركته، وإن كان المراد ثبوت ميراثه له في الجملة أعم من أن يكون كلاً أو بعضاً صح تفسير الولد بما يتناول الذكر والأنثى، واقتصر سبحانه في هذه الآية على نفي الولد مع كون الأب يسقط الأخ كما يسقطه الولد الذكر لأن المراد بيان حقوق الأخ مع الولد فقط هنا. وأما سقوطه مع الأب فقد تبين بالسنة كما ثبت في الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم: "ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر" والأب أولى من الأخ "فإن كانتا اثنتين" أي: فإن كان من يرث بالأخوة اثنتين، والعطف على الشرطية السابقة والتأنيث والتثنية، وكذلك الجمع في قوله "وإن كانوا إخوة" باعتبار الخبر "فلهما الثلثان مما ترك" المرء إن لم يكن له ولد كما سلف وما فوق الاثنتين من الأخوات يكون لهن الثلثان بالأولى "وإن كانوا" أي: من يرث بالأخوة "إخوة رجالاً ونساءً" أي: مختلطين ذكوراً وإناثاً "فللذكر" منهم "مثل حظ الأنثيين" تعصيباً "يبين الله لكم أن تضلوا" أي: يبين لكم حكم الكلالة وسائر الأحكام كراهة أن تضلوا، هكذا حكاه القرطبي عن البصريين. وقال الكسائي: المعنى لئلا تضلوا، ووافقه الفراء وغيره من الكوفيين "والله بكل شيء" من الأشياء التي هذه الأحكام المذكورة منها "عليم" أي: كثير العلم. وقد أخرج البخاري ومسلم وأهل السنن وغيرهم عن جابر بن عبد الله قال: "دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مريض لا أعقل، فتوضأ ثم صب علي فعقلت، فقلت: إنه لا يرثني إلا كلالة فكيف الميراث؟ فنزلت آية الفرائض". وأخرجه عنه ابن سعد وابن أبي حاتم بلفظ أنزلت في "يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة". وأخرج ابن راهويه وابن مردويه عن عمر أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف تورث الكلالة: فأنزل الله "يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة" الآية. وأخرج مالك ومسلم وابن جرير والبيهقي عن عمر قال: " ما سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء أكثر مما سألته في الكلالة حتى طعن بأصبعه في صدري وقال: ما تكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء". وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي والبيهقي عن البراء بن عازب قال:" جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الكلالة؟ فقال: تكفيك آية الصيف". وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عمر قال: ثلاث وددت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عهد إلينا فيهن عهداً ننتهي إليه: الجد، والكلالة، وأبواب من أبواب الربا. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن البراء بن عازب قال: آخر سورة نزلت كاملة براءة، وآخر آية نزلت خاتمة سورة النساء "يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة". وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر عن ابن سيرين قال: كان عمر بن الخطاب إذا قرأ "يبين الله لكم أن تضلوا" قال: اللهم من بينت له الكلالة فلم تبين لي. وقد أوضحنا الكلام خلافاً واستدلالاً وترجيحاً في شأن الكلالة في أوائل هذه السورة فلا نعيده. وإلى هنا انتهى الجزء الأول من التفسير المبارك: المسمى فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير بقلم مؤلفه الراجي من ربه سبحانه أن يعينه على تمامه، وينفع به من شاء من عباده، ويجعله ذخيرة له عند وفوده إلى الدار الآخرة محمد بن علي بن محمد الشوكاني غفر الله لهما. وكان الانتهاء إلى هذا الموضع في يوم العيد الأكبر، يوم النحر المبارك من سنة أربع وعشرين بعد مائتين وألف من الهجرة النبوية، حامداً لله ومصلياً ومسلماً على رسوله وحبيبه محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه. اهـ. الحمد له: كمل مساعاً، والحمد لله في شهر القعدة من عام سنة 1232. يحيى بن علي الشوكاني.


1-الفاتحة 2-البقرة 3-آل-عمران 4-النساء 5-المائدة 6-الأنعام 7-الأعراف 8-الأنفال 9-التوبة 10-يونس 11-هود 12-يوسف 13-الرعد 14-إبراهيم 15-الحجر 16-النحل 17-الإسراء 18-الكهف 19-مريم 20-طه 21-الأنبياء 22-الحج 23-المؤمنون 24-النور 25-الفرقان 26-الشعراء 27-النمل 28-القصص 29-العنكبوت 30-الروم 31-لقمان 32-السجدة 33-الأحزاب 34-سبأ 35-فاطر 36-يس 37-الصافات 38-ص 39-الزمر 40-غافر 41-فصلت 42-الشورى 43-الزخرف 44-الدخان 45-الجاثية 46-الأحقاف 47-محمد 48-الفتح 49-الحجرات 50-ق 51-الذاريات 52-الطور 53-النجم 54-القمر 55-الرحمن 56-الواقعة 57-الحديد 58-المجادلة 59-الحشر 60-الممتحنة 61-الصف 62-الجمعة 63-المنافقون 64-التغابن 65-الطلاق 66-التحريم 67-الملك 68-القلم 69-الحاقة 70-المعارج 71-نوح 72-الجن 73-المزمل 74-المدثر 75-القيامة 76-الإنسان 77-المرسلات 78-النبأ 79-النازعات 80-عبس 81-التكوير 82-الانفطار 83-المطففين 84-الانشقاق 85-البروج 86-الطارق 87-الأعلى 88-الغاشية 89-الفجر 90-البلد 91-الشمس 92-الليل 93-الضحى 94-الشرح 95-التين 96-العلق 97-القدر 98-البينة 99-الزلزلة 100-العاديات 101-القارعة 102-التكاثر 103-العصر 104-الهمزة 105-الفيل 106-قريش 107-الماعون 108-الكوثر 109-الكافرون 110-النصر 111-المسد 112-الإخلاص 113-الفلق 114-الناس