هي ثلاث وتسعون آية، وقيل أربع وتسعون قال القرطبي: وهي مكية كلها في قول الجميع. وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: أنزلت سورة النمل بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. قوله: 1- "طس" قد مر الكلام مفصلاً في فواتح السور، وهذه الحروف إن كانت اسماً للسورة فمحلها الرفع على الابتداء وما بعده خبره، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف: أي هذا اسم هذه السورة وإن لم تكن هذه الحروف اسماً للسورة، بل مسرودة على نمط التعديد فلا محل لها، والإشارة بقوله: "تلك" إلى نفس السورة، لأنها قد ذكرت إجمالاً بذكر اسمها، واسم الإشارة مبتدأ وخبره "آيات القرآن" والجملة خبر المبتدأ الأول على تقدير أنه مرتفع بالابتداء "وكتاب مبين" قرأ الجمهور بجر كتاب عطفاً على القرآن: أي تلك آيات القرآن وآيات كتاب مبين، ويحتمل أن يكون المراد بقوله: "وكتاب" القرآن نفسه، فيكون من عطف بعض الصفات على بعض مع اتحاد المدلول، وأن يكون المراد بالكتاب اللوح المحفوظ، أو نفس السورة، وقرأ ابن أبي عبلة وكتاب مبين برفعهما عطفاً على آيات. وقيل هو على هذه القراءة على تقدير مضاف محذوف وإقامة المضاف إليه مقامه: أي وآيات كتبا مبين، فقد وصف الآيات بالوصفين: القرآنية الدالة على كونه مقروءاً مع الإشارة إلى كونه قرآناً عربياً معجزاً، والكتابية الدالة على كونه مكتوباً مع الإشارة إلى كونه متصفاً بصفة الكتب المنزلة، فلا يكون على هذا من باب عطف صفة على صفة مع اتحاد المدلول، ثم ضم إلى الوصفين وصفاً ثالثاً، وهي الإبانة لمعانيه لمن يقرأه، أو هو من أبان بمعنى: بان معناه واتضح إعجازه بما اشتمل عليه من البلاغة. وقدم وصف القرآنية هنا نظراً إلى تقدم حال القرآنية على حال الكتابة وأخره في سورة الحجر فقال: " الر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين " نظراً إلى حالته التي قد صار عليها، فإنه مكتوب، والكتابة سبب القراءة والله أعلم. وأما تعريف القرآن هنا وتنكير الكتاب، وتعريف الكتاب في سورة الحجر، وتنكير القرآن فلصلاحية كل واحد منهما للتعريف والتنكير.
2- "هدىً وبشرى للمؤمنين" في موضع نصب على الحال من الآيات أو من الكتاب: أي تلك آيات هادية ومبشرة، ويجوز أن يكون في محل رفع على الابتداء: أي هو هدىً: أو هما خبران آخران لتلك، أو هما مصدران منصوبان بفعل مقدر: أي يهدي هدىً ويبشر بشرى. ثم وصف المؤمنين الذين لهم الهدى والبشرى.
فقال: 3- "الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة" والموصول في محل جر، أو يكون بدلاً أو بياناً، أو منصوباً على المدح، أو مرفوعاً على تقدير مبتدأ. والمراد بالصلاة الصلوات الخمس، والمراد بالزكاة الزكاة المفروضة، وجملة "وهم بالآخرة هم يوقنون" في محل نصب على الحال، وكرر الضمير للدلالة على الحصر: أي لا يوقن بالآخرة حق الإيقان إلا هؤلاء الجامعون بين الإيمان والعمل الصالح، وجعل الخبر مرفوعاً للدلالة على التجدد في كل وقت وعدم الانقطاع. ثم لما ذكر سبحانه أهل السعادة ذكر بعدهم أهل الشقاوة.
فقال: 4- "إن الذين لا يؤمنون بالآخرة" وهم الكفار: أي لا يصدقون بالبعث "زينا لهم أعمالهم" قيل المراد زين الله لهم أعمالهم السيئة حتى رأوها حسنة. وقيل المراد أن الله زين لهم الأعمال الحسنة وذكر لهم ما فيها من خيري الدنيا والآخرة فلم يقبلوا ذلك. قال الزجاج: معنى الآية أنا جعلنا جزاءهم على كفرهم أن زينا لهم ما هم فيه "فهم يعمهون" أي يترددون فيها متحيرين على الاستمرار لا يهتدون إلى طريقة ولا يقفون على حقيقة. وقيل معنى يعمهون يتمادون. وقال قتادة: يلعبون، وفي معنى التحير. قال الشاعر: ومهمه أطرافه في مهمه أعمى الهدى الحائرين العمه
والإشارة بقوله: 5- "أولئك" إلى المذكورين قبله، وهو مبتدأ خبره "لهم سوء العذاب" قيل في الدنيا كالقتل والأسر، ووجه تخصيصه بعذاب الدنيا قوله بعده "وهم في الآخرة هم الأخسرون" أي هم أشد الناس خسراناً وأعظمهم خيبة، ثم مهد سبحانه مقدمة نافعة لما سيذكره بعد ذلك من الأخبار العجيبة.
فقال: 6- "وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم" أي يلقى عليك فتلقاه وتأخذه من لدن كثير الحكمة والعلم، قيل إن لدن ها هنا بمعنى عند. وفيها لغات كما تقدم في سورة الكهف.
7- "إذ قال موسى لأهله" الظف منصوب بمضمر وهو اذكر. قال الزجاج: موضع إذ نصب، المعنى: اذكر إذ قال موسى: أي اذكر قصته إذ قال لأهله، والمراد بأهله امرأته في مسيره من مدين إلى مصر، ولم يكن معه إذ ذاك إلا زوجته بنت شعيب، فكنى عنها بلفظ الأهل الدال على الكثرة، ومثله قوله: "امكثوا" ومعنى "إني آنست ناراً" أبصرتها "سآتيكم منها بخبر" السين تدل على بعد مسافة النار "أو آتيكم بشهاب قبس" قرأ عاصم وحمزة والكسائي بتنوين شهاب، وقرأ الباقون بإضافته إلى قبس، فعلى القراءة الأولى يكون قبس بدلاً من شهاب أو صفة له لأنه بمعنى مقبوس، على القراءة الثانية الإضافة للبيان، والمعنى على القراءتين: آتيكم بشعلة نار مقبوسة: أي مأخوذة من أصلها. قال الزجاج: من نون جعل قبس من صفة شهاب، وقال الفراء: هذه الإضافة كالإضافة في قولهم: مسجد الجامع، وصلاة الأولى، أضاف الشيء إلى نفسه لاختلاف أسمائه. وقال النحاس: هي إضافة النوع إلى الجنس كما تقول: ثوب خز، وخاتم حديد. قال: ويجوز في غير القرآن بشهاب قبساً على أنه مصدر أو بيان أو حال "لعلكم تصطلون" أي رجاء أن تستدفئوا بها، أو لكي تستدفئوا بها من البرد، يقال صلى بالنار واصطلى بها إذا استدفأ بها. قال الزجاج: كل أبيض ذي نور فهو شهاب. وقال أبو عبيدة: الشهاب النار، ومنه قول أبي النجم: كأنما كان شهاباً واقداً أضاء ضوءاً ثم صار خامداً وقال ثعلب: أصل الشهاب عود في أحد طرفيه جمرة، والآخر لا نار فيه، والشهاب الشعاع المضيء، وقيل للكواكب شهاب، ومنه قول الشاعر: في كفه صعدة مثقفة فيها سنان كشعلة القبس
8- "فلما جاءها" أي جاء النار موسى "نودي أن بورك من في النار ومن حولها" أن هي المفسرة لما في النداء من معنى القول، أو هي المصدرية: أي بأن بورك، وقيل هي المخففة من الثقيلة. قال الزجاج: أن في موضع نصب أي بأن قال: ويجوز أن يكون في موضع رفع اسم ما لم يسم فاعله. والأولى أن النائب ضمير يعود إلى موسى. وقرأ أبي وابن عباس ومجاهد أن بوركت النار ومن حولها حكى ذلك أبو حاتم. وحكى الكسائي عن العرب: باركك الله، وبارك فيك، وبارك عليك، وبارك لك، وكذلك حكى هذا الفراء. قال ابن جرير: قال بورك من في النار، ولم يقل بورك على النار على لغة من يقول باركك الله: أي بورك على من في النار، وهو موسى، أو على من في قرب النار لا أنه كان في وسطها. وقال السدي: كان في النار ملائكة، والنار هنا هي مجرد نور، ولكنه ظن موسى أنها نار، فلما وصل إليها وجدها نوراً. وحكي عن الحسن وسعيد بن جبير أن المراد بمن في النار هو الله سبحانه: أي نوره. وقيل بورك ما في النار من أمر الله سبحانه الذي جعلها على تلك الصفة. قال الواحدي: ومذهب المفسرين أن المراد بالنار النور، ثم نزه سبحانه نفسه فقال: "وسبحان الله رب العالمين" وفيه تعجب لموسى من ذلك.
9- "يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم" الضمير للشأن، أنا الله العزيز الغالب القاهر الحكيم في أمره وفعله. وقيل إن موسى قال: يا رب من الذي ناداني؟ فأجابه الله سبحانه بقوله: إنه أنا الله، ثم أمره سبحانه بأن يلقي عصاه ليعرف ما أجراه الله سبحانه على يده من المعجزة الخارقة.
وجملة 10- "وألق عصاك" معطوفة على بورك، وفي الكلام حذف، والتقدير فألقاها من يده فصارت حية "فلما رآها تهتز كأنها جان" قال الزجاج: صارت العصا تتحرك كما يتحرك الجان، وهي الحية البيضاء، وإنما شبهها بالجان في خفة حركتها، وشبهها في موضع آخر بالثعبان لعظمها، وجمع الجان جنان وهي الحية الخفيفة الصغيرة الجسم. وقال الكلبي: لا صغيرة ولا كبيرة "ولى مدبراً" من الخوف "ولم يعقب" أي لم يرجع: يقال عقب فلان إذا رجع، وكل راجع معقب، وقيل لم يقف ولم يلتفت. والأول أولى، لأن التعقيب هو الكر بعد الفر، فلما وقع منه ذلك قال الله سبحانه: "يا موسى لا تخف" أي من الحية وضررها "إني لا يخاف لدي المرسلون" أي لا يخاف عندي من أرسلته برسالتي فلا تخف أنت. قيل ونفي الخوف عن المرسلين ليس في جميع الأوقات، بل في وقت الخطاب لهم لأنهم إذ ذاك مستغرقون.
ثم استثنى استثناءً منقطعاً فقال:11- " إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم " أي لكن من أذنب في ظلم نفسه بالمعصية ثم بدل حسناً أي توبة وندماً بعد سوء أي بعد عمل سوء فإني غفور رحيم وقيل الاستثناء من مقدر محذوف: أي لا يخاف لدي المرسلون، وإنما يخاف غيرهم ممن ظلم إلا من ظلم ثم بدل إلخ، كذا قال الفراء. قال النحاس: الاستثناء من محذوف محال، لأنه استثناء من شيء لم يذكر. وروي عن الفراء أنه قال: إلا بمعنى الواو. وقيل إن الاستثناء متصل من المذكور لا من المحذوف. والمعنى: إلا من ظلم من المرسلين بإتيان الصغائر التي لا يسلم منها أحد، واختار هذا النحاس، وقال: علم من عصى منهم فاستثناه فقال: إلا من ظلم، وإن كنت قد غفرت له كآدم وداود وإخوة يوسف وموسى بقتله القبطي. ولا مانع من الخوف بعد المغفرة، فإن نبينا صلى الله عليه وسلم الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر كان يقول: "وددت أني شجرة تعضد".
12- "وأدخل يدك في جيبك" المراد بالجيب هو المعروف، وفي القصص "اسلك يدك في جيبك" وفي أدخل من المبالغة ما لم يكن في اسلك "تخرج بيضاء من غير سوء" أي من غير برص أو نحوه من الآفات، فهو احتراس. وقوله تخرج جواب أدخل يدك. وقيل في الكلام حذف تقديره: أدخل يدك تدخل وأخرجها تخرج، ولا حاجة لهذا الحذف ولا ملجئ إليه.قال المفسرون: كانت على موسى مدرعة من صوف لا كم لها ولا إزار، فأدخل يده في جيبه وأخرجها فإذا هي تبرق كالبرق، وقوله: "في تسع آيات" قال أبو البقاء: هو في محل نصب على الحال من فاعل تخرج، وفيه بعد. وقيل متعلق بمحذوف: أي اذهب في تسع آيات. وقيل متعلق بقوله: الق عصاك وأدخل يدك في جملة تسع آيات أو مع تسع آيات. وقيل المعنى: فهما آيتان من تسع: يعني العصا واليد، فتكون الآيات إحدى عشرة: هاتان والفلق، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والطمسة، والجدب في بواديهم، والنقصان في مزارعهم. قال النحاس: أحسن ما قيل فيه أن هذه الآية يعني اليد داخلة في تسع آيات، وكذا قال المهدوي والقشيري. قال القشيري: تقول خرجت في عشرة نفر، وأنت أحدهم: أي خرجت عاشر عشرة، فـ في بمعنى من لقربها منها كما تقول خذ لي عشراً من الإبل فيها فحلان: أي منها. قال الأصمعي في قول امرئ القيس: وهل ينعمن من كان آخر عهده ثلاثون شهراً في ثلاثة أحوال في بمعنى من، وقيل في بمعنى مع "إلى فرعون وقومه" قال الفراء: في الكلام إضمار: أي إنك مبعوث، أو مرسل إلى فرعون وقومه، وكذا قال الزجاج: " إنهم كانوا قوما فاسقين " الجملة تعليل لما قبلها.
13- "فلما جاءتهم آياتنا مبصرة" أي جاءتهم آياتنا التي على يد موسى حال كونها مبصرة: أي واضحة بينة كأنها لفرط وضوحها تبصر نفسها كقوله: "وآتينا ثمود الناقة مبصرة" قال الأخفش: ويجوز أن تكون بمعنى مبصرة على أن اسم الفاعل بمعنى اسم المفعول، وقد تقدم تحقيق الكلام في هذا. وقرأ علي بن الحسين وقتادة مبصرة بفتح الميم والصاد: أي مكاناً يكثر فيه التبصر، كما يقال: الولد مجبنة ومبخلة "قالوا هذا سحر مبين" أي لما جاءتهم قالوا هذا القول: أي سحر واضح.
14- "وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم" أي كذبوا بها حال كون أنفسهم مستيقنة لها فالواو للحال، وانتصاب "ظلماً وعلواً" على الحال: أي ظالمين عالين، ويجوز أن ينتصبا على العلة: أي الحامل لهم على ذلك الظلم والعلو، ويجوز أن يكونا نعت مصدر محذوف: أي جحدوا بها جحوداً ظلماً وعلواً. قال أبو عبيدة: والباء في وجحدوا بها زائدة: أي وجحدوها. قال الزجاج: التقدير: وجحدوا بها ظلماً وعلواً: أي شركاً وتكبراً عن أن يؤمنوا بما جاء به موسى وهم يعلمون أنها من عند الله "فانظر" يا محمد "كيف كان عاقبة المفسدين" أي تفكر في ذلك فإن فيه معتبراً للمعتبرين، وقد كان عاقبة أمرهم الإغراق لهم في البحر على تلك الصفة الهائلة. وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "فلما جاءها نودي أن بورك من في النار" يعني تبارك وتعالى نفسه كان نور رب العالمين في الشجرة "ومن حولها" يعني الملائكة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في الآية قال: كان الله في النور نودي من النور "ومن حولها" قال: الملائكة. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه أيضاً قال: ناداه الله وهو في النور. وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر عنه أيضاً "أن بورك من في النار" قال: بوركت النار. وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر عنه أيضاً "أن بورك من في النار" قال: بوركت النار. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال: في مصحف أبي بن كعب: بوركت النار ومن حولها، أما النار فيزعمون أنها نور رب العالمين. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس "أن بورك" قال: قدس. وأخرج عبد بن حميد وابن ماجه وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة والبيهقي في الأسماء والصفات من طريق أبي عبيدة عن أبي موسى الأشعري قال: قام فينا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل، حجابه النور لو رفع لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره". ثم قرأ أبو عبيدة "أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين". والحديث أصله مخرج في صحيح مسلم من حديث عمرو بن مرة. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كانت على موسى جبة من صوف لا تبلغ مرفقيه، فقال له: أدخل يدك في جيبك فأدخلها. وأخرج ابن المنذر عنه في قوله: "واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً" قال: تكبراً وقد استيقنتها أنفسهم، وهذا من التقديم والتأخير.
لما فرغ سبحانه من قصة موسى في قصة داود وابنه سليمان، وهذه القصص وما قبلها وما بعدها هي كالبيان والتقرير لقوله: "وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم"، والتنوين في 15- "علماً" إما للنوع: أي طائفة من العلم، أو للتعظيم: أي علماً كثيراً، فالواو في قوله: "وقالا الحمد لله" للعطف على محذوف، لأن هذا المقام مقام الفاء، فالتقدير: ولقد آتيناهما علماً فعملا به وقالا الحمد لله، ويؤيده أن الشكر باللسان إنما يحسن إذا كان مسبوقاً بعمل القلب، وهو العزم على فعل الطاعة وترك المعصية "الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين" أي فضلنا بالعلم والنبوة وتسخير الطير والجن والإنس ولم يفضلوا أنفسهم على الكل تواضعاً منهم. وفي الآية دليل على شرف العلم وارتفاع محله، وأن نعمة العلم من أجل النعم التي ينعم الله بها على عباده، وأن من أوتيه فقد أوتي فضلاً على كثير من العباد، ومنح شرفاً جليلاً.
16- "وورث سليمان داود" أي ورثه العلم والنبوة. قال قتادة والكلبي: كان لداود تسعة عشر ولداً ذكراً فورث سليمان من بينهم نبوته، ولو كان المراد وارثة المال لم يخص سليمان بالذكر لأن جميع أولاده في ذلك سواء، وكذا قال جمهور المفسرين، فهذه الوارثة هي وارثة مجازية كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "العلماء ورثة الأنبياء" "وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير" قال سليمان هذه المقالة مخاطباً للناس تحدثاً بما أنعم الله به عليه وشكر النعمة التي خصه بها، وقدم منطق الطير لأنها نعمة خاصة به لا يشاركه فيها غيره. قال الفراء: منطق الطير كلام الطير فجعل كمنطق الرجل، وأنشد قول حميد بن ثور: عجيب لها أن يكون غناؤها فصيحاً ولم يغفر بمنطقها فما ومعنى الآية فهمنا ما يقول الطير. قال جماعة من المفسرين: إنه علم منطق جميع الحيوانات، وإنما ذكر الطير لأنه كان جنداً من جنده يسير معه لتظليله من الشمس. وقال قتادة والشعبي: إنما علم منطق الطير خاصة ولا يعترض ذلك بالنملة فإنها من جملة الطير، وكثيراً ما تخرج لها أجنحة فتطير، وكذلك كانت هذه النملة التي سمع كلامها وفهمه، ومعنى "وأوتينا من كل شيء" كل شيء تدعو إليه الحاجة: كالعلم والنبوة والحكمة والمال وتسخير الجن والإنس والطير والرياح والوحش والدواب وحكل ما بين السماء والأرض. وجاء سليمان بنون العظمة، والمراد نفسه بياناً لحاله من كونه مطاعاً لا يخالف، لا تكبراً وتعظيماً لنفسه، والإشارة بقوله: "إن هذا" إلى ما تقدم ذكره من التعليم والإيتاء "لهو الفضل المبين" أي الظاهر الواضح الذي لا يخفى على أحد، أو المظهر لفضيلتنا.
17- "وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير" الحشر الجمع: أي جمع له جنوده من هذه الأجناس. وقد أطال المفسرون في ذكر مقدار جنده وبالغ كثير منهم مبالغة تستبعدها العقول ولا تصح من جهة النقل، ولو صحت لكان في القدرة الربانية ما هو أعظم من ذلك وأكثر "فهم يوزعون" أي لكل طائفة منهم وزعة ترد أولهم على آخرهم فيقفون على مراتبهم، يقال وزعه يزعه وزعاً: كفه، والوازع في الحرب الموكل بالصفوف يزع من تقدم منهم: أي يرده، ومنه قول النابغة: على حين عاتبت المشيب على الصبا وقلت ألما أصح والشيب وازع وقول الآخر: ومن لم يزعه لبه وحياؤه فليس له من شيب فوديه وازع وقول الآخر: ولا يزع النفس اللجوج عن الهوى من الناس إلا وافر العقل كامله وقيل من التوزيع بمعنى التفريق، يقال: القوم أوزاع: أي طوائف.
18- "حتى إذا أتوا على واد النمل" حتى هي التي يبدأ بعدها الكلام، ويكون غاية لما قبلها، والمعنى فهم يوزعون إلى حصول هذه الغاية وهو إتيانهم على واد النمل: أي فهم يسيرون ممنوعاً بعضهم من مفارقة بعض حتى إذا أتوا إلخ، وعلى واد النمل متعلق بأتوا، وعدي بعلى لأنهم كانوا محمولين على الريح فهم مستعلون. والمعنى: أنهم قطعوا الوادي وبلغوا آخره، ووقف القراء جميعهم على واد بدون ياء اتباعاً للرسم حيث لم تحذف لالتقاء الساكنين كقوله: "الذين جابوا الصخر بالواد" إلا الكسائي فإنه وقف بالياء، قال: لأن الموجب للحذف إنما هو التقاء الساكنين بالوصل. قال كعب: واد النمل بالطائف. وقال قتادة ومقاتل: هو بالشام "قالت نملة" هذا جواب إذا، كأنها لما رأتهم متوجهين إلى الوادي فرت ونبهت سائر النمل منادية لها قائلة: "يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم" جعل خطاب النمل كخطاب العقلاء لفهمها لذلك الخطاب، والمساكن هي الأمكنة التي يسكن النمل فيها. قيل وهذه النملة التي سمعها سليمان هي أنثى بدليل تأنيث الفعل المسند إليها. ورد هذا أبو حيان فقال: لحاق التاء في قالت لا يدل على أن النملة مؤنثة، بل يصح أن يقال في المذكر قالت، لأن نملة وإن كانت بالتاء فهي مما لا يتميز فيه المذكر من المؤنث بتذكير الفعل ولا بتأنيثه، بل يتميز بالإخبار عنه بأنه ذكر أو أنثى ولا يتعلق بمثل هذا كثير فائدة ولا بالتعرض لاسم النملة ولما ذكر من القصص الموضوعة والأحاديث المكذوبة. وقرأ الحسن وطلحة ومعمر بن سليمان نملة والنمل بضم الميم وفتح النون بزنة رجل وسمرة. وقرأ سليمان التيمي بضمتين فيهما "لا يحطمنكم سليمان وجنوده" الحكم الكسر، يقال حطمته حطماً: أي كسرته كسراً وتحطم تكسر، وهذا النهي هو في الظاهر للنمل، وفي الحقيقة لسليمان، فهو من باب: لا أرينك ها هنا، ويجوز أن يكون بدلاً من الأمر، ويحتمل أن يكون جواباً للأمر. قال أبو حيان: أما تخريجه على جواب الأمر فلا يكون إلا على قراءة الأعمش، فإنه قرأ لا يحطمكم بالجزم بدون نون التوكيد، وأما مع وجود نون التوكيد فلا يجوز ذلك إلا في الشعر. قال سيبويه: وهو قليل في الشعر، شبهوه بالنهي حيث كان مجزوماً. وقرأ أبي ادخلوا مساكنكن وقرأ شهر بن حوشب مسكنكم وقرأ الحسن وأبو رجاء وقتادة وعيسى الهمداني لا يحطمنكم بضم الياء وفتح الحاء وتشديد الطاء، وقرأ ابن إسحاق ويعقوب وأبو عمرو في رواية بسكون نون التوكيد، وجملة "وهم لا يشعرون" في محل نصب على الحال من فاعل يحطمنكم: أي لا يشعرون بحطمكم ولا يعلمون بمكانكم، وقيل إن المعنى: والنمل لا يشعرون أن سليمان يفهم مقالتها، وهو بعيد.
19- "فتبسم ضاحكاً من قولها" قرأ ابن السميفع ضحكاً وعلى قراءة الجمهور يكون ضاحكاً حالاً مؤكدة لأنه قد فهم الضحك من التبسم، وقيل هي حال مقدرة لأن التبسم أول الضحك، وقيل لما كان التبسم قد يكون للغضب كان الضحك مبيناً له، وقيل إن ضحك الأنبياء هو التبسم لا غير، وعلى قراءة ابن السميفع يكون ضحكاً مصدراً منصوباً بفعل محذوف أو في موضع الحال، وكان ضحك سليمان تعجباً من قولها وفهمها واهتدائها إلى تحذير النمل " وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي " قد تقدم بيان معنى أوزعني قريباً في قوله "فهم يوزعون" قال في الكشاف: وحقيقة أوزعني: اجعلني أزع شكر نعمك عندي وأكفه وأرتبطه لا ينفلت عني حتى لا أنفك شاكراً لك انتهى. قال الواحدي: أوزعني أي ألهمني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي، يقال فلان موزع بكذا: أي مولع به انتهى. قال القرطبي: وأصله من وزع، فكأنه قال: كفني عما يسخطك انتهى. والمفعول الثاني لأوزعني هو: أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي. وقال الزجاج: إن معنى أوزعني: امنعني أن أكفر نعمتك، وهو تفسير باللازم، ومعنى وعلى والدي: الدعاء منه بأن يوزعه الله شكر نعمته على والديه كما أوزعه شكر نعمته عليه، فإن الإنعام عليهما إنعام عليه، وذلك يستوجب الشكر منه لله سبحانه، ثم طلب أن يضيف الله له لواحق نعمه إلى سوابقها، ولا سيما النعم الدينية، فقال: "وأن أعمل صالحاً ترضاه" أي عملاً صالحاً ترضاه مني، ثم دعا أن يجعله الله سبحانه في الآخرة داخلاً في زمرة الصالحين فإن ذلك هو الغاية التي يتعلق الطلب بها، فقال: " وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين " والمعنى: أدخلني في جملتهم، وأثبت اسمي في أسمائهم، واحشرني في زمرتهم إلى دار الصالحين وهي الجنة، اللهم وإني أدعوك بما دعاك به هذا النبي الكريم فتقبل ذلك مني وتفضل علي به، فإني وإن كنت مقصراً في العمل ففضلك هو سبب الفوز بالخير، فهذه الآية منادية بأعلى صوت وأوضح بيان بأن دخول الجنة التي هي دار المؤمنين بالتفضل منك لا بالعمل منهم كما قال رسولك الصادق فيما ثبت عنه في الصحيح "سددوا وقاربوا واعلموا أنه لن يدخل أحد الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته" فإذا لم يكن إلا تفضلك الواسع فترك طلبه منك عجز، والتفريط في التوسل إليك بالإيصال إليه تضييع. ثم شرع سبحانه في ذكر قصة بلقيس وما جرى بينهما وبين سليمان، وذلك بدلالة الهدهد.
فقال: 20- "وتفقد الطير" التفقد تطلب ما غاب عنك وتعرف أحواله، والطير اسم جنس لكل ما يطير، والمعنى: أنه تطلب ما فقد من الطير وتعرف حال ما غاب منها، وكانت الطير تصحبه في سفره، وتظله بأجنحتها " فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين " أي ما للهدهد لا أراه؟ فهذا الكلام من الكلام المقلوب الذي تستعمله العرب كثيراً، وقيل لا حاجة إلى ادعاء القلب، بل هو استفهام عن المانع له من رؤية الهدهد، كأنه قال. مالي لا أراه هل ذلك لساتر يستره عني، أو لشيء آخر؟ ثم ظهر له أنه غائب فقال: أم كان من الغائبين، وأم هي المنقطعة التي بمعنى الإضراب قرأ ابن كثير وابن محيصن وهشام وأيوب مالي بفتح الياء، وكذلك قرأوا في يس "وما لي لا أعبد الذي فطرني" بفتح الياء، وقرأ بإسكانها في الموضعين حمزة والكسائي ويعقوب، وقرأ الباقون بفتح التي في يس وإسكان التي هنا. قال أبو عمرو: لأن هذه التي هنا استفهام، والتي في يس نفي، واختار أبو حاتم وأبو عبيد الإسكان.
21- "لأعذبنه عذاباً شديداً أو لأذبحنه". اختلفوا في هذا العذاب الشديد ما هو؟ فقال مجاهد وابن جريج: هو أن ينتف ريشه جميعاً. وقال يزيد بن رومان: هو أن ينتف ريش جناحيه، وقيل هو أن يحبسه مع أضداده، وقيل أن يمنعه من خدمته، وفي هذا دليل على أن العقوبة على قدر الذنب لا على قدر الجسد. وقوله عذاباً اسم مصدر أو مصدر على حذف الزوائد كقوله: "أنبتكم من الأرض نباتاً"، "أو ليأتيني بسلطان مبين" قرأ ابن كثير وحده بنون التأكيد المشددة بعدها نون الوقاية، وقرأ الباقون بنون مشددة فقط، وهي نون التوكيد، وقرأ عيسى بن عمر بنون مشددة مفتوحة غير موصلة بالياء، والسلطان المبين هو الحجة البينة في غيبته.
22- "فمكث غير بعيد" أي الهدهد مكث زماناً غير بعيد. قرأ الجمهور "مكث" بضم الكاف، وقرأ عاصم وحده بفتحها، ومعناه في القراءتين: أقم زماناً غير بعيد. قال سيبويه: مكث يمكث مكوثاً كقعد يقعد قعوداً. وقيل إن الضمير في مكث لسليمان. والمعنى: بقي سليمان بعد التفقد والتوعد زماناً غير طويل، والأول أولى "فقال أحطت بما لم تحط به" أي علمت ما لم تعلمه من الأمر، والإحاطة العلم بالشيء من جميع جهاته، ولعل في الكلام حذفاً، والتقدير: فمكث الهدهد غير بعدي فجاء فعوتب على مغيبه، فقال معتذراً عن ذلك "أحطت بما لم تحط به". قال الفراء: ويجوز إدغام التاء في الطاء، فيقال أحط، وإدغام الطاء في التاء فيقال أحت "وجئتك من سبإ بنبإ يقين" قرأ الجمهور "من سبإ" بالصرف على أنه اسم رجل، نسب إليه قوم، ومنه قول الشاعر: الواردون وتيم في ذرى سبأ قد غض أعناقهم جلد الجواميس وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح الهمزة وترك الصرف على أنه اسم مدينة، وأنكر الزجاج أن يكون اسم رجل وقال: سبأ اسم مدينة تعرف بمأرب اليمن بينهما وبين صنعاء ثلاثة أيام. وقيل هو اسم امرأة سميت بها المدينة. قال القرطبي: والصحيح أنه اسم رجل كما في كتاب الترمذي من حديث عروة بن مسيك المرادي. قال ابن عطية: وخفي هذا على الزجاج فخبط خبط عشواء. وزعم الفراء أن الرؤاسي سأل أبا عمرو بن العلاء عن سبأ فقال: ما أدري ما هو؟ قال النحاس: وأبو عمرو أجل من أن يقول هذا، قال: والقول في سبأ ما جاء التوقيف فيه أنه في الأصل اسم رجل، فإن صرفته فلأنه قد صار اسماً للحي، وإن لم تصرفه جعلته اسماً للقبيلة مثل ثمود، إلا أن الاختيار عند سيبويه الصرف انتهى. وأقول: لا شك أن سبأ اسم لمدينة باليمن كانت فيها بلقيس، وهو أيضاً اسم رجل من قحطان، وهو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن هود، ولكن المراد هنا أن الهدهد جاء سليمان من هذه المدينة بخبر يقين، والنبأ هو الخبر الخطير الشأن، فلما قال الهدهد لسليمان ما قال، قال له سليمان: وما ذاك؟.
فقال: "إني وجدت امرأة تملكهم" وهي بلقيس بنت شرحبيل، وجدها الهدهد تملك أهل سبأ، والجملة هذه كالبيان، والتفسير للجملة التي قبلها: أي ذلك النبأ اليقين هو كون هذه المرأة تملك هؤلاء "وأوتيت من كل شيء" فيه مبالغة، والمراد أنها أوتيت من كل شيء من الأشياء التي تحتاجها، وقيل المعنى: أوتيت من كل شيء في زمانها شيئاً، فحذف شيئاً لأن الكلام قد دل عليه "ولها عرش عظيم" أي سرير عظيم، ووصفه بالعظم لأنه كما قيل كان من ذهب طوله ثمانون ذراعاً وعرضه أربعون ذراعاً وارتفاعه في السماء ثلاثون ذراعاً ذراعاً مكلل بالدر والياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر. وقيل المراد بالعرش هنا الملك، والأول أولى لقوله: "أيكم يأتيني بعرشها" قال ابن عطية: واللازم من الآية أنها امرأة ملكة على مدائن اليمن ذات ملك عظيم وسرير عظيم، وكانت كافرة من قوم كفار.
24- "وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله" أي يعبدونها متجاوزين عبادة الله سبحانه، قيل كانوا مجوساً، وقيل زنادقة "وزين لهم الشيطان أعمالهم" التي يعملونها، وهي عبادة الشمس وسائر أعمال الكفر "فصدهم عن السبيل" أي صدهم الشيطان بسبب ذلك التزيين عن الطريق الواضح، وهو الإيمان بالله وتوحيده "فهم لا يهتدون" إلى ذلك.
25- " أن لا يسجدوا " قرأ الجمهور بتشديد "ألا". قال ابن الأنباري: الوقف على فهم لا يهتدون غير تام عند من شدد ألا، لأن المعنى: وزين لهم الشيطان الا يسجدوا. قال النحاس: هي أن دخلت عليها لا، وهي في موضع نصب. قال الأخفش: أي زين لهم أن لا يسجدوا لله بمعنى لئلا يسجدوا لله. وقال الكسائي: هي في موضع نصب بصدهم: أي فصدهم ألا يسجدوا بمعنى لئلا يسجدوا، فهو على الوجهين مفعول له. وقال اليزيدي: إنه بدل من أعمالهم في موضع نصب. وقال أبو عمرو: في موضع خفض على البدل من السبيل. وقيل العامل فيها لا يهتدون: أي فهم لا يهتدون أن يسجدوا لله، وتكون لا على هذا زائدة كقوله: " ما منعك أن لا تسجد " وعلى قراءة الجمهور ليس هذه الآية موضع سجدة، لأن ذلك إخبار عنهم بترك السجود: إما بالتزيين أو بالصد، أو بمنع الاهتداء، وقد رجح كونه علة للصد الزجاج، ورجح الفراء كونه علة لزين، قال: زين لهم أعمالهم لئلا يسجدوا، ثم حذفت اللام. وقرأ الزهري والكسائي بتخفيف "ألا". قال الكسائي: ما كنت أسمع الأشياخ يقرأونها إلا بالتخفيف على نية الأمر، فتكون "ألا" على هذه القراءة حرف تنبيه واستفتاح وما بعدها حرف نداء، واسجدوا فعل أمر، وكان حق الخط على هذه القراءة أن يكون هكذا ألا يا اسجدوا، ولكن الصحابة رضي الله عنهم أسقطوا الألف من يا وهمزة الوصل من اسجدوا خطأ ووصلوا الياء بسين اسجدوا، فصارت صورة الخط ألا يسجدوا، والمنادى محذوف، وتقديره: ألا يا هؤلاء اسجدوا، وقد حذفت العرب المنادى كثيراً في كلامها، ومنه قول الشاعر: ألا يا اسلمي يا دارمي على البلى ولا زال منهلا بجرعائك القطر وقول الآخر: ألا يا اسلمي ثم اسلمي ثمت اسلمي ثلاث. تحيات وإن لم تكلم وقول الآخر أيضاً: ألا يا اسلمي يا هند هند بني بكر وهو كثير في أشعارهم. قال الزجاج: وقراءة التخفيف تقتضي وجوب السجود دون قراءة التشديد، واختار أبو حاتم وأبو عبيد قراءة التشديد. قال الزجاج: ولقراءة التخفيف وجه حسن إلا أن فيها انقطاع الخبر عن أمر سبأ ثم الرجوع بعد ذلك إلى ذكرهم. والقراءة بالتشديد خبر يتبع بعضه بعضاً لا انقطاع في وسطه، وكذا قال النحاس: وعلى هذه القراءة تكون جملة ألا يسجدوا معترضة من كلام الهدهد، أو من كلام سليمان، أو من كلام الله سبحانه. وفي هذه قراءة عبد الله بن مسعود هل لا تسجدوا بالفوقية، وفي قراءة أبي " لا تسجدوا " بالفوقية أيضاً "الذي يخرج الخبء في السموات والأرض" أي يظهر ما هو مخبوء ومخفي فيهما، يقال: خبأت الشيء أخبؤه خبأً، والخبء ما خبأته. قال الزجاج: جاء في التفسي أن الخبء ها هنا بمعنى القطر من السماء والنبات من الأرض. وقيل خبء الأرض كنوزها ونباتها. وقال قتادة: الخبء السر. قال النحاس، أي ما غاب في السموات والأرض. وقرأ أبي وعيسى بن عمر الخب بفتح الباء من غير همز تخفيفاً، وقرأ عبد الله وعكرمة ومالك بن دينار الخبا بالألف قال أبو حاتم: وهذا لا يجوز في العربية. ورد عليه بأن سيبويه حكى عن العرب أن الألف تبدل من الهمزة إذا كان قبلها ساكن. وفي قراءة عبد الله يخرج الخب من السموات والأرض. قال الفراء: ومن وفي يتعاقبان، والموصول يجوز أن يكون في محل جر نعتاً لله سبحانه، أو بدلاً منه، أو بياناً له. ويجوز أن تكون في محل نصب على المدح، ويجوز أن يكون في محل رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، وجملة "ويعلم ما تخفون وما تعلنون" معطوفة على يخرج، قرأ الجمهور بالتحتية في الفعلين، وقرأ الجحدري وعيسى بن عمر وحفص والكسائي بالفوقية للخطاب، أما القراءة الأولى فلكون الضمائر المتقدمة ضمائر غيبة، وأما القراءة الثانية فلكون قراءة الزهري والكسائي فيها الأمر بالسجود والخطاب لهم بذلك، فهذا عندهم من تمام ذلك الخطاب. والمعنى: أن الله سبحانه يخرج ما في هذا العالم الإنساني من الخفاء بعلمه له كما يخرج ما خفي في السموات والأرض، ثم بعد ما وصف الرب سبحانه بما تقدم مما يدل على عظيم قدرته وجليل سلطانه ووجوب توحيده وتخصيصه بالعبادة.
قال: 26- "الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم" قرأ الجمهور العظيم بالجر نعتاً للعرش، وقرأ ابن محيصن بالرفع نعتاً للرب، وخص العرش بالذكر لأنه أعظم المخلوقات كما ثبت ذلك في المرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب: إن الله لم ينعم على عبد نعمة فحمد الله عليها إلا كان حمده أفضل من نعمته لو كنت لا تعرف ذلك إلا في كتاب الله المنزل. قال الله عز وجل: "ولقد آتينا داود وسليمان علماً وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين" وأي نعمة أفضل مما أعطي داود وسليمان. أقول: ليس في الآية ما يدل على ما فهمه رحمه الله، والذي تدل عليه أنهما حمدا الله سبحانه على ما فضلهما به من النعم، فمن أين تدل على أن حمده أفضل من نعمته. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "وورث سليمان داود" قال: ورثه نبوته وملكه وعلمه. وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد في الزهد وابن أبي حاتم عن أبي الصديق الناجي قال: خرج سليمان بن داود يستسقي بالناس، فمر على نملة مستلقية على قفاها رافعة قوائمها إلى السماء وهي تقول: اللهم إنا خلق من خلقك ليس بنا غنى عن رزقك، فإما أن تسقينا وإما أن تهلكنا، فقال سليمان للناس: ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم. وأخرج الحاكم في المستدرك عن جعفر بن محمد قال: أعطي سليمان ملك مشارق الأرض ومغاربها، فملك سليمان سبعمائة سنة وستة أشهر، ملك أهل الدنيا كلهم من الجن والإنس والدواب والطير والسباع، وأعطي كل شيء، ومنطق كل شيء، وفي زمانه صنعت الصنائع المعجبة، حتى إذا أراد الله أن يقبضه إليه أوحي إليه أن يستودع علم الله وحكمته أخاه، وولد داود كانوا أربعمائة وثمانين رجلاً أنبياء بلا رسالة. قال الذهبي: هذا باطل، وقد رويت قصص في عظم ملك سليمان لا تطيب النفس بذكر شيء منها، فالإمساك عن ذكرها أولى. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "فهم يوزعون" قال يدفعون. وأخرج ابن جرير عنه في قوله: "فهم يوزعون" قال: جعل لكل صنف وزعة ترد أولاها على أخراها لئلا تتقدمه في السير كما تصنع الملوك. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "أوزعني" قال: ألهمني. وأخرج عبد بن حميد عن الحسن مثله. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه من طرق عن ابن عباس أنه سئل كيف تفقد سليمان الهدهد من بين الطير؟ قال: إن سليمان نزل منزلاً فلم يدر ما بعد الماء، وكان الهدهد يدل سليمان على الماء، فأراد أن يسأله عنه ففقده، قيل كيف ذاك والهدهد ينصب له الفخ يلقى عليه التراب ويضع له الصبي الحبالة فيغيبها فيصيده؟ فقال: إذا جاء القضاء ذهب البصر. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله: "لأعذبنه عذاباً شديداً" قال: أنتف ريشه كله، وروي نحو هذا عن جماعة من التابعين، وروى ابن أبي حاتم عن الحسن قال: كان اسم هدهد سليمان غبر. وأقول: من أين جاء علم هذا للحسن رحمه الله، وهكذا ما رواه عنه ابن عساكر أن اسم النملة حرس، وأنها من قبيلة يقال لها بنو الشيطان، وأنها كانت عرجاء، وكانت بقدر الذئب، وهو رحمه الله أورع الناس عن نقل الكذب، ونحن نعلم أنه لم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك شيء، ونعلم أنه ليس للحسن إسناد متصل بسليمان أو بأحد من أصحابه، فهذا العلم مأخوذ من أهل الكتاب، وقد أمرنا أن لا نصدقهم ولا نكذبهم، فإن ترخص مترخص بالرواية عنهم لمثل ما روى حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج فليس ذلك فيما يتعلق بتفسير كتاب الله سبحانه بلا شك، بل فيما عنهم من القصص الواقعة لهم. وقد كررنا التنبيه على مثل هذا عند عروض ذكر التفاسير الغريبة. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "أو ليأتيني بسلطان مبين" قال: خبر الحق الصدق المبين. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن عكرمة قال: قال ابن عباس كل سلطان في القرآن حجة وذكر هذه الآية، ثم قال: وأي سلطان كان للهدهد؟ يعني أن المراد بالسلطان الحجة لا السلطان الذي هو الملك. وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله: "أحطت بما لم تحط به" قال: اطلعت على ما لم تطلع عليه. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً " وجئتك من سبإ " قال: سبأ بأرض اليمن، يقال لها مأرب بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث ليال " بنبإ يقين " قال: بخبر حق. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عنه أيضاً "إني وجدت امرأة تملكهم" قال: كان اسمها بلقيس بنت شراحيل، وكان صلباء شعراء. وروي عن الحسن وقتادة وزهير بن محمد أنها بلقيس بنت شراحيل، وعن ابن جريج بنت ذي شرح. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ في العظمة وابن مردويه وابن عساكر عن ابي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إحدى أبوي بلقيس كان جنياً. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "ولها عرش عظيم" قال: سرير كريم من ذهب وقوائمه من جوهر ولؤلؤ حسن الصنعة غالي الثمن. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله: "يخرج الخبء" قال: يعلم كل خبيئة في السماء والأرض.
جملة 27- "قال سننظر" مستأنفة جواب سؤال مقدر: أي قال سليمان للهدهد: سننظر فيما أخبرتنا به من هذه القصة "أصدقت" فيما قلت "أم كنت من الكاذبين" هذه الجملة الاستفهامية في محل نصب على أنها مفعول سننظر، وأم هي المتصلة، وقوله: "أم كنت من الكاذبين" أبلغ من قوله أم كذبت، لأن المعنى: من الذين اتصفوا بالكذب وصار خلقاً لهم. والنظر هو التأمل والتصفح، وفيه إرشاد إلى البحث عن الأخبار والكشف عن الحقائق، وعدم قبول خبر المخبرين تقليداً لهم واعتماداً عليهم إذا تمكن من ذلك بوجه من الوجوه. ثم بين سليمان هذا النظر الذي وعد به.
فقال: 28- "اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم" أي إلى أهل سبأ. قال الزجاج: في ألقه خمسة أوجه: إثبات الياء في اللفظ وحذفها، وإثبات الكسرة للدلالة عليها، وبضم الهاء وإثبات الواو، وبحذف الواو وإثبات الضمة للدلالة عليها، وبإسكان الهاء. وقرأ بهذه اللغة الخامسة أبو عمرو وحمزة وأبو بكر. وقرأ قالون بكسر الهاء فقط من غير ياء. وروي عن هشام وجهان: إثبات الياء لفظاً وحذفها مع كسرة الهاء. وقرأ الباقون بإثبات الياء في اللفظ، وقوله "بكتابي هذا" يحتمل أن يكون اسم الإشارة صفة للكتاب، وأن يكون بدلاً منه، وأن يكون بياناً له، وخص الهدهد بإرساله بالكتاب لأنه المخبر بالقصة ولكونه رأى منه من مخايل الفهم والعلم ما يقتضي كونه أهلاً للرسالة "ثم تول عنهم" أي تنح عنهم، أمره بذلك لكون التنحي بعد دفع الكتاب من أحسن الآداب التي يتأدب بها رسل الملوك، والمراد التنحي إلى مكان يسمع فيه حديثهم حتى يخبر سليمان بما سمع، وقيل معنى التولي: الرجوع إليه، والأول أولى لقوله: "فانظر ماذا يرجعون" أي تأمر وتفكر فيما يرجع بعضهم إلى بعض من القول وما يتراجعونه بينهم من الكلام.
29- "قالت" أي بلقيس " يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم " في الكلام حذف، والتقدير: فذهب الهدهد فألقاه إليهم، فسمعها تقول: يا أيها المأ إلخ، ووصفت الكتاب بالكريم لكونه من عند عظيم في نفسها إجلالاً لسليمان، وقيل وصفته بذلك لاشتماله على كلام حسن، وقيل وصفته بذلك لكونه وصل إليها مختوماً بخاتم سليمان، وكرامة الكتاب ختمه كما روي ذلك مرفوعاً، ثم بينت ما تضمنه هذا الكتاب.
فقالت: 30- "إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم" أي وإن ما اشتمل عليه من الكلام وتضمنه من القول مفتتح بالتسمية وبعد التسمية.
31- " أن لا تعلوا علي " أي لا تتكبروا كما يفعله جبابرة الملوك، وأن هي المفسرة، وقيل مصدرية، ولا ناهية، وقيل نافية، ومحل الجملة الرفع على أنها بدل من كتاب أو خبر مبتدأ محذوف: أي هو أن لا تعلوا. قرأ الجمهور "إنه من سليمان وإنه" بكسرهما على الاستئناف، وقرأ عكرمة وابن أبي عبلة بفتحها على إسقاط حرف الجر، وقرأ أبي إن من سليمان وإن بسم الله بحذف الضميرين وإسكان النونين على أنها مفسرتان، وقرأ عبد الله بن مسعود إنه لا تغلوا بالغين المعجمة من الغلو، وهو تجاوز الحد في الكبر "وأتوني مسلمين" أي مناقدين للدين مؤمنين بما جئت به.
32- "قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري" الملأ أشراف القوم، والمعنى يا أيها الاشراف أشيروا علي وبينوا لي الصواب في هذا الأمر وأجيبوني بما يقتضيه الحزم، وعبرت عن المشورة بالفتوى لكون في ذلك حل لما أشكل من الأمر عليها، وفي الكلام حذف، والتقدير: فلما قرأت بلقيس الكتاب جمعت أشراف قومها وقالت لهم: يا أيها الملأ إني ألقي إلي، يا أيها الملأ أفتوني، وكرر قالت لمزيد العناية بما قالته لهم، ثم زادت في التأدب واستجلاب خواطرهم ليمحضوها النصح ويشيروا عليها بالصواب فقالت: "ما كنت قاطعة أمراً حتى تشهدون" أي ما كنت مبرمة أمراً من الأمور حتى تحضروا عندي وتشيروا علي.
فـ 33- "قالوا" مجيبين لها " نحن أولو قوة " في العدد والعدة "وأولو بأس شديد" عند الحرب واللقاء، لنا من الشجاعة والنجدة ما نمنع به أنفسنا وبلدنا ومملكتنا، ثم فوضوا الأمر إليها لعلمهم بصحة رأيها وقوة عقلها فقالوا: "والأمر إليك" أي موكول إلى رأيك ونظرك "فانظري ماذا تأمرين" أي تأملي ماذا تأميرنا به فنحن سامعون لأمرك مطيعون له.أس
فلما سمعت تفويضهم الأمر إليها 34- "قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها" أي إذا دخلوا قرية من القرى خربوا مبانيها، وغيروا مغانيها، وأتلفوا أموالها، وفرقوا شمل أهلها "وجعلوا أعزة أهلها أذلة" أي أهانوا أشرافها وحطوا مراتبهم، فصاروا عند ذلك أذلة وإنما يفعلون ذلك لأجل أن يتم لهم الملك وتستحكم لهم الوطأة وتقرر لهم في قلوبهم المهابة. قال الزجاج: أي إذا دخلوها عنوة عن قتال وغلبة، والمقصود من قولها هذا تحذير قومها من مسير سليمان إليهم ودخوله بلادهم، وقد صدقها الله سبحانه فيما قالت فقال سبحانه: "وكذلك يفعلون" أي مثل ذلك الفعل يفعلون. قال ابن الأنباري: الوقف على قوله: "وجعلوا أعزة أهلها أذلة" وقف تام، فقال الله عز وجل تحقيقاً لقولها: "وكذلك يفعلون" وقيل هذه الجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب. ثم لما قدمت لهم هذه المقدمة، وبينت لهم ما في دخول الملوك إلى أرضهم من المفسدة، أوضحت لهم وجه الرأي عندها وصرحت لهم بصوابه.
فقالت: 35- "وإني مرسلة إليهم بهدية" أي إني أجرب هذا الرجل بإرسال رسلي إليه بهدية مشتملة على نفائس الأموال، فإن كان ملكاً أرضيناه بذلك وكفينا أمره، وإن كان نبياً لم يرضه ذلك، لأن غاية مطلبه ومنتهى أربه هو الدعاء إلى الدين فلا ينجينا منه إلا إجابته ومتابعته والتدين بدينه وسلوك طريقته، ولهذا قالت: "فناظرة بم يرجع المرسلون" الفاء للعطف على مرسلة، وبم متعلق بيرجع، والمعنى: إني ناظرة فيما يرجع به رسلي المرسلون بالهدية من قبول أو رد فعاملة بما يقتضيه ذلك، وقد طول المفسرون في ذكر هذه الهدية، وسيأتي في آخر البحث بيان ما هو أقرب ما قيل إلى الصواب والصحة.
36- "فلما جاء سليمان" أي فلما جاء رسولها المرسل بالهدية سليمان، والمراد بهذا المضمر الجنس فلا ينافي كونهم جماعة كما يدل عليه قولها: بم يرجع المرسلون وقرأ عبد الله " فلما جاء سليمان " أي الرسل، وجملة "قال أتمدونن بمال" مستأنفة جواب سؤال مقدر والاستفهام للاستنكار: أي قال منكراً لإمدادهم له بالمال مع علو سلطانه وكثرة ماله. وقرأ حمزة بإدغام نون الإعراب في نون الوقاية، والباقون بنونين من غير إدغام، وأما الياء فإن نافعاً وأبا عمرو وحمزة يثبتونها وصلاً ويحذفونها وقفاً، وابن كثير يثبتها في الحالين، والباقون يحذفونها في الحالين. وروي عن نافع أنه يقرأ بنون واحدة "فما آتاني الله خير مما آتاكم" أي ما آتاني من النبوة والملك العظيم والأموال الكثيرة خير مما آتاكم من المال الذي هذه الهدية من جملته. وقرأ أبو عمرو ونافع وحفص "آتاني الله" بياء مفتوحة وقرأ يعقوب بإثباتها في الوقف وحذفها في الوصل، وقرأ الباقون بغير ياء في الوصل والوقف. ثم إنه أضرب عن الإنكار المتقدم فقال: "بل أنتم بهديتكم تفرحون" توبيخاً لهم بفرحهم بهذه الهدية فرح فخر وخيلاء، وأما أنا فلا أفرح بها وليست الدنيا من حاجتي، لأن الله سبحانه قد أعطاني منها ما لم يعطه أحداً من العالمين، ومع ذلك أكرمني بالنبوة. والمراد بهذا الإضراب من سليمان بيان السبب الحامل لهم على الهدية مع الإزراء بهم والحط عليهم.
37- "ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها" أي قال سليمان للرسول: ارجع إليهم: أي إلى بلقيس وقومها، وخاطب المفرد ها هنا بعد خطابه للجماعة فيما قبل، إما لأن الذي سيرجع هو الرسول فقط، أو خص أمير الرسل بالخطاب هنا وخاطبهم معه فيما سبق افتناناً في الكلام. وقرأ عبد الله بن عباس ارجعوا وقيل إن الضمير يرجع إلى الهدهد، واللام في لنأتينهم جواب قسم محذوف. قال النحاس: وسمعت ابن كيسان يقول: هي لام توكيد ولام أمر ولام خفض، وهذا قول الحذاق من النحويين لأنه يردون الشيء إلى أصله، وهذا لا يتهيأ إلا لمن درب في العربية، ومعنى "لا قبل لهم": أي لا طاقة لهم بها ، والجملة في محل جر صفة لجنود " ولنخرجنهم " معطوف على جواب القسم أي : لنخرجنهم من أرضهم التي هم فيها "أذلة" أي حال كونهم أذلة بعد ما كانوا أعزة، وجملة "وهم صاغرون" في محل نصب على الحال، قيل وهي حال مؤكدة لأن الصغار هو الذلة، وقيل إن المراد بالصغار هنا الأسر والاستبعاد، وقيل إن الصغار الإهانة التي تسبب عنها الذلة. ولما رجع الرسول إلى بلقيس تجهزت للمسير إلى سليمان، وأخبر جبريل سليمان بذلك.
فـ 38- "قال" سليمان "يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها" أي عرش بلقيس الذي تقدم وصفه بالعظم "قبل أن يأتوني مسلمين" أي قبل أن تأتيني هي وقومها مسلمين. قيل إنما أراد سليمان أخذ عرشها قبل ان يصلوا إليه ويسلموا، لأنها إذا أسلمت وأسلم قومها لم يحل أخذ أموالهم بغير رضاهم. قال ابن عطية: وظاهر الروايات أن هذه المقالة من سليمان هي بعد مجيء هديتها ورده إياها وبعثه الهدهد بالكتاب، وعلى هذا جمهور المتأولين. وقيل استدعاء العرش قبل وصولها ليريها القدرة التي هي من عند الله ويجعله دليلاً على نبوته، وقيل أراد أن يختبر عقلها ولهذا "قال نكروا لها عرشها" إلخ، وقيل أراد أن يختبر صدق الهدهد في وصفه للعرش بالعظم، والقول الأول هو الذي عليه الأكثر.
39- "قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك" قرأ الجمهور بكسر العين وسكون الفاء وكسر الراء وسكون المثناة التحتية وبالتاء، وقرأ أبو رجاء وعيسى الثقفي وابن السميفع وأبو السمال عفريه بفتح التحتية بعدها تاء تأنيث منقلبة هاء رويت هذه القراءة عن أبي بكر الصديق. وقرأ أبو حيان بفتح العين. والعفريت المارد الغليظ الشديد. قال النحاس: يقال للشديد إذا كان معه خبث ودهاء عفر وعفريه وعفريت، وقال قتادة: هو الداهية، وقيل هو رئيس الجن. قال ابن عطية: وقرأت فرقة عفر بكسر العين جمعه على عفار، ومما ورد من أشعار العرب مطابقاً لقراءة الجمهور ما أنشده الكسائي: فقال شيطان لهم عفريت ما لكم مكث ولا تبييت ومما ورد على القراءة الثانية قول ذي الرمة: كأنه كوكب في إثر عفرية مصوب في سواد الليل منقضب ومعنى قول العفريت أنه سيأتي بالعرش إلى سليمان قبل أن يقوم من مجلسه الذي يجلس فيه للحكومة بين الناس "وإني عليه لقوي أمين" إني لقوي على حمله أمين على ما فيه. قيل اسم هذا العفريت كودن ذكره النحاس عن وهب بن منبه وقال السهيلي ذكوان، وقيل اسمه دعوان، وقيل صخر. وقوله: "آتيك" فعل مضارع، وأصله أأتيك بهمزتين، فأبدلت الثانية ألفاً، وقيل هو اسم فاعل.
40- "قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك" قال أكثر المفسرين: اسم هذا الذي عنده علم من الكتاب آصف بن برخيا، وهو من بني إسرائيل، وكان وزيراً لسليمان، وكان يعلم اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى. قال ابن عطية: وقالت فرقة هو سليمان نفسه، ويكون الخطاب على هذا للعفريت: كأن سليمان استبطأ ما قاله العفريت فقال له تحقيراً له "أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك" وقيل هو جبريل، وقيل الخضر والأول أولى. وقد قيل غير ذلك بما لا أصل له. والمراد بالطرف تحريك الأجفان وفتحها للنظر وارتداده انضمامها. وقيل هو معنى المطروف: أي الشيء الذي ينظرهن وقيل هو نفس الجفن عبر به عن سرعة الأمر كما تقول لصاحبك: افعل ذلك في لحظة. قاله مجاهد. وقال سعيد بن جبير: إنه قال لسليمان: انظر إلى السماء فما طرف حتى جاء به، فوضعه بين يديه. والمعنى: حتى يعود إليك طرفك بعد مده إلى السماء، والأول أولى هذه الأقوال. ثم الثالث "فلما رآه مستقراً عنده" قيل في الآية حذف، والتقدير: فأذن له سليمان فدعا الله فأتى به، فلما رآه سليمان مستقراً عنده: أي رأى العرش حاضراً لديه "قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر" الإشارة بقوله هذا إلى حضور العرش، ليبلوني: أي ليختبرني أشكره بذلك وأعترف أنه من فضله من غير حول مني ولا قوة أم أكفر بترك الشكر وعدم القيام به. قال الأخفش: المعنى لينظر أأشكر أم أكفر، وقال غيره: معنى ليبلوني ليتعبدني، وهو مجاز، والأصل في الابتلاء الاختبار "ومن شكر فإنما يشكر لنفسه" لأنه استحق بالشكر تمام النعمة ودوامها، والمعنى: أنه لا يرجع نفع ذلك إلا إلى الشاكر "ومن كفر" بترك الشكر "فإن ربي غني" عن شكره "كريم" في ترك المعاجلة بالعقوبة بنزع نعمه عنه وسلبه ما أعطاه منها، وأم في أم أكفر هي المتصلة. وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم" يقول: كن قريباً منهم "فانظر ماذا يرجعون" فانطلق بالكتاب حتى إذا توسط عرشها ألقى الكتاب أليها فقرئ عليها فإذا فيه إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم. وأخرج ابن مردويه عنه " كتاب كريم " قال: مختوم. وأخرج ابن أبي حاتم عن ميمون بن مهران أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكتب باسمك اللهم حتى نزلت "إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم". وأخرج أبو داود في مراسيله عن أبي مالك مرفوعاً مثله. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "أفتوني في أمري" قال: جمعت رؤوس مملكتها فشاورتهم في رأيها، فأجمع رأيهم ورأيها على أن يغزوه، فسارت حتى إذا كانت قريبة قالت: أرسل إليه بهدية فإن قبلها فهو ملك أقاتله، وأن ردها تابعته فهو نبي، فلما دنت رسلها من سليمان علم خبرهم، فأمر الشياطين فموهوا ألف قصر من ذهب وفضة، فلما رأت رسلها قصور الذهب قالوا: ما يصنع هذا بهديتنا وقصوره ذهب وفضة، فلما دخلوا عليه بهديتها "قال أتمدونن بمال" ثم قال سليمان "أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين" فقال كاتب سليمان: ارفع بصرك فرفع بصره، فلما رجع إليه طرفه فإذا هو بسرير "قال نكروا لها عرشها" فنزع منه فصوصه ومرافقه وما كان عليه من شيء فـ "قيل" لها "أهكذا عرشك؟ قالت كأنه هو" وأمر الشياطين فجعلوا لها صرحاً ممدداً من قوارير وجعل فيها تماثيل السمك، فـ "قيل لها ادخلي الصرح" فكشفت عن ساقيها فإذا فيها شعر، فعند ذلك أمر بصنعة النورة فصنعت، فقيل لها: "إنه صرح ممرد من قوارير قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين". وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله: "إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها" قال: إذا أخذوها عنوة أخربوها. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً قال: يقول الرب تبارك وتعالى: "وكذلك يفعلون". وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: "وإني مرسلة إليهم بهدية" قال: أرسلت بلبنة من ذهب، فلما قدموا إذا حيطان المدينة من ذهب فذلك قوله: "أتمدونن بمال" الآية. وقال ثابت البناني أهدت له صفائح الذهب في أوعية الديباج. وقال مجاهد: جواري لباسهن لباس الغلمان وغلمان لباسهم لباس الجواري. وقال عكرمة: أهدت مائتي فرس على كل فرس غلام وجارية، وعلى كل فرس لون ليس على الآخر. وقال سعيد بن جبير: كانت الهدية جواهر، وقيل غير ذلك مما لا فائدة في التطويل بذكره. وأخرج ابن المنذر من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: "قبل أن يأتوني مسلمين" قال: طائعين. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال: اسم العفريت صخر. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً: "قبل أن تقوم من مقامك" قال: من مجلسك. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً "قال الذي عنده علم من الكتاب" قال: هو آصف بن برخيا، وكان صديقاً يعلم الاسم الأعظم. وأخرج أبو عبيد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال في قراءة ابن مسعود قال الذي عنده علم من الكتاب أنا أنظر في كتاب ربي، ثم آتيك به قبل ان يرتد إليك طرفك قال: فتكلم ذلك العالم بكلام دخل العرش في نفق تحت الأرض حتى خرج إليهم. وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس في قوله "قبل أن يرتد إليك طرفك" قال: قال لسليمان انظر إلى السماء، قال: فما اطرف حتى جاءه به فوضعه بين يديه. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن عساكر عن ابن عباس قال: لم يجر عرش صاحبة سبأ بين الأرض والسماء، ولكن انشقت به الأرض، فجرى تحت الأرض حتى ظهر بين يدي سليمان.
قوله: 41- "نكروا لها عرشها" التنكير التغيير، يقول غيروا سريرها إلى حال تنكره إذا رأته. قيل جعل أعلاه أسفله وأسفله أعلاه، وقيل غير بزيادة ونقصان. قال الفراء وغيره: إنما أمر بتنكيره لأن الشياطين قالوا له إن في عقلها شيئاً، فأراد أن يمتحنها، وقيل خافت الجن أن يتزوج بها سليمان، فيولد له منها ولد فيبقون مسخرين لآل سليمان أبداً، فقالوا لسليمان إنها ضعيفة العقل ورجلها كرجل الحمار، وقوله: "ننظر" بالجزم على أنه جواب الأم، وبالجزم قرأ الجمهور، وقرأ أبو حيان بالرفع على الاستئناف "أتهتدي" إلى معرفته، أو إلى الإيمان بالله "أم تكون من الذين لا يهتدون" إلى ذلك.
42- "فلما جاءت" أي بلقيس إلى سليمان "قيل" لها، والقائل هو سليمان، أو غير بأمره "أهكذا عرشك" لم يقل هذا عرشك لئلا يكون ذلك تلقيناً لها فلا يتم الاختبار لعقلها "قالت كأنه هو" قال مجاهد: جعلت تعرف وتنكر وتعجب من حضوره عند سليمان، فقالت: كأنه هو. وقال مقاتل: عرفته ولكنها شبهت عليهم كما شبهوا عليها، ولو قيل لها: أهذا عرشك لقالت نعم. وقال عكرمة: كانت حكيمة، قالت: إن قلت هو هو خشيت أن أكذب، وإن قلت لا خشيت أن أكذب، فقالت: كأنه هو وقيل أراد سليمان أن يظهر لها أن الجن مسخرون له "وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين" قيل هو من كلام بلقيس: أي أوتينا العلم بصحة نبوة سليمان من قبل هذه الآية في العرش وكنا مسلمين مناقدين لأمره. وقيل هو من قول سليمان: أي أوتينا العلم بقدرة الله من قبل بلقيس، وقيل أوتينا العلم بإسلامها ومجيئها طائعة من قبلها: أي من قبل مجيئها، وقيل هو من كلام قوم سليمان. والقول الثاني أرجح من سائر الأقوال.
43- "وصدها ما كانت تعبد من دون الله" هذا من كلام الله سبحانه بيان لما كان يمنعها من إظهار ما ادعته من الإسلام، ففاعل صد هو ما كانت تعبد: أي منعها من إظهار الإيمان ما كانت تعبده، وهي الشمس. قال النحاس: أي صدها عبادتها من دون الله، وقيل فاعل صد هو الله: أي منعها الله ما كانت تعبد من دونه فتكون ما في محل نصب، وقيل الفاعل سليمان: أي ومنعها سليمان ما كانت تعبد، والأول أولى، والجملة مستأنفة للبيان كما ذكرنا، وجملة "إنها كانت من قوم كافرين" تعليل للجملة الأولى: أي سبب تأخرها عن عبادة الله، ومنع ما كانت تعبده عن ذلك أنها كانت من قوم متصفين بالكفر. قرأ الجمهور إنها بالكسر. وقرأ أبو حيان بالفتح. وفي هذه القراءة وجهان: أحدهما أن الجملة بدل مما كانت تعبد. والثاني أن التقدير: لأنها كانت تعبد، فسقط حرف التعليل.
44- "قيل لها ادخلي الصرح". قال أبو عبيدة: الصرح القصر. وقال الزجاج: الصرح الحصن. يقال هذه صرحة الار وقاعتها. قال ابن قتيبة: الصرح بلاط اتخذ لها من قوارير وجعل تحته ماء وسمك. وحكى أبو عبيد في الغريب أن الصرج كل بناء عال مرتفع، وأن الممرد الطويل "فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها" أي فلما رأت الصرح بين يديها حسبت أنه لجة، واللجة معظم الماء، فلذلك كشفت عن ساقيها لتخوض الماء، فلما فعلت ذلك "قال" سليمان " إنه صرح ممرد من قوارير " الممرد المحكوك المملس، ومنه الأمرد، وتمرد الرجل إذا لم تخرج لحيته، قاله الفراء. ومنه الشجرة المرداء التي لا ورق لها. والممرد أيضاً المطول، ومنه قيل للحصن مارد، ومنه قول الشاعر: غدوت صباحاً باكراً فوجدتهم قبيل الضحى في السابري الممرد أي الدروع الواسعة الواسعة الطويلة، فلما سمعت بلقيس ذلك أذعنت واستسلمت، و "قالت رب إني ظلمت نفسي" أي بما كنت عليه من عبادة غيرك، وقيل بالظن الذي توهمته في سليمان، لأنها توهمت أنه أراد تغريقها في اللجة، والأول أولى "وأسلمت مع سليمان" متابعة له داخلة في دينه "لله رب العالمين" التفتت من الخطاب إلى الغيبة، قيل لإظهار معرفتها بالله، والأولى أنها التفتت لما في هذا الاسم الشريف من الدلالة على جميع الأسماء ولكونه علماً للذات. وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "نكروا لها عرشها" قال: زيد فيه ونقص لـ "ننظر أتهتدي" قال: لننظر إلى عقلها فوجدت ثابتة العقل. وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "وأوتينا العلم من قبلها" قال: من قول سليمان. وأخرج ابن أبي حاتم عن زهير بن محمد نحوه. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "فلما رأته حسبته لجة" قال: بحراً. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في أثر طويل أن سليمان تزوجها بعد ذلك. قال أبو بكر بن أبي شيبة: ما أحسنه من حديث. قال ابن كثير في تفسيره بعد حكايته لقول أبي بكر بن أبي شيبة: بل هو منكر جداً، ولعله من أوهام عطاء بن السائب على ابن عباس، والله أعلم. والأقرب في مثل هذه السياقات أنها متلقاة عن أهل الكتاب بما يوجد في صحفهم كروايات كعب ووهب سامحهما الله فيما نقلا إلى هذه الأمة من بني إسرائيل من الأوابد والغرائب والعجائب مما كان ومما لم يكن ومما حرف وبدل ونسخ انتهى، وكلامه هذا هو شعبة مما قد كررناه في هذا التفسير ونبهنا عليه في عدة مواضع، وكنت أظن أنه لم ينبه على ذلك غيري. فالحمد لله على الموافقة لمثل هذا الحافظ المنصف. وأخرج البخاري في تاريخه والعقيلي عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أول من صنعت له الحمامات سليمان" وروي عنه مرفوعاً من طريق أخرى رواها الطبراني وابن عدي في الكامل والبيهقي في الشعب بلفظ "أول من دخل الحمام سليمان فلما وجد حره قال أوه من عذاب الله".
قوله: 45- "ولقد أرسلنا" معطوف على قوله "ولقد آتينا داود" واللام هي الموطئة للقسم، وهذه القصة من جملة بيان قوله "وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم" و "صالحاً" عطف بيان، و "أن اعبدوا الله" تفسير للرسالة وأن هي المفسرة، ويجوز أن تكون مصدرية: أي بأن اعبدوا الله، وإذا في "فإذا هم فريقان" هي الفجائية: أي ففاجئوا التفرق والاختصام، والمراد بالفريقين المؤمنون منهم والكافرون، ومعن الاختصام: أن كل فريق يخاصم على ما هو فيه ويزعم أنه الحق معه، وقيل إن الخصومة بينهم في صالح هل هو مرسل أم لا؟ وقيل أحد الفريقين صالح، والفريق الآخر جميع قومه، وهو ضعيف.
46- "قال يا قوم لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة" أي قال صالح للفريق الكافر منهم منكراً عليهم: لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة؟ قال مجاهد: بالعذاب قبل الرحمة. والمعنى: لم تؤخرون الإيمان الذي يجلب إليكم الثواب وتقدمون الكفر الذي يجلب إليكم العقوبة؟ وقد كانوا لفرط كفرهم يقولون: ائتنا يا صالح بالعذاب "لولا تستغفرون الله" هلا تستغفرون الله وتتوبون إليه من الشرك "لعلكم ترحمون" رجاء أن ترحموا أو كي ترحموا فلا تعذبوا، فإن استعجال الخير أولى من استعجال الشر، ووصف العذاب بأنه سيئة مجازاً، إما لأن العقاب من لوازمه، أو لأنه يشبهه في كونه مكروهاً.
فكان جوابهم عليه بعد هذا الإرشاد الصحيح والكلام اللين أنهم 47- "قالوا اطيرنا بك وبمن معك" أصله تطيرنا، وقد قرئ بذلك، والتطير التشاؤم: أي تشاءمنا بك وبمن معك ممن أجابك ودخل في دينك، وذلك لأنه أصابهم قحط فتشاءموا بصالح، وقد كانت العرب أكثر الناس طيرة وأشقاهم بها وكانوا إذا أرادوا سفراً أو أمراً من الأمور نفروا طائراً من وكره فإن طار يمنة ساروا وفعلوا ما عزموا عليه، وإن طار يسرة تركوا ذلك فلما قالوا ذلك "قال" لهم صالح "طائركم عند الله" أي ليس ذلك بسبب الطائر الذي تتشاءمون به، بل سبب ذلك عند الله، هو ما يقدره عليكم والمعنى أن الشؤم الذي أصابكم هو من عند الله بسبب كفركم، وهذا كقوله تعالى: "يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله"، ثم أوضح لهم سبب ما هم فيه بأوضح بيان، فقال: "بل أنتم قوم تفتنون" أي تمتحنون وتختبرون وقيل تعذبون بذنوبكم، وقيل يفتنكم غيركم، وقيل يفتنكم الشيطان بما تقعون فيه من الطيرة أو بما لأجله تطيرون فأضرب عن ذكر الطائر إلى ما هو السبب الداعي إليه.
48- "وكان في المدينة" التي في صالح، وهو الحجر "تسعة رهط" أي تسعة رجال من أبناء الأشراف، والرهط اسم للجماعة، فكأنهم كانوا رؤساء يتبع كل واحد منهم جماعة، والجمع أرهط وأراهط، وهؤلاء التسعة هم أصحاب قدار عاقر الناقة، ثم وصف هؤلاء بقوله: "يفسدون في الأرض ولا يصلحون" أي شأنهم وعملهم الفساد في الأرض الذي لا يخالطه صلاح، وقد اختلف في أسماء هؤلاء التسعة اختلافاً كثيراً لا حاجة إلى التطويل بذكره.
49- "قالوا تقاسموا بالله" أي قال بعضهم لبعض: احلفوا بالله، هذا على أن تقاسموا فعل أمر، ويجوز أن يكون فعلاً ماضياً مفسراً لقالوا: كأنه قيل ما قالوا. فقال تقاسموا، أو يكون حالاً على إضمار قد: أي قالوا ذلك متقاسمين، وقرأ ابن مسعود يفسدون في الأرض ولا يصلحون تقاسموا بالله وليس فيها قالوا، واللام في "لنبيتنه وأهله" جواب القسم: أي لنأتينه بغتة في وقت البيات، فنقتله وأهله "ثم لنقولن لوليه" قرأ الجمهور بالنون للمتكلم في "لنبيتنه" وفي "لنقولن"، واختار هذه القراءة أبو حاتم وقرأ حمزة والكسائي بالفوقية فيهما على خطاب بعضهم لبعض، واختار هذه القراءة أبو عبيد، وقرأ مجاهد وحميد بالتحتية فيهما، والمراد بولي صالح رهطه "ما شهدنا مهلك أهله" أي ما حضرنا قتلهم ولا ندري من قتله وقتل أهله، ونفيهم لشهودهم لمكان الهلاك يدل على نفي شهودهم لنفس القتل بالأولى، وقيل إن المهلك بمعنى الإهلاك وقرأ حفص والسلمي مهلك بفتح الميم واللام، وقرأ أبو بكر والمفضل بفتح الميم وكسر اللام "وإنا لصادقون" فيما قلناه قال الزجاج: وكان هؤلاء النفر تحالفوا أن يبيتوا صالحاً وأهله ثم ينكروا عند أوليائه أنهم ما فعلوا ذلك ولا رأوه وكان هذا مكراً منهم.
ولهذا قال الله سبحانه 50- "ومكروا مكراً" أي بهذه المحالفة "ومكرنا مكراً" جازيناهم بفعلهم فأهلكناهم "وهم لا يشعرون" بمكر الله بهم.
51- "فانظر كيف كان عاقبة مكرهم" أي انظر ما انتهى إليه أمرهم الذي بنوه على المكر وما أصابهم بسببه "أنا دمرناهم وقومهم أجمعين" قرأ الجمهور بكسر همزة "إنا"، وقرأ حمزة والكسائي والأعمش والحسن وابن أبي إسحاق وعاصم بفتحها، فمن كسر جعله استئنافاً. قال الفراء والزجاج: من كسر استأنف، وهو يفسر به ما كان قبله، كأنه جعله تابعاً للعاقبة، كأنه قال: العاقبة إنا دمرناهم، وعلى قراءة الفتح يكون التقدير بأنا دمرناهم أو لأنا دمرناهم، وكان تامة وعاقبة فاعل لها، أو يكون بدلاً من عاقبة، أو يكون خبر مبتدأ محذوف: أي هي أنا دمرناهم ويجوز أن تكون كان ناقصة وكيف خبرها، ويجوز أن يكون خبرها أنا دمرنا. قال أبو حاتم: وفي حرف أبي أن دمرناهم. والمعنى في الآية: أن الله دمر التسعة الرهط المذكورين، ودمر قومهم الذين لم يكونوا معهم عند مباشرتهم لذلك، ومعنى التأكيد بأجمعين أنه لم يشذ منهم أحد ولا سلم من العقوبة فرد من أفرادهم.
وجملة 52- "فتلك بيوتهم خاوية" مقررة لما قبلها. قرأ الجمهور "خاويةً" بالنصب على الحال. قال الزجاج: المعنى فانظر إلى بيوتهم حال كونها خاوية، وكذا قال الفراء والنحاس: أي خالية عن أهلها خراباً ليس بها ساكن. وقال الكسائي وأبو عبيدة: نصب خاوية على القطع، والأصل فتلك بيوتهم الخاوية، فلما قطع منها الألف واللام نصبت كقوله: "وله الدين واصباً" وقرأ عاصم بن عمر ونصر بن عاصم والجحدري وعيسى بن عمر برفع خاوية على أنه خبر اسم الإشارة وبيوتهم بدل، أو عطف بيان، أو خبر لاسم الإشارة وخاوية خبر آخر، والباء في "بما ظلموا" للسببية: أي بسبب ظلمهم "إن في ذلك" التدمير والتأهيل "لآية" عظيمة "لقوم يعلمون" أي يتصفون بالعلم بالأشياء.
53- "وأنجينا الذين آمنوا" وهم صالح ومن آمن به "وكانوا يتقون" الله ويخافون عذابه. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس "طائركم" قال: مصائبكم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله: "وكان في المدينة تسعة رهط" قال: هم الذين عقروا الناقة وقالوا حين عقروها: نبيت صالحاً وأهله فنقلتهم، ثم نقول لأولياء صالح: ما شهدنا من هذا شيئاً وما لنا به علم فدمرهم الله أجمعين.
انتصاب لوطاً: بفعل مضمر معطوف على أرسلنا: أي وأرسلنا لوطاً، و 54- "إذ قال" ظرف للفعل المقدر ويجوز أن يقدر أذكر، والمعنى: وأرسلنا لوطاً وقت قوله: "لقومه أتأتون الفاحشة" أي الفعلة المتناهية في القبح والشناعة، وهم أهل سدوم، وجملة "وأنتم تبصرون" في محل نصب على الحال متضمنة لتأكيد الإنكار: أي وأنتم تعلمون أنها فاحشة. وذلك أعظم لذبوبكم، على أن تبصرون من بصر القلب، وهو العلم، أو بمعنى النظر، لأنهم كانوا لا يستترون حال فعل الفاحشة عتواً وتمرداً، وقد تقدم تفسير هذه القصة في الأعراف مستوفى.
55- " أإنكم لتأتون الرجال شهوة " فيه تكرير للتوبيخ مع التصريح بأن تلك الفاحشة هي اللواطة، وانتصاب شهوة على العلة: أي للشهوة، أو على أنه صفة لمصدر محذوف: أي إتياناً شهوة، أو أنه بمعنى الحال: أي مشتهين لهم "من دون النساء" أي متجاوزين النساء اللاتي هن محل لذلك "بل أنتم قوم تجهلون" التحريم أو العقوبة على هذه المعصية، واختار الخليل وسيبويه تخفيف الهمزة من أإنكم.
56- " فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون " قرأ الجمهور بنصب جواب على أنه خبر كان، واسمها إلا أن قالوا: أي إلا قولهم. وقرأ ابن أبي إسحاق برفع جواب على أنه اسم كان وخبرها ما بعده، ثم عللوا ما أمروا به بعضهم بعضاً من الإخراج بقولهم: إنهم أناس يتطهرون: أي يتنزهون عن أدبار الرجال: قالوا ذلك استهزاءً منهم بهم.
"فأنجيناه وأهله" من العذاب "إلا امرأته قدرناها من الغابرين" أي قدرنا أنها من الباقين في العذاب، ومعنى قدرنا قضينا قرأ الجمهور "قدرنا" بالتشديد، وقرأ عاصم بالتخفيف. والمعنى واحد مع دلالة زيادة البناء على زيادة المعنى.
58- "وأمطرنا عليهم مطراً" هذا التأكيد يدل على شدة المطر وأنه غير معهود "فساء مطر المنذرين" المخصوص بالذم محذوف: أي ساء مطر المنذرين مطرهم، والمراد بالمنذرين الذين أنذروا فلم يقبلوا، وقد مضى بيان هذا كله في الأعراف والشعراء.
59- "قل الحمد لله وسلام على عباده" قال الفراء: قال أهل المعاني: قيل للوط قل الحمد لله على هلاكهم، وخالفه جماعة فقالوا: إن هذا خطاب نبينا صلى الله عليه وسلم: أي قيل الحمد لله على هلاك كفار الأمم الخالية، وسلام على عباده "الذين اصطفى" قال النحاس: وهذا أولى لأن القرآن منزل على النبي صلى الله عليه وسلم وكل ما فيه فهو مخاطب به إلا ما لم يصح معناه إلا لغيره. قيل والمراد بعباده الذين اصطفى: أمة محمد صلى الله عليه وسلم، والأولى حمله على العموم، فيدخل في ذلك الأنبياء وأتباعهم " آلله خير أما يشركون " أي الله الذي ذكرت أفعاله وصفاته الدالة على عظيم قدرته خير أما يشركون به من الأصنام، وهذه الخيرية ليست بمعناها الأصلي، بل هي كقول الشاعر: أتهجوه ولست له بكفء فشركما لخيركما الفداء فيكون ما في الآية من باب التهكم بهم، إذ لا خير فيهم أصلاً. وقد حكى سيبويه أن العرب تقول: السعادة أحب إليك أم الشقاوة، ولا خير في الشقاوة أصلاً. وقيل المعنى: أثواب الله خير، أم عقاب ما تشركون به؟ وقيل: قال لهم ذلك جرياً على اعتقادهم، لأنهم كانوا يعتقدون أن في عبادة الأصنام خيراً. وقيل المراد من هذا الاستفهام الخبر. قرأ الجمهور "تشركون" بالفوقية على الخطاب، وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم. وقرأ أبو عمرو وعاصم ويعقوب "يشركون" بالتحتية، و أم في أما يشركون هي المتصلة.
60- "أمن خلق السموات والأرض" فهي المنقطعة. وقال أبو حاتم: تقديره أآلهتكم خير أم من خلق السموات والأرض وقدر على خلقهن؟ وقيل المعنى: أعبادة ما تعبدون من أوثانكم خير، أم عبادة من خلق السموات والأرض؟ فتكون أم على هذا متصلة وفيها معنى التوبيخ والتهكم كما في الجملة الأولى. وقرأ الأعمش أمن بتخفيف الميم "وأنزل لكم من السماء ماء" أي نوعاً من الماء، وهو المطر "فأنبتنا به حدائق" جمع حديقة. قال الفراء: الحديقة البستان الذي عليه حائط، فإن لم يكن عليه حائط فهو البستان وليس بحديقة. وقال قتادة وعكرمة: الحدائق النخل "ذات بهجة" أي ذات حسن ورونق. والبهجة: هي الحسن الذي يبتهج به من رآه ولم يقل ذوات بهجة على الجمع، ومعنى هذا النفي الحظر والمعنى من فعل هذا: أي ما كان للبشر ولا يتهيأ لهم ذلك ولا يدخل تحت مقدرتهم لعجزهم عن إخراج الشيء من العدم إلى الوجود. ثم قال سبحانه موبخاً لهم ومقرعاً " أإله مع الله " أي هل معبود مع الله الذي تقدم ذلك بعض أفعاله حتى يقرن به ويجعل شريكاً له في العبادة، وقرئ ءإلهاً مع الله بالنصب على تقدير: أتدعون إلهاً. ثم أضرب عن تقريعهم وتوبيخهم بما تقدم وانتقل إلى بيان سوء حالهم مع الالتفات من الخطاب إلى الغيبة فقال "بل هم قوم يعدلون" أي يعدلون بالله غيره، أو يعدلون عن الحق إلى الباطل، ثم شرع في الاستدلال بأحوال الأرض وما عليها.
فقال: 61- "أمن جعل الأرض قراراً" القرار المستقر: أي دحاها وسواها بحيث يمكن الاستقرار عليها. وقيل هذه الجملة وما بعدها من الجمل الثلاث بدل من قوله أمن خلق السموات والأرض ولا ملجئ لذلك، بل هي وما بعدها إضراب وانتقال من التوبيخ والتقريع بما قبلها إلى التوبيخ والتقريع بشيء آخر "وجعل خلالها أنهاراً" الخلال: الوسط. وقد تقدم تحقيقه في قوله: "وفجرنا خلالهما نهراً"، "وجعل لها رواسي" أي جبالاً ثوابت تمسكها وتمنعها من الحركة "وجعل بين البحرين حاجزاً" الحاجز: المانع: أي جعل بين البحرين من قدرته حاجزاً، والبحران هما العذب والمالح، فلا يختلط أحدهما بالآخر فلا هذا يغير ذاك ولا ذاك يدخل في هذا، وقد مر بيانه في سورة الفرقان " أإله مع الله " أي إذا ثبت أنه لا يقدر على ذلك إلا الله فهل إله في الوجود يصنع صنعه ويخلق خلقه؟ فكيف يشركون به ما لا يضر ولا ينفع "بل أكثرهم لا يعلمون" توحيد ربهم وسلطان قدرته.
62- " أمن يجيب المضطر إذا دعاه " هذا استدلال منه سبحانه بحاجة الإنسان إليه على العموم، والمضطر اسم مفعول من الاضطرار: وهو المكروب المجهود الذي لا حول له ولا قوة. وقيل هو المذنب، وقيل هو الذي عراه ضر من فقر أو مرض، فألجأه إلى التضرع إلى الله. واللام في المضطر للجنس لا للاستغراق، فقد لا يجاب دعاء بعض المضطرين لمانع يمنع من ذلك بسبب يحدثه العبد يحول بينه وبين إجابة دعائه، وإلا فقد ضمن الله سبحانه إجابة دعاء المضطر إذا دعاه، وأخبر بذلك عن نفسه، والوجه في إجابة دعاء المضطر أن ذلك الاضطرار الحاصل له يتسبب عنه الإخلاص وقطع النظر عما سوى الله، وقد أخبر الله سبحانه بأنه يجيب دعاء المخلصين له الدين وإن كانوا كافرين فقال: "حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين" وقال: "فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون" فأجابهم عند ضرورتهم وأخلاصهم مع علمه بأنهم سيعودون إلى شركهم "ويكشف السوء" أي الذي يسوء العبد من غير تعيين، وقيل هو الضر، وقيل هو الجور " ويجعلكم خلفاء الأرض " أي يخلف كل قرن منكم القرن الذي قبله بعد انقراضهم، والمعنى: يهلك قرناً وينشئ آخرين، وقيل يجعل أولادكم خلفاً منكم، وقيل يجعل المسلمين خلفاً من الكفار ينزلون أرضهم وديارهم " أإله مع الله " الذي يوليكم هذه النعم الجسام "قليلاً ما تذكرون" أي تذكراً قليلاً ما تذكرون. قرأ الجمهور بالفوقية على الخطاب. وقرأ أبو عمرو وهشام ويعقوب بالتحتية على الخبر رداً على قوله بل أكثرهم لا يعلمون واختار هذه القراءة أبو حاتم.
63- "أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر" أي يرشدكم في الليالي المظلمات إذا سافرتم في البر أو البحر. وقيل المراد: مفاوز البر التي لا أعلام لها ولجج البحار، وشبهها بالظلمات لعدم ما يهتدون به فيها " ومن يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته " والمراد بالرحمة هنا المطر: أي يرسل الرياح بين يدي المطر، وقبل نزوله " أإله مع الله " يفعل ذلك ويوجده "تعالى الله عما يشركون" أي تنزه وتقدس عن وجود ما يجعلونه شريكاً له.
64- " أمن يبدأ الخلق ثم يعيده " كانوا يقرون بأن الله سبحانه هو الخالق فألزمهم الإعادة: أي إذا قدر على الابتداء قدر على الإعادة "ومن يرزقكم من السماء والأرض" بالمطر والنبات: أي هو خير أم ما تجعلونه شريكاً له مما لا يقدر على شيء من ذلك " أإله مع الله " حتى تجعلونه شريكاً له "قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين" أي حجتكم على أن لله سبحانه شريكاً، أو هاتوا حجتكم أن ثم صانعاً يصنع كصنعه، وفي هذا تبكيت لهم وتهكم بهم.
65- "قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله" أي لا يعلم أحد من المخلوقات الكائنة في السموات والأرض الغيب الذي استأثر الله بعلمه، والاستثناء في قوله إلا الله منقطع: أي لكن الله يعلم ذلك، ورفع ما بعد إلا مع كون الاستثناء منقطعاً هو على اللغة التميمية كما في قولهم: إلا اليعافير وإلا العيس وقيل إن فاعل يعلم هو ما بعد إلا، ومن في السموات مفعوله، والغيب بدل من من: وقال الزجاج: إلا الله بدل من من. قال الفراء: وإنما رفع ما بعد إلا لأن ما بعدها خبر كقولهم ما ذهب أحداً إلا أبوك وهو كقول الزجاج. قال الزجاج: ومن نصب نصب على الاستثناء "وما يشعرون أيان يبعثون" أي لا يشعرون متى ينشرون من القبور، وأيان مركبة من أي وإن. وقد تقدم تحقيقه، والضمير للكفرة. وقرأ السلمي إيان بكسر الهمزة، وهي لغة بني سليم وهي منصوبة بيبعثون ومعلقة بيشعرون، فتكون هي وما بعدها في محل نصب بنزع الخافض: أي وما يشعرون بوقت بعثهم، ومعنى أيان معنى متى.
66- "بل ادارك علمهم في الآخرة". قرأ الجمهور "ادارك" وأصل ادارك تدارك أدغمت التاء في الدال وجيء بهمزة الوصل ليمكن الابتداء بالساكن. وقرأ أبو جعفر وابن كثير وأبو عمرو وحميد " بل ادارك " من الإدراك. وقرأ عطاء بن يسار وسليمان بن يسار والأعمش بل ادرك بفتح لام بل وتشديد الدال. وقرأ ابن محيصن بل أدراك على الاستفهام. وقرأ ابن عباس وأبو رجاء وشيبة والأعمش والأعرج بلى أدارك بإثبات الياء في بل وبهمزة قطع وتشديد الدال. وقرأ أبي بل تدارك ومعنى الآية: بل تكامل علمهم في الآخرة لأنهم رأوا كل ما وعدوا به وعاينوه. وقيل معناه: تتابع علمهم في الآخرة والقراءة الثانية معناها كل علمهم في الآخرة مع المعاينة وذلك حين لا ينفعهم العلم لأنهم كانوا في الدنيا مكذبين. وقال الزجاج: إنه على معنى الإنكار، واستدل على ذلك بقوله فيما بعد "بل هم منها عمون" أي لم يدرك علمهم علم الآخرة، وقيل المعنى: بل ضل وغاب علمهم في الآخرة فليس لهم علم ومعنى القراءة الثالثة كمعنى القراءة الأولى فافتعل وتفاعل قد يجيئان لمعنى، والقراءة الرابعة هي بمعنى الإنكار. قال الفراء: وهو وجه حسن كأنه وجهه إلى المكذبين على طريق الاستهزاء بهم، وفي الآية قراءات أخر لا ينبغي الاشتغال بذكرها وتوجيهها "بل هم في شك منها" أي بل هم اليوم في الدنيا في شك من الآخرة، ثم أضرب عن ذلك إلى ما هو أشد منه فقال: "بل هم منها عمون" فلا يدركون شيئاً من دلائلها لاختلال بصائرهم التي يكون بها الإدراك، وعمون جمع عم: وهو من كان أعمى القلب، والمراد بيان جهلهم بها على وجه لا يهتدون إلى شيء مما يوصل إلى العلم بها، فمن قال: أن معنى الآية الأولى أعني بل ادارك علمهم في الآخرة أنه كمل علمهم وتم مع المعاينة فلا بد من حمل قوله بل هم في شك إلخ على ما كانوا عليه في الدنيا، ومن قال: إن معنى الآية الأولى الاستهزاء بهم والتبكيت لهم لم يحتج إلى تقييد قوله بل هم في شك إلخ بما كانوا عليه في الدنيا. وبهذا يتضح معنى هذه الآيات ويظهر ظهوراً بيناً. وقد أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد والبزار وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وسلام على عباده الذين اصطفى". قال: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم اصطفاهم الله لنبيه، وروي مثله عن سفيان الثوري. والأولى ما قدمناه من التعميم فيدخل في ذلك أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم دخولاً أولياً. وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي والطبراني " عن رجل من بلجهم قال قلت يا رسول الله إلى ما تدعو؟ قال: أدعوا الله وحده الذي إن مسك ضر فدعوته كشفه عنك" هذا طرف من حديث طويل. وقد رواه أحمد من وجه آخر فبين اسم الصحابي فقال: حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا يونس، حدثنا عبيد بن عبيدة الهجيمي عن أبيه عن أبي تميمة الهجيمي عن جابر بن سليم الهجيمي. ولهذا الحديث طرق عند أبي داود والنسائي. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث عائشة قالت ثلاثة من تكلم بواحدة منهم فقد أعظم على الله الفرية، والله تعالى يقول: "قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس "بل ادارك علمهم في الآخرة" قال: حين لا ينفع العلم. وأخرج أبو عبيد في فضائله وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عنه أنه قرأ " بل ادارك علمهم في الآخرة " قال: لم يدرك علمهم. قال أبو عبيد: يعني أنه قرأها بالاستفهام. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً "بل ادارك علمهم في الآخرة" يقول: غاب علمهم.
لما ذكر سبحانه أن المشرحكين في شك من البعث وأنهم عمون عن النظر في دلائله أراد أن يبين غاية شبههم وهي مجرد استبعاد إحياء الأموات بعد صيرورتهم تراباً فقال: 67- " وقال الذين كفروا أإذا كنا ترابا وآباؤنا أإنا لمخرجون " والعامل في إذا محذوف دل عليه مخرجون تقديره أنبعث أو نخرج إذا كنا، وإنما لم يعمل فيه مخرجون لتوسط همزة الاستفهام وإن ولام الابتداء بينهما، قرأ أبو عمرو باستفهامين إلا أنه خفف الهمزة. وقرأ عاصم وحمزة باستفهامين، إلا أنهم حققا الهمزتين. وقرأ نافع بهمزة، وقرأ ابن عامر وورش ويعقوب " أإذا " بهمزتين "وإننا" بنونين على الخبر، ورجح أبو عبيد قراءة نافع، ورد على من جمع بين استفهامين، ومعنى الآية: أنهم استنكروا واستبعدوا أن يخرجوا من قبورهم أحياء بعد أن قد صاروا تراباً.
ثم أكدوا ذلك الاستبعاد بما هو تكذيب للبعث فقالوا: "لقد وعدنا هذا" يعنون البعث "نحن وآباؤنا من قبل" أي من قبل وعد محمد لنا، والجملة مستأنفة مسوقة لتقرير الإنكار مصدرة بالقسم لزيادة التقرير "إن هذا" الوعد بالبعث "إلا أساطير الأولين" أحاديثهم وأكاذيبهم الملفقة، وقد تقدم تحقيق معنى الأساطير في سورة المؤمنون، ثم أوعدهم سبحانه على عدم قبول ما جاءت به الأنبياء من الإخبار بالبعث، فأمرهم بالنظر في أحوال الأمم السابقة المكذبة للأنبياء وما عوقبوا به وكيف كانت عاقبتهم.
فقال: 69- " قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين " بما جاءت به الأنبياء من الإخبار بالبعث، ومعنى النظر هو مشاهدة آثارهم بالبصر فإن في المشاهدة زيادة اعتبار. وقيل المعنى: فانظروا بقلوبكم وبصائركم كيف كان عاقبة المكذبين لرسلهم، والأولى أولى لأمرهم بالسير في الأرض.
70- "ولا تحزن عليهم" لما وقع منهم من الإصرار على الكفر "ولا تكن في ضيق" الضيق: الحرج، يقال ضاق الشيء ضيقاً بالكسر قرئ بهما، وهما لغتان. قال ابن السكيت: يقال في صدر فلان ضيق وضيق وهو ما تضيق عنه الصدور. وقد تقدم تفسير هذه الآية في آخر سورة النحل.
71- "ويقولون متى هذا الوعد" أي بالعذاب التي تعدنا به "إن كنتم صادقين" في ذلك.
72- "قل عسى أن يكون ردف لكم" يقال ردفت الرجل وأردفته إذا ركبت خلفه وردفه إذا أتبعه وجاء في أثره، والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء الكفار عسى أن يكون هذا العذاب الذي به توعدون تبعكم ولحقكم، فتكون اللام زائدة للتأكيد، أو بمعنى اقترب لكم ودنا لكم، فتكون غير زائدة. قال ابن شجرة: معنى ردف لكم تبعكم، قال ومنه ردف المرأة لأنه تبع لها من خلفها، ومنه قول أبي ذؤيب: عاد السواد بياضاً في مفارقه لا مرحبا ببياض الشيب إذ ردفا قال الجوهري: وأردفه لغة في ردفه مثل تبعه وأتبعه بمعنى. قال خزيمة بن مالك بن نهد: إذا الجوزاء أردفت الثريا ظننت بآل فاطمة الظنونا قال الفراء: ردف لكم: دنا لكم ولهذا قيل لكم. وقرأ الأعرج ردف لكم بفتح الدال وهي لغة والكسر أشهر. وقرأ ابن عباس أزف لكم وارتفاع "بعض الذي تستعجلون" أي على أنه فاعل ردف، والمراد بعض الذي تستعجلونه من العذاب: أي عسى أن يكون قد قرب ودنا وأزف بعض ذلك، قيل هو عذابهم بالقتل يوم بدر، وقيل هو عذاب القبر.
ثم ذكر سبحانه فضله في تأخير العذاب فقال: 73- "وإن ربك لذو فضل على الناس" في تأخير العقوبة، والأولى أن تحمل الآية على العموم ويكون تأخير العقوبة من جملة أفضاله سبحانه وإنعامه "ولكن أكثرهم لا يشكرون" فضله وإنعامه ولا يعرفون حق إحسانه، ثم بين أنه مطلع على ما في صدورهم.
فقال: 74- " وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم " أي ما تخفيه. قرأ الجمهور تكن بضم التاء من أكن. وقرأ ابن محيصن وابن السميفع وحميد بفتح التاء وضم الكاف، يقال كننته بمعنى سترته وخفيت أثره "وما يعلنون" وما يظهرون من أقوالهم وأفعالهم.
75- "وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين" قال المفسرون: ما من شيء غائب وأمر يغيب عن الخلق في السماء والأرض إلا في كتاب مبين إلا هو مبين في اللوح المحفوظ، وغائبة هي من الصفات والتاء للمبالغة. قال الحسن: الغائبة هنا هي القيامة. وقال مقاتل: علم ما يستعجلون من العذاب هو مبين عند الله وإن غاب عن الخلق. وقال ابن شجرة: الغائبة هنا جميع ما أخفى الله عن خلقه وغيبه عنهم مبين في أم الكتاب، فكيف يخفى عليه شيء من ذلك، ومن جملة ذلك ما يستعجلونه قبل أجله المضروب له؟.
76- "إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون" وذلك لأن أهل الكتاب تفرقوا وتحزبوا أحزاباً يطعن بعضهم على بعض ويتبرأ بعضهم من بعض، فنزل القرآن مبيناً لما اختلفوا فيه من الحق، فلو أخذوا به لوجدوا فيه ما يرفع اختلافهم ويدفع تفرقهم.
77- "وإنه لهدى ورحمة للمؤمنين" أي وإن القرآن لهدى ورجمة لمن آمن بالله وتابع رسوله، وخص المؤمنين لأنهم المنتفعون به، ومن جملتهم من آمن من بني إسرائيل.
78- "إن ربك يقضي بينهم بحكمه" أي يقضي بين المختلفين من بني إسرائيل بما يحكم به من الحق فيجازي المحق ويعاقب المبطل، وقيل يقضي بينهم في الدنيا فيظهر ما حرفوه. قرأ الجمهور "بحكمه" بضم الحاء وسكون الكاف. وقرأ جناح بكسرها وفتح الكاف جمع حكمة "وهو العزيز العليم" العزيز الذي لا يغالب، والعليم بما يحكم به، أو الكثير العلم.
ثم أمره سبحانه بالتوكل وقلة المبالاة، فقال: 79- "فتوكل على الله" والفاء لترتيب الأمر على ما تقدم ذكره، والمعنى: فوض إليه أمرك واعتمد عليه فإنه ناصرك. ثم علل ذلك بعلتين: الأولى قوله: "إنك على الحق المبين" أي الظاهر، وقيل المظهر.
والعلة الثانية قوله: 80- "إنك لا تسمع الموتى" لأنه إذا علم أن حالهم كحال الموتى في انتفاء الجدوى بالسماع أو كحال الصم الذين لا يسمعون ولا يفهمون ولا يهتدون صار ذلك سبباً قوياً في عدم الاعتداء بهم، شبه الكفار بالموتى الذين لا حس لهم ولا عقل، وبالصم الذين لا يسمعون المواعظ ولا يجيبون الدعاء إلى الله. ثم ذكر جملة لتكميل التشبيه وتأكيده فقال: "إذا ولوا مدبرين" أي إذا أعرضوا عن الحق إعراضاً تاماً، فإن الأصم لا يسمع الدعاء إذا كان مقبلاً فكيف إذا كان معرضاً عنه مولياً مدبراً. وظاهر نفي إسماع الموتى العموم، فلا يخص منه إلا ما ورد بدليل كما ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم خاطب القتلى في قليب بدر، فقيل له يا رسول الله إنما تكلم أجساداً أرواح لها، وكذلك ما ورد من أن الميت يسمع خفق نعال المشيعين له أذا انصرفوا. وقرأ ابن محيصن وحميد وابن كثير وابن أبي إسحاق "لا يسمع" بالتحتية مفتوحة وفتح الميم، وفاعله "الصم". وقرأ الباقون "تسمع" بضم الفوقية وكسر الميم من أسمع. قال قتادة الأصم إذا ولى مدبراً ثم ناديته لم يسمع، كذلك الكافر لا يسمع ما يدعى إليه من الإيمان.
ثم ضرب العمي مثلاً لهم فقال: 81- "وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم" أي ما أنت بمرشد من أعماه الله عن الحق إرشاداً يوصله إلى المطلوب منه وهو الإيمان، وليس في وسعك ذلك، ومثله قوله: "إنك لا تهدي من أحببت" قرأ الجمهور بإضافة هادي إلى العمي. وقرأ يحيى بن الحارث وأبو حيان بهاد العمي بتنوين هاد. وقرأ حمزة تهدي فعلاً مضارعاً، وفي حرف عبد الله وما أن تهدي العمي "إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا" أي ما تسمع إلا من يؤمن لا من يكفر، والمراد بمن يؤمن بالآيات من يصدق القرآن، وجملة "فهم مسلمون" تعليل للإيمان: أي فهم مناقدون مخلصون. ثم هدد العباد بذكر طرف من أشراط الساعة وأهوالها.
فقال: 82- "وإذا وقع القول عليهم". واختلف في معنى وقوع القول عليهم، فقال قتادة: وجب الغضب عليهم. وقال مجاهد: حق القول عليهم بأنهم لا يؤمنون، وقيل حق العذاب عليهم، وقيل وجب السخط، والمعاني متقاربة. وقيل المراد بالقول ما نطق به القرآن من مجيء الساعة وما فيها من فنون الأهوال التي كانوا يستعجلونها، وقيل وقع القول بموت العلماء وذهاب العلم، وقيل إذا لم يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر. والحاصل أن المراد بوقع وجب، والمراد بالقول مضمونه، أو أطلق المصدر على المفعول: أي المقول، وجواب الشرط "أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم". واختلف في هذه الدابة على أقوال، فقيل إنها فصيل ناقة صالح يخرج عند اقتراب القيامة ويكون من أشراط الساعة. وقيل هي دابة ذات شعر وقوائم طوال يقال لها الجساسة. وقيل هي دابة على خلقة بني آدم وهي في السحاب وقوائمها في الأرض. وقيل رأسها رأس ثور وعينها عين خنزير وأذنها أذن فيل وقرنها قرن إيل، وعنقها عنق نعامة، وصدرها صدر أسد، ولونها لون نمر وخاصرتها خاصرة هر، وذنبها ذنب كبش وقوائمها قوائم بعير، بين كل مفصل ومفصل إثنا عشر ذراعاً. وقيل هي الثعبان المشرف على جدار الكعبة التي اقتلعها العقاب حين أرادت قريش بناء الكعبة، والمراد أنها هي التي تخرج في آخر الزمان وقيل هي دابة ما لها ذنب ولها لحية وقيل هي إنسان ناطق متكلم يناظر أهل البدع ويراجع الكفار، وقيل غير ذلك مما لا فائدة في التطويل بذكره وقد رجح القول الأول القرطبي في تفسيره. واختلف من أي موضع تخرج؟ فقيل من جبل الصفا بمكة، وقيل تخرج من جبل أبي قبيس. وقيل لها ثلاث خرجات: خرجة في بعض البوادي حتى يتقاتل عليها الناس، وتكثر الدماء ثم تكمن، وتخرج في القرى ثم تخرج من أعظم المساجد وأكرمها وأشرفها، وقيل تخرج من بين الركن والمقام، وقيل تخرج في تهامة، وقيل من مسجد الكوفة من حيث فار التنور، وقيل من أرض الطائف، وقيل من صخرة من شعب أجياد، وقيل من صدع في الكعبة. واختلف في معنى قوله تكلمهم فقيل: تكلمهم ببطلان الأديان سوى دين الإسلام وقيل تكلمهم بما يسوؤهم وقيل تكلمهم بقوله تعالى: "أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون" أي بخروجها لأن خروجها من الآيات. قرأ الجمهور تكلمهم من التكليم، ويدل عليه قراءة أبي تنبئهم وقرأ ابن عباس وأبو زرعة وأبو رجاء والحسن: تكلمهم بفتح الفوقية وسكون الكاف من الكلم، وهو الجرح. قال عكرمة: أي تسمهم وسماً، وقيل تجرحهم، وقيل إن قراءة الجمهور مأخوذة من الكلم بفتح الكاف وسكون اللام وهو الجرح، والتشديد للتكثير، قاله أبو حاتم. قرأ الجمهور: " أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون " بكسر إن على الاستئناف، وقرأ الكوفيون وابن أبي إسحاق بفتح "أن" قال الأخفش: المعنى على قراءة الفتح بأن الناس وكذا قرأ ابن مسعود بأن الناس بالباء. وقال أبو عبيد: موضعها نصب بوقوع الفعل عليها: أي تخبرهم أن الناس، وعلى هذه القراءة فالذي تكلم الناس به هو قوله: "أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون" كما قدمنا الإشارة إلى ذلك. وأما على قراءة الكسر فالجملة مستأنفة كما قدمنا، ولا تكون من كلام الدابة. وقد صرح بذلك جماعة من المفسرين، وجزم به الكسائي والفراء. وقال الأخفش: إن كسر إن هو على تقدير القول أي تقول لهم إن الناس إلخ، فيرجع معنى القراءة الأولى على هذا إلى معنى القراءة الثانية، والمارد بالناس في الآية: هم الناس على العموم، فيدخل في ذلك كل مكلف، وقيل المراد الكفار خاصة، وقيل كفار مكة، والأول أولى. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "عسى أن يكون ردف لكم" قال: اقترب لكم. وأخرج ابن أبي حاتم عنه "وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون" قال: يعلم ما عملوا بالليل والنهار. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضاً "وما من غائبة" الآية يقول: ما من شيء في السماء والأرض سراً ولا علانية إلا يعلمه. وأخرج ابن المبارك في الزهد وعبد الرزاق والفريابي وابن أبي شيبة ونعيم بن حماد وعبد ابن حميد وابن أبي الدنيا وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وابن مردويه عن ابن عمر في قوله: "وإذا وقع القول عليهم" الآية قال: إذا لم يأمروا بمعروف ولم ينهوا عن منكر. وأخرجه ابن مردويه عنه مرفوعاً. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن أبي العالية أنه فسر "وقع القول عليهم" بما أوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "دابة من الأرض تكلمهم" قال: تحدثهم. وأخرج ابن جرير عنه قال كلامها تنبئهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي داود نفيع الأعمى قال: سألت ابن عباس عن قوله: "تكلمهم" يعني هل هو من التكليم باللسان أو من الكلم وهو الجرح، فقال: كل ذلك والله تفعل تكلم المؤمن وتكلم الكافر: أي تجرحه. وأخرج عبد بن حميد وابن مردويه عن ابن عمر في الآية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ليس ذلك حديث ولا كلام، ولكنها سمة تسم من أمرها الله به، فيكون خروجها من الصفا ليلة منى، فيصبحون بين رأسها وذنبها لا يدحض داحض ولا يجرح جارح، حتى إذا فرغت مما أمرها الله به فهلك من هلك ونجا من نجا، كان أول خطوة تضعها بإنطاكية". وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس قال: الدابة ذات وبر وريش مؤلفة فيها من كل لون، لها أربع قوائم تخرج بعقب من الحاج. وأخرج أحمد وابن مردويه عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تخرج الدابة فتسم على خراطيمهم، ثم يعمرون فيكم حتى يشتري الرجل الدابة، فيقال له ممن اشتريتها؟ فيقول: من الرجل المخطم". وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس إن للدابة ثلاثة خرجات، وذكر نحو ما قدمنا. وأخرج ابن مردويه عن حذيفة بن أسيد رفعه قال "تخرج الدابة من أعظم المساجد حرمة". وأخرج سعيد بن منصور ونعيم بن حماد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: تخرج من بعض أودية تهامة. وأخرج الطيالسي وأحمد ونعيم بن حماد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: تخرج من بعض أودية تهامة. وأخرج الطيالسي وأحمد ونعيم بن حماد والترمذي وحسنه وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وابن مردويه والبيهقي في البعث عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تخرج دابة الأرض ومعها عصا موسى وخاتم سليمان، فتجلو وجه المؤمن بالخاتم، وتخطم أنف الكافر بالعصا، حتى يجتمع الناس على الخوان يعرف المؤمن من الكافر". وأخرج الطيالسي ونعيم بن حماد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في البعث عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال: "ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدابة فقال: لها ثلاث خرجات من الدهر" وذكر نحو ما قدمنا في حديث طويل. وفي صفتها ومكان خروجها وما تصنعه ومتى تخرج أحاديث كثيرة بعضها صحيح، وبعضها حسن، وبعضها ضعيف. وأما كونها تخرج، وكونها من علامات الساعة فالأحاديث الواردة في ذلك صحيحة. ومنها ما هو ثابت في الصحيح كحديث حذيفة مرفوعاً "لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات" وذكر منها الدابة فإنه في صحيح مسلم وفي السنن الأربعة وكحديث "بادروا بالأعمال قبل طلوع الشمس من مغربها، والدجال، والدابة" فإنه في صحيح مسلم أيضاً من حديث أبي هريرة مرفوعاً، وكحديث ابن عمر مرفوعاً "إن أول الآيات خروجاً طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة على الناس ضحى" فإنه في صحيح مسلم أيضاً.
ثم ذكر سبحانه طرفاً مجملاً من أهوال يوم القيامة، فقال: 83- "ويوم نحشر من كل أمة فوجاً" العامل في الظرف فعل محذوف خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم، والحشر الجمع. قيل والمراد بهذا الحشر هو حشر العذاب بعد الحشر الكلي الشامل لجميع الخلق، ومن لابتداء الغاية، والفوج: الجماعة كالزمرة، ومن في "ممن يكذب بآياتنا" بيانية "فهم يوزعون" أي يحبس أولهم على آخرهم، وقد تقدم تحقيقه في هذه السورة مستوفى، وقيل معناه: يدفعون، ومنه قول الشماخ: وسمه وزعنا من خمس جحفل ومعنى الآية: واذكر يا محمد يوم نجمع من كل أمة من الأمم جماعة مكذبين بآياتنا فهم عند ذلك الحشر يرد أولهم على آخرهم أو يدفعون: أي اذكر لهم هذا أو بينه تحذيراً لهم وترهيباً.
84- " حتى إذا جاؤوا " إلى موقف الحساب قال الله لهم توبيخاً وتقريعاً "أكذبتم بآياتي" التي أنزلتها على رسلي، وأمرتهم بإبلاغها إليكم "و" الحال أنكم "لم تحيطوا بها علماً" بل كذبتم بها بادئ بدء جاهلين لها غير ناظرين فيها ولا مستدلين على صحتها أو بطلانها تمرداً وعناداً وجرأة على الله وعلى رسله، وفي هذا مزيد تقريع وتوبيخ، لأن من كذب بشيء ولم يحط به علماً فقد كذب في تكذيبه، ونادى على نفسه بالجهل وعدم الإنصاف، وسوء الفهم، وقصور الإدراك، ومن هذا قبيل من تصدى لذم علم من العلوم الشرعية أو لذم علم هو مقدمة من مقدماتها، ووسيلة يتوسل بها إليها، ويفيد زيادة بصيرة في معرفتها، وتعقل معانيها كعلوم اللغة العربية بأسرها، وهي إثنا عشر علماً، وعلم أصول الفقه فإنه يتوصل به إلى استنباط الأحكام الشرعية عن أدلتها التفصيلية مع اشتماله على بيان قواعد اللغة الكلية، وهكذا كل علم من العلوم التي لها مزيد نفع في فهم كتاب الله وسنة رسوله، فإنه قد نادى على نفسه بأرفع صوت بأنه جاهل مجادل بالباطل طاعن على العلوم الشرعية، مستحق لأن تنزل به قارعة من قوارع العقوبة التي تزجره عن جهله وضلاله وطعنه على ما لا يعرفه، ولا يعلم به، ولا يحيط بكنهه حتى يصير عبرة لغيره، وموعظة يتعظ بها أمثاله من ضعاف العقول وركاك الأديان، ورعاع المتلبسين بالعلم زوراً وكذباً، وأم في قوله: " أماذا كنتم تعملون " هي المنقطعة، والمعنى: أم أي شيء كنتم تعملون حتى شغلكم ذلك عن النظر فيها والتفكر في معانيها، وهذا الاستفهام على طريق التبكيت لهم.
85- "ووقع القول عليهم" قد تقدم تفسيره قريباً، والباء في "بما ظلموا" للسببية: أي وجب القول عليهم بسبب الظلم الذي أعظم أنواعه الشرك بالله "فهم لا ينطقون" عند وقوع القول عليهم: أي ليس لهم عذر ينطقون به، أو لا يقدرون على القول لما يرونه من الهول العظيم. وقال أكثر المفسرين: يختم على أفواههم فلا ينطقون، ثم بعد أن خوفهم بأهوال القيامة ذكر سبحانه ما يصلح أن يكون دليلاً على التوحيد، وعلى الحشر، وعلى النبوة مبالغة في الإرشاد وإبلاء للمعذرة.
فقال: 86- "ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصراً" أي جعلنا الليل للسكون، والاستقرار والنوم، وذلك بسبب ما فيه من الظلمة فإنهم لا يسعون فيه للمعاش، والنهار مبصراً ليبصروا فيه ما يسعون له من المعاش الذي لا بد له منهم، ووصف النهار بالإبصار، وهو وصف للناس مبالغة في إضاءته كأنه يبصر ما فيه. قيل في الكلام حذف، والتقدير: وجعلنا الليل مظلماً ليسكنوا، وحذف مظلماً لدلالة مبصراً عليه، وقد تقدم تحقيقه في الإسراء وفي يونس "إن في ذلك" المذكور "لآيات" أي علامات ودلالات "لقوم يؤمنون" بالله سبحانه. ثم ذكر سبحانه علامة أخرى للقيامة فقال "ويوم ينفخ في الصور" هو معطوف على ويوم نحشر منصوب بناصبه المتقدم. قال الفراء: إن المعنى: وذلكم يوم ينفخ في الصور، والأول أولى. والصور: قرن ينفخ فيه إسرافيل، وقد تقدم تحقيقه في الإسراء وفي يونس "إن في ذلك" المذكور "لآيات" أي علامات ودلالات "لقوم يؤمنون" بالله سبحانه.
ثم ذكر سبحانه علامة أخرى للقيامة فقال: 87- "ويوم ينفخ في الصور" هو معطوف على ويوم نحشر منصوب بناصبه المتقدم. قال الفراء: إن المعنى: وذلكم يوم ينفخ في الصور، والأول أولى. والصور: قرن ينفخ فيه إسرافيل، وقد تقدم في الأنعام استيفاء الكلام عليه. والنفخات في الصور ثلاث: الأولى نفخة الفزع، والثانية نفخة الصعق، والثالثة نفخة البعث. وقيل إنها نفختان، وإن نفخة الفزع إما أن تكون راجعة إلى نفخة الصعق أو إلى نفخة البعث، واختار هذا القشيري والقرطبي وغيرهما. وقال الماوردي: هذه النفخة المذكورة هنا يوم النشور من القبور "ففزع من في السموات ومن في الأرض" أي خافوا وانزعجوا لشدة ما سمعوا، وقيل المراد بالفزع هنا: الإسراع والإجابة إلى النداء من قولهم فزعت إليك في كذا: إذا أسرعت إلى إجابتك، والأول أولى بمعنى الآية. وإنما عبر بالماضي مع كونه معطوفاً على مضارع للدلالة على تحقق الوقوع حسبما ذكره علماء البيان. وقال الفراء: هو محمول على المعنى لأن المعنى إذا نفخ "إلا ما شاء الله" أي إلا من شاء الله أن يفزع عند تلك النفخة. واختلف في تعيين من وقع الاستثناء له، فقيل هم الشهداء والأنبياء، وقيل الملائكة، وقيل جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت، وقيل الحور العين، وقيل هم المؤمنون كافة بدليل قوله فيما بعد "من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون" ويمكن أن يكون الاستثناء شاملاً لجميع المذكورين فلا مانع من ذلك "وكل أتوه داخرين" قرأ الجمهور "آتوه" على صيغة اسم الفاعل مضافاً إلى الضمير الراجع إلى الله سبحانه. وقرأ الأعمش ويحيى بن وثاب وحمزة وحفص عن عاصم "أتوه" فعلاً ماضياً، وكذا قرأ ابن مسعود. وقرأ قتادة وكل أتاه. قال الزجاج: إن من قرأ على الفعل الماضي فقد وحد على لفظ كل، ومن قرأ على اسم الفاعل فقد جمع على معناه، وهو غلط ظاهر، فإن كلا القراءتين لا توحيد فيها، بل التوحيد في قراءة قتادة فقط، ومعنى داخرين صاغرين ذليلين، وهو منصوب على الحال، قرأ الجمهور داخرين وقرأ الأعرج دخرين بغير ألف، وقد مضى تفسير هذا في سورة النحل.
88- "وترى الجبال تحسبها جامدة" معطوف على ينفخ. والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل من يصلح للرؤية، و تحسبها جامدة في محل نصب على الحال من ضمير ترى أو من مفعوله، لأن الرؤية بصرية، وقيل هي بدل من الجملة الأولى، وفيه ضعف، وهذه هي العلامة الثالثة لقيام الساعة، ومعنى تحسبها جامدة: أي قائمة ساكنة، وجملة "وهي تمر مر السحاب" في محل نصب على الحال: أي وهي تسير سيراً حثيثاً كسير السحاب التي تسيرها الرياح. قال القتيبي: وذكل أن الجبال تجمع وتسير وهي في رؤية العين كالقائمة وهي تسير. قال القشيري وهذا يوم القيامة، ومثله قوله تعالى: "وسيرت الجبال فكانت سراباً" قرأ أهل الكوفة "تحسبها" بفتح السين، وقرأ الباقون بكسرها "صنع الله الذي أتقن كل شيء" انتصاب صنع على المصدرية عند الخليل وسيبويه وغيرهما: أي صنع الله ذلك صنعاً، وقيل هو مصدر مؤكد لقوله "ويوم ينفخ في الصور" وقيل منصوب على الإغراء: أي انظروا صنع الله، ومعنى "الذي أتقن كل شيء" الذي أحكمه، يقال رجل تقن: أي حاذق بالأشياء، وجملة "إنه خبير بما تفعلون" تعليل لما قبلها من كونه سبحانه صنع ما صنع وأتقن كل شيء. والخبير: المطلع على الظواهر والضمائر. قرأ الجمهور بالتاء الفوقية على الخطاب، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وهشام بالتحتية على الخبر.
89- "من جاء بالحسنة فله خير منها" الألف واللام للجنس: أي من جاء بجنس الحسنة فله من الجزاء والثواب عند الله خير منها: أي أفضل منها وأكثر، وقيل خير حاصل من جهتها، والأول أولى. وقيل المراد بالحسنة هنا: لا إله إلا الله، وقيل هي الإخلاص، وقيل أداء الفرائض، والتعميم أولى ولا وجه للتخصيص وإن قال به بعض السلف. قيل وهذه الجملة بيان لقوله إنه خبير بما تفعلون وقيل بيان لقوله وكل أتوه داخرين. قرأ عاصم وحمزة والكسائي "وهم من فزع" بالتنوين وفتح ميم "يومئذ". وقرأ نافع بفتحها من غير تنوين. وقرأ الباقون بإضافة فزع إلى يومئذ. قال أبو عبيد: وهذا أعجب إلي لأنه أعم التأويلين لأن معناه: الأمن من فزع جميع ذلك اليوم، ومع التنوين يكون الأمن من فزع دون فزع. وقيل إنه مصدر يتناول الكثير فلا يتم الترجيح بما ذكر، فتكون القراءتان بمعنى واحد. وقيل المراد بالفزع ها هنا هو الفزع الأكبر المذكور في قوله: "لا يحزنهم الفزع الأكبر"، ووجه قراءة نافع أنه نصب يوم على الظرفية لكون الإعراب فيه غير متمكن، ولما كانت إضافة الفزع إلى ظف غير متمكن بني، وقد تقدم في سورة هود كلام في هذا مستوفى.
90- "ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار". قال جماعة من الصحابة ومن بعدهم حتى قيل إنه مجمع عليه بين أهل التأويل: إن المراد بالسيئة هنا الشرك، ووجه التخصيص قوله: "فكبت وجوههم في النار" فهذا الجزاء لا يكون إلا بمثل سيئة الشرك ، ومعنى " فكبت وجوههم في النار "أنهم كبوا فيها على وجوههم وألقوا فيها وطرحوا عليها، يقال كببت الرجل: إذا ألقيته لوجهه فانكب وأكب، وجملة "هل تجزون إلا ما كنتم تعملون" بتقدير القول: أي يقال ذلك، والقائل خزنة جهنم: أي ما تجزون إلا جزاء عملكم.
91- "إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها" لما فرغ سبحانه من بيان أحوال المبدإ والمعاد أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم هذه المقالة: أي قل يا محمد إنما أمرت أن أخص الله بالعبادة وحده لا شريك له، والمراد بالبلدة: مكة، وإنما خصها من بين سائر البلاد لكن فيها بيت الله الحرام، ولكونها أحب البلاد إلى رسوله، والموصول صلة للبلدة، ومعنى حرمها جعلها حرماً آمناً لا يسفك فيها دم، ولا يظلم فيها أحد، ولا يصطاد صيدها، ولا يختلى خلالها "وله كل شيء" من الأشياء خلقاً وملكاً وتصرفاً: أي ولله كل شيء "وأمرت أن أكون من المسلمين" أي المناقدين لأمر الله المستسلمين له بالطاعة، وامتثال أمره، واجتناب نهيه، والمراد بقوله أن أكون أن أثبت على ما أنا عليه.
92- " وأن أتلو القرآن " أي أداوم تلاوته وأواظب على ذلك. قيل وليس المراد من تلاوة القرآن هنا إلا تلاوة الدعوة إلى الإيمان، والأول أولى "فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه" لأن نفع ذلك راجع إليه: أي فمن اهتدى على العموم، أو فمن اهتدى بما أتلوه عليه فعمل بما فيه من الإيمان، والأول أولى "فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه" لأن نفع ذلك راجع إليه: أي فمن اهتدى على العموم، أو فمن اهتدى بما أتلوه عليه فعمل بما فيه من الإيمان بالله، والعمل بشرائعه. قرأ الجمهور "وأن أتلو" بإثبات الواو بعد اللام على أنه من التلاوة وهي القراءة، أو من التلو، وهو الاتباع. وقرأ عبد الله وأن اتل بحذف الواو أمراً له صلى الله عليه وسلم كذا وجهه الفراء. قال النحاس: ولا نعرف أحداً قرأ هذه القراءة، وهي مخالفة لجميع المصاحف "ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين" أي ومن ضل بالكفر وأعرض عن الهداية فقل له إنما أنا من المنذرين، وقد فعلت بإبلاغ ذلك إليكم وليس علي غير ذلك. وقيل الجواب محذوف: أي فوبال ضلاله عليه، وأقيم إنما أنا من المنذرين مقامه لكونه كالعلة له.
93- "وقل الحمد لله" على نعمه التي أنعم بها علي من النبوة والعلم وغير ذلك، وقوله: "سيريكم آياته" هو من جملة ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم أن يقوله: أي سيريكم الله آياته في أنفسكم وفي غيركم "فتعرفونها" أي تعرفون آياته، ودلائل قدرته ووحدانيته، وهذه المعرفة لا تنفع الكفار لأنهم عرفوها حين لا يقبل منهم الإيمان، وذلك عند حضور الموت. ثم ختم السورة بقوله: "وما ربك بغافل عما تعملون" وهو كلام من جهته سبحانه غير داخل تحت الكلام الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقوله، وفيه ترهيب شديد وتهديد عظيم. قرأ أهل المدينة والشام وحفص عن عاصم "تعملون" بالفوقية على الخطاب، وقرأ الباقون بالتحتية. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "داخرين" قال: صاغرين. وأخرج هؤلاء عنه في قوله: "وترى الجبال تحسبها جامدة" قال: قائمة "صنع الله الذي أتقن كل شيء" قال: أحكم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: "صنع الله الذي أتقن كل شيء" قال: أحسن كل شيء خلقه وأوثقه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن مردويه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم " من جاء بالحسنة فله خير منها " قال: هي لا إله إلا الله، "ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار" قال: هي الشرك، وإذا صح هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فالمصير إليه في تفسير كلام الله سبحانه متعين ويحمل على أن المراد قال: لا إله إلا الله بحقها، وما يجب لها، فيدخل تحت ذلك كل طاعة، ويشهد له ما أخرجه الحاكم في الكنى عن صفوان بن عسال قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان يوم القيامة: جاء الإيمان والشرك يجثوان بين يدي الله سبحانه، فيقول الله للإيمان: انطلق أنت وأهلك إلى الجنة، ويقول للشرك: انطلق أنت وأهلك إلى النار، "من جاء بالحسنة فله خير منها" يعني قوله: لا إله إلا الله، "ومن جاء بالسيئة" يعني الشرك "فكبت وجوههم في النار"". وأخرج ابن مردويه من حديث أبي هريرة وأنس ونحوه مرفوعاً. وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه والديلمي عن كعب بن عجرة عن النبي صلى الله عليه وسلم -من جاء بالحسنة- يعني شهادة أن لا إله إلا الله "فله خير منها" يعني بالخير الجنة "ومن جاء بالسيئة" يعني الشرك فكبت وجههم في النار وقال هذه تنجي، وهذه تردي. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في الأسماء والصفات، والخرائطي في مكارم الأخلاق: عن ابن مسعود "من جاء بالحسنة" قال: لا إله إلا الله. "ومن جاء بالسيئة" قال: بالشرك. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس نحوه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم "فله خير منها" قال: له منها خير، يعني من جهتها. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً "فله خير منها" قال: ثواب. وأخرج أيضاً عنه أيضاً قال: البلدة مكة.