islamkingdomfaceBook islamkingdomtwitter islamkingdominstagram islamkingdomyoutube islamkingdomnew

فتح القدير
19561

2-البقرة

الم

قال القرطبي في تفسير سورة البقرة: مدنية نزلت في مدد شتى. وقيل هي أول سورة نزلت بالمدينة إلا قوله تعالى: "واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله" فإنها آخر آية نزلت من السماء، ونزلت يوم النحر في حجة الوداع بمنى، وآيات الربا أيضاً من أواخر ما نزل من القرآن انتهى. وأخرج أبو الضريس في فضائله وأبو جعفر النحاس في الناسخ والمنسوخ وابن مردويه والبيهقي في دلائل النبوة من طرق عن ابن عباس قال: نزلت بالمدينة سورة البقرة. وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير مثله. وأخرج أبو داود في الناسخ والمنسوخ عن عكرمة قال: أول سورة أنزلت بالمدينة سورة البقرة. وقد ورد في فضلها أحاديث منها ما أخرجه مسلم والترمذي وأحمد والبخاري في تاريخه ومحمد بن نصر عن النواس بن سمعان قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يؤتى بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا تقدمهم سورة البقرة وآل عمران" قال: وضرب لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمثال ما نسيتهن بعد قال: "كأنهما غمامتان أو كأنهما غيابتان أو كأنهما ظلتان سوداوان أو كأنهما فرقان من طير صواف تحاجان عن صاحبهما". وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والدارمي ومحمد بن نصر والحاكم وصححه عن بريدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "تعلموا سورة البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا يستطيعها البطلة، ثم سكت ساعة ثم قال: تعلموا سورة البقرة وآل عمران فإنهما الزهراوان تظلان صاحبهما يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيابتان أو فرقان من طير صواف". قال ابن كثير وإسناده حسن على شرط مسلم. وأخرج نحوه أبو عبيد وأحمد وحميد بن زنجويه ومسلم والطبراني والحاكم والبيهقي من حديث أبي أمامة مرفوعاً. وأخرج نحوه أيضاً الطبراني وأبو ذر الهروي بسند ضعيف عن ابن عباس مرفوعاً. وأخرج نحوه أيضاً البزار في سننه بسند صحيح عن أبي هريرة مرفوعاً. وأخرج مسلم والترمذي وأحمد عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تجعلوا بيوتكم مقابر، إن الشيطان ينفر من البيت الذي يقرأ فيه سورة البقرة". وأخرج أبو عبيد عن أنس نحوه مرفوعاً. وأخرج ابن عدي في الكامل وابن عساكر في تاريخه عن أبي الدرداء مرفوعاً نحوه. وأخرج الطبراني بسند ضعيف عن عبد الله بن مغفل مرفوعاً نحوه. وأخرج النسائي والطبراني والبيهقي عن ابن مسعود مرفوعاً نحوه. وسنده ضعيف. وأخرجه الدارمي والبيهقي والحاكم وصححه من حديثه بنحوه. وأخرج أبو يعلى وابن حبان والطبراني والبيهقي عن سهل بن سعد الساعدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن لكل شيء سناماً، وسنام القرآن سورة البقرة، من قرأها في بيته نهاراً لم يدخله الشيطان ثلاثة أيام، ومن قرأها في بيته ليلاً لم يدخله الشيطان ثلاث ليال". وأخرج أحمد ومحمد بن نصر والطبراني بسند صحيح عن معقل بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "البقرة سنام القرآن وذروته، نزل مع كل آية منها ثمانون ملكاً واستخرجت "الله لا إله إلا هو الحي القيوم" من تحت العرش فوصلت بها". وأخرج البغوي في معجم الصحابة وابن عساكر في تاريخه عن ربيعة الجرسي قال "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي القرآن أفضل؟ قال: السورة التي يذكر فيها البقرة، قيل فأي البقرة أفضل؟ قال: آية الكرسي وخواتيم سورة البقرة نزلت من تحت العرش". وأخرج أبو عبيد وأحمد والبخاري في صحيحه تعليقاً ومسلم والنسائي عن أسيد بن حضير قال "بينما هو يقرأ من الليل سورة البقرة وفرسه مربوطة عنده إذ جالت الفرس فسكت فسكنت، ثم قرأ فجالت الفرس فسكت فسكنت، ثم قرأ فجالت الفرس فسكت فسكنت فانصرف إلى ابنه يحيى وكان قريباً منها فأشفق أن تصيبه، فلما أخذه رفع رأسه إلى السماء فإذا هو بمثل الظلة فيها أمثال المصابيح عرجت إلى السماء حتى ما يراها، فلما أصبح حدث رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتدري ما ذاك؟ قال لا يا رسول الله، قال: تلك الملائكة دنت لصوتك، ولو قرأت لأصبحت تنظر إليها الناس لا تتوارى منهم" ولهذا الحديث ألفاظ. وأخرج الترمذي وحسنه النسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم وصححه عن أبي هريرة قال "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثاً فاستقرأ كل رجل منهم" يعني ما معه من القرآن "فأتى على رجل من أحدثهم سناً فقال: ما معك يا فلان؟ قال: معي كذا وكذا وسورة البقرة، قال: أمعك سورة البقرة؟ قال: نعم، قال: اذهب فأنت أميرهم". وأخرج البيهقي في الدلائل عن عثمان بن أبي العاص، قال: استملني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أصغر القوم الذين وفدوا عليه من ثقيف، وذلك أني كنت قرأت سورة البقرة. وأخرج البيهقي في الشعب بسند صحيح عن الصلصال بن الديهمس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اقرأوا سورة البقرة في بيوتكم ولا تجعلوها قبوراً" قال: "ومن قرأ سورة البقرة في ليلة توج بتاج في الجنة". وأخرج أبو عبيد عن عباد بن عباد عن جرير بن حازم عن عمه جرير بن يزيد أن أشياخ أهل المدينة حدثوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل له: ألم تر إلى ثابت بن قيس بن شماس لم تزل داره البارحة تزهر مصابيح، قال: فلعله قرا سورة البقرة، قال: فسئل ثابت فقال: قرأت سورة البقرة. قال ابن كثير وهذا إسناد جيد، إلا أن فيه إبهاماً ثم هو مرسل. وقد روى أئمة الحديث في فضائلها أحاديث كثيرة وآثاراً عن الصحابة واسعة، ومن فضائلها ما هو خاص بآية الكرسي، وما هو خاص بخواتم هذه السورة، وقد سبق بعض ذلك، وما هو في فضلها وفضل آل عمران، وقد سبق أيضاً بعض من ذلك وما هو في فضل السبع الطوال، كما أخرج أبو عبيد عن واثلة بن الأسقع عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أعطيت السبع مكان التوراة، وأعطيت المئين مكان الإنجيل، وأعطيت المثاني مكان الزبور، وفضلت بالمفصل" وفي إسناده سعيد بن بشير وفيه لين، وقد رواه بسند آخر عن سعيد بن أبي هلال. وأخرج أيضاً عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أخذ السبع فهو خير" وقد رواه عنها أحمد في المسند باللفظ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أخذ السبع الأول من القرآن فهو خير". وأخرج أبو عبيد عن سعيد بن جبير في قوله تعالى: "ولقد آتيناك سبعاً من المثاني" قال: هي السبع الطوال البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف ويونس، وبذلك قال مجاهد ومكحول وعطية بن قيس وأبو محمد القاري شداد بن عبد الله ويحيى بن الحارث الذماري. وقد ورد ما يدل على كراهة أن يقول القائل سورة البقرة ولا سورة آل عمران ولا سورة النساء وكذا القرآن كله. فأخرج ابن الضريس والطبراني في الأوسط وابن مردويه والبيهقي في الشعب بسند ضعيف عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقولوا سورة البقرة ولا سورة آل عمران ولا سورة النساء وكذا القرآن كله، ولكن قولوا السورة التي تذكر فيها البقرة، والسورة التي يذكر فيها آل عمران، وكذا القرآن كله" قال ابن كثير: هذا حديث غريب لا يصح رفعه، وفي إسناده يحيى بن ميمون الخواص وهو ضعيف الرواية لا يحتج به. وأخرج البيهقي في الشعب بسند صحيح عن ابن عمر قال: "لا تقولوا سورة البقرة، ولكن قولوا السورة التي تذكر فيها البقرة". وقد روي عن جماعة من الصحابة خلاف هذا. فثبت في الصحيحين عن ابن مسعود أنه رمى الجمرة من بطن الوادي، فجعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه ثم قال: هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة. وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد ومسلم وأهل السنن والحاكم وصححه عن حذيفة قال: "صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من رمضان فافتتح البقرة، فقلت: يصلي بها في ركعة، ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها مترسلاً" الحديث: وأخرج أحمد وابن الضريس والبيهقي عن عائشة قالت: "كنت أقوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الليل فيقرأ بالبقرة وآل عمران والنساء". وأخرج أبو داود والترمذي في الشمائل والنسائي والبيهقي عن عوف بن مالك الأشجعي قال: "قمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة، فقام فقرأ سورة البقرة لا يمر بآية رحمة إلا وقف" الحديث. 1- "الم" قال القرطبي في تفسيره: اختلف أهل التأويل في الحروف التي في أوائل السور فقال الشعبي وسفيان الثوري وجماعة من المحدثين: هي سر الله في القرآن، ولله في كل كتاب من كتبه سر، فهي من المتشابه الذي انفرد الله بعلمه ولا نحب أن نتكلم فيها ولكن نؤمن بها، وتمد كما جاءت. وروي هذا القول عن أبي بكر الصديق وعلي بن أبي طالب. قال: وذكر أبو الليث السمرقندي عن عمر وعثمان وابن مسعود أنهم قالوا: الحروف المقطعة من المكتوم الذي لا يفسر. وقال أبو حاتم: لم نجد الحروف في القرآن إلا في أوائل السور، ولا ندري ما أراد الله عز وجل. قال: وقال جمع من العلماء كثير: بل نحب أن نتكلم فيها ونلتمس الفوائد التي تحتها والمعاني التي تتخرج عليها. واختلفوا في ذلك على أقوال عديدة، فروي عن ابن عباس وعلي أيضاً أن الحروف المقطعة في القرآن اسم الله الأعظم إلا أنا لا نعرف تأليفه منها. وقال قطرب والفراء وغيرهما: هي إشارة إلى حروف الهجاء أعلم الله بها العرب حين تحداهم بالقرآن أنه مؤتلف من حروف هي التي بناء كلامهم عليها ليكون عجزهم عنه أبلغ في الحجة عليهم إذ لم يخرج عن كلامهم. قال قطرب: كان ينفرون عند استماع القرآن، فلما نزل آلم آلمص استنكروا هذا اللفظ، فلما أنصتوا له صلى الله عليه وسلم أقبل عليهم بالقرآن المؤتلف ليثبته في أسماعهم وآذانهم ويقيم الحجة عليهم. وقال قوم: روي أن المشركين لما أعرضوا عن القرآن بمكة " وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه " فأنزلها استغربوها فيفتحون أسماعهم فيسمعون القرآن بعدها فتجب عليهم الحجة. وقال جماعة: هي حروف دالة على أسماء أخذت منها وحذفت بقيتها، كقول ابن عباس وغيره الألف من الله واللام من جبريل والميم من محمد. وذهب إلى هذا الزجاج فقال: أذهب إلى أن كل حرف منها يؤدي عن معنى. وقد تكلمت العرب بالحروف المقطعة كقوله: فقلت لها قفي، فقالت قاف: أي وقفت. وفي الحديث "من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة" قال شقيق: هو أن يقولأ في اقتل اق كما قال صلى الله عليه وسلم: "كفى بالسيف شا" أي شافياً، وفي نسخة شاهداً. وقال زيد بن أسلم: هي أسماء للسور. وقال الكلبي: هي أقسام أقسم الله بها لشرفها وفضلها وهي من أسمائه. ومن أدق ما أبرزه المتكلمون في معاني هذه الحروف ما ذكره الزمخشري في الكشاف فإنه قال: واعلم أنك إذا تأملت ما أورده الله عز سلطانه في الفواتح من هذه الأسماء وجدتها نصف أسامي حروف المعجم أربعة عشر سواء: وهي الألف واللام والميم والصاد والراء والكاف والهاء والياء والعين والطاء والسين والحاء والقاف والنون في تسع وعشرين سورة على عدد حروف المعجم، ثم إذا نظرت في هذه الأربعة عشر وجدتها مشتملة على أنصاف أجناس الحروف. بيان ذلك أن فيها من المهموسة نصفها الصاد والكاف والهاء والسين والحاء، ومن المجهورة نصفها الألف واللام والميم والراء والعين والطاء والقاف والياء والنون، ومن الشديدة نصفها الألف والكاف والطاء والنون، ومن الرخوة نصفها اللام والميم والراء والصاد والهاء والعين والسين والحاء والياء والنون، ومن المطبقة نصفها الصاد والطاء، ومن المنفتحة نصفها الألف واللام والميم والراء والكاف والهاء والعين والسين والحاء والقاف والياء والنون، ومن المستعلية نصفها القاف والصاد والطاء، ومن المنخفضة نصفها الألف واللام والميم والراء والكاف والهاء والتاء والعين والسين والحاء والنون، ومن حروف القلقلة نصفها القاف والطاء. ثم إذا استقريت الكلم وتراكيبها رأيت الحروف التي ألغى الله ذكرها من هذه الأجناس المعدودة مكنوزة بالمذكورة منها، فسبحان الذي دقت في كل شيء حكمته، وقد علمت أن معظم الشيء وجله ينزل منزلة كله، وهو المطابق للطائف التنزيل واختصاراته، فكأن الله عز اسمه عدد على العرب الألفاظ التي منها تراكيب كلامهم إشارة إلى ما ذكرت من التبكيت لهم وإلزم الحجة إياهم، وما يدل على أنه تعمد بالذكر من حروف المعجم أكثرها وقوعاً في تراكيب الكلم، أن الألف واللام لما تكاثر وقوعهما فيها جاءتا في معظم هذه الفواتح مكررتين، وهي فواتح سورة البقرة وآل عمران والروم والعنكبوت ولقمان والسجدة والأعراف والرعد ويونس وإبراهيم وهود ويوسف والحجر انتهى. وأقول: هذا التدقيق لا يأتي بفائدة يعتد بها، وبيانه أنه إذا كان المراد منه إلزام الحجة والتبكيت كما قال: فهذا متيسر بأن يقال لهم: هذا القرآن هو من الحروف التي تتكلمون بها ليس هو من حروف مغايرة لها، فيكون هذا تبكيتاً وإلزاماً يفهمه كل مامع منهم من دون إلغاز وتعمية وتفريق لهذه الحروف في فواتح تسع وعشرين سورة، فإن هذا مع ما فيه من التطويل الذي لا يستوفيه سامعه إلا بسماع جميع هذه الفواتح، هو أيضاً مما لا يفهمه أحد من السامعين ولا يتعقل شيئاً منه فضلاً عن أن يكون تبكيتاً له وإلزاماً للحجة أياً كان، فإن ذلك هو أمر وراء الفهم. مترتب عليه ولم يفهم السامع هذا، ولا ذكر أهل العلم عن فرد من أفراد الجاهلية الذين وقع التحديث لهم بالقرآن أنه بلغ فهمه إلى بعض هذا فضلاً عن كله. ثم كون هذه الحروف مشتملة على النصف من جميع الحروف التي تركبت لغة العرب منها، وذلك النصف مشتمل على أنصاف تلك الأنواع من الحروف المتصفة بتلك الأوصاف هو أمر لا يتعلق به فائدة لجاهلي ولا إسلامي ولا مقر ولا منكر ولا مسلم ولا معارض، ولا يصح أن يكون مقصداً من مقاصد الرب سبحانه، الذي أنزل كتابه للإرشاد إلى شرائعه والهداية به. وهب أن هذه صناعة عجيبة ونكتة غريبة، فليس ذلك مما يتصف بفصاحة ولا بلاغة حتى يكون مفيداً أنه كلام بليغ أو فصيح، وذلك لأن هذه الحروف الواقعة في الفواتح ليست من جنس كلام العرب حتى يتصف بهذين الوصفين، وغاية ما هناك أنها من جنس حروف كلامهم ولا مدخل لذلك فيما ذكر. وأيضاً لو فرض أنها كلمات متركبة بتقدير شيء قبلها أو بعدها لم يصح وصفها بذلك، لأنها تعمية غير مفهومة للسامع إلا بأن يأتي من يريد بيانها بمثل ما يأتي به من أراد بيان الألغاز والتعمية، وليس ذلك من الفصاحة والبلاغة في ورد ولا صدر بل من عكسهما وضد رسمهما -وإذا عرفت هذا فاعلم أن من تكلم في بيان معاني هذه الحروف جازماً بأن ذلك هو ما أراده الله عز وجل، فقد غلط أقبح الغلط وركب في فهمه ودعواه أعظم الشطط، فإنه إن كان تفسيره لها بما فسرها به راجعاً إلى لغة العرب وعلومها فهو كذب بحت، فإن العرب لم يتكلموا بشيء من ذلك، وإذا سمعه السامع منهم كان معدوداً عنده من الرطانة، ولا ينافي ذلك أنهم قد يقتصرون على أحرف أو حروف من الكلمة التي يريدون النطق بها، فإنهم لم يفعلوا ذلك إلا بعد أن تقدمه ما يدل عليه ويفيد معناه، بحيث لا يلتبس على سامعه كمثل ما تقدم ذكره. ومن هذا القبيل ما يقع منهم من الترخيم، وأين هذه الفواتح الواقعة في أوائل السور من هذا؟ وإذا تقرر لك أنه لا يمكن استفادة ما ادعوه من لغة العرب وعلومها لم يبق حينئذ إلا أحد أمرين: الأول التفسير بمحض الرأي الذي ورد النهي عنه والوعيد عليه، وأهل العلم أحق الناس بتجنبه والصد عنه والتنكب عن طريقه، وهم أتقى لله سبحانه من أن يجعلوا كتاب الله سبحانه ملعبة لهم يتلاعبون به ويضعون حماقات أنظارهم وخزعبلات أفكارهم عليه. الثاني التفسير بتوقيف عن صاحب الشرع، وهذا هو المهيع الواضح والسبيل القويم، بل الجادة التي ما سواها مردوم والطريقة العامرة التي ما عداها معدوم، فمن وجد شيئاً من هذا فغير ملزم أن يقول بملء فيه ويتكلم بما وصل إليه علمه، ومن لم يبلغه شيء من ذلك فليقل لا أدري، أو الله أعلم بمراده، فقد ثبت النهي عن طلب فهم المتشابه ومحاولة الوقوف على علمه مع كونه ألفاظاً عربية وتراكيب مفهومة، وقد جعل الله تتبع ذلك صنيع الذين في قلوبهم زيغ، فكيف بما نحن بصدده؟ فإنه ينبغي أن يقال فيه إنه متشابه المتشابه على فرض أن للفهم إليه سبيلاً، ولكلام العرب فيه مدخلاً، فكيف وهو خارج عن ذلك على كل تقدير. وانظر كيف فهم اليهود عند سماع آلم فإنهم لما لم يجدوها على نمط لغة العرب فهموا أن الحروف المذكورة رمز إلى ما يصطلحون عليه من العدد الذي يجعلونه لها، كما أخرج ابن إسحاق والبخاري في تاريخه وابن جرير بسند ضعيف عن ابن عباس عن جابر بن عبد الله قال: مر أبو ياسر بن أخطب في رجال من يهود برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتلو فاتحة سورة البقرة " الم * ذلك الكتاب لا ريب " فأتى أخاه حيي بن أخطب في رجال من اليهود فقال: تعلمون والله لقد سمعت محمداً يتلو فيما أنزل عليه آلم ذلك الكتاب، فقال: أنت سمعته؟ فقال: نعم، فمشى حيي في أولئك النفر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد ألم تذكر أنك تتلو فيما أنزل عليك " الم * ذلك الكتاب " قال: بلى، قالوا: أجاءك بهذا جبريل من عند الله؟ قال: نعم. قالوا: لقد بعث الله قبلك الأنبياء ما نعلمه بين لنبي منهم ما مدة ملكه وما أجل أمته غيرك، فقال حيي بن أخطب: وأقبل على من كان معه الألف واحد واللام ثلاثون والميم أربعون، فهذه إحدى وسبعون سنة، أفتدخلون في دين نبي إنما مدة ملكه وأجل أمته إحدى وسبعون سنة؟ ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد هل مع هذا غيره؟ قال: نعم، قال: وما ذاك؟ قال: آلمص، قال: هذه أثقل وأطول الألف واحدة واللام ثلاثون والميم أربعون والصاد تسعون، فهذه إحدى وستون ومائة سنة، هل مع هذا يا محمد غيره؟ قال: نعم، قال: وما ذاك؟ قال: -الر- قال: هذه أثقل وأطول الألف واحدة واللام ثلاثون والراء مائتان، هذه إحدى وثلاثون سنة ومائتان، فهل مع هذا غيره؟ قال: نعم، -المر- قال: فهذه أثقل وأطول الألف واحدة واللام ثلاثون والميم أربعون والراء مائتان، فهذه إحدى وسبعون سنة ومائتان، ثم قال: لقد لبس علينا أمرك يا محمد حتى ما ندري قليلاً أعطيت أم كثيراً ثم قاموا، فقال أبو ياسر لأخيه حيي ومن معه من الأحبار: ما يدريكم لعله قد جمع هذا لمحمد كله إحدى وسبعون وإحدى وستون ومائة وإحدى وثلاثون ومائتان وإحدى وسبعون ومائتان، فذلك سبعمائة وأربع وثلاثون سنة، فقالوا: لقد تشابه علينا أمره، فيزعمون أن هذه الآيات نزلت فيهم -"هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات"- فانظر ما بلغت إليه أفهامهم من هذا الأمر المختص بهم من عدد الحروف مع كونه ليس من لغة العرب في شيء، وتأمل أي موضع أحق بالبيان من رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الموضع، فإن هؤلاء الملاعين قد جعلوا ما فهموه عند سماع " الم * ذلك الكتاب " من ذلك العدد موجباً للتثبيط عن الإجابة له والدخول في شريعته، فلو كان لذلك معنى يعقل ومدلول يفهم، لدفع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ظنوه بادئ بدء حتى لا يتأثر عنه ما جاءوا به من التشكيك على من معهم. فإن قلت: هل ثبت عن رسول الله في هذه الفواتح شيء يصلح للتمسك به؟ قلت: لا أعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تكلم في شيء من معانيها، بل غاية ما ثبت عنه هو مجرد عدد حروفها، فأخرج البخاري في تاريخه والترمذي وصححه والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول آلم حرف، ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف" وله طرق عن ابن مسعود. وأخرج ابن أبي شيبة والبزار بسند ضعيف عن عوف بن مالك والأشجعي نحوه مرفوعاً. فإن قلت: هل روي عن الصحابة شيء من ذلك بإسناد متصل بقائله أم ليس إلا ما تقدم من حكاية القرطبي عن ابن عباس وعلي؟ قلت: قد روى ابن جرير والبيهقي في كتاب الأسماء والصفات عن ابن مسعود أنه قال: "الم" حرف اشتقت من حروف اسم الله. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "الم" و "حم" و "ن" قال: اسم مقطع. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في كتاب الأسماء عن ابن عباس أيضاً في قوله، "الم"، و"المص"، و"المر"، و"كهيعص"، و"طه"، و"طسم"، و"طس" و"يس"، و"ص"، "وحم"، و"ق"، و"ن"، قال: هو قسم أقسمه الله وهو من أسماء الله. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود في قوله آلم قال: هي اسم الله الأعظم. وأخرج عبد بن حميد عن الربيع بن أنس في قوله: "الم" قال: ألف مفتاح اسمه الله ولام مفتاح اسمه لطيف وميم مفتاح اسمه مجيد. وقد روي نحو هذا التفاسير عن جماعة من التابعين فيهم عكرمة والشعبي والسدي وقتادة ومجاهد والحسن. فإن قلت: هل يجوز الاقتداء بأحد من الصحابة؟ قال في تفسير شيء من هذه الفواتح قولاً صح إسناده إليه. قلت: لا لما قدمنا، إلا أن يعلم أنه قال ذلك عن علم أخذه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإن قلت: هذا مما لا مجال للاجتهاد فيه ولا مدخل للغة العرب فلم لا يكون له حكم الرفع؟ قلت: تنزيل هذا منزلة المرفوع، وإن قال به طائفة من أهل الأصول وغيرهم، فليس مما ينشرح له صدور المنصفين، ولا سيما إذا كان في مثل هذا المقام وهو التفسير لكلام الله سبحانه، فإنه دخول في أعظم الخطر بما لا برهان عليه صحيح إلا مجرد قولهم إنه يبعد من الصحابي كل البعد أن يقول بمحض رأيه فيما لا مجال فيه للاجتهاد، وليس مجرد هذا الاستبعاد مسوغاً للوقوع في خطر الوعيد الشديد. على أنه يمكن أن يذهب بعض الصحابة إلى تفسير بعض المتشابه كما تجده كثيراً في تفاسيرهم المنقولة عنهم ويجعل هذه الفواتح من جملة المتشابه، ثم ها هنا مانع آخر، وهو أن المروى عن الصحابة في هذا مختلف متناقض، فإن عملنا بما قاله أحدهم دون الآخر كان تحكماً لا وجه له، وإن عملنا بالجميع كان عملاً بما هو مختلف متناقض ولا يجوز. ثم ها هنا مانع غير هذا المانع، وهو أنه لو كان شيء لما قالوه مأخوذاً عن النبي صلى الله عليه وسلم لاتفقوا عليه ولم يختلفوا كسائر ما هو مأخوذ عنه، فلما اختلفوا في هذا علمنا أنه لم يكن مأخوذاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم لو كان عندهم شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا لما تركوا حكايته عنه ورفعه إليه، لا سيما عند اختلافهم واضطراب أقوالهم في مثل هذا الكلام الذي لا مجال للغة العرب فيه ولا مدخل لها. والذي اراه لنفسي ولكل من أحب السلامة واقتدى بسلف الأمة أن لا يتكلم بشيء من ذلك، مع الاعتراف بأن في إنزالها حكمة لله عز وجل ولا تبلغها عقولنا ولا تهتدي إليها أفهامنا، وإذا انتهيت إلى السلامة في مداك فلا تجاوزه، وسيأتي لنا عند تفسير قوله تعالى: "منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات" كلام طويل الذيول، وتحقيق تقبله صحيحات الأفهام وسليمات العقول.

ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ

الإشارة بقوله ذلك إلى الكتاب المذكور بعده. قال ابن جرير: قال ابن عباس: 2- "ذلك الكتاب" هذا الكتاب وبه قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والسدي ومقاتل وزيد بن أسلم وابن جريج، وحكاه البخاري عن أبي عبيدة. والعرب قد تستعمل الإشارة إلى البعيد الغائب مكان الإشارة إلى القريب الحاضر كما قال خفاف: أقول له والرمح يأطر متنه تأمل خفافاً أنني أنا ذلكا أي أنا هذا، ومنه قوله تعالى: "ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم" و "تلك حجتنا آتيناها إبراهيم" "تلك آيات الله نتلوها عليك" "ذلكم حكم الله يحكم بينكم" وقيل إن الإشارة إلى غائب، واختلف في ذلك الغائب، فقيل: هو الكتاب الذي كتب على الخلائق بالسعادة والشقاوة والأجل والرزق "لا ريب فيه" أي لا مبدل له، وقيل: ذلك الكتاب الذي كتبه الله على نفسه في الأزل أن رحمته سبقت غضبه، كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما قضى الله الخلق كتب في كتاب على نفسه فهو موضوع عنده: إن رحمتي تغلب غضبي". وفي رواية "سبقت". وقيل: الإشارة إلى ما قد نزل بمكة، وقيل: إلى ما في التوراة والإنجيل، وقيل: إشارة إلى قوله قبله " الم "، ورجحه الزمخشري، وقد وقع الاختلاف في ذلك إلى تمام عشرة أقوال حسبما حكاه القرطبي وأرجحها ما صدرناه، واسم الإشارة مبتدأ، و"الكتاب" صفته، والخبر "لا ريب فيه" ومن جوز الابتداء بـ " الم " جعل ذلك مبتدأ ثانياً، وخبره "الكتاب" أو هو صفته، والخبر "لا ريب فيه" والجملة خبر المبتدأ. ويجوز أنت يكون المبتدأ مقدراً وخبره آلم وما بعده. والريب مصدر، وهو قلق النفس واضطرابها، وقيل إن الريب: الشك. قال ابن أبي حاتم: لا أعلم في هذا خلافاً. وقد يستعمل الريب في التهمة والحاجة، حكى ذلك القرطبي. ومعنى هذا النفي العام أن الكتاب ليس بمظنة للريب لوضوح دلالته وضوحاً يقوم مقام البرهان المقتضى لكونه لا ينبغي الارتياب فيه بوجه من الوجوه، والوقف على فيه هو المشهور. وقد روي عن نافع وعاصم الوقف على "لا ريب". قال في الكشاف: ولا بد للواقف من أن ينوي خبراً ونظيره قوله تعالى: "قالوا لا ضير" وقول العرب: لا بأس، وهي كثيرة في لسان أهل الحجاز، والتقدير: لا ريب فيه هدى. والهدى مصدر. قال الزمخشري: وهو الدلالة الموصلة إلى البغية بدليل وقوع الضلال في مقابلته انتهى. ومحله الرفع على الابتداء وخبره الظرف المذكور قبله على ما سبق. قال القرطبي: الهدى هديان: هدى دلالة وهو الذي يقدر عليه الرسل وأتباعهم، قال الله تعالى: "ولكل قوم هاد" وقال: "وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم" فأثبت لهم الهدى الذي معناه الدلالة والدعوة والتنبيه، وتفرد سبحانه بالهدى الذي معناه التأييد والتوفيق، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: "إنك لا تهدي من أحببت" فالهدي على هذا يجيء بمعنى خلق الإيمان في القلب، ومنه قوله تعالى: "أولئك على هدى من ربهم" وقوله: "ولكن الله يهدي من يشاء" انتهى. والمتقين من ثبتت لهم التقوى. قال ابن فارس: وأصلها في اللغة قلة الكلام. وقال في الكشاف: المتقي في اللغة: إسم فاعل من قولهم وقاه فاتقى، والوقاية: الصيانة، ومنه: فرس واق، وهذه الدابة تقي من وجارها: إذا أصابها صلع من غلظ الأرض ورقة الحافر، فهو يقي حافره أن يصيبه أدنى شيء يؤلمه. وهو في الشريعة: الذي يقي نفسه تعاطي ما يستحق به العقوبة من فعل أو ترك انتهى. وأخرج ابن جرير والحاكم وصححه عن ابن مسعود أن الكتاب: القرآن، لا ريب فيه: لا شك فيه. وأخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "لا ريب فيه" قال: لا شك فيه. وأخرج أحمد في الزهد واب أبي حاتم عن أبي الدرداء قال: الريب الشك. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة مثله، وكذا ابن جرير عن مجاهد. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود في قوله: "هدى للمتقين" قال: نور للمتقين وهم المؤمنون. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "هدى للمتقين" أي الذين يحذرون من الله عقوبته في ترك ما يعرفون من الهدى ويرجون رحمته في التصديق مما جاء منه. وأخرج ابن أبي حاتم عن معاذ بن جبل أنه قيل له: من المتقون؟ فقال: قوم اتقوا الشرك وعبادة الأوثان وأخلصوا لله العبادة. وأخرج ابن أبي الدنيا عن أبي هريرة أن رجلاً قال له: ما التقوى؟ قال: هل وجدت طريقاً ذا شوك؟ قال: نعم، قال: فكيف صنعت؟ قال: إذا رأيت الشوك عدلت عنه أو جاوزته أو قصرت عنه، قال: ذاك التقوى. وأخرج أحمد في الزهد عن أبي الدرداء قال: تمام التقوى أن يتقي الله العبد حتى يتقيه من مثقال ذرة حين يترك بعض ما يرى أنه حلال خشية أن يكون حجاباً بينه وبين الحرام. وقد روي نحوما قاله أبو الدرداء عن جماعة من التابعين. وأخرج أحمد وعبد بن حميد والبخاري في تاريخه والترمذي وحسنه وابن ماجه وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن عطية السعدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذراً لما به البأس" فالمصير إلى ما أفاده هذا الحديث واجب، ويكون هذا معنى شرعياً للمتقي أخص من المعنى الذي قدمناه عن صاحب الكشاف زاعماً أنه المعنى الشرعي.

الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ

3- "الذين يؤمنون بالغيب" هو وصف للمتقين كاشف. والإيمان في اللغة: التصديق، وفي الشرع ما سيأتي. والغيب في كلام العرب: كل ما غاب عنك. قال القرطبي: واختلف المفسرون في تأويل الغيب هنا، فقالت فرقة: الغيب في هذه الآية هو الله سبحانه، وضعفه ابن العربي. وقال آخرون: القضاء والقدر. وقال آخرون: القرآن وما فيه من الغيوب. وقال آخرون: الغيب كل ما أخبر به الرسول مما لا تهتدي إليه العقول من أشراط الساعة وعذاب القبر والحشر والنشر والصراط والميزان والجنة والنار. قال ابن عطية: وهذه الأقوال لا تتعارض بل يقع الغيب على جميعها، قال: وهذا هو الإيمان الشرعي المشار إليه في حديث جبريل حين قال للنبي صلى الله عليه وسلم: "فأخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال: صدقت" انتهى. وهذا الحديث هو ثابت في الصحيح بلفظ: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، والقدر خيره وشره". وقد أخرج ابن أبي حاتم والطبراني وابن منده وأبو نعيم كلاهما في معرفة الصحابة عن تويلة بنت أسلم قالت: "صليت الظهر أو العصر في مسجد بني حارثة، فاستقبلنا مسجد إيليا فصلينا سجدتين، ثم جاءنا من يخبرنا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استقبل البيت، فتحول الرجال مكان النساء والنساء مكان الرجال، فصلينا السجدتين الباقيتين ونحن مستقبلون البيت الحرام، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أولئك قوم آمنوا بالغيب". وأخرج البزار وأبو يعلى والحاكم وصححه عن عمر بن الخطاب قال: كنت جالساً مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أنبئوني بأفضل أهل الإيمان إيماناً؟ فقالوا: يا رسول الله الملائكة، قال: هم كذلك ويحق لهم، وما يمنعهم وقد أنزلهم الله المنزلة التي أنزلهم بها، قالوا: يا رسول الله الأنبياء الذين أكرمهم الله برسالته والنبوة، قال: هم كذلك ويحق لهم، وما يمنعهم وقد أنزلهم الله المنزلة التي أنزلهم بها، قالوا: يا رسول الله الشهداء الذين استشهدوا مع الأنبياء، قال: هم كذلك، وما يمنعهم وقد أكرمهم الله بالشهادة، قالوا: فمن يا رسول الله؟ قال: أقوام في أصلاب الرجال يأتون من بعدي يؤمنون بي ولم يروني ويصدقوني ولم يروني، يجدون الورق المعلق فيعملون بما فيه، فهؤلاء أفضل أهل الإيمان إيماناً" وفي إسناده محمد بن أبي حميد وفيه ضعف. وأخرج الحسن بن عرفة في حزبه المشهور والبيهقي في الدلائل عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر نحو الحديث الأول، وفي إسناده المغيرة بن قيس البصري وهو منكر الحديث. وأخرج نحوه الطبراني عن ابن عباس مرفوعاً، والإسماعيلي عن أبي هريرة مرفوعاً أيضاً، والبزار عن أنس مرفوعاً، وأخرج ابن أبي شيبة في مسنده عن عوف بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا ليتني قد لقيت إخواني. قالوا: يا رسول الله ألسنا إخوانك؟ قال: بلى، ولكن قوم يجيئون من بعدكم يؤمنون بي إيمانكم ويصدقوني تصديقكم وينصروني نصركم، فيا ليتني قد لقيت إخواني" وأخرج نحوه ابن عساكر في الأربعين السباعية من حديث أنس، وفي إسناده أبو هدبة وهو كذاب، وزاد فيه "ثم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم "الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة" الآية". وأخرج أحمد والدارمي والبارودي وابن قانع معاً في معجم الصحابة والبخاري في تاريخه والطبراني والحاكم عن أبي جمعة الأنصاري قال: "قلت: يا رسول الله هل من قوم أعظم منا أجراً آمنا بك واتبعناك؟ قال: ما يمنعكم من ذلك ورسول الله بين أظهركم يأتيكم بالوحي من السماء، بل قوم يأتون من بعدكم ياتيهم كتاب الله بين لوحين فيؤمنون بي ويعملون بما فيه أولئك أعظم منكم أجراً". وأخرج أحمد وابن أبي شيبة والحاكم عن أبي عبد الرحمن الجهني قال: "بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ طلع راكبان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كنديان أو مذحجيان حتى أتيا، فإذا رجلان من مذحج، فدنا أحدهما ليبايعه، فلما أخذ بيده قال: يا رسول الله أرأيت من جاءك فآمن بك واتبعك وصدقك فماذا له؟ قال: طوبى له فمسح على زنده وانصرف، ثم جاء الآخر حتى أخذ بيده ليبايعه فقال: يا رسول الله أرأيت من آمن بك وصدقك واتبعك ولم يرك؟ قال: طوبى له ثم طوبى له، ثم مسح على زنده وانصرف". وأخرج الطيالسي وأحمد والبخاري في تاريخه والطبراني والحاكم عن أبي أمامة الباهلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "طوبى لمن رآني وآمن بي، وطوبى لمن آمن بي ولم يرني سبع مرات". وأخرج أحمد وابن حبان عن أبي سعيد "أن رجلاً قال: يا رسول الله طوبى لمن رآك وآمن بك؟ قال: طوبى لمن رأني وآمن بي، وطوبى ثم طوبى ثم طوبى لمن آمن بي ولم يرني" وأخرج الطيالسي وعبد بن حميد عن ابن عمر نحوه. وأخرج أحمد وأبو يعلى والطبراني من حديث أنس نحو حديث أبي أمامة الباهلي المتقدم. وأخرج سفيان بن عيينة وسعيد بن منصور وأحمد بن منيع في مسنده، وابن أبي حاتم وابن الضباري والحاكم وصححه عن ابن مسعود أنه قال: والذي لا إله غيره ما آمن أحد أفضل من إيمان بغيب، ثم قرأ " الم* ذلك الكتاب لا ريب فيه " إلى قوله: "المفلحون". وللتابعين أقوال، والراجح ما تقدم من أو الإيمان الشرعي يصدق على جميع ما ذكر هنا. قال بن جرير: والأولى أن تكونوا موصوفين بالإيمان بالغيب قولاً واعتقاداً وعملاً. قال: وتدخل الخشية لله في معنى الإيمان الذي هو تصديق القول بالعمل. والإيمان كلمة جامعة للإقرار بالله وكتبه ورسله وتصديق الإقرار بالفعل. وقال ابن كثير: إن الإيمان الشرعي المطلوب لا يكون إلا اعتقاداً وقولاً وعملاً، هكذا ذهب إليه أكثر الأئمة. بل قد حكاه الشافعي وأحمد بن حنبل وأبو عبيد وغير واحد إجماعاً أن الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص. وقد ورد فيه آيات كثيرة. انتهى. " ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون " هو معطوف على "يؤمنون" والإقامة في الأصل: الدوام والثبات. يقال: قام الشيء: أي دام وثبت. وليس من القيام على الرجل، وإنما هو من قولك قام الحق: أي ظهر وثبت، قال الشاعر: وقامت الحرب بنا على ساق وقال آخر: إذا يقال أقيموا لم تبرحوا حتى تقيم الخيل سوق طعان وإقامة الصلاة أداؤها بأركانها وسننها وهيئاتها في أوقاتها. والصلاة أصلها في اللغة: الدعاء من صلى يصلي إذا دعا. وقد ذكر هذا الجوهري وغيره. وقال قوم: هي مأخوذة من الصلا، وهو عرق في وسط الظهر ويفترق عند العجب. ومنه أخذ المصلي في سبق الخيل، لأنه يأتي في الحلبة ورأسه عند صلوى السابق، فاشتقت منه الصلاة لأنها ثانية للإيمان فشبهت بالمصلي من الخيل. وإما لأن الراكع يثني صلويه، والصلا مغرز الذنب من الفرس والاثنان صلوان، والمصلي تالي السابق لأن رأسه عند صلوه. ذكر هذا القرطبي في تفسيره. وقد ذكر المعنى الثاني في الكشاف هذا المعنى اللغوي. وأما المعنى الشرعي فهو هذه الصلاة التي هي ذات الأركان والأذكار. وقد اختلف أهل العلم هل هي مبقاة على أصلها اللغوي أو موضوعة وضعاً شرعياً ابتدائياً. فقيل: بالأول، وإنما جاء الشرع بزيادات هي الشروط والفروض الثابتة فيها. وقال قوم: بالثاني. والرزق عند الجمهور ما صلح للانتفاع به حلالاً كان أو حراماً خلافاً للمعتزلة. فقالوا: إن الحرام ليس برزق، وللبحث في هذه المسألة موضع غير هذا. والإنفاق: إخراج المال من اليد، وفي المجيء بمن التبعضية ههنا نكتة سرية هي الإرشاد إلى ترك الإسراف. وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن إسحاق عن ابن عباس في قوله: "يقيمون الصلاة" قال: الصلوات الخمس "ومما رزقناهم ينفقون" قال: زكاة أموالهم. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة أن إقامة الصلاة المحافظة على مواقيتها ووضوئها وركوعها وسجودها "ومما رزقناهم ينفقون" قال: أنفقوا في فرائض الله التي افترض عليهم في طاعته وسبيله. وأخرج ابن المنذر عن سعيد بن جبير ونحوه. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود في قوله: "ومما رزقناهم ينفقون" قال: هي نفقة الرجل على أهله. وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال: كانت النفقات قربات يتقربون بها إلى الله عز وجل على قدر ميسورهم وجهدهم حتى نزلت فرائض الصدقات في سورة براءة هن الناسخات المبينات. واختار ابن جرير أن الآية عامة في الزكاة والنفقات، وهو الحق من غير فرق بين النفقة على الأقارب وغيرهم وصدقة الفرض والنفل، وعدم التصريح بنوع من الأنواع التي يصدق عليها مسمى الإنفاق يشعر أتم إشعار بالتعميم.

وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ

4- "والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون" قيل هم مؤمنو أهل الكتاب، فإنهم جمعوا بين الإيمان بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم وما أنزله على من قبله وفيهم نزلت. وقد رجح هذا ابن جرير، ونقله السدي في تفسيره عن ابن عباس وابن مسعود وأناس من الصحابة، واستشهد به ابن جرير بقوله تعالى: "وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم" وبقوله تعالى: " الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون * وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين * أولئك يؤتون أجرهم مرتين " الآية. والآية الأولى نزلت في مؤمني العرب. وقيل: الآيتان جميعاً في المؤمنين على العموم. وعلى هذا فهذه الجملة معطوفة على الجملة الأولى صفة للمتقين بعد صفة، ويجوز أن تكون مرفوعة على الاستئناف، ويجوز أن تكون معطوفة على المتقين بعد صفة، ويجوز أن تكون مرفوعة على الاستئناف، ويجوز أن تكون معطوفة على المتقين فيكون التقدير: هدى للمتقين وللذين يؤمنون بما أنزل إليك. والمراد بما أنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم: هو القرآن، وما أنزل من قبله: هو الكتب السالفة. والإيقان: إيقان العلم بانتفاء الشك والشبهة عنه، قاله في الكشاف، والمراد أنهم يوقنون بالبعث والنشور وسائر أمور الآخرة من دون شك. والآخرة تأنيث الآخر الذي هو نقيض الأول، وهي صفة الدار كما في قوله تعالى: "تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً" وفي تقديم الظرف مع بناء الفعل على الضمير المذكور إشعار بالحصر، وأن ما عدا هذا الأمر الذي هو أساس الإيمان ورأسه ليس بمستأهل للإيقان به والقطع بوقوعه. وإنما عبر بالماضي مع أنه لم ينزل إذ ذاك إلا البعض لا الكل تغليباً للموجود على ما لم يوجد، أو تنبيهاً على تحقق الوقوع كأنه بمنزلة النازل قبل نزوله. وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى: "والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك" أي يصدقونك بما جئت به من الله وما جاء به من قبلك من المرسلين، لا يفرقون بينهم، ولا يجحدون ما جاءوهم من ربهم "وبالآخرة هم يوقنون" إيماناً بالبعث والقيامة والجنة والنار والحساب والميزان: أي لا هؤلاء الذين يزعمون أنهم آمنوا بما كان قبلك ويكفرون بما جاء من ربك. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة نحوه. والحق أن هذه الآية في المؤمنين كالتي قبلها، وليس مجرد ذكر الإيمان بما أنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وما أنزل إلى من قبله بمقتض لجعل ذلك وصفاً لمؤمني أهل الكتاب، ولم يأت ما يوجب المخالفة لهذا ولا في النظم القرآني ما يقتضي ذلك. وقد ثبت الثناء على من جمع بين الأمرين من المؤمنين في غير آية. فمن ذلك قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل" وكقوله: "وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم" وقوله: "آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله" وقال: "والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم".

أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ

هذا كلام مستأنف استئنافاً بيانياً، كأنه قيل: كيف حال هؤلاء الجامعين بين التقوى والإيمان بالغيب والإتيان بالفرائض والإيمان بما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى من قبله من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فقيل: 5- "أولئك على هدى" ويمكن أن يكون هذا خبراً عن الذين يؤمنون بالغيب إلخ فيكون متصلاً بما قبله. قال في الكشاف: ومعنى الاستعلاء في قوله: "على هدى" مثل لتمكنهم من الهدى واستقرارهم عليه وتمسكهم به، شبهت حالهم حال من اعتلى الشيء وركبه، ونحوه: هو على الحق وعلى الباطل. وقد صرحوا بذلك في قوله: جعل الغواية مركباً وامتطى الجهل واقتعد عارب الهوى انتهى. وقد أطال المحققون الكلام على هذا بما لا يتسع له المقام، واشتهر الخلاف في ذلك بين المحقق والسعد والمحقق الشريف. واختلف من بعدهم في ترجيح الراجح من القولين، وقد جمعت في ذلك رسالة سميتها [الطود المنيف في ترجيح ما قاله السعد على ما قاله الشريف] فليرجع إليها من أراد أن يتضح له المقام ويجمع بين أطراف الكلام على التمام. وقال ابن جرير: إن معنى "أولئك على هدى من ربهم" على نور من ربهم وبرهان واستقامة وسداد بتسديد الله إياهم وتوفيقه لهم، " المفلحون " أي المنجحون المذكرون ما طلبوا عند الله بأعمالهم وإيمانهم بالله وكتبه ورسله. هذا معنى كلامه. والفلاح أصله في اللغة: الشق والقطع، قاله أبو عبيد: ويقال الذي شقت شفته أفلح، ومنه سمي الأكار فلاحاً لأنه شق الأرض بالحرث، فكأن المفلح قد قطع المصاعب حتى نال مطلوبه. قال القرطبي وقد يستعمل في الفوز والبقاء وهو أصله أيضاً في اللغة، فمعنى "أولئك هم المفلحون" الفائزون بالجنة والباقون. وقال في الكشاف: المفلح الفائز بالبغية، كأنه الذي انفتحت له وجوه الظفر ولم تستغلق عليه انتهى. وقد استعمل الفلاح في السحور، ومنه الحديث الذي أخرجه أبو داود "حتى كاد يفوتنا الفلاح مع رسول الله صلى الله عليه وسلم". قلت: وما الفلاح؟ قال: السحور. فكأن معنى الحديث: أن السحور به بقاء الصوم فلهذا سمي فلاحاً. وفي تكرير اسم الإشارة دلالة على أن كلاً من الهدى والفلاح مستقل بتميزهم به عن غيرهم، بحيث لو انفرد أحدهما لكفى تميزاً على حياله. وفائدة ضمير الفصل الدلالة على اختصاص المسند إليه بالمسند دون غيره. وقد روى السدي عن أبي مالك وأبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود، وعن أناس من الصحابة أن الذين يؤمنون بالغيب: هم المؤمنون من العرب، الذين يؤمنون بما أنزل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أنزل إلى من قبله: هم، والمؤمنون من أهل الكتاب ثم جمع الفريقين فقال: "أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون" وقد قدمنا الإشارة إلى هذا وإلى هو أرجح منه كما هو منقول عن مجاهد وأبي العالية والربيع بن أنس وقتادة. وأخرج ابن أبي حاتم من حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قيل: يا رسول الله إنا نقرأ من القرآن فنرجو ونقرأ فنكاد أن نيأس أو كما قال: فقال: ألا أخبركم عن أهل الجنة وأهل النار؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: " الم * ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين " إلى قوله: "المفلحون" هؤلاء أهل الجنة، قالوا: إنا نرجو أن نكون هؤلاء، ثم قال: "إن الذين كفروا سواء عليهم" إلى قوله: "عظيم" هؤلاء أهل النار، قالوا: ألسنا هم يا رسول الله؟ قال: أجل". وقد ورد في فضل هذه الآيات الشريفة أحاديث: منها ما أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند والحاكم والبيهقي عن أبي بن كعب قال: "كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء أعرابي فقال: يا نبي الله إن لي أخاً وبه وجع فقال: وما وجعه؟ قال: به لمم، قال: فائتني به فوضعه بين يديه، فعوذه النبي بفاتحة الكتاب وأربع آيات من أول سورة البقرة، وهاتين الآيتين "وإلهكم إله واحد" وآية الكرسي وثلاث آيات من آخر سورة البقرة، وآية من آل عمران "شهد الله أنه لا إله إلا هو"، وآية من الأعراف "إن ربكم الله"، وآخر سورة المؤمنين "فتعالى الله الملك الحق"، وآية من سورة الجن "وأنه تعالى جد ربنا"، وعشر آيات من أول الصافات، وثلاث آيات من آخر سورة الحشر، وقل هو الله أحد والمعوذتين، فقام الرجل كأنه لم يشتك قط". وأخرج نحوه ابن السني في عمل اليوم والليلة من طريق عبد الرحمن بن أبي يعلى عن رجل عن أبي مثله. وأخرج الدارمي وابن الضريس عن ابن مسعود قال: من قرأ أربع آيات من أول سورة البقرة وآية الكرسي وآيتين بعد آية الكرسي وثلاثاً من آخر سورة البقرة لم يقربه ولا أهله يومئذ شيطان، ولا شيء يكرهه في أهله ولا ماله، ولا تقرأ على مجنون إلا أفاق. وأخرج الدارمي وابن المنذر والطبراني عنه قال: "من قرأ عشر آيات من سورة البقرة في ليلة لم يدخل ذلك البيت شيطان تلك الليلة حتى يصبح: أربع من أولها، وآية الكرسي، وآيتان بعدها، وثلاث خواتمها أولها "لله ما في السموات"". وأخرج سعيد بن منصور والدارمي والبيهقي عن المغيرة بن سبيع، وكان من أصحاب عبد الله بن مسعود بنحوه. وأخرج الطبراني والبيهقي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا مات أحدكم فلا تحبسوه، وأسرعوا به إلى قبره، وليقرأ عند رأسه بفاتحة البقرة وعند رجليه بخاتمة سورة البقرة" وقد ورد في ذلك غير هذا.

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ

ذكر سبحانه فريق الشر بعد الفراغ من ذكر فريق الخير قاطعاً لهذا الكلام عن الكلام الأول، معنوناً له بما يفيد أن شأن جنس الكفرة عدم إجداء الإنذار لهم، وأنه لا يترتب عليهم ما هو المطلوب منهم من الإيمان، وأن وجود ذلك كعدمه. 6- و"سواء" اسم بمعنى الاستواء وصف به كما يوصف بالمصادر، والهمزة وأم مجردتان لمعنى الاستواء غير مراد بهما ما هو أصلهما من الاستفهام، وصح الابتداء بالفعل والإخبار عنه بقوله: "سواء"، هجراً لجانب اللفظ إلى جانب المعنى، كأنه قال: الإنذار وعدمه سواء، كقولهم: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه: أي سماعك. وأصل الكفر في اللغة: الستر والتغطية، قال الشاعر: في ليلة كفر النجوم غمامها أي سترها، ومنه سمي الكافر كافراً لأنه يغطي بكفره ما يجب أن يكون عليه من الإيمان. والإنذار: الإبلاغ والإعلام. قال القرطبي: واختلف العلماء في تأويل هذه الآية، فقيل: هي عامة ومعناها الخصوص فيمن سبقت عليه كلمة العذاب، وسبق في علم الله أنه يموت على كفره. أراد الله تعالى أن يعلم الناس أن فيهم من هذا حاله دون أن يعين أحداً. وقال ابن عباس والكلبي: نزلت في رؤساء اليهود حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف ونظرائهما. وقال الربيع بن أنس: نزلت فيمن قتل يوم بدر من قادة الأحزاب، والأول أصح، فإن من عين أحداً فإنما مثل بمن كشف الغيب بموته على الكفر انتهى. وقوله: "لا يؤمنون" خبر مبتدأ محذوف: أي هم لا يؤمنون، وهي جملة مستأنفة لأنها جواب سؤال مقدر كأنه قيل: هؤلاء الذي استوى حالهم مع الإنذار وعدمه ماذا يكون منهم؟ فقيل: "لا يؤمنون": أي هم لا يؤمنون: وقال في الكشاف: إنها جملة مؤكدة للجملة الأولى، أو خبر لأن والجملة قبلها اعتراض انتهى. والأولى ما ذكرناه، لأن المقصود الإخبار عن عدم الاعتداد بإنذارهم، وأنه لا يجدي شيئاً بل بمنزلة العدم، فهذه الجملة هي التي وقعت خبراً لأن، وما بعدها من عدم الإيمان متسبب عنها لا أنه المقصود. وقد قال بمثل قول الزمخشري والقرطبي. وقال ابن كيسان: إن خبر إن سواء، وما بعده يقوم مقام الصلة. وقال محمد بن يزيد المبرد: سواء رفع بالابتداء، وخبره "أأنذرتهم أم لم تنذرهم"، والجملة خبر إن، والختم: مصدر ختمت الشيء، ومعناه: التغطية على الشيء والاستيثاق منه حتى لا يدخله شيء، ومنه ختم الكتاب والباب وما يشبه ذلك حتى لا يوصل إلى ما فيه ولا يوضع فيه غيره. والغشاوة: الغطاء، ومنه غاشية السرج، والمراد بالختم والغشاوة هنا هما المعنويان لا الحسيان: أي لما كانت قلوبهم غير واعية لما وصل إليها، والأسماع غير مؤدية لما يطرقها من الآيات البينات إلى العقل على وجه مفهوم، والأبصار غير مهدية للنظر في مخلوقاته وعجائب مصنوعاته جعلت بمنزلة الأشياء المختوم عليها ختماً حسياً، والمستوثق منها استيثاقاً حقيقياً، والمغطاة بغطاء مدرك استعارة أو تمثيلاً، وإسناد الختم إلى الله قد احتج به أهل السنة على المعتزلة، وحاولوا دفع هذه الحجة بمثل ما ذكره صاحب الكشاف، والكلام على مثل هذا متقرر في مواطنه.

خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ

وقد اختلف في قوله تعالى: 7- "وعلى سمعهم" هل هو داخل في حكم الختم فيكون معطوفاً على القلوب أو في حكم التغشية، فقيل: إن الوقف على قوله: "وعلى سمعهم" تام، وما بعده كلام مستقل، فيكون الطبع على القلوب والأسماع، والغشاوة على الأبصار كما قاله جماعة، وقد قرئ: "غشاوة" بالنصب. قال ابن جرير: يحتمل أنه نصبها بإضمار فعل تقديره: وجعل على أبصارهم غشاوة، ويحتمل أن يكون نصبها على الإتباع على محل وعلى سمعهم، كقوله تعالى: "وحور عين" وقول الشاعر: علفتها تبناً وماء بارداً إنما وحد السمع مع جمع القلوب والأبصار، لأنه مصدر يقع على القليل والكثير. والعذاب: هو ما يؤلم، وهو مأخوذ من الحبس والمنع، يقال في اللغة أعذبه عن كذا: حبسه ومنعه، ومنه عذوبة الماء لأنها حبست في الإناء حتى صفت. وقد أخرج ابن جريروابن أبي حاتم والطبراني في الكبير وإبن مردويه والبيهقي عن ابن عباس في قوله "سواء عليهم أأنذرتهم" قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرص أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى، فأخبره الله أنه لا يؤمن إلا من سبق له من الله السعادة في الذكر الأول، ولا يضل إلا من سبق له من الله الشقاوة في الذكر الأول. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس أيضاً في تفسير الآية: أنهم قد كفروا بما عندهم من ذكرك، وجحدوا ما أخذ عليهم من الميثاق، فكيف يسمعون منك إنذاراً وتحذيراً، وقد كفروا بما عندهم من علمك. "ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله: "إن الذين كفروا" قال: نزلت هاتان الآيتان في قادة الأحزاب، وهم الذين ذكرهم الله في هذه الآية: "ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً" قال: فهم الذين قتلوا يوم بدر، ولم يدخل القادة في الإسلام إلا رجلان: أبو سفيان، والحكم بن العاص. وأخرج ابن المنذر عن السدي في قوله: "أأنذرتهم أم لم تنذرهم" قال: أوعظتهم أم لم تعظهم. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في هذه الآية قال: أطاعوا الشيطان فاستحوذ عليهم، فختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة فهم لا يبصرون هدى، ولا يسمعون ولا يفقهون ولا يعقلون. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، قال: الختم على قلوبهم وعلى سمعهم والغشاوة على أبصارهم. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود قال: ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم فلا يعقلون ولا يسمعون، وجعل على أبصارهم: يعني أعينهم غشاوة فهم لا يبصرون. وروى ذلك السدي عن جماعة من الصحابة. وأخرج ابن جرير عن ابن جريج قال: الختم على القلب والسمع، والغشاوة على البصر، قال الله تعالى: "فإن يشإ الله يختم على قلبك" وقال: "وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة". قال ابن جرير في معنى الختم: والحق عندي في ذلك ما صح نظيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر إسناداً متصلاً بأبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن المؤمن إذا أذنب ذنباً كان نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستعتب صقل قلبه، وإن زاد زادت حتى تغلق قلبه" فذلك الران الذي قال الله: "كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون". وقد رواه من هذا الوجه الترمذي وصححه والنسائي. ثم قال ابن جرير فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الذنوب إذا تتابعت على القلوب أغلقتها، وإذا أغلقتها أتاها حينئذ الختم من قبل الله سبحانه والطبع فلا يكون إليها مسلك ولا للكفر منها مخلص، فذلك هو الختم الذي ذكره الله في قوله: "ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم" نظير الطبع والختم على ما تدركه الأبصار من الأوعية والظروف التي لا يوصل إلى ما فيها إلا بفض ذلك عنها ثم حلها، فذلك لا يصل الإيمان إلى قلوب من وصف الله أنه ختم على قلوبهم إلا بعد فض خاتمه، وحل رباطه عنها.

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ

8- " ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين " ذكر سبحانه وتعالى في أول هذه السورة المؤمنين الخلص، ثم ذكر بعدهم الكفرة الخلص، ثم ذكر ثالثاً المنافقين وهم الذين لم يكونوا من إحدى الطائفتين، بل صاروا فرقة ثالثة لأنهم وافقوا في الظاهر الطائفة الأولى وفي الباطن الطائفة الثانية، ومع ذلك فهم أهل الدرك الأسفل من النار. وأصل ناس حذفت همزته تخفيفاً، وهو من النوس وهو الحركة، يقال: ناس ينوس: أي تحرك، وهو من أسماء الجموع جمع إنسان وإنسانة على غير لفظه، واللام الداخلة عليه للجنس، ومن تبعيضية، أي بعض الناس، ومن موصوفة: أي ومن الناس ناس يقول. والمراد باليوم الآخر: الوقت الذي لا ينقطع، بل هو دائم أبداً.

يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ

والخداع في أصل اللغة: الفساد حكاه ثعلب عن ابن الأعرابي، وأنشد: أبيض اللون رقيق طعمه طيب الريق إذا الريق خدع وقيل: أصله الإخفاء، ومنه مخدع البيت الذي يحرز فيه الشيء، حكاه ابن فارس وغيره. والمراد من مخادعتهم لله أنهم صنعوا معه صنع المخادعين، وإن كان العالم الذي لا يخفى عليه شيء لا يخدع. وصيغة فاعل تفيد الاشتراك في أصل الفعل، فكونهم يخادعون الله والذين آمنوا يفيد أن الله سبحانه والذين آمنوا يخادعونهم. والمراد بالمخادعة من الله: أنه لما أجرى عليهم أحكام الإسلام مع أنهم ليسوا منه في شيء، فكأنه خادعهم بذلك كما خادعوه بإظهار الإسلام وإبطان الكفر مشاكلة لما وقع منهم بما وقع منه. والمراد بمخادعة المؤمنين لهم: هو أنهم أجروا عليهم ما أمرهم الله به من أحكام الإسلام ظاهراً وإن كانوا يعلمون فساد بواطنهم، كما أن المنافقين خادعوهم بإظهار الإسلام وإبطان الكفر. والمراد بقوله تعالى: 9- " وما يخدعون إلا أنفسهم " الإشعار بأنهم لما خادعوا من لا يخدع كانوا مخادعين لأنفسهم، لأن الخداع إنما يكون مع من لا يعرف البواطن. وأما من عرف البواطن فمن دخل معه في الخداع فإنما يخدع نفسه وما يشعر بذلك، ومن هذا قول من قال: من خادعته فانخدع لك فقد خدعتك. وقد قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو يخادعون في الموضعين، وقرأن حمزة وعاصم والكسائي وابن عامر في الثاني يخدعون. والمراد بمخادعتهم أنفسهم: أنهم يمنونها الأماني الباطلة وهي كذلك تمنيهم. قال أهل اللغة: شعرت بالشيء فطنت. قال في الكشاف: والشعور علم الشيء علم حس، من الشعار -ومشاعر الإنسان: حواسه. والمعنى: أن لحوق ضرر ذلك لهم كالمحسوس، وهم لتمادي غفلتهم كالذي لا حس له. والمراد بالأنفس هنا ذواتهم لا سائر المعاني التي تدخل في مسمى النفس كالروح والدم والقلب. وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنهم المنافقون من الأوس والخزرج ومن كان على أمرهم. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود أنه قال: والمراد بهذه الآية المنافقون. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن قتادة مثله. وأخرج ابن المنذر عن ابن سيرين قال: لم يكن عندهم شيء أخوف من هذه الآية: "ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين". وأخرج ابن سعد عن حذيفة أنه قيل له: ما النفاق؟ قال: أن يتكلم بالإسلام ولا يعمل به. وأخرج أحمد بن منيع في مسنده بسند ضعيف عن رجل من الصحابة "أن قائلاً من المسلمين قال: يا رسول الله ما النجاة غداً؟ قال: لا تخادع الله قال: وكيف نخادع الله؟ قال: أن تعمل بما أمرك الله به تريد به غيره، فاتقوا الرياء فإنه الشرك بالله، فإن المرائي ينادي يوم القيامة على رؤوس الخلائق بأربعة أسماء: يا كافر يا فاجر يا خاسر يا غادر، ضل عملك وبطل أجرك فلا خلاف ذلك اليوم عند الله، فالتمس أجرك ممن كنت تعمل له يا مخادع، وقرأ آيات من القرآن "فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً" الآية، و"إن المنافقين يخادعون الله" الآية". وأخرج ابن جرير عن ابن وهب قال: سألت ابن زيد عن قوله: "يخادعون الله والذين آمنوا" قال: هؤلاء المنافقون يخادعون الله ورسوله، والذين آمنوا أنهم يؤمنون بما أظهروه. وعن قوله: " وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون " أنهم ضروا أنفسهم بما أضمروا من الكفر والنفاق. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن جريج في قوله: "يخادعون الله" قال: يظهرون لا إله إلا الله يريدون أن يحزروا بذلك دماءهم وأموالهم وفي أنفسهم غير ذلك.

فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ

المرض: كل ما يخرج به الإنسان عن حد الصحة من علة أو إنفاق أو تقصير في أمر، قاله ابن فارس، وقيل: هو الألم، فيكون على هذا مستعاراً للفساد الذي في عقائدهم إما شكاً ونفاقاً، أو جحداً وتكذيباً، وتقديم الخبر للإشعار بأن المرض مختص بها بمبالغة في تعلق هذا الداء بتلك القلوب لما كانوا عليه من شدة الحسد وفرط العداوة. والمراد بقوله: 10- "فزادهم الله مرضاً" الإخبار بأنهم كذلك بما يتجدد لرسول الله صلى الله عليه وسلم من النعم، ويتكرر له من منن الله الدنيوية والدينية. ويحتمل أن يكون دعاء عليهم بزيادة الشك وترادف الحسرة وفرط النفاق. والأليم المؤلم: أي الموجع، وما في قوله: "بما كانوا يكذبون" مصدرية: أي بتكذيبهم وهو قولهم: "آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين" والقراء مجمعون على فتح الراء من قوله: مرض، إلا ما رواه الأصمعي عن أبي عمرو أنه قرأ بإسكان الراء، وقرأ حمزة وعاصم والكسائي "يكذبون" بالتخفيف، والباقون بالتشديد. وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى: "في قلوبهم مرض" قال: شك "فزادهم الله مرضاً" قال شكاً. وأخرج عنه ابن جرير وابن أبي حاتم في قوله: "في قلوبهم مرض" قال النفاق: "ولهم عذاب أليم" قال: نكال موجع "بما كانوا يكذبون" قال: يبدلون ويحرفون. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود مثل ما قاله ابن عباس أولاً. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كل شيء في القرآن أليم فهو الموجع. وأخرج أيضاً عن أبي العالية مثله. وأخرج ابن جرير عن الضحاك مثله أيضاً. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة "في قلوبهم مرض" أي ريبة وشك في أمر الله "فزادهم الله مرضاً" ريبة وشكاً "ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون" قال: إياكم والكذب فإنه باب النفاق. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد قال: هذا مرض في الدين وليس مرضاً في الأجساد وهم المنافقون. والمرض: الشك الذي دخل في الإسلام. وروي عن عكرمة وطاوس أن المرض: الرياء.

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ

11- "إذا" في موضع نصب على الظرف والعامل فيه قالوا: المذكور بعده. وفيه معنى الشرط. والفساد ضد الصلاح، وحقيقته العدول عن الاستقامة إلى ضدها. فسد الشيء يفسد فساداً وفسوداً فهو فاسد وفسيد. والمراد في الآية: "لا تفسدوا في الأرض" بالنفاق وموالاة الكفرة وتفريق الناس عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن، فإنكم إذا فعلتم ذلك فسد ما في الأرض بهلاك الأبدان وخراب الديار وبطلان الذرائع، كما هو مشاهد عند ثوران الفتن والتنازع. وإنما من أدوات القصر كما هو مبين في علم المعاني. والصلاح ضد الفساد. لما نهاهم الله عن الفساد الذي هو دأبهم أجابوا بهذه الدعوى العريضة، ونقلوا أنفسهم من الاتصاف بما هي عليه حقيقة وهو الفساد، إلى الاتصاف بما هو ضد لذلك وهو الصلاح، ولم يقفوا عند هذا الكذب البحت والزور المحض حتى جعلوا صفة الصلاح مختصة بهم خالصة لهم، فرد الله عليهم ذلك أبلغ رد لما يفيده حرف التنبيه من تحقق ما بعده، ولما في إن من التأكيد، وما في تعريف الخبر مع توسيط ضمير الفصل من الحصر المبالغ فيه بالجمع بين أمرين من الأمور المفيدة له، وردهم إلى صفة الفساد التي هي متصفون بها في الحقيقة رداً مؤكداً مبالغاً فيه بزيادة على ما تضمنته دعواهم الكاذبة من مجرد الحصر المستفاد من إنما. وأما نفي الشعور عنهم فيحتمل أنهم لما كانوا يظهرون الصلاح مع علمهم أنهم على الفساد الخالص، ظنوا أن ذلك ينفق على النبي صلى الله عليه وسلم وينكتم عنه بطلان ما أضمروه، ولم يشعروا بأنه عالم به، وأن الخبر يأتيه بذلك من السماء، فكان نفي الشعور عنهم من هذه الحيثية لا من جهة أنهم لا يشعرون بأنهم على الفساد. ويحتمل أن فسادهم كان عندهم صلاحاً لما استقر في عقولهم من محبة الكفر وعداوة الإسلام. وقد أخرج ابن جرير عن ابن مسعود أنه قال: الفساد هنا هو الكفر والعمل بالمعصية. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "إنما نحن مصلحون" أي إنما نريد الإصلاح بين الفريقين من المؤمنين وأهل الكتاب. وأخرج ابن جرير عن مجاهد في تفسير هذه الآية قال: إذا ركبوا معصية فقيل لهم: لا تفعلوا كذا قالوا: إنما نحن على الهدى. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن سلمان أنه قرأ هذه الآية فقال: لم تجئ أهل هذه الآية بعد. قال ابن جرير: يحتمل أن سلمان أراد بهذا أن الذين يأتون بهذه الصفة أعظم فساداً من الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، لا أنه غنى أنه لم يمض ممن تلك صفته أحد انتهى. ويحتمل أن سلمان يرى أن هذه الآية ليست في المنافقين، بل يحملها على مثل أهل الفتن التي يدين أهلها بوضع السيف في المسلمين، كالخوارج وسائر من يعتقد في فساده أنه صلاح لما يطرأ عليه من الشبه الباطلة.

أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ

12- "ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون".

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ

أي وإذا قيل للمنافقين: آمنوا كما آمن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار أجابوا بأحمق جواب وأبعده عن الحق والصواب، فنسبوا إلى المؤمنين السفه استهزاءً واستخفافاً، فتسببوا بذلك إلى تسجيل الله عليهم بالسفه بأبلغ عبارة وآكد قول. وحصر السفاهة وهي رقة الحلوم وفساد البصائر وسخافة العقول فيهم مع كونهم لا يعلمون أنهم كذلك إما حقيقة أو مجازاً، تنزياً لإصرارهم على السفه منزلة عدم العلم بكونهم عليه وأنهم متصفون به، ولما ذكر الله هنا السفه ناسبه نفي العلم عنهم لأنه لا يتسافه إلا جاهل. والكاف في موضع نصب لأنها نعت لمصدر محذوف: أي إيماناً كإيمان الناس. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: 13- "وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس" أي صدقوا كما صدق أصحاب محمد أنه نبي ورسول، وأن ما أنزل عليه حق، "قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء" يعنون أصحاب محمد "ألا إنهم هم السفهاء" يقول: الجهال: "ولكن لا يعلمون" يقول: لا يعقلون. وروي عن ابن عساكر في تاريخه بسند واه أنه قال: آمنوا كما آمن الناس أبو بكر وعمر وعثمان وعلي. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود في قوله: "كما آمن السفهاء" قال: يعنون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرج عن الربيع وابن زيد مثله. وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنها نزلت في شأن اليهود: أي إذا قيل لهم: يعني اليهود "آمنوا كما آمن الناس" عبد الله بن سلام وأصحابه "قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء".

وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ

14- "لقوا" أصله يلقوا، نقلت الضمة إلى القاف وحذفت الياء لالتقاء الساكنين. ومعنى لقيته ولاقيته: استقبلته قريباً. وقرأ محمد بن السميفع اليماني وأبو حنيفة لاقوا، وأصله لاقيوا تحركت الياء وانفتح ما قبلها فانقلبت ألفاً. ثم حذفت الألف لالتقاء الساكنين. وخلوت بفلان وإليه: إذا انفردت به. وإنما عدي بإلى وهو يتعدى بالباء فقال: خلوت به لا خلوت إليه، لتضمنه معنى ذهبوا وانصرفوا. والشياطين جمع شيطان على التكسير. وقد اختلف كلام سيبويه في نون الشيطان فجعلها في موضع من كتابه أصلية وفي آخر زائدة، فعلى الأول هو من شطن أي بعد عن الحق، وعلى الثاني من شط: أي بعد أو شاط: أي بطل، وشاط: أي احترق، وأشاط: إذا هلك قال: وقد يشيط على أرماحنا البطل أي يهلك. وقال آخر: وأبيض ذي تاج أشاطت رماحنا لمعترك بين الفوارس أقتما أي أهلكت. وحكى سيبويه أن العرب تقول: تشيطن فلان: إذا فعل أفعال الشياطين. ولو كان من شاط لقالوا: تشيط، ومنه قول أمية بن أبي الصلت: أيما شاطن عصاه عكا ه ورماه في السجن والأغلال وقوله: "إنا معكم" معناه مصاحبوكم في دينكم وموافقوكم عليه. والهزؤ: السخرية واللعب. قال الراجز: قد هزئت مني أم طيسله قالت أراه معدماً لا مال له قال في الكشاف: وأصل الباب الخفة من الهزء وهو القتل السريع، وهزأ يهزأ: مات على المكان. عن بعض العرب مشيت فلغبت فظننت لأهزأن على مكاني، وناقته تهزأ به: أي تسرع وتخف انتهى. وقيل: أصله الانتقام، قال الشاعر: قد استهزءوا منهم بألفي مدجج سراتهم وسط الصحاصح جثم فأفاد قولهم: "إنا معكم" أنهم ثابتون على الكفر، وأفاد قولهم: " إنما نحن مستهزئون " ردهم للإسلام ورفعهم للحق، وكأنه جواب سؤال مقدر ناشئ من قولهم إنا معكم: أي إذا كنتم معنا فما بالكم إذا لقيتم المسلمين وافقتموهم؟ فقالوا: إنما نحن مستهزئون بهم في تلك الموافقة، ولم تكن بواطننا موافقة لهم ولا مائلة إليهم.

اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ

فرد الله ذلك عليهم بقوله: 15- "الله يستهزئ بهم" أي ينزل بهم الهوان والحقارة وينتقم منهم ويستخف بهم انتصافاً منهم لعباده المؤمنين، وإنما جعل سبحانه ما وقع منه استهزاءً مع كونه عقوبة ومكافأة مشاكلة: وقد كانت العرب إذا وضعت لفظاً بإزاء لفظ جواباً له وجزاءً ذكرته بمثل ذلك اللفظ وإن كان مخالفاً له في معناه. وورد في ذلك في القرآن كثيراً، ومنه "وجزاء سيئة سيئة مثلها" "فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم" والجزاء لا يكون سيئة. والقصاص لا يكون اعتداءً لأنه حق، ومنه "ومكروا ومكر الله" " إنهم يكيدون كيدا * وأكيد كيدا "، "يخادعون الله والذين آمنوا"، "يخادعون الله وهو خادعهم"، "تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك". وهو في السنة كثير كقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا يمل حتى تملوا" وإنما قال: "الله يستهزئ بهم" لأنه يفيد التجدد وقتاً بعد وقت، وهو أشد عليهم وأنكأ لقلوبهم وأوجع لهم من الاستهزاء الدائم الثابت المستفاد من الجملة الإسمية، لما هو محسوس من أن العقوبة الحادثة وقتاً بعد وقت، والمتجددة حيناً بعد حين، أشد على من وقعت عليه من العذاب الدائم المستمر لأنه يألفه ويوطن نفسه عليه. والمد: الزيادة. قال يونس بن حبيب: يقال مد في الشر وأمد في الخير، ومنه "وأمددناكم بأموال وبنين"، " وأمددناهم بفاكهة ولحم ". وقال الأخفش: مددت له إذا تركته، وأمددت: إذا أعطيته. وقال الفراء واللحياني: مددت فيما كانت زيادته زيادته من مثله، يقال: مد النهر، ومنه "والبحر يمده من بعده سبعة أبحر" وأمددت فيما كانت زيادته من غيره، ومنه "يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة" والطغيان مجاوزة الحد والغلو في الكفر ومنه " إنا لما طغى الماء " أي تجاوز المقدار الذي قدرته الخزان، وقوله في فرعون: "إنه طغى" أي أسرف في الدعوى حيث قال: "أنا ربكم الأعلى". والعمه والعامه: الحائر المتردد، وذهبت إبله لعمهي: إذا لم يدر أين ذهبت، والعمه في القلب كالعمى في العين. قال في الكشاف: العمه مثل العمى، إلا أن العمى في البصر والرأي، والعمه في الرأي خاصة انتهى. والمراد أن الله سبحانه يطيل لهم المدة ويمهلهم كما قال: "إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً". قال ابن جرير: "في طغيانهم يعمهون" في ضلالهم وكفرهم الذي قد غمرهم يترددون حيارى ضلالاً لا يجدون إلى المخرج منه سبيلاً، لأن الله قط طبع على قلوبهم وختم عليها، وأعمى أبصارهم عن الهدى وأغشاها، فلا يبصرون رشداً ولا يهتدون سبيلاً. وقد أخرج الواحدي والثعلبيبسند واه، لأن فيه محمد بن مروان وهو متروك، عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي وأصحابه، وذكر قصة وقعت لهم مع أبي بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه قال: كان رجال من اليهود إذا لقوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أو بعضهم قالوا: إنا على دينكم "وإذا خلوا إلى شياطينهم" وهم إخوانهم قالوا: "إنا معكم" على مثل ما أنتم عليه " إنما نحن مستهزئون " بأصحاب محمد "الله يستهزئ بهم" قال: يسخر بهم للنقمة منهم "ويمدهم في طغيانهم" قال: في كفرهم "يعمهون" قال: يترددون. وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات عنه بمعناه وأطول منه. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عنه بنحو الأول. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود في قوله: "وإذا خلوا إلى شياطينهم" قال: رؤسائهم في الكفر. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك قال: "وإذا خلوا" أي مضوا. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة نحو ما قاله ابن مسعود، وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود في قوله: "ويمدهم" قال: يملي لهم "في طغيانهم يعمهون" قال: في كفرهم يتمادون. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس نحو ما قاله ابن مسعود في تفسير يعمهون. وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد "يمدهم" يزيدهم "في طغيانهم يعمهون" قال: يلعبون ويترددون في الضلالة. وأخرج أحمد في المسند عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعوذ بالله من شياطين الإنس والجن، فقلت: يا رسول الله وللإنس شياطين؟ قال: نعم.

أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ

قال سيبويه: صحت الواو في 16- "اشتروا" فرقاً بينها وبين الواو الأصلية في نحو " وألو استقاموا ". وقال الزجاج: حركت بالضم كما يفعل في نحن. وقرأ يحيى بن يعمر بكسر الواو على أصل التقاء الساكنين. وقرأ أبو السماك العدوى بفتحها لخفة الفتحة. وأجاز الكسائي همز الواو. والشراء هنا مستعار للاستبدال: أي استبدلوا الضلالة بالهدى كقوله تعالى: "فاستحبوا العمى على الهدى" فأما أن يكون معنى الشراء المعاوضة كما هو أصله حقيقة فلا، لأن المنافقين لم يكونوا مؤمنين فيبيعوا إيمانهم، والعرب قد تستعمل ذلك في كل من استبدل شيئاً بشيء. قال أبو ذؤيب: فإن تزعميني كنت أجهل فيكمو فإن شريت الحلم بعدك بالجهل وأصل الضلالة الحيرة والجور عن القصد وفقد الاهتداء، وتطلق على النسيان، ومنه قوله تعالى: "قال فعلتها إذاً وأنا من الضالين"، وعلى الهلاك كقوله: " وقالوا أإذا ضللنا في الأرض " وأصل الربح الفضل. والتجارة: صناعة التاجر، وأسند الربح إليها على عادة العرب في قولهم: ربح بيعك وخسرت صفقتك، وهو من الإسناد المجازي، وهو إسناد الفعل إلى ملابس للفاعل كما هو مقرر في علم المعاني. والمراد: ربحوا وخسروا. والاهتداء قد سبق تحقيقه: أي وما كانوا مهتدين في شرائهم الضلالة، وقيل: في سابق علم الله. وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: "اشتروا الضلالة بالهدى". وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة قال: استحبوا الضلالة على الهدى، قد والله رأيتموهم خرجوا من الهدى إلى الضلالة، ومن الجماعة إلى الفرقة، ومن الأمن إلى الخوف، ومن السنة إلى البدعة.

مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ

17- "مثلهم" مرتفع بالابتداء، وخبره إما الكاف في قوله: "كمثل" لأنها اسم: أي مثل مثل كما في قول الأعشى: أتنتهون ولن تنهى ذوي شطط كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل وقول امرئ القيس: ورحنا بكابن الماء يجنب وسطنا تصوب فيه العين طوراً وترتقي أراد مثل الطعن وبمثل ابن الماء، ويجوز أن يكون الخبر محذوفاً: أي مثلهم مستنير كمثل، فالكاف على هذا حرف. والمثل: الشبه، والمثلان: المتشابهان "والذي" موضوع موضع الذين: أي كمثل الذين استوقدوا، وذلك موجود في كلام العرب كقول الشاعر: وإن الذي حانت بفلج دماؤهم هم القوم كلا القوم يا أم خالد ومنه "وخضتم كالذي خاضوا" ومنه "والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون". ووقود النار: سطوعها وارتفاع لهبها، " استوقد " بمعنى أوقد مثل استجاب بمعنى أجاب، فالسين والتاء زائدتان، قاله الأخفش. ومنه قول الشاعر: وداع دعا يا من يجيب إلى الندا فلم يستجبه عند ذاك مجيب أي يجبه. والإضاءة فرط الإنارة، وفعلها يكون لازماً ومتعدياً. و"ما حوله" قيل: ما زائدة. وقيل: هي موصولة في محل نصب على أنها مفعول أضاءت وحوله منصوب على الظرفية، و"ذهب" من الذهاب، وهو زوال الشيء. و"تركهم" أي أبقاهم "في ظلمات" جمع ظلمة. وقرأ الأعمش بإسكان اللام على الأصل. وقرأ أشهب العقيلي بفتح اللام، وهي عدم النور.

صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ

18- و"صم" وما بعده خبر مبتدأ محذوف: أي هم. وقرأ ابن مسعود صماً بكماً عمياً بالنصب على الذم، ويجوز أن ينتصب بقوله تركهم. والصمم: الانسداد، يقال قناة صماء: إذا لم تكن مجوفة، وصممت القارورة: إذا سددتها، وفلان أصم: إذا انسدت خروق مسامعه. والأبكم: الذي لا ينطلق ولا يفهم، فإذا فهم فهو الأخرس. وقيل: الأخرس والأبكم واحد. والعمى: ذهاب البصر. والمراد بقوله: "فهم لا يرجعون" أي إلى الحق، وجواب لما في قوله فلما أضاءت، قيل هو: "ذهب الله بنورهم" وقيل: محذوف تقديره: طفئت فبقوا حائرين. وعلى الثاني فيكون قوله: "ذهب الله بنورهم" كلاماً مستأنفاً أو بدلاً من المقدر. ضرب الله هذا المثل للمنافقين لبيان أن ما يظهرونه من الإيمان مع ما يبطنونه من النفاق لا يثبت لهم به أحكام الإسلام، كمثل المستوقد الذي أضاءت ناره ثم طفئت، فإنه يعود إلى الظلمة ولا تنفعه تلك الإضاءة اليسيرة، فكان بقاء المستوقد في ظلمات لا يبصر كبقاء المنافق في حيرته وتردده. وإنما وصفت هذه النار بالإضاءة مع كونها نار باطل لأن الباطل كذلك تستطع ذوائب لهب ناره لحظة ثم تخفت. ومنه قولهم: للباطل صولة ثم يضمحل وقد تقرر علماء البلاغة أن لضرب الأمثال شأناً عظيماً في إبراز خفيات المعاني ورفع أستار محجبات الدقائق ولهذا استكثر من ذلك في كتابه العزيز، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر من ذلك في مخاطباته ومواعظه. قال ابن جرير: إن هؤلاء المضروب لهم المثل ها هنا لم يؤمنوا في وقت من الأوقات، واحتج بقوله تعالى: "ومن الناس من يقول: آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين". وقال ابن كثير: إن الصواب أن هذا إخبار عنهم في حال نفاقهم وكفرهم، وهذا لا ينفي أنه كان حصل لهم إيمان قبل ذلك، ثم سلبوه وطبع على قلوبهم كما يفيده قوله تعالى: "ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون". قال ابن جرير: وصح ضرب مثل الجماعة بالواحد كما قال: "رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت" أي كدوران عيني الذي يغشى عليه من الموت، وقال تعالى: " مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا " أهـ. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى: "مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً" قال: هذا مثل ضربه الله للمنافقين كانوا يعتزون بالإسلام فيناكحهم المسلمون ويوارثونهم ويقاسمونهم الفيء، فلما ماتوا سلبهم الله العز كما سلب صاحب النار ضوءه "وتركهم في ظلمات لا يبصرون" يقول: في عذاب "صم بكم عمي" فهم لا يسمعون الهدى ولا يبصرونه ولا يعقلونه. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود وناس من الصحابة في قوله: "مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً" قالوا: إن ناساً دخلوا في الإسلام عند مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ثم نافقوا، فكان مثلهم كمثل رجل كان في ظلمة فأوقد ناراً فأضاءت ما حوله من قذى وأذى فأبصره حتى عرف ما يتقي، فبينما هو كذلك إذ طفئت ناره فأقبل لا يدري ما يتقي من أذى. فكذلك المنافق كان في ظلمة الشرك فأسلم فعرف الحلال من الحرام والخير من الشر، فبينما هو كذلك إذ كفر فصار لا يعرف الحلال من الحرام ولا الخير من الشر، فهم صم بكم هم الخرس، فهم لا يرجعون إلى الإسلام. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: "كمثل الذي استوقد ناراً" قال: ضربه الله مثلاً للمنافق، وقوله: "ذهب الله بنورهم" قال: أما النور فهو إيمانهم الذي يتكلمون به، وأما الظلمة فهو ضلالهم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس مثله. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد نحوه. وأخرجا أيضاً عن قتادة نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة والحسن والسدي والربيع بن أنس نحو ما تقدم.

أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ

عطف هذا المثل على المثل الأول بحرف الشك لقصد التخيير بين المثلين: أي مثلوهم بهذا أو هذا، وهي وإن كانت في الأصل للشك فقد توسع فيها حتى صارت لمجرد التساوي من غير شك -وقيل: إنها بمعنى الواو، قاله القراء وغيره، وأنشد: وقد زعمت ليلى بأني فاجر لنفسي تقاها أو عليها فجورها وقال آخر: نال الخلافة أو كانت له قدرا كما أتى ربه موسى على قدر والمراد بالصيب: المطر، واشتقاقه من صاب يصوب: إذا نزل. قال علقمة: فلا تعدلي بيني وبين معمر سقتك روايا الموت حيث تصوب وأصله صيوب، اجتمعت الياء والواو وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت، كما فعلوا في ميت وسيد. والسماء في الأصل: كل ما علاك فأطلك. ومنه قيل لسقف البيت سماء. والسماء أيضاً: المطر سمي بها لنزوله منها، وفائدة ذكر نزوله من السماء مع كونه لا يكون إلا منها أنه لا يختص نزوله بجانب منها دون جانب، وإطلاق السماء على المطر واقع كثيراً في كلام العرب، فمنه قول حسان: ديار من بني الحسحاس قفر تعفيها الدوامس والسماء وقال آخر: إذا نزل السماء بأرض قوم والظلمات قد تقدم تفسيرها، وإنما جمعها إشارة إلى أنه انضم إلى ظلمة الليل ظلمة الغيم. والرعد: اسم لصوت الملك الذي يزجر السحاب. وقد أخرج الترمذي من حديث ابن عباس قال: "سألت اليهود النبي صلى الله عليه وسلم عن الرعد ما هو؟ قال: ملك من الملائكة بيده مخاريق من نار يسوق بها السحاب حيث شاء الله، قالوا: فما هذا الصوت الذي نسمع؟ قال: زجره بالسحاب إذا زجره حتى ينتهي إلى حيث أمر. قالت: صدقت" الحديث بطوله، وفي إسناده مقال. قال القرطبي: وعلى هذا التفسير أكثر العلماء -وقيل: هو اضطراب أجرام السحاب عند نزول المطر منها، وإلى هذا ذهب جمع من المفسرين تبعاً للفلاسفة وجهلة المتكلمين وقيل غير ذلك، والبرق: مخراق حديد بيد الملك الذي يسوق السحاب، وإليه ذهب كثير من الصحابة وجمهور علماء الشريعة للحديث السابق. وقال بعض المفسرين تبعاً للفلاسفة: إن البرق ما ينقدح من اصطكاك أجرام السحاب المتراكمة من الأبخرة المتصعدة المشتملة على جزء ناري يتلهب عند الاصطكاك. وقوله: 19- "يجعلون أصابعهم في آذانهم" جملة مستأنفة لا محل لها كأن قائلاً قال: فكيف حالهم عند ذلك الرعد؟ فقيل: يجعلون أصابعهم في آذانهم. وإطلاق الأصبع على بعضها مجاز مشهور، والعلاقة الجزئية والكلية لأن ذلك يجعل في الأذن إنما هو رأس الأصبع كلها. والصواعق ويقال الصواقع: هي قطعة نار تنفصل من مخراق الملك الذي يزجرالسحاب عند غضبه وشدة ضربه لها، ويدل على ذلك ما في حديث ابن عباس الذي ذكرنا بعضه قريباً وبه قال كثير من علماء الشريعة. ومنهم من قال: إنها نار تخرج من فم الملك. وقال الخليل: هي الواقعة الشديدة من صوت الرعد، يكون معها أحياناً قطعة نار تحرق ما أتت عليه. وقال أبو زيد الصاعقة: نار تسقط من السماء في رعد شديد. وقال بعض المفسرين تبعاً للفلاسفة ومن قال بقولهم: إنها نار لطيفة تنقدح من السحاب إذا اصطكت أجرامها. وسيأتي في سورة الرعد إن شاء الله في تفسير الرعد والبرق والصواعق ما له مزيد فائدة وإيضاح. ونصب "حذر الموت" على أنه مفعول لأجله. وقال الفراء: منصوب على التمييز. والموت: ضد الحياة. والإحاطة، الأخذ من جميع الجهات حتى لا تفوت المحاط به بوجه من الوجوه.

يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ

وقوله: 20- "يكاد البرق يخطف أبصارهم" جملة مستأنفة كأنه قيل: فكيف حالهم مع ذلك البرق؟ ويكاد: يقارب. والخطف: الأخذ بسرعة، ومنه سمي الطير خطافاً لسرعته. وقرأ مجاهد "يخطف" بكسر الطاء والفتح أفصح. وقوله: "كلما أضاء لهم مشوا فيه" كلام مستأنف كأنه قيل: كيف تصنعون في تارتي خفوق البرق وسكونه، وهو تمثيل لشدة الأمر على المنافقين بشدته على أهل الصيب "ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم" بالزيادة في الرعد والبرق "إن الله على كل شيء قدير" وهذا من جملة مقدوراته سبحانه. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: "أو كصيب" هو المطر ضرب مثله في القرآن "فيه ظلمات" يقول ابتلاء "ورعد وبرق" تخويف "يكاد البرق يخطف أبصارهم" يقول: يكاد محكم القرآن يدل على عورات المنافقين "كلما أضاء لهم مشوا فيه" يقول: كلما أصاب المنافقون من الإسلام عزاً اطمأنوا، فإن أصاب الإسلام نكبة قاموا ليرجعوا إلى الكفر كقوله: "ومن الناس من يعبد الله على حرف" الآية. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود وناس من الصحابة قالوا: كان رجلان من المنافقين من أهل المدينة هرباً من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين، فأصابهما هذا المطر الذي ذكر الله فيه رعد شديد وصواعق وبرق، فجعلا كلما أصابهما الصواعق يجعلان أصابعهما في آذانهما من الفرق أن تدخل الصواعق في مسامعهما فتقتلهما، وإذا لمع البرق مشيا في ضوئه وإذا لم يلمع لم يبصرا قاما مكانهما لا يمشيان فجعلا يقولان: ليتنا قد أصبحنا فنأتي محمداً فنضع أيدينا في يده، فأصبحا فأتياه فأسلما ووضعا أيديهما في يده وحسن إسلامهما فضرب الله شأن هذين المنافقين الخارجين مثلاً للمنافقين الذين بالمدينة، وكان المنافقون إذا حضروا مجلس النبي صلى الله عليه وسلم جعلوا أصابعهم في آذانهم فرقاً من كلام النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل فيهم شيء أو يذكروا بشيء فيقتلوا، كما كان ذلك المنافقان الخارجان يجعلان أصابعهما في آذانهما، وإذا أضاء لهم مشوا فيه: أي فإذا كثرت أموالهم وأولادهم وأصابوا غنيمة وفتحاً مشوا فيه وقالوا: إن دين محمد صلى الله عليه وسلم حينئذ صدق واستقاموا عليه، كما كان ذانك المنافقان يمشيان إذا أضاء لهم البرق، وإذا أظلم عليهم قاموا فكانوا إذا هلكت أموالهم وأولادهم وأصابهم البلاء قالوا: هذا من أجل دين محمد صلى الله عليه وسلم، وارتدوا كفراً كما قام المنافقان حين أظلم البرق عليهما. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: "أو كصيب" قال: هو المطر وهو مثل للمنافق في ضوئه يتكلم بما معه من كتاب الله مراءاة الناس، فإذا خلا وحده عمل بغيره فهو في ظلمة ما أقام على ذلك. وأما الظلمات: فالضلالات. وأما البرق: فالإيمان، وهم أهل الكتاب، وإذا أظلم عليهم: فهو رجل يأخذ بطرف الحق لا يستطيع أن يجاوزه. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس أيضاً نحو ما سلف. وقد روي تفسيره بنحو ذلك عن جماعة من التابعين. واعلم أن المنافقين أصناف، فمنهم من يظهر الإسلام ويبطن الكفر، ومنهم من قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الصحيحين وغيرهما: "ثلاث من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه واحدة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: من إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان" وورد بلفظ أربع وزاد "وإذا خاصم فجر". وورد بلفظ "وإذا عاهد غدر". وقد ذكر ابن جرير ومن تبعه من المفسرين أن هذين المثلين لصنف واحد من المنافقين.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ

21- " يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون " لما فرغ سبحانه من ذكر المؤمنين والكافرين والمنافقين أقبل عليهم بالخطاب التفاتاً للنكتة السابقة في الفاتحة. ويا حرف نداء. والمنادى أي وهو اسم مفرد مبني على الضم، وها حرف تنبيه مقحم بين المنادى وصفته. قال سيبويه: كأنك كررت يا مرتين، وصار الاسم بينهما كما قالوا: ها هوذا. وقد تقدم الكلام في تفسير الناس والعبادة. وإنما خص نعمة الخلق وامتعن بها عليهم، لأن جميع النعم مترتبة عليها. وهي أصلها الذي لا يوجد شيء منها بدونها، وأيضاً فالكفار مقرون بأن الله هو الخالق "ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله" فامتن عليهم بما يعترفون به ولا ينكرونه. وفي أصل معنى الخلق وجهان: أحدهما التقدير. يقال: خلقت الأديم للسقاء: إذا قدرته قبل القطع. قال زهير: ولأنت تفري ما خلقت وبعـ ـض القوم يخلق ثم لا يفري الثاني: الإنشاء والاختراع والإبداع. ولعل أصلها الترجي والطمع والتوقع والإشفاق، وذلك مستحيل على الله سبحانه، ولكنه لما كانت المخاطبة منه سبحانه للبشر كان بمنزلة قوله لهم: افعلوا ذلك على الرجاء منكم والطمع وبهذا قال جماعة من أئمة العربية منهم سيبويه. وقيل: إن العرب استعملت لعل مجردة من الشك بمعنى لام كي. والمعنى هنا: لتتقوا: وكذلك ما وقع هذا الموقع، ومنه قول الشاعر: وقلتم لنــا كفــوا الحــروب لعلنـا نكف ووثقتم لنا كـل موثق فلما كففنا الحرب كانت عهودكم كشبه سراب في الملا متألق أي كفوا عن الحرب لنكف، ولو كانت لعل للشك لم يوثقوا لهم كل موثق، وبهذا قال جماعة منهم قطرب. وقيل: إنها بمعنى التعرض للشيء كأنه قال: متعرضين للتقوى. وجعل هنا بمعنى صير لتعديه إلى المفعولين، ومنه قول الشاعر: وقد جعلت أرى الإثنين أربعة والأربع اثنين لما هدني الكبر

الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ

22- و"فراشاً" أي وطاء يستقرون عليها. لما قدم نعمة خلقهم اتبعه بنعمة خلق الأرض فراشاً لهم، لما كانت الأرض التي هي مسكنهم ومحل استقرارهم من أعظم ما تدعو إليه حاجتهم، ثم أتبع ذلك بنعمة جعل السماء كالقبة المضروبة عليهم، والسقف للبيت الذي يسكنونه كما قال: "وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً". وأصل البناء: وضع لبنة على أخرى. ثم امتن عليهم بإنزال الماء من السماء. وأصل ماء موه، قبلت الواو لتحركها وانفتاح ما قبلها ألفاً فصار ماه، فاجتمع حرفان خفيفان فقلبت الهاء همزة. والثمرات جمع ثمرة. والمعنى: أخرجنا لكم ألواناً من الثمرات وأنواعاً من النبات ليكون ذلك متاعاً لكم إلى حين. والأنداد جمع ند، وهو المثل والنظير. وقوله: "وأنتم تعلمون" جملة حالية والخطاب للكفار والمنافقين. فإن قيل: كيف وصفهم بالعلم وقد نعتهم بخلاف ذلك حيث قال: "ولكن لا يعلمون" "ولكن لا يشعرون" "وما كانوا مهتدين" "صم بكم عمي". فيقال إن المراد أن جهلهم وعدم شعورهم لا يتناول هذا: أي كونهم يعلمون أنه المنعم دون غيره من الأنداد، فإنهم كانوا يعلمون هذا ولا ينكرونه كما حكاه الله عنهم في غير آية. وقد يقال: المراد وأنتم تعلمون وحدانيته بالقوة والإمكان لو تدبرتم ونظرتم. وفيه دليل على وجوب استعمال الحجج وترك التقليد. قال ابن فورك: المراد وتجعلون لله أنداداً بعد علمكم الذي هو نفي الجهل بأن الله واحد انتهى. وحذف مفعول تعلمون للدلالة على عدم اختصاص ما هم عليه من العلم بنوع واحد من الأنواع الموجبة للتوحيد. وقد أخرج البزار والحاكم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن مسعود قال: ما كان "يا أيها الذين آمنوا" فهو أنزل بالمدينة، وما كان "يا أيها الناس" فهو أنزل بمكة. وروي نحو ذلك عن ابن أبي شيبة وعبد بن حميد والطبراني في الأوسط والحاكم وصححه. وروى نحوه أبو عبيد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر من قول علقمة. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن مردويه وابن المنذر عن الضحاك مثله. وكذا أخرج أبو عبيد عن ميمون بن مهران. وأخرج نحوه أيضاً ابن أبي شيبة وابن مردويه عن عروة وعكرمة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "يا أيها الناس" قال: هي للفريقين جميعاً من الكفار والمؤمنين. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك في قوله: "لعلكم" يعني كي. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عون بن عبد الله بن عتبة قال: لعل من الله واجب. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن مسعود وناس من الصحابة في قوله: "الذي جعل لكم الأرض فراشاً" أي تمشون عليها وهي المهاد والقرار "والسماء بناء" قال كهيئة القبة وهي سقف الأرض. وأخرج أبو الشيخ في العظمة عن الحسن أنه سئل: المطر من السماء أم من السحاب؟ قال: من السماء. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن كعب قال: السحاب غربال المطر، ولولا السحاب حين ينزل الماء من السماء لأفسد ما يقع عليه من الأرض والبذر. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن خالد بن معدان قال: المطر ماء يخرج من تحت العرش فينزل من سماء إلى سماء حتى يجتمع في سماء الدنيا، فيجتمع في موضع يقال له الأبزم، فتجيء السحاب السود فتدخله فتشربه مثل شرب الإسفنجة فيسوقها الله حيث يشاء. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عكرمة قال: ينزل الماء من السماء السابعة، فتقع القطرة منه على الحساب مثل البعير. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن خالد بن يزيد قال: المطر منه من السماء، ومنه ما يستقيه الغيم من البحر فيعذبه الرعد والبرق، وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب المطر عن ابن عباس قال: إذا جاء القطر من السماء تفتحت له الأصداف فكان لؤلؤاً. وأخرج الشافعي في الأم وابن أبي الدنيا في كتاب المطر وأبو الشيخ في العظمة عن المطلب بن حنطب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من ساعة من ليل ولا نهار إلا والسماء تمطر فيها يصرفه الله حيث يشاء". وأخرج ابن أبي الدنيا وأبو الشيخ عنن ابن عباس قال: ما نزل مطر من السماء إلا ومعه البذر، أما لو أنكم بسطتم نطعا لرأيتموه. وأخرج ابن أبي الدنيا وأبو الشيخ عن ابن عباس قال: المطر مزاجة من الجنة، فإذا كثر المزاج عظمت البركة وإن قل المطر، وإذا قل المزاج قلت البركة وإن كثر المطر. وأخرج أبو الشيخ عن الحسن قال: ما من عام بأمطر من عام ولكن الله يصرفه حيث يشاء، وينزل مع المطر كذا وكذا من الملائكة يكتبون حيث يقع ذلك المطر ومن يرزقه ومن يخرج منه مع كل قطرة. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "فلا تجعلوا لله أنداداً" أي لا تشركوا به غيره من الأنداد التي لا تضر ولا تنفع "وأنتم تعلمون" أنه لا رب لكم يرزقكم غيره. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس "أنداداً" قال: أشباهاً. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود "أنداداً" قال : أكفاء من الرجال يطيعونهم في معصية الله . وأخرج عبد بن حميد عن قتادة "أندادا " قال : شركاء. وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والبخاري في الأدب المفرد والنسائي وابن ماجه وأبو نعيم في الحلية عن ابن عباس قال: "قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله وشئت، قال: جعلتني لله نداً ما شاء الله وحده". وأخرج ابن سعد عن قتيلة بنت صيفي قالت: "جاء حبر من الأحبار إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد نعم القوم أنتم لولا أنكم تشركون، قال: وكيف؟ قال: يقول أحدكم لا والكعبة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من حلف فليحلف برب الكعبة. فقال: يا محمد نعم القوم أنتم لولا أنكم تجعلون لله نداً، قال: وكيف ذلك؟ قال: يقول أحدكم ما شاء الله وشئت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فمن قال منكم ما شاء الله قال: ثم شئت" وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والبيهقي عن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان، قولوا ما شاء الله ثم شاء فلان" وأخرج أحمد وابن ماجه والبيهقي وابن مردويه عن طفيل بن سخبرة "أنه رأى فيما يرى النائم كأنه مر برهط من اليهود فقال: أنتم نعم القوم لولا أنكم تزعمون أن عزيراً ابن الله، فقالوا: وأنتم نعم القوم لولا أنكم تقولون ما شاء الله وشاء محمد. ثم مر برهط من النصارى فقال: أنتم نعم القوم لولا أنكم تقولون المسيح ابن الله، قالوا: وأنتم نعم القوم لولا أنكم تقولون ما شاء الله وشاء محمد. فلما أصبح أخبر النبي صلى الله عليه وسلم فخطب فقال: إن طفيلاً رأى رؤيا وإنكم تقولون كلمة كان يمنعني الحياء منكم فلا تقولوها، ولكن قولوا: ما شاء الله وحده لا شريك له" وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: الأنداد هو الشرك أخفى من دبيب النمل على صفا سوداء في ظلمة الليل، وهو أن تقول: والله وحياتك يا فلان وحياتي، وتقول: لولا كلبه هذا لأتانا اللصوص، ولولا القط في الدار لأتى اللصوص، وقول الرجل: ما شاء الله وشئت، وقول الرجل: لولا الله وفلان، هذا كله شرك. وأخرج البخاري ومسلم عن ابن مسعود قال: "قلت: يا رسول الله أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك" الحديث.

وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ

23- "في ريب" أي شك مما نزلنا على عبدنا: أي القرآن أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم. والعبد مأخوذ من التعبد وهو التذلل. والتنزيل التدريج والتنجيم. وقوله: "فأتوا" الفاء جواب الشرط وهو أمر معناه التعجيز. لما احتج عليهم بما يثبت الوحدانية ويبطل الشرك عقبه بما هو الحجة على إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وما يدفع الشبهة في كون القرآن معجزة، فتحداهم بأن يتلوا بسورة من سوره. والسورة الطائفة من القرآن المسماة باسم خاص، سميت بذلك لأنها مشتملة على كلماتها كاشتمال سور البلد عليها. ومن في قوله: "من مثله" زائدة لقوله: فأتوا بسورة مثله. والضمير في مثله عائد على القرآن عند جمهور أهل العلم. وقيل: عائد على التوراة والإنجيل، لأن المعنى: فأتوا بسورة من كتاب مثله فإنها تصدق ما فيه. وقيل: يعود على النبي صلى الله عليه وسلم، والمعنى من بشر مثل محمد: أي لا يكتب ولا يقرأ. والشهداء جمع شهيد بمعنى الحاضر أو القائم بالشهادة أو المعاون، والمراد هنا بالآلهة. ومعنى "دون": أدنى مكان من الشيء واتسع فيه حتى استعمل في تخطي الشيء إلى شيء آخر، ومنه ما في هذه الآية، وكذلك قوله تعالى: "لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين" وله معان أخر، منها التقصير عن الغاية والحقارة، يقال: هذا الشيء دون: أي حقير، ومنه: إذا ما علا المرء رام العلا ويقنع بالدون من كان دونا والقرب يقال هذا دون ذاك: أي أقرب منه ويكون إغراء، تقول: دونك زيداً: أي خذه من أدنى مكان "من دون الله" متعلق بادعوا: أي ادعوا الذين يشهدون لكم من دون الله إن كنتم صادقين فيما قلتم من أنكم تقدرون على المعارضة، وهذا تعجيز لهم وبيان لانقطاعهم. والصدق خلاف الكذب، وهو مطابقة الخبر للواقع أو للاعتقاد أو لهما على الخلاف المعروف في علم المعاني.

فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ

24- "فإن لم تفعلوا" يعني فيما مضى "ولن تفعلوا" أي تطيقوا ذلك فيما يأتي وتبين لكم عجزكم عن المعارضة "فاتقوا النار" بالإيمان بالله وكتبه ورسله والقيام بفرائضه واجتناب مناهيه وعبر عن الإتيان بالفعل لأن الإتيان فعل من الأفعال لقصد الاختصار، وجملة لن تفعلوا لا محل لها من الإعراب لأنها اعتراضية، ولن للنفي المؤكد لما دخلت عليه، وهذا من الغيوب التي أخبر بها القرآن قبل وقوعها، لأنها لم تقع المعارضة من أحد الكفرة في أيام النبوة وفيما بعدها وإلى الآن. والوقود بالفتح: الحطب، وبالضم: التوقد أي المصدر، وقد جاء في الفتح. والمراد بالحجارة الأصنام التي كانوا يعبدونها لأنهم قرنوا أنفسهم بها في الدنيا فجعلت وقوداً للنار معهم. ويدل على هذا قوله تعالى: "إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم" أي حطب جهنم. وقيل: المراد بها حجارة الكبريت، وفي هذا من التهويل ما لا يقدر قدره من كون هذه النار تتقد بالناس والحجارة، فأوقدت بنفس ما يراد إحراقه بها، والمراد بقوله: "أعدت" جعلت عدة لعذابهم وهيئت لذلك. وقد كرر الله سبحانه تحدي الكفار بهذا في مواضع في القرآن، منها هذا، ومنها قوله تعالى في سورة القصص: " قل فاتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين " وقال في سبحان: "قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً" وقال في سورة هود: " أم يقولون افتراه قل فاتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين " وقال في سورة يونس: " وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين * أم يقولون افتراه قل فاتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ". وقد وقع الخلاف بين أهل العلم هل وجه الإعجاز في القرآن هو كونه في الرتبة العلية من البلاغة الخارجة عن طوق البشر، أو كان العجز عن المعارضة للصرفة من الله سبحانه لهم عن أن يعارضوه، والحق الأول، والكلام في هذا مبسوط في مواطنه. وقد أخرج أحمد والبخاري ومسلم والنسائي والبيهقي في الدلائل عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من نبي من الأنبياء إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة" وقد أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله: "وإن كنتم في ريب" قال: هذا قول الله لمن شك من الكفار فيما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "وإن كنتم في ريب" قال: في شك " مما نزلنا على عبدنا فاتوا بسورة من مثله " قال: من مثل القرآن حقاً وصدقاً لا باطل فيه ولا كذب. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد " فاتوا بسورة من مثله " قال: مثل القرآن "وادعوا شهداءكم" قال: ناس يشهدون لكم إذا أتيتم بها أنها مثله. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "شهداءكم" قال: أعوانكم على ما أنتم عليه "فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا" فقد بين لكم الحق . وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة " فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا " يقول: لن تقدروا على ذلك ولن تطيقوه. وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد أنه كان يقرأ كل شيء في القرآن وقودها برفع الواو الأولى، إلا التي في السماء ذات البروج "النار ذات الوقود" بنصب الواو. وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني في الكبير والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال: إن الحجارة التي ذكرها الله في القرآن في قوله: "وقودها الناس والحجارة" حجارة من كبريت خلقها الله عنده كيف شاء. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس مثله. وأخرج ابن جرير أيضاً عن عمرو بن ميمون مثله أيضاً. وأخرج ابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن أنس قال: "تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية "وقودها الناس والحجارة" قال: أوقد عليها ألف عام حتى احمرت، وألف عام حتى ابيضت، وألف عام حتى اسودت، فهي سوداء مظلمة لا يطفأ لهبها". وأخرج ابن أبي شيبة والترمذي وابن مردويه والبيهقي عن أبي هريرة مرفوعاً مثله. وأخرج أحمد ومالك والبخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "نار بني آدم التي توقدون جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم، قالوا: يا رسول الله إن كانت لكفاية؟ قال: فإنها قد فضلت عليها بتسعة وستين جزءاً كلهن مثل حرها". وأخرج الترمذي وحسنه عن أبي سعيد مرفوعاً نحوه. وأخرج ابن ماجه والحاكم وصححه عن أنس مرفوعاً نحوه أيضاً. وأخرج مالك في الموطأ والبيهقي في البعث عن أبي هريرة قال: أترونها حمراء مثل ناركم هذه التي توقدون، إنها لأشد سواداً من القار. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "أعدت للكافرين" قال: أي لمن كان مثل ما أنتم عليه من الكفر.

وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاج

لما ذكر تعالى جزاء الكافرين عقبة بجزاء المؤمنين ليجمع بين الترغيب والترهيب والوعد والوعيد كما هي عادته سبحانه في كتابه العزيز، لما في ذلك من تنشيط عباده المؤمنين لطاعاته، وتثبيط عباده الكافرين عن معاصيه. والتبشير: الإخبار بما يظهر أثره على البشرة، وهي الجلدة الظاهرة، من البشر والسرور. قال القرطبي: أجمع العلماء على أن المكلف إذا قال: من بشرني من عبيدي فهو حر فبشره واحد من عبيده فأكثر فإن أولهم يكون حراً دون الثاني واختلفوا إذا قال: من أخبرني من عبيدي بكذا فهو حر، فقال أصحاب الشافعي: يعم لأن كل واحد منهم مخبر، وقال علماؤنا: لا، لأن المكلف إنما قصد خبراً يكون بشارة، وذلك مختص بالأول انتهى. والحق أنه إن أراد مدلول الخبر عتقوا جميعاً، وإن أراد الخبر المقيد بكونه بشارة عتق الأول، فالخلاف لفظي. والمأمور بالتبشير قيل: هو النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: هو كل أحد كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "بشر المشائين" وهذه الجمل وإن كانت مصدرة بالإنشاء فلا يقدح ذلك في عطفها على ما قبلها، لأن المراد عطف جملة وصف ثواب المطيعين على جملة وصف عقاب العاصين من دون نظر إلى ما اشتمل عليه الوصفان من الأفراد المتخالفة خبراً وإنشاءً. وقيل: إن قوله: 25- "وبشر" معطوف على قوله: "فاتقوا النار"، وليس هذا بجيد. "الصالحات" الأعمال المستقيمة. والمراد هنا: الأعمال المطلوبة منهم المفترضة عليهم- وفيه رد على من يقول إن الإيمان بمجرده يكفي، فالجنة تنال بالإيمان والعمل الصالح. والجنات: البساتين، وإنما سميت جنات لأنها تجن ما فيها: أي تستره بشجرها، وهو اسم لدار الثواب كلها وهي مشتملة على جنات كثيرة. والأنهار جمع نهر، وهو المجرى الواسع فوق الجدول ودون البحر، والمراد: الماء الذي يجري فيها، وأسند الجري إليها مجازاً، والجاري حقيقة هو الماء كما في قوله تعالى: "واسأل القرية" أي أهلها وكما قال الشاعر: ونبئت أن النار بعدك أوقدت واستب بعدك يا كليب المجلس والضمير في قوله: "من تحتها" عائد إلى الجنات لاشتمالها على الأشجار: أي من تحت أشجارها. وقوله: " كلما رزقوا " وصف آخر للجنات، أو هو جملة مستأنفة كأن سائلاً قال: كيف ثمارها. و"من ثمرة" في معنى من أي ثمرة: أي نوع من أنواع الثمرات. والمراد بقوله: "هذا الذي رزقنا من قبل" أنه شبيهه ونظيره، لا أنه هو، لأن ذات الحاضر لا تكون عين ذات الغائب لاختلافهما، وذلك أن اللون يشبه اللون وإن كان الحجم والطعم والرائحة والماوية متخالفة. والضمير في بد عائد إلى الرزق، وقيل: المراد أنهم أتوا بما يرزقونه في الجنة متشابهاً فما يأتيهم في أول النهار يشابه الذي يأتيهم في آخره، فيقولون هذا الذي رزقنا من قبل، فإذا أكلوا وجدوا له طعماً غير طعم الأول. و"متشابهاً" منصوب على الحال. والمراد بتطهير الأزواج أنه لا يصيبهن ما يصيب النساء من قذر الحيض والنفاس وسائر الأدناس التي لا يمتنع تعلقها بنساء الدنيا. والخلود: البقاء الدائم الذي لا ينقطع، وقد يستعمل مجازاً فيما يطول، والمراد هنا الأول. وقد أخرج ابن ماجه وابن أبي الدنيا في صفة الجنة والبزار وابن أبي حاتم وابن حبان والبيهقي وابن مردويه عن أسامة بن زيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا هل مشمر للجنة فإن الجنة لا خطر لها، هي ورب الكعبة نور يتلألأ، وريحانة تهتز، وقصر مشيد، ونهر مطرد، وثمرة نضيجة، وزوجة حسناء جميلة، وحلل كثيرة، ومقام في أبد في دار سليمة، وفاكهة خضراء" الحديث. والأحاديث في وصف الجنة كثيرة جداً ثابتة في الصحيحين وغيرهما. وأخرج ابن أبي حاتم وابن حبان والطبراني والحاكم وابن مردويه والبيهقي في البعث عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنهار الجنة تفجر من تحت جبال مسك". وأخرج ابن أبي شيبة وأبو حاتم وأبو الشيخ وابن حبان والبيهقي في البعث وصححه عن ابن مسعود نحوه موقوفاً. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك في قوله: "تجري من تحتها الأنهار" قال: يعني المساكن تجري أسفلها أنهارها. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود وناس من الصحابة في قوله: " كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا " قال: أتوا بالثمرة في الجنة فنظروا إليها "قالوا هذا الذي رزقنا من قبل" في الدنيا "وأتوا به متشابهاً" في اللون والمرأى وليس يشبه الطعم. وأخرج عبد بن حميد عن علي بن زيد وقتادة نحوه. وأخرج مسدد في مسنده وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: ليس في الدنيا مما في الجنة شيء إلا الأسماء. وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة قال: قولهم: "من قبل" معناه: هذا مثل الذي كان بالأمس. وأخرج ابن جرير عن يحيى بن أبي كثير نحوه. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد قال: "متشابهاً" في اللون مختلفاً في الطعم. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن الحسن في قوله: "متشابهاً" قال: خيار كله يشبه بعضه بعضاً لا رذل فيه، ألم تروا إلى ثمار الدنيا كيف ترذلون بعضه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة مثله. وأخرج الحاكم وصححه وابن مردويه عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "ولهم فيها أزواج مطهرة" قال: من الحيض والغائط والبزاق والنخامة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: من القذر والأذى. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود قال: لا يحضن ولا يحدثن ولا يتنخمن. وقد روي نحو هذا عن جماعة من التابعين وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفات أهل الجنة في الصحيحين وغيرهما من طريق جماعة من الصحابة أن أهل الجنة لا يبصقون ولا يتمخطون ولا يتغوطون. وثبت أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة في الصحيحين وغيرهما من صفات نساء أهل الجنة ما لا يتسع المقام لبسطه، فلينظر في دواوين الإسلام وغيرها. وأخرج ابن جرير وابن إسحاق وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وهم فيها خالدون" أي خالدون أبداً، يخبرهم أن الثواب بالخير والشر مقيم على أهله أبداً لا انقطاع له. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: "وهم فيها خالدون" يعني لا يموتون. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، ثم يقوم مؤذن بينهم، يا أهل النار لا موت ويا أهل الجنة لا موت، كل هو خالد فيما هو فيه". وأخرج البخاري من حديث أبي هريرة نحوه. وأخرج الطبراني والحاكم وصححه من حديث معاذ نحوه. وأخرج الطبراني وابن مردويه وأبو نعيم من حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو قيل لأهل النار إنكم ماكثون في النار عدد كل حصاة في الدنيا لفرحوا بها ولو قيل لأهل الجنة إنكم ماكثون عدد كل حصاة لحزنوا، ولكن جعل لهم الأبد".

إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِير

أنزل الله هذه الآية رداً على الكفار لما أنكروا ما ضربه سبحانه من الأمثال كقوله: "مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً" وقوله: "أو كصيب من السماء" فقالوا الله أجل وأعلا من أن يضرب الأمثال. وقال الرازي: إنه تعالى لما بين الدليل كون القرآن معجزاً أورد ها هنا شبهة أوردها الكفار قدحاً في ذلك وأجاب عنها، وتقرير الشبهة أنه جاء في القرآن ذكر النحل والعنكبوت والنمل، وهذه الأشياء لا يليق ذكرها بكلام الفصحاء فاشتمال القرآن عليها يقدح في فصاحته فضلاً عن كونه معجزاً. وأجاب الله عنها بأن صغر هذه الأشياء لا تقدح في الفصاحة إذا كان ذكرها مشتملاً على حكمة بالغة انتهى. ولا يخفاك أن تقرير هذه الشبهة على هذا الوجه وإرجاع الإنكار إلى مجرد الفصاحة لا مستند له ولا دليل عليه، وقد تقدمه إلى شيء من هذا صاحب الكشاف، والظاهر ما ذكرناه أولاً لكون هذه الآية جاءت بعقب المثلين اللذين هما مذكوران قبلهما، ولا يستلزم استنكارهم لضرب الأمثال بالأشياء المحقرة أن يكون ذلك لكونه قادحاً في الفصاحة والإعجاز. والحياء: تغير وانكسار يعتري الإنسان من تخوف ما يعاب به ويذم: كذا في الكشاف، وتبعه الرازي في مفاتيح الغيب. وقال القرطبي: أصل الاستحياء الانقباض عن الشيء والامتناع منه خوفاً من مواقعة القبيح، وهذا محال على الله انتهى. وقد اختلفوا في تأويل ما في هذه الآية من ذكر الحياء فقيل: ساغ ذلك لكونه واقعاً في الكلام المحكي عن الكفار، وقيل: هو من باب المشاكلة كما تقدم، وقيل: هو جار على سبيل التمثيل. قال في الكشاف: مثل تركه تخييب العبد وأنه لا يرد يديه صفراً من عطائه لكرمه بترك من يترك رد المحتاج إليه حياءً منه انتهى. وقد قرأ ابن محيصن وابن كثير في رواية عنه ويستحي بياء واحدة وهي لغة تميم وبكر بن وائل، نقلت فيها حركة الياء الأولى إلى الحاء فسكنت، ثم استثقلت الضمة على الثانية فسكنت، فحذفت إحداهما لالتقاء الساكنين. وضرب المثل: اعتماده وصنعه. وما في قوله: 26- "ما بعوضة" إبهامية أي موجبة لإبهام ما دخلت عليه حتى يصير أعم مما كان عليه وأكثر شيوعاً في أفراده، وهي في موضع نصب على البدل من قوله: "مثلاً" و"بعوضة" نعت لها لإبهامها، قاله الفراء والزجاج وثعلب، وقيل: إنها زائدة، وبعوضة بدل من مثل. ونصب بعوضة في هذين الوجهين ظاهر، وقيل: إنها منصوبة بنزع الخافض، والتقدير: أن يضرب مثلاً ما بين بعوضة فحذف لفظ بين. وقد روي هذا عن الكسائي، وقيل إن يضرب بمعنى يجعل فتكون بعوضة لفظ بين. وقد روي هذا عن الكسائي، وقيل إن يضرب بمعنى يجعل فتكون بعوضة المفعول الثاني. وقرأ الضحاك وإبراهيم بن أبي عبلة ورؤبة بن العجاج بعوضة بالرفع وهي لغة تميم. قال أبو الفتح: وجه ذلك أن ما اسم بمنزلة الذي، وبعوضة رفع على إضمار المبتدأ، ويحتمل أن تكون ما إستفهامية كأنه قال تعالى: "ما بعوضة فما فوقها" حتى لا يضرب المثل به، بل يدان لمثل بما هو أقل من ذلك بكثير، والبعوضة فعولة من بعض: إذا قطع، يقال: بعض وبضع بمعنى، والبعوض: البق، الواحدة بعوضة، سميت بذلك لصغرها قاله الجوهري وغيره. وقوله: "فما فوقها" قال الكسائي وأبو عبيدة وغيرهما. فما فوقها والله أعلم ما دونها: أي أنها فوقها في الصغر كجناحها. قال الكسائي: وهذا كقولك في الكلام أتراه قصيراً فيقول القائل: أو فوق ذلك أي أقصر مما ترى. ويمكن أن يراد فما زاد عليها في الكبر. وقد قال بذلك الجماعة. قوله: " فأما الذين آمنوا " أما حرف فيه معنى الشرط، وقدره سيبويه بمهما يكن من شيء فكذا. وذكر صاحب الكشاف أن فائدته في الكلام أنه يعطيه فضل توكيد وجعل تقدير سيبويه دليلاً على ذلك. والضمير في "أنه" راجع إلى المثل. و"الحق" الثابت، وهو المقابل للباطل والحق واحد الحقوق، والمراد هنا الأول. وقد اختلف النحاة في "ماذا" فقيل: هي بمنزلة اسم واحد بمعنى: أي شيء أراد الله، فتكون في موضع نصب بأراد. قال ابن كيسان: وهو الجيد. وقيل: ما اسم تام في موضع رفع بالابتداء، وذا بمعنى الذي، وهو خبر المبتدأ مع صلته، وجوابه يكون على الأول منصوباً وعلى الثاني مرفوعاً. والإرادة نقيض الكراهة، وقد اتفق المسلمون على أنه يجوز إطلاق هذا اللفظ على الله سبحانه، و"مثلاً" قال ثعلب: منصوب على القطع، والتقدير: أراد مثلاً. وقال ابن كيسان: هو منصوب على التمييز الذي وقع موقع الحال، وهذا أقوى من الأول. وقوله: "يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً" هو كالتفسير للجملتين السابقتين المصدرتين بأما، فهو خبر من الله سبحانه. وقيل: هو حكاية لقول الكافرين كأنهم قالوا: ما مراد الله بهذا المثل الذي يفرق به الناس إلى ضلالة وإلى هدى؟ وليس هذا بصحيح، فإن الكافرين لا يقرون بأن في القرآن شيئاً من الهداية، ولا يعترفون على أنفسهم بشيء من الضلالة. قال القرطبي: ولا خلاف أن قوله: " وما يضل به إلا الفاسقين " من كلام الله سبحانه. وقد نقح البحث الرازي في تفسيره مفاتيح الغيب في هذا الموضع تنقيحاً نفسياً، وجوده وطوله وأوضح فروعه وأصوله، فليرجع إليه فإنه مفيد جداً. وأما صاحب الكشاف فقد اعتمد ها هنا على عصاه التي يتوكأ عليها في تفسيره، فجعل إسناد الإضلال إلى الله سبحانه بكونه سبباً، فهو من الإسناد المجازي إلى ملابس للفاعل الحقيقي. وحكى القرطبي عن أهل الحق من المفسرين أن المراد بقوله: "يضل" يخذل. والفسق: الخروج عن الشيء، يقال: فسقت الرطبة: إذا خرجت عن قشرها. والفأرة من جحرها ذكر معنى هذا الفراء. وقد استشهد أبو بكر بن الأنباري في كتاب الزاهر له على معنى الفسق بقول رؤبة بن العجاج: يهوين في نجد وغورا غائرا فواسقا عن قصدها جوائر وقد زعم ابن الأعرابي أنه لم يسمع قط في كلام الجاهلية ولا في شعرهم فاسق، وهذا مردود عليه، فقد حكي ذلك عن العرب وأنه من كلامهم جماعة من أئمة اللغة كابن فارس والجوهري وابن الأنباري وغيرهم. وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "خمس فواسق" الحديث. وقال في الكشاف: الفسق الخروج عن القصد، ثم ذكر عجز بيت رؤية المذكور، ثم قال: والفاسق في الشريعة: الخارج عن أمر الله بارتكاب الكبيرة انتهى. وقال القرطبي: والفسق في عرف الاستعمال الشرعي: الخروج من طاعة الله عز وجل، فقد يقع على من خرج بكفر وعلى من خرج بعصيان انتهى. وهذا هو أنسب بالمعنى اللغوي، ولا وجه لقصره على بعض الخارجين دون بعض. قال الرازي في تفسيره: واختلف أهل القبلة هل هو مؤمن أو كافر؟ فعند أصحابنا أنه مؤمن، وعند الخوارج أنه كافر، وعند المعتزلة لا مؤمن ولا كافر، واحتج المخالف بقوله تعالى: "بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان" وقوله: "إن المنافقين هم الفاسقون" وقوله: "حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان" وهذه المسألة طويلة مذكورة في علم الكلام انتهى.

الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ

وقوله: 27- "الذين ينقضون" في محل نصب وصفاً للفاسقين. والنقض: إفساد ما أبرم من بناء أو حبل أو عهد، والنقاضة: ما نقض من حبل الشعر. والعهد: قيل: هو الذي أخذه الله على بني آدم حين استخرجهم من ظهره، وقيل: هو وصية الله إلى خلقه وأمره إياهم بما أمرهم به من طاعته ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معصيته في كتبه على ألسن رسله، ونقضهم ذلك: ترك العمل به، وقيل: بل هو نصب الأدلة على وحدانيته بالسموات والأرض وسائر مخلوقاته، ونقضه: ترك النظر فيه، وقيل: هو ما عهده إلى الذين أوتوا الكتاب ليبيننه للناس. والميثاق: العهد المؤكد باليمين مفعال من الوثاقة وهي الشدة في العقد والربط، والجمع المواثيق والمياثيق، وأنشد ابن الأعرابي: حمى لا يحل الدهر إلا بإذننا ولا نسأل الأقوام عهد المياثق واستعمال النقض في إبطال العهد على سبيل الاستعارة. والقطع معروف، والمصدر في الرحم القطيعة، وقطعت الحبل قطعاً، وقطعت النهر قطعاً. وما في قوله: "ما أمر الله به" في موضع نصب بيقطعون و"أن يوصل" في محل نصب بأمر. ويحتمل أن يكون بدلاً من ما، أو من الهاء في به. واختلفوا ما هو الشيء الذي أمر الله بوصله: فقيل: الأرحام، وقيل: أمر أن يوصل القول بالعمل، وقيل: أمر أن يوصل التصديق بجميع شرائعه وحدوده التي أمر في كتبه المنزلة وعلى ألسن رسله بالمحافظة عليها فهي عامة، وبه قال الجمهور وهو الحق. والمراد بالفساد في الأرض الأفعال والأقوال المخالفة لما أمر الله به، كعبادة غيره والإضرار بعباده وتغيير ما أمر بحفظه، وبالجملة فكل ما خالف الصلاح شرعاً أو عقلاً فهو فساد. والخسران: النقصان، والخاسر، هو الذي نقص نفسه من الفلاح والفوز، وهؤلاء لما استبدلوا النقض بالوفاء والقطع بالوصل كان عملهم فساداً لما نقصوا أنفسهم من الفلاح والربح. وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن مسعود وناس من الصحابة قال: لما ضرب الله هذين المثلين للمنافقين قوله: "مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً" وقوله: "أو كصيب من السماء" قال المنافقون: الله أعلا وأجل من أن يضرب هذه الأمثال فأنزل الله " إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا " الآية. وأخرج الواحدي في تفسيره عن ابن عباس قال: إن الله ذكر آلهة المشركين فقال: "وإن يسلبهم الذباب شيئاً" وذكر كيد الآلهة فجعله كبيت العنكبوت، فقالوا: أرأيت حيث ذكر الله الذباب والعنكبوت فيما أنزل من القرآن على محمد أي شيء كان يصنع هذا؟ فأنزل الله "إن الله لا يستحي" وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة نحو قول ابن عباس. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال: لما نزلت "يا أيها الناس ضرب مثل" قال المشركون: ما هذا من الأمثال فيضرب؟ فأنزل الله هذه الآية. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله تعالى: "فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم" قال: يؤمن به المؤمن، ويعلمون أنه الحق من ربهم ويهديهم الله به، ويعرفه الفاسقون فيكفرون به. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود وناس من الصحابة في قوله: "يضل به كثيراً" يعني المنافقين "ويهدي به كثيراً" يعني المؤمنين "وما يضل به إلا الفاسقين" قال: هم المنافقون. وفي قوله: "ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه" قال: هو ما عهد إليهم في القرآن فأقروا به ثم كفروا فنقضوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وما يضل به إلا الفاسقين" يقول: يعرفه الكافرون فيكفرون به. وأخرج البخاري وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعد بن أبي وقاص قال: الحرورية هي الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه، وكان يسميهم الفاسقين. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة قال: ما نعلم الله أوعد في ذنب ما أوعد في نقض هذا الميثاق، فمن أحاديث ثابتة في الصحيح وغيره من طريق جماعة من الصحابة النهي عن نقض العهد والوعيد الشديد عليه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في قوله: "ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل" قال: الرحم والقرابة. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله: "ويفسدون في الأرض" قال: يعلمون فيها بالمعصية. وأخرج ابن المنذر عن مقاتل في قوله: "أولئك هم الخاسرون" يقول: هم أهل النار. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كل شيء نسبه الله إلى غير أهل الإسلام مثل خاسر ومسرف وظالم ومجرم وفاسق فإنما يعني به الكفر، وما نسبه إلى أهل الإسلام فإنما يعني به الذم.

كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ

كيف مبنية على الفتح لخفته وهي في موضع نصب بتكفرون، ويسأل بها عن الحال، وهذا الاستفهام هو للإنكار عليهم والتعجيب من حالهم وهي متضمنة لهمزة الاستفهام، والواو في 28- "وكنتم" للحال وقد مقدرة كما قال الزجاج والفراء، وإنما صح جعل هذا الماضي حالاً لأن الحال ليس هو مجرد قوله: "كنتم أمواتاً" بل هو وما بعده إلى قوله: "ترجعون" كما جزم به صاحب الكشاف كأنه قال: كيف تكفرون؟ وقصتكم هذه: أي وأنتم عالمون بهذه القصة وبأولها وآخرها. والأموات جمع ميت، واختلف المفسرون في ترتيب هاتين الموتتين والحياتين- فقيل: إن المراد "كنتم أمواتاً" قبل أن تخلقوا: أي معدومين، لأنه يجوز إطلاق اسم الموت على المعدوم لاجتماعهما في عدم الإحساس "فأحياكم" أي خلقكم "ثم يميتكم" عند انقضاء آجالكم "ثم يحييكم" يوم القيامة. وقد ذهب إلى هذا جماعة من الصحابة فمن بعدهم. قال ابن عطية: وهذا القول هو المراد بالآية، وهو الذي لا محيد للكفار عنه، وإذا أذعنت نفوس الكفار بكونهم كانوا معدومين ثم أحياء في الدنيا ثم أمواتاً فيها لزمهم الإقرار بالحياة الأخرى. قال غيره: والحياة التي تكون في القبر على هذا التأويل في حكم حياة الدنيا. وقيل: إن المراد كنتم أمواتاً في ظهر آدم ثم أخرجكم من ظهره كالذر، ثم يميتكم موت الدنيا ثم يبعثكم. وقيل: "كنتم أمواتاً" أي نطفاً في أصلاب الرجال "فأحياكم" حياة الدنيا "ثم يميتكم" بعد هذه الحياة "ثم يحييكم" في القبور (ثم يميتكم) في القبر (ثم يحييكم) الحياة التي ليس بعدها موت. قال القرطبي: فعلى هذا التأويل هي ثلاث موتات وثلاث إحياءات وكونهم موتى في ظهر آدم وإخراجهم من ظهره والشهادة عليهم غير كونهم نطفاً في أصلاب الرجال، فعلى هذا يجيء أربع موتات وأربع إحياءات. وقد قيل: إن الله أوجدهم قبل خلق آدم كالبهائم وأماتهم فيكون على هذا خمس موتات وخمس إحياءات، وموتة سادسة للعصاة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم كما ورد في الحديث "ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم فأماتهم الله إماتة، حتى إذا كانوا فحماً أذن في الشفاعة فجيء بهم، إلى أن قال: فينبتون نبات الحبة في حميل السيل" وهو في الصحيح من حديث أبي سعيد. وقوله: "ثم إليه ترجعون" أي إلى الله سبحانه فيجازيكم بأعمالكم. وقد قرأ يحيى بن يعمر وابن أبي إسحاق ومجاهد وسلام ويعقوب بفتح حرف المضارعة، وقرأ الجماعة بضمه. قال في الكشاف: عطف الأول بالفاء وما بعده بثم، لأن الإحياء الأول قد تعقب الموت بغير تراخ، وأما الموت فقد تراخى عن الإحياء، والإحياء الثاني كذلك متراخ عن الموت إن أريد به النشور تراخياً ظاهراً، وإن أريد به إحياء القبر فمنه يكتسب العلم بتراخيه، والرجوع إلى الجزاء أيضاً متراخ عن النشور انتهى. ولا يخفاك أنه إن أراد بقوله أن الأحياء الأول قد تعقب الموت أنه وقع على ما هو متصف بالموت، فالموت الآخر وقع على ما هو متصف بالحياة، وإن أراد أنه وقع الإحياء الأول عند أول اتصافه بالموت بخلاف الثاني فغير مسلم، فإنه وقع عند آخر أوقات موته كما وقع الثاني عند آخر أوقات حياته، فتأمل هذا. وقد أخرج ابن جرير عن ابن مسعود وناس من الصحابة في قوله تعالى: "وكنتم أمواتاً" الآية، قال: لم تكونوا شيئاً فخلقكم "ثم يميتكم ثم يحييكم" يوم القيامة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس نحوه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة نحوه أيضاً. وأخرج ابن جرير عن أبي صالح قال: يميتكم ثم يحييكم في القبر ثم يميتكم. وأخرج ابن جرير عن أبي العالية في قوله: "وكنتم أمواتاً" قال: حين لم تكونوا شيئاً، ثم أماتهم ثم أحياهم يوم القيامة، ثم يرجعون إليه بعد الحياة. وأخرج ابن جرير عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال: خلقهم من ظهر آدم فأخذ عليهم الميثاق ثم أماتهم، ثم خلقهم في الأرحام، ثم أماتهم، ثم أحياهم يوم القيامة والصحيح الأول.

هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ

قال ابن كيسان: 29- "خلق لكم" أي من أجلكم، وفيه دليل على أن الأصل في الأشياء المخلوقة الإباحة حتى يقوم دليل يدل على النقل عن هذا الأصل، ولا فرق بين الحيوانات وغيرها مما ينتفع به من غير ضرر، وفي التأكيد بقوله: "جميعاً" أقوى دلالة على هذا. وقد استدل بهذه الآية على تحريم أكل الطين، لأنه تعالى خلق لنا ما في الأرض دون نفس الأرض. وقال الرازي في تفسيره: إن لقائل أن يقول: إن في جملة الأرض ما يطلق عليه أنه في الأرض فيكون جامعاً للوصفين، ولا شك أن المعادن داخلة في ذلك، وكذلك عروق الأرض وما يجري مجرى البعض لها ولأن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي الحكم عما عداه انتهى. وقد ذكر صاحب الكشاف ما هو أوضح من هذا فقال: فإن قلت: هل لقول من زعم أن المعنى خلق لكم الأرض وما فيها وجه صحة؟ قلت: إن أراد بالأرض الجهات السفلية دون الغبراء كما تذكر السماء ويراد الجهات العلوية جاز ذلك، فإن الغبراء وما فيها واقعة في الجهات السفلية انتهى. وأما التراب فقد ورد في السنة تحريمه، وهو أيضاً ضار فليس مما ينتفع به أكلاً، ولكنه ينتفع به في منافع أخرى، وليس المراد منفعة خاصة كمنفعة الأكل، بل كل ما يصدق عليه أنه ينتفع به بوجه من الوجوه، وجميعاً منصوب على الحال. والاستواء في اللغة: الاعتدال والاستقامة، قاله في الكشاف، ويطلق على الارتفاع والعلو على الشيء، قال تعالى: "فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك" وقال: "لتستووا على ظهوره" وهذا المعنى هو المناسب لهذه الآية. وقد قيل: إن هذه الآية من المشكلات. وقد ذهب كثير من الأئمة إلى الإيمان بها وترك التعرض لتفسيرها، وخالفهم آخرون. والضمير في قوله: "فسواهن" مبهم يفسره ما بعده كقولهم: زيد رجلاً، وقيل: إنه راجع إلى السماء لأنها في معنى الجنس، والمعنى: أنه عدل خلقهن فلا اعوجاج فيه. وقد استدل بقوله: "ثم استوى" على أن خلق الأرض متقدم على خلق السماء. وكذلك الآية التي في حم السجدة. وقال في النازعات "أنتم أشد خلقاً أم السماء بناها" فوصف خلقها ثم قال: "والأرض بعد ذلك دحاها" فكأن السماء على هذا خلقت قبل الأرض، وكذلك قوله تعالى: "الحمد لله الذي خلق السموات والأرض" وقد قيل: إن خلق جرم الأرض متقدم على السماء ودحوها متأخر. وقد ذكر نحو هذا جماعة من أهل العلم، وهذا جمع جيد لا بد من المصير إليه، ولكن خلق ما في الأرض لا يكون إلا بعد الدحو، والآية المذكورة هنا دلت على أنه خلق ما في الأرض قبل خلق السماء، وهذا يقتضي بقاء الإشكال وعدم التخلص عنه بمثل هذا الجمع. وقوله: " سبع سماوات " فيه التصريح بأن السموات سبع، وأما الأرض فلم يأت في ذكر عددها إلا قوله تعالى: "ومن الأرض مثلهن" فقيل: أي في العدد، وقيل: أي في غلظهن وما بينهن. وقال الداودي: إن الأرض سبع، ولكن لم يفتق بعضها من بعض. والصحيح أنها سبع كالسموات. وقد ثبت في الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم: "من أخذ شبراً من الأرض ظلماً طوقه الله من سبع أرضين" وهو ثابت من حديث عائشة وسعيد بن زيد. ومعنى قوله تعالى: "سواهن" سوى سطوحهن بالإملاس، وقيل: جعلهن سواء. قال الرازي في تفسيره: فإن قيل: فهل يدل التنصيص على سبع سموات. أي فقط؟ قلنا: الحق أن تخصيص العدد بالذكر لا يدل على نفي الزائد والله أعلم انتهى. وفي هذا إشارة إلى ما ذكره الحكماء من الزيادة على السبع. ونحن نقول: إنه لم يأتنا عن الله ولا عن رسوله إلا السبع فنقتصر على ذلك ولا نعمل بالزيادة إلا إذا جاءت من طريق الشرع ولم يأت شيء من ذلك، وإنما أثبت لنفسه سبحانه أنه بكل شيء عليم، لأنه يجب أن يكون عالماص بجميع ما ثبت أنه خالقه. وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في قوله تعالى: "هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً" قال: سخر لكم ما في الأرض جميعاً كرامة من الله ونعمة لابن آدم وبلغة ومنفعة إلى أجل. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن مجاهد في قوله: " هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا " قال: سخر لكم ما في الأرض جميعاً "ثم استوى إلى السماء"، قال: خلق الأرض قبل السماء، فلما خلق الأرض ثار منها دخان فذلك قوله: " ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات " يقول: خلق سبع سموات بعضهن فوق بعض، وسبع أرضين بعضهن فوق بعض. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس وابن مسعود وناس من الصحابة في قوله: "هو الذي خلق لكم ما في الأرض" الآية، قالوا: إن الله كان عرشه على الماء ولم يخلق شيئاً قبل الماء، فلما أراد أن يخلق الخلق أخرج من الماء دخاناً فارتفع فوق الماء فسما عليه فسماه سماء ثم انبس الماء فجعله أرضاً واحدة ثم فتقها سبع أرضين في يومين الأحد والاثنين، فخلق الأرض على حوت وهو الذي ذكره في قوله: "ن والقلم" والحوت في الماء، والماء على ظهر صفاة، والصفاة على ظهر ملك، والملك على صخرة والصخرة في الريح، وهي الصخرة التي ذكر لقمان ليست في السماء ولا في الأرض، فتحرك الحوت فاضطرب فتزلزلت الأرض، فأرسى عليها الجبال فقرت، فذلك قوله تعالى: "وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم" وخلق الجبال فيها وأقوات أهلها، سخرها وما ينبغي لها في يومين في الثلاثاء والأربعاء وذلك قوله:" أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض "إلى قوله " بارك فيها " يقول : أنبت شجرها "وقدر فيها أقواتها" يقول: أقوات أهلها "في أربعة أيام سواء للسائلين" يقول: من سأل فهكذا الأمر، "ثم استوى إلى السماء وهي دخان" وكان ذلك الدخان من تنفس الماء حين تنفس فجعلها. سماء واحدة، ثم فتقها فجعلها سبع سموات في يومين في الخميس والجمعة، وإنما سمي يوم الجمعة لأنه جمع فيه خلق السموات والأرض "وأوحى في كل سماء أمرها" قال: خلق في كل سماء خلقها من الملائكة والخلق الذي فيها من البحار وجبال البرد وما لا يعلم، ثم زين السماء الدنيا بالكواكب فجعلها زينة وحفظاً من الشياطين، فلما فرغ من خلق ما أحب استوى على العرش. وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله: "ثم استوى إلى السماء" يعني صعد أمره إلى السماء فسواهن: يعني خلق سبع سموات، قال: أجرى النار على الماء فبخر البحر فصعد في الهواء فجعل السموات منه. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة في الصحيح قال: "أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيدي فقال: خلق الله التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم يوم الجمعة بعد العصر". وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من طرق عند أهل السنن وغيرهم عن جماعة من الصحابة أحاديث في وصف السموات، وأن غلظ كل سماء مسيرة خمسمائة عام، وما بين كل سماء إلى سماء خمسمائة عام، وأنها سبع سموات، وأن الأرض سبع أرضين وكذلك ثبت في وصف السماء آثار عن جماعة من الصحابة. وقد ذكر السيوطي في الدر المنثور بعض ذلك في تفسير هذه الآية، وإنما تركنا ذكره ها هنا لكونه غير متعلق بهذه الآية على الخصوص، بل هو متعلق بما هو أعم منها.

وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ

30- "إذ" من الظروف الموضوعة للتوقيت وهي للمستقبل، وإذا للماضي، وقد توضع إحداهما موضع الأخرى. وقال المبرد: هي مع المستقبل للمضي ومع الماضي للاستقبال. وقال أبو عبيدة: إنها هنا زائدة. وحكاه الزجاج وابن النحاس وقالا: هي ظرف زمان ليست مما يزاد، وهي هنا في موضع نصب بتقدير اذكر أو قالوا، وقيل: هو متعلق بخلق لكم، وليس بظاهر والملائكة جمع ملك بوزن فعل، قاله ابن كيسان، وقيل، كمع ملأك بوزن مفعل قاله أبو عبيدة، من لأك: إذا أرسل، والألوكة: الرسالة. قال لبيد: وغلام أرسلته أمه بألوك فبذلنا ما سال وقال عدي بن زيد: أبلغ النعمان عني مألكا أنه قد طال حبسي وانتظار ويقال ألكني: أي أرسلتي. وقال النضر بن شميل: لا اشتقاق لملك عند العرب، والهاء في الملائكة تأكيد لتأنيث الجمع، ومثله الصلادمة، والصلادم، الخيل الشداد واحداها صلدم- وقيل: هي للمبالغة كعلامة ونسابة و "جاعل" هنا من جعل المتعدي إلى مفعولين. وذكر المطرزي أنه بمعنى خالق، وذلك يقتضي أنه متعد إلى مفعول واحد، والأرض هنا: هي هذه الغبراء ،ولا يختص ذلك بمكان دون مكان- وقيل: إنها مكة. والخليفة هنا معناه الخالف لمن كان قبله من الملائكة، ويجوز أن يكون بمعنى المخلوف: أي يخلفه غيره، قيل: هو آدم، وقيل: كل من له خلافة في الأرض، ويقوي الأول قوله: خليفة دون خلائف، واستغني بآدم عن ذكر ما بعده قيل: خاطب الله الملائكة بهذا الخطاب لا للمشورة ولكن لاستخراج ما عندهم، وقيل: خاطبهم بذلك لأجل أن يصدر منهم ذلك السؤال فيجابون بذلك الجواب، وقيل: لأجل تعليم عباده مشروعية المشاورة لهم. وأما قولهم: "أتجعل فيها من يفسد فيها" فظاهره أنهم استنكروا استخلاف بني آدم في الأرض لكونهم [مظنة] للإفساد في الأرض، وإنما قالوا هذه المقالة قبل أن يتقدم لهم معرفة ببني آدم، بل قبل وجود آدم فضلاً عن ذريته، لعلم قد علموه من الله سبحانه بوجه من الوجوه لأنهم لا يعلمون الغيب، قال بهذا جماعة من المفسرين. وقال بعض المفسرين: إن في الكلام حذفاً، والتقدير: إني جاعل في الأرض خليفة يفعل كذا وكذا، فقالوا: "أتجعل فيها من يفسد فيها" وقوله: "يفسد" قائم مقام المفعول الثاني. والفساد: ضد الصلاح وسفك الدم: صبه، قاله ابن فارس والجوهري: ولا يستعمل السفك إلا في الدم، وواحد الدماء دم، وأصله دمي حذف لامه، وجملة "ونحن نسبح بحمدك" حالية. والتسبيح في كلام العرب. التنزيه والتعبيد من السوء على وجه التعظيم. قال الأعشى: أقول لما جاءني فخره سبحان من علقمة الفاخر و"بحمدك" في موضع الحال: أي حامدين لك، وقد تقدم معنى الحمد. والتقديس: التطهير، أي ونطهرك عما لا يليق بك مما نسبه إليك الملحدون وافتراه الجاحدون. وذكر في الكشاف أن معنى التسبيح والتقديس واحد وهو تعبيد الله من السوء، وأنهما من سبح في الأرض والماء وقدس في الأرض إذا ذهب فيها وأبعد. وفي القاموس وغيره من كتب اللغة ما يرشد إلى ما ذكرناه والتأسيس خير من التأكيد خصوصاً في كلام الله سبحانه. ولما كان سؤالهم واقعاً على صفة تستلزم إثبات شيء من العلم لأنفسهم. أجاب الله سبحانه عليهم بقوله: "إني أعلم ما لا تعلمون" وفي هذا الإجمال ما يغني عن التفصيل، لأن من علم ما لا يعلم المخاطب له كان حقيقاً بأن يسلم له ما يصدر عنه، وعلى من لا يعلم أن يعترف لمن يعلم بأن أفعاله صادرة على ما يوجبه العلم وتقتضيه المصلحة الراجحة والحكمة البالغة. ولم يذكر متعلق قوله: "تعلمون" ليفيد التعميم، ويذهب السامع عند ذلك كل مذهب ويعترف بالعجز ويقر بالقصور. وقد أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عباس قال: إن الله أخرج آدم من الجنة قبل أن يخلقه ثم قرأ "إني جاعل في الأرض خليفة" وأخرج الحاكم وصححه عنه أيضاً نحوه وزاد. وقد كان فيها قبل أن يخلق بألفي عام الجن بنو الجان، فأفسدوا في الأرض وسفكوا الدماء، فلما أفسدوا في الأرض بعث الله عليهم جنوداً من الملائكة فضربوهم حتى ألحقوهم بجزائر البحور، فلما قال الله: "إني جاعل في الأرض خليفة قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء" كما فعل أولئك الجان فقال الله: "إني أعلم ما لا تعلمون" وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمرو مثله. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس أطول منه. وأخرج ابن جرير وابن عساكر عن ابن مسعود وناس من الصحابة قال: لما فرغ الله من خلق ما أحب استوى على العرش، فجعل إبليس على ملك سماء الدنيا، وكان من قبيلة من الملائكة يقال لهم: الجن، وإنما سموا الجن لأنهم خزان الجنة، وكان إبليس مع ملكه خازناً فوقع في صدره كبر وقال: ما أعطاني الله هذا إلا لمزية لي فاطلع الله على ذلك منه فقال للملائكة: "إني جاعل في الأرض خليفة" قالوا: ربنا وما يكون ذلك الخليفة؟ قال: يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضاً قالوا: ربنا "أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟" "قال: إني أعلم ما لا تعلمون" وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن عباس نحوه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في الآية قال: قد علمت الملائكة وعلم الله أنه لا شيء أكره عند الله من سفك الدماء والفساد في الأرض. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس قال: إياكم والرأي، فإن الله رد الرأي على الملائكة وذلك أن الله قال: "إني جاعل في الأرض خليفة" قالت الملائكة: "أتجعل فيها من يفسد فيها" قال: "إني أعلم ما لا تعلمون". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن عساكر عن أبي سابط أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "دحيت الأرض من مكة وكانت الملائكة تطوف بالبيت" فهي أول من طاف به وهي الأرض التي قال الله: "إني جاعل في الأرض خليفة" قال ابن كثير: وهذا مرسل في سنده ضعف، وفيه مدرج، وهو أن المراد بالأرض مكة، والظاهر أن المراد بالأرض أعم من ذلك انتهى. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن قتادة قال: التسبيح والتقديس المذكور في الآية هو الصلاة. وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب التوبة عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أول من لبى الملائكة، قال الله تعالى: "إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء" قال: فرادوه فأعرض عنهم، فطافوا بالعرش ست سنين يقولون: لبيك لبيك اعتذاراً إليك، لبيك لبيك نستغفرك ونتوب إليك" وثبت في الصحيح من حديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أحب الكلام إلى الله ما اصطفاه لملائكته سبحان ربي وبحمده". وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود وناس من الصحابة في قوله: "ونقدس لك" قال: نصلي لك. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: التقديس: التطهير: وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله: "ونقدس لك" قال: نعظمك ونكبرك. وأخرجا عن أبي صالح قال: نعظمك ونمجدك. وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله: "أعلم ما لا تعلمون" قال: علم من إبليس المعصية وخلقه لها. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في تفسيرها قال: كان في علم الله أنه سيكون من الخليفة أنبياء ورسل وقوم صالحون وساكنو الجنة. وأخرج أحمد وعبد بن حميد وابن حبان في صحيحه والبيهقي في الشعب عن عبد الله بن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن آدم لما أهبطه الله إلى الأرض قالت الملائكة: أي رب "أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء" الآية، قالوا: ربنا نحن أطوع لك من بني آدم، قال الله لملائكته: هلموا ملكين من الملائكة حتى يهبطا إلى الأرض فننظر كيف يعملان؟ فقالوا: ربنا هاروت وماروت، قال: فاهبطا إلى الأرض، فتمثلت لهما الزهرة امرأة من أحسن البشر وذكر القصة". وقد ثبت في كتب الحديث المعتبرة أحاديث من طريق جماعة من الصحابة في صفة خلقه سبحانه لآدم وهي موجودة فلا نطول بذكرها.

وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ

31- "آدم" أصله أأدم بهمزتين إلا أنهم لينوا الثانية وإذا حركت قلبت واو، كما قالوا في الجمع أوادم، قاله الأخفش. واختلف في اشتقاقه، فقيل: من أديم الأرض وهو وجهها- وقيل: من الأدمة وهي السمرة. قال في الكشاف: وما آدم إلا اسم عجمي، وأقرب أمره أن يكون على فاعل كآزر وعازر وعابر وشالخ وفالغ وأشباه ذلك، و"الأسماء" هي العبارات والمراد: أسماء المسميات، قال: بذلك أكثر العلماء، وهو المعنى الحقيقي للاسم. والتأكيد بقوله: "كلها" يفيد أنه علمه جميع الأسماء ولم يخرج عن هذا شيء منها كائناً ما كان. وقال ابن جرير: إنها أسماء الملائكة وأسماء ذرية آدم، ثم رجح هذا شيء منها كائناً ما كان. وقال ابن جرير: إنها أسماء الملائكة وأسماء ذرية آدم، ثم رجح هذا وهو غير راجح. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: أسماء الذرية. وقال الربيع بن خيثم: أسماء الملائكة. واختلف أهل العلم هل عرض على الملائكة المسميات أو الأسماء، والظاهر الأول لأن عرض نفس الأسماء غير واضح. وعرض الشيء إظهاره، ومنه عرض الشيء للبيع. وإنما ذكر ضمير المعروضين تغليباً للعقلاء على غيرهم. وقرأ ابن مسعود: عرضهن وقرأ أبي: عرضها وإنما رجع ضمير عرضهم إلى مسميات مع عدم تقدم ذكرها، لأنه قد تقدم ما يدل عليها وهو أسماؤها. قال ابن عطية: والذي يظهر أن الله علم آدم الأسماء وعرض عليه مع ذلك الأجناس أشخاصاً، ثم عرض تلك على الملائكة وسألهم عن أسماء مسمياتها التي قد تعلمها آدم، فقال لهم آدم: هذا اسمه كذا وهذا اسمه كذا. قال الماوردي: فكان الأصح توجه العرض إلى المسمين. ثم في زمن عرضهم قولان: أحدهما أنه عرضهم بعد أن خلقهم. الثاني أنه صورهم لقلوب الملائكة ثم عرضهم. وأما أمره سبحانه للملائكة بقوله: "أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين" فهذا منه تعالى لقصد التبكيت لهم مع علمه بأنهم يعجزون عن ذلك. والمراد "إن كنتم صادقين" أن بني آدم يفسدون في الأرض فأنبئوني، كذا قال المبرد. وقال أبو عبيد وابن جرير: إن بعض المفسرين قال: معنى "إن كنتم صادقين" إذ كنتم، قالا: وهذا خطأ. ومعنى "أنبئوني" أخبروني.

قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ

فلما قال لهم ذلك اعترفوا بالعجز والقصور 32- "قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا" وسبحان: منصوب على المصدرية عند الخليل وسيبويه وقال الكسائي: هو منصوب على أنه منادى مضاف وهذا ضعيف جداً. والعليم: للمبالغة والدلالة على كثرة المعلومات. والحكيم صيغة مبالغة في إثبات الحكمة له. ثم أمر الله سبحانه آدم أن يعلمهم بأسمائهم بعد أن عرضهم على الملائكة فعجزوا واعترفوا بالقصور.

قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ

ولهذا قال سبحانه: 33- "ألم أقل لكم" الآية. قال فيما تقدم: "أعلم ما لا تعلمون" ثم قال هنا: "أعلم غيب السموات والأرض" تدرجاً من المجمل إلى ما هو مبين بعض بيان، ومبسوط بعض بسط. وفي اختصاصه بعلم غيب السموات والأرض رد لما يتكلفه كثير من العباد من الاطلاع على شيء من علم غيب السموات والأرض رد لما يتكلفه كثير من العباد من الاطلاع على شيء من علم الغيب كالمنجمين والكهان وأهل الرمل والسحر والشعوذة. والمراد بما يبدون وما يكتمون: ما يظهرون ويسرون كما يفيده معنى ذلك عند العرب، ومن فسره بشيء خاص فلا يقبل منه ذلك إلا بدليل. وقد أخرج الفريابي وابن سعد وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن عباس قال: إنما سمي آدم لأنه خلق من أديم الأرض. وأخرج نحوه عبد بن حميد وابن جرير عن سعد بن جبير. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وعلم آدم الأسماء كلها" قال: علمه اسم الصفحة والقدر وكل شيء. وأخرج ابن جرير عنه نحوه. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه في تفسير الآية قال: عرض عليه أسماء ولده إنساناً إنساناً والدواب، فقيل: هذا الجمل هذا الحمار هذا الفرس. وأخرج الحاكم في تاريخه وابن عساكر والديلمي عن عطية بن بشر مرفوعاً في قوله: "وعلم آدم الأسماء كلها" قال: علم الله آدم في تلك الأسماء ألف حرفة من الحرف وقال له: قل لأولادك ولذريتك إن لم تصبروا عن الدنيا فاطلبوها بهذه الحرف ولا تطلبوها بالدين، فإن الدين لي وحدي خالصاً، ويل لمن طلب الدنيا بالدين ويل له. وأخرج الديلمي عن أبي رافع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثلت لي أمتي في الماء والطين وعلمت الأسماء كلها كما علم آدم الأسماء كلها" وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في تفسير الآية قال: أسماء ذريته أجمعين "ثم عرضهم" قال: أخذهم من ظهره. وأخرج عن الربيع بن أنس قال: أسماء الملائكة. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية قال: هي هذه الأسماء التي يتعارف بها الناس "ثم عرضهم" يعني عرض أسماء جميع الأشياء التي علمها آدم من أصناف الخلق. "فقال أنبئوني" يقول: أخبروني "بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين" إن كنتم تعلمون أني لم أجعل في الأرض خليفة "قالوا سبحانك" تنزيهاً لله من أن يكون يعلم الغيب أحد غيره تبنا إليك "لا علم لنا" تبرأوا منهم من علم الغيب "إلا ما علمتنا" كما علمت آدم. وأخرج ابن جرير عن مجاهد قال: عرض أصحاب الأسماء على الملائكة. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: "إنك أنت العليم الحكيم" قال: العليم الذي قد كمل في علمه، والحكيم الذي قد كمل في حكمه. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود وناس من الصحابة. في قوله: "إن كنتم صادقين" أن بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء "وأعلم ما تبدون" قال: قولهم "أتجعل فيها من يفسد فيها" "وما كنتم تكتمون" يعني: ما أسر إبليس في نفسه من الكبر. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: "ما تبدون" ما تظهرون "وما كنتم تكتمون" يقول: أعلم السر كما أعلم العلانية.

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ

34- "إذ" متعلق بمحذوف تقديره: واذكر إذ قلنا. وقال أبو عبيدة إذ زائدة وهو ضعيف. وقد تقدم الكلام في الملائكة وآدم. السجود معناه في كلام العرب: التذلل والخضوع. وغايته وضع الوجه على الأرض. قال ابن فارس: سجد إذا تطامن، وكل ما سجد فقد ذل، والإسجاد: إدامة النظر. وقال أبو عمر: وسجد إذا طأطأ رأسه، وفي هذه الآية فضيلة لآدم عليه السلام عظيمة حيث أسجد الله له ملائكته. وقيل: إن السجود كان لله ولم يكن لآدم، وإنما كانوا مستقبلين له عند السجود، ولا ملجئ لهذا فإن السجود للبشر قد يكون جائزاً في بعض الشرائع بحسب ما تقتضيه المصالح. وقد دلت هذه الآية على أن السجود لآدم وكذلك الآية الأخرى أعني قوله: "فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين" وقال تعالى: "ورفع أبويه على العرش وخروا له سجداً" فلا يستلزم تحريمه لغير الله في شريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أن يكون كذلك في سائر الشرائع. ومعنى السجود هنا: هو وضع الجبهة على الأرض، وإليه ذهب الجمهور. وقال قوم: هو مجرد التذلل والانقياد. وقد وقع الخلاف هل كان السجود من الملائكة لآدم قبل تعليمه الأسماء أم بعده؟ وقد أطال البحث في ذلك البقاعي في تفسيره. وظاهر السياق أنه وقع التعليم وتعقبه الأمر بالسجود وتعقبه إسكانه الجنة ثم إخراجه منها وإسكانه الأرض. وقوله: "إلا إبليس" استثناء متصل لأنه كان من الملائكة على ما قاله الجمهور. وقال شهر بن حوشب وبعض الأصوليين: "كان من الجن" الذي كانوا في الأرض. فيكون الاستثناء على هذا منقطعاً. واستدلوا على هذا بقوله تعالى: "لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون" وبقوله تعالى: "إلا إبليس كان من الجن" والجن غير الملائكة، وأجاب الأولون بأنه لا يمتنع أن يخرج إبليس عن جملة الملائكة، لما سبق في علم الله من شقائه عدلاً منه "لا يسأل عما يفعل" وليس في خلقه من نار ولا تركيب الشهوة فيه حين غضب عليه ما يدفع أنه من الملائكة وأيضاً على تسليم ذلك لا يمتنع أن يكون الاستثناء متصلاً تغليباً للملائكة الذين هم ألوف مؤلفة على إبليس الذي هو فرد واحد بين أظهرهم. ومعنى "أبى" امتنع من فعل ما أمر به. والاستكبار: الاستعظام للنفس، وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: "إن الكبر بطر الحق وغمط الناس" وفي رواية "غمص" بالصاد المهملة "وكان من الكافرين" أي من جنسهم. قيل: إن كان هنا بمعنى صار. وقال ابن فورك: إنه خطأ ترده الأصول. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كانت السجدة لآدم والطاعة لله. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال: سجدوا كرامة من الله أكرم بها آدم وأخرج ابن عساكر عن إبراهيم المزني قال: إن الله جعل آدم كالكعبة. وأخرج ابن أبي الدنيا وابن أبي حاتم وابن الأنباري عن ابن عباس قال: كان إبليس اسمه عزازيل، وكان من أشراف الملائكة من ذوي الأجنحة الأربعة، ثم أبلس بعد. وروى ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال: إنما سمي إبليس لأن الله أبلسه من الخير كله: أي آيسه منه. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن الأنباري عنه قال: كان إبليس قبل أن يرتكب المعصية من الملائكة اسمه عزازيل، وكان من سكان الأرض، وكان من أشد الملائكة اجتهاداً وأكثرهم علماً، فذلك دعاه إلى الكبر، وكان من حي يسمون جنا. وأخرج ابن المنذر والبيهقي في الشعب عنه قال: كان إبليس من خزان الجنة، وكان يدبر أمر سماء الدنيا. وأخرج محمد بن نصر عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله أمر آدم بالسجود فسجد، فقال: لك الجنة ولمن سجد من ولدك، وأمر إبليس بالسجود فأبى أن يسجد، فقال: لك النار ولمن أبى من ولدك أن يسجد". وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "وكان من الكافرين" قال: جعله الله كافراً لا يستطيع أن يؤمن. وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرطبي قال: ابتدأ الله خلق إبليس على الكفر والضلالة وعمل بعمل الملائكة فصيره إلى ما ابتدئ إليه خلقه من الكفر، قال الله: "وكان من الكافرين".

وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ

35- "اسكن" أي اتخذ الجنة مسكناً وهو محل السكون، وأما ما قاله بعض المفسرين من أن في قوله: "اسكن" تنبيهاً على الخروج لأن السكنى لا تكون ملكاً وأخذ ذلك من قول جماعة من العلماء أن من أسكن رجلاً منزلاً له فإنه لا يملكه بذلك، وإن له أن يخرجه منه، فهو معنى عرفي، والواجب الأخذ بالمعنى العربي إذا لم تثبت في اللفظ حقيقة شرعية. و"أنت" تأكيد للضمير المستكن في الفعل ليصح العطف عليه كما تقرر في علم النحو أنه لا يجوز العطف على الضمير المرفوع المستكن إلا بعد تأكيده بمنفصل. وقد يجيء العطف نادراً بغير تأكيد كقول الشاعر: قلت إذ أقبلت وزهر تهادى كنعاج الملا تعسفن رملا وقوله: "وزوجك" أي حواء وهذه هي اللغة الفصيحة زوج بغير هاء، وقد جاء بها قليلاً كما في صحيح مسلم من حديث أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مع إحدى نسائه، فمر به رجل فدعاه وقال: يا فلان هذه زوجتي فلانة" الحديث، ومنه قول الشاعر: وإن الذي يسعى ليفسد زوجتي كساع إلى أسد الشرى يستميلها و"رغداً" بفتح المعجمة، وقرأ النخعي وابن وثاب بسكونها، والرغد: العيش الهنيء الذي لا عناء فيه، وهو منصوب على الصفة لمصدر محذوف. و"حيث" مبنية على الضم وفيها لغات كثيرة مذكورة في كتب العربية. والقرب: الدنو. قال في الصحاح: قرب الشيء بالضم يقرب قرباً: أي دنا، وقربته بالكسر أقربه قرباناً: أي دنوت منه، وقربت أقرب قرابة مثل كتبت أكتب كتابة: إذا سرت إلى الماء وبينك وبينه ليلة، والاسم القرب قال الأصمعي: قلت لأعرابي: ما القرب؟ قال: سير الليل لورود الغد. والنهي عن القرب فيه سد للذريعة وقطع للوسيلة، ولهذا جاء به عوضاً عن الأكل، ولا يخفى أن النهي عن القرب لا يستلزم النهي عن الأكل، لأنه قد يأكل من ثمر الشجرة من هو بعيد عنها إذا يحمل إليه، فالأولى أن يقال: المنع من الأكل مستفاد من المقام. والشجر: ما كان له ساق من نبات الأرض وواحدة شجرة وقرئ بكسر الشين وبالياء المثناة من تحت مكان الجيم. وقرأ ابن محيصن هذي بالياء بدل الهاء وهو الأصل. واختلف أهل العلم في تفسير هذه الشجرة، فقيل: هي الكرم وقيل: السنبلة، وقيل: التين، وقيل: الحنطة، وسيأتي ما روي عن الصحابة فمن بعدهم في تعيينها. وقوله: "فتكونا" معطوف على "تقربا" في الكشاف، أو نصب في جواب النهي وهو الأظهر. والظلم أصله: وضع الشيء في غير موضعه، والأرض المظلومة: التي لم تحفر قط ثم حفرت، ورجل ظليم: شديد الظلم. والمراد هنا "فتكونا من الظالمين" لأنفسهم بالمعصية، وكلام أهل العلم في عصمة الأنبياء واختلاف مذاهبهم في ذلك مدون في مواطنه، وقد أطال البحث في ذلك الرازي في تفسيره في هذا الموضع فليرجع إليه فإنه مفيد.

فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ

وأزلهما من الزلة وهي الخطيئة أي استزلهما وأوقعهما فيها، وقرأ حمزة فأزلهما بإثبات الألف من الإزالة وهي التحتية: أي نحاهما- وقرأ الباقون بحذف الألف. قال ابن كيسان: هو من الزوال: أي صرفهما عما كان عليه من الطاعة إلى المعصية. قال القرطبي: وعلى هذا تكون القراءتان بمعنى، إلا أن قراءة الجماعة أمكن في المعنى، يقال منه: أزللته فزل و 36- "عنها" متعلق بقوله: أزلهما على تضمينه معنى أصدر: أي أصدر الشيطان زلتهما عنها أي بسببها، يعني الشجرة. وقيل: الضمير للجنة، وعلى هذا فالفعل مضمن معنى أبعدهما: أي أبعدهما عن الجنة. وقوله: "فأخرجهما" تأكيد لمضمون الجملة الأولى: أي أزلهما إن كان معناه زال عن المكان، وإن لم يكن معناه كذلك فهو تأسيس، لأن الإخراج فيه زيادة على مجرد الصرف والإبعاد ونحوهما، لأن الصرف عن الشجرة والإبعاد عنها قد يكون مع البقاء في الجنة بخلاف الإخراج لهما عما كانا فيه من النعيم والكرامة أو من الجنة- وإنما نسب ذلك إلى الشيطان لأنه الذي تولى إغواء آدم حتى أكل من الشجرة. وقد اختلف أهل العلم في الكيفية التي فعلها الشيطان في إزلالهما، فقيل: إنه كان ذلك بمشافهة منه لهما، وإليه ذهب الجمهور واستدلوا على ذلك بقوله تعالى " وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين " والمقاسمة ظاهرها المشافهة: وقيل: لم يصدر منه إلا مجرد الوسوسة، وقيل غير ذلك مما سيأتي في المروى عن السلف. وقوله: "اهبطوا" خطاب لآدم وحواء، وخوطبا بما يخاطب به الجمع لأن الاثنين أقل الجمع عند البعض من أئمة العربية، وقيل: إنه خطاب لهما ولذريتهما، لأنهما لما كانا أصل هذا النوع الإنساني جعلا بمنزلته، ويدل على ذلك قوله: "بعضكم لبعض عدو" فإن هذه الجملة الواقعة حالاً مبيناً للهيئة الثابتة للمأمورين بالهبوط تفيد ذلك. والعدو خلاف الصديق، وهو من عدا إذا ظلم، ويقال: ذئب عدوان: أي يعدو على الناس، والعدوان: الظلم الصراح وقيل إنه مأخوذ من المجاوزة، يقال عداه: إذا جاوزه، والمعنيان متقاربان، فإن من ظلم فقد تجاوز. وإنما أخبر عن قوله: "بعضكم" بقوله: "عدو" مع كونه مفرداً، لأن لفظ بعض وإن كان معناه محتملاً للتعدد فهو مفرد فروعي جانب اللفظ وأخبر عنه بالمفرد، وقد يراعي المعنى فيخبر عنه بالمتعدد. وقد يجاب بأن "عدو" وإن كان مفرداً فقد يقع موقع المتعدد كقوله تعالى: "وهم لكم عدو" وقوله: "يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو" قال ابن فارس: العدو اسم جامع للواحد والاثنين والثلاثة. والمراد بالمستقر. موضع الاستقرار، ومنه "أصحاب الجنة يومئذ خير مستقر" فالآية محتملة للمعنيين، ومثلها قوله: "جعل لكم الأرض قراراً" والمتاع: ما يستمتع به من المأكول والمشروب والملبوس ونحوها. واختلف المفسرون في قوله: "إلى حين" فقيل: إلى الموت، وقيل: إلى قيام الساعة. وأصل معنى الحين في اللغة: الوقت البعيد، ومنه "هل أتى على الإنسان حين من الدهر"، ومنه "فذرهم في غمرتهم حتى حين" أي حتى تفنى آجالهم، ويطلق على السنة، وقيل: على ستة أشهر، ومنه "تؤتي أكلها كل حين" ويطلق على المساء والصباح، ومنه "حين تمسون وحين تصبحون" وقال الفراء: الحين حينان، حين لا يوقف على حده، ثم ذكر الحين الآخر واختلافه بحسب اختلاف المقامات كما ذكرنا. وقال ابن العربي: الحين المجهول لا يتعلق به حكم، والحين المعلوم سنة. ومعنى تلقي آدم للكلمات: أخذه لها وقبوله لما فيها وعمله بها، وقيل: فهمه لها وفطانته لما تضمنته. وأصل معنى التلقي الاستقبال: أي استقبل الكلمات الموحاة إليه ومن قرأ بنصب آدم جعل معناه استقبلته الكلمات.وقيل: إن معنى تلقى تلقن، ولا وجه له في العربية. واختلف السلف في تعيين هذه الكلمات وسيأتي. والتوبة: الرجوع يقال تاب العبد: إذا رجع إلى طاعة مولاه، وعبد تواب: كثير الرجوع فمعنى تاب عليه: رجع عليه بالرحمة فقيل توبته أو وفقه للتوبة. واقتصر على ذكر التوبة على آدم دون حواء مع اشتراكهما في الذنب، لأن الكلام من أول القصة معه فاستمر على ذلك واستغنى بالتوبة عليه عن ذكر التوبة عليها لكونها تابعة له، كما استغنى بنسبة الذنب إليه عن نسبته إليها في قوله: "وعصى آدم ربه فغوى". وأما قوله: "قلنا اهبطوا" بعد قوله: "قلنا اهبطوا"، فكرره للتوكيد والتغليظ. وقيل: إنه لما تعلق به حكم غير الحكم الأول كرره ولا تزاحم بين المقتضيات. فقد يكون التكرير للأمرين معاً. وجواب الشرط في قوله: "فإما يأتينكم مني هدى" هو الشرط الثاني مع جوابه قاله سيبويه. وقال الكسائي: إن جواب الشرط الأول والثاني قوله: "فلا خوف" واختلفوا في معنى الهدى المذكور فقيل: هو كتاب الله، وقيل: التوفيق للهداية. والخوف: هو الذعر، ولا يكون إلا في المستقبل. وقرأ الزهري والحسن وعيسى بن عمار وابن أبي إسحاق ويعقوب "فلا خوف" بفتح الفاء والحزن ضد السرور. قال اليزيدي: حزنه لغة قريش، وأحزنه لغة تميم. وقد قرىء بهما. وصحبة أهل النار لها بمعنى الاقتران والملازمة. وقد تقدم ذكر تفسير الخلود. وقد أخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن أبي ذر قال: "قلت يا رسول الله أرأيت آدم نبياً كان؟ قال: نعم كان نبياً رسولاً كلمه الله، قال له:-يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة". وأخرج ابن أبي شيبة والطبراني عن أبي ذر قال: "قلت يا رسول الله من أول الأنبياء؟ قال: ادم قلت: نبي؟ قال: نعم. قلت ثم من؟ قال: نوح وبينهما عشرة آباء". وأخرج أحمد والبخاري في تاريخه والبيهقي في الشعب نحوه من حديث أبي ذر مرفوعاً وزاد "كم كان المرسلون؟ قال: ثلثمائةوخمسة عشر جماً غفيراً". وأخرج ابن أبي حاتم وابن حبان والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي عن أبي أمامة الباهلي، "أن رجلاً قال: يا رسول الله أنبي كان آدم؟ قال: نعم، قال: كم بينه وبين نوح؟ قال: عشرة قرون قال: كم بين نوح وبين إبراهيم؟ قال: عشرة قرون، قال: يا رسول الله كم الأنبياء؟ قال: مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً، قال: يا رسول الله كم كانت الرسل من ذلك؟ قال: ثلثمائة وخمسة عشر جماً غفيراً". وأخرج أحمد وابن المنذر والطبراني وابن مردويه من حديث أبي أمامة نحوه، وصرح بأن السائل أبو ذر. وأخرج عبد بن حميد والحاكم وصححه عن ابن عباس قال: ما سكن آدم الجنة إلا بين صلاة العصر إلى غروب الشمس. وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي عنه قال: "ما غابت الشمس من ذلك اليوم حتى أهبط من الجنة". وأخرج الفريابي وأحمد في الزهد وعبد بن حميد وابن المنذر عن الحسن قال: لبث آدم في الجنة ساعة من نهار، تلك الساعة مائة وثلاثون سنة من أيام الدنيا. وقد روي تقدير اللبث في الجنة عن سعيد بن جبير يمثل ما تقدم عن ابن عباس كما رواه أحمد في الزهد. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي وابن عساكر عن ابن عباس وابن مسعود وناس من الصحابة قالوا: لما سكن آدم الجنة كان يمشي فيها وحشاً ليس له زوج يسكن إليها، فنام نومة فاستيقظ وإذا عند رأسه امرأة قاعدة خلقها الله من ضلعه. وأخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" استوصوا بالنساء خيراً، فإن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج شيء من الضلع رأسه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته تركته وفيه عوج" وروى أبو الشيخ وابن عساكر عن ابن عباس قال: إنما سميت حواء لأنها أم كل حي. وأخرج ابن عدي وابن عساكر عن النخعي قال: لما خلق الله آدم وخلق له زوجه بعث إليه ملكاً وأمره بالجماع ففعل، فلما فرغ قالت له حواء: يا آدم هذا طيب زدنا منه. وأخرج ابن جرير وابن عساكر عن ابن مسعود وناس من الصحابة قال: الرغد الهنيء. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: الرغد سعة المعيشة. وأخرجا عنه في قوله: "وكلا منها رغداً حيث شئتما" قال: لا حساب عليكم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن عساكر من طرق عن ابن عباس قال: الشجرة التي نهى الله عنها آدم السنبلة وفي لفظ: البر. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال: هي الكرم. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود مثله. وأخرج أبو الشيخ عنه قال: هي اللوز. وأخرج ابن جرير عن بعض الصحابة قال: هي التينة. وروى مثله أبو الشيخ عن مجاهد وابن أبي حاتم عن قتادة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن وهب بن منبه قال: هي البر. وأخرج أبو الشيخ عن أبي مالك قال: هي النخلة. وأخرج أبو الشيخ عن يزيد بن عبدالله بن قسيط قال: هي الأترج. وأخرج أحمد في الزهد عن شعيب الجبائي قال: هي تشبه البر وتسمى الدعة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله "فأزلهما" قال: فأغواهما. وأخرج ابن أبي حاتم عن عاصم بن بهدلة قال: "فأزلهما" فنحاهما. وأخرج أبو داود في المصاحف عن الأعمش قال: قراءتنا في البقرة مكان فأزلهما فوسوس. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن مسعود وناس من الصحابة قالوا: أراد إبليس أن يدخل عليهما الجنة فمنعته الخزنة، فأتى الحية وهي دابة لها أربع قوائم كأنها البعير وهي كأحسن الدواب، فكلمها أن تدخله في فمها حتى به إلى آدم، فأدخلته في فمها، فمرت الحية على الخزنة فدخلت ولا يعلمون لما أراد الله من الأمر، فكلمه من فمها فلم يبال بكلامه، فخرج إليه فقال: يا آدم "هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى" وحلف لهما بالله "إني لكما لمن الناصحين" فأبى آدم أن يأكل منها، فتقدمت حواء فأكلت، ثم قالت: يا آدم كل، فإني قد أكلت فلم يضرني، فلما أكلا " بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة". وقد أخرج قصة الحية ودخول إبليس معها عبد الرزاق وابن جرير عن ابن عباس. وأخرج ابن سعد وأحمد في الزهد وعبد بن حميد وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن آدم كان رجلاً طوالاً كأنه نخلة سحوق طوله ستون ذراعاً كثير شعر الرأس، فلما ركب الخطيئة بدت له عورته" الحديث. وأخرج ابن منيع وابن المنذر وأبو الشيخ والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن ابن عباس. قال: قال الله لآدم: ما حملك على أن أكلت من الشجرة التي نهيتك عنها؟ قال: يا رب زينته لي حواء، قال: فإني عاقبتها بأن لا تحمل إلا كرهاً ولا تضع إلا كرهاً، وأدميتها في كل شهر مرتين. وأخرج البخاري والحاكم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لولا بنو إسرائيل لم يخنزاللحم، ولولا حواء لم تخن أنثى زوجها". وقد ثبتت أحاديث كثيرة عن جماعة من الصحابة في الصحيحين وغيرهما في محاجة آدم وموسى، وحج آدم موسى بقوله: أتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن أخلق؟.

فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ

37- " فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم ".

قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ

وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: 38- "قلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو" قال: آدم وحواء وإبليس والحية "ولكم في الأرض مستقر"قال: القبور "ومتاع إلى حين" قال: الحياة. وروي نحو ذلك عن مجاهد وأبي صالح وقتادة كما أخرجه عن الأول والثاني أبو الشيخ وعن الثالث عبد بن حميد. وأخرج أبو الشيخ عن ابن مسعود في قوله: "ولكم في الأرض مستقر" قال: القبور "ومتاع إلى حين" قال: إلى يوم القيامة. وأخرج ابن أبي حاتمعن ابن عمر قال: أهبط آدم بالصفا وحواء بالمروة.وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن عباس قال:"أول ما أهبط الله ادم إلى أرض الهند" وفي لفظ "بدجنى أرض الهند". وأخرج ابن أبي حاتم عنه أنه أهبط إلى أرض بين مكة والطائف. وأخرج ابن جرير والحاكم وصححه والبيهقي عنه قال: قال علي بن أبي طالب: أطيب ريح الأرض الهند، هبط بها آدم فعلق شجرها من ريح الجنة. وأخرج ابن سعد وابن عساكر عن ابن عباس قال: أهبط آدم بالهند وحواء بجدة، فجاء في طلبهاحتى أتى جمعاً، فازدلفت إليه حواء، فلذلك سميت المزدلفة، واجتمعا بجمع. وأخرج الطبراني وأبو نعيم في الحلية عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"أنزل آدم عليه السلام بالهند فاستوحش، فنزل جبريل فنادى بالأذان، فلما سمع ذكر محمد قال له: ومن محمد هذا؟ قال هذا آخر ولدك من الأنبياء." وقد روي عن جماعة من الصحابة أن آدم أهبط إلى أرض الهند، منهم جابر أخرجه ابن أبي الدنيا وابن المنذر وابن عساكر، ومنهم ابن عمر أخرجه الطبراني. وأخرج ابن عساكر عن علي قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إن الله لما خلق الدنيا لم يخلق فيها ذهباً ولا فضة، فلما أهبط آدم وحواء أنزل معهما ذهباً وفضة، فسلكه ينابيع في الأرض منفعة لأولادهما من بعدهما وجعل ذلك صداق لحواء، فلا ينبغي لأحد أن يتزوج إلا بصداق". وأخرج ابن عساكر بسند ضعيف عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هبط آدم وحواء عريانين جميعاً عليهم ورق الجنة قعد يبكي ويقول لها: يا حواء قد آذاني الحر، فجاءه جبريل بقطن وأمرها أن تغزل وعلمها، وأمر آدم بالحياكة وعلمه". وأخرج الديلمي في مسند الفردوس عن أنس مرفوعاً "أول من حاك آدم عليه السلام". وقد روي عن جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم حكايات في صفة هبوط آدم من الجنة وما أهبط معه وما صنع عند وصوله إلى الأرض، ولا حاجة لنا ببسط جميع ذلك. وأخرج الفرياني وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "فتلقى آدم من ربه كلمات" قال أي رب ألم تخلقني بيدك؟ قال: بلى، قال: أي رب ألم تنفخ في روحك؟ قال بلى، قال: أي رب ألم تسبق إلي رحمتك قبل غضبك؟ قال بلى، قال: أي رب ألم تسكني جنتك؟ قال: بلى، قال: أي رب أرأيت إن تبت وأصلحت أراجعي أنت إلى الجنة؟ قال: نعم. وأخرج الطبراني في الأوسط وابن عساكر بسند ضعيف عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لما أهبط الله آدم إلى الأرض قام وجاه الكعبة فصلى ركعتين" الحديث. وقد روي نحوه بإسناد لا بأس به أخرجه الأزرقي في تاريخ مكة، والطبراني في الأوسط والبيهقي في الدعوات وابن عساكر من حديث بريدة مرفوعاً. وأخرج الثعلبي عن ابن عباس في قوله: "فتلقى آدم من ربه كلمات" قال: قوله: "ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين". وأخرج ابن المنذر من طريق ابن جرير عنه مثله. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الإيمان عن محمد بن كعب القرظي في قوله: "فتلقى آدم من ربه كلمات" مثله. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن مجاهد مثله. وأخرج عبد بن حميد عن الحسن والضحاك مثله. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قيل له: ما الكلمات التي تلقى آدم من ربه؟ قال: علم شأن الحج فهي الكلمات. وأخرج عبد بن حميد عن عبد الله بن زيد في قوله: "فتلقى آدم من ربه كلمات" قال: لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك رب عملت سوءاً وظلمت نفسي، فارحمني إنك أنت أرحم الراحمين، لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك رب عملت سوءاً وظلمت نفسي، فتب علي إنك أنت التواب الرحيم. وأخرج نحوه البيهقي في شعب الإيمان وابن عساكر عن أنس. وأخرج نحوه هنا وفي الزهد عن سعيد بن جبير. وأخرج نحوه ابن عساكر من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس. وأخرج نحوه الديلمي في مسند الفردوس بسند ضعيف عن علي مرفوعاً. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله: "فإما يأتينكم مني هدى" قال الهدى: الأنبياء والرسل والبيان. وأخرج ابن الأنباري في المصاحف عن أبي الطفيل قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فمن تبع هداي " بتثقيل الياء وفتحها. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: "فلا خوف عليهم" يعني في الآخرة "ولا هم يحزنون" يعني لا يحزنون للموت.

وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ

39- " والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ".

يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ

اعلم أن كثيراً من المفسرين جاءوا بعلم متكلف، وخاضوا في بحر لم يكلفوا سباحته، واستغرقوا أوقاتهم في فن لا يعود عليهم بفائدة، بل أوقعوا أنفسهم في التكلم بمحض الرأي المنهي عنه في الأمور المتعلقة بكتاب الله سبحانه، وذلك أنهم أرادوا أن يذكروا المناسبة بين الآيات القرآنية المسرودة على هذا الترتيب الموجود في المصاحف فجاءوا بتكلفات وتعسفات يتبرأ منها الإنصاف، ويتنزه عنها كلام البلغاء فضلاً عن كلام الرب سبحانه، حتى أفردوا ذلك بالتصنيف، وجعلوه المقصد الأهم من التأليف، كما فعله البقاعي في تفسيره ومن تقدمه حسبما ذكر في خطبته، وإن هذا لمن أعجب ما يسمعه من يعرف أن هذا القرآن ما زال ينزل مفرقاً على حسب الحوادث المقتضية لنزوله منذ نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن قبضه الله عز وجل إليه، وكل عاقل فضلاً عن عالم لا يشك أن هذه الحوادث المقتضية نزول القرآن متخالفة باعتبار نفسها، بل قد تكون متناقضة كتحريم أمر كان حلالاً، وتحليل أمر كان حراماً، وإثبات أمر لشخص أو أشخاص يناقض ما كان قد ثبت لهم قبله، وتارة يكون الكلام مع المسلمين، وتارة مع الكافرين، وتارة مع من مضى، وتارة مع من حضر، وحيناً في عبادة، وحيناً في معاملة، ووقتاً في ترغيب، ووقتاً في ترهيب، وآونة في بشارة، وآونة في نذارة، وطوراً في أمر دنيا، وطوراً في أمر آخرة، ومرة في تكاليف آتية، ومرة في أقاصيص ماضية. وإذا كانت أسباب النزول مختلفة هذا الإختلاف، ومتباينة هذا التباين الذي لا يتيسر معه الائتلاف، فالقرآن النازل فيها هو باعتباره نفسه مختلف كاختلافها، فكيف يطلب العاقل المناسبة بين الضب والنون والماء والنار والملاح والحادي، وهل هذا إلا من فتح أبواب الشك وتوسيع دائرة الريب على من في قلبه مرض، أو كان مرضه مجرد الجهل والقصور، فإنه إذا وجد أهل العلم يتكلمون في التناسب بين جميع آي القرآن ويفردون ذلك بالتصنيف، تقرر عنده أن هذا أمر لا بد منه، وأنه لا يكون القرآن بليغاً معجزاً إلا إذا ظهر الوجه المقتضي للمناسبة، وتبين الأمر الموجب للارتباط، فإن وجد الاختلاف بين الآيات فرجع إلى ما قاله المتكلمون في ذلك، فوجده تكلفاً محضاً، وتعسفاً بيناً انقدح في قلبه ما كان عنه في عافية وسلامة، هذا على فرض أن نزول القرآن كان مترتباً على هذا الترتيب الكائن في المصحف، فكيف وكل من له أدنى علم بالكتاب، وأيسر حظ من معرفته يعلم علماً يقيناً أنه لم يكن كذلك، ومن شك في هذا وإن لم يكن مما يشك فيه أهل العلم رجع إلى كلام أهل العلم العارفين بأسباب النزول، المطلعين على حوادث النبوة، فإنه ينثلج صدره، ويزول عنه الريب، بالنظر في سورة من السور المتوسطة، فضلاً عن المطولة لأنه لا محالة يجدها مشتملة على آيات نزلت في حوادث مختلفة، وأوقات متباينة لا مطابقة بين أسبابها وما نزل فيها في الترتيب، بل يكفي المقصر أن يعلم أن أول ما نزل "اقرأ باسم ربك الذي خلق" وبعده "يا أيها المدثر" "يا أيها المزمل" وينظر أين موضع هذه الآيات والسور في ترتيب المصحف؟ وإذا كان الأمر هكذا، فأي معنى لطلب المناسبة بين آيات نعلم قطعاً أنه قد تقدم في ترتيب المصحف ما أنزل الله متأخراً، وتأخر ما أنزله الله متقدماً، فإن هذا عمل لا يرجع إلى ترتيب نزول االقرآن، بل إلى ما وقع من الترتيب عند جمعه ممن تصدى لذلك من الصحابة، وما أقل نفع مثل هذا وأنزر ثمرته، وأحقر فائدته، بل هو عند من يفهم ما يقول وما يقال له من تضييع الأوقات وإنفاق الساعات في أمر لا يعود بنفع على فاعله ولا على من يقف عليه من الناس، وأنت تعلم أنه لو تصدى رجل من أهل العلم للمناسبة بين ما قاله رجل من البلغاء من خطبه ورسائله وإنشاءاته، أو إلى ما قاله شاعر من الشعراء من القصائد التي تكون تارة مدحاً وأخرى هجاءاً، وحيناً نسيباً وحيناً رثاءً، وغير ذلك من الأنواع المتخالفة، فعمد هذا المتصدي إلى ذلك المجموع فناسب بين فقره ومقاطعه، ثم تكلف تكلفاً آخر فناسب بين الخطبة التي خطبها في الجهاد والخطبة التي في الحج والخطبة التي خطبها في النكاح ونحو ذلك، وناسب بين الإنشاء الكائن في العزاء والإنشاء الكائن في الهناء وما يشابه ذلك، لعد هذا المتصدي لمثل هذا مصاباً في عقله متلاعباً بأوقاته عابثاً بعمره الذي هو رأس ماله، وإذا كان مثل هذا بهذه المنزلة، وهو ركوب الأحموقة في كلام البشر، فكيف تراه يكون في كلام الله سبحانه الذي أعجزت بلاغته بلغاء العرب، وأبكمت فصاحته فصحاء عدنان وقحطان. وقد علم كل مقصر وكامل أن الله سبحانه وصف هذا القرآن بأنه عربي، وأنزله بلغة العرب، وسلك فيه مسالكهم في الكلام، وجرى به مجاريهم في الخطاب. وقد علمنا أن خطيبهم كان يقوم المقام الواحد فيأتي بفنون متخالفة، وطرائق متباينة فضلاً عن المقامين، فضلاً عن المقامات، فضلاً عن جميع ما قاله ما دام حياً، وكذلك شاعرهم. ولنكتف بهذا التنبيه على هذه المفسدة التي تعثر في ساحاتها كثير من المحققين، وإنما ذكرنا هذا البحث في هذا الموطن لأن الكلام هنا قد انتقل مع بني إسرائيل بعد أن كان قبله مع أبي البشر آدم عليه السلام، فإذا قال متكلف: كيف ناسب هذا ما قبله؟ قلنا: لا كيف: فدع عنك نهباً صيح في حجراته وهات حديثاً ما حديث الرواحل قوله: 40- "يا بني إسرائيل" اتفق المفسرون على أن إسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام ومعناه عبد الله، لأن إسر في لغتهم هو العبد وإيل هو الله، قيل: إن له اسمين، وقيل: إسرائيل لقب له، وهو اسم عجمي غير منصرف، وفيه سبع لغات: إسرائيل بزنة إبراهيم، وإسرائيل بمدة مهموزة مختلة رواها ابن شنبوذ عن ورش، وإسرائيل بمدة بعد الياء من غير همز وهي قراءة الأعمش وعيسى بن عمر، وقرأ الحسن من غير همز ولا مد وإسرائيل بهمزة مكسورة. وإسراءل بهمزة مفتوحة، وتميم يقولون إسرائين.والذكر هو ضد الإنصات وجعله بعض أهل اللغة مشتركاً بين ذكر القلب واللسان. وقال الكسائي: ما كان بالقلب فهو مضموم الذال، وما كان باللسان فهو مكسور الذال. قال ابن الأنباري: والمعنى في الآية: اذكروا شكر نعمتي، فحذف الشكر اكتفاءً بذكر النعمة، وهي اسم جنس، ومن جملتها أنه جعل منهم أنبياء وأنزل عليهم الكتب والمن والسلوى، وأخرج لهم الماء من الحجر، ونجاهم من آل فرعون وغير ذلك. والعهد قد تقدم تفسيره. واختلف أهل العلم في العهد المذكور في هذه الآية ما هو؟ فقيل: هو المذكور في قوله تعالى: " خذوا ما آتيناكم بقوة " وقيل: هو ما في قوله: "ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيباً" وقيل: هو قوله: "وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب". وقال الزجاج: هو ما أخذ عليهم في التورات من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: هو أداء الفرائض، ولا مانع من حمله على جميع ذلك. ومعنى قوله: "أوف بعهدكم" أي بما ضمنت لكم من الجزاء. والرهب والرهبة: الخوف، ويتضمن الأمر به معنى التهديد، وتقديم معمول الفعل يفيد الاختصاص كما تقدم في "إياك نعبد" وإذا كان التقديم على طريقة الإضمار والتفسير مثل زيداً ضربته "وإياي فارهبون" كان أوكد في إفادة الاختصاص، ولهذا قال صاحب الكشاف: وهو أوكد في إفادة الاختصاص من "إياك نعبد".

وَآَمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ

وسقطت الياء من قوله: "فارهبون" لأنهارأس آية 41- "ومصدقاً" حال من "ما" في قوله: "ما أنزلت" أو من ضميرها المقدر بعد الفعل أي أنزلته. وقوله: "أول كافر به" إنما جاء به مفرداً، ولم يقل كافرين حتى يطابق ما قبله لأنه وصف لموصوف محذوف مفرد اللفظ، متعدد المعنى نحو فريق أو فوج. وقال الأخفش والفراء: إنه محمول على معنى الفعل، لأن المعنى أول من كفر. وقد يكون من باب قولهم هو أظرف الفتيان وأجمله كما حكى ذلك سيبويه، فيكون هذا المفرد قائماً مقام الجمع، وإنما قال "أول" مع أنه قد تقدمهم إلى الكفر به كفار قريش، لأن المراد أول كافر به من أهل الكتاب، لأنهم العارفون بما يجب للأنبياء، وما يلزم من التصديق، والضمير في "به" عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم: أي لا تكونوا أول كافر بهذا النبي مع كونكم قد وجدتموه مكتوباً عندكم في التوراة والإنجيل، مبشراً به في الكتب المنزلة عليكم. وقد حكى الرازي في تفسيره في هذا الموضع ما وقف عليه من البشارات برسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتب السالفة، وقيل: إنه عائد إلى القرآن المدلول عليه بقوله: "بما أنزلت" وقيل: عائد إلى التوراة المدلول عليها بقوله: "لما معكم" وقوله: "ولا تشتروا بآياتي" أي بأوامري ونواهي "ثمناً قليلاً" أي عيشاً نزراً ورئاسة لا خطر لها. جعل ما اعتاضوهثمناً، وأوقع الاشتراء عليه وإن كان الثمن هو المشتري به، لأن الاشتراء هنا مستعار للاستبدال: أي لا تستبدلوا بآياتي ثمناً قليلاً، وكثيراً ما يقع مثل هذا في كلامهم. وقد قدمنا الكلام عليه في تفسير قوله تعالى: "اشتروا الضلالة بالهدى"، ومن إطلاق اسم الثمن على نيل عرض من أعراض الدنيا قول الشاعر: إن كنت حاولت دنيا أو ظفرت بها فما أصبت بترك الحج من ثمن وهذه الآية وإن كانت خطاباً لبني إسرائيل ونهياً لهم فهي متناولة لهذه الأمة بفحوى الخطاب أو بلحنه، فمن أخذ من المسلمين رشوة على إبطال حق أمر الله به، أو إثبات باطل نهى الله عنه، أو امتنع من تعليم ما علمه الله وكتم البيان الذي أخذ الله عليه ميثاقه به، فقد اشترى بآيات الله ثمناً قليلاً. وقوله: "وإياي فاتقون" الكلام فيه كالكلام في قوله تعالى: "وإياي فارهبون" وقد تقدم قريباً.

وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ

واللبس: الخلط، يقال: لبست عليه الأمر ألبسه: إذا خلطت حقه بباطله وواضحه بمشكله، قال الله تعالى: 42- "وللبسنا عليهم ما يلبسون" قالت الخنساء: ترى الجليس يقول الحق تحسبهذ رشدا وهيهات فانظر ما به التبسا صدق مقالته واحذر عداوته والبس عليه أموراً مثل ما لبسا وقال العجاج: لما لبست الحق بالتجني عتبن فاستبدلن زيداً مني ومنه قول عنترة: وكتيبة لبستها بكتيبة حتى إذا التبست نفضت لها يدي وقيل: هو مأخوذ من التغطية: أي لا تغطوا الحق بالباطل، ومنه قول الجعدي: إذا ما الضجيع ثنى جيدها تثنت عليه وكانت لباسا وقول الأخطل: وقد لبست هذا الأمر أعصره حتى تجلل رأسي الشيب فاشتعلا والأول أولى. والباطل في كلام العرب: الزائل، ومنه قول لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل وبطل الشيء يبطل بطولاً وبطلاناً، وأبطله غيره ويقال: ذهب دمه بطلا: أي هدراً، والباطل: الشيطان، وسمي الشجاع بطلاً لأنه يبطل شجاعة صاحبه، والمراد به هنا خلاف الحق. والباء في قوله "بالباطل" يحتمل أن تكون صلة وأن تكون للاستعانة ذكر معناه في الكشاف، ورجح الرازي في تفسيره الثاني. وقوله: "وتكتموا" يجوز أن يكون داخلاً تحت حكم النهي، أو منصوباً بإضمار أن، وعلى الأول يكون كل واحد من اللبس والكتم منهياً عنه، وعلى الثاني يكون المنهي عنه هو الجمع بين الأمرين، ومن هذا يلوح رجحان دخوله تحت حكم النهي وأن كل واحد منهما لا يجوز فعله على انفراده، والمراد النهي عن كتم حجج الله التي أوجب عليهم تبليغها واخذ عليهم بيانها، ومن فسر اللبس أو الكنمان بشيء معين، ومعنى خاص فلم يضب إن أراد أن ذلك هو المراد دون غيره، لا إن أراد أنه مما يصدق عليه. وقوله: "وأنتم تعلمون" جملة حالية، وفيه أن كفرهم كفر عناد لا كفر جهل، وذلك أغلظ للذنب وأوجب للعقوبة، وهذا التقييد لا يفيد جواز اللبس والكتمان مع الجهل، لأن الجاهل يجب عليه أن لا يقدم على شيء حتى يعلم بحكمه خصوصاً في أمور الدين، فإن التكلم فيها والتصدي للإصدار والإيراد في أبوابها إنما أذن الله به لمن كان رأساً في العلم فرداً في الفهم، وما للجهال والدخول فيما ليس من شأنهم والقعود في غير مقاعدهم. وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: " يا بني إسرائيل " قال للأحبار من اليهود: "اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم" أي بلائي عندكم وعند آبائكم لما كان نجاهم به من فرعون وقومه "وأوفوا بعهدي" الذي أخذت في أعناقكم للنبي صلى الله عليه وسلم إذا جاءكم "أوف بعهدكم" أنجزلكم ما وعدتكم عليه بتصديقه وأتباعه بوضع ما كان عليكم من الإصر والأغلال "وإياي فارهبون" أن أنزل بكم ما أنزلت بمن كان قبلكم من آبائكم من النقمات "وآمنوا بما أنزلت مصدقاً لما معكم ولا تكونوا أول كافر به" وعندكم فيه من العلم ما ليس عند غيركم "وتكتموا الحق وأنتم تعلمون" أي لا تكتموا ما عتدكم من المعرفة برسولي وبما جاءكم به وأنتم تجدونه عندكم فيما تعلمون من الكتب التي بأيديكم، وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله: "أوفوا بعهدي" يقول: أرض عنكم وأدخلكم الجنة. وأخرج ابن المنذر عن ابن مسعود مثله. وأخرج ابن المنذر عن مجاهد في قوله: "أوف بعهدكم" قال: هو الميثاق الذي أخذه عليهم في سورة المائدة "لقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل" الآية. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة نحوه. وأخرج عبد بن حميد عن الحسن قال: أوفوا لي بما افترضت عليكم أوف لكم بما وعدتكم. وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ ن الضحاك نحوه. وأخرج ابن جرير عن أبي العالية في قوله: "إياي فارهبون" قال فاخشون. وأخرج عبد بن حميد وابن جريح عن مجاهد في قوله: "وآمنوا بما أنزلت" قال القرآن: "مصدقاً لما معكم" قال: التوراة والإنجيل. وأخرج ابن جريح عن ابن جرير في قوله: "أول كافر به" قال: بالقرآن. وأخرج ابن جرير عن أبي العالية في الآية قال: يقول يا معشر أهل الكتاب آمنوا بما أنزلت على محمد مصدقاً لما معكم، لأنهم يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل "ولا تكونوا أول كافر به" أي أول من كفر بمحمد "ولا تشتروا بآياتي" يقول: لا تأخذوا عليه أجراً، قال: وهو مكتوب عندهم في الكتاب الأول: يابن آم علم مجاناً كما علمت مجاناً. وأخرج أبو الشيخ عنه قال: لا تأخذ علي ما علمت أجراً، إنما أجر العلماء والحكماء والحلماء على الله. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: "ولا تلبسوا الحق بالباطل" قال: لا تخلطوا الصدق بالكذب "وتكتموا الحق" قال: لا تكتموا الحق وأنتم قد علمتم أن محمداً رسول الله. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله: "ولا تلبسوا" الآية، قال: لا تلبسوا اليهودية والنصرانية بالإسلام "وتكتموا الحق" قال: كتموا محمداً وهم يعلمون أنه رسول الله يجدونه مكتوباً عندهم في التورات والإنجيل. وأخرج ابن جرير عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال: الحق التوراة، والباطل الذي كتبوه بأيديهم.

وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ

قد تقدم الكلام في تفسير إقامة الصلاة واشتقاقها، والمراد هنا الصلاة المعهودة، وهي صلاة المسلمين على أن التعريف للعهد، ويجوز أن تكون للجنس، ومثلها الزكاة. والإيتاء: الإعطاء يقال آتيته: أي أعطيته. والزكاة مأخوذة من الزكاة، وهو النماء، زكا الشيء: إذا نما وزاد، ورجل زكي: أي زائد الخير، وسمي إخراج جزء من المال زكاة: أي زيادة مع أنه نقص منه، لأنها تكثر بركته بذلك، أو تكثر أجر صاحبه، وقيل: الزكاة مأخوذة من التطهير، كما يقال زكا فلان: أي طهر. والظاهر أن الصلاة والزكاة والحج والصوم ونحوها قد نقلها الشرع إلى معان شرعية هي المرادة بما هو مذكور في التاب والسنة منها. وقد تكلم أهل العلم على ذلك بما لا يتسع المقام لبسطه. وقد اختلف أهل العلم في المراد بالزكاة هنا، فقيل المراد المفروضة لاقترانها بالصلاة، وقيل: صدقة الفطر، والظاهر أن المراد ما هو أعم من ذلك. والركوع في اللغة: الانحناء، وكل منحن راكع، قال لبيد: أخبر أخبار القرون التي مضت أدب كأني كلما قمت راكع وقيل: الانحناء يعم الركوع والسجود، ويستعار الركوع أيضاً للإنحطاط في المنزلة، قال الشاعر: لا تهين الفقير علك أن تركع يوماً والدهر قد رفعه وإنما خص الركوع بالذكر هنا، لأن اليهود لا ركوع في صلاتهم، وقيل: لكونهكان ثقيلاً على أهل الجاهلية وقيل: إنه أراد بالركوع جميع أركان الصلاة. والركوع الشرعي: هو أن ينحني الرجل ويمد ظهره وعنقه ويفتح أصابع يديه ويقبض على ركبتيه ثم يطمئن راكعاً ذاكراً بالذكر المشروع. وقوله: 43- "مع الراكعين" فيه الإرشاد إلى شهود الجماعة والخروج إلى المساجد. وقد ورد في ذلك من الأحاديث الصحيحة الثابتة في الصحيحين وغيرهما ما هو معروف. وقد أوجب حضور الجماعة بعض أهل العلم على خلاف بينهم في كون ذلك عيناً أو كفاية، وذهب الجمهور إلى أنه سنة مؤكدة مرغب فيها وليس بواجب، وهو الحق للأحاديث الصحيحة الثابتة عن جمعاعة من الصحابة، من أن صلاة الجماعة تفضل صلاة الفرد بخمس وعشرين درجة أو بسبع وعشرين درجة. وثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم الذي يصلي مع الإمام أفضل من الذي يصلي وحده ثم ينام. والبحث طويل الذيول، كثير النقول.

أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ

والهمزة في قوله: 44- "أتأمرون الناس بالبر" للاستفهام مع التوبيخ للمخاطبين، وليس المراد توبيخهم على نفس الأمر بالبر فإنه فعل حسن مندوب إليه، بل بسبب ترك فعل البر المستفاد من قوله: "وتنسون أنفسكم" مع التطهر بتزكية النفس والقيام في مقام دعاة الخلق إلى الحق إيهاماً للناس وتلبيساً عليهم كما قال أبو العتاهية: وصفت التقى حتى كأنك ذو تقى وريح الخطايا من ثيابك يسطع والبر: الطاعة والعمل الصالح، والبر: سعة الخير والمعروف، والبر: الصدق، والبر: ولد الثعلب، والبر: سوق الغنم، ومن إطلاقه على الطاعة قول الشاعر: لا هم رب أن يكونوا دونكا يبرك الناس ويفجرونكا أي يطيعونك ويعصونك. والنسيان بكسر النون هو هنا بمعنى الترك: أي وتتركون أنفسكم، وفي الأصل خلاف الذكر والحفظ: أي زوال الصورة التي كانت محفوظة عن المدركة والحافظة. والنفس: الروح، ومنه قوله تعالى: "الله يتوفى الأنفس حين موتها" يريد الأرواح. وقال أبو خراش: نجا سالم والنفس منه بشدقه والنفس أيضاً الدم. ومنه قولهم: سالت نفسه، قال الشاعر: تسيل على حد السيوف نفوسنا وليس على غير الظبات تسيل والنفس الجسد، ومنه: نبئت أن بني سحيم أدخلوا أبياتهم تأمور نفس المنذر والتأمور البدن. وقوله: "وأنتم تتلون الكتاب" جملة حالية مشتملة على أعظم تقريع وأشد بوبيخ وأبلغ تبكيت. أي كيف تتركون البر الذي تأمرون الناس به وأنتم من أصل العلم العارفين بقبح هذا الفعل وشدة الوعيد عليه، كما ترونه في الكتاب الذي تتلونه والآيات التي تقرأونها من التوراة. والتلاوة: القراءة، وهي المراد هنا وأصلها الاتباع، يقال تلوته: إذا اتبعته، وسمي القارئ تالياً والقراءة تلاوة لأنه يتبع بعض الكلام ببعض على النسق الذي هو عليه. وقوله: "أفلا تعقلون" استفهام للإنكار عليهم والتقريع لهم، وهو أشد من الأول وأشد، وأشد ما قرع الله في هذا الموضع من يأمر بالخير ولا يفعله من العلماء الذين هم غير عاملين بالعلم، فاستنكر عليهم أولاً أمرهم للناس بالبر مع نسيان أنفسهم في ذلك الأمر الذي قاموا به في المجامع ونادوا به في المجالس إيهاماً للناس بأنهم مبلغون عن الله ما تحملوه من حججه، ومبينون لعباده ما أمرهم ببيانه، وموصلون إلى خلقه ما استودعهم وائتمنهم عليه، وهم أترك الناس لذلك وأبعدهم من نفعه وأزهدهم فيه، ثم ربط هذه الجملة بجملة أخرى جعلها مبينة لحالهم وكاشفة لعوارهم وهاتكة لأستارهم، وهي أنهم فعلوا هذه الفعلة الشنيعة والخصلة الفظيعة على علم منهم ومعرفة بالكتاب الذي أنزل عليهم وملازمة لتلاوته، وهم في ذلك كما قال المعري: وإنما حمل التوراة قارئها كسب الفوائد لا حب التلاوات ثم انتقل معهم من تقريع إلى تقريع، ومن توبيخ إلى توبيخ فقال: إنكم لو لم تكونوا من أهل العلم وحملة الحجة وأهل الدراسة لكتب الله لكان مجرد كونكم ممن يعقل حائلاً بينكم وبين ذلك ذائداً لكم عنه زاجراً لكم منه، فكيف أهملتم ما يقتضيه العقل بعد إهمالكم لما يوجبه العلم. والعقل في أصل اللغة: المنع، ومنه عقال البعير، لأنه يمنعه عن الحركة، ومنه العقل في الدية لأنه يمنع ولي المقتول عن قتل الجاني. والعقل نقيض الجهل، ويصح تفسير ما في الآية هنا بما هو أصل معنى العقل عند أهل اللغة: أي أفلا تمنعون أنفسكم من مواقعة هذه الحال المزرية، ويصح أن يكون معنى الآية: أفلا تنظرون بعقولكم التي رزقكم الله إياها حيث لم تنتفعوا بما لديكم من العلم.

وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ

وقوله: 45- "واستعينوا بالصبر" الصبر في اللغة: الحبس، وصبرت نفسي على الشيء: حبستها. ومنه قول عنترة: فصبرت عارفة لذلك حرة ترسو إذا نفس الجبان تطلع والمراد هنا: استعينوا بحبس أنفسكم عن الشهوات وقصرها على الطاعات على دفع ما يرد عليكم من المكروهات وقيل: الصبر هنا هو خاص بالصبر على تكاليف الصلاة. واستدل هذا القائل بقوله تعالى: "وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها" وليس في هذا الصبر الخاص بهذه الآية ما ينفي ما تفيده الألف واللام الداخلة على الصبر من الشمول كما أن المراد بالصلاة هنا جميع ما تصدق عليه الصلاة الشرعية من غير فرق بين فريضة ونافلة. واختلف المفسرون في رجوع الضمير في قوله: "وإنها لكبيرة" فقيل: إنه راجع إلى الصلاة وإن كان المتقدم هو الصبر والصلاة فقد يجوز إرجاع الضمير إلى أحد الأمرين المتقدم ذكرهما. كما قال تعالى: "والله ورسوله أحق أن يرضوه" إذا كان أحدهما داخلاً تحت الآخر بوجه من الوجوه، ومنه قول الشاعر: إن شرخ الشباب والشعر الأسـ ـود ما لم يعاض كان جنوناً ولم يقل ما لم يعاضا بل جعل الضمير راجعاً إلى الشباب، لأن الشعر الأسود داخل فيه، وقيل: إنه عائد إلى الصلاة من دون اعتبار دخول الصبر تحتها لأن الصبر هو عليها، كما قيل سابقاً، وقيل: إن الضمير راجع إلى الصلاة وإن كان الصبر مراداً معها، لكن لما كانت آكد وأعم تكليفاً وأكثر ثواباً كانت الكناية بالضمير عنها، ومنه قوله: "والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله" كذا قيل، وقيل: إن الضمير راجع إلى الأشياء المكنوزة، ومثل ذلك قوله تعالى: "وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها" فأرجع الضمير هنا إلى الفضة والتجارة لما كانت الفضة أعم نفعاً وأكثر وجوداً، والتجارة هي الحاملة على الانفضاض، والفرق بين هذا الوجه وبين الوجه الأول أن الصبر هناك جعل داخلاً تحت الصلاة، وهنا لم يكن داخلاً وإن كان مراداً، وقيل: إن المراد بالصبر والصلاة، ولكن أرجع الضمير إلى أحدهما استغناءً به عن الآخر، ومنه قوله تعالى: "وجعلنا ابن مريم وأمه آية" أي ابن مريم آية وأمه آية. ومنه قول الشاعر: ومن يك أمسى بالمدينة رحله فإني وقيار بها لغريب وقال آخر: لكل هم من الهموم سعة والصبح والمساء لا فلاح معه وقيل: رجع الضمير إليهما بعد تأويلهما بالعبادة، وقيل: رجع إلى المصدر المفهوم من قوله: "واستعينوا" وهو الاستعانة، وقيل: رجع إلى جميع الأمور التي نهى عنها بنو إسرائيل. والكبيرة التي يكبر أمرها ويتعاظم شأنها على حاملها لما يجده عند تحملها والقيام بها من المشقة، ومنه "كبر على المشركين ما تدعوهم إليه". والخاشع: هو المتواضع، والخشوع: التواضع. قال في الكشاف والخشوع: الإخبات والتطامن، ومنه الخشعة للرملة المتطامنة وأما الخضوع: فاللين والنقياد، ومنه خضعت بقولها: إذا لينته انتهى. وقال الزجاج: الخاشع الذي يرى أثر الذل والخشوع عليه كخشوع الدار بعد الأقوى، ومكان خاشع: لا يهتدى إليه، وخشعت الأصوات: أي سكنت، وخشع ببصره: إذا غضه، والخشعة: قطعة من الأرض رخوة. وقال سفيان الثوري: سألت الأعمش عن الخشوع فقال: يا ثوري أنت تريد أن تكون إماماً للناس ولا تعرف الخشوع؟ ليس الخشوع بأكل الخشن ولبس الخشن وتطأطئ الرأس، لكن الخشوع أن ترى الشريف والدنيء في الحق سواء، وتخشع لله في كل فرض افترض عليك. انتهى. وما أحسن ما قاله بعض المحققين في بيان ماهيته: إنه هيئة في النفس يظهر منها في الجوارح سكون وتواضع، واستثنى سبحانه الخاشعين مع كونهم باعتبار استعمال جوارحهم في الصلاة، وملازمتهم لوظائف الخشوع الذي هو روح الصلاة، وإتعابهم لأنفسهم إتعاباً عظيماً في الأسباب الموجبة للحضور والخضوع لأنهم لما يعلمونه من تضاعف الأجر وتوفر الجزاء والظفر بما وعد الله به من عظيم الثواب، تسهل عليهم تلك المتاعب، ويتذلل لهم ما يرتكبونه من المصاعب، بل يصير ذلك لذة لهم خالصة وراحة عندهم محضة، ولأمر ما هان على قوم ما يلاقونه من حر السيوف عند تصادم الصفوف، وكانت الأمنية عندهم طعم المنية حتى قال قائلهم: ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي والظن هنا عند الجمهور بمعنى اليقين، ومنه قوله تعالى: "إني ظننت أني ملاق حسابيه" وقوله: " فظنوا أنهم مواقعوها " ومنه قول دريد بن الصمة: فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج سراتهم بالفارسي المسود وقيل: إن الظن في الآية على بابه، ويضمر في الكلام بذنوبهم، فكأنهم توقعوا لقاءه مذنبين، ذكره المهدوي والماوردي، والأول أولى. وأصل الظن: الشك مع الميل إلى أحد الطرفين، وقد يقع موقع اليقين في مواضع، منها هذه الآية. ومعنى قوله: "ملاقوا ربهم" ملاقوا جزاءه، والمفاعلة هنا ليست على بابها، ولا أرى في حمله على أصل معناه من دون تقدير المضاف بأساً. وفي هذا مع ما بعده من قوله: "وأنهم إليه راجعون" إقرار بالبعث وما وعد الله به في اليوم الآخر. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "واركعوا" قال: صلوا. وأخرج ابن أبي حاتم أيضاً عن مقاتل في قوله: "واركعوا مع الراكعين" قال: أمرهم أن يركعوا مع أمة محمد يقول: كونوا منهم ومعهم. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله تعالى: "أتأمرون الناس بالبر" الآية، قال: أولئك أهل الكتاب كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب ولا ينتفعون بما فيه. وأخرج الثعلبي والواحدي عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في يهود أهل المدينة، كان الرجل منهم يقول لصهره ولذي قرابته ولمن بينه وبينه رضاع من المسلمين: اثبت على الدين الذي أنت عليه وما يأمرك به هذا الرجل، يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم، فإن أمره حق، وكانوا يأمرون الناس بذلك ولا يفعلونه. وأخرج ابن جرير عنه في قوله: "أتأمرون الناس بالبر" قال: بالدخول في دين محمد. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عنه في الآية قال: تنهون الناس عن الكفر بما عندكم من النبوة والعهد من التوراة، وأنتم تكفرون بما فيها من عهدي إليكم في تصديق رسلي؟ وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن جرير والبيهقي عن أبي الدرداء في الآية قال: لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس في ذات الله، ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشد مقتاً. وأخرج أحمد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد والبزار وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية وابن حبان وابن مردويه والبيهقي عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت ليلة أسري بي رجالاً تقرض شفاههم بمقاريض من نار كلما قرضت رجعت، فقلت لجبريل: من هؤلاء؟ قال: هؤلاء خطباء من أمتك كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون". وثبت في الصحيحين من حديث أسامة بن زيد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق به أقتابه فيدور بها كما يدور الحمار برحاه، فيطيف به أهل النار فيقولون: يا فلان ما لك ما أصابك؟ ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ فيقول: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه" وفي الباب أحاديث منها عن جابر مرفوعاً عند الخطيب وابن النجار، وعن الوليد بن عقبة مرفوعاً عند الطبراني والخطيب بسند ضعيف وعند عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عنه موقوفاً، ومعناها جميعاً: أنه يطلع قوم من أهل الجنة على قوم من أهل النار فيقولون لهم: بما دخلتم النار وإنما دخلنا الجنة بتعليمكم؟ قالوا: إنا كنا نأمركم ولا نفعل. وأخرج الطبراني والخطيب في الاقتضاء والأصبهاني في الترغيب بسند جيد عن جندب بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل العالم الذي يعلم الناس الخير ولا يعمل به كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه". وأخرج ابن أبي شيبة وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عنه نحوه. وأخرج الطبراني والخطيب في الاقتضاء عن أبي برزة مرفوعاً نحوه. وأخرج ابن قانع في معجمه والخطيب في الاقتضاء عن سليك مرفوعاً نحوه. وأخرج ابن سعد وابن أبي شيبة وأحمد في الزهد عن أبي الدرداء قال: "ويل للذي لا يعلم مرة ولو شاء الله لعلمه، وويل للذي يعلم ولا يعمل سبع مرات". وأخرج أحمد في الزهد عن عبد الله بن مسعود مثله، وما أحسن ما أخرجه ابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان وابن عساكر عن ابن عباس أنه جاءه رجل فقال: يا ابن عباس إني أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، قال: أوبلغت ذلك؟ قال: أرجو، قال: فإن لم تخش أن تفتضح بثلاثة أحرف في كتاب الله فافعل، قال: وما هن؟ قال: قوله عز وجل: " أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم " أحكمت هذه الآية؟ قال لا، قال: فالحرف الثاني، قال: قوله تعالى : " لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون " أحكمت هذه الآية ؟ قال: لا، قال: فالحرف الثالث، قال: قول العبد الصالح شعيب "ما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه" أحكمت هذه الآية؟ قال: لا، قال: فابدأ بنفسك. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله تعالى: "واستعينوا بالصبر والصلاة" قال: إنهما معونتان من الله فاستعينوا بهما. وقد أخرج ابن أبي الدنيا في كتاب الصبر وأبو الشيخ في الثواب والديلمي في مسند الفردوس عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الصبر ثلاثة: فصبر على المصيبة، وصبر على الطاعة، وصبر عن المعصية". وقد وردت أحاديث كثيرة في مدح الصبر والترغيب فيه والجزاء للصابرين، ولم نذكرها هنا لأنها ليست بخاصة بهذه الآية، بل هي واردة في مطلق الصبر، وقد ذكر السيوطي في الدر المنثور ها هنا منها شطرا صالحاً، وفي الكتاب العزيز من الثناء على ذلك والترغيب فيه الكثير الطيب. وأخرج أحمد وأبو داود وابن جرير عن حذيفة قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة" وأخرج أحمد والنسائي وابن حبان عن صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كانوا: يعني الأنبياء، يفزعون إذا فزعوا إلى الصلاة". وأخرج ابن أبي الدنيا وابن عساكر عن أبي الدرداء مرفوعاً نحو حديث حذيفة. وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر والحاكم والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس أنه كان في مسير له، فنعي إليه ابن له، فنزل فصلى ركعتين ثم استرجع فقال: فعلنا كما أمرنا الله فقال: "واستعينوا بالصبر والصلاة". وقد روى عنه نحو ذلك سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر والبيهقي لما نعي إليه أخوه قثم. وقد روي نحو ذلك عن جماعة من الصحابة والتابعين. وأخرج ابن جرير عن الضحاك في قوله: "وإنها لكبيرة" قال: لثقيلة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "إلا على الخاشعين" قال: المؤمنين حقاً. وأخرج ابن جرير عن أبي العالية في قوله: "إلا على الخاشعين" قال المؤمنين حقاً.

الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ

وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: كل الظن في القرآن فهو يقين، ولا يتم هذا في مثل قوله: "إن الظن لا يغني من الحق شيئاً" وقوله: "إن بعض الظن إثم" ولعله يريد الظن المتعلق بأمور الآخرة كما رواه ابن جرير عن قتادة قال: ما كان من ظن الآخرة فهو علم. وأخرج ابن جرير عن أبي العالية في قوله: 46- "وأنهم إليه راجعون" قال: يستيقنون أنهم يرجعون إليه يوم القيامة.

يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ

قوله: 47- "يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم" قد تقدم تفسيره، وإنما كرر ذلك سبحانه توكيداً للحجة عليهم وتحذيراً لهم من ترك اتباع محمد صلى الله عليه وسلم.ثم قرنه بالوعيد وهو قوله: "واتقوا يوماً" وقوله: "وأني فضلتكم" معطوف على مفعول اذكروا: أي اذكروا نعمتي وتفضيلي لكم على العالمين، قيل: المراد بالعالمين عالم زمانهم- وقيل: على جميع العالمين بما جعل فيهم من الأنبياء. وقال في الكشاف: على الجم الغفير من الناس كقوله: "باركنا فيها للعالمين" يقال: رأيت عالماص من الناس: يراد الكثرة انتهى. قال الرازي في تفسيره: وهذا ضعيف، لأن لفظ العالم مشتق من العلم وهو الدليل، وكل ما كان دليلاً على الله كان علماً وكان من العالم. وهذا تحقيق قول المتكلمين: العالم كل موجود سوى الله، وعلى هذا لا يمكن تخصيص لفظ العالم ببعض المحدثات انتهى. وأقول هذا الاعتراض ساقط، أما أولاً فدعوى اشتقاقه من العلم لا برهان عليه، وأما ثانياً فلو سلمنا صحة هذا الاشتقاق كان المعنى موجوداً بما يتحصل معه مفهوم الدليل على الله الذي يصح إطلاقاً اسم العلم عليه، وهو كائن في كل فرد من أفراد المخلوقات التي يستدل بها على الخالق، وغايته أن جمع العالم يستلزم أن يكونوا مفضلين على أفراد كثيرة من المحدثات، وأما أنهم مفضلون على كل من جعل العالم أهل العصر، فغايته أن يكونوا مفضلين على أهل عصور ولا على أهل كل عصر، فلا يستلزم ذلك تفضيلهم على أهل العصر الذين فيهم نبينا صلى الله عليه وسلم، ولا على ما بعده من العصور، ومثل هذا الكلام ينبغي استحضاره عند تفسير قوله تعالى: "إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكاً وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين" وعند قوله تعالى: " ولقد اخترناهم على علم على العالمين " وعند قوله تعالى: "إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين" فإن قيل: إن التعريف في العالمين يدل على شموله لكل عالم. قلت: لو كان الأمر هكذا لم يكن ذلك مستلزماً لكونهم أفضل من أمة محمد صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: "كنتم خير أمة أخرجت للناس" فإن هذه الآية ونحوها تكون مخصصة لتلك الآيات.

وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ

وقوله: 48- "واتقوا يوماً" أمر معناه الوعيد، وقد تقدم معنى التقوى. والمراد باليوم يوم القيامة: أي عذابه. وقوله: "لا تجزي نفس عن نفس شيئاً" في محل نصب صفة ليوم، والعائد محذوف. قال البصريون في هذا وأمثاله تقديره فيه. وقال الكسائي هذا خطأ، بل التقدير لا تجزيه. لأن حذف الظرف لا يجوز، ويجوز حذف الضمير وحده. وقد روي عن سيبويه والأخفش والزجاج جواز الأمرين. ومعنى: لا تجزي لا تكفي وتقضي، يقال: جزا عني هذا الأمر يجزي: أي قضى، واجتزأت بالشيء أجتزي: أي اكتفيت، ومنه قول الشاعر: فإن الغدر في الأقوام عار وإن الحر يجزى بالكراع والمراد أن هذا اليوم لا تقضي نفس عن نفس شيئاً ولا تكفي عنها، ومعنى التنكير التحقير: أي شيئاً يسيراً حقيراً، وهو منصوب على المفعولية أو على أنه صفة مصدر محذوف: أي جزاء حقيراً والشفاعة مأخوذة من الشفع وهو الاثنان، تقول استشفعته: أي سألته أن يشفع لي: أي يضم جاهله إلى جاهك عند المشفوع إليه ليصل النفع إلى المشفوع له، وسميت الشفعة لأنك تضم ملك شريكك إلى ملكك. وقد قرأ ابن كثير وأبو عمر وتقبل بالمثناة الفوقية لأن الشفاعة مؤنثة، وقرأ الباقون بالياء التحتية لأنها بمعنى الشفيع. قال الأخفش: الأحسن التذكير. وضمير منها يرجع إلى النفس المذكورة ثانياً: أي إن جاءت بشفاعة شفيع، ويجوز أن يرجع إلى النفس المذكورة أولاً: أي إذا شفعت لم يقبل منها. والعدل بفتح العين: الفداء وبكسرها: المثل. يقال: عدل أي إذا شفعت لم يقبل منها. والعدل بفتح العين: الفداء وبكسرها: المثل. يقال: عدل وعديل للذي ماثل في الوزن والقدر. وحكى ابن جرير أن في العرب من يكسر العين في معنى الفدية. والنصر: العون، والأنصار: الأعوان، وانتصر الرجل: انتقم، والضمير أي هم يرجع إلى النفوس المداول عليها بالنكرة في سياق النفي، والنفس تذكر وتؤنث.

وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ

وقوله: 49- "إذ نجيناكم" متعلق بقوله: "اذكروا" والنجاة: النجوة من الأرض وهي ما ارتفع منها، ثم سمي كل فائز ناجياً. وآل فرعون: قومه، وأصل آل أهل بدليل تصغيره على أهيل، وقيل غير ذلك، وهو يضاف إلى ذوي الخطر. قال الأخفش: إنما يقال في الرئيس الأعظم نحو آل محمد. ولا يضاف إلى البلدان فلا يقال من آل المدينة. وقال الأخفش: قد سمعناه في البلدان قالوا آل المدينة. واختلفوا هل يضاف إلى المضمر أم لا، فمنعه قوم وسوغه آخرون وهو الحق، ومنه قول عبد المطلب: ‌وانصر على آل الصليـ ـب وعابديه اليوم آلك‌‌‌‌ وفرعون: قيل هو اسم ذلك الملك بعينه- وقيل إنه اسم لكل ملك من ملوك العمالقة كما يسمى من ملك الفرس كسرى، ومن ملك الروم قيصر، ومن ملك الحبشة النجاشي. واسم فرعون موسى المذكور هنا: قابوس في قول أهل الكتاب. وقال وهب: اسمه الوليد بن مصعب بن الريان. قال المسعودي: لا يعرف لفرعون تفسير بالعربية. وقال الجوهري: إن كل عات يقال له فرعون، وقد تفرعن وهو ذو فرعنة: أي دهاء ومكر. وقال في الكشاف: تفرعن فلان: إذا عتا وتجبر. ومعنى قوله: "يسومونكم" يولونكم، قاله أبو عبيدة، وقيل: يذيقونكم ويلزمونكم إياه، وأصل السوم الدوام، ومنه سائمة الغنم لمداومتها الرعي، ويقال: سامه خطة خسف: إذا أولاه إياها. وقال في الكشاف: أصله من سام السلعة إذا طلبها، كأنه بمعنى يبغونكم سوء العذاب ويريدونكم عليه انتهى. وسوء العذاب: أشده، وهو صفة مصدر محذوف: أي يسومونكم سوماً سوء العذاب، ويجوز أن يكون مفعولاً ثانياً، وهذه الجملة في محل رفع على أنها خبر لمبتدأ مقدر، ويجوز أن يكون في محل نصب على الحال: أي سائمين لكم. وقوله: "يذبحون" وما بعده بدل من قوله: "يسومونكم" وقال الفراء: إنه تفسير لما قبله وقرأه الجماعة بالتشديد، وقرأ ابن محيصن بالتخفيف. والذبح في الأصل: الشق، وهو فري أوداج المذبوح. والمراد بقوله تعالى: "ويستحيون نساءكم" يتركونهن أحياء ليستخدموهن ويمتهنوهن، وإنما أمر بذبح الأبناء واستحياء البنات لأن الكهنة أخبروه بأنه يولد مولود يكون هلاكه على يده، وعبر عن البنات باسم النساء لأنه جنس يصدق على البنات. وقالت طائفة: أنه أمر بذبح الرجال واستدلوا بقوله: "نساءكم" والأول أصح بشهادة السبب، ولا يخفى ما في قتل الأبناء واستحياء البنات للخدمة ونحوها من إنزال الذل بهم وإلصاق الإهانة الشديدة بجميعهم لما في ذلك من العار . والإشارة بقوله : " وفي ذلكم "إلى جملة الأمر. والبلاء يطلق تارة على الخير، وتارة على الشر، فإن أريد به هنا الشر كانت الإشارة بقوله: "وفي ذلكم بلاء" إلى ما حل بهم من النقمة بالذبح ونحوه، وإن من تفضيلهم على العالمين. وقد اختلف السلف ومن بعدهم في مرجع الإشارة، فرجح الجمهور الأول، ورجح الآخرون الآخر. قال ابن جرير: وأكثر ما يقال في الشر بلوته أبلوه بلاءً، وفي الخير أبليه إبلاءً وبلاءً، قال زهير: جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم وأبلاهما خير البلاء الذي يبلو قال: فجمع بين اللغتين لأنه أراد فأنعم عليهما خير النعم التي يختبر بها عباده.

وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ

وقوله: 50- "وإذ فرقنا" متعلق بما تقدم من قوله: "اذكروا" وفرقنا: فلقنا، وأصل الفرق الفصل، ومنه فرق الشعر، وقرأ الزهري فرقنا بالتشديد، والباء في قوله: "بكم" قيل: هي بمعنى اللام: أي لكم، وقيل: هي الباء السببية: أي فرقناه بسببكم، وقيل: إن الجار والمجرور في محل الحال: أي فرقناه متلبساً بكم، والمراد ها هنا أن فرق البحر كان بهم: أي بسبب دخولهم فيه: أي لما صاروا بين الماءين صار الفرق بهم. وأصل البحر في اللغة: الاتساع، أطلق على البحر الذي هو مقابل البر لما فيه من الاتساع بالنسبة إلى النهر والخليج، ويطلق على الماء المالح، ومنه أبحر الماء: إذا ملح، قال نصيب: وقد عاد ماء الأرض بحراً فزادني إلى مرضي أن أبحر المشرب العذب وقوله: "فأنجيناكم" أي أخرجناكم منه: "وأغرقنا آل فرعون" فيه. وقوله: "وأنتم تنظرون" في محل نصب على الحال: أي حال كونكم ناظرين إليهم بأبصاركم، وقيل معناه: وأنتم تنظرون: أي ينظر بعضكم إلى البعض الآخر من السالكين في البحر، وقيل: نظروا إلى أنفسهم ينجون وإلى آل فرعون يغرقون. والمراد بآل فرعون هنا هو وقومه وأتباعه. وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب أنه كان إذا تلا "اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم" قال: مضى القوم، وإنما يعني به أنتم. وأخرج ابن جرير عن سفيان بن عيينة قال في قوله: "اذكروا نعمتي" هي أيادي الله وأيامه. وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد قال: نعمة الله التي أنعم بها على بني إسرائيل فيما سمى وفيما سوى ذلك، فجر لهم الحجر وأنزل عليهم المن والسلوى وأنجاهم من عبودية آل فرعون. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة في قوله: "وأني فضلتكم على العالمين" قال: فضلوا على العالم الذي كانوا فيه، ولكل زمان عالم. وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم وابن جرير عن أبي العالية في قوله: "فضلتكم على العالمين" قال: بما أعطوا من الملك والرسل والكتب على من كان في ذلك الزمان فإن لكل زمان عالماً. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله: "لا تجزي نفس عن نفس شيئاً" قال: لا تغني نفس مؤمنة عن نفس كافرة من المنفعة شيئاً. وأخرج ابن جرير عن عمرو بن قيس الملائي عن رجل من بني أمية من أهل الشام أحسن الثناء عليه قال: "قيل: يا رسول الله ما العدل؟ قال: العدل الفدية". وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس نحوه. قال ابن أبي حاتم وروي عن أبي مالك والحسن وسعيد بن جبير وقتادة والربيع بن أنس نحو ذلك. وأخرج عبد الرزاق عن علي في تفسير الصرف والعدل قال: التطوع والفريضة. قال ابن كثير: وهذا القول غريب ههنا، والقول الأول أظهر في تفسير هذه الآية. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: قالت الكهنة لفرعون إنه يولد في هذا العام مولود يذهب بملكه، فيجعل فرعون على كل ألف امرأة مائة رجل، وعلى كل مائة عشرة، وعلى كل عشر رجلاً، فقال: انظروا كل امرأة حامل في المدينة، فإذا وضعت حملها فإن كان ذكراً فاذبحوه، وإن كان أنثى فخلوا عنها، وذلك قوله: "يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم" وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله: "يسومونكم سوء العذاب" قال: إن فرعون ملكهم أربعمائة سنة. فقالت له الكهنة: إنه سيولد العام بمصر غلام يكون هلاكك على يديه، فبعث في أهل مصر نساء قوابل، فإذا ولدت امرأة غلاماً أتي به فرعون فقتله، ويستحيي الجواري. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "بلاء من ربكم عظيم" يقول: نقمة. وأخرج وكيع عن مجاهد نحوه. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله: "وإذ فرقنا بكم البحر" فقال: إي والله لفرق البحر بينهم حتى صار طريقاً يبساً يمشون فيه، فأنجاهم الله وأغرق آل فرعون عدوهم. وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عباس قال: "قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فرأى اليهود يصومون يوم عاشوراء فقال: ما هذا اليوم؟ قالوا: هذا يوم صالح نجى الله فيه بني إسرائيل من عدوهم فصامه موسى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نحن أحق بموسى منكم، فصامه وأمر بصومه". وقد أخرج الطبراني وأبو نعيم في الحلية عن سعيد بن جبير أن هرقل كتب إلى معاوية يسأله عن أمور، منها عن البقعة التي لم تصبها الشمس إلا ساعة، فكتب معاوية إلى ابن عباس فأجابه عن تلك الأمور وقال: وأما البقعة التي لم تصبها الشمس إلا ساعة من نهار: فالبحر الذي أفرج عن بني إسرائيل. ولعله سيأتي إن شاء الله تعالى زيادة على ما هنا عند تفسير قوله تعالى: "أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم".

وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ

قرأ أبو عمرو 51- "وعدنا" بغير ألف، ورجحه أبو عبيدة وأنكر واعدنا قال: لأن المواعدة إنما تكون من البشر، فأما من الله فإنما هو التفرد بالوعد على هذا وجدنا القرآن كقوله "وعدكم وعد الحق" وقوله: "وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين" ومثله، قال أبو حاتم ومكي، وإنما قالوا هكذا نظراً إلى أصل المفاعلة أنها تفيد الاشتراك في أصل الفعل وتكون من كل واحد من المتواعدين ونحوهما، ولكنها قد تأتي للواحد في كلام العرب كما في قولهم: داويت العليل، وعاقبت اللص، وطارقت النعل، وذلك كثير في كلامهم. وقرأه الجمهور واعدنا قال النحاس: وهي أجود وأحسن وليس قوله: "وعد الله الذين آمنوا" من هذا في شيء، لأن واعدنا موسى إنما هو من باب الموافاة، وليس هو من الوعد والوعيد في شيء، وإنما هو من قولك: موعدك يوم الجمعة، وموعدك موضع كذا، والفصيح في هذا أن يقال: واعدته. قال الزجاج: واعدنا بالألف ها هنا جيد، لأن الطاعة في القبول بمنزلة المواعدة، فمن الله سبحانه وعد ومن موسى قبول. قوله: "أربعين ليلة" قال الزجاج: التقدير تمام أربعين ليلة، وهي عند أكثر المفسرين ذو القعدة وعشر من ذي الحجة، وإنما خص الليالي بالذكر دون الأيام لأن الليلة أسبق من اليوم فهي قبله في الرتبة. ومعنى قوله: "ثم اتخذتم العجل" أي جعلتم العجل إلهاً من بعده: أي من بعد مضي موسى إلى الطور. وقد ذكر بعض المفسرين أنهم عدوا عشرين يوماً وعشرين ليلة. وقالوا: قد اختلف موعده فاتخذوا العجل، وهذا غير بعيد منهم، فقد كانوا يسلكون طرائق من التعنت خارجة عن قوانين العقل مخالفة لما يخاطبون به بل ويشاهدونه بأبصارهم، فلا يقال كيف تعدون الأيام والليالي على تلك الصفة، وقد صرح لهم في الوعد بأنها أربعون ليلة، وإنما سماهم ظالمين لأنهم أشركوا بالله وخالفوا موعد نبيهم عليه السلام، والجملة في موضع نصب على الحال.

ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ

وقوله: 52- "من بعد ذلك" أي من بعد عبادتكم العجل، وسمي العجل عجلاً لاستعجالهم عبادته كذا قيل، وليس بشيء لأن العرب تطلق هذا الاسم على ولد البقر. وقد كان جعله لهم السامري على صورة العجل. وقوله: "لعلكم تشكرون" أي لكي تشكروا ما أنعم الله به عليكم من العفو عن ذنبكم العظيم الذي وقعتم فيه. وأصل الشكر في اللغة: الظهور من قولهم دابة شكور إذا ظهر عليها من السمن فوق ما تعطى من العلف. قال الجوهري الشكر: الثناء على المحسن بما أولاك من المعروف، يقال: شكرته وشكرت له، وباللام أفصح، وقد تقدم معناه، والشكران خلاف الكفران.

وَإِذْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ

53- " وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون " والكتاب: التوراة بالإجماع من المفسرين. واختلفوا في الفرقان، وقال الفراء وقطرب: المعنى آتينا موسى التوراة ومحمداً الفرقان. وقد قيل: إن هذا غلط أوقعهما فيه أن الفرقان مختص بالقرآن وليس كذلك، فقد قال الله تعالى: "ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان" وقال الزجاج: إن الفرقان هو الكتاب أعيد ذكره تأكيداً. وحكي نحوه عن الفراء، ومنه قول عنترة: حييت من طلل تقادم عهده أقوى وأقفر بعد أم الهيثم وقيل: إن الواو صلة، والمعنى: آتينا موسى الكتاب الفرقان، والواو قد تزاد في النعوت كقول الشاعر: إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم وقيل المعنى: أن ذلك المنزل جامع بين كونه كتاباً وفارقاً بين الحق والباطل، وهو كقوله: "ثم آتينا موسى الكتاب تماماً على الذي أحسن وتفصيلاً لكل شيء" وقيل الفرقان: الفرق بينهم وبين قوم فرعون، أنجى هؤلاء. وقال ابن زيد: الفرقان: انفراق البحر، وقيل الفرقان: الفرج من الكرب، وقيل: إنه الحجة والبيان بالآيات التي أعطاه الله من العصا واليد وغيرهما، وهذا أولى وأرجح ويكون العطف على بابه كأنه قال: آتينا موسى التوراة والآيات التي أرسلناه بها معجزة له.

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ

قوله: 54- "يا قوم" القوم يطلق تارة على الرجال دون النساء، ومنه قول زهير: وما أدري وسوف إخال أدري أقوم آل حصن أم نساء ومنه قوله تعالى: "لا يسخر قوم من قوم"، ثم قال: "ولا نساء من نساء"، ومنه: "ولوطاً إذ قال لقومه" أراد الرجال، وقد يطلق على الجميع كقوله تعالى: "إنا أرسلنا نوحاً إلى قومه" والمراد هنا بالقوم عبدة العجل. والبارئ الخالق، وقيل: إن البارئ هنا إشارة إلى عظيم جرمهم: أي فتوبوا إلى الذي خلقكم وقد عبدتم معه غيره. والفاء في قوله: "فتوبوا" للسببية: أي لتسبب التوبة عن الظلم، وفي قوله: "فاقتلوا" للتعقيب: أي اجعلوا القتل متعقباً للتوبة. قال القرطبي: وأجمعوا على أنه لم يؤمر كل واحد من عبدة العجل بأن يقتل نفسه بيده، قيل: قاموا صفين وقتل بعضهم بعضاً، وقيل: وقف الذين عبدوا العجل ودخل الذين لم يعبدوه عليهم بالسلاح فقتلوهم. وقوله: "فتاب عليكم" قيل: في الكلام حذف: أي فقتلتم نفسكم فتاب عليكم: أي على الباقين منكم. وقيل: هو جواب شرط محذوف كأنه قال: فإن فعلتم فقد تاب عليكم. وأما ما قاله صاحب الكشاف: من أنه يجوز أن يكون خطاباً من الله لهم على طريقة الإلتفات فيكون التقدير: ففعلتم ما أمركم به موسى فتاب عليكم بارئكم، فهو بعيد جداً كما لا يخفى. وقد أخرج ابن جرير عن أبي العالية في قوله: "أربعين ليلة" قال: ذا العقدة وعشراً من ذي الحجة. وقد أخرج ابن جرير عنه في قوله: "من بعد ذلك" قال: من بعد ما اتخذتم العجل. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله: "وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان" قال: الكتاب هو الفرقان، فرق بين الحق والباطل. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس قال: الفرقان جماع اسم التوراة والإنجيل والزبور والقرآن. وأخرج ابن جرير عنه قال: أمر موسى قومه عن أمر ربه أن يقتلوا أنفسهم، واختبأ الذين عكفوا على العجل فجلسوا، وقام الذين لم يعكفوا على العجل فأخذوا الخناجر بأيديهم وأصابتهم ظلمة شديدة فجعل يقتل بعضهم بعضاً، فانجلت الظلمة عنهم عن سبعين ألف قتيل، كل من قتل منهم كانت له توبة، وكل من بقي كانت له توبة. وأخرج ابن أبي حاتم عن علي قال: قالوا لموسى ما توبتنا؟ قال: يقتل بعضكم بعضاً، فأخذوا السكاكين فجعل الرجل يقتل أخاه وأباه وابنه لا يبالي من قتل حتى قتل منهم سبعون ألفاً، فأوحى الله إلى موسى: مرهم فليرفعوا أيديهم، وقد غفر لمن قتل وتيب على من بقي. وقد أخرج عبد بن حميد عن قتادة، وأخرج أحمد في الزهد وابن جرير عن الزهري نحواً مما سبق. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله: "إلى بارئكم" قال: خالقكم.

وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ

قوله: 55- "وإذ قلتم" هذه الجملة معطوفة على التي قبلها، وظاهر السياق أن القائلين هذه المقالة هم قوم موسى- وقيل: هم السبعون الذين اختارهم. وذلك أنهم لما سمعوا كلام الله قالوا بعد ذلك هذه المقالة فأرسل الله عليهم ناراً فأحرقتهم. ثم دعا موسى ربه فأحياهم كما قال تعالى هنا: "ثم بعثناكم من بعد موتكم" وسيأتي ذلك في الأعراف إن شاء الله. والجهرة: المعاينة، وأصلها الظهور، ومنه الجهر بالقراءة والمجاهرة بالمعاصي، ورأيت الأمر جهرة وجهاراً: أي غير مستتر بشيء، وهي مصدر واقع موقع الحال. وقرأ ابن عباس جهرة بفتح الهاء وهي لغتان مثل زهرة وزهرة، ويحتمل أن يكون على هذه القراءة جمع جاهر. والصاعقة قد تقدم تفسيرها، وقرأ عمر وعثمان وعلي الصعقة وهي قراءة ابن محيصن، والمراد بأخذ الصاعقة إصابتها إياهم. "وأنتم تنظرون" في محل نصب على الحال، والمراد من هذا النظر الكائن منهم أنهم نظروا أوائل الصاعقة النازلة بهم الواقعة عليهم لا آخرها الذي ماتوا عنده، وقيل: المراد بالصاعقة الموت، واستدل عليه بقوله: "ثم بعثناكم من بعد موتكم" ولا موجب للمصير إلى هذا التفسير، لأن المصعوق قد يموت كما في هذه الآية، وقد يخشى عليه ثم يفيق كما في قوله تعالى: "وخر موسى صعقاً فلما أفاق" ومما يوجب ذلك قوله: "وأنتم تنظرون" فإنها لو كانت الصاعقة عبارة عن الموت لم يكن لهذه الجملة كبير معنى، بل قد يقال إنه لا يصح أن تنظروا الموت النازل بهم إلا أن يكون المراد نظر الأسباب المؤثرة للموت.

ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ

والمراد بقوله: 56- "ثم بعثناكم" الإحياء لهم لوقوعه بعد الموت، وأصل البعث الإثارة للشيء من محله، يقال: بعثت الناقة: أي أثرها، ومنه قول امرئ القيس: وإخوان صدق قد بعثت بسحرة فقاموا جميعاً بين غاث ونشوان وقول عنترة: وصحابة شم الأنوف بعثتهم ليلا وقد مال الكرى بطلاها وإنما عوقبوا بأخذ الصاعقة لهم لأنهم طلبوا ما لم يأذن الله به من رؤيته في الدنيا. وقد ذهبت المعتزلة ومن تابعهم إلى إنكار الرؤية في الدنيا والآخرة، وذهب من عداهم إلى جوازها في الدنيا والآخرة ووقوعها في الآخرة. وقد تواترت الأحاديث الصحيحة بأن العباد يرون ربهم في الآخرة، وهي قطيعة الدلالة لا ينبغي لمنصف أن يتمسك في مقابلها بتلك القواعد الكلامية التي جاء بها قدماء المعتزلة، وزعموا أن العقل قد حكم بها دعوى مبينة على شفا جرف هار، وقواعد لا يغتر بها إلا من لا يحظ من العلم النافع بنصيب، وسيأتيك إن شاء الله بيان ما تمسكوا به من الأدلة القرآنية، وكلها خارج عن محل النزاع بعيد من موضع الحجة، وليس هذا موضع المقال في هذه المسألة.

وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ

قوله: 57- "وظللنا عليكم الغمام" أي: فعلناه كالظلة. والغمام جمع غمامة كسحابة وسحاب، قاله الأخفش. قال الفراء: ويجوز غمائم. وقد ذكر المفسرون أن هذا جرى في التيه بين مصر والشام لما امتنعوا من دخول مدينة الجبارين. والمن: قيل هو الترنجين. قال النحاس: هو بتشديد الراء وإسكان النون، ويقال: الطرنجين بالطاء، وعلى هذا أكثر المفسرين، وهو طل ينزل من السماء على شجر أو حجر ويحلو وينعقد عسلاً ويجف جفاف الصمغ، ذكر معناه في القاموس، وقيل: إن المن العسل، وقيل: الشراب حلو، وقيل: خبز الرقاق، وقيل: إنه مصدر يعم جميع ما من الله به على عباده من غير تعب ولا زرع، ومنه ما ثبت في صحيح البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أن الكمأة من المن الذي أنزل على موسى". وقد ثبت مثله من حديث أبي هريرة عند أحمد والترمذي، ومن حديث جابر وأبي سعيد وابن عباس عند النسائي والسلوى: قيل هو السماني، كحباري طائر يذبحونه فيأكلونه. قال ابن عطية: السلوى طير بإجماع المفسرين، وقد غلط الهذلي فقال: وقاسمهما بالله جهداً لأنتما ألذ من السلوى إذا ما أشورها ظن أن السلوى العسل. قال القرطبي: ما ادعاه من الإجماع لا يصح. وقد قال المؤرخ أحد علماء اللغة والتفسير: إنه العسل. واستدل ببيت الهذلي، وذكر أنه كذلك بلغة كنانة، وأنشد: لو شربت السلوى ما سلوت ما بي غنا عنك وإن غنيب وقال الجوهري: والسلوى العسل. قال الأخفش: السلوى لا واحد له من لفظه مثل الخير والشر، وهو يشبه أن يكون واحده سلوى. وقال الخليل: واحده سلواة، وأنشد: وإني لتعروني لذكراك سلوة كما انتفض السلواة من سلكه القطر وقال الكسائي: السلوى واحدة وجمعه سلاوى. وقوله: "كلوا" أي قلنا لهم كلوا، وفي الكلام حذف، والتقدير: قلنا كلوا فعصوا ولم يقابلوا النعم بالشكر فطلموا أنفسهم وما ظلمونا، فحذف هذا لدلالة "ولكن كانوا أنفسهم يظلمون" عليه، وتقديم الأنفس هنا يفيد الاختصاص. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "حتى نرى الله جهرة" قال: علانية. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أنس قال: هم السبعون الذين اختارهم موسى "فأخذتكم الصاعقة" قال: ماتوا "ثم بعثناكم من بعد موتكم" قال: فبعثوا من بعد الموت ليستوفوا آجالهم. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في قوله: "ثم بعثناكم" نحوه. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: "وظللنا عليكم الغمام" قال: غمام أبرد من هذا وأطيب، وهو الذي يأتي الله في يوم القيامة، وهو الذي جاءت فيه الملائكة يوم بدر وكان معهم في التيه. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "وظللنا عليكم الغمام" قال: كان هذا الغمام في البرية ظلل عليهم الغمام من الشمس، وأطعمهم المن والسلوى حين برزوا إلى البرية، فكان المن يسقط عليهم في محلتهم سقوط الثلج أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل، يسقط عليهم من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، فيأخذ الرجل قدر ما يكفيه يومه ذلك، فإن تعدى ذلك فسد ما يبقى عنده، لأنه كان يوم عيد لا يشخص فيه لأمر المعيشة ولا لطلبة شيء، وهذا كله في البرية. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن عكرمة قال: المن شيء أنزل الله عليهم مثل الطل، والسلوى طير أكبر من العصفور. وأخرج وكيع وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: المن صمغة، والسلوى طائر. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي قال: قالوا يا موسى كيف لنا بما ها هنا أين الطعام؟ فأنزل الله عليهم المن فكان يسقط على الشجرة الترنجين. وأخرجوا عن وهب أنه سئل ما المن؟ قال: خبز الرقاق مثل الذرة أو مثل النقي. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس قال: المن شراب كان ينزل عليهم مثل العسل، فيمزجونه بالماء ثم يشربونه. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان المن ينزل عليهم بالليل على الأشجار فيغدون إليه فيأكلون منه ما شاءوا- والسلوى طائر يشبه السماني كانوا يأكلون منه ما شاءوا. وأخرج ابن جرير عنه نحوه. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود وناس من الصحابة في السلوى مثله. وقد روي نحو ذلك عن جماعة من التابعين ومن بعدهم. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وما ظلمونا" قال: نحن أعز من أن نظلم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ولكن كانوا أنفسهم يظلمون" قال: يضرون.

وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ

قال جمهور المفسرين: القرية هي بيت المقدس، وقيل: إنها أريحاء قرية من قرى بيت المقدس، وقيل: من قرى الشام. وقوله: 58- "كلوا" أمر إباحة- "رغداً" كثيراً واسعاً، وهو نعت لمصدر محذوف: أي أكلاً رغداً، ويجوز أن يكون في موضع الحال، وقد تقدم تفسيره. والباب الذي أمروا بدخوله هو باب في بيت المقدس يعرف اليوم بباب حطة، وقيل: هو باب القبة التي كان يصلي إليها موسى وبنو إسرائيل. والسجود قد تقدم تفسيره وقيل: هو هنا الانحناء، وقيل: التواضع والخضوع، واستدلوا على ذلك بأنه لو كان المراد بالسجود الحقيقي الذي هو وضع الجبهة على الأرض لامتنع الدخول المأمور به، لأنه لا يمكن الدخول حال السجود الحقيقي. وقال في الكشاف: إنهم أمروا بالسجود عند الانتهاء إلى الباب شكراً لله وتواضعاً. واعترضه أبو حيان في النهر الماد فقال: لم يؤمروا بالسجود، بل هو قيد في وقوع المأمور به وهو الدخول، والأحوال نسب تقييدية، والأوامر نسب إسنادية انتهى. ويجاب عنه بأن الأمر بالمقيد أمر بالقيد، فمن قال اخرج مسرعاً فهو آمر بالخروج على هذه الهيئة، فلو خرج غير مسرع كان عند أهل اللسان مخالفاً للأمر. ولا ينافي هذا كون الأحوال نسباً تقييدية، فإن اتصافها بكونها قيوداً مأموراً بها هو شيء زائد على مجرد التقييد، وقوله: "حطة" بالرفع في قراءة الجمهور على إضمار مبتدأ، قال الأخفش: وقرئت حطة نصباً على معنى احطط عنا ذنوبنا حطة، وقيل: معناها الاستغفار، ومنه قول الشاعر: فاز بالحطة التي أمر الله بها ذنب عبده مغفورا وقال ابن فارس في المجمل: "حطة" كلمة أمروا بها ولو قالوها لحطت أوزارهم. قال الرازي في تفسيره: أمرهم بأن يقولوا ما يدل على التوبة، وذلك لأن التوبة صفة القلب فلا يطلع الغير عليها، وإذا اشتهر وأخذ بالذنب ثم تاب بعده لزمه أن يحكي توبته لمن شاهد منه الذنب، لأن التوبة لا تتم إلا به. انتهى. وكون التوبة لا تتم إلا بذلك لا دليل عليه، بل مجرد عقد القلب عليها يكفي سواء اطلع الناس على ذنبه أم لا، وربما كان التكتم بالتوبة على وجه لا يطلع عليها إلا الله عز وجل أحب إلى الله وأقرب إلى مغفرته. وأما رفع ما عند الناس من اعتقادهم بقاءه على المعصية فذلك باب آخر. وقوله: "يغفر لكم" قرأه نافع بالياء التحتية المضمومة، وقرأه ابن عامر بالتاء الفوقية المضمومة وقرأه الباقون بالنون وهي أولى. والخطايا جمع خطيئة بالهمز، وقد تكلم علماء العربية في ذلك بما هو معروف في كتب الصرف. وقوله: "وسنزيد المحسنين" كأي نزيدهم إحساناً على إحسانهم المتقدم، وهو اسم فاعل من أحسن. وقد ثبت في الصحيح "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الإحسان فقال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك".

فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ

وقوله: 59- "فبدل الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم" قيل إنهم قالوا: حنطة، وقيل غير ذلك. والصواب أنهم قالوا حبة في شعرة كما سيأتي مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وقوله: "فأنزلنا على الذين ظلموا" هو من وضع الظاهر موضع المضمر لنكتة كما تقرر في علم البيان، وهي هنا تعظيم الأمر عليهم وتقبيح فعلهم، ومنه قول عدي بن زيد: لا أرى الموت يسبق الموت شيء نغص الموت ذا الغنى والفقيرا فكرر الموت في البيت ثلاثاً تهويلاً لأمره وتعظيماً لشأنه. وقوله: "رجزاً" بكسر الراء في قراءة الجميع إلا ابن محيصن فإنه قرأ بضم الراء. والرجز: العذاب. والفسق قد تقدم تفسيره. وقد أخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "ادخلوا هذه القرية" قال: بيت المقدس. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد قال: هي أريحاء قرية من بيت المقدس. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله: "ادخلوا الباب" قال: باب ضيق "سجداً" قال: ركعاً. وقوله: "حطة" قال: مغفرة، فدخلوا من قبل أستاههم وقالوا حنطة استهزاءً، قال: فذلك قوله تعالى: "فبدل الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم" وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: الباب هو أحد أبواب بيت المقدس، وهو يدعى باب حطة. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني في الكبير وأبو الشيخ عن ابن مسعود قال: قيل لهم: "ادخلوا الباب سجداً" فدخلوا مقنعي رؤوسهم وقالوا حنطة: حبة حمراء فيها شعيرة. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله: "ادخلوا الباب سجداً" قال: طأطئوا رؤوسكم، "وقولوا حطة" قال: قولوا: لا إله إلا الله. وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله: "قولوا حطة" قال: لا إله إلا الله. وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال: كان الباب قبل القبلة. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قيل لبني إسرائيل: ادخلوا الباب سجداً وقولوا: حطة فبدلوا فدخلوا يزحفون على أستاهم وقالوا حبة في شعرة". وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس وأبي هريرة قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دخلوا الباب الذي أمروا أن يدخلوا فيه سجداً يزحفون على أستاهم وهم يقولون حنطة في شعيرة" والأول أرجح لكونه في الصحيحين. وقد أخرجه معهما من أخرج هذا الحديث الآخر: أعني ابن جرير وابن المنذر. وأخرج ابن أبي شيبة عن علي قال: إنما مثلنا في هذه الأمة كسفينة نوح وكباب حطة في بني إسرائيل. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كل شيء في كتاب الله من الرجز يعني به العذاب. وأخرج مسلم وغيره من حديث أسامة بن زيد وسعد بن مالك وخزيمة بن ثابت قالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وإن هذا الطاعون رجز وبقية عذاب عذب به أناس من قبلكم، فإذا كان بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها، وإذا بلغكم أنه بأرض فلا تدخلوها".

وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ

الاستسقاء إنما يكون عند عدم الماء وحبس المطر. ومعناه في اللغة: طلب السقيا. وفي الشراع ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفته من الصلاة والدعاء. والحجر يحتمل أن يكون حجراً معيناً فتكون اللام للعهد، ويحتمل أن لا يكون معيناً فتكون للجنس، وهو أظهر في المعجزة وأقوى للحجة. وقوله: 60- "فانفجرت" الفاء مترتبة على محذوف تقديره فضرب فانفجرت، والانفجار: الانشقاق، وانفجر الماء انفجاراً تفتح، والفجرة: موضع تفتح الماء. قال ابن عطية: ولا خلاف أنه كان حجراً مربعاً يخرج من كل جهة ثلاث عيون إذا ضربه موسى سالت العيون، وإذا استغنوا عن الماء جفت. والمشرب: موضع الشرب، وقيل: هو المشروب نفسه. وفيه دليل على أنه يشرب من كل عين قوم منهم لا يشاركهم غيرهم. قيل: كان لكل سبط عين من تلك العيون لا يتعداها إلى غيرها، والأسباط ذرية الاثنى عشر من أولاد يعقوب. وقوله: "كلوا" أي قلنا لهم: كلوا المن والسلوى واشربوا الماء المتفجر من الحجر. وعثا يعثي عثياً، وعثا يعثو عثواً، وعاث يعيث عيثاً، لغات: بمعنى أفسد. وقوله: "مفسدين" حال مؤكدة. قال في القاموس: عثى كرمى، وسعى ورضى، عثياً وعثياناً، وعثا يعثو عثواً: أفسد: وقال في الكشاف: العثي أشد الفساد. فقيل لهم: لا تمادوا في الفساد في حال فسادكم، لأنهم كانوا متمادين فيه انتهى.

وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْر

قوله: 61- "لن نصبر على طعام واحد" تضجر منهم بما صاروا فيه من النعمة والرزق الطيب والعيش المستلذ، ونزوع إلى ما ألفوه قبل ذلك من خشونة العيش: إن الشقي بالشقاء مولع لا يملك الرد له له إذا أتى ويحتمل أن لا يكون هذا منهم تشوقاً إلى ما كانوا فيه، ونظراً لما صاروا إليه من العيشة الرافهة، بل هو باب من تعنتهم، وشعبة من شعب تعجرفهم كما هو دأبهم وهيجراهم في غالب ما قص علينا من أخبارهم. وقال الحسن البصري: إنهم كانوا أهل كراث وأبصال وأعداس فنزعوا إلى عكرهم: أي أصلهم عكر السوء، واشتاقت طباعهم إلى ما جرت عليه عادتهم فقالوا: "لن نصبر على طعام واحد" والمراد بالطعام الواحد هو المن والسلوى، وهما وإن كانا طعامين لكن لما كانوا يأكلون أحدهما بالآخر جعلوهما طعاماً واحداً. وقيل: لتكررهما في كل يوم وعدم وجود غيرهما معهما ولا تبدلة بهما. ومن في قوله: "مما تنبت" تخرج. قال الأخفش زائدة، وخالفه سيبويه لكونهما لا تزاد في الكلام الموجب. قال النحاس: وإنما دعا الأخفش إلى هذا لأنه لم يجد مفعولاً ليخرج فأراد أن يجعل ما مفعولاً، والأولى أن يكون المفعول محذوفاً دل عليه سياق الكلام: أي تخرج لنا مأكولاً. وقوله: "من بقلها" بدل من ما بإعادة الحرف، والبقل: كل نبات ليس له ساق، والشجر: ما له ساق. قال في الكشاف: البقل ما أنبتته الأرض من الخضر، والمراد به أطايب البقول التي يأكلها الناس كالنعناع والكرفس والكراث وأشباهها انتهى. والقثاء بكسر القاف وفتحها. والأولى قراءة الجمهور. والثانية قراءة يحيى بن وثاب وطلحة بن مصرف وهو معروف. والفوم: قيل: هو الثوم، وقد قرأه ابن مسعود بالثاء. وروي نحو ذلك عن ابن عباس، وقيل: الفوم الحنطة، وإليه ذهب أكثر المفسرين، كما قال القرطبي. وقد رجح هذا ابن النحاس. وقال الجوهري: الفوم الحنطة، وممن قال بهذا الزجاج والأخفش، وأنشد: قد كنت أحسبني كأغنى واحد ترك المدينة عن زراعة فوم وقال بالقول الأول الكسائي والنضر بن شميل، ومنه قول أمية بن أبي الصلت: كانت منازلهم إذ ذاك ظاهرة فيها الفراديس والفومات والبصل أي الثوم، وقال حسان: وأنتم أناس لئام الأصول طعامكم الفوم والحوقل يعني الثوم والبصل، وقيل: الفوم: السنبلة، وقيل: الحمص، وقيل: الفوم كل حب يخبز. والعدس والبصل معروفان. والاستبدال: وضع الشيء موضع الآخر "وأدنى" قال الزجاج: إنه مأخوذ من الدنو: أي القرب والمراد: أتضعون هذه الأشياء التي هي دون موضع المن والسلوى اللذين هما خير منها من جهة الاستلذاذ والوصول من عند الله بغير واسطة أحد من خلقه، والحل الذي لا تطرقه الشبهة وعدم الكلفة بالسعي له والتعب في تحصيله، وقوله: "اهبطوا مصراً" أي انزلوا، وقد تقدم معنى الهبوط. وظاهر هذا أن الله أذن لهم بدخول مصر، وقيل: إن الأمر للتعجيز لأنهم كانوا في التيه، فهو مثل قوله تعالى: "كونوا حجارة أو حديداً"، وصرف مصر هنا مع اجتماع العلمية والتأنيث لأنه ثلاثي ساكن الوسط، وهو يجوز صرفه مع حصول السببين، وبه قال الأخفش والكسائي. وقال الخليل وسيبويه: إن ذلك لا يجوز وقالا: إنه لا علمية هنا لأنه أراد مصراً من الأمصار ولم يرد المدينة المعروفة، وهو خلاف الظاهر. وقرأ الحسن وأبان بن تغلب وطلحة بن مصرف بترك التنوين، وهو كذلك في مصحف أبي وابن مسعود. ومعنى ضرب الذلة والمسكنة إلزامهم بذلك والقضاء به عليهم قضاءً مستمراً لا يفارقهم ولا ينفصل عنهم، مع دلالته على أن ذلك مشتمل عليهم اشتمال القباب على من فيها، ومنه قول الفرزدق يهجو جريراً: ضربت عليك العنكبوت بوزنها وقضى عليك به الكتاب المنزل وهو ضرب من الهجاء بليغ، كما أنه إذا استعمل في المديح كان في منزلة رفيعة، ومنه قول الشاعر: إن المروءة والشجاعة والندى في قبة ضربت على ابن الحشرج وهذا الخبر الذي أخبرنا الله به هو معلوم في جميع الأزمنة، فإن اليهود أقماهم الله [أذل] الفرق وأشدهم مسكنة وأكثرهم تصاغراً، لم ينتظم لهم جمع ولا خفقت على رؤوسهم راية، ولا ثبتت لهم ولاية، بل ما زالوا عبيد العصى في كل زمن، وطروقة كل فحل في كل عصر، ومن تمسك منهم بنصيب من المال وإن بالغ في الكثرة أي مبلغ، فهو متظاهر بالفقر مترد بأثواب المسكنة ليدفع عن نفسه أطماع الطامعين في ماله، إما بحق كتوفير ما عليه من الجزية، أو بباطل كما يفعله كثير من الظلمة من [التجرؤ] على الله بظلم من لا يستطيع الدفع عن نفسه. ومعنى "باءوا" رجعوا، يقال باء بكذا: أي رجع به، وباء إلى المباءة: أي رجع إلى المنزل، والبواء: الرجوع، ويقال: هم في هذا الأمر بواء: أي سواء: يرجعون فيه إلى معنى واحد، وباء فلان بفلان: إذا كان حقيقياً بأن يقبل به لمساواته له، ومنه قول الشاعر: ألا تنتهي عنا ملوك وتتقي محاربنا لا يبوء الدم بالدم والمراد في الآية أنهم رجعوا بغضب من الله، أو صاروا أحقاء بغضبه، وقد تقدم تفسير الغضب. والإشارة بقوله: "وذلك" إلى ما تقدم من حديث الذلة وما بعده بسبب كفرهم بالله وقتلهم لأنبيائه بغير حق يحق عليهم اتباعه والعمل به، ولم يخرج هذا مخرج التقييد حتى يقال: إنه لا يكون قتل الأنبياء بحق في حال من الأحوال لمكان العصمة، بل المراد نعي هذا الأمر عليهم وتعظيمه، وأنه ظلم بحت في نفس الأمر. ويمكن أن يقال أنه ليس بحق في اعتقادهم الباطل، لأن الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه لم يعارضوهم في مال ولا جاه، بل أرشدوهم إلى مصالح الدين والدنيا كما كان من شعيبا وزكريا يحيى، فإنهم قتلوهم وهم يعلمون ويعتقدون أنهم ظالمون. وتكرير الإشارة لقصد التأكيد وتعظيم الأمر عليهم وتهويله، ومجموع ما بعد الإشارة الأولى والإشارة الثانية هو السبب لضرب الذلة وما بعده، وقيل: يجوز أن تكون الإشارة الثانية إلى الكفر والقتل فيكون ما بعدها سبباً لسبب وهو بعيد جداً. والاعتداء تجاوز الحد في كل شيء. وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: " وإذ استسقى موسى لقومه " قال: ذلك في التيه، ضرب لهم موسى الحجر فصار فيها اثنتا عشرة عيناً من ماء، لكل سبط منهم عين يشربون منها. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة ومجاهد وابن أبي حاتم عن جويبر نحو ذلك. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ولا تعثوا في الأرض" قال: لا تسعوا في الأرض فساداً. وأخرج ابن جرير عن أبي العالية مثله. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك قال: يعني ولا تمشوا بالمعاصي. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة قال: لا تسيروا في الأرض مفسدين. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله: " لن نصبر على طعام واحد " قال: المن والسلوى استبدلوا به البقل وما حكى معه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وفومها" قال: الخبز، وفي لفظ: البر، وفي لفظ: الحنطة. وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال: الفوم الثوم. وأخرج ابن جرير عن الربيع بن أنس مثله. وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن ابن مسعود أنه قرأ وثومها وروى ابن أبي الدنيا عن ابن عباس أنه قال: قراءتي قراءة زيد، وأنا آخذ ببضعة عشر حرفاً من قراءة ابن مسعود هذا أحدها من بقلها وقثائها وثومها. وأخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله: "الذي هو أدنى" قال: أردأ. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله: "اهبطوا مصراً" قال: مصراً من الأمصار. وأخرج ابن جرير عن أبي العالية: أنه مصر فرعون. وأخرج نحوه ابن أبي داود وابن الأنباري عن الأعمش. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وضربت عليهم الذلة" قال: هم أصحاب الجزية. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن قتادة والحسن قال: ضربت عليهم الذلة والمسكنة: أي يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون. وأخرج ابن جرير عن أبي العالية قال: المسكنة الفاقة. وأخرج ابن جرير عن الضحاك في قوله: "وباءوا بغضب من الله" قال: استحقوا الغضب من الله. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله: "وباءوا" قال: انقلبوا. وأخرج أبو داود الطيالسي وابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال: كانت بنو إسرائيل في اليوم تقتل ثلثمائة نبي ثم يقيمون سوق بقلهم في آخر النهار.

إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ

قيل المراد بالذين آمنوا المنافقين، بدلالة جعلهم مقترنين باليهود والنصارى والصابئين: أي آمنوا في الظاهر. والأولى أن يقال: إن المراد الذين صدقوا النبي صلى الله عليه وسلم وصاروا من جملة أتباعه، وكأنه سبحانه أراد أن يبين أن حال هذه الملة الإسلامية وحال من قبلها من سائر الملل يرجع إلى ئيء واحد، وهو أن آمن منهم بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً استحق ما ذكره الله من الأجر، ومن فاته ذلك فاته الخير كله والأجر دقه وجله. والمراد بالإيمان هاهنا هو ما بينه رسول الله من قوله لما سأله جبريل عن الإيمان فقال: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والقدر خيره وشره" ولا يتصف بهذا الإيمان إلا من دخل في الملة الإسلامية، فمن لم يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ولا بالقرآن فليس بمؤمن، ومن آمن بهما صار مسلماً مؤمناً ولم يبق يهودياً ولا نصرانياً ولا مجوسياً. وقوله: 62- "هادوا" معناه صاروا يهوداً، قيل: هو نسبة لهم إلى يهوا بن يعقوب بالذال المعجمة فقلبتها العرب دالاً مهملة، وقيل: معنى هادوا: تابوا لتوبتهم عن عبادة العجل، ومنه قوله تعالى: "إنا هدنا إليك" أي تبنا-وقيل: إن معناه السكون والموادعة. وقال في الكشاف: إن معناه دخل في اليهودية. والنصارى قال سيبويه: مفرده نصران ونصرانة كندمان وندمانة، وأنشد شاهداً على ذلك قول الشاعر: تراه إذا زار العشا متخففاً ويضحى لديه وهو نصران شامس وقال الآخر: فكلتاهما خرت وأسجد رأسها كما سجدت نصرانة لم تحنف قال: ولكن لا يستعمل إلا بياء النسب فيقال: رجل نصراني وامرأة نصرانية. وقال الخليل: واحد النصارى نصري. وقال الجوهري: ونصران قرية بالشام تنسب إليها النصارى، ويقال: ناصرة، وعلى هذا فالياء للنسب. وقال في الكشاف: إن الياء للمبالغة كالتي في أحمري، سموا بذلك لأنهم نصروا المسيح. والصابين جمع صابي- وقيل: صاب. وقد اختلف فيه القراء فهمزوه جميعاً لإلا نافعاً، فمن همزة جعله من صبأت النجوم: إذا طلعت، وصبأت ثنية الغلام: إذا خرجت. ومن لم يهمزه جعله من صبا يصبو: إذا مال، والصابىء في اللغة: من خرج ومال من دين إلى دين، ولهذا كانت العرب تقول لمن أسلم قد صبأ، وسموا هذه الفرقة صابئة، لأنها خرجت من دين اليهود والنصارى وعبدوا الملائكة. وقوله: "من آمن بالله" في موضع نصب بدلا من الذين آمنوا وما بعده وقد تقدم معنى الإيمان ، ويكون خبر إن قوله " فلهم أجرهم " ويجوز أن يكون قوله " من آمن بالله " في محل رفع على أنه مبتدأ خبره قوله: فلهم أجرهم وهما جميعاً خبر إن، والعائد مقدر في الجملة الأولى: أي من آمن منهم ودخلت الفاء في الخبر لتضمن المبتدأ معنى الشرط. وقد تقدم تفسير قوله تعالى: "فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون". وقد أخرج ابن أبي حاتم عن سلمان قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل دين كنت معهم فذكرت من صلاتهم وعبادتهم، فنزلت "إن الذين آمنوا والذين هادوا" الآية. وأخرج الواحدي عن مجاهد نحو ذلك. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي في ذكر السبب بنخو ما سبق، وحكى قصة طويلة. وأخرج أبو داود في الناسخ والمنسوخ وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "إن الذين آمنوا والذين هادوا" قال: فأنزل الله بعد هذا "ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن علي قال: إنما سميت اليهود لأنهم قالوا: "إنا هدنا إليك". وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال: نحن أعلم من أين سميت اليهود باليهودية من كلمة موسى عليه السلام "إنا هدنا إليك" ولم تسمت النصارى بالنصرانية؟ من كلمة عيسى عليه السلام "كونوا أنصار الله" وأخرج أبو الشيخ نحوه عنه. وأخرج ابن جرير عن قتادة: إنما تسموا نصارى بقرية يقال لها ناصرة. وأخرج ابن سعد في طبقاته وابن جرير عن ابن عباس قال: إنما سميت النصارى لأن قرية عيسى كانت تسمى ناصرة. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: الصابئون فرقة بين اليهود والنصارى والمجوس ليس لهم دين. وأخرج عبد الرزاق عنه قال: قال ابن عباس: فذكر نحوه. وقد روي في تفسير الصابئين غير هذا.

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ

قوله: 63- "وإذ أخذنا" هو في محل نصب بعامل مقدر هو اذكروا كما تقدم غير مرة. وقد تقدم تفسير الميثاق، والمراد أنه أخذ سبحانه عليهم الميثاق بأن يعملوا بما شرعه لهم في التوراة وبما هو أعم من ذلك أو أخص. والطور اسم الجبل الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام وأنزل عليه التوراة فيه، وقيل: هو اسم لكل جبل بالسريانية. وقد ذكر كثير من المفسرين أن موسى لما جاء بني إسرائيل من عند الله بالألواح قال لهم: خذوها والتزموها، فقالوا: لا إلا أن يكلمنا الله بها كما كلمك، فصعقوا ثم أحيوا، فقال لهم: خذوها والتزموها، فقالوا: لا، فأمر الله الملائكة فاقتلعت جبلاً من جبال فلسطين طوله فرسخ في مثله وكذلك كان عسكرهم، فجعل عليهم مثل الظلة، وأتوا ببحر من خلفهم ونار من قبل وجوههم، وقيل لهم: خذوها وعليكم الميثاق أن لا تضيعوها وإلا سقط عليكم الجبل، فسجدوا توبة لله وأخذوا التوراة بالميثاق. قال ابن جريرعن بعض العلماء: لو أخذوها أول مرة لم يكن عليهم ميثاق. قال ابن عطية: والذي لا يصح سواه أن الله سبحانه اخترع وقت سجودهم الإيمان، لا أنهم آمنوا كرهاً وقلوبهم غير مطمئنة انتهى. وهذا تكلف ساقط حمله المحافظة على ما قدم ارتسم لديه من قواعد مذهبية قد سكن قلبه إليها كغيره، وكل عاقل يعلم أنه سبب من أسباب الإكراه أقوى من هذا أو أشد منه. ونحن نقول: أكرههم الله على الإيمان فآمنوا مكرهين، ورفع عنهم العذاب بهذا الإيمان. وهو نظير ما ثبت في شرعنا من رفع السيف عن من تكلم بكلمة الإسلام والسيف مصلت قد هزه حامله على رأسه. وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمن قتل من تكلم بكلمة الإسلام معتذراً عن قتله بأنه قالها تقية ولم تكن عن قصد صحيح: "أأنت فتشت عن قلبه" وقال:"لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس" وقوله: "خذوا" أي: وقلنا لكم "خذوا ما آتيناكم بقوة" والقوة: الجد والاجتهادوالمراد بذكر ما فيه أن يكون محفوظاً عندهم ليعلموا به.

ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ

قوله: ثم 64-" ثم توليتم" أصل التولي الإدبار عن الشيء والإعراض بالجسم، ثم استعمل في الإعراض عن الأمور والأديان والمعتقدات اتساعاً ومجازاً، والمراد هنا: إعراضهم عن الميثاق المأخوذ عليهم، وقوله: "من بعد ذلك" أي من بعد البرهان لهم والترهيب بأشد ما يكون وأعظم ما تجوزهالعقول وتقدره الأفهام، وهو رفع الجبل فوق رؤوسهم كأنه ظلة عليهم. وقوله: "فلولا فضل الله عليكم" بأن تدارككم بلطفه ورحمته حتى أظهرتم التوبة لخسرتم. والفضل: الزيادة. قال ابن فارس في المجمل: الفضل الزيادة والخير، والإفضال: الإحسان انتهى. والخسران: النقصان، وقد تقدم تفسيره.

وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ

65- "ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردةً خاسئين" والسبت في أصل اللغة: القطع، لأن الأشياء تمت فيه وانقطع العمل، وقيل: هو مأخوذ من السبوت، وهو الراحة والدعة. وقال في الكشاف: السبت مصدر سبتت اليهود: إذا عظمت يوم السبت انتهى. وقد ذكر جماعة من المفسرين أن اليهود افترقت فرقتين: ففرقة اعتدت في السبت: أي جاوزت ما أمرها الله به من العمل فيه فصادوا السمك الذي نهاهم الله عن صيده فيه، والفرقة الأخرى انقسمت إلى فرقتين: ففرقة جاهرت بالنهي واعتزلت وفرقة لم توافق المعتدين ولا صادوا معهم لكنهم جالسوهم ولم يجاهروهم بالنهي ولا اعتزلوا عنهم فمسخهم الله جميعاً ولم تنج إلا الفرقة الأولى فقط. وهذه من جملة المحن التي امتحن الله بها هؤلاء الذين بالغوا في العجرفة وعاندوا أنبياءهم، وما زالوا في كل موطن يظهرون من حماقاتهم وسخف عقولهم وتعنتهم نوعاً من أنواع التعسف، وشعباً من شعب التكلف، فإن الحيتان كانت في يوم السبت كما وصف الله سبحانه بقوله: "إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعاً ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم" فاحتالوا لصيدها، وحفروا الحفائر وشقوا الجداول، فكانت الحيتان تدخلها يوم السبت فيصيدونها يوم الأحد، فلم ينتفعوا بهذه الحيلة الباطلة. والخاسئ: المبعد، يقال: خسأته فخسأ وخسئ وانخسأ: أبعدته فبعد. ومنه قوله تعالى: "ينقلب إليك البصر خاسئاً" أي مبعداً. وقوله: " اخسؤوا فيها " أي تباعدوا تباعد سخط، ويكون الخاسئ بمعنى الصاغر. والمراد هنا: كونوا بين المصير إلى أشكال القردة مع كونهم مطرودين صاغرين، فقردة خبر الكون. وخاسئين خبر آخر، وقيل: إنه صفة لقردة والأول أظهر.

فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ

واختلف في مرجع الضمير في قوله: 66- "فجعلناها" وفي قوله: "لما بين يديها وما خلفها" فقيل: العقوبة، وقيل: الأمة، وقيل: القرية، وقيل: القردة، وقيل: الحيتان، والأول أظهر. والنكال: الزجر والعقاب، والنكل: القيد لأنه يمنع صاحبه، ويقال: للجام الدابة نكل لأنه يمنعها، والموعظة مأخوذة من الاتعاظ والانزجار، والوعظ: التخويف. وقال الخليل: الوعظ التذكير بالخير. وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: الطور الجبل الذي أنزلت عليه التوراة، وكان بنو إسرائيل أسفل منه. وأخرج نحوه عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال: الطور ما أنبت من الجبال، وما لم ينبت فليس بطور. وأخرج ابن جرير عنه في قوله: "خذوا ما آتيناكم بقوة" قال: أي جد. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله: "واذكروا ما فيه" قال: اقرأوا ما في التوراة واعملوا به. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير عن ابن عباس في قوله: "لعلكم تتقون" قال: لعلكم تنزعون عما أنتم عليه. وأخرج ابن جرير عنه قال: "ولقد علمتم" أي عرفتم " اعتدوا " يقول: اجترأوا في السبت بصيد السمك، فمسخهم الله قردة بمعصيتهم، ولم يعش مسيخ قط فوق ثلاثة أيام، ولم يأكل ولم يشرب ولم ينسل. وأخرج ابن المنذر عنه قال: القردة والخنازير من نسل الذين مسخوا، وأخرج ابن المنذر عن الحسن قال: انقطع ذلك النسل. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: مسخت قلوبهم ولم يمسخوا قردة، وإنما هو مثل ضربه الله لهم كقوله: "كمثل الحمار يحمل أسفاراً". وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في الآية قال: أحلت لهم الحيتان وحرمت عليهم يوم السبت ليعلم من يطيعه ممن يعصيه فكان فيهم ثلاثة أصناف، وذكر نحو ما قدمناه عن المفسري. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: صار شباب القوم قردة، والمشيخة صاروا خنازير. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "خاسئين" قال: ذليلين. وأخرج ابن المنذر عنه في قوله: "خاسئين" قال: صاغرين. وأخرج ابن جرير عن مجاهد مثله. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس "فجعلناها نكالاً لما بين يديها" من القرى "وما خلفها" من القرى "وموعظة للمتقين" الذين من بعدهم إلى يوم القيامة. وأخرج ابن جرير عنه "فجعلناها" يعني الحيتان "نكالاً لما بين يديها وما خلفها" من الذنوب التي عملوا قبل وبعد. وأخرج ابن جرير عنه "فجعلناها" قال: جعلنا تلك العقوبة وهي المسخة "نكالاً" عقوبة "لما بين يديها" يقول: ليحذر من بعدهم عقوبتي "وما خلفها" يقول: للذين كانوا معهم: "وموعظة" قال: تذكرة وعبرة للمتقين.

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ

قيل: إن قصة ذبح البقرة المذكورة هنا مقدم في التلاوة ومؤخر في المعنى على قوله تعالى: "وإذ قتلتم نفساً" ويجوز أن يكون قوله: قتلتم مقدماً في النزول، ويكون الأمر بالذبح مؤخراً، ويجوز أن يكون ترتيب نزولها على حسب تلاوتها، فكأن الله أمرهم بذبح البقرة حتى ذبحوها، ثم وقع من أمر القتل فأمروا أن يضربوه ببعضها هذا على فرض أو الواو تقتضي الترتيب، وقد تقرر في علم العربية أنها لمجرد الجمع من دون ترتيب ولا معية، وسيأتي في قصة القتل تمام الكلام، والبقرة اسم للأنثى، ويقال: للذكر ثور، وقيل: إنها تطلق عليهما، وأصله من البقر وهو الشق لأنها تشق للأرض بالحرث، قال الأزهري: البقر اسم جنس، وجمعه باقر: وقد قرأ عكرمة ويحيى بن يعمر " إن البقر تشابه علينا " وقوله: 67- "هزواً" الهزو هنا: اللعب والسخرية، وقد تقدم تفسيره. وإنما يفعل ذلك أهل الجهل لأنه نوع من العبث الذي لا يفعله العقلاء، ولهذا أجابهم موسى بالاستعاذة بالله سبحانه من الجهل.

قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ

وقوله: 68- "قالوا ادع لنا ربك" هذا نوع من أنواع تعنتهم المألوفة، فقد كانوا يسلكون هذه المسالك في غالب ما أمرهم الله به ولو تركوا العنت والأسئلة المتكلفة لأجزأهم ذبح بقرة من عرض البقر، ولكنهم شددوا فشدد الله عليهم كما سيأتي بيانه. والفارض: المسنة، ومعناه في اللغة الواسع. قال في الكشاف: وكأنها سميت فارضاً لأنها فرضت سنها: أي قطعتها وبلغت آخرها انتهى. ويقال للشيء القديم فارض، ومنه قول الراجز: يا رب ذي ضغن علي فارض له قرو كقرو الحائض أي قديم، وقيل الفارض: التي قد ولدت بطوناً كثيرة فيتسع جوفها. والبكر: الصغيرة التي لم تحمل، وتطلق في إناث البهائم وبني آدم على ما لم يفتحله الفحل، وتطلق أيضاً على الأول من الأولاد، ومنه قول الراجز: يا بكر بكرين ويا صلب الكبد أصبحت مني كذارع من عضد والعوان: المتوسطة بين سني الفارض والبكر، وهي التي قد ولدت بطناً أو بطنين، ويقال: هي التي قد ولدت مرة بعد مرة، والإشارة بقوله: "بين ذلك" إلى الفارض والبكر، وهما وإن كانتا مؤنثتين فقد أشير إليهما بما هو للمذكر على تأويل المذكور، كأنه قال: بين ذلك المذكور، وجاز دخول المقتضية لشيئين لأن المذكور متعدد. وقوله: "فافعلوا" تجديد للأمر، وتأكيد له، وزجر لهم عن التعنت، فلم ينفعهم ذلك ولا نجع فيهم، بل رجعوا إلى طبيعتهم، وعادوا إلى مكرهم واستمروا على عادتهم المألوفة.

قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ

69- فـ " قالوا ادع لنا ربك ". واللون: واحد الألوان، وجمهور المفسرين على أنها كانت جميعها صفراء. قال بعضهم: حتى قرنها وظلفها. وقال الحسن وسعيد بن جبير: إنها كانت صفراء القرن والظلف فقط، وهو خلاف الظاهر. والمراد بالصفرة هنا الصفرة المعروفة. وروي عن الحسن أن صفراء معناه سوداء، وهذا من بدع التفاسير ومنكراتها، وليت شعري كيف يصدق على اللون الأسود الذي هو أقبح الألوان أنه يسر الناظرين، وكيف يصح وصفه بالفقوع الذي يعلم كل من يعرف لغة العرب أنه لا يجري على الأسود بوجه من الوجوه، فإنهم يقولون في وصف الأسود: حالك وحلكوك ودجوجي وغريب. قال الكسائي: يقال: فقع لونها يفقع فقوعاً: إذا خلصت صفرته. وقال في الكشاف: الفقوع أشد ما يكون من الصفرة وأنصعه. ومعنى "تسر الناظرين" تدخل عليهم السرور إذا نظروا إليها إعجاباً بها واستحساناً للونها. قال وهب: كانت كأن شعاع الشمس يخرج من جلدها.

قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ

ثم لم ينزعوا عن غوايتهم ولا ارعووا من سفههم وجهلهم، بل عادوا إلى تعنتهم فقال: 70- "ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا" أي إن جنس البقر يتشابه عليهم لكثرة ما يتصف منها بالعوان الصفراء الفاقعة، ووعدوا من أنفسهم بالاهتداء إلى ما دلهم عليه، والامتثال لما أمروا به.

قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآَنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ

والذلول: التي لم يذللها العمل: أي هي غير مذللة بالعمل ولا ريضة به. وقوله: 71- "تثير" في موضع رفع على الصفة للبقرة: أي هي بقرة لا ذلولة مثيرة، وكذلك قوله: "ولا تسقي الحرث" في محل رفع لأنه وصف لها: أي ليست من النواضح التي يسنى عليها لسقي الزروع، وحرف النفي الآخر توكيد للأول: أي هي بقرة غير مذللة بالحرث ولا بالنضح، ولهذا قال الحسن: كانت البقرة وحشية. وقال قوم: إن قوله: تثير فعل مستأنف. والمعنى: إيجاب الحرث لها والنضح بها. والأول أرجح، لأنها لو كانت مثيرة ساقية لكانت مذللة ريضة، وقد نفى الله ذلك عنها، وقوله: "مسلمة" مرتفع على أنه من أوصاف البقرة، ويجوز أن يكون مرتفعاً على أنه خبر لمبتدأ محذوف: أي هي مسلمة. والجملة في محل رفع على أنها صفة، والمسلمة: هي التي لا عيب فيها، وقيل: مسلمة من العمل، وهو ضعيف لأن الله سبحانه قد نفى ذلك عنها، والتأسيس خير من التأكيد، والإفادة أولى من الإعادة. والشية أصلها وشية حذفت الواو كما حذفت من يشي، وأصله يوشي، ونظيره الزنة والعدة والصلة، وهي مأخوذة من وشى الثوب: إذا نسج على لونين مختلفين، وثور موشى في وجهه وقوائمه سواد. والمراد أن هذه البقرة خالصة الصفرة ليس في جسمها لمعة من لون آخر. فلما سمعوا هذه الأوصاف التي لا يبقى بعدها ريب ولا يخالج سامعها شك، ولا تحتمل الشركة بوجه من الوجوه، أقصروا من غوايتهم، وانتبهوا من رقدتهم وعرفوا بمقدار ما أوقعهم فيه تعنتهم من التضييق عليهم "قالوا الآن جئت بالحق" أي أوضحت لنا الوصف، وبينت لنا الحقيقة التي يجب الوقوف عندها، فحصلوا تلك البقرة الموصوفة بتلك الصفات "فذبحوها" وامتثلوا الأمر الذي كان يسراً فعسروه، وكان واسعاً فضيقوه "وما كادوا يفعلون" ما أمروا به لما وقع منهم من التثبط والتعنت وعدم المبادرة، فكان ذلك مظنة للاستبعاد، ومحلاً للمجيء بعبارة مشعرة بالتثبط الكائن منهم، وقيل: إنهم ما كادوا يفعلون لعدم وجدان البقرة المتصفة بهذه الأوصاف، وقيل: لارتفاع ثمنها، وقيل: لخوف انكشاف أمر المقتول، والأول أرجح. وقد استدل جماعة من المفسرين والأصوليين بهذه الآية على جواز النسخ قبل إمكان الفعل. وليس ذلك عندي بصحيح الوجهين: الأول: أن هذه الأوصاف المزيدة بسبب تكرر السؤال هي من باب التقييد للمأمور به لا من باب النسخ، وبين البابين بون بعيد كما هو مقرر في علم الأصول. الثاني: أنا لو سلمنا أن هذا من باب النسخ لا من باب التقييد لم يكن فيه دليل على ما قالوه، فإن قد كان يمكنهم بعد الأمر الأول أن يعمدوا إلى بقرة من عرض البقر فيذبحوها، ثم كذلك بعد الوصف بكونها جامعة بين الوصف بالعوان والصفراء، ولا دليل على أن هذه المحاورة بينهم وبين موسى عليه السلام واقعة في لحظة واحدة، بل الظاهر أن هذه الأسئلة المتعنتة كانوا يتواطأون عليها، ويديرون الرأي بينهم في أمرها ثم يوردونها، وأقل الأحوال الاحتمال القادح في الاستدلال. وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن عبيدة السلماني قال: كان رجل من بني إسرائيل عقيماً لا يولد له وكان له مال كثير، وكان ابن أخيه وارثه، فقتله ثم احتمله ليلاً فوضعه على باب رجل منهم، ثم أصبح يدعيه عليهم حتى تسلحوا وركب بعضهم إلى بعض، فقال ذو الرأي منهم: علام يقتل بعضكم بعضاً، وهذا رسول الله فيكم؟ فأتوا موسى فذكروا ذلك له، فقال: "إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة" الآية، فلو لم يعترضوا لأجزأت عنهم أدنى بقرة، ولكنهم شددوا فشدد عليهم حتى انتهوا إلى البقرة التي أمروا بذبحها، فوجدوها عند رجل ليس له بقرة غيرها، فقال: والله لا أنقصها من ملء جلدها ذهباً، فأخذوها بملء جلدها ذهباً، فذبحوها فضربوه ببعضها، فقام فقالوا: من قتلك؟ فقال: هذا، لابن أخيه ثم مال ميتاً، فلم يعط من ماله شيئاً، ولم يورث قاتل بعده. وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب من عاش بعد الموت عن ابن عباس أن القتيل وجد بين قريتين، وأن البقرة كانت لرجل كان يبر أباه فاشتروها بوزنها ذهباً. وأخرج ابن جرير عنه نحواً من ذلك، ولم يذكر ما تقدم في البقرة. وقد روي في هذا قصص مختلفة لا يتعلق بها كثير فائدة. وأخرج البزار عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن بني إسرائيل لو أخذوا أدنى بقرة لأجزأهم أو لأجزأت عنهم". وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لولا أن بني إسرائيل قالوا: "وإنا إن شاء الله لمهتدون" ما أعطوا أبداً، ولو أنهم اعترضوا بقرة من البقر فذبحوها لأجزأت عنهم، ولكنهم شددوا فشدد الله عليهم". وأخرج نحوه الفريابي وسعيد بن منصور وابن المنذر عن عكرمة يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرجه ابن جرير عن ابن جريج يرفعه. وأخرجه ابن جرير عن قتادة يرفعه أيضاً. وهذه الثلاثة مرسلة. وأخرج نحوه ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس قال: الفارض الهرمة، والبكر الصغيرة، والعوان النصف. وأخرج نحوه عن مجاهد. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "عوان بين ذلك" قال: بين الصغيرة والكبيرة، وهي أقوى ما يكون وأحسنه. وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: "صفراء فاقع لونها" قال: شديدة الصفرة تكاد من صفرتها تبيض. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر في قوله: "صفراء" قال: صفراء الظلف "فاقع لونها" قال: صافي. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن قتادة قال: "فاقع لونها" أي صاف "تسر الناظرين" أي تعجب. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير عن الحسن في قوله: "صفراء فاقع لونها" قال: سوداء شديدة السواد. وأخرج ابن جرير عن أبي العالية في قوله: "لا ذلول" أي لم يذلها العمل "تثير الأرض" يعني ليست بذلول فتثير الأرض "ولا تسقي الحرث" يقول: ولا تعمل في الحرث "مسلمة" قال: من العيوب. وأخرج نحوه عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد. وقال: "لا شية فيها" لا بياض فيها ولا سواد. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس "مسلمة" لا عوار فيها. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة "قالوا الآن جئت بالحق" قالوا: الآن بينت لنا "فذبحوها وما كادوا يفعلون". وأخرج ابن جرير عن محمد بن كعب في قوله: "وما كادوا يفعلون" لغلاء ثمنها.

وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ

قد تقدم ما ذكرناه في قصة ذبح البقرة، فيكون تقدير الكلام 72- " إذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون " فقال موسى لقومه: "إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة" إلى آخر القصة، وبعدها "فقلنا اضربوه ببعضها" الآية. وقال الرازي في تفسيره: اعلم أن وقوع القتل لا بد أن يكون متقدماً لأمره تعالى بالذبح، فأما الإخبار عن وقوع ذلك القتل، وعن أنه لا بد أن يضرب القتيل ببعض تلك البقرة فلا يجب أن يكون متقدماً على الإخبار عن قصة البقرة، فقول من يقول: هذه القصة يجب أن تكون متقدمة في التلاوة على الأولى خطأ، لأن هذه القصة في نفسها يجب أن تكون متقدمة على الأولى في الوجود، فأما التقدم في الذكر فغير واجب لأنه تارةً يقدم ذكر السبب على ذكر الحكم، وأخرى على العكس من ذلك، فكأنهم لما وقعت لهم تلك الواقعة أمرهم الله بذبح البقرة، فلما ذبحوها قال: وإذ قتلتم نفساً من قبل، ونسب القتل إليهم بكون القاتل منهم، وأصل ادارأتم تدارأتم، ثم أدغمت التاء في الدال، ولما كان الابتداء بالمدغم الساكن لا يجوز زادوا ألف الوصل، ومعنى ادارأتم: اختلفتم وتنازعتم، لأن المتنازعين يدرأ بعضهم بعضاً: أي يدفعه، ومعنى "مخرج" مظهر: أي ما كتمتم بينكم من أمر القتل فالله مظهره لعباده ومبينه لهم، وهذه الجملة معترضة بين أجزاء الكلام: أي فادارأتم فيها فقلنا.

فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ

واختلف في تعيين البعض الذي أمروا بأن يضربوا القتيل به، ولا حاجة إلى ذلك مع ما فيه من القول بغير علم، ويكفينا أن نقول: أمرهم الله بأن يضربوه ببعضها، فأي بعض ضربوا به فقد فعلوا ما أمروا به، وما زاد على هذا فهو من فضول العلم إذا لم يرد به برهان. قوله 73- : "كذلك يحيي الله الموتى" في الكلام حذف، والتقدير "فقلنا اضربوه ببعضها" فأحياه الله "كذلك يحيي الله الموتى" أي إحياء كمثل هذا الإحياء. "ويريكم آياته" أي علاماته ودلائله الدالة على كمال قدرته، وهذا يحتمل أن يكون خطاباً لمن حضر القصة، ويحتمل أن يكون خطاباً للموجودين عند نزول القرآن.

ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَة

والقسوة: الصلابة واليبس، وهي عبارة عن خلوها من الإنابة والإذعان لآيات الله مع وجود ما يقتضي خلاف هذه القسوة من إحياء القتيل وتكلمه وتعيينه لقاتله، والإشارة بقوله: 74- "من بعد ذلك" إلى ما تقدم من الآيات الموجبة للين القلوب ورقتها. قيل: أو في قوله: "أو أشد قسوة" بمعنى الواو كما في قوله تعالى: " آثما أو كفورا " وقيل: هي بمعنى بل، وعلى أن أو على أصلها أو بمعنى الواو، فالعطف على قوله: "كالحجارة" أي هذه القلوب هي كالحجارة أو هي أشد قسوة منها، فشبهوها بأي الأمرين شئتم فإنكم مصيبون في هذا التشبيه. وقد أجاب الرازي في تفسيره عن وقوع أو ههنا مع كونها للترديد: أي لا يليق لعلام الغيوب بثمانية أوجه، وإنما توصل إلى أفعل التفضيل بأشد مع كونه يصح أن يقال وأقسى من الحجارة، لكونه أبين وأدل على فرط القسوة، كما قاله في الكشاف. وقرأ الأعمش أو أشد بنصب الدال، وكأنه عطفه على الحجارة فيكون أشد مجروراً بالفتحة. وقوله: "وإن من الحجارة" إلى آخره، قال في الكشاف: إنه بيان لفضل قلوبهم على الحجارة في شدة القسوة وتقرير لقوله "أو أشد قسوة" انتهى. وفيه أن مجيء البيان بالواو غير معروف ولا مألوف، والأولى جعل ما بعد الواو تذييلاً أو حالاً. التفجر: التفتح، وقد سبق تفسيره. وأصل "يشقق" يتشقق أدغمت التاء في الشين، وقد قرأ الأعمش يتشقق على الأصل. وقرا ابن مصرف ينشق بالنون، والشق واحد الشقوق، وهو يكون بالطول أو بالعرض، بخلاف الانفجار فهو الانفتاح من موضع واحد مع اتساع الخرق. والمراد: أن الماء يخرج من الحجارة من مواضع الانفجار والانشقاق، ومن الحجارة ما يهبط: أي ينحط من المكان الذي هو فيه إلى أسفل منه من الخشية لله التي تداخله وتحل به، وقيل: إن الهبوط مجاز عن الخشوع منها، والتواضع الكائن فيها انقياداً لله عز وجل، فهو مثل قوله تعالى: "لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله" وقد حكى ابن جرير عن فرقة أن الخشية للحجارة مستعارة كما استعيرت الإرادة للجدار، وكما قال الشاعر: لما أتى خبر الزبير تواضعت سور المدينة والجبال الخشع وذكر الجاحظ أن الضمير في قوله: "وإن منها" راجع إلى القلوب لا إلى الحجارة، وهو فاسد، فإن الغرض من سياق هذا الكلام هو التصريح بأن قلوب هؤلاء بلغت في القسوة وفرط اليبس الموجبين لعدم قبول الحق والتأثر للمواعظ إلى مكان لم تبلغ إليه الحجارة، التي هي أشد الأجسام صلابة وأعظمها صلادة، فإنها ترجع إلى نوع من اللين، وهي تفجرها بالماء وتشققها عنه وقبولها لما توجبه الخشية لله من الخشوع والانقياد بخلاف تلك القلوب. وفي قوله: "وما الله بغافل عما تعملون" من التهديد وتشديد الوعيد ما لا يخفى، فإن الله عز وجل إذا كان عالماً بما يعملونه مطلعاً عليه غير غافل عنه كان لمجازاتهم بالمرصاد. وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله: "وإذ قتلتم نفساً فادارأتم فيها" قال: اختلفتم فيها "والله مخرج ما كنتم تكتمون" قال: ما تغيبون. وأخرج ابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الإيمان عن المسيب بن رافع قال: "ما عمل رجل حسنة في سبعة أبيات إلا أظهرها الله، وما عمل رجل سيئة في سبعة أبيات إلا أظهرها الله"، وتصديق ذلك في كتاب الله "والله مخرج ما كنتم تكتمون". وأخرج أحمد والحاكم وصححه عن أبي سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو أن رجلاً عمل عملاً في صخرة صماء لا باب لها ولا كوة خرج عمله إلى الناس كائناً ما كان". وأخرج البيهقي من حديث عثمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كانت له سريرة صالحة أو سيئة أظهر الله عليها منها رداء يعرف به" ورواه البيهقي أيضاً بنحوه من قول عثمان قال: والموقوف أصح. وأخرج أبو الشيخ والبيهقي عن أنس مرفوعاً حديثاً طويلاً في هذا المعنى، ومعناه: ان الله يلبس كل عامل عمله حتى يتحدث به الناس ويزيدون، ولو عمله في جوف بيت إلى سبعين بيتاً على كل بيت باب من حديد، وفي إسناده ضعف. وأخرج ابن عدي من حديث أنس أيضاً مرفوعاً "إن الله مرد كل امرئ رداء عمله". ولجماعة من الصحابة والتابعين كلمات تفيد هذا المعنى. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "فقلنا اضربوه ببعضها" قال: ضرب بالعظم الذي يلي الغضروف. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة أنهم ضربوه بفخذها. وأخرج مثله ابن جرير عن عكرمة. وأخرج نحوه عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد. وأخرج ابن جرير عن السدي قال: ضرب بالبضعة التي بين الكتفين. وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ في العظمة عن وهب بن منبه قصة طويلة في ذكر البقرة وصاحبها لا حاجة إلى التطويل بذكرها، وقد استوفاها في الدر المنثور. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في قوله: "ثم قست قلوبكم من بعد ذلك" قال: من بعد ما أراهم الله من إحياء الموتى ومن بعد ما أراهم من أمر القتيل "فهي كالحجارة أو أشد قسوة" ثم عذر الله الحجارة ولم يعذر شقي بني آدم فقال: "وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار" إلى آخر الآية. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: أي من الحجارة لألين من قلوبكم عما تدعون إليه من الحق. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: "إن الحجر ليقع على الأرض ولو اجتمع عليه فئام من الناس ما استطاعوه وأنه ليهبط من خشية الله".

أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ

75- قوله: "أفتطمعون" هذا الاستفهام فيه معنى الإنكار، كأنه آيسهم من إيمان هذه الفرقة من اليهود. والخطاب لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أو له ولهم. و "يؤمنوا لكم" أي لأجلكم، أو على تضمين آمن معنى استجاب: أي أتطعمون أن يستجيبوا لكم. والفريق اسم جمع لا واحد له من لفظه. و "كلام الله" أي التوراة، وقيل: إنهم سمعوا خطاب الله لموسى حين كلمه، وعلى هذا فيكون الفريق هم السبعون الذين اختارهم موسى، وقرأ الأعمش كلم الله. والمراد من التحريف أنهم عمدوا إلى ما سمعوه من التوراة، فجعلوا حلاله حراماً أو نحو ذلك مما فيه موافقة لأهوائهم كتحريفهم صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإسقاط الحدود عن أشرافهم، أو سمعوا كلام الله لموسى فزادوا فيه ونقصوا، وهذا إخبار عن إصرارهم على الكفر وإنكار على من طمع في إيمانهم وحالهم هذه الحال: أي ولهم سلف حرفوا كلام الله وغيروا شرائعه وهم مقتدون بهم متبعون سبيلهم. ومعنى قوله: "من بعد ما عقلوه" أي من بعد ما فهموه بعقولهم مع كونهم يعلمون أن ذلك الذي فعلوه تحريف مخالف لما أمرهم الله به من تبليغ شرائعه كما هي، فهم وقعوا في المعصية عالمين بها، وذلك أشد لعقوبتهم وأبين لضلالهم.

وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ

76- "وإذا لقوا الذين آمنوا" يعني أن المنافقين إذا لقوا الذين آمنوا "قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض" أي إذا خلا الذين لم ينافقوا بالمنافقين قالوا لهم عاتبين عليهم "أتحدثونهم بما فتح الله عليكم" أي حكم عليكم من العذاب، وذلك أن أناساً من اليهود أسلموا ثم نافقوا، فكانوا يحدثون المؤمنين من العرب بما عذب به آباؤهم، وقيل: إن المراد ما فتح الله عليهم في التوراة من صفة محمد، وقد تقدم معنى خلا. والفتح عند العرب: القضاء والحكم، والفتاح: القاضي بلغة اليمن، والفتح: النصر، ومن ذلك قوله تعالى: " يستفتحون على الذين كفروا " وقوله: "إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح" ومن الأول: " ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم " أي الحاكمين، ويكون الفتح بمعنى الفرق بين الشيئين، والمحاجبة: إبراز الحجة، أي لا تخبروهم بما حكم الله به عليكم من العذاب فيكون ذلك حجة لهم عليكم فيقولون: نحن أكرم على الله منكم وأحق بالخير منه. والحجة، الكلام المستقيم، وحاججت فلاناً فحججته أي غلبته بالحجة. "أفلا تعقلون" ما فيه الضرر عليكم من هذا التحدث الواقع منكم لهم.

أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ

ثم وبخهم الله سبحانه 77- " أو لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون " من جميع أنواع الإسرار وأنواع الإعلان، ومن ذلك إسرارهم الكفر وإعلانهم الإيمان. وقد أخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: ثم قال الله لنبيه ومن معه من المؤمنين يؤيسهم منهم: "أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله" وليس قوله يسمعون التوراة كلهم قد سمعها ولكنهم الذين سألوا موسى رؤية ربهم فأخذتهم الصاعقة فيها. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في قوله: "أفتطمعون أن يؤمنوا لكم" الآية: قال: هم اليهود كانوا يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما سمعوه ووعوه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله: "أفتطمعون أن يؤمنوا لكم" الآية، قال:الذين يحرفونه والذين يكتبونه هم العلماء منهم، والذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم هؤلاء كلهم يهود. وأخرج ابن جرير عن السدي في قوله: "يسمعون كلام الله" قال: هي التورات حرفوها. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير عن ابن عباس في قوله:" وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا: آمنا" أي بصاحبكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنه إليكم خاصة "وإذا خلا بعضهم إلى بعض" قالوا: لا تحدثوا العرب بهذا فقد كنتم تستفتحون به عليهم، وكان منهم "ليحاجوكم به عند ربكم" أي تقرون بأنه نبي وقد علمتم أنه قد أخذ علكم الميثاق باتباعه وهو يخبرهم أنه النبي الذي كان ينتظر ونجد في كتابنا اجحدوه ولا تقروا به. وأخرج ابن جرير عنه أن هذه الآية في المنافقين من اليهود وقوله: "بما فتح الله عليكم" يعني بما أكرمكم به. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي قال: نزلت هذه الآية في ناس من اليهود آمنوا ثم نافقوا، وكانوا يحدثون المؤمنين من العرب بما عذبوا به فقال بعضهم لبعض: أتحدثونهم بما فتح الله عليكم من العذاب لتقولوا نحن أحب إلى الله منكم وأكرم على الله منكم. وقد أخرج ابن جرير عن ابن زيد أن سبب نزول الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يدخلن علينا قصبة المدينة إلا مؤمن، فكان اليهود يظهرون الإيمان فيدخلون ويرجعون إلى قومهم بالأخبار، وكان المؤمنون يقولون لهم: أليس قد قال الله في التورات كذا وكذا؟ فيقولون: نعم، فإذا رجعوا إلى قومهم "قالوا: أتحدثونهم بما فتح الله عليكم" الآية" وروى عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد أن سبب نزول الآية: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قام لقوم قريظة تحت حصونهم فقال: يا إخوان القردة والخنازير ويا عبدة الطاغوت، فقالوا: من أخبر هذا الأمر محمداً؟ ما خرج هذا الأمر إلا منكم "أتحدثونهم بما فتح الله عليكم"" أي بما حكم الله ليكون لهم حجة عليكم. وروى ابن أبي حاتم عن عكرمة أن السبب في نزول الآية:" أن امرأة من اليهود أصابت فاحشة، فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يبتغون منه الحكم رجاء الرخصة، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عالمهم وهو ابن صوريا فقال له: احكم، قال: فجبوه، والتجبية: يحملونه على حمار ويجعلون وجهه إلى ذنب الحمار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:ابحكم الله حكمت؟ قال: لا، ولكن نساءنا كن حساناً فأسرع فيهن رجالنا فغيرنا الحكم، وفيه نزل"وإذا خلا بعضهم إلى بعض"الآية". وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله: "وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا: آمنا" قال: هم اليهود وكانوا إذا لقوا الذين آمنوا قالوا: آمنا، فصانعوهم بذلك ليرضوا عنهم "وإذا خلا بعضهم إلى بعض" نهى بعضهم بعضاً أن يحدثوا بما فتح الله عليهم وبين لهم في كتابه من أمر محمد صلى الله عليه وسلم ونعته ونبوته وقالوا: إنكم إذا فعلتم ذلك احتجوا بذلك عليكم عند ربكم " أفلا تعقلون * أو لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون " قال: ما يعلنون من أمرهم وكلامهم إذا لقوا الذين آمنوا، وما يسرون إذا خلا بعضهم إلى بعض من كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وتكذيبهم به وهم يجدونه مكتوباً عندهم. وأخرج ابن جرير عن أبي العالية في قوله: " أو لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون " يعني من كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ولكذبهم، وما يعلنون حين قالوا للمؤمنين آمنا، وقد قال بمثل هذا جماعة من السلف.

وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ

قوله: 78- "ومنهم" أي من اليهود. والأمي منسوب إلى الأمة الأمية التي هي على أصل ولادتها من أمهاتها لم تتعلم الكتابة ولا تحسن القراءة للمكتوب، ومنه حديث "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب" وقال أبو عبيدة: إنما قيل لهم: أميون لنزول الكتاب عليهم كأنهم نسبوا إلى أم الكتاب، فكأنه قال: ومنهم أهل الكتاب، وقيل هم المجوس، وقيل: غير ذلك والراجح الول. ومعنى: "لا يعلمون الكتاب إلا أماني" أنه لا علم لم به إلا ما هم عليه من الأماني التي يتمنونها ويعللون بها أنفسهم. والأماني جمع أمنية وهي ما يتمناه الإنسان لنفسه، فهؤلاء لا علم لهم بالكتاب الذي هو التوراة لما هم عليه من كونهم مغفوراً لهم بما يدعونه لأنفسهم من الأعمال الصالحة، أو بما لهم من السلف الصالح في اعتقادهم، وقيل: الأماني الأكاذيب كما سيأتي عن ابن عباس. ومنه قول عثمان بن عفان: ما تمنيت منذ أسلمت: أي ما كذبت، حكاه عنه القرطبي في تفسيره، وقيل الأماني: التلاوة، ومنه قوله تعالى: "إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته" أي إذا تلا أقى الشيطان في تلاوته، أي لا علم لهم إلا مجرد التلاوة من دون تفهم وتدبر، ومنه قول كعب بن مالك: تمنى كتاب الله أول ليلة وآخره لاقى حمام المقادر وقال آخر: تمنى كتاب الله آخر ليلة تمنى داود الزبور على رسل وقيل الأماني: التقدير. قال الجوهري: يقال مني له: أي قدر، ومنه قول الشاعر: لا تأمنن وإن أمسيت في حرم حتى تلاقي ما يمني لك الماني أي يقدر لك المقدر. قال في الكشاف: والاشتقاق من منى إذا قدر، لأن المتمني يقدر في نفسه ويجوز ما يتمناه وكذلك المختلق والقارىء يقدر أن كلمة كذا بعد كذا انتهى. وإن في قوله: "وإن هم إلا يظنون" نافية: أي ما هم والظن هو التردد الراجح بين طرفي الاعتقاد الغير الجازم كذا في القاموس، أي ما هم إلا يترددون بغير جزم ولا يقين، وقيل: الظن هنا بمعنى الكذب، وقيل: هو مجرد الحدس. لما ذكر الله سبحانه أهل العلم منهم بأنهم غير عاملين بل يحرفون كلام الله من بعد ما عقلوه وهم يعلمون، ذكر أهل الجهل منهم بأنهم يتكلمون على الأماني ويعتمدون على الظن الذي لا يقفون من تقليدهم على غيره ولا يظفرون بسواه.

فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ

والويل: الهلاك. وقال الفراء: الأصل في الويل وي: أي حزن كما تقول وي لفلان: أي حزن له، فوصلته العرب باللام، قال الخليل: ولم نسمع على بنائه إلا ويح، وويس، وويه، وويك، وويب، وكله متقارب في المعنى، وقد فرق بينها قوم وهي مصادر لم ينطق العرب بأفعالها، وجاز الابتداء به وإن كان نكرة لأنه فيه معنى الدعاء. والكتابة معروفة، والمراد: أنهم يكتبون الكتاب المحرف ولا يبينون ولا ينكرونه على فاعله. وقوله: 79- "بأيديهم" تأكيد لأن الكتابة لا تكون إلا باليد فهو مثل قوله: "ولا طائر يطير بجناحيه" وقوله: "يقولون بأفواههم" وقال ابن سراج: هو كناية عن أنه من تلقائهم دون أن ينزل عليهم. وفيه أنه قد دل على أنه من تلقائهم قوله: "يكتبون الكتاب" فإسناد الكتابة إليهم يفيد ذلك. والاشتراء: الاستبدال، وقد تقدم الكلام عليه، ووصفه بالقلة لكونه فانياً لا ثواب فيه، أو لكونه حراماً لا تحل به البركة، فهؤلاء الكتبة لم يكتفوا بالتحريف ولا بالكتابة لذلك المحرف حتى نادوا في المحافل بأنه من عند الله، لينالوا بهذه المعاصي المتكررة هذا الغرض النزير والعوض الحقير. وقوله: "مما يكسبون" قيل: من الرشا ونحوها، وقيل: من المعاصي، وكرر الويل تغليظاً عليهم وتعظيماً لفعلهم وهتكاً لأستارهم.

وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ

80- "وقالوا" أي اليهود "لن تمسنا النار" الآية. وقد اختلف في سبب نزول الآية كما سيأتي بيانه. والمراد بقوله: "قل أتخذتم عند الله عهداً" الإنكار عليهم لما صدر منهم من هذه الدعوى الباطلة أنها لم تمسهم النار إلا أياماً معدودة: أي لم يتقدم لكم مع الله عهد بهذا، ولا أسلفتم من الأعمال الصالحة ما يصدق هذه الدعوى حتى يتعين الوفاء بذلك وعدم إخلاف العهد: أي إن اتخذتم عند الله عهداً فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون. قال في الكشاف، وأم إما أن تكون معادلة بمعنى أي الأمرين كائن على سبيل التقرير لأن العلم واقع بكون أحدهما، ويجوز أن تكون منقطعة انتهى، وهذا توبيخ لهم شديد. قال الرازي في تفسيره: العهد في هذا الموضع يجري مجرى الوعد، وإنما سمى خبره سبحانه عهداً لأن خبره أوكد من العهود المؤكدة.

بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ

وقوله: 81- "بلى" إثبات بعد النفي: أي بلى تمسكم لا على الوجه الذي ذكرتم من كونه أياماً معدودة. والسيئة المراد بها الجنس هنا، ومثله قوله تعالى: "وجزاء سيئة سيئة مثلها"، "من يعمل سوءاً يجز به" ثم أوضح سبحانه أن مجرد كسب السيئة لا يوجب الخلود في النار، بل لا بد أن تكون سيئة محيطة به، قيل: هي الشرك وقيل: الكبيرة. وتفسيرها بالشرك أولى لما ثبت في السنة تواتراً من خروج عصاة الموحدين من النار، ويؤيد ذلك كونها نازلة في اليهود وإن كان الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وقد قرأ نافع خطياته بالجمع، وقرأ الباقون بالإفراد، وقد تقدم تفسير الخلود. وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير عن ابن عباس في قوله: "ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب" قال: لا يدرون ما فيه " وإن هم إلا يظنون " قال: وهم يجحدون نبوتك بالظن. وأخرج ابن جرير عنه قال: الأميون قوم لم يصدقوا رسولاً أرسله الله، ولا كتاباً أنزله الله فكتبوا كتاباً بأيديهم، ثم قالوا لقوم سفلة جهال: هذا من عند الله. وقد أخبر أنهم يكتبون بأيديهم، ثم سماهم أميين لجحودهم كتب الله ورسله. وأخرج ابن جرير عن النخعي قال: منهم من لا يحسن أن يكتب. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "إلا أماني" قال: الأحاديث. وأخرج ابن جرير عنه أنها الكذب. وكذا روى مثله عبد بن حميد عن مجاهد، وزاد "وإن هم إلا يظنون" قال: إلا يكذبون. وأخرج النسائي وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "فويل للذين يكتبون الكتاب" قال: نزلت في أهل الكتاب. وأخرج أحمد والترمذي وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه، وصححه عن أبي سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ويل واد في جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفاً قبل أن يبلغ قعره". وأخرج ابن جرير من حديث عثمان مرفوعاً قال: "الويل جبل في النار". وأخرج البزار وابن مردويه من حديث سعد بن أبي وقاص مرفوعاً أنه حجر في النار. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "فويل للذين يكتبون الكتاب" قال: هم أحبار اليهود، وجدوا صفة النبي صلى الله عليه وسلم مكتوبة في التوراة أكحل أعين ربعة جعد الشعر حسن الوجه، فلما وجدوه في التوراة محوه حسداً وبغياً، فأتاهم نفر من قريش فقالوا: تجدون في التوراة نبياً أمياً؟ فقالوا: نعم نجده طويلاً أزرق سبط الشعر، فأنكرت قريش وقالوا: ليس هذا منا، وأخرج ابن جرير عنه في قوله: "ثمناً قليلاً" قال: عرضاً من عرض الدنيا "فويل لهم" قال: فالعذاب عليهم من الذي كتبوا بأيديهم من ذلك الكذب "وويل لهم مما يكسبون" يقول: مما يأكلون به الناس السفلة وغيرهم. وقد ذكر صاحب الدر المنثور آثاراً عن جماعة من السلف أنهم كرهوا بيع المصاحف مستدلين بهذه الآية، ولا دلالة فيها على ذلك، ثم ذكر آثاراً عن جماعة منهم أنهم جوزوا ذلك ولم يكرهوه. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والواحدي عن ابن عباس: أن اليهود كانوا يقولون مدة الدنيا سبعة آلاف سنة، وإنما نعذب بكل ألف سنة من أيام الدنيا يوماً واحداً في النار، وإنما هي سبعة أيام معدودة، ثم ينقطع العذاب، فأنزل الله في ذلك "وقالوا لن تمسنا النار" الآية. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال: وجد أهل الكتاب مسيرة ما بين طرفي جهنم مسيرة أربعين فقالوا: لن نعذب أهل النار إلا قدر أربعين، فإذا كان يوم القيامة ألجموا في النار فساروا فيها حتى انتهوا إلى سقر، وفيها شجرة الزقوم إلى آخر يوم من الأيام المعدودة، فقال لهم خزنة النار: يا أعداء الله زعمتم أنكم لن تعذبوا في النار إلا أياماً معدودة، فقد انقضى العدد وبقي الأبد، فيؤخذون في الصعود يرهقون على وجوههم. وأخرج ابن جرير عنه أن اليهود قالوا: لن تمسنا النار إلا أربعين ليلة مدة عبادة العجل. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة قال:" اجتمعت يهود يوماً فخاصموا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات أربعين يوماً. ثم يخلفنا فيها ناس وأشاروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ورد يديه على رأسه: كذبتم بل أنتم خالدون مخلدون فيها لا نخلفكم فيها إن شاء الله أبداً ففيهم نزلت هذه الآية "وقالوا: لن تمسنا النار"". وأخرج ابن جرير عن زيد بن أسلم مرفوعاً نحوه. وأخرج أحمد والبخاري والدارمي والنسائي من حديث أبي هريرة "أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل اليهود في خيبر: من أهل النار؟ فقالوا: نكون فيها يسيراً، ثم تخلفونا فيها، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: اخسأوا والله لا نخلفكم فيها أبداً". وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله: "قل أتخذتم عند الله عهداً" أي موثقاً من الله بذلك أنه كما تقولون. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس أنه فسر العهد هنا بأنهم قالوا: لا إله إلا الله، لم يشركوا به ولم يكفروا. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله: "أم تقولون على الله ما لا تعلمون" قال: قال القوم: الكذب والباطل، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "بلى من كسب سيئة" قال: الشرك. وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد وعكرمة وقتادة مثله. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة في قوله: " وأحاطت به خطيئته " قال: أحاط به شركه. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم في قوله: "بلى من كسب سيئة" أي من عمل مثل أعمالكم وكفر بمثل ما كفرتم حتى يحيط كفره بما له من حسنة "فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون".

وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ

82- " والذين آمنوا وعملوا الصالحات " أي من آمن بما كفرتم به وعمل بما تركتم من دينه فلهم الجنة خالدين فيها. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله: " وأحاطت به خطيئته " قال: هي الكبيرة الموجبة لأهلها النار. وأخرج وكيع وابن جرير عن الحسن أنه قال: كل ما وعد الله عليه النار فهو الخطيئة. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير عن الربيع بن خيثم قال: هو الذي يموت على خطيئته قبل أن يتوب وأخرج مثله ابن جرير عن الأعمش.

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِ

قد تقدم تفسير الميثاق المأخوذ على بني إسرائيل. وقال مكي: إن الميثاق الذي أخذه الله عليهم هنا هو ما أخذه الله عليهم في حياتهم على ألسن أنبيائهم، وهو قوله: 83- "لا تعبدون إلا الله" وعبادة الله إثبات توحيده وتصديق رسله والعمل بما أنزل في كتبه. قال سيبويه: إن قوله: "لا تعبدون إلا الله" هو جواب قسم، والمعنى، استحلفناهم والله لا تعبدون إلا الله، وقيل: هو إخبار في معنى الأمر، ويدل على قراءة أبي وابن مسعود لا تعبدوا على النهي ويدل عليه أيضاً ما عطف عليه من قوله: "وقولوا" "وأقيموا" "وآتوا" وقال قطرب والمبرد: إن قوله: "لا تعبدون" جملة حالية: أي أخذنا ميثاقهم موحدين أو غير معاندين. قال القرطبي: وهذا إنما يتجه على قراءة ابن كثير وحمزة والكسائي يعبدون بالياء التحتية. وقال الفراء والزجاج وجماعة: إن معناه أخذنا ميثاقكم بأن لا تعبدوا إلا الله وبأن تحسنوا بالوالدين، وبأن لا تسفكوا الدماء: ثم حذف أن فارتفع الفعل لزوالها. قال المبرد: هذا خطأ، لأ كل ما أضمر في العربية فهو يعمل عمله مظهراً. وقال القرطبي: ليس بخطأ بل هما وجهان صحيحان وعليهما أنشد: ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي بالنصب لقوله: أحضر وبالرفع. والإحسان إلى الوالدين: معاشرتهما بالمعروف والتواضع لهما وامتثال أمرها، وسائر ما أوجبه الله على الولد لوالديه من الحقوق. والقربى: مصدر كالرجعى والعقبى، هم القرابة- والإحسان بهم: صلتهم والقيام بما يحتاجون إليه بحسب الطاقة وبقدر ما تبلغ إليه القدرة. واليتامى جمع يتيم، واليتيم في بني آدم من فقد أبوه. وفي سائر الحيوانات: من فقدت أمه. وأصله الانفراد- يقال: صبي يتيم: أي منفرد من أبيه والمساكين جمع مسكين، وهو من أسكنته الحاجة وذللته، وهو أشد فقراً من الفقير عند أكثر أهل اللغة وكثير من أهل الفقه. وروي عن الشافعي أن الفقير أسوأ حالاً من المسكين. وقد ذكر أهل العلم لهذا البحث أدلة مستوفاة في مواطنها. ومعنى قوله: "وقولوا للناس حسناً" أي قولوا لهم قولاً حسناً فهو صفة مصدر محذوف، وهو مصدر كبشرى، وقرأ حمزة والكسائي حسناً بفتح الحاء والسين. وكذلك قرأ زيد بن ثابت وابن مسعود. قال الأخفش: هما بمعنى واحد، مثل البخل والبخل، والرشد والرشد وحكى الأخفش أيضاً حسنى بغير تنوين على فعلى. قال النحاس: وهذا لا يجوز في العربية، لا يقال من هذا شيء إلا بالألف واللام نحو الفضلى والكبرى والحسنى وهذا قول سيبويه. وقرأ عيسى بن عمر حسناً بضمتين: والظاهر أن هذا القول الذي أمرهم الله به لا يختص بنوع معين، بل كل ما صدق عليه أنه حسن شرعاً كان من جملة ما يصدق عليه هذا الأمر. وقد قيل: إن ذلك هو كلمة التوحيد، وقيل: الصدق، وقيل: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقيل: غير ذلك. وقوله: "وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة" قد تقدم تفسيره، وهو خطاب لبني إسرائيل، فالمراد الصلاة التي كانوا يصلونها، والزكاة التي كانوا يخرجونها. قال ابن عطية: وزكاتهم هي التي كانوا يضعونها فتنزل النار على ما يقبل، ولا تنزل على ما لا يقبل. وقوله: "ثم توليتم" قيل: الخطاب للحاضرين منهم في عصر النبي صلى الله عليه وسلم لأنهم مثل سلفهم في ذلك، وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب. وقوله: "إلا قليلاً" منصوب على الاستثناء، ومنهم عبد الله بن سلام وأصحابه. وقوله: "وأنتم معرضون" في موضع كالنصب على الحال، والإعراض والتولي بمعنى واحد، وقيل: التولي بالجسم، والإعراض بالقلب.

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ

وقوله: 84- "لا تسفكون" الكلام فيه كالكلام في لا تعبدون وقد سبق. وقرأ طلحة بن مصرف وشعيب بن أبي حمزة بضم الفاء، وهي لغة. وقرأ أبو نهيك بضم الياء وتشديد الفاء وفتح السين والسفك: الصب، وقد تقدم، والمراد أنه لا يفعل ذلك بعضهم ببعض. والدار: المنزل الذي فيه أبنية المقام، بخلاف منزل الارتحال. وقال الخليل: كل موضع حله قوم فهو دار لهم وإن لم يكن فيه أبنية، وقيل: سميت داراً لدورها على سكانها، كما يسمى الحائط حائطاً لإحاطته على ما يحويه. وقوله: "ثم أقررتم" من الإقرار: أي حصل منكم الاعتراف بهذا الميثاق المأخوذ عليكم في حال شهادتكم على أنفسكم بذلك، قيل: الشهادة هنا بالقلوب وقيل هي بمعنى الحضور: أي أنكم الآن تشهدون على أسلافكم بذلك، وكان الله سبحانه قد أخذ في التوراة على بني إسرائيل أن لا يقتل بعضهم بعضاً ولا ينفيه ولا يسترقه.

ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْ

وقوله: 85- "ثم أنتم هؤلاء" أي أنتم هؤلاء المشاهدون الحاضرون تخالفون ما أخذه الله عليكم في التوراة فتقتلون أنفسكم إلى آخر الآية، وقيل: إن هؤلاء منصوب بإضمار أعني، ويمكن أن يقال: منصوب بالذم أو الاختصاص: أي أذم أو أخص. وقال القتيبي: إن التقدير يا هؤلاء قال النحاس: هذا خطأ على قول سيبويه لا يجوز. وقال الزجاج هؤلاء بمعنى الذين أي ثم أنتم الذين تقتلون. وقيل: هؤلاء مبتدأ وأنتم خبر مقدم وقرأ الزهري: تقتلون مشدداً، فمن جعل قوله: "أنتم هؤلاء" مبتدأ وخبراً جعل قوله: "تقتلون" بياناً لأن معنى قوله: "أنتم هؤلاء" أنهم على حالة كحالة أسلافهم من نقض الميثاق. ومن جعل هؤلاء منادى أو منصوباً بما ذكرنا جعل الخبر تقتلون وما بعده. وقوله: "تظاهرون" بالتشديد، وأصله تتظاهرون أدغمت التاء في الظاء لقربها منها في المخرج، وهي قراءة أهل مكة. وقرأ أهل الكوفة تظاهرون مخففاً بحذف التاء الثانية، لدلالة الأولى عليها. وأصل المظاهرة المعاونة، مشتقة من الظهر لأن بعضهم يقوي بعضاً فيكون له كالظهر، ومنه قول الشاعر: تظاهرتم من كل أوب ووجهة على واحد لا زلتم قرن واحد ومنه قوله تعالى: "وكان الكافر على ربه ظهيراً" وقوله: "والملائكة بعد ذلك ظهير". وأسارى حال. قال أبو عبيد وكان أبو عمرو يقول: ما صار في أيديهم فهو أسارى، وما جاء مستأسراً فهو الأسرى. ولا يعرف أهل اللغة ما قال أبو عمرو. وإنما هذا كما تقول سكارى وسكرى. وقد قرأ حمزة أسرى. وقرأ الباقون أسارى والأسرى جمع أسير كالقتلى جمع قتيل والجرحى جمع جريح. قال أبو حاتم: ولا يجوز أسارى. وقال الزجاج: يقال: أسارى كما يقال سكارى. وقال ابن فارس: يقال في جمع أسير أسرى وأسارى انتهى. فالعجب من أبي حاتم حيث ينكر ما ثبت في التنزيل. وقرأ به الجمهور، والأسير مشتق من السير، وهو القيد الذي يشد به المحمل، فسمي أسيراً لأنه يشد وثاقه، والعرب تقول: قد أسرقته: أي شده، ثم سمي كل أخيذ أسيراً وإن لم يؤخذ. وقوله: "تفادوهم" جواب الشرط، وهي قراءة حمزة ونافع والكسائي، وقرأ الباقون تفدوهم. والفداء: هو ما يوجد من الأسير ليفك به أسره، يقال: فداه وفاداه: إذا أعطاه فداءه. قال الشاعر: قفي فادي أسيرك إن قومي وقومك ما أرى لهم اجتماعاً وقوله: "وهو محرم عليكم إخراجهم" الضمير للشأن وقيل: مبهم تفسره الجملة التي بعده، وزعم الفراء أن هذا الضمير عماد، واعترض عليه بأن العماد لا يكون في أول الكلام. "إخراجهم" مرتفع بقوله: "محرم" ساد مسد الخبر، وقيل: بل مرتفع بالابتداء ومحرم خبره. قال المفسرون: كان الله سبحانه قد أخذ على بني إسرائيل أربعة عهود: ترك القتل، وترك الإخراج، وترك المظاهرة، وفداء أسراهم، فأعرضوا عن كل ما أمروا به إلا الفداء، فوبخهم الله على ذلك. بقوله: "أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض". والخزي: الهوان. قال الجوهري: والخزي بالكسر يخزي خزياً: إذا ذل وهان، وقد وقع هذا الجزاء الذي وعد الله به الملاعين اليهود موفراً، فصاروا في خزي عظيم بما ألصق بهم من الذل والمهانة بالقتل والأسر وضرب الجزية والجلاء، وإنما ردهم الله يوم القيامة إلى أشد العذاب لأنهم جاءوا بذنب شديد ومعصية فظيعة. وقد قرأ الجمهور يردون بالياء التحتية. وقرأ الحسن بالفوقية على الخطاب. وقد تقدم تفسير قوله: "وما الله بغافل عما يعملون".

أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ

وكذلك تفسير 86- "أولئك الذين اشتروا" وقوله: "فلا يخفف" إخبار من الله سبحانه بأن اليهود لا يزالون في عذاب موفر لازم لهم بالجزية والصغار والذلة والمهانة، فلا يخفف عنهم ذلك أبداً ما داموا، ولا يوجد لهم ناصر يدفع عنهم، ولا يثبت لهم نصر في أنفسهم على عدوهم. وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل" قال يؤنبهم: أي ميثاقكم. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: "وقولوا للناس حسناً" قال: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وروى البيهقي في الشعب عن علي في قوله: "وقولوا للناس حسناً" قال: يعني الناس كلهم، ومثله روى عبد بن حميد وابن جرير عن عطاء. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ثم توليتم" قال: أي تركتم ذلك كله. وأخرج ابن جرير عنه أنه قال: معناه أعرضتتم عن طاعتي إلا قليلاً منكم وهم الذين اخترتهم لطاعتي. وأخرج ابن جرير عن أبي العالية في قوله: "لا تسفكون دماءكم" لا يقتل بعضكم بعضاً "ولا تخرجون أنفسكم من دياركم" لا يخرج بعضكم بعضاً من الديار "ثم أقررتم" بهذا الميثاق "وأنتم تشهدون" وأنتم شهود. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ثم أقررتم" أن هذا حق من ميثاقي عليكم "ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم" أي أهل الشرك حتى تسفكوا دماءكم معهم " وتخرجون فريقا منكم من ديارهم " قال: تخرجونهم من ديارهم معهم "تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان" فكانوا إذا كان بين الأوس والخزرج حرب خرجت معهم بنو قينقاع مع الخزرج والنضير وقريظة مع الأوس وظاهر كل واحد من الفريقين حلفاءه على إخوانه حتى يسافكوا دماءهم، فإذا وضعت الحرب أوزارها افتدوا أسراهم تصديقاً لما في التوراة "وإن يأتوكم أسارى تفادوهم" وقد عرفتم أن ذلك عليكم في دينكم "وهو محرم عليكم" في كتابكم لإخراجهم "أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض" أتفادونهم مؤمنين بذلك، وتخرجونهم كفراً بذلك. وأخرج ابن جرير عن قتادة في قوله: "أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة" قال: استحبوا قليل الدنيا على كثير الآخرة.

وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُ

87- "الكتاب": التوراة، والتقفية: الإتباع والإرداف، مأخوذة من القفا وهو مؤخر العنق، تقول: استقفيته: إذا جئت من خلفه، ومنه سميت قافية الشعر لأنها تتلو سائر الكلام. والمراد أن الله سبحانه أرسل على أثره رسلاً جعلهم تابعين له وهم أنبياء بني إسرائيل المبعوثون من بعده. و"البينات" الأدلة التي ذكرها الله في آل عمران والمائدة. والتأييد: التقوية. وقرأ مجاهد وابن محيصن " وأيدناه " بالمد وهما لغتان. وروح القدس من إضافة الموصوف إلى الصفة: أي الروح المقدسة. والقدس: الطهارة، والمقدس: المطهر- وقيل: هو جبريل أيد الله به عيسى، ومنه قول حسان: وجبريل أمين الله فينا وروح القدس ليس به خفاء قال النحاس: وسمي جبريل روحاً وأضيف إلى القدس لأنه كان بتكوين الله له من غير ولادة- وقيل: القدس هو الله عز وجل، وروحه جبريل، وقيل: المراد بروح القدس: الإسم الذي كان عيسى يحيي به الموتى، وقيل: المراد به الإنجيل، وقيل: المراد به الروح المنفوخ فيه، أيده الله به لما فيه من القوة. وقوله: "بما لا تهوى أنفسكم" أي بما لا يوافقها ويلائمها، وأصل الهوى: الميل إلى الشيء. قال الجوهري: وسمي الهوى هوى لأنه يهوي بصاحبه إلى النار. وبخهم الله سبحانه بهذا الكلام المعنون بهمزة التوبيخ فقال: "أفكلما جاءكم رسول" منكم "بما لا" يوافق ما تهوونه استكبرتم عن إجابته احتقاراً للرسل واستبعاداً للرسالة، والفاء في قوله: أفكلما للعطف على مقدر أي آتيناكم يا بني إسرائيل من الأنبياء ما آتيناكم أفكلما جاءكم رسول. وفريقاً منصوب بالفعل الذي بعده والفاء للتفصيل، ومن الفريق المكذبين عيسى ومحمد، ومن الفريق المقتولين يحيى وزكريا.

وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ

والغلف جمع أغلف، المراد به هنا: الذي عليه غشاوة وتمنع من وصول الكلام إليه، ومنه غلفت السيف: أي جعلت له غلافاً. قال في الكشاف: هو مستعار من الأغلف الذي لم يختن كقوله: "قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه" وقيل: إن الغلف جمع غلاف مثل حمار وحمر: أي قلوبنا أوعية للعلم فما بالها لا تفهم عنك، وقد وعينا علماً كثيراً، فرد الله عليهم ما قالوه فقال: 88- "بل لعنهم الله بكفرهم" وأصل اللعن في كلام العرب الطرد والإبعاد، ومنه قول الشماخ: ذعرت به القطا ونفيت عنه مقام الذئب كالرجل اللعين أي كالرجل المطرود. والمعنى: أبعدهم الله من رحمته، و"قليلاً" نعت لمصدر محذوف: أي إيماناً قليلاً "ما يؤمنون" وما زائدة، وصف إيمانهم بالقلة لأنهم الذين قص الله علينا من عنادهم وعجرفتهم وشدة لجاجهم، وبعدهم عن إجابة الرسل ما قصه، ومن جملة ذلك أنهم يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض. وقال معمر: المعنى لا يؤمنون إلا قليلاً مما في أيديهم ويكفرون بأكثره، وعلى هذا يكون قليلاً منصوباً بنزع الخافض. وقال الواقدي معناه لا يؤمنون قليلاً ولا كثيراً. قال الكسائي: تقول العرب مررنا بأرض قل ما تنبت الكراث والبصل أي لا تنبت شيئاً. وقد أخرج ابن عساكر عن ابن عباس في قوله: "ولقد آتينا موسى الكتاب" يعني به التوراة جملة واحدة مفصلة محكمة "وقفينا من بعده بالرسل" يعني رسولاً يدعى أشمويل بن بابل، ورسولاً يدعى منشابيل، ورسولاً يدعى شعياء، ورسولاً يدعى حزقيل، ورسولاً يدعى أرمياء وهو الخضر، ورسولاً يدعى داود وهو أبو سليمان ورسولاً يدعى المسيح عيسى ابن مريم، فهؤلاء الرسل ابتعثهم الله وانتخبهم من الأمة بعد موسى فأخذنا عليهم ميثاقاً غليظاً أن يؤدوا إلى أمتهم صفة محمد صلى الله عليه وسلم وصفة أمته. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله: "وآتينا عيسى ابن مريم البينات" قال: هي الآيات التي وضع على يديه من إحياء الموتى وخلقه من الطين كهيئة الطير، وإبراء الأسقام. والخبر بكثير من الغيوب، وما ورد عليهم من التوراة والإنجيل الذي أحدث الله إليه. وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله: "وأيدناه" قال: قويناه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال: روح من القدس الاسم الذي كان عيسى يحيي به الموتى. وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قال: القدس: الله تعالى. وأخرج عن الربيع بن أنس مثله. وأخرج عن ابن عباس قال: القدس الطهر. وأخرج عن السدي قال: القدس البركة. وأخرج عن إسماعيل بن أبي خالد أن روح القدس جبريل. وأخرج عن ابن مسعود مثله. وأخرج أبو الشيخ في العظمة عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: روح القدس جبريل. وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم أيد حسان بروح القدس". وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: "فريقاً" قال: طائفة. وأخرج عن ابن عباس قال: إنما سمي القلب لتقلبه. وأخرج الطبراني في الأوسط عنه أنه كان يقرأ "قلوبنا غلف" مثقلة: أي كيف نتعلم وقلوبنا غلف للحكمة: أي أوعية للحكمة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله: "وقالوا: قلوبنا غلف" مملوءة علماً لا تحتاج إلى علم محمد ولا غيره. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله: "قلوبنا غلف" قال: في غطاء، وروى ابن إسحاق وابن جرير عنه أنه قال: في أكنة. وأخرج ابن جرير عنه أنه قال: هي القلوب المطبوع عليها. وأخرج وكيع عن عكرمة وابن جرير عن مجاهد نحوه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة قال: هي التي لا تفقه. وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي الدنيا في كتاب الإخلاص وابن جرير عن حذيفة قال: القلوب أربعة: قلب أغلف فذلك قلب الكافر، وقلب مصفح فذلك قلب المنافق وقلب أجرد فيه مثل السراج فذلك قلب المؤمن، وقلب فيه إيمان ونفاق، فمثل الإيمان كمثل شجرة يمدها ما طيب، ومثل المنافق كمثل قرحة يمدها القيح والدم. وأخرج أحمد بسند جيد عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "القلوب أربعة: قلب أجرد فيه مثل السراج يزهي، وقلب أغلف مربوط على غلافه، وقلب منكوس، وقلب مصفح. فأما القلب الأجرد فقلب المؤمن سراجه فيه نوره، وأما القلب الأغلف فقلب الكافر، وأما القلب المنكوس فقلب المنافق عرف ثم أنكر، وأما القلب المصفح فقلب فيه إيمان ونفاق، فمثل الإيمان فيه كمثل البقلة يمدها الماء الطيب، ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدها القيح، فأي المادتين غلبت على الأخرى غلبت عليه". وأخرج ابن أبي حاتم عن سلمان الفارسي مثله سواء موقوفاً. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن قتادة في قوله: "فقليلاً ما يؤمنون" قال: لا يؤمن منهم إلا قليل.

وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ

89- "ولما جاءهم" يعني اليهود "كتاب" يعني القرآن، و"مصدق" وصف له، وهو في مصحف أبي منصور ونصبه على الحال وإن كان صاحبها نكرة فقد تخصصت بوصفها بقوله: "من عند الله" وتصديقه لما معهم من التوراة والإنجيل أنه يخبرهم بما فيهما ويصدقه ولا يخالفه. والاستفتاح الاستنصار: أي كانوا من قبل يطلبون من الله النصر على أعدائهم بالنبي المنعوت في آخر الزمان الذي يجدون صفته عندهم في التوراة، وقيل: الاستفتاح هنا بمعنى الفتح: أي يخبرونهم بأنه سيبعث ويعرفونهم بذلك، وجواب لما في قوله: " ولما جاءهم كتاب " قيل: هو قوله: " فلما جاءهم ما عرفوا " وما بعده، وقيل هو محذوف: أي كذبوا أو نحوه، كذا قال الأخفش والزجاج. وقال المبرد: إن جواب لما الأولى هو قوله: "كفروا" وأعيدت لما الثانية لطول الكلام، واللام في الكافرين للجنس. ويجوز أن تكون للعهد ويكون هذا من وضع الظاهر موضع المضمر، والأول أظهر.

بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ

وما في قوله: 90- "بئسما" موصولة أو موصوفة: أي بئس الشيء أو شيئاً "اشتروا به أنفسهم" قال سيبويه. وقال الأخفش: ما في موضع نصب على التمييز كقولك: بئس رجلاً زيد. وقال الفراء: بئسما بجملته شيء واحد ركب كحبذا. وقال الكسائي: ما واشتروا بمنزلة اسم واحد قائم بنفسه، والتقدير: بئس اشتراؤهم أن يكفروا. وقوله: "أن يكفروا" في موضع رفع على الابتداء عند سيبويه وخبره ما قبله. وقال الفراء والكسائي: إن شئت كان في موضع خفض بدلاً من الهاء في به: أي اشتروا أنفسهم بأن يكفروا. وقال في الكشاف: إن ما نكرة منصوبة مفسرة لفاعل بئس، بمعنى شيئاً اشتروا به أنفسهم، والمخصوص بالذم أن يكفروا، واشتروا بمعنى باعوا. وقوله: "بغياً" أي حسداً. قال الأصمعي: البغي مأخوذ من قولهم قد بغى الجرح: إذا فسد، وقيل: أصله الطلب ولذلك سميت الزانية بغيا. وهو علة لقوله: "اشتروا" وقوله: "أن ينزل" علة لقوله: "بغيا" أي لأن ينزل. والمعنى: أنهم باعوا أنفسهم بهذا الثمن البخس حسداً ومنافسة "أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده" وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب وابن محيصن أن ينزل بالتخفيف. "فباءوا" أي رجعوا وصاروا أحقاء "بغضب على غضب" وقد تقدم معنى باءوا ومعنى الغضب، قيل: الغضب، الأول لعبادتهم العجل، والثاني لكفرهم بمحمد، وقيل: كفرهم بعيسى ثم كفرهم بمحمد، وقيل: كفرهم بمحمد ثم البغي عليه، وقيل: غير ذلك. والمهين مأخوذ من الهوان، قيل: وهو ما اقتضى الخلود في النار.

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ

وقوله: 91- "بما أنزل الله" هو القرآن، وقيل: كل كتاب: أي صدقوا بالقرآن أو صدقوا بما أنزل الله من الكتب "قالوا: نؤمن" أي نصدق "بما أنزل علينا" أي التوراة. وقوله: "ويكفرون بما وراءه" قال الفراء: بما سواه. وقال أبو عبيدة: بما بعده. قال الجوهري: وراء بمعنى خلف، وقد يكون بمعنى قدام وهي من الأضداد. ومنه قوله تعالى: "وكان وراءهم ملك" أي قدامهم، وهذه الجملة أعني ويكفرون في محل النصب على الحبال: أي قالوا: نؤمن بما أنزل علينا حال كونهم كافرين بما وراءه مع كون هذا الذي هو وراء ما يؤمنون به هو الحق. وقوله: "مصدقا" حال مؤكدة وهذه أحوال متداخلة أعني قوله: "ويكفرون" وقوله: "وهو الحق" وقوله: "مصدقاً" ثم اعترض الله سبحانه عليهم لما قالوا: نؤمن بما أنزل علينا بهذه الجملة المشتملة على الاستفهام المفيد للتوبيخ: أي إن كنتم تؤمنون بما أنزل عليكم فكيف تقتلون الأنبياء وقد نهيتم عن قتلهم فيما أنزل عليكم؟ وهذا الخطاب وإن كان مع الحاضرين من اليهود فالمراد به أسلافهم، ولكنهم لما كانوا يرضون بأفعال سلفهم كانوا مثلهم.

وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ

واللام في قوله: 92- "ولقد" جواب لقسم مقدر. والبينات يجوز أن يراد بها التوراة أو التسع الآيات المشار إليها بقوله تعالى: "ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات" ويجوز أن يراد الجميع ثم عبدتم العجل بعد النظر في تلك البينات حال كونكم ظالمين بهذه العبادة الصادرة منكم عناداً بعد قيام الحجة عليكم. وقد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة في قوله: "ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق" قال: هو القرآن "مصدق لما معهم" من التوراة والإنجيل. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وأبو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل من طريق عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري قال: حدثني أشياخ منا قالوا: لم يكن أحد من العرب أعلم بشأن رسول الله صلى الله عليه وسلم منا، لأن معنا يهود وكانوا أهل كتاب وكنا أصحاب وثن، وكانوا إذا بلغهم منا ما يكرهون قالوا: إن نبياً ليبعث الآن قد أظل زمانه نتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم اتبعناه وكفروا به ففينا والله وفيهم أنزل الله "وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا". وأخرج البيهقي في الدلائل عن ابن عباس وابن مسعود وناس من الصحابة قالوا: كانت العرب تمر باليهود فيؤذونهم وكانوا يجدون محمداً في التوراة فيسألون الله أن يبعثه نبياً فيقاتلون معه العرب، فلما جاء محمد كفروا به حين لم يكن من بني إسرائيل. وقد روي نحو هذا عن ابن عباس من غير وجه بألفاظ مختلفة ومعانيها متقاربة. وروي عن غيره من السلف نحو ذلك. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في قوله: "بئسما اشتروا به أنفسهم" قال: هم اليهود كفروا بما أنزل الله وبمحمد صلى الله عليه وسلم بغياً وحسداً للعرب "فباءوا بغضب على غضب" قال: غضب الله عليهم مرتين بكفرهم بالإنجيل وبعيسى وبكفرهم بالقرآن وبمحمد. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "بغياً أن ينزل الله" أي أن الله جعله من غيرهم "فباءوا بغضب" بكفرهم بهذا النبي "على غضب" كان عليهم بما صنعوه من التوراة. وأخرج ابن جرير عن عكرمة نحوه. وأخرج أيضاً عن مجاهد معناه. وأخرج ابن جرير عن أبي العالية في قوله: "ويكفرون بما وراءه" قال: بما بعده. وأخرج ابن جرير عن السدي قال: بما وراءه: أي القرآن.

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْ

قد تقدم تفسير أخذ الميثاق ورفع الطور. والأمر بالسماع معناه الطاعة والقبول، وليس المراد مجرد الإدراك بحاسة السمع، ومنه قولهم: سمع الله لمن حمده أي قبل وأجاب، ومنه قول الشاعر: دعوت الله حتى خفت أن لا يكون الله يسمع ما أقول أي يقبل، وقولهم في الجواب: 93- "سمعنا" هو على بابه وفي معناه: أي سمعنا قولك بحاسة السمع وعصيناك: أي لا نقبل ما تأمرنا به، ويجوز أن يكونوا أرادوا بقولهم: سمعنا ما هو معهود من تلاعبهم واستعمالهم المغالطة في مخاطبة أنبيائهم وذلك بأن يحملوا قوله تعالى: "اسمعوا" على معناه الحقيقي أي السماع بالحاسة. ثم أجابوا بقولهم: "سمعنا" أي أدركنا ذلك بأسماعنا عملاً بموجب ما تأمر به، ولكنهم لما كانوا يعلمون أن هذا غير مراد لله عز وجل بل مراده بالأمر بالسماع الأمر بالطاعة والقبول لم يقتصروا على هذه المغالطة بل ضموا إلى ذلك ما هو الجواب عندهم فقالوا: "وعصينا"، وفي قوله: "وأشربوا" تشبيه بليغ: أي جعلت قلوبهم لتمكن حب العجل منها كأنها تشربه، ومثله قول زهير: فصحوت عنها بعد حب داخل والحب يشربه فؤادك دائماً وإنما عبر عن حب العجل بالشرب دون الأكل، لأن شرب الماء يتغلغل في الأعضاء حتى يصل إلى باطنها والطعام يجاوزها ولا يتغلغل فيها، والباء في قوله: "بكفرهم" سببية: أي كان ذلك بسبب كفرهم عقوبة لهم وخذلاناً. وقوله: "قل بئسما يأمركم به إيمانكم" أي إيمانكم الذي زعمتم أنكم تؤمنون بما أنزل عليكم وتكفرون بما وراءه فإن هذا الصنع وهو قولكم: "سمعنا وعصينا" في جواب ما أمرتم به في كتابكم وأخذ عليكم الميثاق به مناد عليكم بأبلغ نداء بخلاف ما زعمتم، وكذلك ما وقع منكم من عبادة العجل ونزول حبه من قلوبكم منزلة الشراب هو من أعظم ما يدل على أنكم كاذبون في قولكم: "نؤمن بما أنزل علينا" لا صادقون، فإن زعمتم أن كتابكم الذي آمنتم به أمركم بهذا فبئسما يأمركم به إيمانكم بكتابكم، وفي هذا من التهكم بهم ما لا يخفى.

قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآَخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ

وقوله: 94- "قل إن كانت لكم الدار الآخرة" هو رد عليهم لما ادعوا أنهم يدخلون الجنة ولا يشاركهم في دخولها غيرهم، وإلزام لهم بما يتبين به أنهم كاذبون في تلك الدعوى، وأنها صادرة منهم لا عن برهان، و"خالصةً" منصوب على الحال ويكون خبر كان هو عند الله أو يكون خبر كان هو خالصة، ومعنى الخلوص أنه لا يشاركهم فيها غيرهم إذا كانت اللام في قوله: "من دون الناس" للجنس أو لا يشاركهم فيها المسلمون إن كانت اللام للعهد. وهذا أرجح لقولهم في الآية الأخرى: "وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى" وإنما أمرهم بتمني الموت لأن من اعتقد أنه من أهل الجنة كان الموت أحب إليه من الحياة، ولما كان ذلك منهم مجرد دعوى أحجموا.

وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ

ولهذا قال سبحانه: 95- "ولن يتمنوه أبداً" وما في قوله: "بما قدمت أيديهم" موصولة والعائد محذوف: أي بما قدمته من الذنوب التي يكون فاعلها غير آمن من العذاب بل غير طامع في دخول الجنة، فضلاً عن كونه قاطعاً بها فضلاً عن كونها خالصة له مختصة به- وقيل: إن الله سبحانه صرفهم عن التمني ليجعل ذلك آية لنبيه صلى الله عليه وسلم. والمراد بالتمني هنا: هو التلفظ بما يدل عليه، لا مجرد خطوره بالقلب وميل النفس إليه، فإن ذلك لا يراد في مقام المحاجة ومواطن الخصومة ومواقف التحدي، وفي تركهم للتمني أو صرفهم عنه معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم قد كانوا يسلكون من التعجرف والتجرئ على الله وعلى أنبيائه بالدعاوى الباطلة في غير موطن ما قد حكاه عنهم التنزيل، فلم يتركوا عادتهم هنا إلا لما قد تقرر عندهم من أنهم ذا فعلوا ذلك التمني نزل بهم الموت، إما لأمر قد علموه، أو للصرفة من الله عز وجل. وقد يقال: ثبت النهي عن النبي صلى الله عليه وسلم عن تمني الموت فكيف أمره الله أن يأمرهم بما هو منهي عنه في شريعته. ويجاب بأن المراد هنا إلزامهم الحجة، وإقامة البرهان على بطلان دعواهم. وقوله: "والله عليم بالظالمين" تهديد لهم وتسجيل عليهم بأنهم كذلك.

وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ

واللام في قوله: 96- "ولتجدنهم" جواب قسم محذوف، وتنكير حياة للتحقير: أي أنهم أحرص الناس على أحقر حياة وأقل لبث في الدنيا، فكيف بحياة كثيرة ولبث متطاول؟ وقال في الكشاف: إنه أراد بالتنكير حياة مخصوصة وهي الحياة المتطاولة، وتبعه في ذلك الرازي في تفسيره. وقوله: "ومن الذين أشركوا" قيل: هو كلام مستأنف، والتقدير: ومن الذين أشركوا ناس "يود أحدهم" وقيل: إنه معطوف على الناس: أي أحرص الناس وأحرص من الذين أشركوا، وعلى هذا يكون قوله: "يود أحدهم" راجعاً إلى اليهود بياناً لزيادة حرصهم على الحياة، ووجه ذكر الذين أشركوا بعد ذكر الناس مع كونهم داخلين فيهم الدلالة على مزيد حرص المشركين من العرب ومن شابههم من غيرهم. فمن كان أحرص منهم وهم اليهود كان بالغاً في الحرص إلى غاية لا يقادر قدرها. وإنما بلغوا في الحرص إلى هذا الحد الفاضل على حرص المشركين، لأنه يعلمون بما يحل بهم من العذاب في الآخرة، بخلاف المشركين من العرب ونحوهم فإنهم لا يقرون بذلك، وكان حرصهم على الحياة دون حرص اليهود. والأول وإن كان فيه خروج من الكلام في اليهود إلى غيرهم من مشركي العرب لكنه أرجح لعدم استلزامه للتكليف، ولا ضير في استطراد ذكر حرص المشركين بعد ذكر حرص اليهود. وقال الرازي: إن الثاني أرجح ليكون ذلك أبلغ في إبطال دعواهم وفي إظهار كذبهم في قولهم إن الدار الآخرة لنا لا لغيرنا انتهى. ويجاب عنه بأن هذا الذي جعله مرجحاً قد أفاده في قوله تعالى: "ولتجدنهم أحرص الناس" ولا يستلزم استئناف الكلام في المشركين أن لا يكونوا من جملة الناس، وخص الألف بالذكر لأن العرب كانت تذكر ذلك عند إرادة المبالغة. وأصل سنة سنهة وقيل: سنوة. واختلف في الضمير في قوله: "وما هو بمزحزحه" فقيل هو راجع إلى أحدهم، والتقدير: وما أحدهم بمزحزحه من العذاب أن يعمر، وعلى هذا يكون قوله: "أن يعمر" فاعلاً لمزحزحه، وقيل: هو لما دل عليه يعمر من مصدره: أي وما التعمير بمزحزحه، ويكون قوله: أن يعمر بدلاً منه. وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت: هو عماد، وقيل: هو ضمير الشأن، وقيل: ما هي الحجازية والضمير اسمها وما بعده خبرها والأول أرجح، وكذلك الثاني والثالث ضعيف جداً لأن العماد لا يكون إلا بين شيئين، ولهذا يسمونه ضمير الفصل، والرابع فيه أن ضمير الشأن يفسر بجملة سالمة عن حرف جر كما حكاه ابن عطية عن النحاة. والزحزحة: التنحية، يقال: زحزحته فتزحزح: أي نحيته فتنحى وتباعد، ومنه قول ذي الرمة: يا قابض الروح عن جسم عصى زمناً وغافر الذنب زحزحني عن النار والبصير: العالم بالشيء الخبير به، ومنه قولهم: فلان بصير بكذا: أي خبير به، ومنه قول الشاعر: فإن تسألوني بالنساء فإنني بصير بأدواء النساء طبيب وقد أخرج عبد الرزاق وابن جرير عن قتادة في قوله: "وأشربوا في قلوبهم العجل" قال: أشربوا حبه حتى خلص ذلك إلى قلوبهم. وأخرج ابن جرير عن أبي العالية أن اليهود لما قالوا: "لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى" الآية، نزل قوله تعالى: "قل إن كانت لكم الدار الآخرة" الآية. وأخرج ابن جرير مثله عن قتادة. وأخرج البيهقي في الدلائل عن ابن عباس أن قوله: "خالصة من دون الناس" يعني المؤمنين "فتمنوا الموت" فقال لهم رسول الله: "إن كنتم في مقالتكم صادقين فقولوا: اللهم أمتنا، فوالذي نفسي بيده لا يقولها رجل منكم إلا غص بريقه فمات مكانه". وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "فتمنوا الموت" أي ادعوا بالموت على أي الفريقين أكذب، فأبوا ذلك، ولو تمنوه يوم قال ذلك ما بقي على الأرض يهودي إلا مات. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وأبو نعيم عنه قال: "لو تمنى اليهود الموت لماتوا". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه نحوه. وأخرج البخاري وغيره من حديثه مرفوعاً: "لو كان اليهود تمنوا لماتوا ولرأوا مقاعدهم في النار". وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصححه عنه في قوله: "ولتجدنهم أحرص الناس على حياة" قال: اليهود "ومن الذين أشركوا" قال: وذلك أن المشركين لا يرجون بعثاً بعد الموت فهو يجب طول الحياة، وأن اليهودي قد عرف ما له من الخزي بما ضيع ما عنده من العلم "وما هو بمزحزحه" قال: بمنحيه. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر والحاكم عنه في قوله: "يود أحدهم لو يعمر ألف سنة" قال: هو قول الأعاجم إذا عطس أحدهم ذه هز ارسال يعني عش ألف سنة.

قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ

هذه الآية قد أجمع المفسرون على أنها نزلت في اليهود. قال ابن جرير الطبري: وأجمع أهل التأويل جميعاً أن هذه الآية نزلت جواباً على اليهود إذ زعموا أن جبريل عدو لهم، وأن ميكائيل ولي لهم. ثم اختلفوا ما كان سبب قولهم ذلك؟ فقال بعضهم: إنما كان سبب ذلك من أجل مناظرة جرت بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمر نبوته، ثم ذكر روايات في ذلك ستأتي آخر البحث إن شاء الله. والضمير في قوله: 97- "فإنه" يحتمل وجهين: الأول أن يكون لله ويكون الضمير في قوله: "نزله" لجبريل: أي فإن الله سبحانه نزل جبريل على قلبك، وفيه ضعف كما يفيده قوله: "مصدقاً لما بين يديه". الثاني أنه لجبريل، والضمير في نزله للقرآن: أي فإن جبريل نزل القرآن على قلبك، وخص القلب بالذكر لأنه موضع العقل والعلم. وقوله: "بإذن الله" أي بعلمه وإرادته وتيسيره وتسهيله، و"ما بين يديه" هو التوراة كما سلف أو جميع الكتب المنزلة وفي هذا دليل على شرف جبريل وارتفاع منزلته، وأنه لا وجه لمعاداة اليهود له حيث كان منه ما ذكر من تنزيل الكتاب على قلبك، أو من تنزيل الله له على قلبك، وهذا هو وجه الربط بين الشرط والجواب، أي من كان معادياً لجبريل منهم فلا وجه لمعاداته له، فإنه لم يصدر منه إلا ما يوجب المحبة دون العداوة، أو من كان معادياً له، فإن سبب معاداته أنه وقع منه ما يكرهونه من التنزيل، وليس ذلك بذنب له وإن نزهوه، فإن هذه الكراهة منهم له بهذا السبب ظلم وعدوان، لأن هذا الكتاب الذي نزل به هو مصدق لكتابهم وهدى وبشرى للمؤمنين.

مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ

ثم أتبع سبحانه هذا الكلام بجملة مشتملة على شرط وجزاء يتضمن الذم لمن عادى جبريل بذلك السبب والوعيد الشديد له فقال: 98- " من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين " والعداوة من العبد هي صدور المعاصي منه لله والبغض لأوليائه، والعداوة من الله للعبد هي تعذيبه بذنبه وعدم التجاوز عنه والمغفرة له- وإنما خص جبريل وميكائيل بالذكر بعد ذكر الملائكة لقصد التشريف لهما والدلالة على فضلهما، وأنهما وإن كانا من الملائكة فقد صارا باعتبار ما لهما من المزية بمنزلة جنس آخر أشرف من جنس الملائكة تنزيلاً للتغاير الوصفي منزلة التغاير الذاتي كما ذكره صاحب الكشاف وقرره علماء البيان. وفي جبريل عشر لغات ذكرها ابن جرير الطبري وغيره، وقد قدمنا الإشارة إلى ذلك. وفي ميكائيل ست لغات، وهما اسمان عجميان، والعرب إذا نطقت بالعجمي تساهلت فيه. وحكى الزمخشري عن ابن جني أنه قال: العرب إذا نطقت بالأعجمي خلطت فيه. وقوله: "للكافرين" من وضع الظاهر موضع المضمر: أي فإن الله عدو لهم لقصد الدلالة على أن هذه العداوة موجبة لكفر من قعت منه. وقد أخرج أحمد وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني وأبو نعيم والبيهقي عن ابن عباس قال: "حضرت عصابة من اليهود النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا القاسم حدثنا عن خلال نسألك عنهن لا يعلمهن إلا نبي، قال: سلوني عما شئتم، فسالوه وأجابهم، ثم قالوا: فحدثنا من وليك من الملائكة فعندنا نجامعك أو نفارقك، فقال: وليي جبريل، ولم يبعث الله نبياً قط إلا وهو وليه، قالوا: فعندها نفارقك لو كان وليك سواه من الملائكة لاتبعناك وصدقناك، قال: فما يمنعكم أن تصدقوه؟ قالوا: هذا عدونا، فعند ذلك أنزل الله الآية". وأخرج نحو ذلك ابن أبي شيبة في المصنف وابن جرير وابن أبي حاتم عن الشعبي عن عمر بن الخطاب في قصة جرت له معهم وإسنادها صحيح ولكن الشعبي لم يدرك عمر، وقد رواها عكرمة وقتادة والسدي وعبد الرحمن بن أبي ليلى عن عمر. وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد والبخاري والنسائي وغيرهم عن أنس قال: "سمع عبد الله بن سلام بمقدم النبي صلى الله عليه وسلم وهو في أرض يخترف، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي: ما أول اشراط الساعة، وما أول طعام أهل الجنة، وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه؟ فقال: أخبرني بهن جبريل آنفاً، فقال جبريل؟ قال: نعم، قال: ذاك عدو اليهود من الملائكة، فقرأ هذه الآية: "من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك" قال: أما أول أشراط الساعة فنار تخرج من المشرق فتحشر الناس إلى المغرب، وأما أول ما يأكل أهل الجنة فزيادة كبد حوت، وأما ما ينزع الولد إلى أبيه أو أمه، فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع إليه الولد، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزع إليها، قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "فإنه نزله على قلبك بإذن الله" يقول: فإن جبريل نزل القرآن بأمر الله يشدد به فؤادك ويربط به على قلبك "مصدقاً لما بين يديه" يقول لما قبله من الكتب التي أنزلها والآيات والرسل الذين بعثهم الله. وقد ذكر السيوطي في هذا الموضع من تفسيره الدر المنثور أحاديث كثيرة واردة في جبريل وميكائيل وليس مما يتعلق بالتفسير حتى نذكرها.

وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ

الضمير في قوله: 99- "إليك" للنبي صلى الله عليه وسلم: أي أنزلنا علامات واضحات دالة على نبوتك. وقوله: "إلا الفاسقون" قد تقدم تفسيره، والظاهر أن المراد جنس الفاسقين، ويحتمل أن يراد اليهود لأن الكلام معهم.

أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ

والواو في قوله: 100- "أو كلما" للعطف دخلت عليها همزة الاستفهام كما تدخل على الفاء، ومن ذلك قوله تعالى: ‌"أفحكم الجاهلية يبغون" "أفأنت تسمع الصم" "أفتتخذونه وذريته" وكما تدخل على ثم، ومن ذلك قوله تعالى: "أثم إذا ما وقع" وهذا قول سيبويه. وقال الأخفش: الواو زائدة. وقال الكسائي: إنها أو حركت الواو تسهيلاً. قال ابن عطية: وهذا كله متكلف، والصحيح قول سيبويه والمعطوف عليه المحذوف، والتقدير أكفروا بالآيات البينات وكلما عاهدوا. قوله: "نبذ فريق" قال ابن جرير: أصل النبذ الطرح والإلقاء، ومنه سمي اللقيط منبوذاً، ومنه سمي النبيذ وهو التمر والزبيب إذا طرحا في الماء، قال أبو الأسود: ‌‌نظرت إلى عنوانه فنبذته كنبذك نعلاً أخلقت من نعالكا وقال آخر: إن الذين أمرتهم أن يعدلوا نبذوا كتابك واستحل المحرم

وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ

وقوله: 101- "وراء ظهورهم" أي خلف ظهورهم، وهو مثل يضرب لمن يستخف بالشيء فلا يعمل به تقول العرب: اجعل هذا خلف ظهرك ودبرك أذنك وتحت قدمك: أي اتركه وأعرض عنه، ومنه ما أنشده الفراء: تميم بن زيد لا تكونن حاجتي بظهر فلا يعيى علي جوابها وقوله: "كتاب الله" أي التوراة لأنهم لما كفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم وبما أنزل عليه بعد أن أخذ الله عليهم في التوراة والإيمان به وتصديقه واتباعه وبين لهم صفته، كان ذلك منهم نبذاً للتوراة ونقضاً لها ورفضاً لما فيها، ويجوز أن يراد بالكتاب هنا القرآن: أي لما جاءهم رسول الله من عند الله مصدق لما معهم من التوراة نبذوا كتاب الله الذي جاء به هذا الرسول، وهذا أظهر من الوجه الأول. وقوله: "كأنهم لا يعلمون" تشبيه لهم بمن لا يعلم شيئاً مع كونهم يعلمون علماً يقيناً من التوراة بما يجب عليهم من الإيمان بهذا النبي، ولكنهم لما لم يعلموا بالعلم بل عملوا عمل من لا يعلم من نبذ كتاب الله وراء ظهورهم كانوا بمنزلة من لا يعلم.

وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّ

قوله: 102- "واتبعوا ما تتلوا الشياطين" معطوف على قوله: نبذوا أي نبذوا كتاب الله واتبعوا ما تتلوا الشياطين من السحر ونحوه. قال الطبري: اتبعوا بمعنى فعلوا. ومعنى تتلوا تتقوله وتقرأه و"على ملك سليمان" على عهد ملك سليمان، قاله الزجاج، وقيل: المعنى في ملك سليمان: يعني في قصصه وصفاته وأخباره. قال الفراء: تصلح على وفي في هذا الموضع، والأول أظهر. وقد كانوا يظنون أن هذا هو علم سليمان وأنه يستجيزه ويقول به، فرد الله ذلك عليهم وقال: "وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا" ولم يتقدم أن أحداً نسب سليمان إلى الكفر، ولكن لما نسبته اليهود إلى السحر صاروا بمنزلة من نسبه الكفر لأن السحر يوجب ذلك، ولهذا أثبت الله سبحانه كفر الشياطين فقال: "ولكن الشياطين كفروا" أي بتعليمهم. وقوله: "يعلمون الناس السحر" في محل نصب على الحال، ويجوز أن يكون في محل رفع على أنه خبر بعد خبر. وقرأ ابن عامر والكوفيون سوى عاصم "ولكن الشياطين" بتخفيف لكن ورفع الشياطين، والباقون بالتشديد والنصب. والسحر: هو ما يفعله الساحر من الحيل والتخييلات التي تحصل بسببها للمسحور ما يحصل من الخواطر الفاسدة الشبيهة بما يقع لمن يرى السراب فيظنه ماء، وما يظنه راكب السفينة أو الدابة من أن الجبال تسير، وهو مشتق من سحرت الصبي إذا خدعته، وقيل: أصله الخفاء، فإن الساحر يفعله خفية، وقيل: أصله الصرف لأن السحر مصروف عن جهته، وقيل: أصله الاستمالة لأن من سحرك فقد استمالك. وقال الجوهري: السحر الأخذة، وكل ما لطف ودق فهو سحر. وقد سحره يسحره سحراً، والساحر: العالم، وسحره أيضاً بمعنى خدعه. وقد اختلف هل له حقيقة أم لا؟ فذهبت المعتزلة وأبو حنيفة إلى أنه [خداع] لا أصل له ولا حقيقة. وذهب من عداهم إلى أن له حقيقة مؤثرة. وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم سحر، سحره لبيد بن الأعصم اليهودي حتى كان يخيل إليه أنه يأتي الشيء ولم يكن قد أتاه ثم شفاه الله سبحانه، والكلام في ذلك يطول. وقوله: "وما أنزل على الملكين" أي ويعلمون الناس ما أنزل على الملكين فهو معطوف على السحر، وقيل: هو معطوف على قوله: ما تتلوا الشياطين أي واتبعوا ما أنزل الله على الملكين. وقيل: إن ما في قوله: "وما أنزل على الملكين" نافية، والواو عاطفة على قوله: وما كفر سليمان وفي الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: وما كفر سليمان وما أنزل على الملكين ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت فهاروت وماروت بدل من الشياطين في قوله: "ولكن الشياطين كفروا" ذكر هذا ابن جرير وقال: فإن قال لنا قائل: وكيف وجه تقديم ذلك؟ قيل: وجه تقديمه أن يقال: واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان وما أنزل الله على الملكين ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل وهاروت وماروت، فيكون منيعاً بالملكين جبريل وميكائيل، لأن سحرة اليهود فيما ذكر كانت تزعم أن الله أنزل السحر على لسان جبريل وميكائيل إلى سليمان بن داود، فأكذبهم الله بذلك وأخبر نبيه صلى الله عليه وسلم أن جبريل وميكائيل لم ينزلا بسحر، وبرأ سليمان مما نحلوه من السحر، وأخبرهم أن السحر من عمل الشياطين، وأنها تعلم الناس ذلك ببابل، وأن الذين يعلمونهم ذلك رجلان أحدهما هاروت والآخر ماروت فيكون هاروت وماروت على هذا التأويل ترجمة عن الناس ورداً عليهم. انتهى. وقال القرطبي في تفسيره بعد أن حكى معنى هذا الكلام ورجح أن هاروت وماروت بدل من الشياطين ما لفظه: هذا أولى ما حملت عليه الآية وأصح ما قيل فيها ولا يلتفت إلى سواه، فالسحر من استخراج الشياطين للطافة جوهرهم ودقة أفهامهم، وأكثر ما يتعاطاه من الإنس النساء وخاصة في حال طمثهن، قال الله: "ومن شر النفاثات في العقد" ثم قال: إن قيل كيف يكون اثنان بدلاً من جمع والبدل إنما يكون على حد المبدل؟ ثم أجاب عن ذلك بأن الاثنين قد يطلق عليهما الجمع، أو أنهما خصا بالذكر دون غيرهما لتمردهما، ويؤيد هذا أنه قرأ ابن عباس والضحاك والحسن الملكين بكسر اللام، ولعل وجه الجزم بهذا التأويل مع بعده وظهور تكلفه تنزيه الله سبحانه أن ينزل السحر إلى أرضه فتنه لعباده على ألسن ملائكته. وعندي أنه لا موجب لهذا التعسف المخالف لما هو الظاهر، فإن الله سبحانه أن يمتحن عباده بما شاء كما امتحن بنهر طالوت، ولهذا يقول الملكان: "إنما نحن فتنة" قال ابن جرير: وذهب كثير من السلف إلى أنهما كانا ملكين من السماء، وأنهما أنزلا إلى الأرض فكان من أمرهما ما كان وبابل قيل: هي العراق، وقيل: نهاوند، وقيل: نصيبين، وقيل: المغرب. وهاروت وماروت اسمان أعجميان لا ينصرفان. وقوله: "وما يعلمان من أحد حتى يقولا" قال الزجاج: تعليم إنذار من السحر لا تعليم دعاء إليه، قال: وهو الذي عليه أكثر أهل اللغة والنظر، ومعناه: أنهما يعلمان على النهي فيقولان لهم: لا تفعلوا كذا، و"من" في قوله: "من أحد" زائدة للتوكيد، وقد قيل: إن قوله: يعلمان من الإعلام لا من التعليم، وقد جاء في كلام العرب تعلم بمعنى أعلم كما حكاه ابن الأنباري وابن الأعرابي، وهو كثير في أشعارهم كقول كعب بن مالك: تعلم رسول الله أنك مدركي وأن وعيداً منك كالأخذ باليد وقال القطامي: تعلم أن بعد الغي رشدا وأن لذلك الغي انقشاعا وقوله: "إنما نحن فتنة" هو على ظاهره. أي إنما نحن ابتلاء واختبار من الله لعباده، وقيل: إنه استهزاءً منهما لأنهما إنما يقولانه لمن قد تحققا ضلاله وفي قولهما: "فلا تكفر" أبلغ إنذار وأعظم تحذير: أي أن هذا ذنب يكون من فعله كافراً فلا تكفر، وفيه دليل على أن تعلم السحر كفر وظاهره عدم الفرق بين المعتقد وغير المعتقد، وبين من تعلمه ليكون ساحراً ومن تعلمه ليقدر على دفعه. وقوله: "فيتعلمون" فيه ضمير يرجع إلى قوله: "من أحد" قال سيبويه: التقدير فهم يتعلمون، قال: ومثله "كن فيكون" وقيل: هو معطوف على موضع ما يعلمان، لأنه وإن كان منفياً فهو يتضمن الإيجاب. وقال الفراء: هي مردودة على قوله: "يعلمون الناس السحر" أي يعلمون الناس فيتعلمون وقوله: "ما يفرقون به بين المرء وزوجه" في إسناد التفريق إلى السحرة وجعل السحر سبباً لذلك دليل على ان للسحر تأثيراً في القلوب بالحب والبغض والجمع والفرقة والقرب والبعد. وقد ذهبت طائفة من العلماء إلى إن الساحر لا يقدر على أكثر مما أخبر الله به من التفرقة، لأن الله ذكر ذلك في معرض الذم للسحر وبين ما هو الغاية في تعليمه، فلو كان يقدر على أكثر من ذلك لذكره. وقالت طائفة أخرى: إن ذلك خرج مخرج الأغلب، وأن الساحر يقدر على غير ذلك المنصوص عليه، وقيل: ليس للسحر تأثير في نفسه أصلاً لقوله تعالى: "وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله" والحق أنه لا تنافي بين قوله: "فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه" وبين قوله: " وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله " فإن المستفاد من جميع ذلك أن للسحر تأثيراً في نفسه، ولكنه لا يؤثر ضرراً إلا فيمن أذن الله بتأثيره فيه. وقد أجمع أهل العلم على أن له تأثيراً في نفسه وحقيقة ثابتة، ولم يخالف في ذلك إلا المعتزلة وأبو حنيفة كما تقدم، وقوله: "ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم" فيه تصريح بأن السحر لا يعود على صاحبه بفائدة ولا يجلب إليه منفعة بل هو ضرر محض وخسران بحت، واللام في قوله: "ولقد" جواب قسم محذوف، وفي قوله: "لمن اشتراه" للتأكيد ومن موصولة وهي في محل رفع على الابتداء، والخبر قوله: "ما له في الآخرة من خلاق" وقال الفراء: إنها شرطية للمجازاة. وقال الزجاج: ليس هذا بموضع شرط، ورجح أنها موصولة كما ذركنا. والمراد بالشراء هنا الاستبدال أي من استبدل ما تتلوا الشياطين على كتاب الله. والخلاق: النصيب عند أهل اللغة، كذا قال الزجاج. والمراد بقوله: "ما شروا به أنفسهم" أي باعوها. وقد أثبت لهم العلم في قوله: "ولقد علموا" ونفاه عنهم في قوله: "لو كانوا يعلمون" واختلفوا في توجيه ذلك فقال قطرب والأخفش: إن المراد بقوله: "ولقد علموا" الشياطين، والمراد بقوله: "لو كانوا يعلمون" الإنس. وقال الزجاج: إن الأول للملكين وإن كان بصيغة الجمع فهو مثل قولهم: الزيدان قاموا. والثاني المراد به علماء اليهود، وإنما قال: "لو كانوا يعلمون" لأنهم تركوا العمل بعلمهم.

وَلَوْ أَنَّهُمْ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ

وقوله: 103- "ولو أنهم آمنوا" أي بالنبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به من القرآن "واتقوا" ما وقعوا فيه من السحر والكفر، واللام في قوله: "لمثوبة" جواب لو، والمثوبة: الثواب. وقال الأخفش: إن الجواب محذوف والتقدير ولو أنهم آمنوا واتقوا لأثيبوا، فحذف لدلالة قوله: لمثوبة عليه وقوله: "لو كانوا يعلمون" هو إما للدلالة على أنه لا علم لهم، أو لتنزيل علمهم مع عدم العمل منزلة العدم. وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس "قال ابن صوريا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد ما جئتنا بشيء يعرف، وما أنزل الله عليك من آية بينة، فأنزل الله تعالى في ذلك: "ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون"" وقال مالك بن الصيف حين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكرهم ما أخذ عليهم من الميثاق وما عهد إليهم في محمد: والله ما عهد إلينا في محمد ولا أخذ علينا شيئاً، فأنزل الله "أو كلما عاهدوا" الآية. وأخرج ابن جرير عنه في قوله: "آيات بينات" يقول: فأنت تتلوه عليهم وتخبرهم به غدوة وعشية وبين ذلك، وأنت عندهم أمي لم تقرأ الكتاب، وأنت تخبرهم بما في أيديهم على وجهه، ففي ذلك عبرة لهم وحجة عليهم "لو كانوا يعلمون". وأخرج ابن جرير عن قتادة في قوله: "نبذه" قال: نقضه. وأخرج أيضاً عن السدي في قوله: "مصدقاً لما معهم" قال: لما جاءهم محمد عارضوه بالتوراة، واتفقت التوراة والقرآن فنبذوا التوراة وأخذوا بكتاب آصف وسحر هاروت وماروت، كأنهم لا يعلمون بما في التوراة من الأمر باتباع محمد صلى الله عليه وسلم وتصديقه. وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن عباس قال: إن الشياطين كانوا يسترقون السمع من السماء، فإذا سمع أحدهم بكلمة حق كذب معها ألف كذبة، فأشربتها قلوب الناس واتخذوها دواوين، فأطلع الله على ذلك سليمان بن داود، فأخذها فدفنها تحت الكرسي، فلما مات سليمان قام شيطان بالطريق فقال: ألا أدلكم على كنز سليمان الذي لا كنز لأحد مثل كنزه الممنع؟ قالوا: نعم، فأخرجوه فإذا هو سحر، فتناسختها الأمم. وأنزل الله عذر سليمان فيما قالوا من السحر فقال "واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان" الآية. وأخرج النسائي وابن أبي حاتم عنه قال: كان آصف كاتب سليمان، وكان يعلم الاسم الأعظم، وكان يكتب كل شيء بأمر سليمان ويدفنه تحت كرسيه، فلما مات سليمان أخرجته الشياطين، فكتبوا بين كل سطرين سحراً وكفراً، وقالوا: هذا الذي كان سليمان أخرجته الشياطين، فكتبوا بين كل سطرين سحراً وكفراً، وقالوا: هذا الذي كان سليمان يعمل بها، فأكفره جهال الناس وسبوه ووقف علماؤهم، فلم يزل جهالهم يسبونه حتى أنزل الله على محمد "واتبعوا ما تتلوا الشياطين" الآية. وأخرج ابن جرير عنه قال: كان سليمان إذا أراد أن يدخل الخلاء أو يأتي شيئاً من شأنه أعطى الجرادة وهي امرأته خاتمه، فلما أراد الله أن يبتلي سليمان بالذي ابتلاه به أعطى الجرادة ذات يوم خاتمه، فجاء الشيطان في صورة سليمان فقال لها: هاتي خاتمي، فأخذه فلبسه، فلما لبسه دانت له الشياطين والجن والإنس، فجاء سليمان فقال: هاتي خاتمي، فقالت: كذبت لست سليمان، فعرف أنه بلاء ابتلي به، فانطلقت الشياطين فكتبت في تلك الأيام كتباً فيها سحر وكفر، ثم دفنوها تحت كرسي سليمان، ثم أخرجوها فقرأوها على الناس وقالوا: إنما كان سليمان يغلب الناس بهذه الكتب، فبرئ الناس من سليمان وأكفروه حتى بعث الله محمداً وأنزل عليه "وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا" وأخرج ابن جرير عنه في قوله: "وما تتلوا" قال: ما تتبع. وأخرج أيضاً عن عطاء في قوله: "ما تتلوا" قال: نراه ما تحدث. وأخرج أيضاً عن ابن جريج في قوله: "على ملك سليمان" يقول: في ملك سليمان. وأخرج أيضاً عن السدي في قوله: "وما أنزل على الملكين" قال: هذا سحر آخر خاصموه به، فإن كلام الملائكة فيما بينهم إذا علمته الإنس فصنع وعمل به كان سحراً. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وما أنزل على الملكين" قال: لم ينزل الله السحر. وأخرج ابن أبي حاتم عن علي قال: هما ملكان من ملائكة السماء. وأخرج نحوه ابن مردويه من وجه آخر عنه مرفوعاً. وأخرج البخاري في تاريخه وابن المنذر عن ابن عباس "وما أنزل على الملكين" يعني جبريل وميكائيل "ببابل هاروت وماروت" يعلمان الناس السحر. وأخرج ابن أبي حاتم عن عبد الرحمن بن البزي أنه كان يقرأنها: وما أنزل على الملكين داود وسليمان. وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك قال: هما علجان من أهل بابل: وأخرج البيهقي في شعب الإيمان من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أشرفت الملائكة على الدنيا، فرأت بني آدم يعصون، فقالت: يا رب ما أجهل هؤلاء، ما أقل معرفة هؤلاء بعظمتك، فقال الله: لو كنتم في محلاتهم لعصيتموني، قالوا: كيف يكون هذا ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك؟ قال: فاختاروا منكم ملكين، فاختاروا هاروت وماروت، ثم أهبطا إلى الأرض وركبت فيهما شهوات بني آدم، ومثلت لهما امرأة فما عصما حتى واقعا المعصية، فقال الله: اختارا عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة، فنظر أحدهما لصاحبه قال: ما تقول؟ قال: أقول إن عذاب الدنيا ينقطع وإن عذاب الآخرة لا ينقطع، فاختارا عذاب الدنيا، فهما اللذان ذكر الله في كتابه: "وما أنزل على الملكين"" الآية. وأخرج الحاكم وصححه عن ابن عمر أنه كان يقول: أطلعت الحمراء بعد فإذا رآها قال: لا مرحباً، ثم قال: إن ملكين من الملائكة هاروت وماروت سألا الله أن يهبطهما إلى الأرض، فأهبطا إلى الأرض فكانا يقضيان بين الناس، فإذا أمسيا تكلما بكلمات فعرجا بها إلى السماء، فقيض لهما امرأة من أحسن النساء وألقيت عليهما الشهوة فجعلا يؤخرانها وألقيت في أنفسهما، فلم يزالا يفعلان حتى وعدتهما ميعاداً، فأتتهما للميعاد فقالت: علماني الكلمة التي تعرجان بها، فعلماها الكلمة فتكلمت بها فعرجب إلى السماء فمسخت فجعلت كما ترون، فلما أمسيا تكلما بالكلمة فلم يعرجا، فبعث إليهما: إن شئتما فعذاب الآخرة وإن شئتما فعذاب الدنيا إلى أن تقوم الساعة على أن تلقيا الله، فإن شاء عذبكما وإن شاء رحمكما، فنظر أحدهما إلى صاحبه فقال: بل نختار عذاب الدنيا ألف ألف ضعف، فهما يعذبان إلى يوم القيامة. وقد رويت هذه القصة عن ابن عمر بألفاظ، وفي بعضهما أنه يروي ذلك ابن عمر عن كعب الأحبار، كما أخرجه عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب من طريق الثوري عن موسى بن عقبة عن سالم عن ابن عمر عن كعب قال: ذكرت الملائكة أعمال بني آدم وما يأتون من الذنوب، فقيل: لو كنتم مكانكم لأتيتم مثل ما يأتون، فاختاروا منكم اثنين، فاختاروا هاروت وماروت، فقال لهما: إني أرسل إلى بني آدم رسلاً فليس بيني وبينكم رسول، إنزلا لا تشركا بي شيئاً ولا تزنيا ولا تشربا الخمر، قال كعب: فوالله ما أمسيا من يومهما الذي أهبطا فيه حتى استعملا جميع ما نهيا عنه. قال ابن كثير: وهذا أصح، يعني من الإسنادين اللذين ذكرهما قبله. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ في العظمة والحاكم وصححه عن علي بن أبي طالب قال: إن هذه الزهرة تسميها العرب الزهرة، والعجم أناهيد، وذكر نحو الرواية السابقة عن ابن عمر عند الحاكم. قال ابن كثير: وهذا الإسناد رجاله ثقات وهو غريب جداً. وقد أخرج عبد بن حميد والحاكم وصححه عن ابن عباس قال: كانت الزهرة امراة. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عنه: أن المرأة التي فتن بها الملكان مسخت، فهي هذه الكوكبة الحمراء: يعني الزهرة. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عنه فذكر قصة طويلة، وفيها التصريح بأن الملكين شربا الخمر وزنيا بالمرأة وقتلاها. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود وابن عباس هذه القصة وقالا: إنها أنزلت إليهما الزهرة في صورة امرأة وأنهما وقعا في الخطيئة. وقد روي في هذا الباب قصص طويلة وروايات مختلفة استوفاها السيوطي في الدر المنثور، وذكر ابن كثير في تفسيره بعضها ثم قال: وقد روي في قصة هاروت وماروت عن جماعة من التابعين كمجاهد والسدي والحسن البصري وقتادة وأبي العالية والزهري والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان وغيرهم وقصها خلق من المفسرين من المتقدمين والمتأخرين. وحاصلها راجع في تفصيلها إلى أخبار بني إسرائيل، إذ ليس فيها حديث مرفوع صحيح متصل الإسناد إلى الصادق المصدوق المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى وظاهر سياق القرآن إجمال القصة من غير بسط ولا إطناب فيها، فنحن نؤمن بما ورد في القرآن على ما أراده الله تعالى، والله أعلم بحقيقة الحال انتهى. وقال القرطبي: بعد سياق بعض ذلك: قلنا هذا كله ضعيف وبعيد عن ابن عمر وغيره لا يصح منه شيء، فإنه قول تدفعه الأصول في الملائكة الذين هم أمناء الله على وحيه وسفراؤه إلى رسله لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، ثم ذكر ما معناه: أن العقل يجوز وقوع ذلك منهم، لكن وقوع هذا الجائز لا يدرى إلا بالسمع ولم يصح انتهى. وأقول هذا مجرد استبعاد. وقد ورد الكتاب العزيز في هذا الموضع بما تراه، ولا وجه لإخراجه عن ظاهره بهذه التكلفات، وما ذكره من أن الأصول تدفع ذلك، فعلى فرض وجود هذه الأصول فهي مخصصة بما وقع في هذه القصة ولا وجه لمنع التخصيص، وقد كان إبليس يملك المنزلة العظيمة وصار أشر البرية وأكفر العالمين. وأخرج ابن جرير عن قتادة في قوله: "إنما نحن فتنة" قال: بلاء. وأخرج البزار بإسناد صحيح والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال: "من أتى كاهناً أو ساحراً وصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد". وأخرج البزار عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله: "من تطير أو تطير له، أو تكهن أو تكهن له، أو سحر أو سحر له، ومن عقد عقدة، ومن أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد". وأخرج عبد الرزاق عن صفوان بن سليم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تعلم شيئاً من السحر قليلاً أو كثيراً كان آخر عهده من الله". وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: "من خلاق" قال: قوام. وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال: "من خلاق" من نصيب، وكذا روى ابن جرير عن مجاهد. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن الحسن: "ما له في الآخرة من خلاق" قال: ليس له دين. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي في قوله: "ولبئس ما شروا به" قال: باعوا. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن قتادة في قوله: "لمثوبة" قال: ثواب.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ

قوله: 104- "راعنا" أي راقبنا واحفظنا وصيغة المفاعلة تدل على معنى: "راعنا" ارعنا ونرعاك واحفظنا ونحفظك وارقبنا ونرقبك، ويجوز أن يكون من أرعنا سمعك: أي فرغه لكلامنا، وجه النهي عن ذلك أن هذا اللفظ كان بلسان اليهود سباً، قيل: إنه في لغتهم بمعنى اسمع لا سمعت، وقيل: غير ذلك، فلما سمعوا المسلمين يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم راعنا طلباً منه أن يراعيهم من المراعاة اغتنموا الفرصة، وكانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم كذلك مظهرين أنهم يريدون المعنى العربي، مبطنين أنهم يقصدون السب الذي هو معنى هذا اللفظ في لغتهم وفي ذلك دليل على أنه ينبغي تجنب الألفاظ المحتملة للسب والنقص وإن لم يقصد المتكلم بها ذلك المعنى المفيد للشتم سداً للذريعة ودفعاً للوسيلة وقطعاً لمادة المفسدة والتطرق إليه، ثم أمرهم الله بأن يخاطبوا النبي صلى الله عليه وسلم بما لا يحتمل النقص ولا يصلح للتعريض فقال: "وقولوا انظرنا" أي أقبل علينا وانظر إلينا، فهو من باب الحذف والإيصال، كما قال الشاعر: ظاهرات الجمال والحسن ينظر ن كما ينظر الأراك الظباء أي إلى الأراك وقيل: معناه انتظرنا وتأن بنا، ومنه قول الشاعر: فإنكما إن تنظراني ساعة من الدهر تنفعني لدى أم جندب وقرأ الأعمش: " أنظرني " بقطع الهمزة وكسر الظاء بمعنى أخرنا وأمهلنا حتى نفهم عنك، ومنه قول الشاعر: أبا هند فلا تعجل علينا وأنظرنا نخبرك اليقينا وقرأ الحسن: "راعنا" بالتنوين، وقال: الراعن من القول السخري منه انتهى. وأمرهم بعد هذا النهي والأمر بأمر آخر وهو قوله: "واسمعوا" أي اسمعوا ما أمرتم به ونهيتم عنه، ومعناه: أطيعوا الله في ترك خطاب النبي صلى الله عليه وسلم بذلك اللفظ وخاطبوه بما أمرتم به، ويحتمل أن يكون معناه: اسمعوا ما يخاطبكم به الرسول من الشرع حتى يحصل لكم المطلوب بدون طلب للمراعاة، ثم توعد اليهود بقوله: "وللكافرين عذاب أليم" ويحتمل أن يكون وعيداً شاملاً لجنس الكفرة. قال ابن جرير: والصواب من القول عندنا في ذلك أن الله نهى المؤمنين أن يقولوا لنبيه صلى الله عليه وسلم: "راعنا" لأنها كلمة كرهها الله أن يقولوها لنبيه صلى الله عليه وسلم نظير الذي ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تقولوا للعنب الكرم ولكن قولوا الحبلة، ولا تقولوا عبدي ولكن قولوا فتاي" وما أشبه ذلك.

مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ

وقوله: 105- "ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب" الآية، فيه بيان شدة عداوة الكفار للمسلمين حيث لا يودون إنزال الخير عليهم من الله سبحانه، ثم رد الله سبحانه ذلك عليهم فقال: "والله يختص برحمته من يشاء" الآية. وقوله: "أن ينزل" في محل نصب على المفعولية، ومن في قوله: "من خير" زائدة، قاله النحاس، وفي الكشاف أن من في قوله: "من أهل الكتاب" بيانية، وفي قوله: "من خير" مزيدة لاستغراق الخير، وفي قوله: "من ربكم" لابتداء الغاية، وقد قيل بأن الخير الوحي، وقيل غير ذلك، والظاهر أنهم لا يودون أن ينزل على المسلمين أي خير كان، فهو لا يختص بنوع معين كما يفيده وقوع هذه الفكرة في سياق النفي وتأكيد العموم بدخول من المزيدة عليها، وإن كان بعض أنواع الخير أعظم من بعض فذلك لا يوجب التخصيص. والرحمة قيل: هي القرآن، وقيل: النبوة، وقيل: جنس الرحمة من غير تعيين كما يفيد ذلك الإضافة إلى ضميره تعالى: "والله ذو الفضل العظيم" أي صاحب الفضل العظيم فكيف لا تودون أن يختص برحمته من يشاء من عباده. وقد أخرج سعيد بن منصور في سننه وأحمد في الزهد وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود: أن رجلاً أتاه فقال: اعهد إلي فقال: إذا سمعت الله يقول: "يا أيها الذين آمنوا" فاوعها سمعك، فإنه خير يأمر به أو شر ينهى عنه. وأخرج أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس قال: "راعنا" بلسان اليهود: السب القبيح، وكان اليهود يقولون ذلك لرسول الله سراً، فلما سمعوا أصحابه يقولون ذلك أعلنوا عنها، فكانوا يقولون ذلك ويضحكون فيما بينهم، فأنزل الله الآية. وأخرج أبو نعيم في الدلائل عنه أنه قال المؤمنون بعد هذه الآية من سمعتموه يقولها فاضربوا عنقه، فانتهت اليهود بعد ذلك. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن السدي قال: كان رجلان من اليهود: مالك بن الصيف ورفاعة بن زيد إذا لقيا النبي صلى الله عليه وسلم قالا له وهما يكلمانه: راعنا سمعك واسمع غير مسمع، فظن المسلمون أن هذا شيء كان أهل الكتاب يعظمون به أنبياءهم، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: فأنزل الله الآية. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي صخر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أدبر ناداه من كانت له حجة من المؤمنين فقالوا: ارعنا سمعك، فأعظم الله رسوله أن يقال له ذلك، وأمرهم أن يقولوا: "انظرنا" ليعززوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ويوقروه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وأبو نعيم عن قتادة: أن اليهود كانت تقول ذلك استهزاءً، فكره الله للمؤمنين أن يقولوا كقولهم: وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قال: الرحمة القرآن والإسلام.

مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ

النسخ في كلام العرب على وجهين: أحدهما النقل كنقل كتاب من آخر، وعلى هذا يكون القرآن كله منسوخاً: أعني من اللوح المحفوظ، فلا مدخل لهذا المعنى في هذه الآية، ومنه "إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون" أي نأمر بنسخه. الوجه الثاني الإبطال والإزالة، وهو المقصود هنا. وهذا الوجه الثاني ينقسم إلى قسمين عند أهل اللغة: أحدهما إبطال الشيء وزواله وإقامة آخر مقامه، ومنه نسخت الشمس الظل إذا أذهبته وحلت محله، وهو معنى قوله: 106- "ما ننسخ من آية" وفي صحيح مسلم "لم تكن نبوة قط إلا تناسخت" أي تحولت من حال إلى حال. والثاني إزالة الشيء دون أن يقوم مقامه آخر كقولهم: نسخت الريح الأثر، ومن هذا المعنى "فينسخ الله ما يلقي الشيطان" أي يزيله. وروي عن أبي عبيد أن هذا قد كان يقع في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت تنزل عليه السورة فترفع فلا تتلى ولا تكتب. ومنه ما روي عن أبي وعائشة أن سروة الأحزاب كانت تعدل سورة البقرة في الطول. قال ابن فارس: النسخ نسخ الكتاب، والنسخ أن تزيل أمراً كان من قبل يعمل به ثم تنسخه بحادث غيره، كالآية تنزل بأمر ثم تنسخ بأخرى، وكل شيء خلف شيئاً فقد انتسخه، يقال: نسخت الشمس الظل، والشيب الشباب، وتناسخ الورثة أن يموت ورثة بعد ورثة، وأصل الميراث قائم، وكذا تناسخ الأزمنة والقرون. وقال ابن جرير: "ما ننسخ" ما ننقل من حكم آية إلى غيره فنبدله ونغيره، وذلك أن نحول الحلال حراماً، والحرام حلالاً، والمباح محظوراً، والمحظور مباحاً، ولا يكون ذلك إلا في الأمر والنهي والحظر والإطلاق والمنع والإباحة فأما الأخبار فلا يكون فيها ناسخ ولا منسوخ، وأصل النسخ من نسخ الكتاب، وهو نقله من نسخة إلى أخرى، فكذلك معنى نسخ الحكم إلى غيره إنما هو تحويله إلى غيره، وسواء نسخ حكمها أو خطها، إذ هي كلتي حالتيها منسوخة انتهى. وقد جعل علماء الأصول مباحث النسخ من جملة مقاصد ذلك الفن فلا نطول بذكره، بل نحيل من أراد الاستشفاء عليه. وقد اتفق أهل الإسلام على ثبوته سلفاً وخلفاً، ولم يخالف في ذلك أحد إلا من لا يعتد بخلافه ولا يؤبه لقوله. وقد اشتهر عن اليهود، أقماهم الله، إنكاره، وهم محجوجون بما في التوراة أن الله قال لنوح عليه السلام عند خروجه من السفينة: إني قد جعلت كل دابة مأكلاً لك ولذريتك، وأطلقت ذلك لكم كنبات العشب ما خلا الدم فلا تأكلوه، ثم قد حرم على موسى وعلى بني إسرائيل كثيراً من الحيوان. وثبت في التوراة أن آدم كان يزوج الأخ من الأخت، وقد حرم الله ذلك على موسى عليه السلام وعلى غيره. وثبت فيها أن إبراهيم عليه السلام أمر بذبح ابنه، ثم قال الله له: لا تذبحه، وبأن موسى أمر بني إسرائيل أن يقتلوا من عبد منهم العجل، ثم أمرهم برفع السيف عنهم، ونحو هذا كثير في التوراة الموجودة بأيديهم. وقوله: "أو ننسها" قرأ أبو عمرو وابن كثير بفتح النون والسين والهمز، وبه قرأ عمر وابن عباس وعطاء ومجاهد وأبي بن كعب وعبيد بن عمير والنخعي وابن محيصن ومعنى هذه القراءة نؤخرها عن النسخ من قولهم: نسأت هذا الأمر إذا أخرته. قال ابن فارس: ويقولون نسأ الله في أجلك وأنسأ الله أجلك. وقد انتسأ القوم إذا تأخروا وتباعدوا، ونسأتهم أنا أخرتهم، وقيل: معناه نؤخر نسخ لفظها: أي نتركه في أم الكتاب فلا يكون. وقيل: نذهبها عنكم حتى لا تقرأ ولا تذكر. وقرأ الباقون: "ننسها" بضم النون من النسيان الذي بمعنى الترك: أي نتركها فلا نبدلها ولا ننسخها، ومنه قوله تعالى: "نسوا الله فنسيهم" أي: تركوا عبادته فتركهم في العذاب. واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم. وحكى الأزهري أن معناه نأمر بتركها يقال: أنسيته الشيء: أي أمرته بتركه، ونسيته تركته، ومنه قول الشاعر: إن علي عقبة أقضيها لست بناسيها ولا منسيها أي ولا آمر بتركها. وقال الزجاج: إن القراءة بضم النون لا يتوجه فيها معنى الترك، لا يقال: أنسى بمعنى ترك، قال: وما روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: "أو ننسها" قالك نتركها لا نبدلها فلا يصح، والذي عليه أكثر أهل اللغة والنظر أن معنى "أو ننسها" نبح لكم تركها من نسي إذا ترك ثم تعديه. ومعنى: "نأت بخير منها أو مثلها" نأت بما هو أنفع للناس منها في العاجل والآجل، أو في أحدهما، أو بما هو مماثل لها من غير زيادة، ومرجع ذلك إلى إعمال النظر في المنسوخ والناسخ، فقد يكون الناسخ أخف فيكون أنفع لهم في العاجل، وقد يكون أثقل وثوابه أكثر فيكون أنفع لهم في الآجل، وقد يستويان فتحصل المماثلة.

أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ

وقوله: 107- "ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير" يفيد أن النسخ من مقدوراته، وأن إنكاره إنكار للقدرة الإلهية، وهكذا قوله: "ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض" أي له التصرف في السموات والأرض بالإيجاد والاختراع ونفوذ الأمر في جميع مخلوقاته، فهو أعلم بمصالح عباده وما فيه النفع لهم من أحكامه التي تعبدهم بها وشرعها لهم. وقد يختلف ذلك باختلاف الأحوال والأزمة والأشخاص وهذا صنع من لا ولي لهم. وقد يختلف ذلك باختلاف الأحوال والأزمنة والأشخاص التي تعبدهم بها وشرعها لهم. وقد يختلف ذلك باختلاف الأحوال والأزمنة والأشخاص وهذا صنع من لا ولي لهم غيره ولا نصير سواه، فعليهم أن يتلقوه بالقبول والامتثال والتعظيم والإجلال. وقد أخرج ابن أبي حاتم والحاكم في الكنى وابن عدي وابن عساكر عن ابن عباس قال: كان ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي بالليل وينساه بالنهار، فأنزل الله: " ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها " وفي إسناده الحجاج الجزري ينظر فيه. وأخرج الطبراني عن ابن عمر قال: "قرأ رجلان من الأنصار سورة أقرأهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يقرآن بها، فقاما يقرآن ذات ليلة يصليان فلم يقدرا منها على حرف فأصبحا غاديين على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنها مما نسخ أو نسي فالهوا عنها" وفي إسناده سليمان ابن الأرقم وهو ضعيف. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله: " ما ننسخ من آية أو ننسها " يقول: ما نبدل من آية أو نتركها لا نبدلها "نأت بخير منها أو مثلها" يقول: خير لكم في المنفعة وأرفق بكم. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أنه قال: " ننسها " نؤخرها. وأخرج أبو داود في ناسخه وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن مسعود في قوله: "ما ننسخ من آية" قال: نثبت خطها ونبدل حكمها " أو ننسها " قال: نؤخرها. وأخرج عبد بن حميد وأبو داود في ناسخه وابن جرير عن قتادة في قوله: "نأت بخير منها أو مثلها" يقول: فيها تخفيف فيها رخصة فيها أمر فيها نهي. وأخرج أبو داود في ناسخه وابن المنذر وابن الأنباري في المصاحف وأبو ذر الهروي في فضائله عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف: "أن رجلاً كانت معه سورة، فقام من الليل فقام بها فلم يقدر عليها، وقام آخر يقرأ بها فلم يقدر عليها، وقام آخر فلم يقدر عليها، فأصبحوا فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجتمعوا عنده فأخبروه، فقال: إنها نسخت البارحة" وقد روي نحوه عنه من وجه آخر. وقد ثبت في البخاري وغيره عن أنس أن الله أنزل في الذين قتلوا في بئر معونة (أن بلغوا قومنا أن قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا) ثم نسخ، وهكذا ثبت في مسلم وغيره عن أبي موسى قال: كنا نقرأ سورة نشبهها في الطول والشدة ببراءة فأنسيتها، غير أني حفظت منها ( لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى وادياً ثالثاً ولا يملأ جوفه إلا التراب) وكنا نقرأ سورة نشبهها بإحدى المسبحات، أولها: "سبح لله ما في السموات" فأنسيناها، غير أني حفظت منها " يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون "فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألوا عنها يوم القيامة وقد روي مثل هذا من طريق جماعة من الصحابة، ومنه آية الرجم كما رواه عبد الرزاق وأحمد وابن حبان عن عمر.

أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ

108- "أم" هذه هي المنقطعة التي بمعنى بل: أي بل تريدون، وفي هذا توبيخ وتقريع، والكاف في قوله: "كما سئل" في موضع نصب نعت لمصدر محذوف: أي سؤالاً مصل ما سئل موسى من قبل حيث سألوه أن يريهم الله جهرة، وسألوا محمداً صلى الله عليه وسلم أن يأتي الله والملائكة قبيلاً. وقوله: "سواء" هو الوسط من كل شيء قاله أبو عبيدة، ومنه قوله تعالى: "في سواء الجحيم" ومنه قول حسان يرثي النبي صلى الله عليه وسلم: يا ويح أصحاب النبي ورهطه بعد المغيب في سواء الملحد وقال الفراء: السواء القصد: أي ذهب عن قصد الطريق وسمعته: أي طريق طاعة الله.

وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْء

وقوله تعالى: 109- "ود كثير من أهل الكتاب" فيه إخبار المسلمين بحرص اليهود على فتنتهم وردهم عن الإسلام والتشكيك عليهم في دينهم. وقوله: "لو يردونكم" في محل نصب على أنه مفعول للفعل المذكور. وقوله: "من عند أنفسهم" يحتمل أن يتعلق بقوله "ود" أي ودوا ذلك من عند أنفسهم، ويحتمل أن يتعلق بقوله: "حسداً" أي حسداً ناشئاً من عند أنفسهم، وهو علة لقوله: "ود". والعفو: ترك المؤاخذة بالذنب. والصفح: إزالة أثره من النفس، صفحت عن فلان: إذا أعرضت عن ذنبه، وقد ضربت عنه صفحاً: إذا أعرضت عنه، وفيه الترغيب في ذلك والإرشاد إليه- وقد نسخ ذلك بالأمر بالقتال، قاله أبو عبيدة. وقوله: "حتى يأتي الله بأمره" هو غاية ما أمر الله سبحانه به من العفو والصفح: أي افعلوا ذلك إلى أن يأتي إليكم الأمر من الله سبحانه في شأنهم بما يختاره ويشاءه، وما قد قضى به في سابق عمله، وهو قتل من قتل منهم، وإجلاء من أجلي، وضرب الجزية على من ضربت عليه، وإسلام من أسلم.

وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ

وقوله: 110- "وأقيموا الصلاة" حث من الله سبحانه لهم على الاشتغال بما ينفعهم ويعود عليهم بالمصلحة، من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة. وتقديم الخير الذي يثابون عليه حتى يمكن الله لهم وينصرهم على المخالفين لهم. وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال: قال رافع بن حريملة ووهب بن زيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا محمد ائتنا بكتاب ينزل علينا من السماء نقرأه أو فجر لنا أنهاراً نتبعك ونصدقك، فأنزل الله في ذلك "أم تريدون أن تسألوا رسولكم" -إلى قوله- "سواء السبيل" وكان حيي بن أخطب من أشد اليهود حسداً للعرب إذ خصهم الله ورسوله، وكانا جاهدين في رد الناس عن الإسلام ما استطاعا، فأنزل الله فيهما "ود كثير من أهل الكتاب" الآية. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن السدي قال: سألت العرب محمداً صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بالله فيروه جهرة، فنزلت هذه الآية. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي العالية قال: قال رجل: لو كانت كفارتنا كفارات بني إسرائيل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أعطاكم الله خير، كانت بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم الخطيئة وجدها مكتوبة على بابه وكفارتها، فإن كفرها كانت له خزايا في الدنيا، وإن لم يكفرها كانت له خزايا في الآخرة. وقد أعطاكم الله خيراً من ذلك قال: "ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه" الآية، والصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة كفارات لما بينهن"، فأنزل الله: "أم تريدون أن تسألوا رسولكم" الآية. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: سألت قريش محمداً صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهباً، فقال: نعم، وهو لكم كالمائدة لبني إسرائيل إن كفرتم، فأبوا ورجعوا، فأنزل الله "أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل" أن يريهم الله جهرة. وأخرج ابن جرير عن أبي العالية في قوله: "ومن يتبدل الكفر بالإيمان" قال: يتبدل الشدة بالرخاء. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله: "فقد ضل سواء السبيل" قال: عدل عن السبيل. وأخرج أبو داود وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن كعب بن مالك قال: كان اليهود والمشركون من أهل المدينة يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أشد الأذى، فأمر الله بالصبر على ذلك والعفو عنهم، وأنزل الله "ود كثير من أهل الكتاب" وفي الصحيحين وغيرهما عن أسامة بن زيد قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله ويصبرون على الأذى، قال الله تعالى: "ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا " وقال : "ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم" الآية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأول في العفو ما أمره الله به حتى أذن الله فيهم بقتل، فقتل الله به من قتل من صناديد قريش. وأخرج ابن جرير عن الربيع بن أنس في قوله: "من عند أنفسهم" قال: من قبل أنفسهم "من بعد ما تبين لهم الحق" يقول: إن محمداً رسول الله. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة نحوه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس في قوله: "فاعفوا واصفحوا" وقوله: "وأعرض عن المشركين" نحو هذا في العفو عن المشركين قال: نسخ ذلك كله بقوله: "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله" الآية، وقوله: " فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ". وأخرج ابن جرير عن السدي نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: "وما تقدموا لأنفسكم من خير" يعني من الأعمال من الخير في الدنيا. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله: "تجدوه عند الله" قال: تجدوا ثوابه.

وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ

قوله: 111- "هوداً" قال الفراء: يجوز أن يكون هوداً بمعنى يهودياً، وأن يكون جمع هائد. وقال الأخفش: إن الضمير المفرد في كان هو باعتبار لفظ من، والجمع في قوله: هوداً باعتبار معنى من، قيل: في هذا الكلام حذف، وأصله: وقالت اليهود لن يدخل الجنة إلا من كان يهودياً، وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانياً. هكذا قال كثير من المفسرين، وسبقهم إلى ذلك بعض السلف. وظاهر النظم القرآني أن طائفتي اليهود والنصارى وقع منهم هذا القول وأنهم يختصون بذلك دون غيرهم، ووجه القول بأن في الكلام حذفاً ما هو معلوم من أن كل طائفة من هاتين الطائفتين تضلل الأخرى ولتنفي عنها أنها على شيء من الدين فضلاً عن دخول الجنة كما في هذا الموضع، فإنه قد حكى الله عن اليهود أنها قالت: ليست النصارى على شيء، وقالت: النصارى ليست اليهود على شيء والأماني قد تقدم تفسيرها، والإشارة بقوله تلك إلى ما تقدم لهم من الأماني التي آخرها أنه لا يدخل الجنة غيرهم. وقيل: إن الإشارة إلى هذه الأمنية الآخرة، والتقدير أمثال تلك الأمنية أمانيهم على حذف المضاف ليطابق أمانيهم، قوله: "هاتوا" أصله هاتيوا حذفت الضمة لثقلها ثم حذفت الياء لالتقاء الساكنين، ويقال للمفرد المذكر هات وللمؤنث هاتي، وهو صوت بمعنى أحضر. والبرهان: الدليل الذي يحصل عنده اليقين. قال ابن جرير: طلب الدليل هنا يقتضي إثبات النظر ويرد على من ينفيه. وقوله: "إن كنتم صادقين" أي في تلك الأماني المجردة والدعاوى الباطلة.

بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ

ثم رد عليهم فقال: 112- "بلى من أسلم" وهو إثبات لما نفوه من دخول غيرهم الجنة: أي ليس كما يقولون بل يدخلها من أسلم وجهه الله. ومعنى أسلم: استسلم، وقيل: أخلص. وخص الوجه بالذكر لكونه أشرف ما يرى من الإنسان ولأنه موضع الحواس الظاهرة، وفيه يظهر العز والذل، وقيل: إن العرب تخبر بالوجه عن جملة الشيء، وأن المعنى هنا الوجه وغيره، وقيل: والمراد بالوجه هنا المقصد: أي من أخلص مقصده وقوله: "وهو محسن" في محل نصب على الحال، والضمير في قوله: "وجهه"، "وله" باعتبار لفظ من، وفي قوله: "عليهم" باعتبار معناها. وقوله: "من" إن كانت الموصولة فهي فاعل لفعل محذوف أي بلى يدخلها من أسلم. وقوله: "فله" معطوف على من أسلم وإن كانت من شرطية فقوله: فله هو الجزاء، ومجموع الشرط والجزاء رد على أهل الكتاب وإبطال لتلك الدعوى.

وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا ك

وقوله: 113- "وقالت اليهود" وما بعده فيه أن كل طائفة تنفي الخير عن الأخرى ويتضمن ذلك إثباته لنفسها تحجراً لرحمة الله سبحانه. قال في الكشاف: إن الشيء هو الذي يصح ويعتد به، قال: وهذه مبالغة عظيمة لأن المحال والمعدوم يقع عليهما اسم الشيء، وإذا نفى إطلاق اسم الشيء عليه فقد بولغ في ترك الاعتداد به إلى ما ليس بعده، وهكذا قولهم أقل من لا شيء. وقوله: "وهم يتلون الكتاب" أي التوراة والإنجيل والجملة حالية، وقيل: المراد جنس الكتاب، وفي هذا أعظم توبيخ وأشد تقريع، لأن الوقوع في الدعاوى الباطلة والتكلم بما ليس عليه برهان هو وإن كان قبيحاً على الإطلاق لكنه من أهل العلم والدراسة لكتب الله أشد قبحاً وأفظع جرماً وأعظم ذنباً. وقوله: "كذلك قال الذين لا يعلمون" المراد بهم كفار العرب الذين لا كتاب لهم قالوا مثل مقالة اليهود اقتداءً بهم لأنهم جهلة لا يقدرون على غير التقليد لمن يعتقدون أنه من أهل العلم، وقيل: المراد بهم طائفة من اليهود والنصارى وهم الذين لا علم عندهم، ثم أخبرنا سبحانه بأنه المتولي لفصل هذه الخصومة التي وقع فيها الخلاف عند الرجوع إليه فيعذب من يستحق التعذيب وينجي من يستحق النجاة. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله: "وقالوا لن يدخل الجنة" الآية، قال: قالت اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان يهودياً، وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانياً "تلك أمانيهم" قال: أماني يتمنونها على الله بغير حق "قل هاتوا برهانكم" قال: حجتكم "إن كنتم صادقين" بما تقولونه أنه كما تقولون "بلى من أسلم وجهه لله" يقول: أخلص لله. وأخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله: "قل هاتوا برهانكم" قال: حجتكم. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: "بلى من أسلم وجهه" قال: أخلص دينه. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: لما قدم وفد نجران من النصارى على رسول الله صلى الله عليه وسلم أتتهم أحبار اليهود، فتنازعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رافع بن حريملة: ما أنتم على شيء وكفر بعيسى والإنجيل، فقال له رجل من أهل نجران: ما أنتم على شيء، وجحد نبوة موسى وكفر بالتوراة، قال: فأنزل الله في ذلك: "وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب" أي كل يتلو في كتابه تصديق من كفر به. وأخرج ابن جرير عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: من هؤلاء الذين لا يؤمنون؟ قال: هم أمم كانت قبل اليهود والنصارى. وأخرج ابن جرير عن السدي قال: هم العرب قالوا: ليس محمد على شيء.

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ

هذا الاستفهام فيه أبلغ دلالة على أن هذا الظلم متناه وأنه بمنزلة لا ينبغي أن يلحقه سائر أنواع الظلم: أي لا أحد أظلم ممن منع مساجد الله، واسم الاستفهام في محل رفع على الابتداء وأظلم خبره. وقوله: 114- "أن يذكر فيها اسمه" قيل: هو بدل من مساجد- وقيل: إنه مفعول له بتقدير كراهية أن يذكر، وقيل: إن التقدير من أن يذكر، ثم حذف حرف الجر لطول الكلام، وقيل: إنه مفعول ثان لقوله: "منع" والمراد بمنع المساجد أن يذكر فيها اسم الله منع من يأتي إليها للصلاة والتلاوة والذكر وتعليمه. والمراد بالسعي في خرابها: هو السعي في هدمها ورفع بنيانها ويجوز أن يراد بالخراب تعطيلها عن الطاعات التي وضعت لها فيكون أعم من قوله: "أن يذكر فيها اسمه" فيشمل جميع ما يمنع من الأمور التي بنيت لها المساجد كتعلم العلم وتعليمه، والقعود للإعتكاف، وانتظار الصلاة، ويجوز أن يراد ما هو أعم من الأمرين من باب عموم المجاز كما قيل في قوله تعالى: "إنما يعمر مساجد الله" وقوله: "ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين" أي: ما كان ينبغي لهم دخولها إلا حال خوفهم، وفيه إرشاد للعباد من الله عز وجل أنه ينبغي لهم أن يمنعوا مساجد الله من أهل الكفر من غير فرق بين مسجد ومسجد، وبين كافر وكافر، كما يفيده عموم اللفظ، ولا ينافيه خصوص السبب، وأن يجعلوهم بحالة إذا أرادوا الدخول كانوا على وجل وخوف من أن يفطن لهم أحد من المسلمين فينزلون بهم ما يوجب الإهانة والإذلال، وليس فيه الإذن لنا بتمكينهم من ذلك حال خوفهم، بل هو كناية عن المنع لهم منا عن دخول مساجدنا. والخزي: قيل: هو ضرب الجزية عليهم وإذلالهم، وقيل، غير ذلك، وقد تقدم تفسيره.

وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ

والمشرق: موضع الشروق. والمغرب: موضع الغروب، أي هما ملك الله وما بينهما من الجهات والمخلوقات فيشمل الأرض كلها. قوله: 115- "فأينما تولوا" أي أي جهة تستقبلونها فهناك وجه الله: أي المكان الذي يرتضي لكم استقباله، وذلك يكون عند التباس جهة القبلة التي أمرنا بالتوجه إليها بقوله سبحانه: "فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره" قال في الكشاف: والمعنى أنكم إذا منعتم أن تصلوا في المسجد الحرام: أي في بيت المقدس فقد جعلت لكم الأرض مسجداً، فصلوا في أي بقعة شئتم من بقاعها، وافعلوا التولية فيها، فإن التولية ممكنة في كل مكان لا تختص أماكنها في مسجد دون مسجد ولا في مكان دون مكان انتهى. وهذا التخصيص لا وجه له فإن اللفظ أوسع منه. وإن كان المقصود به بيان السبب فلا بأس. وقوله: "إن الله واسع عليم" فيه إرشاد إلى سعة رحمته. وأنه يوسع على عباده في دينهم ولا يكلفهم ما ليس في وسعهم، وقيل: واسع بمعنى أنه يسع علمه كل شيء كما قال: "وسع كل شيء علماً" وقال الفراء: الواسع الجواد الذي يسع عطاؤه كل شيء. وقد أخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم عن ابن عباس أن قريشاً منعوا النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة عند الكعبة في المسجد الحرام فأنزل الله: "ومن أظلم ممن منع مساجد الله". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه قال: هم النصارى. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن جرير عن السدي قال: هم الروم كانوا ظاهروا بختنصر على خراب بيت المقدس. وفي قوله: "أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين" قال: فليس في الأرض رومي يدخله اليوم إلا وهو خائف أن يضرب عنقه، وقد أخيف بأداء الجزية فهو يؤديها. وفي قوله: "لهم في الدنيا خزي" قال: أما خزيهم في الدنيا فإنه إذا قام المهدي وفتحت القسطنطينية قتلهم فذلك الخزي. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة أنهم الروم. وأخرج ابن جرير عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال: هم المشركون حين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البيت يوم الحديبية. وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي صالح قال: ليس للمشركين أن يدخلوا المسجد إلا خائفين. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن قتادة في قوله: "لهم في الدنيا خزي" قال: يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال: أول ما نسخ من القرآن فيما ذكر لنا والله أعلم شأن القبلة، قال الله تعالى: "ولله المشرق والمغرب" الآية، فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى نحو بيت المقدس وترك البيت العتيق، ثم صرفه الله إلى البيت العتيق ونسخها فقال: "ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام". وأخرج ابن المنذر عن ابن مسعود نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم عن ابن عمر قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على راحلته تطوعاً أينما توجهت به، ثم قرأ ابن عمر هذه الآية: "أينما تولوا فثم وجه الله" وقال: في هذا أنزلت هذه الآية. وأخرج نحوه عنه ابن جرير والدارقطني والحاكم وصححه. وقد ثبت في صحيح البخاري من حديث جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي على راحلته قبل المشرق، فإذا أراد أن يصلي المكتوبة نزل واستقبل القبلة وصلى. وروي نحوه من حديث أنس مرفوعاً. أخرجه ابن أبي شيبة وأبو داود. وأخرج عبد بن حميد والترمذي وضعفه وابن ماجه وابن جرير وغيرهم عن عامر بن ربيعة قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة سوداء مظلمة، فنزلنا منزلاً فجعل الرجل يأخذ الأحجار فيعمل مسجداً فيصلي فيه، فلما أن اصبحنا إذا نحن قد صلينا على غير القبلة، فقلنا: يا رسول الله لقد صلينا ليلتنا هذه لغير القبلة، فأنزل الله "ولله المشرق والمغرب" الآية، فقال: مضت صلاتكم. وأخرج الدارقطني وابن مردويه والبيهقي عن جابر مرفوعاً نحوه إلا أنه ذكر أنهم خطوا خطوطاً. وأخرج نحوه ابن مردويه بسند ضعيف عن ابن عباس مرفوعاً. وأخرج نحوه أيضاً سعيد بن منصور وابن المنذر عن عطاء يرفعه وهو مرسل. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس: "فثم وجه الله" قال: قبلة لله أينما توجهت شرقاً أو غرباً. وأخرج ابن أبي شيبة والترمذي وصححه وابن ماجه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما بين المشرق والمغرب قبلة" وأخرج ابن أبي شيبة والدارقطني والبيهقي عن ابن عمر مثله. وأخرج ابن أبي شيبة والبيهقي عن عمر نحوه.

وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ

قوله: 116- "وقالوا" هم اليهود والنصارى- وقيل اليهود: أي قالوا: "عزير ابن الله" وقيل النصارى: أي قالوا: "المسيح ابن الله" وقيل: هم كفار العرب: أي قالوا: الملائكة بنات الله. وقوله: "سبحانه" قد تقدم تفسيره، والمراد هنا تبرؤ الله تعالى عما نسبوه إليه من اتخاذ الولد. وقوله: "بل له ما في السموات والأرض" رد على القائلين بأنه اتخذ ولداً: أي بل هو مالك لما في السموات والأرض، وهؤلاء القائلون داخلون تحت ملكه، والولد من جنسهم لا من جنسه، ولا يكون الولد إلا من جنس الوالد. والقانت: المطيع الخاضع: أي كل من في السموات والأرض مطيعون له خاضعون لعظمته خاشعون لجلاله، والقنوت في أصل اللغة القيام. قال الزجاج: فالخلق قانتون أي قائمون بالعبودية إما إقراراً وإما أن يكونوا على خلاف ذلك، فأثر الصنعة بين عليهم، وقيل: أصله الطاعة، ومنه "والقانتين والقانتات" وقيل: السكون، ومنه قوله: "وقوموا لله قانتين" ولهذا قال زيد بن أرقم: كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت "وقوموا لله قانتين" فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام، وقيل القنوت: الصلاة، ومنه قول الشاعر: ‌قانتاً لله يتلو كتبه وعلى عمد من الناس اعتزل والأولى أن القنوت لفظ مشترك بين معان كثيرة، قيل: هي ثلاثة عشر معنى، وهي مبينة. وقد نظمها بعض أهل العلم كما أوضحت ذلك في شرحي على المنتقى.

بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ

وبديع: فعيل للمبالغة وهو خبر مبتدأ، محذوف: أي هو بديع سمواته وأرضه، أبدع الشيء: أنشأه لا عن مثال، وكل من أنشأ ما لم يسبق إليه قيل له مبدع. وقوله: 117- "وإذا قضى أمراً" أي أحكمه وأتقنه. قال الأزهري: قضى في اللغة على وجوه مرجعها إلى انقطاع الشيء وتمامه، قيل: هو مشترك بين معان، يقال: قضى بمعنى خلق، ومنه: " فقضاهن سبع سماوات " وبمعنى أعلم، ومنه "وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب" وبمعنى أمر، ومنه " وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه " وبمعنى ألزم، ومنه: قضى عليه القاضي، وبمعنى أوفاه، ومنه: "فلما قضى موسى الأجل" وبمعنى أراد ومنه: "فإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون". والأمر واحد الأمور. وقد ورد في القرآن على أربعة عشر معنى: الأول الدين: ومنه: "حتى جاء الحق وظهر أمر الله" الثاني بمعنى القول، ومنه: "فإذا جاء أمرنا". الثالث العذاب، ومنه: "لما قضي الأمر" الرابع عيسى، ومنه: "فإذا قضى أمراً". أي أوجد عيسى عليه السلام. الخامس القتل، ومنه: "فإذا جاء أمر الله" السادس فتح مكة، ومنه "فتربصوا حتى يأتي الله بأمره". السابع قتل بني قريظة وإجلاء النضير، ومنه "فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره". الثامن القيامة، ومنه "أتى أمر الله". التاسع القضاء، ومنه "يدبر الأمر". العاشر الوحي، ومنه: "يتنزل الأمر بينهن". الحادي عشر أمر الخلائق، ومنه: "ألا إلى الله تصير الأمور". الثاني عشر النصر، ومنه: "هل لنا من الأمر من شيء". الثالث عشر الذنب، ومنه: "فذاقت وبال أمرها" الرابع عشر الشأن، ومنه: "وما أمر فرعون برشيد" هكذا أورد هذه المعاني بأصول من هذا بعض المفسرين وليس تحت ذلك كثير فائدة، وإطلاقه على الأمور المختلفة لصدق اسم الأمر عليها. وقوله: "فإنما يقول له كن فيكون" الظاهر في هذا المعنى الحقيقي، وأنه يقول سبحانه هذا اللفظ، وليس في ذلك مانع ولا جاء ما يوجب تأويله، ومنه قوله تعالى: "إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون" وقال تعالى: "إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون" وقال: "وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر" ومنه قول الشاعر: إذا ما أراد الله أمراً فإنما يقول له كن قوله فيكون وقد قيل: إن ذلك مجاز، وأنه لا قول، وإنما هو قضاء يقضيه، فعبر عنه بالقول، ومنه قول الشاعر، وهو عمر بن حممة الدوسي: فأصبحت مثل النسر طار فراخه إذا رام تطيارا يقال له قع وقال آخر: قالت جناحاه لساقيه الحقا ونجيا لحكمكما أن يمزقا

وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آَيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ

والمراد بقوله: 118- "وقال الذين لا يعلمون" اليهود، وقيل: النصارى، ورجحه ابن جرير لأنهم المذكورون في الآية، وقيل: مشركو العرب، و"لولا" حرف تحضيض: أي هلا "يكلمنا الله" بنبوة محمد فنعلم أنه نبي "أو تأتينا" بذلك علامة على نبوته. والمراد بقوله: "قال الذين من قبلهم" قيل: هم اليهود والنصارى في قول من جعل الذين لا يعلمون كفار العرب، أو الأمم السالفة في قول من جعل الذين لا يعلمون اليهود والنصارى، أو اليهود في قول من جعل الذين لا يعلمون النصارى: "تشابهت" أي في التعنت والاقتراح، وقال الفراء: "تشابهت" في اتفاقهم على الكفر. "قد بينا الآيات لقوم يوقنون" أي يعترفون بالحق وينصفون في القول ويذعنون لأوامر الله سبحانه لكونهم مصدقين له سبحانه مؤمنين بآياته متبعين لما شرعه لهم. وقد أخرج البخاري من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى: "كذبني ابن آدم وشتمني، فأما تكذيبه إياي فيزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان، وأما شتمه إياي فقوله: لي ولد فسبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولداً". وأخرج نحوه أيضاً من حديث أبي هريرة، وفي الباب أحاديث. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "سبحان الله" قال: تنزيه الله نفسه عن السوء. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في الأسماء والصفات عن موسى بن طلحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن التسبيح أن يقول الإنسان: سبحان الله، قال: [براءة] الله من السوء. وأخرجه الحاكم وصححه ابن مردويه والبيهقي من طريق طلحة بن يحيى بن طلحة عن أبيه عن جده طلحة بن عبيد الله قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تفسير سبحان الله، فقال: هو تنزيه الله من كل سوء. وأخرجه ابن مردويه عنه من طريق أخرى مرفوعاً. وأخرج أحمد وعبد بن حميد وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان والطبراني في الأوسط وأبو نعيم في الحلية والضياء في المختارة عن أبي سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كل حرف في القرآن يذكر فيه القنوت فهو الطاعة". وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "كل له قانتون" قال: مطيعون. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله: "بديع السموات والأرض" يقول: ابتدع خلقهما ولم يشركه في خلقهما أحد. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: قال رافع بن حريملة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا محمد إن كنت رسولاً من الله كما تقول فقل لله فليكلمنا حتى نسمع كلامه، فأنزل الله في ذلك: "وقال الذين لا يعلمون" الآية. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة أنهم كفار العرب. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد قال: هم النصارى والذين من قبلهم اليهود.

إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ

قوله: 119- "بشيراً ونذيراً" يحتمل أن يكون منصوباً على الحال، ويحتمل أن يكون مفعولاً له: أي أرسلناك لأجل التبشير والإنذار. وقوله: "ولا تسأل" قرأه الجمهور بالرفع مبنياً للمجهول: أي حال كونك غير مسؤول، وقرئ بالرفع مبنياً للمعلوم. قال الأخفش: ويكون في موضع الحال عطفاً على "بشيراً ونذيراً" أي حال كونك غير سائل عنهم، لأن علم الله بكفرهم بعد إنذارهم يغني عن سؤاله عنهم، وقرأ نافع: " ولا تسأل " بالجزم: أي لا يصدر منك السؤال عن هؤلاء أو لا يصدر منك السؤال عمن مات منهم على كفره ومعصيته تعظيماً لحاله وتغليظاً لشأنه: أي أن هذا أمر فظيع وخطب شنيع، يتعاظم المتكلم أن يجريه على لسانه أو يتعاظم السامع أن يسمعه.

وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ

قوله: 120- "ولن ترضى عنك اليهود" الآية: أي ليس غرضهم ومبلغ الرضا منهم ما يقترحونه عليك من الآيات ويوردونه من التعنتات، فإنك لو جئتهم بكل ما يقترحون وأجبتهم عن كل تعنت لم يرضوا عنك، ثم أخبره بأنهم لن يرضوا عنه حتى يدخل في دينهم ويتبع ملتهم. والملة: اسم لما شرعه الله لعباده في كتبه على ألسن أنبيائه وهكذا الشريعة، ثم رد عليهم سبحانه فأمره بأن يقول لهم: "إن هدى الله هو الهدى" الحقيقي، لا ما أنتم عليه من الشريعة المنسوخة والكتب المحرفة ثم أتبع ذلك بوعيد شديد لرسول الله إن اتبع أهواءهم وحاول رضاهم وأتعب نفسه في طلب ما يوافقهم، ويحتمل أن يكون تعريضاً لأمته وتحذيراً لهم أن يواقعوا شيئاً من ذلك، أو يدخلوا في أهوية أهل الملل ويطلبوا رضا أهل البدع. وفي هذه الآية من الوعيد الشديد الذي ترجف له القلوب وتتصدع منه الأفئدة، ما يوجب على أهل العلم الحاملين لحجج الله سبحانه والقائمين ببيان شرائعه، ترك الدهان لأهل المتمذهبين بمذاهب السوء، التاركين للعمل بالكتاب والسنة، المؤثرين لمحض الراي عليهما، فإن غالب هؤلاء وإن أظهر قبولاً وأبان من أخلاقه ليناً لا يرضيه إلا اتباع بدعته والدخول في مداخله والوقوع في خبائله، فإن فعل العالم ذلك بعد أن علمه الله من العلم ما يستفيد به أن هدى الله هو ما في كتابه وسنة رسوله، لا ما هم عليه من تلك البدع التي هي ضلالة محضة، وجهالة بينة ورأي منهار، وتقليد على شفا جرف هار، فهو إذ ذاك ما له من الله من ولي ولا نصير ومن كان كذلك فهو مخذول لا محالة وهالك بلا شك ولا شبهة.

الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ

وقوله: 121- "الذين آتيناهم الكتاب" قيل: هم المسلمون والكتاب هو القرآن، وقيل: من أسلم من أهل الكتاب، والمراد بقوله: "يتلونه" أنهم يعلمون بما فيه فيحللون حلاله ويحرمون حرامه، فيكون من تلاه يتلوه إذا اتبعه، ومنه قوله تعالى: "والقمر إذا تلاها" أي اتبعها كذا قيل، ويحتمل أن يكون من التلاوة: أي يقرأونه حق قراءته لا يحرفونه ولا يبدلونه. وقوله: "الذين آتيناهم الكتاب" مبتدأ وخبره "يتلونه" أو الخبر قوله: "أولئك" مع ما بعده. وقد أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن محمد بن كعب القرظي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليت شعري ما فعل أبواي" فنزل: "إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً ولا تسأل عن أصحاب الجحيم" فما ذكرها حتى توفاه الله. قال السيوطي: هذا مرسل ضعيف الإسناد. ثم رواه من طريق ابن جرير عن داود بن أبي عاصم مرفوعاً وقال: هو معضل الإسناد ضعيف لا تقوم به ولا بالذي قبله حجة. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك قال: "الجحيم" ما عظم من النار. وأخرج الثعلبي عن ابن عباس قال: إن يهود المدينة ونصارى نجران كانوا يرجحون أن يصلي النبي صلى الله عليه وسلم إلى قبلتهم فلما صرف الله القبلة إلى الكعبة شق ذلك عليهم وأيسوا منه أن يوافقهم على دينهم. فأنزل الله: "ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى" الآية. وأخرج عبد الرزاق عن قتادة في قوله: "الذين آتيناهم الكتاب" قال: هم اليهود والنصارى. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله: "يتلونه حق تلاوته" قال: يحلون حلاله ويحرمون حرامه ولا يحرفونه عن مواضعه. وأخرجوا عنه أيضاً قال: يتبعونه حق اتباعه، ثم قرأوا: "والقمر إذا تلاها" يقول: اتبعها. وأخرج ابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب قال في قوله: "يتلونه حق تلاوته" إذا ملار بذكر الجنة سأل الله الجنة، وإذا مر بذكر النار تعوذ بالله من النار. وأخرج الخطيب في كتاب الرواة بسند فيه مجاهيل عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "يتلونه حق تلاوته" قال: يتبعونه حق اتباعه، وكذا قال القرطبي في تفسيره أن في إسناده مجاهيل، قال: لكن معناه صحيح. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير من طرق عن ابن مسعود في تفسيره هذه الآية مثل ما سبق عن ابن عباس في قوله: يحلون حلاله إلى آخره. وأخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم قال: يتكلمون به كما أنزل ولا يكتمونه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في هذه الآية قال: هم أصحاب محمد، ثم حكى نحو ذلك عن عمر بن الخطاب. وأخرج وكيع وابن جرير عن الحسن في قوله: "يتلونه حق تلاوته" قال: يعلمون بمحكمه، ويؤمنون بمتشابهه، ويكلون ما أشكل عليهم إلى عالمه.

يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ

قوله: 122- "يا بني إسرائيل" إلى قوله: "ولا هم ينصرون" قد سبق مثل هذا في صدر السورة، وقد تقدم تفسيره، ووجه التكرار الحث على اتباع الرسول النبي الأمي، ذكر معناه ابن كثير في تفسيره. وقال البقاعي في تفسيره: إنه لما طال المدى في استقصاء تذكيرهم بالنعم ثم في بيان عوارهم وهتك أستارهم، وختم ذلك بالترهيب لتضييع أديانهم بأعمالهم وأحوالهم وأقوالهم، أعاد ما صدر به قصتهم من التذكير بالنعم، والتحذير من حلول النقم يوم تجمع الأمم، ويدوم فيه الندم لمن زلت به القدم، ليعلم أن ذلك فذلكة القصة، والمقصود بالذات الحث على انتهاز الفرصة. انتهى. وأقول: ليس هذا بشيء، فإنه لو كان سبب التكرار ما ذكره من طول المدى وأنه عاد ما صدر به قصتهم لذلك لكان الأولى بالتكرار، والأحق بإعادة الذكر هو قوله سبحانه: "يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون" فإن هذه الآية مع كونها أول الكلام معهم والخطاب لهم في هذه السورة هي أيضاً أولى بأن تعاد وتكرر لما فيها من الأمر بذكر النعم والوفاء بالعهد والرهبة لله سبحانه، وبهذا تعرف صحة ما قدمناه لك عند بيان شرع الله سبحانه في خطاب بني إسرائيل من هذه السورة فراجعه ثم حكى البقاعي بعد كلامه السابق عن الحوالي أنه قال: كرره تعالى إظهاراً لمقصد التئام آخر الخطاب بأوله، وليتخذ هذا الإفصاح والتعليم أصلاً لما يمكن بأن يرد من نحوه في سائر القرآن حتى كان الخطاب إذا انتهى إلى غاية خاتمه يجب أن يلحظ القلب بذاته تلك الغاية فيتلوها ليكون في تلاوته جامعاً لطرفي الثناء، وفي تفهيمه جامعاً لمعاني طرفي المعنى انتهى. وأقول: لو كان هذا هو سبب التكرار لكان الأولى به ما عرفناك. وأما قوله: وليتخذ ذلك أصلاً لما يرد من التكرار في سائر القرآن فمعلوم أن حصول هذا الأمر في الأذهان وتقرره في الأفهام لا يختص بتكرير آية معينة يكون افتتاح هذا المقصد بها، فلم تتم حينئذ النكتة في تكرير هاتين الآيتين بخصوصهما، ولله الحكمة البالغة التي لا تبلغها الأفهام ولا تدركها العقول، فليس في تكليف هذه المناسبات المتعسفة إلا ما عرفناك به هنالك فتذكر.

وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ

123- " واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون ".

وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ

قوله: 124- "وإذ ابتلى" الابتلاء: الامتحان والاختار: أي ابتلاه بما أمره به، و"إبراهيم" معناه في السريانية أب رحيم، كذا قال الماوردي. قال ابن عطية: ومعناه في العربية ذلك. قال السهيلي: وكثيراً ما يقع الإتفاق بين السرياني والعربي. وقد أورد صاحب الكشاف هنا سؤالاً في رجوع الضمير إلى إبراهيم مع كون رتبته التأخير، وأجاب عنه بأنه قد تقدم لفظاً فرجع إليه، والأمر في هذا أوضح من أن يشتغل بذكره، أو ترد في مثله الأسئلة أو يسود وجه القرطاس بإيضاحه. وقوله: "بكلمات" قد اختلف العلماء في تعيينها، فقيل: هي شرائع الإسلام، وقيل: ذبح ابنه، وقيل: أداء الرسالة، وقيل: هي خصال الفطرة، وقيل: هي قوله: "إني جاعلك للناس إماماً" وقيل: بالطهارة كما سيأتي بيانه. قال الزجاج: وهذه الأقوال ليست بمتناقضة، لأن هذا كله مما ابتلي به إبراهيم انتهى. وظاهر النظم القرآني أن الكلمات هي قوله: "قال إني جاعلك" وما بعده، ويكون ذلك بياناً للكلمات، وسيأتي عن بعض السلف ما يوافق ذلك، وعن آخرين ما يخالفه. وعلى هذا فيكون قوله: "قال إني جاعلك" مستأنفاً كأنه ماذا قال له. وقال ابن جرير ما حاصله إنه يجوز أن يكون المراد بالكلمات جميع ذلك، وجائز أن يكون بعض ذلك، ولا يجوز الجزم بشيء منها أنه المراد على التعيين إلا بحديث أو إجماع، ولم يصح في ذلك خبر بنقل الواحد ولا بنقل الجماعة الذي يجب التسليم له، ثم قال: فلو قال قائل: إن الذي قاله مجاهد وأبو صالح والربيع بن أنس أولى بالصواب: يعني أن الكلمات هي قوله: "إني جاعلك للناس إماماً" وقوله: "وعهدنا إلى إبراهيم" وما بعده. ورجح ابن كثير أنها تشمل جميع ما ذكر، وسيأتي التصريح بما هو الحق بعد إيراد ما ورد عن السلف الصالح. وقوله: "فأتمهن" أي قام بهن أتم قيام، وامتثل أكمل امتثال. والإمام: هو ما يؤتم به، ومنه قيل للطريق إمام وللبناء إمام، لأنه يؤتم بذلك: أي يهتدي به السالك، والإمام لما كان هو القدوة للناس لكونهم يأتمون به ويهتدون بهديه أطلق عليه هذا اللفظ. وقوله: "ومن ذريتي" يحتمل أن يكون ذلك دعاء من إبراهيم، أي واجعل من ذريتي أئمة، ويحتمل أن يكون هذا من إبراهيم بقصد الاستفهام وإن لم يكن بصيغته: أي ومن ذريتي ماذا يكون يا رب؟ فأخبره أن فيهم عصاة وظلمة، وأنهم لا يصلحون لذلك ولا يقومون به ولا ينالهم عهد الله سبحانه. والذرية مأخوذة من الذر، لأن الله أخرج الخلق من ظهر آدم حين أشهدهم على أنفسهم كالذر، وقيل: مأخوذة من ذرأ الله الخلق يذرؤهم إذا خلقهم. وفي الكتاب العزيز: "فأصبح هشيماً تذروه الرياح" قال في الصحاح: ذرت الريح السحاب وغيره تذروه وتذريه ذرواً وذرياً: أي نسفته، وقال الخليل: إنما سموا ذرية لأن الله تعالى ذرأها على الأرض كما ذرأ الزارع البذر. واختلف في المراد بالعهد فقيل: الإمامة، وقيل: النبوة، وقيل: عهد الله أمره، وقيل: الأمان من عذاب الآخرة، ورجحه الزجاج والأول أظهر كما يفيده السياق. وقد استدل بهذه الآية جماعة من أهل العلم على أن الإمام لا بد أن يكون من أهل العدل والعمل بالشرع كما ورد، لأنه إذا زاغ عن ذلك كان ظالماً. ويمكن أن ينظر إلى ما يصدق عليه اسم العهد وما تفيده الإضافة من العموم فيشمل جميع ذلك اعتباراً بعموم اللفظ من غير نظر إلى السبب ولا إلى السياق، فيستدل به على اشتراط السلامة من وصف الظلم في كل من تعلق بالأمور الدينية. وقد اختار ابن جرير أن هذه الآية وإن كانت ظاهرة في الخبر أنه لا ينال عهد الله بالإمامة ظالماً، ففيها إعلام من الله لإبراهيم الخليل انه سيوجد من ذريته من هو ظالم لنفسه. انتهى. ولا يخفاك أنه لا جدوى لكلامه هذا. فالأولى أن يقال: إن هذا الخبر في معنى الأمر لعباده أن لا يولوا أمور الشرع ظالماً، وإنما قلنا: إنه في معنى الأمر لأن أخباره تعالى لا يجوز أن تتخلف. وقد علمنا أنه قد نال عهده من الإمامة وغيرها كثيراً من الظالمين.

وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ

قوله: 125- "وإذ جعلنا البيت" هو الكعبة المشرفة غلب عليه كما غلب النجم على الثريا، و"مثابة" مصدر من ثاب يثوب مثاباً ومثابة، أي مرجعاً يرجع الحجاج إليه بعد تفرقهم عنه، ومنه قول ورقة بن نوفل في الكعبة: مثاب لأقفاء القبائل كلها تخب إليها اليعملات الذوابل وقرأ الأعمش مثابات وقيل المثابة من الثواب: أي يثابون هنالك. وقال مجاهد: المراد أنهم لا يقضون منه أوطارهم، قال الشاعر: جعل البيت مثابات لهم ليس منه الدهر يقضون الوطر قال الأخفش: ودخلت الهاء لكثرة من يثوب إليه فهي كعلامة ونسابة. وقال غيره: هي للتأنيث وليست للمبالغة. وقوله: "وأمنا" هو اسم مكان: أي موضع أمن. وقد استدل بذلك جماعة من أهل العلم على أنه لا يقام الحد على من لجأ إليه، ويؤيد ذلك قوله تعالى: "ومن دخله كان آمناً" وقيل: إن ذلك منسوخ. وقوله: "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" قرأ نافع وابن عامر بفتح الخاء على أنه فعل ماض: أي جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً واتخذوه مصلى. وقرأ الباقون على صيغة الأمر عطفاً على اذكروا المذكور أول الآيات، أو على اذكروا المقدر عاملاً في قوله: "وإذ" ويجوز أن يكون على تقدير القول: أي وقلنا اتخذوا. والمقام في اللغة: موضع القيام. قال النحاس: هو من قام يقوم، يكون مصدراً واسماً للموضع، ومقام من أقام، وليس من هذا قول الشاعر: وفيهم مقامات حسان وجوهها وأندية ينتابها القول والفعل لأن معناه أهل مقامات. واختلف في تعيين المقام على أقوال أصحها أنه الحجر الذي يعرفه الناس ويصلون عنده ركعتي الطواف، وقيل: المقام الحج كله، روي ذلك عن عطاء ومجاهد، وقيل: عرفة والمزدلفة، روي عن عطاء أيضاً. وقال الشعبي: الحرم كله مقام إبراهيم. وروي عن مجاهد. وقد أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله: "وإذ ابتلى إبراهيم ربه" قال: ابتلاه الله بالطهارة: خمس في الرأس، وخمس في الجسد. في الرأس قص الشارب، والمضمضة، والاستنشاق والسواك، وفرق الرأس، وفي الجسد: تقليم الأظفار، وحلق العانة، والختان، ونتف الإبط، وغسل مكان الغائط والبول بالماء. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر عنه نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وابن مردويه وابن عساكر عنه قال: ما ابتلي أحد بهذا الدين فقام به كله إلا إبراهيم. وقرأ هذه الآية فقيل له: ما الكلمات؟ قال: سهام الإسلام ثلاثون سهماً: عشرة في براءة "التائبون العابدون" إلى آخر الآية، وعشرة في أول سورة قد أفلح و"سأل سائل" "والذين يصدقون بيوم الدين" الآيات، وعشرة في الأحزاب "إن المسلمين" إلى آخر الآية، "فأتمهن" كلهن فكتب له براءة قال تعالى: "وإبراهيم الذي وفى". وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم عنه قال: منهن مناسك الحج. وأخرج ابن جرير عنه قال: الكلمات "إني جاعلك للناس إماماً" "وإذ يرفع إبراهيم القواعد" والآيات في شأن المناسك، والمقام الذي جعل لإبراهيم، والرزق الذي رزق ساكنو البيت وبعث محمد في ذريتهما. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير عن مجاهد في قوله: "وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات" قال: ابتلى بالآيات التي بعدها. وأخرجا أيضاً عن الشعبي مثله. وأخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: الكلمات التي ابتلي بهن إبراهيم فأتمهن: فراق قومه في الله حين أمر بمفارقتهم، ومحاجته نمروذ في الله حين وقفه على ما وقفه عليه من خطر الأمر الذي فيه خلافهم، وصبره على قذفهم إياه في النار ليحرقوه في الله، والهجرة بعد ذلك من وطنه وبلاده حين أمره بالخروج عنهم، وما أمره به من الضيافة والصبر عليها، وما ابتلي به من ذبح ولده، فلما مضى على ذلك كله "قال" الله " له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ". وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن قال: ابتلاه بالكوكب فرضي عنه، وابتلاه بابنه فرضي عنه. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: "فأتمهن" قال: فأداهن. وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من فطرة إبراهيم السواك" قلت: وهذا على تقدير أن إسناده إلى عطاء صحيح فهو مرسل لا تقوم به الحجة، ولا يحل الاعتماد على مثله في تفسيره كلام الله سبحانه، وهكذا لا يحل الاعتماد على مثل ما أخرجه ابن أبي حاتم عن مجاهد قال: من فطرة إبراهيم غسل الذكر والبراجم، ومثل ما أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه عنه قال: ست من فطرة إبراهيم: قص الشارب، والسواك، والفرق، وقص الأظفار، والاستنجاء، وحلق العانة، قال: ثلاثة في الرأس- وثلاثة في الجسد. وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيح وغيره من طريق جماعة من الصحابة مشروعية تلك العشر لهذه الأمة، ولم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها الكلمات التي ابتلي بها إبراهيم، وأحسن ما روي عنه ما أخرجه الترمذي وحسنه عن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقص أو يأخذ من شاربه. قال: كان خليل الرحمن إبراهيم يفعله. ولا يخفاك أن فعل الخليل له لا يستلزم أنه من الكلمات التي ابتلي بها، وإذا لم يصح شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا جاءنا من طريق تقوم بها الحجة تعيين تلك الكلمات لم يبق لنا إلا أن نقول: إنها ما ذكرها الله سبحانه في كتابه بقوله: "قال إني جاعلك" إلى آخر الآيات، ويكون ذلك بياناً للكلمات أو السكوت وإحالة العلم في ذلك على الله سبحانه. وأما ما روي عن ابن عباس ونحوه من الصحابة من بعدهم في تعيينها، فهو أولاً أقوال صحابة لا يقوم بها الحجة فضلاً عن أقوال من بعدهم، وعلى تقدير أنه لا مجال للاجتهاد في ذلك، وأن له حكم الرفع فقد اختلفوا في التعيين اختلافاً يمتنع معه العمل ببعض ما روي عنهم دون البعض الآخر بل اختلفت الروايات عن الواحد منهم كما قدمنا عن ابن عباس، فكيف يجوز العمل بذلك- وبهذا تعرف ضعف قول من قال: إنه يصار إلى العموم ويقال: تلك الكلمات هي جميع ما ذكرنا هنا، فإن هذا يستلزم تفسير كلام الله بالضعيف والمتناقض وما لا تقوم به الحجة. وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس: "قال إني جاعلك للناس إماماً" يقتدى بدينك وهديك وسنتك "قال: ومن ذريتي" إماماً لغير ذريتي "قال: لا ينال عهدي الظالمين" أن يقتدى بدينهم وهديهم وسنتهم. وأخرج الفريابي وابن أبي حاتم عنه قال: قال الله لإبراهيم: "إني جاعلك للناس إماماً قال: ومن ذريتي" فأبى أن يفعل، ثم قال: "لا ينال عهدي الظالمين". وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن قتادة قال: هذا عند الله يوم القيامة لا ينال عهده ظالماً، فأما في الدنيا فقد نالوا عهده فوارثوا به المسلمين وغازوهم وناكحوهم، فلما كان يوم القيامة قصر الله عهده وكرامته على أوليائه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في تفسير الآية أنه قال: لا أجعل إماماً ظالماً يقتدى به. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال: يخبره أنه إن كان في ذريته ظالم لا ينال عهده ولا ينبغي له أن يوليه شيئاً من أمره. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عنه أنه قال: ليس لظالم عليك عهد في معصية الله. وقد أخرج وكيع ابن مردويه من حديث علي عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "لا ينال عهدي الظالمين" قال: لا طاعة إلا في المعروف، بإسناده عند ابن مردويه هكذا: قال: حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن حامد، حدثنا أحمد بن عبد الله بن سعد الأسدي، حدثنا سليم بن سعيد الدامغاني، حدثنا وكيع عن الأعمش عن سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره. وأخرج عبد بن حميد من حديث عمران بن حصين سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا طاعة لمخلوق في معصية الله". وأخرج ابن جرير عن ابن عباس أنه قال في تفسير الآية: ليس للظالم عهد وإن عاهدته فانقضه. قال ابن كثير: وروي عن مجاهد وعطاء ومقاتل وابن حبان نحو ذلك. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "مثابة للناس وأمناً" قال: يثوبون إليه ثم يرجعون. وأخرج ابن جرير عنه أنه قال: لا يقضون منه وطراً يأتونه ثم يرجعون إلى أهليهم ثم يعودون إليه. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير والبيهقي عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وأمنا" قال: أمناً للناس. وأخرج البخاري وغيره من حديث أنس عن عمر بن الخطاب قال: وافقت ربي في ثلاث ووافقني ربي في ثلاث، قلت: يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت: "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" وقلت: يا رسول الله إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر، فلو أمرتهن أن يحتجبن، فنزلت آية الحجاب- واجتمع على رسول الله صلى الله عليه وسلم نساؤه في الغيرة، فقلت لهن: "عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن" فنزلت كذلك. وأخرجه مسلم وغيره مختصراً من حديث ابن عمر عنه. وأخرج مسلم وغيره من حديث جابر "أن النبي صلى الله عليه وسلم رمل ثلاثة أشواط ومشى أربعاً، حتى إذا فرغ عمد إلى مقام إبراهيم فصلى خلفه ركعتين، ثم قرأ: "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى"" وفي مقام إبراهيم عليه السلام أحاديث كثيرة مستوفاة في الأمهات وغيرها، والأحاديث الصحيحة تدل على أن مقام إبراهيم هو الحجر الذي كان إبراهيم يقوم عليه لبناء الكعبة لما ارتفع الجدار، أتاه إسماعيل به ليقوم فوقه، كما في البخاري من حديث ابن عباس، وهو الذي كان ملصقاً بجدار الكعبة. وأول من نقله عمر بن الخطاب كما أخرجه عبد الرزاق والبيهقي بإسناد صحيح وابن أبي حاتم وابن مردويه من طرق مختلفة. وأخرج ابن أبي حاتم من حديث جابر في وصف حج النبي صلى الله عليه وسلم قال: لما طاف النبي صلى الله عليه وسلم قال له عمر: هذا مقام إبراهيم؟ قال: نعم. وأخرج نحوه ابن مردويه. قوله: "عهدنا" معناه هنا: أمرنا وأوجبنا. وقوله: "أن طهرا" في موضع نصب ينزع الخافض: أي بأن طهرا قاله الكوفيون، وقال سيبويه: هو بتقدير أي المفسرة: أي أن طهرا فلا موضع لها من الإعراب، والمراد بالتطهير قيل: من الأوثان، وقيل: من الآفات والريب، وقيل: من الكفار، وقيل: من النجاسات وطواف الجنب والحائض وكل خبيث. والظاهر أنه لا يختص بنوع من هذه الأنواع، وأن كل ما يصدق عليه مسمى التطهير فهو يتناوله إما تناولاً شمولياً أو بدلياً، والإضافة في قوله: "بيتي" للتشريف والتكريم، وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وأهل المدينة وهشام وحفص بيتي بفتح الياء، وقرأ الآخرون بإسكانها. والطائف: الذي يطوف به، وقيل: الغريب الطارئ على مكة. والعاكف: المقيم: وأصل المعكوف في اللغة: اللزوم والإقبال على الشيء، وقيل: هو المجاور دون المقيم من أهلها. والمراد بقوله: "الركع السجود" المصلون، وخص هذين الركنين بالذكر لأنهما أشرف أركان الصلاة.

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ

وقوله: 126- "وإذ قال إبراهيم" ستأتي الأحاديث الدالة على أن إبراهيم هو الذي حرم مكة، والأحاديث الدالة على أن الله حرمها يوم خلق السموات والأرض والجمع بين هذه الأحاديث في هذا البحث. وقوله: "بلداً آمناً" أي مكة، والمراد: الدعاء لأهله من ذريته وغيرهم كقوله: "عيشة راضية" أي راض صاحبها. وقوله: "من آمن" بدل من قول أهله: أي ارزق من آمن من أهله دون من كفر. وقوله: "ومن كفر" الظاهر أن هذا من كلام الله سبحانه رداً على إبراهيم حيث طلب الرزق للمؤمنين دون غيرهم: أي وأرزق من كفر فأمتعه بالرزق قليلاً ثم أضطره إلى عذاب النار، ويحتمل أن يكون كلاماً مستقلاً بياناً لحال من كفر، ويكون في حكم الإخبار عن حال الكافرين بهذه الجملة الشرطية: أي من كفر فإني أمتعه في هذه الدنيا بما يحتاجه من الرزق "ثم أضطره" بعد هذا التمتيع "إلى عذاب النار" فأخبر سبحانه أنه لا ينال الكفرة من الخير إلا تمتيعهم في هذه الدنيا، وليس لهم بعد ذلك إلا ما هو شر محض وهو عذاب النار، وأما على قراءة من قرأ "فأمتعه" بصيغة الأمر وكذلك قوله: "ثم أضطره" بصيغة الأمر فهي مبنية على أن ذلك من جملة كلام إبراهيم، وأنه لما فرغ من الدعاء للمؤمنين دعا للكافرين بالإمتاع قليلاً، ثم دعا عليهم بأن يضطرهم إلى عذاب النار. ومعنى: "أضطره" ألزمه حتى صيره مضطراً لذلك لا يجد عنه مخلصاً، ولا منه متحولاً.

وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ

قوله: 127- "وإذ يرفع" هو حكاية لحال ماضية استحضاراً لصورتها العجيبة. والقواعد: الأساس، قاله أبو عبيدة والفراء. وقال الكسائي: هي الجدر. والمراد برفعها رفع ما هو مبني فوقها لا رفعها في نفسها فإنها لم ترتفع، لكنها لما كانت متصلة بالبناء المرتفع فوقها صارت كأنها مرتفعة بارتفاعه، كما يقال ارتفع البناء، ولا يقال ارتفع أعالي البناء ولا أسافله. قوله: "ربنا تقبل منا" في محل الحال بتقدير القول: أي قائلين ربنا. وقرأ أبي وابن مسعود وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ويقولان: ربنا تقبل منا.

رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ

وقوله: 128- "واجعلنا مسلمين لك" أي اجعلنغا ثابتين عليه أو زدنا منه- قيل: المراد بالإسلامه هنا مجموع الإيمان والأعمال. وقوله: "ومن ذريتنا" أي واجعل من ذريتنا، ومن للتبعيض أو للتبيين. وقال ابن جرير: إنه أراد بالذرية العرب خاصة، وكذا قال السهلي. قال ابن عطية: وهذا ضعيف لأن دعوته ظهرت في العرب وغيرهم من الذين آمنوا به. والأمة: الجماعة في هذا الموضع، وقد تطلق على الواحد، ومنه قوله تعالى: "إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله" وتطلق على الدين ومنه "إنا وجدنا آباءنا على أمة" وتطلق على الزمان، ومنه: "وادكر بعد أمة". وقوله: "وأرنا مناسكنا" هي من الرؤية البصرية. وقرأ عمر بن عبد العزيز وقتادة وابن كثير وابن محيصن وغيرهم أرنا بسكون الراء، ومنه قول الشاعر: أرنا إداوة عبد الله يملؤها من ماء زمزم إن القوم قد ظمئوا والمناسك جمع نسك، وأصله في اللغة: الغسل، يقال: نسك ثوبه: إذا غسله. وهو في الشرع اسم للعبادة، والمراد هنا مناسك الحج، وقيل: مواضع الذبح، وقيل: جميع المتعبدات. وقوله: "وتب علينا" قيل: المراد بطلبهما للتوبة التثبيت، لأنهما معصومان لا ذنب لهما، وقيل: المراد تب على الظلمة منا. وقد أخرج ابن جرير عن عطاء قال: "وعهدنا إلى إبراهيم" أي أمرناه. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "أن طهرا بيتي" قال: من الأوثان. وأخرج أيضاً عن مجاهد وسعيد بن جبير مثله، وزادوا الريب وقول الزور والرجس. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: إذا كان قائماً فهو من الطائفين، وإذا كان جالساً فهو من العاكفين، وإذا كان مصلياً فهو من الركع السجود. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب أنه سئل عن الذين ينامون في المسجد فقال: هم العاكفون. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن إبراهيم حرم مكة، وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها، فلا يصاد صيدها ولا يقطع عضاهها" أخرجه أحمد ومسلم والنسائي وغيرهم من حديث جابر. وقد روي هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق جماعة من الصحابة، منهم رافع بن خديج عند مسلم وغيره، ومنهم أبو قتادة عند أحمد، ومنهم أنس عند الشيخين، ومنهم أبو هريرة عند مسلم، ومنهم علي بن أبي طالب عند الطبراني في الأوسط ومنهم أسامة بن زيد عند أحمد والبخاري، ومنهم عائشة عند البخاري. وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض وهي حرام إلى يوم القيامة". أخرجه البخاري تعليقاً، وابن ماجه من حديث صفية بنت شيبة. وأخرجه الشيخان وغيرهما من حديث ابن عباس. وأخرجه الشيخان وأهل السنن من حديث أبي هريرة، وفي الباب أحاديث غير ما ذكرنا، ولا تعارض بين هذه الأحاديث، فإن إبراهيم عليه السلام لما بلغ الناس أن الله حرمها وأنها لم تزل حرماً آمناً نسب إليه أنه حرمها: أي أظهر للناس حكم الله فيها، وإلى هذا الجمع ذهب ابن عطية وابن كثير. وقال ابن جرير: إنها كانت حراماً ولم يتعبد الله الخلق بذلك حتى سأله إبراهيم فحرمها وتعبدهم بذلك انتهى. وكلا الجمعين حسن. وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن محمد بن مسلم الطائفي قال: بلغني أنه لما دعا إبراهيم للحرم فقال: "وارزق أهله من الثمرات" نقل الله الطائف من فلسطين. وأخرج نحوه ابن أبي حاتم والأزرقي عن الزهري. وأخرج نحوه أيضاً الأزرقي عن بعض ولد نافع بن جبير بن مطعم. وقد أخرج الأزرقي نحوها مرفوعاً من طريق محمد بن المنكدر. وأخرج أيضاً عن محمد بن كعب القرظي قال: دعا إبراهيم للمؤمنين وترك الكفار ولم يدع لهم بشيء، قال الله: "ومن كفر فأمتعه" الآية. وأخرج نحوه سفيان بن عيينة عن مجاهد. وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "من آمن منهم بالله" قال: كأن إبراهيم احتجزها على المؤمنين دون الناس، فأنزل الله "ومن كفر" أيضاً فأنا أرزقهم كما أرزق المؤمنين، أخلق خلقاً لا أرزقهم أمتعهم قليلاً ثم أضطرهم إلى عذاب النار، ثم قرأ ابن عباس: "كلا نمد هؤلاء وهؤلاء" الآية. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي العالية قال: قال أبي بن كعب في قوله: "ومن كفر" أن هذا من قول الرب. وقال ابن عباس: هذا من قول إبراهيم يسأل ربه أن من كفر فأمتعه قليلاً. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: القواعد أساس البيت. وأخرج أحمد وعبد بن حميد والبخاري وابن جرير وغيرهم عن سعيد بن جبير قصة مطولة وآخرها في بناء البيت، قال: فعند ذلك رفع إبراهيم القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له، فقام عليه وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة، وهما يقولان: "ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم". وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وإذ يرفع إبراهيم القواعد" قال: القواعد التي كانت قواعد البيت قبل ذلك. وقد أكثر المفسرون في تفسير هذه الآية من نقل أقوال السلف في كيفية بناء البيت، ومن أي أحجار الأرض بني، وفي أي زمان عرف، ومن حجه؟ وما ورد فيه من الأدلة الدالة على فضله أو فضل بعضه كالحجر الأسود. وفي الدر المنثور من ذلك ما لم يكن في غيره فليرجع إليه، وفي تفسير ابن كثير بعض من ذلك، ولما لم يكن ما ذكروه متعلقاً بالتفسير لم نذكره. وأخرج ابن أبي حاتم عن سلام بن أبي مطيع في هذه الآية "ربنا واجعلنا مسلمين لك" قال: كانا مسلمين ولكن سألاه الثبات. وأخرج ابن أبي حاتم عن عبد الكريم، قال: مخلصين. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي في قوله: "ومن ذريتنا" قال: يعنيان العرب. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: قال إبراهيم رب أرنا مناسكنا، فأتاه جبريل فأتى به البيت فقال: ارفع القواعد، فرفع القواعد وأتم البنيان، ثم أخذ بيده فأخرجه فانطلق به نحو منى، فلما كان عند العقبة فإذا إبليس قائم عند الشجرة، فقال: كبر وارمه، فكبر ورماه، فذهب إبليس حتى أتى الجمرة الوسطى ففعل به إبراهيم كما فعل في الأولى، ثم كذلك في الجمرة الثالثة، ثم أخذ جبريل بيد إبراهيم حتى أتى به المشعر الحرام فقال: هذا المشعر الحرام، ثم ذهب حتى أتى به عرفات، قال: وقد عرفت ما أريتك؟ قالها ثلاثاً، قال: نعم، قال: فأذن في الناس بالحج، قال: كيف أؤذن؟ قال: قل: يا أيها الناس أجيبوا ربكم ثلاث مرات، فأجاب العبد: لبيك الله لبيك، فمن أجاب إبراهيم يومئذ من الخلق فهو حاج. وأخرج ابن جرير من طريق ابن المسيب عن علي قال: لما فرغ إبراهيم من بناء البيت قال: قد فعلت أي رب فأرنا مناسكنا: أبرزها لنا علمناها، فبعث الله جبريل فحج به، وفي الباب آثار كثيرة عن السلف من الصحابة ومن بعدهم تتضمن أن جبريل أرى إبراهيم المناسك، وفي أكثرها أن الشيطان تعرض له كما تقدم عن مجاهد. وقد أخرج ابن خزيمة والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن ابن عباس نحو ذلك، وكذلك أخرج عنه أحمد وابن أبي حاتم والبيهقي.

رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ

الضمير في قوله: 129- "وابعث فيهم" راجع إلى الأمة المسلمة المذكورة سابقاً. وقرأ أبي: وابعث في آخرهم ويحتمل أن يكون الضمير راجعاً إلى الذرية. وقد أجاب الله لإبراهيم عليه السلام هذه الدعوة، فبعث في ذريته "رسولاً منهم" وهو محمد صلى الله عليه وسلم. قد أخبر عن نفسه بأن دعوة إبراهيم كما سيأتي تخريج ذلك إن شاء الله، ومراده هذه الدعوة. والرسول هو المرسل. قال ابن الأنباري: يشبه أن يكون أصله ناقة مرسال ورسلة إذا كانت سهلة السير ماضية أمام النوق. ويقال: جاء القوم أرسالاً: أي بعضهم في أثر بعض، والمراد بالكتاب: القرآن. والمراد بالحكمة: المعرفة بالدين والفقه في التأويل والفهم للشريعة. وقوله: "يزكيهم" أي يطهرهم من الشرك وسائر المعاصي. وقيل: إن المراد بالآيات ظاهر الألفاظ، والكتاب في معانيها، والحكمة الحكم، وهو مراد الله بالخطاب، والعزيز الذي لا يعجزه شيء قاله ابن كيسان. وقال الكسائي: "العزيز" الغالب.

وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ

130- "ومن يرغب" في موضع رفع على الابتداء، والاستفهام للإنكار. وقوله: "إلا من سفه نفسه" في موضع الخبر، وقيل: هو بدل من فاعل يرغب، والتقدير: وما يرغب عن ملة إبراهيم أحد إلا سفه نفسه. قال الزجاج: سفه بمعنى جهل: أي جهل أمر نفسه فلم يفكر فيها. وقال أبو عبيدة: المعنى أهلك نفسه. وحكى ثعلب والمبرد أن سفه بكسر الفاء يتعدى كسفه بفتح الفاء المشددة. قال الأخفش: "سفه نفسه" أي فعل بها من السفه ما صار به سفيهاً، وقيل: إن نفسه منتصب بنزع الخافض، وقيل: هو تمييز، وهذان ضعيفان جداً، وأما سفه بضم الفاء فلا يتعدى قاله المبرد وثعلب. والاصطفاء: الاختيار، أي اخترناه في الدنيا وجعلناه في الآخرة من الصالحين، فكيف يرغب عن ملته راغب. وقوله: "إذ قال له" يحتمل أن يكون متعلقاً بقوله: "اصطفيناه" أي اخترناه وقت أمرنا له بالإسلام، ويحتمل أن يتعلق بمحذوف هو اذكر. قال في الكشاف: كأنه قيل: اذكر ذلك الوقت ليعلم أنه المصطفى الصالح الذي لا يرغب عن ملة مثله.

إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ

131- "إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين".

وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ

والضمير في قوله: 132- " ووصى بها " راجع إلى الملة أو إلى الكلمة: أي أسلمت لرب العالمين. قال القرطبي: وهو أصوب لأنه أقرب مذكور: أي قولوا أسلمنا انتهى. والأول أرجح لأن المطلوب ممن بعده هو اتباع ملته لا مجرد التكلم بكلمة الإسلام، فالتوصية بذلك أليق بإبراهيم وأولى بهم. ووصى وأوصى بمعنى، وقرئ بهما، وفي مصحف عثمان " ووصى " وهي قراءة أهل الشام والمدينة، وفي مصحف عبد الله بن مسعود "ووصى" وهي قراءة الباقين "ويعقوب" معطوف على إبراهيم: أي وأوصى يعقوب بنيه كما أوصى إبراهيم بنيه. وقرأ عمر بن فايد الأسواري وإسماعيل بن عبد الله المكي بنصب يعقوب، فيكون داخلاً فيمن أوصاه إبراهيم، قال القشيري: وهو بعيد لأن يعقوب لم يدرك جده إبراهيم وإنما ولد بعد موته. وقوله: "يا بني" هو بتقدير أن. وقد قرأ أبي وابن مسعود والضحاك بإثباتها. قال الفراء ألغيت أن لأن التوصية كالقول، وكل كلام رجع إلى القول جاز فيه دخول أن وجاز فيه إلغاؤها، وقيل: إنه على تقدير القول: أي قائلاً: يا بني. روي ذلك عن البصريين. وقوله: "اصطفى لكم الدين" أي اختاره لكم، والمراد ملته التي لا يرغب عنها إلا من سفه نفسه، وهي الملة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم. وقوله: "فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون" فيه إيجاز بليغ. والمراد الزموا الإسلام ولا تفارقوه حتى تموتوا. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله: "ومن يرغب عن ملة إبراهيم" قال: رغبت اليهود والنصارى عن ملته، واتخذوا اليهودية والنصرانية بدعة ليست من الله، تركوا ملة إبراهيم الإسلام، وبذلك بعث الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بملة إبراهيم. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة مثله. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك في قوله: "ولقد اصطفيناه" قال: اخترناه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ووصى بها إبراهيم بنيه" قال: وصاهم بالإسلام، ووصى يعقوب بنيه بمثل ذلك. وأخرج الثعلبي عن فضيل بن عياض في قوله: "فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون" أي محسنون بربكم الظن.

أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ

قوله: 133- "أم كنتم شهداء" أم هذه قيل: هي المنقطعة، وقيل: هي المتصلة، وفي الهمزة الإنكار المفيد للتقريع والتوبيخ، والخطاب لليهود والنصارى الذين ينسبون إلى إبراهيم وإلى بنيه أنهم على اليهودية والنصرانية، فرد الله ذلك عليهم وقال لهم: أشهدتم يعقوب وعلمتم بما أوصى به بنيه فتدعون ذلك عن علم، أم لم تشهدوا بل أنتم مفترون. والشهداء جمع شاهد، ولم ينصرف لأن فيه ألف التأنيث التي لتأنيث الجماعة، والعامل في إذ الأولى معنى الشهادة، وإذ الثانية بدل من الأولى، والمراد بحضور الموت حضور مقدماته، وإنما جاء بما دون من في قوله: "ما تعبدون" لأن المعبودات من دون الله غالبها جمادات كالأوثان والنار والشمس والكواكب. ومعنى "من بعدي" أي من بعد موتي. وقوله: "إبراهيم وإسماعيل وإسحاق" عطف بيان لقوله: "آبائك" وإسماعيل وإن كان عماً ليعقوب لأن العرب تسمي العم أباً وقوله: "إلهاً" بدل من إلهك وإن كان نكرة فذلك جائز ولا سيما بعد تخصيصه بالصفة التي هي قوله: "واحداً" فإنه قد حصل المطلوب من الإبدال بهذه الصفة. وقيل: إن إلها منصوب على الاختصاص، وقيل: إنه حال. قال ابن عطية: وهو قول حسن، لأن الغرض الإثبات حال الوحدانية. وقرأ الحسن ويحيى بن يعمر وأبو رجاء العطاردي وإله أبيك فقيل: أراد إبراهيم وحده. ويكون قوله: "وإسماعيل" عطفاً على أبيك وكذلك "إسحاق" وإن كان هو أبه حقيقة وإبراهيم جده، ولكن لإبراهيم مزيد خصوصية، وقيل: إن قوله: أبيك جمع كما روي عن سيبويه أن أبين جمع سلامة ومثله أبون، ومنه قول الشاعر: فلما تبين أصواتنا بكين وقد بننا بالأبينا وقوله: "ونحن له مسلمون" جملة حالية: أي نعبده حال إسلامنا له، وجوز الزمخشري أن تكون إعتراضية على ما يذهب إليه من جواز وقوع الجمل الاعتراضية آخر الكلام.

تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ

والإشارة بقوله: 134- "تلك" إلى إبراهيم وبنيه ويعقوب وبينه و"أمة" بدل منه وخبره "قد خلت" أو أمة خبره، وقد خلت نعت لأمة، وقوله: "لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون" بيان لحال تلك الأمة وحال المخاطبين بأن لكل من الفريقين كسبه، لا ينفعه كسب غيره ولا يناله منه شيء ولا يضره ذنب غيره، وفيه الرد على من يتكل على عمل سلفه ويروح نفسه بالأماني الباطلة، ومنه ما ورد في الحديث: "من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه" والمراد: أنكم لا تنتفعون بحسناتهم ولا تؤاخدون بسيئاتهم ولا تسألون عن أعمالهم كما لا يسألون عن أعمالكم، ومثله "ولا تزر وازرة وزر أخرى"، "وأن ليس للإنسان إلا ما سعى".

وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ

ولما ادعت اليهود والنصارى أن الهداية بيدها والخير مقصور عليها رد الله ذلك عليهم بقوله: 135- "بل ملة إبراهيم" أي قل يا محمد هذه المقالة، ونصب ملة بفعل مقدر: أي نتبع، وقيل التقدير: نكون ملة إبراهيم: أي أهل ملته، وقيل: بل نهتدي بملة إبراهيم، فلما حذف حرف الجر صار منصوباً. وقرأ الأعرج وابن أبي عبلة ملة بالرفع: أي بل الهدي ملة إبراهيم. والحنيف: المائل عن الأديان الباطلة إلى دين الحق، وهو في أصل اللغة: الذي تميل قدماه كل واحدة إلى أختها. قال الزجاج وهو منصوب على الحال: أي نتبع ملة إبراهيم حال كونه حنيفاً. وقال علي بن سليمان: هو منصوب بتقدير أعني والحال خطأ كما لا يجوز جاءني غلام هند مسرعة. وقال في الكشاف: هو حال من المضاف إليه كقولك: رأيت وجه هند قائمة، وقال قوم: الحنف الاستقامة، فسمي دين إبراهيم حنيفاً لاستقامته، وسمي معوج الرجلين أحنف تفاؤلاً بالاستقامة، كما قيل للديغ سليم، وللمهلكة مفازة. وقد استدل من قال بأن الحنيف في اللغة المائل لا المستقيم بقول الشاعر: إذا حول الظل العشي رأيته حنيفاً وفي قرن الضحى يتنصر أي أن الحرباء تستقبل القبلة بالعشي، وتستقبل المشرق بالغداة، وهي قبلة النصارى، ومنه قول الشاعر: والله لولا حنف في رجله ما كان في رجالكم من مثله وقوله: "وما كان من المشركين" فيه تعريض باليهود لقولهم: " عزير ابن الله " وبالنصارى لقولهم: "المسيح ابن الله" أي أن إبراهيم ما كان على هذه الحالة التي أنتم عليها من الشرك بالله فكيف تدعون عليه أنه كان على اليهودية أو النصرانية.

قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَح

وقوله: 136- "قولوا: آمنا بالله" خطاب للمسلمين وأمر لهم بأن يقولوا هذه المقالة، وقيل: إنه خطاب للكفار بأن يقولوا كذلك حتى يكونوا على الحق، والأول أظهر. والأسباط: أولاد يعقوب وهم اثنا عشر ولداً، ولكل واحد منهم من الأولاد جماعة، والسبط في بني إسرائيل بمنزلة القبيلة في العرب، وسموا الأسباط من السبط وهو التتابع، فهم جماعة متتابعون، وقيل: أصله من السبط بالتحريك وهو الشجر: أي هم في الكثرة بمنزلة الشجر، وقيل: الأسباط حفدة يعقوب: أي أولاد أولاده لا أولاده، لأن الكثرة إنما كانت فيهم دون أولاد يعقوب في نفسه، فهم أفراد لا أسباط. وقوله: "لا نفرق بين أحد منهم" قال الفراء: معناه لا نؤمن ببعضهم ونكفر ببعضهم كما فعلت اليهود والنصارى. قال في الكشاف: وأحد في معنى الجماعة، ولذلك صح دخول بين عليه.

فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ

وقوله: 137- "فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به" هذا الخطاب للمسلمين أيضاً: أي فإن آمن أهل الكتاب وغيرهم بمثل ما آمنتم به من جميع كتب الله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم فقد اهتدوا، وعلى هذا فمثل زائدة كقوله: "ليس كمثله شيء" وقول الشاعر: فصيروا مثل كعصف مأكول وقيل: إن المماثلة وقعت بين الإيمانين: أي فإن آمنوا بمثل إيمانكم. وقال في الكشاف: إنه من باب التبكيت لأن دين الحق واحد لا مثل له وهو دين الإسلام، قال: أي فإن حصلوا ديناً آخر مثل دينكم مساوياً له في الصحة والسداد فقد اهتدوا، وقيل: إن الباء زائدة مؤكدة، وقيل: إنها للاستعانة. والشقاق أصله من الشق وهو الجانب، كأن كل واحد من الفريقين في جانب غير الجانب الذي فيه الآخر، وقيل: إنه مأخوذ من فعل ما يشق ويصعب، فكل واحد من الفريقين يحرص على فعل ما يشق على صاحبه، ويصح حمل الآية على كل واحد من المعنيين، وكذلك قول الشاعر: وإلا فاعلموا أنا وأنتم بغاة ما بقينا في شقاق وقول الآخر: إلى كم تقبل العلماء قسراً وتفخر بالشقاق وبالنفاق وقوله: " فسيكفيكهم الله " وعد من الله تعالى لنبيه أنه سيكفيه من عانده وخالفه من المتولين، وقد أنجز له وعده بما أنزله من بأسه بقريظة والنضير وبني قينقاع.

صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ

وقوله: 138- "صبغة الله" قال الأخفش وغيره: أي دين الله، قال: وهي منتصبة على البدل من ملة، كما قاله الفراء. وقال في الكشاف: إنها مصدر مؤكد منتصب عن قوله: "آمنا بالله" كما انتصب -وعد الله- عما تقدمه، وهي فعلة من صبغ كالجلسة من جلس، وهي الحالة التي يقع عليها الصبغ، والمعنى تطهير الله لأن الإيمان تطهير النفوس انتهى، وبه قال سيبويه: أي كونه مصدراً مؤكداً. وقد ذكر المفسرون أن أصل ذلك أن النصارى كانوا يصبغون أولادهم في الماء، وهو الذي يسمونه المعمودية ويجعلون ذلك تطهيراً لهم، فإذا فعلوا ذلك قالوا الآن صار نصرانياً حقاً، فرد الله عليهم بقوله: "صبغة الله" أي الإسلام، وسماه صبغة استعارة، ومنه قول بعض شعراء همدان: وكل أنــاس لهم صـبغـة وصبغة همدان خير الصبغ صبغنا على ذاك أولادنا فأكـرم بصبغتنـا في الصـبغ وقيل: إن الصبغة الاغتسال لمن أراد الدخول في الإسلام بدلاً من معمودية النصارى، ذكره الماوردي. وقال الجوهري: صبغة الله دينه وهو يؤيد ما تقدم عن الفراء، وقيل: الصبغة الختان.

قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ

وقوله: 139- "قل أتحاجوننا في الله" أي أتجادلوننا في الله: أي في دينه والقرب منه والحظوة عنده، وذلك كقولهم: "نحن أبناء الله وأحباؤه" وقرأ ابن محيصن أتحاجونا بالإدغام لاجتماع المثلين. وقوله: "وهو ربنا وربكم" أي نشترك نحن وأنتم في ربوبيته لنا وعبوديتنا له، فكيف تدعون أنكم أولى به منا وتحاجوننا في ذلك. وقوله: "لنا أعمالنا ولكم أعمالكم" أي لنا أعمال ولكم أعمال فلستم بأولى بالله منا، وهو مثل قوله تعالى: " فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون ". وقوله: "ونحن له مخلصون" أي نحن أهل الإخلاص للعبادة دونكم، وهو المعيار الذي يكون به التفاضل والخصلة التي يكون صاحبها أولى بالله سبحانه من غيره، فكيف تدعون لأنفسكم ما نحن أولى به منكم وأحق؟ وفيه توبيخ لهم وقطع لما جاءوا به من المجادلة والمناظرة.

أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْم

وقوله: 140- "أم يقولون" قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص تقولون بالتاء الفوقية، وعلى هذه القراءة تكون أم ها هنا معادلة للهمزة في قوله: "أتحاجوننا" أي أتحاجوننا في الله أم تقولون إن هؤلاء الأنبياء على دينكم، وعلى قراءة الياء التحتية تكون أم منقطعة: أي بل يقولون: وقوله: " قل أأنتم أعلم أم الله " فيه تقريع وتوبيخ: أي أن الله أخبرنا بأنهم لم يكونوا هوداً ولا نصارى وأنتم تدعون أنهم كانوا هوداً أو نصارى فهل أنتم أعلم أم الله سبحانه. وقوله: "ومن أظلم" استفهام: أي لا أحد أظلم "ممن كتم شهادة عنده من الله" يحتمل أن يريد بذلك الذم لأهل الكتاب بأنهم يعلمون أن هؤلاء الأنبياء ما كانوا هوداً ولا نصارى، بل كانوا على الملة الإسلامية، فظلموا أنفسهم بكتمهم لهذه الشهادة بل بادعائهم لما هو مخالف لها، وهو أشد في الذنب ممن اقتصر على مجرد الكتم الذي لا أحد أظلم منه، ويحتمل أن المراد أن المسلمين لو كتموا هذه الشهادة لم يكون أحد أظلم منهم، ويكون المراد بذلك التعريض بأهل الكتاب، وقيل: المراد هنا ما كتموه من صفة محمد صلى الله عليه وسلم. وفي قوله: "وما الله بغافل عما تعملون" وعيد شديد، وتهديد ليس عليه مزيد، وإعلام بأن الله سبحانه لا يترك عقوبتهم على هذا الظلم القبيح والذنب الفظيع.

تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ

وكرر قوله سبحانه: 141- "تلك أمة قد خلت" إلى آخر الآية لتضمنها معنى التهديد والتخويف الذي هو المقصود في هذا المقام. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله: "أم كنتم شهداء" يعني أهل الكتاب. وأخرج أيضاً عن الحسن في قوله: "أم كنتم شهداء" قال: يقول لم يشهد اليهود ولا النصارى ولا أحد من الناس يعقوب إذ أخذ على بنيه الميثاق إذ حضره الموت أن لا تعبدوا إلا الله، فأقروا بذلك وشهد عليهم أن قد أقرا بعبادتهم أنهم مسلمون. وأخرج عن ابن عباس أنه كان يقول: الجد أب ويتلو الآية. وأخرج أيضاً عن أبي العالية في الآية قال: سمي العم أباً. وأخرج أيضاً نحوه عن محمد بن كعب. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: قال عبد الله بن صوريا الأعور للنبي صلى الله عليه وسلم: ما الهدي إلا ما نحن عليه فاتبعنا يا محمد تهتد، وقالت النصارى مثل ذلك، فأنزل الله فيهم: "وقالوا كونوا هوداً" الآية. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "حنيفاً" قال: متبعاً. وأخرجا أيضاً عن ابن عباس في قوله: "حنيفاً" قال: حاجاً. وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب قال: الحنيف المستقيم. وأخرج أيضاً عن خصيف قال: الحنيف المخلص. وأخرج أيضاً عن أبي قلابة قال: الحنيف الذي يؤمن بالرسل كلهم من أولهم إلا آخرهم. وأخرج أحمد عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بعثت بالحنفية السمحة". وأخرج أحمد أيضاً والبخاري في الأدب المفرد وابن المنذر عن ابن عباس قال: "قيل: يا رسول الله أي الأديان أحب إلى الله؟ قال: الحنيفية السمحة". وأخرج الحاكم في تاريخه وابن عساكر من حديث أسعد بن عبد بالله بن مالك الخزاعي مرفوعاً مثله. وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في ركعتي الفجر في الأولى منهما الآية التي في البقرة "قولوا: آمنا بالله" كلها وفي الآخرة "آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون". وأخرج البخاري من حديث أبي هريرة قال: كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا: آمنا بالله" الآية. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: الأسباط بنو يعقوب كانوا اثني عشر رجلاً كل واحد منهم ولد أمة من الناس. وروى نحوه ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي، وحكاه ابن كثير في تفسيره عن أبي العالية والربيع وقتادة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس قال: لا تقولوا فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فإن الله لا مثل له، ولكن قولوا: فإن آمنوا بالذي آمنتم به. وأخرج ابن أبي داود في المصاحف والخطيب في تاريخه عن أبي جمرة قال: كان ابن عباس يقرأ " فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به ". وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله: "فإنما هم في شقاق" قال فراق. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "صبغة الله" قال: دين الله. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد قال: فطرة الله التي فطر الناس عليها. وأخرج ابن مردويه والضياء في المختارة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن بني إسرائيل قالوا: يا موسى هل يصبغ ربك؟ فقال: اتقوا الله، فناداه ربه: يا موسى سألوك هل يصبغ ربك فقل: نعم، أنا أصبغ الألوان الأحمر والأبيض والأسود والألوان كلها في صبغتي" وأنزل الله على نبيه: "صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة". وأخرجه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس موقوفاً. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة قال: إن اليهود تصبغ أبناءها يهوداً. والنصارى تصبغ أبناءها نصارى وإن صبغة الله الإسلام ولا صبغة أحسن من صبغة الإسلام ولا أطهر وهو دين الله الذي بعث به نوحاً ومن كان بعده من الأنبياء. وأخرج ابن النجار في تاريخ بغداد عن ابن عباس في قوله: "صبغة الله" قال: البياض. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "أتحاجوننا" قال: أتخاصموننا. وأخرج ابن جرير عنه قال: أتجادلوننا. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في قوله: "ومن أظلم ممن كتم شهادة" الآية، قال: أولئك أهل الكتاب كتموا الإسلام وهم يعلمون أنه دين الله، واتخذوا اليهودية والنصرانية، وكتموا محمداً وهم يعلمون أنه رسول الله. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن جرير عن الخسن نحوه. وأخرج ابن جرير عن قتادة والربيع في قوله: "تلك أمة قد خلت" قال: يعني إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط.

سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ

قوله: 142- "سيقول" هذا إخبار من الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين بأن السفهاء من اليهود والمنافقين سيقولون هذه المقالة عند أن تتحول القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة. وقيل إن "سيقول" بمعنى قال، وإنما عبر عن الماضي بلفظ المستقبل للدلالة على استدامته واستمرار عليه وقيل: إن الإخبار بهذا الخبر كان قبل التحول إلى الكعبة، وأن فائدة ذلك أن الإخبار بالمكروه إذا وقع قبل وقوعه كان فيه تهويناً لصدمته وتخفيفاً لروعته وكسراً لسورته. والسفهاء جمع سفيه، وهو الكذاب البهات المعتمد خلاف ما يعلم، كذا قال بعض أهل اللغة. وقال في الكشاف: هم خفاف الأحلام، ومثله في القاموس. وقد تقدم في تفسير قوله: "إلا من سفه نفسه" ما ينبغي الرجوع إليه، ومعنى: "ما ولاهم" ما صرفهم "عن قبلتهم التي كانوا عليها" وهي بيت المقدس، فرد الله عليهم بقوله: "قل لله المشرق والمغرب" فله أن يأمر بالتوجه إلى أي جهة شاء. وفي قوله: "يهدي من يشاء" إشعار بأن تحويل القبلة إلى مكة من الهداية للنبي صلى الله عليه وسلم ولأهل ملته إلى الصراط المستقيم.

وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإ

وقوله: 143- "وكذلك جعلناكم" أي مثل ذلك الجعل جعلناكم، قيل معناه: وكما أن الكعبة وسط الأرض كذلك جعلناكم أمة وسطاً. والوسط الخيار أو العدل، والآية محتملة للأمرين، ومما يحتملهما قول زهير: هم وسط ترضى الأنام بحكمهم إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم ومثله قول الآخر: أنتم أوسط حي علموا بصغير الأمر أو إحدى الكبر وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم تفسير الوسط هنا بالعدل كما سيأتي، فوجب الرجوع إلى ذلك ومنه قول الراجز: لا تذهبن في الأمـــور مفرطا لا تسـألن إن سـألت شططا وكن من الناس جميعاً وسطا ولما كان الوسط مجانياً للغلو والتقصير كان محموداً: أي هذه الأمة لم تغل غلو النصارى في عيسى ولا قصروا تقصير اليهود في أنبيائهم، ويقال فلان أوسط قومه وواسطتهم: أي خيارهم. وقوله: "لتكونوا شهداء على الناس" أي يوم القيامة تشهدون للأنبياء على أممهم قد بلغوهم ما أمرهم الله بتبليغه إليهم، ويكون الرسول شهيداً على أمته بأنهم قد فعلوا ما أمر بتبليغه إليهم، ومثله قوله تعالى: "فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً"، قيل: إن قوله: "عليكم" يعني لكم: أي يشهد لهم بالإيمان، وقيل معناه: يشهد عليكم بالتبليغ لكم. قال في الكشاف: لما كان الشهيد كالرقيب والمهيمن على المشهود له جيء بكلمة الاستعلاء، ومنه قوله تعالى: "والله على كل شيء شهيد". "كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد" انتهى. وقالت طائفة: معنى الآية يشهد بعضكم على بعض بعد الموت، وقيل: المراد لتكونوا شهداء على الناس في الدنيا فيما لا يصح إلا بشهادة العدول. وسيأتي من المرفوع ما يبين معنى الآية إن شاء الله، وإنما أخر لفظ على في شهادة الأمة على الناس، وقدمها في شهادة الرسول عليهم، لأن الغرض كما قال صاحب الكشاف في الأول: إثبات شهادتهم على الأمم، وفي الآخر اختصاصهم بكون الرسول شهيداً عليهم. وقوله: "وما جعلنا القبلة التي كنت عليها" قيل: المراد بهذه القبلة هي بيت المقدس: أي ما جعلناها إلا لنعلم المتبع والمنقلب، ويؤيد هذا قوله: "كنت عليها" إذا كان نزول هذه الآية بعد صرف القبلة الكعبة، وقيل: المراد الكعبة: أي ما جعلنا القبلة التي أنت عليها الآن بعد أن كانت إلى بيت المقدس إلا لذلك الغرض، ويكون "كنت" بمعنى الحال، وقيل: المراد بذلك القبلة التي كان عليها قبل استقبال بيت المقدس فإنه كان يستقبل في مكة الكعبة، ثم لما هاجر توجه إلى بيت المقدس تألفاً لليهود ثم صرف إلى الكعبة. وقوله: "إلا لنعلم" قيل: المراد بالعلم هنا الرؤية، وقيل: المراد إلا لتعلموا أنا نعلم بأن المنافقين كانوا في شك، وقيل: ليعلم النبي، وقيل: المراد لنعلم ذلك موجوداً حاصلاً، وهكذا ما ورد معللاً بعلم الله سبحانه لا بد أن يؤول بمثل هذا كقوله: "وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء". وقوله: "وإن كانت لكبيرة" أي ما كانت إلا كبيرة، كما قاله الفراء في أن وإن أنهما بمعنى ما وإلا. وقال البصريون: هي الثقيلة خففت، والضمير في كانت راجع إلى ما يدل عليه قوله: "وما جعلنا القبلة التي كنت عليها" من التحويلة أو التولية أو الجعلة أو الردة، ذكر معنى ذلك الأخفش ولا مانع من أن يرجع الضمير إلى القبلة المذكورة: أي وإن كانت القبلة المتصفة بأنك كنت عليها لكبيرة إلا على الذين هداهم الله للإيمان، فانشرحت صدورهم لتصديقك، وقبلت ما جئت به عقولهم، وهذا الاستثناء مفرغ لأن ما قبله في قوة النفي: أي لأنها لا تخف ولا تسهل إلا على الذين هدى الله. وقوله: "ما كان الله ليضيع إيمانكم" قال القرطبي: اتفق العلماء على أنها نزلت فيمن مات وهو يصلي إلى بيت المقدس، ثم قال: فسمى الصلاة إيماناً لاجتماعها على نية وقول وعمل، وقيل: المراد ثبات المؤمنين على الإيمان عند تحويل القبلة، وعدم ارتيابهم كما ارتاب غيرهم. والأول يتعين القول به، والمصير إليه لما سيأتي من تفسيره صلى الله عليه وسلم للآية بذلك. والرؤوف كثير الرأفة، وهي أشد من الرحمة. قال أبو عمرو بن العلاء: الرأفة أكبر من الرحمة والمعنى متقارب. وقرأ أبو جعفر بن يزيد بن القعقاع لروف بغير همز، وهي لغة بني أسد، ومنه قول الوليد بن عتبة: وشر الغالبين فلا تكنه يقاتل عمه الروف الرحيم وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن البراء "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أول ما نزل المدينة نزل على أخواله من الأنصار، وأنه صلى إلى بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهراً، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، وأن أول صلاة صلاها العصر، وصلى معه قوم، فخرج رجل ممن كان صلى معه فمر على أهل المسجد وهم راكعون فقال: أشهد بالله لقد صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل الكعبة، فداروا كما هم قبل البيت وكانت اليهود قد أعجبهم إذ كان يصلي قبل بيت المقدس وأهل الكتاب فلما ولى وجهه قبل البيت أنكروا ذلك وكان الذي مات على القبلة قبل أن تحول قبل البيت رجال، وقتلوا فلم ندر ما يقول فيهم، فأنزل الله: " وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرؤوف رحيم " " وله طرق أخر وألفاظ متقاربة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس قال: إن أول ما نسخ في القرآن القبلة. وأخرج ابن أبي شيبة وأبو داود في ناسخه والبيهقي في سننه عن ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بمكة نحو بيت المقدس والكعبة بين يديه، وبعد ما تحول إلى المدينة ستة عشر شهراً، ثم صرفه الله إلى الكعبة". وفي الباب أحاديث كثيرة بمضمون ما تقدم، وكذلك وردت أحاديث في الوقت الذي نزل فيه استقبال القبلة، وفي كيفية استدارة المصلين لما بلغهم ذلك، وقد كانوا في الصلاة فلا نطول بذكرها. وأخرج سعيد بن منصور وأحمد والنسائي والترمذي وصححه والحاكم وصححه وابن جرير وابن أبي حاتم وابن حبان والإسماعيلي في صحيحه والحاكم وصححه عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "وكذلك جعلناكم أمة وسطاً" قال: عدلاً. وأخرج ابن جرير عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس مثله. وأخرج أحمد والبخاري والترمذي والنسائي وغيرهم عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يدعى نوح يوم القيامة، فيقال له: هل بلغت؟ فيقول: نعم، فيدعى قومه فيقال لهم: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير، وما أتانا من أحد، فيقال لنوح: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته" فذلك قوله: "وكذلك جعلناكم أمة وسطاً" قال: والوسط العدل، فتدعون فتشهدون له بالبلاغ وأشهد عليكم. وأخرج سعيد بن منصور وأحمد والنسائي وابن ماجه عن أبي سعيد نحوه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنا وأمتي يوم القيامة على كوم مشرفين على الخلائق، ما من الناس أحد إلا ود أنه منا، وما من نبي كذبه قومه إلا ونحن نشهد أنه بلغ رسالة ربه". وأخرج ابن جرير عن أبي سعيد في قوله: "وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس" بأن الرسل قد بلغوا "ويكون الرسول عليكم شهيداً" بما عملتم، وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس قال:" مروا بجنازة فأثني عليها خيراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وجبت وجبت وجبت، ومروا بجنازة فأثني عليها شراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وجبت وجبت وجبت فسأله عمر فقال: من أثنيتم عليه خيراً وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه شراً وجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض" زاد الحكيم الترمذي " ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وكذلك جعلناكم أمة وسطاً" الآية" وفي الباب أحاديث منها عن جابر مرفوعاً عند ابن المنذر والحاكم وصححه، ومنها عن عمر مرفوعاً عند ابن أبي شيبة وأحمد والبخاري والترمذي والنسائي، ومنها عن أبي زهير الثقفي مرفوعاً عند أحمد وابن ماجه والطبراني والدارقطني في الإفراد والحاكم في المستدرك والبيهقي في السنن، ومنها عن أبي هريرة مرفوعاً عند ابن جرير وابن أبي حاتم، ومنها عن سلمة بن الأكوع مرفوعاً عند ابن أبي شيبة وابن جرير والطبراني. وأخرج ابن جرير عن عطاء في قوله تعالى: "وما جعلنا القبلة التي كنت عليها" قال: يعني بيت المقدس "إلا لنعلم" قال: نبتليهم لنعلم من يسلم لأمره. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله: "إلا لنعلم" قال: لنميز أهل اليقين من أهل الشك "وإن كانت لكبيرة" يعني تحويلها على أهل الشرك والريب. وأخرج ابن جرير عن ابن جريج قال: بلغني أن ناساً ممن أسلم رجعوا فقالوا: مرة ها هنا ومرة ها هنا. وأخرج أحمد وعبد بن حميد والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن حبان والطبراني والحاكم وصححه عن ابن عباس قال:" لما وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القبلة، قالوا: يا رسول الله فكيف بالذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس فأنزل الله: "وما كان الله ليضيع إيمانكم"". وقد تقدم حديث البراء. وفي الباب أحاديث كثيرة، وآثار عن السلف.

قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن

قوله: 144- "قد نرى تقلب وجهك" قال القرطبي في تفسيره: قال العلماء: هذه الآية مقدمة في النزول على قوله: "سيقول السفهاء"، ومعنى: "قد" تكثير الرؤية، كما قاله صاحب الكشاف، ومعنى: "تقلب وجهك" تحول وجهك إلى السماء، قاله قطرب. قال الزجاج: تقلب عينيك في النظر إلى السماء، والمعنى متقارب. وقوله: "فلنولينك" هو إما من الولاية: أي فلنعطينك ذلك. أو من التولي: أي فلنجعلنك متولياً إلى جهتها، وهذا أولى لقوله: "فول وجهك شطر المسجد الحرام". والمراد بالشطر هنا: الناحية والجهة، وهو منتصب على الظرفية ومنه قول الشاعر: أقول لأم زنباع أقيمي صدور العيس شطر بني تميم ومنه أيضاً قول الآخر: ألا من مبلغ عمراً رسولاً وما تغني الرسالة شطر عمرو وقد يراد بالشطر النصف، ومنه "الوضوء شطر الإيمان"، ومنه قول عنترة: إني امرؤ من خير عبس منصباً شطري وأحمي سائري بالمنصل قال ذلك لأن أباه من سادات عبس وأمه أمة، ويرد بمعنى البعض مطلقاً. ولا خلاف أن المراد بشطر المسجد هنا الكعبة. وقد حكى القرطبي الإجماع على أن استقبال عين الكعبة فرض على المعاين، وعلى أن غير المعاين يستقبل الناحية، ويستدل على ذلك بما يمكنه الاستدلال به، والضمير في قوله: "أنه الحق" راجع إلى ما يدل عليه الكلام من التحول إلى جهة الكعبة، وعلم أهل الكتاب بذلك إما لكونه قد بلغهم عن أنبيائهم أو وجدوا في كتب الله المنزلة عليهم أن هذا النبي يستقبل الكعبة، أو لكونهم قد علموا من كتبهم أو أنبيائهم أن النسخ سيكون في هذه الشريعة فيكون ذلك موجباً عليهم الدخول في الإسلام ومتابعة النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: "وما الله بغافل عما يعملون" قد تقدم معناه. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي تعملون بالمثناة الفوقية على مخاطبة أهل الكتاب أو أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وقرأ الباقون بالياء التحتية.

وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آَيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَم

وقوله: 145- "ولئن أتيت" هذه اللام هي موطئة للقسم، والتقدير: والله لئن أتيت. وقوله: "ما تبعوا" جواب القسم المقدر قال الأخفش والفراء: أجيب لئن بجواب لو لأن المعنى: ولو أتيت، ومثله قوله تعالى: "ولئن أرسلنا ريحاً فرأوه مصفراً لظلوا" أي ولو أرسلنا، وإنما قالا هكذا لأن لئن هي ضد لو، وذلك أن الأولى تطلب في جوابها المضي والوقوع ولئن تطلب في جوابها الاستقبال. وقال سيبويه: إن معنى لئن يخالف معنى لو فلا تدخل إحداهما على الأخرى، فالمعنى: " ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك ". قال سيبويه: ومعنى: "ولئن أرسلنا ريحاً فرأوه مصفراً" ليظللن انتهى. وفي هذه الآية مبالغة عظيمة وهي متضمنة للتسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وترويح خاطره لأن هؤلاء لا تؤثر فيهم كل آية، ولا يرجعون إلى الحق وإن جاءهم بكل برهان فضلاً عن برهان واحد وذلك أنهم لم يتركوا اتباع الحق لدليل عندهم أو لشبهة طرأت عليهم، حتى يوازنوا بين ما عندهم وما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقلعوا عن غوايتهم عند وضوح الحق، بل كان تركهم للحق تمرداً وعناداً مع علمهم بأنهم ليسو على شيء، ومن كان هكذا فهو لا ينتفع بالبرهان أبداً. وقوله: "وما أنت بتابع قبلتهم" هذه الإخبار ممكن أن يكون بمعنى النهي من الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم: أي لا تتبع يا محمد قبلتهم ويمكن أن يكون على ظاهره دفعاً لأطماع أهل الكتاب، وقطعاً لما يرجونه من رجوعه صلى الله عليه وسلم إلى القبلة التي كان عليها. وقوله: "وما بعضهم بتابع قبلة بعض" فيه إخبار بأن اليهود والنصارى مع حرصهم على مبايعة الرسول صلى الله عليه وسلم لما عندهم مختلفون في دينهم حتى في هذا الحكم الخاص الذي قصه الله سبحانه على رسوله، فإن بعضهم لا يتابع الآخر في استقبال قبلته. قال في الكشاف: وذلك أن اليهود تستقبل بيت المقدس والنصارى تستقبل مطلع الشمس انتهى. وقوله: "ولئن اتبعت أهواءهم" إلى آخر الآية، فيه من التهديد العظيم والزجر البليغ ما تقشعر له الجلود وترجف منه الأفئدة، وإذا كان الميل إلى أهوية المخالفين لهذه الشريعة الغراء والملة الشريفة من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو سيد ولد آدم يوجب عليه أن يكون وحاشاه من الظالمين، فما ظنك بغيره من أمته، وقد صان الله هذه الفرقة الإسلامية يعد ثبوت قدم الإسلام وارتفاع مناره عن أن يميلوا إلى شيء من هوى أهل الكتاب، ولم تبق إلا دسيسة شيطانية ووسيلة طاغوتية، وهي ميل بعض من تحمل حجج الله إلى هوى بعض طوائف المبتدعة، لما يرجوه من الحطام العاجل من أيديهم أو الجاه لديهم إن كان لهم في الناس دولة، أو كانوا من ذوي الصولة، وهذا الميل ليس بدون ذلك الميل، بل اتباع أهوية المبتدعة تشبه اتباع أهوية أهل الكتاب، كما يشبه الماء الماء، والبيضة البيضة، والتمرة التمرة، وقد تكون مفسدة اتباع أهوية المبتدعة أشد على هذه الملة من مفسدة اتباع أهوية أهل الملل، فإن المبتدعة ينتمون إلى الإسلام، ويظهرون للناس أنهم ينصرون الذين ويتبعون أحسنه، وهم على العكس من ذلك والضد لما هنالك، فلا يزالون ينقلون من يميل إلى أهويتهم من بدعة إلى بدعة ويدفعونه من شنعة إلى شنعة، حتى يسلخوه من الدين ويخرجوه منه، وهو يظن أنه منه في الصميم، وأن الصراط الذي هو عليه هو الصراط المستقيم، هذا إن كان في عداد المقصرين، ومن جملة الجاهلين، وإن كان من أهل العلم والفهم المميزين بين الحق والباطل كان في اتباعه لأهويتهم ممن أظله الله على علم وختم على قلبه، وصار نقمة على عباد الله ومصيبة صبها الله على المقصرين، لأنهم يعتقدون أنه في علمه وفهمه لا يميل إلا إلى الحق، ولا يتبع إلا الصواب، فيضلون بضلاله، فيكون عليه إثمه وإثم من اقتدى به إلى يوم القيامة، نسأل الله اللطف والسلامة والهداية.

الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ

وقوله: 146- "الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه" قيل: الضمير لمحمد صلى الله عليه وسلم: أي يعرفون نبوته. روي ذلك عن مجاهد وقتادة وطائفة من أهل العلم، وقيل: يعرفون تحويل القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة بالطريق التي قدمنا ذكرها، وبه قال جماعة من المفسرين، ورجح صاحب الكشاف الأول. وعندي أن الراجح الآخر كما يدل عليه السياق الذي سيقت له هذه الآيات. وقوله: "ليكتمون الحق" هو عند أهل القول الأول نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وعند أهل القول الثاني استقبال الكعبة.

الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ

وقوله: 147- "الحق من ربك" يحتمل أن يكون المراد به الحق الأول، ويحتمل أن يراد به جنس الحق على أنه خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ وخبره قوله: من ربك أي الحق هو الذي من ربك لا من غيره. وقرأ علي بن أبي طالب "الحق" بالنصب على أنه بدل من الأول أو منصوب على الإغراء أي الزم الحق. وقوله: "فلا تكونن من الممترين" خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والامتراء: الشك، نهاه الله سبحانه عن الشك في كونه الحق من ربه، أو في كون كتمانهم الحق مع علمهم، وعلى الأول هو تعريض للأمة: أي لا يكن أحد من أمته من الممترين، لأنه صلى الله عليه وسلم لا يشك في كون ذلك هو الحق من الله سبحانه. وقد أخرج ابن ماجه عن البراء قال: صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس ثمانية عشر شهراً، وصرفت القبلة إلى الكعبة بعد دخوله إلى المدينة بشهرين، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى إلى بيت المقدس أكثر تقليب وجهه في السماء، وعلم الله من قلب نبيه أنه يهوى الكعبة فصعد جبريل فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبعه بصره وهو يصعد بين السماء والأرض ينظر ما يأتيه به، فأنزل الله "قد نرى تقلب وجهك في السماء" الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا جبريل كيف حالنا في صلاتنا إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله "وما كان الله ليضيع إيمانكم". وأخرجه الطبراني من حديث معاذ مختصراً لكنه قال: سبعة عشر شهراً. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني في الكبير والحاكم وصححه عن عبد الله بن عمرو في قوله تعالى: "فلنولينك قبلة ترضاها" قال: قبلة إبراهيم نحو الميزاب. وأخرج عبد بن حميد وأبو داود في ناسخه وابن جرير وابن أبي حاتم عن البراء في قوله: "فول وجهك شطر المسجد الحرام" قال: قبله. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن علي مثله. وأخرج أبو داود في ناسخه وابن جرير والبيهقي عن ابن عباس قال: "شطره" نحوه. وأخرج البيهقي عن مجاهد مثله. وأخرج ابن شيبة وعبد بن حميد وابن جرير عن أبي العالية قال: "شطر المسجد الحرام" تلقاءه. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: البيت كله قبلة وقبلة البيت الباب. وأخرج البيهقي في سننه عنه مرفوعاً قال: "البيت قبلة لأهل المسجد والمسجد قبلة لأهل الحرم والحرم قبلة لأهل الأرض في مشارقها ومغاربها من أمتي" وأخرج ابن جرير عن السدي في قوله: "وإن الذين أوتوا الكتاب" قال: أنزل ذلك في اليهود. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ليعلمون أنه الحق" قال: يعني بذلك القبلة. وأخرج أبو داود في ناسخه وابن جرير عن أبي العالية نحوه. وأخرج ابن جرير عن السدي في قوله: "وما بعضهم بتابع قبلة بعض" يقول: ما اليهود بتابعي قبلة النصارى، ولا النصارى بتابعي قبلة اليهود. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "الذين آتيناهم الكتاب" قال: اليهود والنصارى "يعرفونه" قال: يعرفون رسول الله في كتابهم "كما يعرفون أبناءهم".وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عنه في قوله: "يعرفونه" أي يعرفون أن البيت الحرام هو القبلة. وأخرج ابن جرير عن الربيع مثله. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله: "وإن فريقاً منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون" قال: يكتمون محمداً وهم يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل. وأخرج أبو داود في ناسخه وابن جرير عن أبي العالية قال: قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: "الحق من ربك فلا تكونن من الممترين" يقول: لا تكونن في شك يا محمد أن الكعبة هي قبلتك، وكانت قبلة الأنبياء من قبلك.

وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ

قوله: 148- "ولكل" بحذف المضاف إليه لدلالة التنوين عليه: أي لكل أهل دين وجهة، والوجهة فعلة من المواجهة وفي معناها الجهة والوجه، والمراد القبلة: أي أنهم لا يتبعون قبلتك وأنت لا تتبع قبلتهم "ولكل وجهة" إما بحق وإما بباطل، والضمير في قوله: "هو موليها" راجع إلى لفظ كل. والهاء في قوله: "موليها" هي المفعول الأول، والمفعول الثاني محذوف: أي موليها وجهه. والمعنى: أن لكل صاحب ملة قبلة صاحب القبلة موليها وجهه، أو لكل منكم يا أمة محمد قبلة يصلي إليها من شرق أو غرب أو جنوب أو شمال إذا كان الخطاب للمسلمين- ويحتمل أن يكون الضمير لله سبحانه وإن لم يجر له ذكر، إذ هو معلوم أن الله فاعل ذلك، والمعنى: أن لكل صاحب ملة قبلة الله موليها إياه. وحكى الطبري أن قوماً قرأوا ولكل وجهة بالإضافة، ونسب هذه القراءة أبو عمرو الداني إلى ابن عباس. قال في الكشاف: والمعنى: وكل وجهة الله موليها فزيدت اللام لتقدم المفعول كقولك لزيد ضربت ولزيد أبوه ضاربه انتهى. وقرأ ابن عباس وابن عامر: مولاه على ما لم يسم فاعله: قال الزجاج: والضمير على هذه البراءة لواحد: أي ولكل واحد من الناس قبلة الواحد مولاها: أي مصروف إليها. وقوله: "فاستبقوا الخيرات" أي إلى الخيرات على الحذف والإيصال: أي بادروا إلى ما أمركم الله من استقبال البيت الحرام كما يفيده السياق وإن كان ظاهره الأمر بالاستباق إلى كل ما يصدق عليه أنه خير كما يفيده العموم المستفاد من تعريف الخيرات، والمراد من الاستباق إلى الاستقبال: الاستباق إلى الصلاة في أول وقتها. ومعنى قوله: " أين ما تكونوا يأت بكم الله " أي في جهة من الجهات المختلفة تكونوا يأت بكم الله للجزاء يوم القيامة أو يجمعكم جميعاً، ويجعل صلاتكم في الجهات المختلفة كأنها إلى جهة واحدة.

وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ

وقوله: 149- "ومن حيث خرجت" كرر سبحانه هذا لتأكيد الأمر باستقبال الكعبة، وللاهتمام به، لأن موقع التحويل كان معتنى به في نفوسهم، وقيل: وجه التكرير أن النسخ من مظان الفتنة ومواطن الشبهة، فإذا سمعوه مرة بعد أخرى ثبتوا واندفع ما يختلج في صدورهم، وقيل: إنه كرر هذا الحكم لتعدد علله، فإنه سبحانه ذكر للتحويل ثلاث علل: الأولى ابتغاء مرضاته، والثانية جري العادة الإلهية أن يولي كل أهل ملة وصاحب دعوة جهة يستقل بها والثالثة دفع حجج المخالفين فقرن بكل علة معلولها، وقيل أراد بالأول: ول وجهك شطر الكعبة إذا صليت تلقاءها، ثم قال: وحيثما كنتم معاشر المسلمين في سائر المساجد بالمدينة وغيرها فولوا وجوهكم شطره، ثم قال: "ومن حيث خرجت" يعني وجوب الاستقبال في الأسفار فكان هذا أمر بالتوجه إلى الكعبة في جميع المواطن من نواحي الأرض.

وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَت

وقوله: 150- "لئلا يكون للناس عليكم حجة" قيل معناه: لئلا يكون لليهود عليكم حجة إلا للمعاندين منهم للقائلين: ما ترك قبلتنا إلى الكعبة إلا ميلاً إلى دين قومه فعلى هذا المراد بالذين ظلموا: المعاندون من أهل الكتاب، وقيل: هم مشركو العرب، وحجتهم قولهم: راجعت قبلتنا، وقيل معناه: لئلا يكون للناس عليكم حجة لئلا يقولوا لكم: قد أمرتم باستقبال الكعبة ولستم ترونها. وقال أبو عبيدة: إن إلا ها هنا بمعنى الواو: أي والذين ظلموا فهو استثناء بمعنى الواو، ومنه قول الشاعر: ما بالمدينة دار غير واحدة دار الخليفة إلا دا مروانا كأنه قال: إلا دار الخليفة ودار مروان، وأبطل الزجاج هذا القول وقال: إنه استثناء منقطع: أي ولكن الذين ظلموا منهم فإنهم يحتجبون، ومعناه: إلا من ظلم باحتجاجه فيما قد وضح له كما تقول: ما لك علي حجة إلا أن تظلمني: أي ما لك علي حجة البتة ولكنك تظلمني، وسمى ظلمه حجة لأن المحتج بها سماه حجة وإن كانت داحضة. وقال قطرب: يجوز أن يكون المعنى: " لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا "، فالذين بدل من الكاف والميم في عليكم. ورجح ابن جرير الطبري أن الاستثناء متصل، وقال: نفى الله أن يكون لأحد حجة على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في استقبالهم الكعبة، والمعنى: لا حجة لأحد عليكم إلا الحجة الداحضة حيث قالوا ما ولاهم، وقالوا: إن محمداً تحير في دينه، وما توجه إلى قبلتنا إلا أنا أخدى منه. وغير ذلك من الأقوال التي لم تنبعث إلا من عابد وثن أو من يهودي أو منافق. قال: والحجة بمعنى المحاجة التي هي المخاصمة والمجادلة، وسماها تعالى حجة وحكم بفسادها حيث كانت من ظالم. ورجح ابن عطية أن الاستثناء منقطع كما قال الزجاج: قال القرطبي: وهذا على أن يكون المراد بالناس اليهود ثم استثنى كفار العرب كأنه قال: لكن الذين ظلموا في قولهم رجع محمد إلى قبلتنا وسيرجع إلى ديننا كله. وقوله: "فلا تخشوهم" يريد الناس: أي لا تخافوا مطاعنهم فإنها داحضة باطلة لا تضركم. وقوله: "ولأتم نعمتي عليكم" معطوف على "لئلا يكون" أي ولأن أتم قاله الأخفش، وقيل: هو مقطوع عما قبله في موضع رفع بالابتداء، والخبر مضمر، والتقدير: ولأتم نعمتي عليكم عرفتكم قبلتي قاله الزجاج، وقيل: معطوف على علة مقدرة كأنه قيل: واخشوني لأوفقكم ولأتم نعمتي عليكم. وإتمام النعمة الهداية إلى القبلة، وقيل: دخول الجنة.

كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ

وقوله: 151- "كما أرسلنا" الكاف في موضع نصب على النعت لمصدر محذوف. والمعنى: ولأتم نعمتي عليكم إتماماً مثل ما أرسلنا قاله الفراء، ورجحه ابن عطية. وقيل: الكاف في موضع نصب على الحال، والمعنى: ولأتم نعمتي عليكم في هذه الحال، والتشبيه واقع على أن النعمة في القبلة كالنعمة في الرسالة. وقيل معنى الكلام على التقديم والتأخير: أي فاذكروني كما أرسلنا قاله الزجاج.

فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ

وقوله: 152- "فاذكروني أذكركم" أمر وجوابه، وفيه معنى المجازاة. قال سعيد بن جبير: ومعنى الآية اذكروني بالطاعة أذكركم بالثواب والمغفرة حكاه عنه القرطبي في تفسيره، وأخرجه عنه عبد بن حميد وابن جرير، وقد روي نحوه مرفوعاً كما سيأتي. وقوله: "واشكروا لي" قال الفراء: شكر لك وشكرت لك. والشكر: معرفة الإحسان والتحدث به، وأصله في اللغة: الطهور. وقد تقدم الكلام فيه. وقوله: "ولا تكفرون" نهي ولذلك حذفت نون الجماعة، وهذه الموجودة في الفعل هي نون المتكلم، وحذفت الياء لانها رأس آية، وإثباتها حسن في غير القرآن. والكفر هنا: ستر النعمة لا التكذيب، وقد تقدم الكلام فيه. وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ولكل وجهة هو موليها" قال: يعني بذلك أهل الأديان، يقول: لكل قبلة يرضونها. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أنه قال في تفسير هذه الآية: صلوا نحو بيت المقدس مرة، ونحو الكعبة مرة أخرى. وأخرج أبو داود في ناسخه عن قتادة نحوه. وأخرج ابن جرير عن قتادة في قوله: "فاستبقوا الخيرات" يقول: لا تغلبن على قبلتكم. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في قوله: "فاستبقوا الخيرات" قال: الأعمال الصالحة. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله: "فاستبقوا الخيرات" يقول: فسارعوا في الخيرات " أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعا " قال: يوم القيامة. وأخرج ابن جرير من طريق السدي عن ابن عباس وابن مسعود وناس من الصحابة قال: لما صرف النبي صلى الله عليه وسلم نحو الكعبة بعد صلاته إلى بيت المقدس قال المشركون من أهل مكة: تحير على محمد دينه، فتوجه بقبلته إليكم وعلم أنكم أهدى منه سبيلاً ويوشك أن يدخل دينكم، فأنزل الله: "لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني". وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في قوله: "لئلا يكون للناس عليكم حجة" قال: يعني بذلك أهل الكتاب حين صرف نبي الله إلى الكعبة قالوا: اشتاق الرجل إلى بيت أبيه ودين قومه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد قال: حجتهم قولهم قد أحب قبلتنا. وأخرج أبو داود في ناسخه وابن جرير وابن المنذر عن قتادة ومجاهد في قوله: "إلا الذين ظلموا منهم" قال: الذين ظلموا منهم مشركو قريش أنهم سيحتجون بذلك عليكم، واحتجوا على نبي الله بانصرافه إلى البيت الحرام وقالوا: سيرجع إلى ديننا كما رجع إلى قبلتنا، فأنزل الله في ذلك كله "يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين". وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله: "كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم" يعني محمداً صلى الله عليه وسلم. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله: "كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم" يقول: كما فعلت فاذكروني. وأخرج أبو الشيخ والديلمي من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فاذكروني أذكركم" يقول: اذكروني يا معشر العباد بطاعتي أذكركم بمغفرتي. وأخرج الديلمي وابن عساكر مثله مرفوعاً من حديث أبي هند الداري وزاد: فمن ذكرني وهو مطيع فحق علي أن أذكره بمغفرتي، ومن ذكرني وهو لي عاص فحق علي أن أذكره بمقت. وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس: يقول الله: "ذكري لكم خير من ذكركم لي". وقد ورد في فضل ذكر الله على الإطلاق وفضل الشكر أحاديث كثيرة.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ

لما فرغ سبحانه من إرشاده عباده إلى ذكره وشكره، عقب ذلك بإرشادهم إلى الاستعانة بالصبر والصلاة، فإن من جمع بين ذكر الله وشكره، واستعان بالصبر والصلاة على تأدية ما أمر الله به، ودفع ما يرد عليه من المحن فقد هدي إلى الصواب ووفق إلى الخير، وإن هذه المعية التي أوضحهغا الله بقوله: 153- "إن الله مع الصابرين" فيها أعظم ترغيب لعباده سبحانه إلى لزوم الصبر على ما ينوب من الخطوب، فمن كان الله معه لم يخش من الأهوال وإن كانت الجبال.

وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ

154- " ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون " وأموات وأحياء مرتفعان على أنهما خبران لمحذوفين: أي لا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله هم أموات بل هم أحياء، ولكن لا تشعرون بهذه الحياة عند مشاهدتكم لأبدانهم بعد سلب روحهم، لأنكم تحكمون عليها بالموت في ظاهر الأمر بحسب ما يبلغ إليه علمكم الذي هو بالنسبة إلى علم الله كما يأخذ الطائر في منقاره من ماء البحر، وليسوا كذلك في الواقع بل هم أحياء في البرزخ. وفي الآية دليل على ثبوت عذاب القبر، ولا اعتداد بخلاف من خالف في ذلك، فقد تواترت به الأحاديث الصحيحة ودلت عليه الآيات القرآنية، ومثل هذه الآية قوله تعالى: "ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون".

وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ

والبلاء أصله المحنة، ومعنى نبلونكم: تمتحنكم لنختبركم هل تصبرون على القضاء أم لا؟ وتنكير شيء للتقليل: أي بشيء قليل من هذه الأمور. وقرأ الضحاك بأشياء. والمراد بالخوف: ما يحصل لمن يخشى من نزول ضرر به من عدو أو غيره. وبالجوع: المجاعة التي تحصل عند الجدب والقحط. وبنقص الأموال: ما يحدث فيها بسبب الجوائح وما أوجه الله فيها من الزكاة ونحوها. وبنقص الأنفس: الموت والقتل في الجهاد. وبنقص الثمرات: ما يصيبها من الآفات وهو من عطف الخاص على العام لشمول الأموال للثمرات وغيرها- وقيل: المراد بنقص الثمرات: موت الأولاد. وقوله: 155- "وبشر الصابرين" أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل من يقدر على التبشير. وقد تقدم معنى البشارة. والصبر أصله الحبس، ووصفهم بأنهم المسترجعون عند المصيبة، لأن ذلك تسليم ورضا.

الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ

والمصيبة واحدة المصائب: وهي النكبة التي يتأذى بها الإنسان وإن صغرت. وقوله: 156- "إنا لله وإنا إليه راجعون" فيه بيان أن هذه الكلمات ملجأ للمصابين وعصمة للممتحنين، فإنها جامعة بين الإقرار بالعبودية لله، والاعتراف بالبعث والنشور.

أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ

ومعنى الصلوات هنا: المغفرة والثناء الحسن قاله الزجاج. وعلى هذا فذكر الرحمة لقصد التأكيد. وقال في الكشاف: الصلاة الرحمة والتعطف، فوضعت موضع الرأفة، وجمع بينها وبين الرحمة كقوله: رأفة ورحمة "رؤوف رحيم" والمعنى: عليهم رأفة بعد رأفة ورحمة بعد رحمة انتهى. وقيل: المراد بالرحمة: كشف الكربة وقضاء الحاجة. 157- و"المهتدون" قد تقدم معناه، وإنما وصفوا هنا بذلك لكونهم فعلوا ما فيه الوصول إلى طريق الصواب من الاسترجاع والتسليم. وأخرج الحاكم والبيهقي في الدلائل عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قال: غشي على عبد الرحمن بن عوف في وجعه غشية ظنوا أنه قد فاضت نفسه فيها، حتى قاموا من عنده وجللوه ثوباً، وخرجت أم كلثوم بنت عقبة امرأته إلى المسجد تستعين بما أمرت به من الصبر والصلاة، فلبثوا ساعة وهو في غشيته ثم أفاق. وأخرج ابن منده في المعرفة عن ابن عباس قال: قتل تميم بن الحمام ببدر، وفيه وفي غيره نزلت: "ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات" الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: "في سبيل الله" في طاعة الله في قتال المشركين. وقد وردت أحاديث أن أرواح الشهداء في أجواف طيور خضر تأكل من ثمار الجنة. فمنها عن كعب بن مالك مرفوعاً عند أحمد والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجه. وروي أن أرواح الشهداء تكون على صور طيور بيض، كما أخرجه عبد الرزاق عن قتادة قال: بلغنا، فذكر ذلك. وأخرجه عبد بن حميد وابن جرير عنه أيضاً بنحوه، وروي أنها على صور طيور خضر، كما أخرجه ابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي العالية. وأخرجه ابن أبي شيبة في البعث والنشور عن كعب. وأخرجه هناد بن يسرى عن هذيل. وأخرجه عنه عبد الرزاق في المصنف عن عبد الله بن كعب بن مالك مرفوعاً، وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن عطاء في قوله: "ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع" قال: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس في قوله: "ولنبلونكم" الآية، قال: أخبر الله المؤمنين أن الدنيا دار بلاء وأنه مبتليهم فيها، وأمرهم بالصبر وبشرهم فقال: "وبشر الصابرين" وأخبر أن المؤمن إذا سلم لأمر الله ورجع واسترجع عند المصيبة كتب الله له ثلاث خصال من الخير: الصلاة من الله، والرحمة، وتخفيف سبيل الهدى. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من استرجع عند المصيبة جبر الله مصيبته، وأحسن عقباه، وجعل له خلفاً صالحاً يرضاه". وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن رجاء بن حيوة في قوله: "ونقص من الثمرات" قال: يأتي على الناس زمان لا تحمل النخلة فيه إلا تمرة. وأخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أعطيت أمتي شيئاً لم يعطه أحد من الأمم أن يقولوا عند المصيبة: إنا لله وإنا إليه راجعون" وقد ورد في فضل الاسترجاع عند المصيبة أحاديث كثيرة.

إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ

أصل 158- "الصفا" في اللغة: الحجر الأملس، وهو هنا علم لجبل من جبال مكة معروف، وكذلك "المروة" علم لجبل بمكة معروف، وأصلها في اللغة: واحدة المروى، وهي الحجارة الصغار التي فيها لين. وقيل: التي فيها صلابة، وقيل: تعم الجميع. قال أبو ذؤيب: حتى كأني للحوادث مروة بصفا المشقر كل يوم تقرع وقيل: إنها الحجارة البيض البراقة: وقيل: إنها الحجارة السود. والشعائر جمع شعيرة، وهي العلامة: أي من أعلام مناسكه. والمراد بها مواضع العبادة التي أشعرها الله إعلاماً للناس من الموقف والسعي والمنحر، ومنه إشعار الهدي: أي إعلامه بغرز حديدة في سنامه، ومنه قول الكميت: نقتلهم جيلاً فجيلاً تراهم شعائر قربان بهم يتقرب وحج البيت في اللغة: قصده، ومنه قول الشاعر: وأشهد من عوف حئولاً كثيرة يحجون سب الزبرقان المزعفرا والسب: العمامة. وفي الشرع: الإتيان بمناسك الحج التي شرعها الله سبحانه. والعمرة في اللغة: الزيارة. وفي الشرع: الإتيان بالنسك المعروف على الصفة الثابتة. والجناح أصله من الجنوح، وهو الميل، ومنه الجوانح لاعوجاجها. وقوله: "يطوف" أصله يتطوف فأدغم. وقرئ: "أن يطوف"، ورفع الجناح يدل على عدم الوجوب، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه والثوري. وحكى الزمخشري في الكشاف عن أبي حنيفة أنه يقول: إنه واجب وليس بركن وعلى تاركه دم. وقد ذهب إلى عدم الوجوب ابن عباس وابن الزبير وأنس بن مالك وابن سيرين. ومما يقوي دلالة هذه الآية على عدم الوجود قوله تعالى في آخر الآية: "ومن تطوع خيراً فإن الله شاكر عليم" وذهب الجمهور إلى أن السعي واجب ونسك من جملة المناسك، واستدلوا بما أخرجه الشيخان وغيرهما عن عائشة أن عروة قال لها: أرأيت قول الله: "إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما" فما أرى على أحد جناحاً أن لا يطوف بهما؟ فقالت عائشة: بئس ما قلت يا ابن أختي، إنها لو كانت على ما أولتها كانت فلا جناح عليه أن لا يطوف بها، ولكنها إنما أنزلت أن الأنصار قبل أن يسلموا كانوا يهلون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدونها، وكان من أهل لها يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة في الجاهلية، فأنزل الله: "إن الصفا والمروة من شعائر الله" الآية، قالت عائشة: ثم قد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بهما، فليس لأحد أن يدع الطواف بهما. وأخرج مسلم وغيره عنها أنها قالت: لعمري ما أتم الله حج من لم يسع بين الصفا والمروة ولا عمرته، لأن الله قال: "إن الصفا والمروة من شعائر الله". وأخرج الطبراني عن ابن عباس قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن الله كتب عليكم السعي فاسعوا". وأخرج أحمد في سنده والشافعي وابن سعد وابن المنذر وابن قانع والبيهقي عن حبيبة بنت أبي تجرأة قالت: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بين الصفا والمروة والناس بين يديه وهو وراءهم يسعى حتى أرى ركبتيه من شدة السعي يدور به إزاره وهو يقول: اسعوا فإن الله عز وجل كتب عليكم السعي" وهي في مسند أحمد من طريق شيخه عبد الله بن المؤمل عن عطاء بن أبي رباح عن صفية بنت شيبة عنها، ورواه من طريق أخرى عن عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن واصل مولى أبي عيينة عن موسى بن عبيدة عن صفية بنت شيبة أن امرأة أخبرتها فذكرته. ويؤيد ذلك حديث: "خذوا عني مناسككم" اهـ.

إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ

قوله: 159- "إن الذين يكتمون" إلى آخر الآية، فيه الإخبار بأن الذي يكتم ذلك ملعون- واختلفوا من المراد بذلك؟ فقيل: أحبار اليهود ورهبان النصارى الذين كتموا أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: كل من كتم الحق وترك بيان ما أوجب الله بيانه، وهو الراجح لأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما تقرر في الأصول، فعلى فرض أن سبب النزول ما وقع من اليهود والنصارى من الكتم فلا ينافي ذلك تناول هذه الآية كل من كتم الحق. وفي هذه الآية من الوعيد الشديد ما لا يقادر قدره، فإن من لعنه الله ولعنه كل من يتأتى منه اللعن من عباده قد بلغ من الشقاوة والخسران إلى الغاية التي لا تلحق ولا يدرك كنهها. وفي قوله: "من البينات والهدى" دليل على أنه يجوز كتم غير ذلك كما قال أبو هريرة: "حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين: أما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم" أخرجه البخاري. والضمير في قوله: "من بعد ما بيناه" راجع إلى ما أنزلنا، والكتاب اسم جنس، وتعريفه يفيد شموله لجميع الكتب، وقيل: المراد به التوراة. واللعن: الإبعاد والطرد. والمراد بقوله: "اللاعنون" الملائكة والمؤمنون قاله الزجاج وغيره، ورجحه ابن عطية، وقيل: كل من يتأتى منه اللعن فيدخل في ذلك الجن، وقيل: هم الحشرات والبهائم.

إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ

وقوله: 160- "إلا الذين تابوا" إلخ، فيه استثناء التائبين والمصلحين لما فسد من أعمالهم، والمبيني للناس ما بينه الله في كتبه وعلى ألسن رسله.

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ

قوله: 161- "وماتوا وهم كفار" هذه الجملة حالية، وقد استدل بذلك على أنه لا يجوز لعن كافر معين، لأن حاله عند الوفاة لا يعلم، ولا ينافي ذلك ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من لعنه لقوم من الكفار بأعيانعم، لأنه يعلم بالوحي ما لا نعلم، وقيل: يجوز لعنه عملاً بظاهر الحال كما يجوز قتاله. قوله: "أولئك عليهم لعنة الله" إلخ، استدل به على جواز لعن الكفار على العموم. قال القرطبي: ولا خلاف في ذلك. قال: وليس لعن الكافر بطريق الزجر له عن الكفر، بل هو جزاء على الكفر وإظهار قبح كفره سواء كان الكافر عاقلاً أو مجنوناً. وقال قوم من السلف: لا فائدة في لعن ما جن أو مات منهم لا بطريق الجزاء ولا بطريق الزجر. قال: ويدل على هذا القول أن الآية دالة على الإخبار عن الله والملائكة والناس بلعنهم لا على الأمر به. قال ابن العربي: إن لعن العاصي المعين لا يجوز باتفاق، لما روي: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بشارب خمر مراراً، فقال بعض من حضر: لعنه الله ما أكثر ما يشربه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تكونوا عوناً للشيطان على أخيكم" والحديث في الصحيحين. وقوله: "والناس أجمعين" قيل: هذا يوم القيامة، وأما في الدنيا ففي الناس المسلم والكافر، ومن يعلم بالمعاصي ومعصيته ومن لا يعلم، فلا يتأتى اللعن له من جميع الناس، وقيل: في الدنيا، والمراد أنه يلعنه غالب الناس أو كل من علم بمعصيته منهم.

خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ

وقوله: 162- "خالدين فيها" أي في النار، وقيل: في اللعنة. والإنظار: الإمهال، وقيل: معنى لا ينظرون: لا ينظر الله إليهم فهو من النظر، وقيل: هو من الانتظار: أي لا ينتظرون ليعتذروا.

وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ

وقد تقدم تفسير 163- "الرحمن الرحيم". وقوله: "وإلهكم إله واحد" فيه الإرشاد إلى التوحيد وقطع علائق الشرك، والإشارة إلى أن أول ما يجب بيانه ويحرم كتمانه هو أمر التوحيد. وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: سأل معاذ بن جبل أخو بني سلمة وسعد بن معاذ أخو بني الأشهل وخارجة بن زيد أخو بني الحارث بن الخزرج نفراً من أحبار اليهود عن بعض ما في التوراة، فكتموهم إياه وأبوا أن يخبروهم، فأنزل الله فيهم: "إن الذين يكتمون ما أنزلنا" الآية. وقد روي عن جماعة من السلف أن الآية نزلت في أهل الكتاب لكتمهم نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم. وأخرج ابن ماجه وابن المنذر وابن أبي حاتم عن البراء بن عازب قال: " كنا في جنازة مع النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إن الكافر يضرب ضربة بين عينيه فتسمعه كل دابة الثقلين، فتلعنه كل دابة سمعت صوته، فذلك قول الله تعالى: "ويلعنهم اللاعنون" " يعني دواب الأرض. وأخرج عبد بن حميد عن عطاء قال: الجن والإنس وكل دابة. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في شعب الإيمان قال في تفسير الآية: إن دواب الأرض والعقارب والخنافس يقولون: إنما منعنا القطر بذنوبهم فيلعنونهم. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن عكرمة نحوه. وأخرج عبد بن حميد عن أبي جعفر قال: يلعنهم كل شيء حتى الخنفساء. وقد وردت أحاديث كثيرة في النهي عن كتم العلم والوعيد لفاعله. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في قوله: "إلا الذين تابوا وأصلحوا" قال: أصلحوا ما بينهم وبين الله، وبينوا الذي جاءهم من الله ولم يكتموه ولم يجحدوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: "أتوب عليهم" يعني أتجاوز عنهم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي العالية قال: إن الكافر يوقف يوم القيامة فيلعنه الله، ثم تلعنه الملائكة، ثم يلعنه الناس أجمعون. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة قال: يعني بالناس أجمعين المؤمنين. وأخرج ابن جرير عن أبي العالية في قوله: "خالدين فيها" يقول: خالدين في جهنم في اللعنة. وقال في قوله: "ولا هم ينظرون" يقول: ألا ينظرون فيعتذرون. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ولا هم ينظرون" قال: لا يؤخرون. وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والدارمي والترمذي وصححه وابن ماجه عن أسماء بنت يزيد بن السكن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين "وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم"، و" الم * الله لا إله إلا هو الحي القيوم "". وأخرج الديلمي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس شيء أشد على مردة الجن من هؤلاء الآيات التي في سورة البقرة "وإلهكم إله واحد" الآيتين".

إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن

لما ذكر سبحانه التوحيد بقوله: "وإلهكم إله واحد" عقب ذلك بالدليل الدال عليه، وهو هذه الأمور التي هي من أعظم صنعة الصانع الحكيم، مع علم كل عاقل بأنه لا يتهيأ من أحد من الآلهة التي أثبتها الكفار أن يأبى بشيء منها، أو يقتدر عليه أو على بعضه، وهي خلق السموات، وخلق الأرض، وتعاقب الليل والنهار، وجري الفلك في البحر، وإنزال المطر من السماء، وإحياء الأرض به، وبث الدواب منها بسببه، وتصريف الرياح، فإن من أمعن نظره وأعمل فكره في واحد منها انبهر له، وضاق ذهنه عن تصور حقيقته. وتحتم عليه التصديق بأن صانعه هو الله سبحانه، وإنما جمع السموات لأنها أجناس مختلفة، كل سماء من جنس غير جنس الأخرى، ووحد الأرض لأنها كلها من جنس واحد وهو التراب. والمراد باختلاف الليل والنهار تعاقبهما بإقبال أحدهما وإدبار الآخر، وإضاءة أحدهما وإظلام الآخر. والنهار: ما بين طلوع الفجر إلى غروب الشمس. وقال النضر بن شميل: أول النهار طلوع الشمس، ولا يعد ما قبل ذلك من النهار. وكذا قال ثعلب، واستشهد بقول أمية بن أبي الصلت: والشمس تطلع كل آخر ليلة حمراء يصبح لونها يتورد وكذا قال الزجاج. وقسم ابن الأنباري الزمان إلى ثلاثة أقسام: قسماً جعله ليلاً محضاً، وهو من غروب الشمس إلى طلوع الفجر. وقسماً جعله نهاراً محضاً، وهو من طلوع الشمس إلى غروبها. وقسماً جعله مشتركاً بين النهار والليل، وهو ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس لبقايا ظلمة الليل ومبادئ ضوء النهار. هذا باعتبار مصطلح أهل اللغة. وأما في الشرع فالكلام في ذلك معروف. والفلك: السفن، وإفراده وجمعه بلفظ واحد، وهو هذا ويذكر ويؤنث. قال الله تعالى: "في الفلك المشحون"، 164- "والفلك التي تجري في البحر" وقال: "حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم" وقيل: واحده فلك بالتحريك، مثل أسد وأسد. وقوله: "بما ينفع الناس" يحتمل أن تكون ما موصولة أي بالذي ينفعهم، أو مصدرية: أي بنفعهم، والمراد بما أنزل من السماء المطر الذي به حياة العالم وإخراج النبات والأرزاق. والبث: النشر، والظاهر أن قوله: "بث" معطوف على قوله: "فأحيا" لأنهما أمران متسببان عن إنزال المطر. وقال في الكشاف: إن الظاهر عطفه على أنزل. والمراد بتصريف الرياح: إرسالها عقيماً، وملقحة وصراً ونصراً، وهلاكاً وحارةً وباردةً، ولينةً عاصفةً، وقيل تصريفها: إرسالها جنوباً وشمالاً ودبوراً، وصباً ونكباً وهي التي تأتي بين مهبي ريحين، وقيل تصريفها: أن تأتي السفن الكبار بقدر ما تحملها والصغار كذلك، ولا مانع من حمل التصريف على جميع ما ذكر. والسحاب سمي سحاباً لانسحابه في الهواء، وسحبت ذيلي سحباً وتسحب فلان على فلان: اجترأ. والمسخر: المذلل، وسخره: بعثه من مكان إلى آخر، وقيل تسخيره: ثبوته بين السماء والأرض من غير عمد ولا علائق. والأول أظهر. والآيات الدلالات على وحدانيته سبحانه لمن ينظر ببصره ويتفكر بعقله. وقد أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال: قالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم: ادع الله أن يجعل لنا الصفا ذهباً نتقوى به على عدونا، فأوحى الله إليه: إني معطيهم فأجعل لهم الصفا ذهباً، ولكن إن كفروا بعد ذلك عذبتهم عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين، فقال: "رب دعني وقومي فأدعوهم يوماً بيوم"، فأنزل الله هذه الآية. وأخرج نحوه عبد بن حميد وابن جرير عن سعيد بن جبير. وأخرج وكيع والفريابي وآدم بن أبي إياس وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي الضحى قال: لما نزلت "وإلهكم إله واحد" عجب المشركون وقالوا: إن محمداً يقول: "وإلهكم إله واحد" فليأتنا بآية إن كان من الصادقين، فأنزل الله "إن في خلق السموات والأرض" الآية. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عطاء نحوه. وأخرج أبو الشيخ في العظمة عن سليمان قال: الليل موكل به ملك يقال له شراهيل، فإذا حان وقت الليل أخذ خرزة سوداء فدلاها من قبل المغرب، فإذا نظرت إليها الشمس وجبت في أسرع من طرفة عين، وقد أمرت الشمس أن لا تغرب حتى ترى الخرزة، فإذا غربت جاء الليل، فلا تزال الخرزة معلقة حتى يجيء ملك آخر يقال له هراهيل بخرزة بيضاء فيعلقها من قبل المطلع، فإذا رآها شراهيل مد إليه خرزته، وترى الشمس الخرزة البيضاء، فتطلع، وقد أمرت أن لا تطلع حتى تراها، فإذا طلعت جاء النهار. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك في قوله: "والفلك" قال: السفينة. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال: "بث" خلق، وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "وتصريف الرياح" قال: إذا شاء جعلها رحمة لواقح للسحاب، وبشراً بين يدي رحمته، وإذا شاء جعلها عذاباً ريحاً عقيماً لا تلقح. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي بن كعب قال: كل شيء في القرآن من الرياح فهي رحمة، وكل شيء في القرآن من الريح فهي عذاب. وقد ورد في النهي عن سب الريح وأوصافها أحاديث كثيرة لا تعلق لها بالآية.

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْع

لما فرغ سبحانه من الدليل على وحدانيته، أخبر أن مع هذا الدليل الظاهر المفيد لعظيم سلطانه، وجليل قدرته وتفرده بالخلق، قد وجد في الناس من يتخذ معه سبحانه نداً يعبده من الأصنام. وقد تقدم تفسير الأنداد، مع أن هؤلاء الكفار لم يقتصروا على مجرد عبادة الأنداد، بل أحبوها حباً عظيماً وأفرطوا في ذلك إفراطاً بالغاً، حتى صار حبهم لهذه الأوثان ونحوها متمكناً في صدورهم كتمكن حب المؤمنين لله سبحانه، فالمصدر في قوله: 165- "كحب الله" مضاف إلى المفعول، والفاعل محذوف وهو المؤمنون. ويجوز أن يكون المراد كحبهم لله: أي عبدة الأوثان قاله ابن كيسان والزجاج. ويجوز أن يكون هذا المصدر من المبني للمجهول: أي كما يحب الله. والأول أولى لقوله: "والذين آمنوا أشد حباً لله" فإنه استدراك لما يفيده التشبيه من التساوي: أي أن حب المؤمنين لله أشد من حب الكفار للأنداد، لأن المؤمنين يخصون الله سبحانه بالعبادة والدعاء، والكفار لا يخصون أصنامهم بذلك، بل يشركون الله معهم، ويعترفون بأنهم إنما يعبدون أصنامهم ليقربوهم إلى الله، ويمكن أن يجعل هذا: أعني قوله: "والذين آمنوا أشد حباً لله" دليلاً على الثاني، لأن المؤمنين كانوا أشد حباً لله لم يكن حب الكفار للأنداد كحب المؤمنين لله، وقيل: المراد بالأنداد هنا الرؤساء: أي يطيعونهم في معاصي الله، ويقوي هذا الضمير في قولهم: "يحبونهم" فإن لمن يعقل، ويقويه أيضاً قوله سبحانه عقب ذلك: "إذ تبرأ الذين اتبعوا" الآية. قوله: " ولو يرى الذين ظلموا " قراءة أهل مكة والكوفة وأبو عمرو بالياء التحتية، وهو اختيار أبي عبيد. وقراءة أهل المدينة وأهل الشام بالفوقية، والمعنى على القراءة الأولى: لو يرى الذين ظلموا في الدنيا عذاب الآخرة لعلموا حين يرونه أن القوة لله جميعاً قاله أبو عبيد. قال النحاس: وهذا القول هو الذي عليه أهل التفسير انتهى. وعلى هذا فالرؤية هي البصرية لا القلبية. وروي عن محمد بن يزيد المبرد أنه قال: هذا التفسير الذي جاء به أبو عبيد بعيد، وليست عبارته فيه بالجيدة، لأنه يقدر: ولو يرى الذين ظلموا العذاب، فكأنه يجعله مشكوكاً فيه. وقد أوجبه الله تعالى، ولكن التقدير وهو الأحسن: ولو يرى الذين ظلموا أن القوة لله- ويرى بمعنى يعلم: أي لو يعلمون حقيقة قوة الله وشدة عذابه. قال: وجواب لو محذوف: أي ليتبينوا ضرر اتخاذهم الآلهة كما حذف في قوله: "ولو ترى إذ وقفوا على النار" "ولو ترى إذ وقفوا على ربهم" ومن قرأ بالفوقية فالتقدير: ولو ترى يا محمد الذين ظلموا في حال رؤيتهم العذاب وفزعهم منه لعلمت أن القوة لله جميعاً. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم علم ذلك ولكن خوطب بهذا الخطاب، والمراد به أمته، وقيل: "أن" في موضع نصب مفعول لأجله: أي لأن القوة لله، كما قال الشاعر: وأغفر عوراء الكريم ادخاره وأعرض عن شتم اللئيم تكرما أي لادخاره، والمعنى: ولو ترى يا محمد الذين ظلموا في حال رؤيتهم للعذاب، لأن القوة لله لعلمت مبلغهم من النكال، ودخلت "إذ" وهي لما مضى في إثبات هذه المستقبلات تقريباً للأمر وتصحيحاً لوقوعه. وقرأ ابن عامر "إذ يرون" بضم الياء، والباقون بفتحها. وقرأ الحسن ويعقوب وأبو جعفر " أن القوة " و"إن الله" بكسر الهمزة فيهما على الاستئناف، وعلى تقدير القول.

إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ

قوله: 166- "إذ تبرأ الذين اتبعوا" بدل من قوله: "إذ يرون العذاب" ومعناه: أن السادة والرؤساء تبرأوا ممن اتبعهم على الكفر. وقوله: "ورأوا العذاب" في محل نصب على الحال: يعني التابعين والمتبوعين، قيل: عند المعاينة في الدنيا، وقيل: عند العرض والمساءلة في الآخرة. ويمكن أن يقال فيهما جميعاً إذ لا مانع من ذلك. قوله: "وتقطعت بهم الأسباب" هي جمع سبب، وأصله في اللغة: الحبل الذي يشد به الشيء ويجذب به، ثم جعل كل ما جر شيئاً سبباً، والمراد بها: الوصل التي كانوا يتواصلون بها في الدنيا من الرحم وغيره، وقيل: هي الأعمال.

وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ

والكرة: الرجعة والعودة إلى حال قد كانت، ولو هنا في معنى التمني كأنه قيل: ليت لنا كرة، ولهذا وقعت الفاء في الجواب. والمعنى: أن الأتباع قالوا: لو رددنا إلى الدنيا حتى نعمل صالحاً ونتبرأ منهم كما تبرأوا منا. والكاف في قوله: 167- " كما تبرؤوا منا " في محل نصب على النعت لمصدر محذوف، وقيل: في محل نصب على الحال، ولا أراه صحيحاً. وقوله: "كذلك يريهم الله" في موضع رفع: أي الأمر كذلك: أي كما أراهم الله العذاب يريهم أعمالهم، وهذه الرؤية إن كانت بصرية فقوله: "حسرات" منتصب على الحال، وإن كانت القبيلة فهو المفعول الثالث، والمعنى: أن أعمالهم الفاسدة يريهم الله إياها فتكون عليهم حسرات، أو يريهم الأعمال الصالحة التي أوجبها عليهم فتركوها فيكون ذلك حسرة عليهم. وقوله: "وما هم بخارجين من النار" فيه دليل على خلود الكفار في النار، وظاهر هذا التركيب يفيد الاختصاص، وجعله الزمخشري للتقوية لغرض له يرجع إلى المذهب، والبحث في هذا يطول. وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله: "ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً" قال: مباهاة ومضاررة للحق بالأنداد "والذين آمنوا أشد حباً لله" قال: من الكفار لآلهتهم. وأخرج ابن جرير عن أبي زيد في هذه الآية قال: هؤلاء المشركون أندادهم آلهتهم التي عبدوا مع الله يحبونهم كما يحب الذين آمنوا الله "والذين آمنوا أشد حباً لله" من حبهم لآلهتهم. وأخرج ابن جرير عن السدي في الآية قال: الأنداد من الرجال يطيعونهم كما يطيعون الله إذا أمروهم أطاعوهم وعصوا الله. وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة نحو ما قال ابن زيد. وأخرج ابن جرير عن الزبيري في قوله: " ولو يرى الذين ظلموا " قال: ولو ترى يا محمد الذين ظلموا أنفسهم فاتخذوا من دوني أنداداً يحبونهم كحبكم إياي حين يعاينون عذابي يوم القيامة الذي أعددت لهم، لعلمتم أن القوة كلها لي دون الأنداد، والآلهة لا تغني عنهم هنالك شيئاً ولا تدفع عنهم عذاباً أحللت بهم، وأيقنتهم أني شديد عذابي لمن كفر بي وادعى معي إلها غيري. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في قوله: "إذ تبرأ الذين اتبعوا" قال: هم الجبابرة والقادة والرؤوس في الشرك "من الذين اتبعوا" قال: هم الشياطين تبرأوا من الإنس. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله: " وتقطعت بهم الأسباب " قال: المودة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه قال: هي المنازل. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه قال: هي الأرحام. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وأبو نعيم في الحلية عن مجاهد قال: هي الأوصال التي كانت بينهم في الدنيا والمودة. وأخرج عبد بن حميد عن أبي صالح قال: هي الأعمال. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن الربيع قال: هي المنازل. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في قوله: "لو أن لنا كرة" قال: رجعة إلى الدنيا. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله: "حسرات" قال: صارت أعمالهم الخبيثة حسرة عليهم يوم القيامة. وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله: "وما هم بخارجين من النار" قال: أولئك أهلها الذين هم أهلها. وأخرج ابن أبي حاتم عن ثابت بن معبد قال: ما زال أهل النار يأملون الخروج منها حتى نزلت "وما هم بخارجين من النار".

يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ

قوله: 168- "يا أيها الناس" قيل: إنها نزلت في ثقيف وخزاعة وبني مدلج فيما حرموه على أنفسهم من الأنعام. حكاه القرطبي في تفسيره، ولكن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وقوله: "حلالاً" مفعول أو حال، وسمي الحلال حلالاً لانحلال عقدة الحظر عنه. والطيب هنا هو المستلذ كما قاله الشافعي وغيره. وقال مالك وغيره: هو الحلال فيكون تأكيداً لقوله: "حلالاً". ومن في قوله: "مما في الأرض" للتبعيض للقطع بأن في الأرض ما هو حرام " خطوات " جمع خطوة بالفتح والضم، وهي بالفتح للمرة، وبالضم لما بين القدمين. وقرأ القراء خطؤات بفتح الخاء، وقرأ أبو سماك بفتح الخاء والطاء، وقرأ علي وقتادة والأعرج وعمرو بن ميمون والأعمش خطؤات بضم الخاء والطاء والهمز على الواو. قال الأخفش: وذهبوا بهذه القراءة إلى أنها جمع خطية من الخطأ لا من الخطو. قال الجوهري: والخطوة بالفتح: المرة الواحدة، والجمع خطوات وخطا انتهى. والمعنى على قراءة الجمهور: لا تقفوا أثر الشيطان وعمله، وكل ما لم يرد به الشرع فهو منسوب إلى الشيطان، وقيل: هي النذور والمعاصي، والأولى التعميم، وعدم التخصيص بفرد أو نوع. وقوله: "إنه لكم عدو مبين" أي ظاهر العداوة، ومثله قوله تعالى: " إنه عدو مضل مبين " وقوله: "إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً".

إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ

وقوله: 169- "بالسوء" سمي السوء سوءاً لأنه يسوء صاحبه بسوء عاقبته، وهو مصدر ساءه يسوؤه سوءاً ومساءة إذا أحزنه. "والفحشاء" أصله سوء المنظر، ومنه قول الشاعر: وجيد كجيد الرئم ليس بفاحش ثم استعمل فيما يقبح من المعاني، وقيل: السوء: القبيح، والفحشاء: التجاوز للحد في القبح، وقيل السوء: ما لا حد فيه، والفحشاء: ما فيه الحد، وقيل الفحشاء: الزنا، وقيل: إن كل ما نهت عنه الشريعة فهو من الفحشاء. وقوله: "وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون" قال ابن جرير الطبري: يريد ما حرموه من البحيرة والسائبة ونحوهما مما جعلوه شرعاً، وقيل: هو قولهم هذا حلال وهذا حرام بغير علم. والظاهر أنه يصدق على كل ما قبل في الشرع بغير علم. وفي هذه الآية دليل على أن كل ما لم يرد فيه نص أو ظاهر من الأعيان الموجودة في الأرض فأصله الحل حتى يرد دليل يقتضي تحريمه، وأوضح دلالة على ذلك من هذه الآية قوله تعالى: "هو الذي خلق لكم ما في الأرض".

وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ

والضمير في قوله: 170- "وإذا قيل لهم" راجع إلى الناس، لأن الكفار منهم وهم المقصودون هنا، وقيل: كفار العرب خاصة، و"ألفينا" معناه وجدنا، والألف في قوله: " أو لو كان آباؤهم " للاستفهام، وفتحت الواو لأنها واو العطف. وفي هذه الآية من الذم للمقلدين والنداء بجهلهم الفاحش واعتقادهم الفاسد ما لا يقادر قدره، ومثل هذه الآية قوله تعالى: "وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا: حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا" الآية، وفي ذلك دليل على قبح التقليد، والمنع منه، والبحث في ذلك يطول. وقد أفردته بمؤلف مستقل سميته [القول المفيد: في حكم التقليد] واستوفيت الكلام فيه في [أدب الطلب ومنتهى الأرب].

وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ

وقوله: 171- "ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق" فيه تشبيه واعظ الكافرين، وداعيهم وهو محمد صلى الله عليه وسلم بالراعي الذي ينعق بالغنم أو الإبل فلا يسمع إلا دعاء ونداء ولا يفهم ما يقول، هذا فسره الزجاج والفراء وسيبويه، وبه قال جماعة من السلف. قال سيبويه: لم يشبهوا بالناعق، إنما شبهوا بالمنعوق به، والمعنى: مثلك يا محمد ومثل الذين كفروا، كمثل الناعق والمنعوق به من البهائم التي لا تفهم فحذف لدلالة المعنى عليه. وقال قطرب: المعنى مثل الذين كفروا في دعائهم ما لا يفهم: يعني الأصنام، كمثل الراعي إذا نعق بغنمه وهو لا يدري أين هي وبه قال ابن جرير الطبري. وقال ابن زيد: المعنى: مثل الذين كفروا في دعائهم الآلهة الجماد كمثل الصائح في جوف الليل فيجيبه الصدى فهو يصيح بما لا يسمع، ويجيبه ما لا حقيقة فيه. والنعيق: زجر الغنم والصياح بها، يقال: نعق الراعي بغنمه ينعق نعيقاً ونعاقاً: أي صاح بها وزجرها، والعرب تضرب المثل براعي الغنم في الجهل ويقولون: أجهل من راعي الضأن. وقوله: "صم" وما بعده أخبار لمبتدأ محذوف: أي هم صم بكم عمي. وقد تقدم تفسير ذلك. وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: "تليت هذه الآية عند النبي صلى الله عليه وسلم يعني: " يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا " فقام سعد بن أبي وقاص فقال: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة، فقال: يا سعد أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة، والذي نفس محمد بيده إن الرجل ليقذف اللقمة الحرام في جوفه فما يتقبل منه أربعين يوماً، وإيما عبد نبت لحمه من السحت والربا فالنار أولى به". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله: "ولا تتبعوا خطوات الشيطان" قال: عمله. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أنه قال: ما خالف القرآن فهو من خطوات الشيطان. وأخرج عبد بن حميد ابن أبي حاتم عن مجاهد أنه قال: خطاه. وأخرجا أيضاً عن عكرمة قال: هي نزغات الشيطان. وأخرج أبو الشيخ عن سعيد بن جبير قال: هي تزيين الشيطان. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة قال: كل معصية لله فهي من خطوات الشيطان. وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس قال: ما كان من يمين أو نذر في غضب فهو من خطوات الشيطان، وكفارته كفارة يمين. وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه عن ابن مسعود أنه أتى بضرع وملح فجعل يأكل، فاعتزل رجل من القوم، فقال ابن مسعود: ناولوا صاحبكم: فقال: لا أريد، فقال: أصائم أنت؟ قال: لا. قال: فما شأنك؟ قال: حرمت على نفسي أن آكل ضرعاً، فقال ابن مسعود: هذا من خطوات الشيطان، فأطعم وكفر عن يمينك. وأخرج عبد بن حميد عن عثمان بن غياث قال: سألت جابر بن زيد عن رجل نذر أن يجعل في أنفه حلقة من ذهب، فقال: هي من خطوات الشيطان ولا يزال عاصياً لله فليكفر عن يمينه. وأخرج عبد بن حميد عن الحسن أنه جعل يمين من حلف أن يحج حبواً من خطوات الشيطان. وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن أبي مجلز قال: هي النذور في المعاصي. وأخرج ابن جرير عن السدي في قوله: "إنما يأمركم بالسوء" قال: المعصية "والفحشاء" قال: الزنا. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود إلى الإسلام ورغبهم فيه، وحذرهم عذاب الله ونقمته، فقال له رافع بن خارجة ومالك بن عوف: بل نتبع يا محمد ما وجدنا عليه آباءنا فهم كانوا أعلم وخيراً منا، فأنزل الله في ذلك: "وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا: بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا". وأخرج ابن جرير عن الربيع وقتادة في قوله: "ألفينا" قالا: وجدنا. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ومثل الذين كفروا" الآية، قال: كمثل البقر والحمار والشاة إن قلت لبعضهم كلاماً لم يعلم ما تقول غير أنه يسمع صوتك، وكذلك الكافر إن أمرته بخير أو نهيته عن شر أو وعظته لم يعقل ما تقول غير أنه يسمع صوتك. وروي نحو ذلك عن مجاهد أخرجه عبد بن حميد، وعن عكرمة أخرجه وكيع. وأخرج ابن جرير عن ابن جريج قال: قال لي عطاء في هذه الآية: هم اليهود الذين أنزل الله فيهم "إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب" إلى قوله: "فما أصبرهم على النار".

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ

قوله: 172- "كلوا من طيبات ما رزقناكم" هذا تأكيد للأمر الأول: أعني قوله: "يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً" وإنما خص المؤمنين هنا لكونهم أفضل أنواع الناس، قيل: والمراد بالأكل الانتفاع، وقيل: المراد به الأكل المعتاد، وهو الظاهر. قوله: "واشكروا لله" قد تقدم أنه يقال شكره وشكر له يتعدى بنفسه وبالحرف. وقوله: "إن كنتم إياه تعبدون" أي تخصونه بالعبادة كما يفيده تقدم المفعول.

إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ

قوله: 173- "إنما حرم عليكم الميتة" قرأ أبو جعفر "حرم" على البناء للمفعول و"إنما" كلمة موضوعة للحصر تثبت ما تناوله الخطاب وتنفي ما عداه. وقد حصرت ها هنا التحريم في الأمور المذكورة بعدها. قوله: "الميتة" قرأ ابن عبلة بالرفع، ووجه ذلك أنه يجعل ما في إنما موصولة منفصلة في الخط، والميتة وما بعدها خبر الموصول، وقراءة الجميع بالنصب. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع الميتة بتشديد الياء، وقد ذكر أهل اللغة أنه يجوز في ميت التخفيف والتشديد. والميتة ما فارقها الروح من غير ذكاة. وقد خصص هذا العموم بمثل حديث "أحل لنا ميتتان ودمان". وأخرجه أحمد وابن ماجه والدارقطني والحاكم وابن مردويه عن ابن عمر مرفوعاً، ومثل حديث جابر في العنبر الثابت في الصحيحين مع قوله تعالى: "أحل لكم صيد البحر" فالمراد بالميتة هنا ميتة البر لا ميتة البحر. وقد ذهب أكثر أهل العلم إلى جواز أكل جميع الحيوانات البحر حيها وميتها. وقال بعض أهل العلم: إنه يحرم من حيوانات البحر ما يحرم شبهه في البر، وتوقف ابن حبيب في خنزير الماء. وقال ابن القاسم: وأنا أتقيه ولا أراه حراماً. قوله: "والدم" قد اتفق العلماء على أن الدم حرام، وفي الآية الأخرى: "أو دماً مسفوحاً" فيحمل المطلق على المقيد لأن ما خلط باللحم غير محرم، قال القرطبي: بالإجماع. وقد روت عائشة أنها كانت تطبخ اللحم فتعلو الصفرة على البرمة من الدم، فيأكل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ولا ينكره. قوله: "ولحم الخنزير" ظاهر هذه الآية والآية الأخرى أعني قوله تعالى: " قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير " أن المحرم إنما هو اللحم فقط. وقد أجمعت الأمة على تحريم شحمه كما حكاه القرطبي في تفسيره. وقد ذكر جماعة من أهل العلم أن اللحم يدخل تحته الشحم. وحكى القرطبي الإجماع أيضاً على أن جملة الخنزير محرمة إلا الشعر فإنه تجوز الخرازة به. قوله: "وما أهل به لغير الله" الإهلال: رفع الصوت، يقال أهل بكذا: أي رفع صوته. قال الشاعر يصف فلاة: تهل بالفرقد ركبانها كما يهل الراكب المعتمر وقال النابغة: أو درة صدفية غواصها بهج متى يرها يهل ويسجد ومنه إهلال الصبي، واستهلاله: وهو صياحه عند ولادته. والمراد هنا: ما ذكر عليه اسم غير الله كاللات والعزى إذا كان الذابح وثنياً، والنار إذا كان الذابح مجوسياً. ولا خلاف في تحريم هذا وأمثاله، ومثله ما يقع من المعتقدين للأموات من الذبح على قبورهم، فإنه مما أهل به لغير الله، ولا فرق بينه وبين الذبح للوثن. قوله: "فمن اضطر" قرئ بضم النون للاتباع وبكسرها على الأصل في التقاء الساكنين، وفيه إضمار: أي فمن اضطر إلى شيء من هذه المحرمات. وقرأ ابن محيصن بإدغام الضاد في الطاء. وقرأ أبو السماك بكسر الطاء. والمراد من صيره الجوع والعدم إلى الاضطرار إلى الميتة. قوله: "غير باغ" نصب على الحال. قيل المراد بالباغي: من يأكل فوق حاجته، والعادي: من يأكل هذه المحرمات وهو يجد عنها مندوحة، وقيل: غير باغ على المسلمين وعاد عليهم، فيدخل في الباغي والعادي قطاع الطريق والخارج على السلطان وقاطع الرحم ونحوهم، وقيل: المراد غير باغ على مضطر آخر ولا عاد سد الجوعة. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: "كلوا من طيبات ما رزقناكم" قال: من الحلال. وأخرج ابن سعد عن عمر بن العزيز أن المراد بما في الآية: طيب الكسب لا طيب الطعام. وأخرج ابن جرير عن الضحاك: أنها حلال الرزق. وأخرج أحمد ومسلم والترمذي وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: "يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً إني بما تعملون عليم" وقال: "يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم" ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له". وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "وما أهل" قال: ذبح. وأخرج ابن جرير عنه قال: "ما أهل به" للطواغيت. وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قال: ما ذبح لغير الله. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية. قال: ما ذكر عليه اسم غير الله. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "غير باغ ولا عاد" يقول: من أكل شيئاً من هذه وهو مضطر فلا حرج، ومن أكله وهو غير مضطر فقد بغى واعتدى. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله: "غير باغ" قال: في الميتة "ولا عاد" قال: في الأكل. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "غير باغ ولا عاد" قال: غير باغ على المسلمين ولا معتد عليهم، فمن خرج يقطع الرحم أو يقطع السبيل أو يفسد في الأرض أو مفارقاً للجماعة والأئمة، أو خرج في معصية الله فاضطر إلى الميتة لم تحل له. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير قال: العادي الذي يقطع الطريق. وقوله: "فلا إثم عليه" يعني في أكله "إن الله غفور رحيم" لمن أكل من الحرام رحيم به إذ أحل له الحرام في الاضطرار. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة "فمن اضطر غير باغ ولا عاد" غير باغ في أكله، ولا عاد يتعدى الحلال إلى الحرام وهو يجد عنه بلغة ومندوحة.

إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ

قوله: 174- "إن الذين يكتمون" قيل: المراد بهذه الآية علماء اليهود، لأنهم كتموا ما أنزل الله في التوراة من صفة محمد صلى الله عليه وسلم. والاشتراء هنا: الاستبدال، وقد تقدم تحقيقه، وسماه قليلاً لانقطاع مدته وسوء عاقبته، وهذا السبب وإن كان خالصاً بالاعتبار بعموم اللفظ، وهو يشمل كل من كتم ما شرعه الله، وأخذ عليه الرشا، وذكر البطولة دلالة وتأكيداً أن هذا الأكل حقيقة، إذ قد يستعمل مجازاً في مثل أكل فلان أرضي ونحوه. وقال في الكشاف: إن معنى "في بطونهم" قال: يقول: أكل فلان في بطنه، وأكل في بعض بطنه انتهى. وقوله: "إلا النار" أي أنه يوجب عليهم عذاب النار، فسمى ما أكلوه ناراً لأنه يؤول بهم إليها، هكذا قال أكثر المفسرين- وقيل: إنهم يعاقبون على كتمانهم بأكل النار في جهنم حقيقة، ومثله قوله سبحانه: "إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً" وقوله: "ولا يكلمهم الله" فيه كناية عن حلول غضب الله عليهم وعدم الرضا عنهم، يقال: فلان لا يكلم فلاناً إذا غضب عليه. وقال ابن جرير الطبري: المعنى ولا يكلمهم لما يحبونه لا بما يكرهونه. كقوله تعالى: " اخسؤوا فيها ولا تكلمون ". وقوله: "لا يزكيهم" معناه: لا يثنى عليهم خيراً. قال الزجاج، وقيل معناه: لا يصلح أعمالهم الخبيثة فيطهرهم.

أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ

وقوله: 175- "اشتروا الضلالة بالهدى" قد تقدم تحقيق معناه. وقوله: "فما أصبرهم على النار" ذهب الجمهور ومنهم الحسن ومجاهد إلى أن معناه التعجب. والمراد تعجيب المخلوقين من حال هؤلاء الذين باشروا الأسباب لعذاب النار، فكأنهم بهذه المباشرة للأسباب صبروا على العقوبة في نار جهنم. وحكى الزجاج أن المعنى: ما أبقاهم على النار، من قولهم: ما أصبر فلاناً على الحبس: أي ما أبقاه فيه، وقيل المعنى: ما أقل جزعهم من النار، فجعل قلة الجزع صبراً. وقال الكسائي وقطرب: أي ما أدومهم على عمل أهل النار، وقيل: ما استفهامية، ومعناه التوبيخ: أي أي شيء أصبرهم على عمل النار. قاله ابن عباس والسدي وعطاء وأبو عبيدة.

ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ

176- "ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق" الإشارة بإسم الإشارة إلى الأمر: أي ذلك الأمر وهو العذاب. قاله الزجاج. وقال الأخفش: إن خبر اسم الإشارة محذوف والتقدير: ذلك معلوم. والمراد بالكتاب هنا القرآن "بالحق" أي بالصدق، وقيل: بالحجة. وقوله: "وإن الذين اختلفوا في الكتاب" قيل: المراد بالكتاب هنا التوراة، فادعى النصارى أن فيها صفة عيسى وأنكرهم اليهود، وقيل: خالفوا ما في التوراة من صفة محمد صلى الله عليه وسلم واختلفوا فيها، وقيل: المراد بالقرآن، والذين اختلفوا كفار قريش، يقول بعضهم: هو سحر، وبعضهم يقول: هو أساطير الأولين، وبعضهم يقول غير ذلك. "لفي شقاق" أي خلاف "بعيد" عن الحق، وقد تقدم معنى الشقاق. وقد أخرج ابن جرير عن عكرمة في قوله: "إن الذين يكتمون ما أنزل الله" قال: نزلت في اليهود. وأخرج ابن جرير عن السدي قال: كتموا اسم محمد صلى الله عليه وسلم وأخذوا عليه طمعاً قليلاً. وأخرج ابن جرير أيضاً عن أبي العالية نحوه. وأخرج الثعلبي عن ابن عباس بسندين ضعيفين أنها نزلت في اليهود. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله: "أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى" قال: اختاروا الضلالة على الهدى والعذاب على المغفرة "فما أصبرهم على النار" قال: ما أجرأهم على عمل النار. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله: "فما أصبرهم على النار" قال: ما أعلمهم بأعمال أهل النار. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر في قوله: "فما أصبرهم على النار" قال: والله ما لهم عليها من صبر ولكن يقول: ما أجرأهم على النار. وأخرج ابن جرير عن قتادة نحوه. وأخرج ابن جرير أيضاً عن السدي في الآية قال: هذا على وجه الاستفهام يقول: ما الذي أصبرهم على النار؟ وقوله: "وإن الذين اختلفوا في الكتاب" قال: هم اليهود والنصارى "لفي شقاق بعيد" قال: في عداوة بعيدة.

لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَس

قوله: 177- "ليس البر" قرأ حمزة وحفص بالنصب على أنه خبر ليس والإسم "أن تولوا" وقرأ الباقون بالرفع على أنه الإسم قيل: إن هذه الآية نزلت للرد على اليهود والنصارى، لما أكثروا الكلام في شأن القبلة عند تحويل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة، وقيل: إن سبب نزولها أنه سأل رسول الله سائل، وسيأتي ذلك آخر البحث إن شاء الله. وقوله: "قبل المشرق والمغرب" قيل: أشار سبحانه بذكر المشرق إلى قبلة النصارى لأنهم يستقبلون مطلع الشمس، وأشار بذكر المغرب إلى قبلة اليهود، لأنهم يستقبلون بيت المقدس وهو في جهة الغرب منهم إذ ذاك. وقوله: "ولكن البر" هو اسم جامع للخير، وخبره محذوف تقديره: بر من آمن. قاله الفراء وقطرب والزجاج، وقيل إن التقدير: ولكن ذو البر من آمن، ووجه هذا التقدير: الفرار عن الإخبار باسم العين عن اسم المعنى، ويجوز أن يكون البر بمعنى البار، وهو يطلق المصدر على اسم الفاعل كثيراً، ومنه في التنزيل "إن أصبح ماؤكم غوراً" أي غائراً وهذا اختيار أبي عبيدة. والمراد بالكتاب هنا الجنس أو القرآن، والضمير في قوله: "على حبه" راجع إلى المال، وقيل: راجع إلى الإيتاء المدلول عليه بقوله: "وآتى المال" وقيل: إنه راجع إلى الله سبحانه: أي على حب الله، والمعنى على الأول: أنه أعطى المال وهو يحبه ويشح به، ومنه قوله تعالى: "لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون" والمعنى على الثاني: أنه يحب إيتاء المال وتطيب به نفسه، والمعنى على الثالث: أنه أعطى من تضمنته الآية في حب الله عز وجل لا لغرض آخر، وهو مثل قوله: "ويطعمون الطعام على حبه" ومثله قول زهير: إن الكريم على علاته هرم وقدم ذوي القربى لكون دفع المال إليهم صدقة وصلة إذا كانوا فقراء، هكذا اليتامى الفقراء أولى بالصدقة من الفقراء الذي ليسوا بيتامى، لعدم قدرتهم على الكسب. والمسكين: الساكن إلى ما في أيدي الناس لكونه لا يجد شيئاً. "وابن السبيل" المسافر المنقطع وجعل ابناً للسبيل لملازمته له. وقوله: "وفي الرقاب" أي في معاونة الأرقاء الذين كاتبهم المالكون لهم، وقيل: المراد شراء الرقاب وإعتاقها، وقيل: المراد فك الأسارى. وقوله: "وآتى الزكاة" فيه دليل على أن الإيتاء المتقدم هو صدقة التطوع، لا صدقة الفريضة. وقوله: "والموفون" قيل: هو معطوف على من آمن، كأنه قيل: ولكن البر المؤمنون والموفون. قاله الفراء والأخفش، وقيل: هو مرفوع على الابتداء، والخبر محذوف، وقيل: هو لمبتدإ محذوف: أي هم الموفون، وقيل: إنه معطوف على الضمير في آمن، وأنكره أبو علي وقال: ليس المعنى عليه. وقوله: "والصابرين" منصوب على المدح كقوله تعالى: "والمقيمين الصلاة"، ومنه ما أنشده أبو عبيدة: لا يبعدون قومي الذين هم سم العداوة وآفة الجزر النـازلــين بكـل مـعـركـــة والطيبين معـاقــد الأزر وقال الكسائي: هو معطوف على ذوي القربى كأنه قال: وآتى الصابرين. وقال النحاس: إنه خطأ. قال الكسائي: وهي قراءة عبد الله: " والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين ". قال النحاس: يكونان على هذه القراءة منسوقين على ذوي القربى أو على المدح. وقرأ يعقوب والأعمش " والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين " بالرفع فيهما. " البأساء " الشدة والفقر. "والضراء" المرض والزمانة "وحين البأس" قيل: المراد وقت الحرب، والبأساء والضراء إسمان بنيا على فعلاء ولا فعل لهما لأنهما إسمان وليسا بنعت. وقوله: "صدقوا" وصفهم بالصدق والتقوى في أمورهم والوفاء بها وأنهم كانوا جادين، وقيل: المراد صدقوهم القتال، والأول أولى. وقد أخرج ابن أبي حاتم وصححه عن أبي ذر أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فتلا "ليس البر أن تولوا وجوهكم" حتى فرغ منها، ثم سأله أيضاً فتلاها، ثم سأله فتلاها. قال: وإذا عملت بحسنة أحبها قلبك، وإذا عملت بسيئة أبغضها قلبك. وأخرج عبد بن حميد وابن مردويه عن القاسم بن عبد الرحمن قال: جاء رجل إلى أبي ذر فقال: ما الإيمان؟ فتلا عليه هذه الآية، ثم ذكر له نحو الحديث السابق. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في هذه الآية قال: يقول: ليس البر أن تصلوا ولا تعلموا، هذا حين تحول من مكة إلى المدينة وأنزلت الفرائض. وأخرج عنه ابن جرير أنه قال: هذه الآية نزلت بالمدينة، يقول: ليس البر أن تصلوا، لكن البر ما ثبت في القلب من طاعة الله. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة قال: ذكر لنا أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن البر، فأنزل الله: "ليس البر" الآية. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن قتادة قال: كانت اليهود تصلي قبل المغرب، والنصارى قبل المشرق، فنزلت "ليس البر" الآية. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي العالية مثله. وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن مسعود في قوله: "وآتى المال على حبه" قال: يعطي وهو صحيح شحيح يأمل العيش ويخاف الفقر. وأخرج عنه مرفوعاً مثله. وأخرج البيهقي في الشعب عن المطلب "أنه قيل: يا رسول ما آتى المال على حبه فكلنا نحبه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تؤتيه حين تؤتيه ونفسك تحدثك بطول العمر والفقر". وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: "وآتى المال على حبه" يعني على حب المال. وأخرج عنه أيضاً في قوله: "ذوي القربى" يعني قرابته. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم ثنتان صدقة وصلة" أخرجه ابن أبي شيبة وأحمد والترمذي وحسنه والنسائي وابن ماجه والحاكم والبيهقي في سننه من حديث سلمان بن عامر الضبي، وفي الصحيحين وغيرهما من حديث زينب امرأة ابن مسعود "أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل تجزي عنها من الصدقة النفقة على زوجها وأيتام في حجرها؟ فقال: لك أجران: أجر الصدقة، وأجر القرابة". وأخرج الطبراني والحاكم وصححه والبيهقي في سننه من حديث أم كلثوم بنت عقبة أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح". وأخرج أحمد والدارمي والطبراني من حديث حكيم بن حزام عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: ابن السبيل هو الضيف الذي ينزل بالمسلمين. وأخرج ابن جرير عن مجاهد قال: هو الذي يمر بك وهو مسافر. وأخرج ابن جرير عن عكرمة في قوله: "والسائلين" قال: السائل الذي يسألك. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: "وفي الرقاب" قال: يعني فك الرقاب. وأخرج أيضاً عنه في قوله: "وأقام الصلاة" يعني وأتم الصلاة المكتوبة "وآتى الزكاة" يعني الزكاة المفروضة. وأخرج الترمذي وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن عدي والدارقطني وابن مردويه عن فاطمة بنت قيس قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "في المال حق سوى الزكاة ثم قرأ "ليس البر أن تولوا وجوهكم" الآية". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله: "والموفون بعهدهم" قال: فمن أعطى عهد الله ثم نقضه فالله ينتقم منه، ومن أعطى ذمة النبي صلى الله عليه وسلم ثم غدر بها فالنبي صلى الله عليه وسلم خصمه. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: " والموفون بعهدهم إذا عاهدوا " يعني فيما بينهم وبين الناس. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وصححه عن ابن مسعود في الآية قال: "البأساء" الفقر "والضراء" السقم "وحين البأس" حين القتال. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: "أولئك الذين صدقوا" قال: فعلوا ما ذكر الله في هذه الآية. وأخرج ابن جرير عن الربيع في قوله: "أولئك الذين صدقوا" قال: تكلموا بكلام الإيمان، فكانت حقيقة العمل صدقوا الله. قال: وكان الحسن يقول هذا كلام الإيمان وحقيقته العمل، فإن لم يكن مع القول عمل فلا شيء.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْف

قوله: 178- "كتب" معناه فرض وأثبت، ومنه قول عمر بن أبي ربيعة: كتب القتل والقتال علينا وعلى الغانيات جر الذيول وهذا إخبار من الله سبحانه لعباده بأنه شرع لهم ذلك- وقيل: إن "كتب" هنا إشارة إلى ما جرى به القلم في اللوح المحفوظ. و"القصاص" أصله قص الأثر: أي اتباعه، ومنه القاص لأنه يتتبع الآثار، وقص الشعر اتباع أثره، فكأن القاتل يسلك طريقاً من القتل، يقص أثره فيها، ومنه قوله تعالى: "فارتدا على آثارهما قصصا" وقيل: إن القصاص مأخوذ من القص وهو القطع، يقال قصصت ما بينهما: أي قطعته. وقد استدل بهذه الآية القائلون بأن الحر لا يقتل بالعبد وهم الجمهور. وذهب أبو حنيفة وأصحابه والثوري وابن أبي ليلى وداود إلى أنه يقتل به. قال القرطبي: وروي ذلك عن علي وابن مسعود. وبه قال سعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي وقتادة والحكم بن عتيبة، واستدلوا بقوله تعالى: "وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس" وأجاب الأولون عن هذا الاستدلال بأن قوله تعالى: "الحر بالحر والعبد بالعبد" مفسر قوله تعالى: "النفس بالنفس" وقالوا أيضاً: إن قوله: "وكتبنا عليهم فيها" يفيد أن ذلك حكاية عما شرعه الله لبني إسرائيل في التوراة. ومن جملة ما استدل به الآخرون قوله صلى الله عليه وسلم: "المسلمون تتكافأ دماؤهم" ويجاب عنه بأنه مجمل والآية مبينة، ولكنه يقال: إن قوله تعالى: "الحر بالحر والعبد بالعبد" إنما أفاد بمنطوقه أن الحر يقتل بالحر، والعبد يقتل بالعبد، وليس فيه ما يدل على أن الحر لا يقتل بالعبد إلا باعتبار المفهوم، فمن أخذ بمثل هذا المفهوم لزمه القول به هنا، ومن لم يأخذ بمثل هذا المفهوم لم يلزمه القول به هنا، والبحث في هذا محرر في علم الأصول. وقد استدل بهذه الآية القائلون بأن المسلم يقتل بالكافر وهم الكوفيون والثوري، لأن الحر يتناول الكافر كما يتناول المسلم، وكذا العبد والأنثى يتناولان الكافر كما يتناولان المسلم. واستدلوا أيضاً بقوله تعالى: " أن النفس بالنفس " لأن النفس تصدق على النفس الكافرة كما تصدق على النفس المسلمة. وذهب الجمهور إلى أنه لا يقتل المسلم بالكافر، واستدلوا بما ورد من السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يقتل مسلم بكافر، وهو مبين لما يراد في الآيتين، والبحث في هذا يطول. واستدل بهذه الآية القائلون بأن الذكر لا يقتل بالأنثى، وقرروا الدلالة على ذلك بمثل ما سبق إلا إذا سلم أولياء المرأة الزيادة على ديتها من دية الرجل. وبه قال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق والثوري وأبو ثور. وذهب الجمهور إلى أنه يقتل الرجل بالمرأة ولا زيادة، وهو الحق. وقد بسطنا البحث في شرح المنتقى فليرجع إليه. قوله: "فمن عفي له من أخيه شيء" من هنا عبارة عن القاتل. والمراد بالأخ المقتول أو الولي والشيء عبارة عن الدم، والمعنى: أن القاتل أو الجاني إذا عفي له من جهة المجني عليه أو الولي دم أصابه منه على أن يأخذ منه شيئاً من الدية أو الأرض، فليتبع المجني عليه الولي من عليه الدم فيما يأخذه منه من ذلك اتباعاً بالمعروف، وليؤد الجاني ما لزمه من الدية أو الأرش إلى المجني عليه، أو إلى الولي أداء بإحسان، وقيل: إن من عبارة عن الولي والأخ يراد به القاتل، والشيء: الدية، والمعنى أن الولي إذا جنح إلى العفو عن القصاص إلى مقابل الدية، فإن القاتل مخير بين أن يعطيها أو يسلم نفسه للقصاص كما روي عن مالك أنه يثبت الخيار للقاتل في ذلك، وذهب من عداه إلى أنه لا يخير، بل إذا رضي الأولياء بالدية فلا خير للقاتل بل يلزمه تسليمها، وقيل: معنى عفي بذل: أي من بذل له شيء من الدية، فليقبل وليتبع بالمعروف، وقيل: إن المراد بذلك أن من فضل له من الطائفتين على الأخرى شيء من الديات، فيكون عفي بمعنى فضل، وعلى جميع التقادير فتنكير شيء للتقليل، فيتناول العفو عن الشيء اليسير من الدية، والعفو الصادر عن فرد من أفراد الورثة. وقوله: "فاتباع" مرتفع بفعل محذوف، أي فليكن منه اتباع، أو على أنه خبر مبتدأ محذوف: أي فالأمر اتباع، وكذا قوله: "وأداء إليه بإحسان" وقوله: "ذلك تخفيف" إشارة إلى العفو والدية: أي أن الله شرع لهذه الأمة العفو من غير عوض أو يعوض، ولم يضيق عليهم كما ضيق على اليهود، فإنه أوجب عليهم القصاص، ولا عفو، وكما ضيق على النصارى فإنه أوجب عليهم العفو ولا دية. قوله: "فمن اعتدى بعد ذلك" أي بعد التخفيف، نحو أن يأخذ الدية ثم يقتل القاتل، أو يعفو ثم يقتص. وقد\ اختلف أهل العلم فيمن قتل القاتل بعد أخذ الدية. فقال جماعة منهم مالك والشافعي: إنه كمن قتل ابتداءً، إن شاء الولي قتله وإن شاء عفا عنه. وقال قتادة وعكرمة والسدي وغيرهم، عذابه أن يقتل ألبتة، ولا يمكن الحاكم الولي من العفو. وقال عمر بن عبد العزيز: أمره إلى الإمام يصنع فيه ما رأى.

وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ

وقوله: 179- "ولكم في القصاص حياة" أي لكم في هذا الحكم الذي شرعه الله لكم حياة، لأن الرجل إذا علم أنه يقتل قصاصاً إذا قتل آخر كف عن القتل وانزجر عن التسرع إليه والوقوع فيه، فيكون ذلك بمنزلة الحياة للنفوس الإنسانية. وهذا نوع من البلاغة بليغ، وجنس من الفصاحة رفيع، فإنه جعل القصاص الذي هو موت حياة باعتبار ما يؤول إليه من ارتداع الناس عن قتل بعضهم بعضاً، إبقاء على أنفسهم واستدامة لحياتهم، وجعل هذا الخطاب موجهاً إلى أولي الألباب. لأنهم هم الذين ينظرون في العواقب ويتحامون ما فيه الضرر الآجل، وأما من كان مصاباً بالحمق والطيش والخفة فإنه لا ينظر عند سورة غضبه وغليان مراجل طيشه إلى عاقبه ولا يفكر في أمر مستقبل، كما قال بعض فتاكهم: سأغسل عني العار بالسيف جالباً علي قضاء الله ما كان جالباً ثم علل سبحانه هذا الحكم الذي شرعه لعباده بقوله: "لعلكم تتقون" أي تتحامون القتل بالمحافظة على القصاص، فيكون ذلك سبباً للتقوى. وقرأ أبو الجوزاء "ولكم في القصاص حياة" قيل أراد بالقصص القرآن: أي لكم في كتاب الله الذي شرع فيه القصاص حياة، أي نجاة، وقيل: أراد حياة القلوب، وقيل: هو مصدر بمعنى القصاص، والكل ضعيف، والقراءة به منكرة. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: إن حيين من العرب اقتتلوا في الجاهلية قبل الإسلام بقليل، فكان بينهم قتل وجراحات حتى قتلوا العبيد والنساء، ولم يأخذ بعضهم من بعض حتى أسلموا، فكان أحد الحيين يتطاول على الآخر في العدة والأموال، فحلفوا أن لا يرضوا حتى يقتل بالعبد منا الحر منهم، وبالمرأة منا الرجل منهم، فنزلت هذه الآية. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن الشعبي نحوه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال: كانوا لا يقتلون الرجل بالمرأة، ولكن يقتلون الرجل بالرجل والمرأة بالمرأة، فأنزل الله "النفس بالنفس" فجعل الأحرار في القصاص سواء فيما بينهم في العمد رجالهم ونساءهم في النفس وفيما دون النفس، وجعل العبيد مستوين في العمد في النفس وفيما دون النفس رجالهم ونساءهم. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن أبي مالك قال: كان بين حيين من الأنصار قتال كان لأحدهما على الآخر الطول فكأنهم طلبوا الفضل، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليصلح بينهم، فنزلت هذه الآية: "الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى" قال ابن عباس: فنسختها "النفس بالنفس" وأخرج عبد بن حميد وابن جرير والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن ابن عباس "فمن عفي له" قال: هو العمد رضي أهله بالعفو. "فاتباع بالمعروف" أمر به الطالب "وأداء إليه بإحسان" من القابل، قال: يؤدي المطلوب بإحسان. "ذلك تخفيف من ربكم ورحمة" مما كان على بني إسرائيل. وأخرج نحوه ابن أبي حاتم عنه من وجه آخر. وأخرج البخاري وغيره عن ابن عباس قال: كان في بني إسرائيل القصاص ولم تكن الدية فيهم، فقال الله لهذه الأمة: "كتب عليكم القصاص في القتلى" إلى قوله: "فمن عفي له من أخيه شيء" فالعفو أن تقبل الدية في العمد "فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة" مما كتب على من كان قبلكم "فمن اعتدى بعد ذلك" قيل: بعد قبول الدية "فله عذاب أليم". وأخرج ابن جرير عن قتادة قال: كان أهل التوراة إنما هو القصاص أو العفو ليس بينهما أرش، وكان أهل الإنجيل إنما هو العفو أمروا به، وجعل الله لهذه الأمة القتل والعفو والدية إن شاءوا أحلها لهم ولم تكن لأمة قبلهم. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وأحمد وابن أبي حاتم والبيهقي عن أبي شريح الخزاعي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أصيب بقتل أو خبل فإنه يختار إحدى ثلاث: إما أن يقتص، وإما أن يعفو، وإما أن يأخذ الدية، فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه، ومن اعتدى بعد ذلك فله نار جهنم خالداً فيها أبداً". وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن قتادة أنه إذا قتل بعد أخذ الدية فله عذاب عظيم، قال: فعليه القتل لا تقبل منه الدية. قال: وذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا أعافي رجلاً قتل بعد أخذ الدية". وأخرج سمويه في فوائده عن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر مثله. وأخرج ابن أبي شيبة عن عكرمة أنه قال: يقتل: وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن قتادة في قوله: "ولكم في القصاص حياة" قال: جعل الله في القصاص حياة ونكالاً وعظةً إذا ذكره الظالم المعتدي كف عن القتل. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في قوله: "لعلكم تتقون" قال: لعلك تتقي أن تقتله فتقتل به. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: "يا أولي الألباب" قال: من كان له لب يذكر القصاص فيحجزه خوف القصاص عن القتل "لعلكم تتقون" قال: لكي تتقوا الدماء مخافة القصاص.

كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ

قد تقدم معنى 180- "كتب" قريباً، وحضور الموت: حضور أسبابه وظهور علاماته، ومنه قول عنترة: وإن الموت طوع يدي إذا ما وصلت بنانها بالهندواني وقال جرير: أنا الموت الذي حدثت عنه فليس لهارب مني نجاة وإنما لم يؤنث الفعل المسند إلى الوصية، وهو "كتب" لوجود الفاصل بينهما- وقيل: لأنها بمعنى الإيصاء، وقد روي جواز إسناد ما لا تأنيث فيه إلى المؤنث مع عدم الفصل. وقد حكى سيبويه: قام امرأة، وهو خلاف ما أطبق عليه أئمة العربية، وشرط سبحانه ما كتبه من الوصية بأن يترك الموصي خيراً. واختلف في جواب هذا الشرط ما هو؟ فروي عن الأخفش وجهان: أحدهما أن التقدير: إن ترك خيراً فالوصية، ثم حذفت الفاء كما قال الشاعر: من يفعل الحسنات الله يشكرها والشر بالشر عند الله مثلان والثاني: أن جوابه مقدر قبله: أي كتب الوصية للوالدين والأقربين إن ترك خيراً. واختلف أهل العلم في مقدار الخير، فقيل: ما زاد على سبعمائة دينار، وقيل: ألف دينار، وقيل: ما زاد على خمسمائة دينار. والوصية في الأصل: عبارة عن الأمر بالشيء والعهد به في الحياة وبعد الموت، وهي هنا: عبارة عن الأمر بالشيء لبعد الموت. وقد اتفق أهل العلم على وجوب الوصية على من علية دين أو عنده وديعة أو نحوها. وأما من لم يكن كذلك فذهب أكثرهم إلى أنها غير واجبة عليه سواء كان فقيراً أو غنياً، وقالت طائفة: إنها واجبة. ولم يبين الله سبحانه ها هنا القدر الذي كتب الوصية به للوالدين والأقربين، فقيل: الخمس، وقيل: الربع، وقيل: الثلث. وقد اختلف أهل العلم في هذه الآية هل هي محكمة أو منسوخة؟ فذهب جماعة إلى أنها محكمة، قالوا: وهي وإن كانت عامة فمعناها الخصوص. والمراد بها من الوالدين من لا يرث كالأبوين الكافرين ومن هو في الرق، ومن الأقربين من عدا الورثة منهم. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن الوصية للوالدين الذي لا يرثان والأقرباء الذين لا يرثون جائزة. وقال كثير من أهل العلم: إنها منسوخة بآية المواريث مع قوله صلى الله عليه وسلم: "لا وصية لوارث" وهو حديث صححه بعض أهل الحديث، وروي من غير وجه. وقال بعض أهل العلم: إنه نسخ الوجوب ونفي الندب، وروي عن الشعبي والنخعي ومالك. قوله: "بالمعروف" أي العدل لا وكس فيه ولا شطط. وقد أذن الله للميت بالثلث دون ما زاد عليه. وقوله: "حقاً" مصدر معناه الثبوت والوجوب.

فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ

قوله: 181- "فمن بدله" هذا الضمير عائد إلى الإيصاء المفهوم من الوصية، وكذلك الضمير في قوله: "سمعه" والتبديل: التغيير، والضمير في قوله: "فإنما إثمه" راجع إلى التبديل المفهوم من قوله: "بدله" وهذا وعيد لمن غير الوصية المطابقة للحق التي لا جنف فيها ولا مضارة، وأنه يبوء بالإثم، وليس على الموصي من ذلك شيء، فقد تخلص مما كان عليه بالوصية به.

فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ

قال القرطبي: ولا خلاف أنه إذا أوصى بما لا يجوز، مثل أن يوصي بخمر أو خنزير أو شيء من المعاصي أنه يجوز تبديله، ولا يجوز إمضاؤه كما لا يجوز إمضاء ما زاد على الثلث. قاله أبو عمر انتهى. والجنف: المجاوزة، من جنف يجنف: إذا جاوز، قاله النحاس، وقيل الجنف: الميل، ومنه قول الأعشى: تجانف عن حجر اليمامة يا فتى وما قصدت من أهلها لسوائكا قال في الصحاح: الجنف الميل، وكذا في الكشاف. وقال لبيد: إني امرؤ منعت أرومة عامر ضيمي وقد جنفت علي خصومي وقوله: 182- "فأصلح بينهم" أي أصلح ما وقع بين الورثة من الشقاق والاضطراب بسبب الوصية بإبطال ما فيه ضرار ومخالفة لما شرعه الله، وإثبات ما هو حق كالوصية في قربة لغير وارث، والضمير في قوله: "بينهم" راجع إلى الورثة، وإن لم يتقدم لهم ذكر، لأنه قد عرف أنهم المرادون من السياق، وقيل: راجع إلى الموصى لهم، وهم الأبوان والقرابة. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "إن ترك خيراً" قال: مالاً. وأخرج ابن جرير عن مجاهد نحوه. وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس قال: من لم يترك ستين ديناراً لم يترك خيراً. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم والبيهقي في سننه عن عروة، أن علي بن أبي طالب دخل على مولى لهم في الموت وله سبعمائة درهم أو ستمائة درهم فقال: ألا أوصي؟ قال: لا؟ إنما قال الله: "إن ترك خيراً" وليس لك كثير مال فدع مالك لورثتك. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر والبيهقي عن عائشة، أن رجلاً قال لها: أريد أن أوصي قالت: كم مالك؟ قال: ثلاثة آلاف، قالت: كم عيالك؟ قال: أربعة، قالت: قال الله: "إن ترك خيراً" وإن هذا شيء يسير فاتركه لعيالك فهو أفضل. وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور والبيهقي عن ابن عباس قال: إذا ترك الميت سبعمائة درهم فلا يوصي. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن الزهري. قال: جعل الله الوصية حقاً مما قل منه ومما كثر. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر حديثاً وفيه: "أنظر قرابتك الذين يحتاجون ولا يرثون، فأوص لهم من مالك بالمعروف". وأخرجا أيضاً عن طاوس قال: من أوصى لقوم وسماهم وترك ذو قرابته محتاجين انتزعت منهم وردت على قرابته. وأخرج سعيد بن منصور وأحمد وعبد بن حميد وأبو داود في الناسخ وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن محمد بن بشير عن ابن عباس قال: نسخت هذه الآية. وأخرج عنه من وجه آخر أبو داود في ناسخه وابن المنذر وابن أبي حاتم أن هذه الآية نسخها قوله تعالى: "للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون" الآية. وأخرج عنه من وجه آخر ابن جرير وابن أبي حاتم أنها منسوخة بآية الميراث. وأخرج عنه أبو داود في سننه والبيهقي مثله. وأخرج ابن جرير عنه أنه قال: في الآية نسخ من يرث، ولم ينسخ الأقربين الذين لا يرثون. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والبيهقي عن ابن عمر أنه قال: هذه الآية نسختها آية الميراث. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "فمن بدله" الآية، قال: وقد وقع أجر الموصي على الله وبرئ من إثمه، وقال في قوله: "جنفاً" يعني إثماً "فأصلح بينهم" قال: إذا أخطأ الميت في وصيته أو حاف فيها فليس على الأولياء حرج أن يردوا خطأه إلى الصواب. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير نحوه لكنه فسر الجنف بالميل. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "جنفاً أو إثماً" قال: خطأ أو عمداً. وأخرج سعيد بن منصور والبيهقي في سننه عنه قال: الجنف في الوصية والإضرار فيها من الكبائر.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ

قد تقدم معنى 183- "كتب" ولا خلاف بين المسلمين أجمعين أن صوم رمضان فريضة افترضها الله سبحانه على هذه الأمة. والصيام أصله في اللغة: الإمساك وترك التنقل من حال إلى حال، ويقال للصمت صوم لأنه إمساك عن الكلام، ومنه "إني نذرت للرحمن صوماً" أي إمساكاً عن الكلام، ومنه قول النابغة: خيل صيام وخيل غير صائمة تحت العجاج وخيل تعلك اللجما أي خيل ممسكة عن الجري والحركة. وهو في الشرع: الإمساك عن المفطرات مع اقتران النية به من طلوع الفجر إلى غروب الشمس. وقوله: "كما كتب" أي صوماً كما كتب على أن الكاف في موضع نصب على النعت، أو كتب عليكم الصيام مشبهاً ما كتب على أنه في محل نصب على الحال. وقال بعض النحاة: إن الكاف في موضع رفع نعتاً للصيام، وهو ضعيف لأن الصيام معرف باللام، والضمير المستتر في قوله: "كما كتب" راجع إلى ما. واختلف المفسرون في وجه التشبيه ما هو، فقيل: هو قدر الصوم ووقته، فإن الله كتب على اليهود والنصارى صوم رمضان فغيروا، وقيل: هو الوجوب، فإن الله أوجب على الأمم الصيام، وقيل: هو الصفة: أي ترك الأكل والشرب ونحوهما في وقت، فعلى الأول معناه: أن الله كتب على هذه الأمة صوم رمضان كما كتبه على الذين من قبلهم، وعلى الثاني: أن الله أوجب على هذه الأمة الصيام كما أوجبه على الذين من قبلهم، وعلى الثالث: أن الله سبحانه أوجب على هذه الأمة الإمساك عن المفطرات كما أوجبه على الذين من قبلهم. وقوله تعالى: "لعلكم تتقون" بالمحافظة عليها، وقيل: تتقون المعاصي بسبب هذه العبادة، لأنها تكسر الشهوة وتضعف دواعي المعاصي، كما ورد في الحديث أنه جنة وأنه جاء.

أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْل

وقوله: 184- "أياماً" منتصب على أنه مفعول ثان لقوله: "كتب" قاله الفراء: وقيل: إنه منتصب على أنه ظرف: أي كتب عليكم الصيام في أيام. وقوله: "معدودات" أي معينات بعدد معلوم، ويحتمل أن يكون في هذا الجمع لكونه من جموع القلة إشارة إلى تقليل الأيام. وقوله: "فمن كان منكم مريضاً" قيل للمريض حالتان: إن كان لا يطيق الصوم كان الإفطار عزيمة، وإن كان يطيقه مع تضرر ومشقة كان رخصة، وبهذا قال الجمهور وقوله: "على سفر" اختلف أهل العلم في السفر المبيح للإفطار، فقيل: مسافة قصر الصلاة، والخلاف في قدرها معروف، وبه قال الجمهور، وقال غيرهم: بمقادير لا دليل عليها. والحق أن ما صدق عليه مسمى السفر فهو الذي يباح عنده الفطر، وهكذا ما صدق عليه مسمى المرض فهو الذي يباح عنده الفطر. وقد وقع الإجماع على الفطر في سفر الطاعة. واختلفوا في الأسفار المباحة، والحق أن الرخصة ثابتة فيه، وكذا اختلفوا في سفر المعصية. وقوله: "فعدة" أي فعليه عدة، أو فالحكم عدة، أو فالواجب عدة، والعدة فعله من العدد، وهو بمعنى المعدود. وقوله: "من أيام أخر" قال سيبويه: ولم ينصرف لأنه معدول به عن الآخر، لأن سبيل هذا الباب أن يأتي بالألف واللام. وقال الكسائي: هو معدول به عن آخر، وقيل: إنه جمع أخرى، وليس في الآية ما يدل على وجوب التتابع في القضاء. قوله: "وعلى الذين يطيقونه" قراءة الجمهور بكسر الطاء وسكون الياء، وأصله يطوقونه نقلت الكسرة إلى الطاء، وانقلبت الواو ياءً لانكسار ما قبلها. وقرأ حميد على الأصل من غير إعلال. وقرأ ابن عباس بفتح الطاء مخففة وتشديد الواو: أي يكلفونه. وروى ابن الأنباري عن ابن عباس يطيقونه بفتح الياء وتشديد الطاء والياء مفتوحتين بمعنى يطيقونه. وروى عن عائشة وابن عباس وعمرو بن دينار وطاوس أنهم قرأوا يطيقونه بفتح الياء وتشديد الطاء مفتوحة. وقرأ أهل المدينة والشام "فدية طعام" مضافاً. وقرأوا أيضاً "مساكين" وقرأ ابن عباس "طعام مسكين" وهي قراءة أبي عمرو وعاصم وحمزة والكسائي. وقد اختلف أهل العلم في هذه الآية، هل هي محكمة أو منسوخة، فقيل: إنها منسوخة، وإنما كانت رخصة عند ابتداء فرض الصيام لأنه شق عليهم، فكان من أطعم كل يوم مسكيناً ترك الصوم وهو يطيقه، ثم نسخ ذلك، وهذا قول الجمهور. وروي عن بعض أهل العلم أنها لم تنسخ، وأنها رخصة للشيوخ والعجائز خاصة إذا كانوا لا يطيقون الصيام إلا بمشقة، وهذا يناسب قراءة التشديد: أي يكلفونه كما مر. والناسخ لهذه الآية عند الجمهور قوله تعالى: " فمن شهد منكم الشهر فليصمه ". وقد اختلفوا في مقدار الفدية، فقيل: كل يوم صاع من غير البر، ونصف صاع منه، وقيل: مد فقط. وقوله: "فمن تطوع خيراً فهو خير له". قال ابن شهاب: معناه أراد الإطعام مع الصوم. وقال مجاهد معناه. من زاد في الإطعام على المد، وقيل: من أطعم مع المسكين مسكاً آخر. وقرأ عيسى بن عمرو ويحيى بن وثاب وحمزة والكسائي يطوع مشدداً مع جزم الفعل على معنى يتطوع، وقرأ الباقون بتخفيف الطاء على أنه فعل ماض. وقوله: "وأن تصوموا خير لكم" معناه: أن الصيام خير لهم من الإفطار مع الفدية، وكان هذا قبل النسخ، وقيل معناه: وأن تصوموا في السفر والمرض غير الشاق. وقد أخرج أحمد وأبو داود وابن جرير وابن المنذر وابن حبان والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن معاذ بن جبل قال: أحليت الصلاة ثلاثة أحوال، وأحيل الصيام ثلاثة أحوال، فذكر أحوال الصلاة ثم قال: وأما أحوال الصيام، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة، فجعل يصوم من كل شهر ثلاثة أيام، وصام عاشوراء، ثم إن الله سبحانه فرض عليه الصيام وأنزل عليه "يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام" إلى قوله: "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين" فكان من شاء صام، ومن شاء أطعم مسكيناً فأجزأ ذلك عنه، ثم إن الله أنزل الآية الأخرى "فمن شهد منكم الشهر فليصمه" فأثبت الله صيامه على الصحيح المقيم، ورخص فيه للمريض والمسافر، وثبت الإطعام للكبير الذي لا يستطيع الصيام، ثم ذكر تمام الحديث. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "كما كتب على الذين من قبلكم" قال: يعني بذلك أهل الكتاب. وأخرج البخاري في تاريخه والطبراني عن دغفل بن حنظلة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كان على النصارى صوم شهر رمضان، فمرض ملكهم فقالوا: لئن شفاه الله لنزيدن عشراً، ثم كان آخر فأكل لحماً فأوجع فوه قال: لئن شفاه الله ليزيدن سبعة، ثم كان عليهم ملك آخر فقال: ما ندع من هذه الثلاثة الأيام شيئاً أن نتمها ونجعل صومنا في الربيع، ففعل فصارت خمسين يوماً". وأخرج ابن جرير عن السدي في قوله: "لعلكم تتقون" قال: تتقون من الطعام والشراب والنساء مثل ما اتقوا. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس نحو ما سبق عن معاذ. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صيام رمضان كتبه الله على الأمم قبلكم". وأخرج البخاري ومسلم عن عائشة قالت: كان عاشوراء صياماً، فلما أنزل رمضان كان من شاء صام ومن شاء أفطر. وأخرج عبد بن حميد أن ابن عباس قال: إن قوله تعالى: "وعلى الذين يطيقونه" قد نسخت. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عنه نحو ذلك، وزاد أن الناسخ لها قوله تعالى: "فمن شهد منكم الشهر" الآية. وأخرج نحو ذلك عنه أبو داود في ناسخه. وأخرج نحوه عنه أيضاً سعيد بن منصور وعبد بن حميد وأبو داود وابن جرير وابن المنذر وغيرهم. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث سلمة بن الأكوع قال: لما نزلت هذه الآية "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين" كان من شاء صام، ومن شاء أن يفطر ويفتدي فعل، حتى نزلت هذه الآية بعدها فنسختها "فمن شهد منكم الشهر". وأخرج البخاري عن ابن أبي ليلى قال: حدثنا أصحاب محمد، فذكر نحوه. وأخرج ابن جرير عن علي بن أبي طالب في قوله: "وعلى الذين يطيقونه" قال: الشيخ الكبير الذي لا يستطيع الصوم فيفطر ويطعم مكان كل يوم مسكيناً. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد والدارقطني والبيهقي، أن أنس بن مالك ضعف عن الصوم عاماً قبل موته، فصنع جفنة من ثريد ودعا ثلاثين مسكيناً فأطعمهم. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير والدارقطني وصححه عن ابن عباس أنه قال لأم ولد له حامل أو مرضعة: أنت بمنزلة الذين لا يطيقون الصيام، عليك الطعام لا قضاء عليك. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم والدارقطني عن ابن عمر أن إحدى بناته أرسلت تسأله عن صوم رمضان وهي حامل، قال: تفطر وتطعم كل يوم مسكيناً، وقد روي نحو هذا عن جماعة من التابعين. وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة في قوله: "فمن تطوع خيراً" قال: أطعم مسكينين. وأخرج عبد بن حميد عن طاوس في قوله: "فمن تطوع خيراً" قال: إطعام مساكين. وأخرج ابن جرير عن ابن شهاب في قوله: "وأن تصوموا خير لكم" أي أن الصوم خير لكم من الدية. وقد ورد في فضل الصوم أحاديث كثيرة جداً.

شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُ

185- "رمضان" مأخوذ من رمض الصائم يرمض: إذا احترق جوفه من شدة العطش، والرمضاء ممدود: شدة الحر، ومنه الحديث الثابت في الصحيح "صلاة الأوابين إذا رمضت الفصال" أي أحرقت الرمضاء أجوافها. قال الجوهري: وشهر رمضان يجمع على رمضانات وأرمضاء- يقال إنهم لما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة سموها بالأزمنة التي وقعت فيها، فوافق هذا الشهر أيام الحر فسمي بذلك وقيل: إنما سمي رمضان لأنه يرمض الذنوب: أي يحرقها بالأعمال الصالحة. وقال الماوردي: إن اسمه في الجاهلية ناتق، وأنشد المفضل: وفي ناتق أجلت لدى حومة الوغا وولت على الأدبار فرسان خثعما وإنما سموه بذلك لأنه كان ينتقهم لشدته عليهم، وشهر مرتفع في قراءة الجماعة على أنه مبتدأ خبره "الذي أنزل فيه القرآن" أو على خبر لمبتدإ محذوف: أي المفروض عليكم صوم شهر رمضان، ويجوز أن يكون بدلاً من الصيام المذكور في قوله تعالى: "كتب عليكم الصيام". وقرأ مجاهد وشهر بن حوشب بنصب الشهر، ورواها هارون الأعور عن أبي عمرو وهو منتصب بتقدير الزموا أو صوموا. قال الكسائي والفراء: إنه منصوب بتقدير فعل كتب عليكم الصيام وأن تصوموا وأنكر ذلك النحاس وقال: إنه منصوب على الإغراء. وقال الأخفش: إنه نصب على الظرف، ومنع الصرف للألف والنون الزائدتين. قوله: "أنزل فيه القرآن" قيل: أنزل من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا، ثم كان جبريل ينزل به نجماً نجماً. وقيل: أنزل فيه أوله، وقيل: أنزل في شأنه القرآن، وهذه الآية أعم من قوله تعالى: "إنا أنزلناه في ليلة القدر". وقوله: "إنا أنزلناه في ليلة مباركة" يعني ليلة القدر. والقرآن اسم لكلام الله تعالى، وهو بمعنى المقروء كالمشروب سمي شراباً، والمكتوب سمي كتاباً، وقيل: هو مصدر قرأ يقرأ، ومنه قول الشاعر: ضحوا بأشمط عنوان السجود به يقطع الليل تسبيحاً وقرآنا أي قراءة، ومنه قوله تعالى: "وقرآن الفجر" أي قراءة الفجر. وقوله: "هدى للناس" منتصب على الحال: أي هادياً لهم. وقوله: "وبينات من الهدى" من عطف الخاص على العام إظهاراً لشرف المعطوف بإفراده بالذكر، لأن القرآن يشمل محكمه ومتشابهه، والبينات تختص بالمحكم منه. والفرقان: ما فرق بين الحق والباطل: أي فصل. قوله: "فمن شهد منكم الشهر" أي حضر ولم يكن في سفر بل كان مقيماً، والشهر منتصب على أنه ظرف، ولا يصح أن يكون مفعولاً به. قال جماعة من السلف والخلف: إن من أدركه شهر رمضان مقيماً غير مسافر لزمه صيامه، سافر بعد ذلك أو أقام استدلالاً بهذه الآية. وقال الجمهور: إنه إذا سافر أفطر، لأن معنى الآية: إن حضر الشهر من أوله إلى آخره لا إذا حضر بعضه وسافر فإنه لا يتحتم عليه إلا صوم ما حضره، وهذا هو الحق، وعليه دلت الأدلة الصحيحة من السنة. وقد كان يخرج صلى الله عليه وسلم في رمضان فيفطر. وقوله: "فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر" قد تقدم تفسيره. وقوله: "يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر" فيه أن هذا مقصد من مقاصد الرب سبحانه، ومراد من مراداته في جميع أمور الدين، ومثله قوله تعالى: "وما جعل عليكم في الدين من حرج" وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يرشد إلى التيسير وينهى عن التعسير كقوله صلى الله عليه وسلم: "يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا" وهو في الصحيح. واليسر السهل الذي لا عسر فيه. وقوله: "ولتكملوا العدة" الظاهر أنه معطوف على قوله: "يريد الله بكم اليسر" أي يريد بكم اليسر، ويريد إكمالكم للعدة وتكبيركم، وقيل: إنه متعلق بمحذوف تقديره: رخص لكم هذه الرخصة لتكملوا العدة، وشرع لكم الصوم لمن شهد الشهر لتكملوا العدة. وقد ذهب إلى الأول البصريون قالوا: والتقدير يريد لأن تكملوا العدة، ومثله قول كثير بن صخر: أريد لأنسى ذكرها فكأنما تمثل لي ليلاً بكل سبيل وذهب الكوفيون إلى الثاني، وقيل: الواو مقحمة، وقيل: إن هذه اللام لام الأمر، والواو لعطف الجملة التي بعدها على الجملة التي قبلها. وقال في الكشاف: إن قوله: "لتكملوا العدة" علة للأمر بمراعاة العدة "ولتكبروا" علة ما علم من كيفية القضاء والخروج عن عهدة الفطر "ولعلكم تشكرون" علة الترخيص والتيسير، والمراد بالتكبير هنا: هو قول القائل الله أكبر. قال الجمهور: ومعناه الحض على التكبير في آخر رمضان. وقد وقع الخلاف في وقته، فروي عن بعض السلف أنهم كانوا يكبرون ليلة الفطر وقيل: إذا رأوا هلال شوال كبروا إلى انقضاء الخطبة وقيل: إلى خروج الإمام، وقيل: هو التكبير يوم الفطر. قال مالك: هو من حين يخرج من داره إلى أن يخرج الإمام، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: يكبر في الأضحى ولا يكبر في الفطر. وقوله: "ولعلكم تشكرون" قد تقدم تفسيره. وقد أخرج أبو حاتم وأبو الشيخ وابن عدي والبيهقي في سننه عن أبي هريرة مرفوعاً وموقوفاً "لا تقولوا رمضان، فإن رمضان اسم من أسماء الله تعالى، ولكن قولوا شهر رمضان". وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه" وثبت عنه أنه قال: "من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه" وثبت عنه أنه قال: "شهرا عيد لا ينقصان: رمضان وذو الحجة" وقال: "إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة" وهذا كله في الصحيح. وثبت عنه في أحاديث كثيرة غير هذه أنه كان يقول رمضان بدون ذكر الشهر. وأخرج ابن مردويه والأصبهاني في الترغيب عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما سمي رمضان لأن رمضان يرمض الذنوب". وأخرجا أيضاً عن عائشة مرفوعاً نحوه. وأخرج ابن عساكر في تاريخه عن ابن عمر نحوه. وقد ورد في فضل رمضان أحاديث كثيرة. وأخرج أحمد وابن جرير ومحمد بن نصر وابن أبي حاتم والطبراني والبيهقي في الشعب عن واثلة بن الأسقع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أنزلت صف إبراهيم في أول ليلة من رمضان، وأنزل الزبور لثماني عشرة خلت من رمضان، وأنزل الله القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان". وأخرج أبو يعلى وابن مردويه عن جابر مثله، لكنه قال: "وأنزل الزبور لاثني عشر" وزاد "وأنزل التوراة لست خلون من رمضان، وأنزل الإنجيل لثماني عشرة خلت من رمضان". وأخرج محمد بن نصر عن عائشة نحو قول جابر، إلا أنها تذكر نزول القرآن. وأخرج ابن جرير ومحمد بن نصر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عن مقسم قال: سأل عطية بن الأسود ابن عباس فقال: إنه قد وقع في قلبي الشك في قول الله: "شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن". وقوله: "إنا أنزلناه في ليلة القدر" وقوله: "إنا أنزلناه في ليلة مباركة" فقال ابن عباس: إنه أنزل في ليلة القدر وفي رمضان وفي ليلة مباركة جملة واحدة، ثم أنزل بعد ذلك على مواقع النجوم رسلاً في الشهور والأيام. وأخرج محمد بن نصر والطبراني وابن مردويه والحاكم وصححه، والبيهقي والضياء في المختارة عن ابن عباس قال: نزل القرآن جملة لأربعة وعشرين من رمضان، فوضع في بيت العزة في السماء الدنيا، فجعل جبريل ينزله على رسول الله صلى الله عليه وسلم ترتيلاً. وأخرج ابن جرير عنه أنه قال: "ليلة القدر هي الليلة المباركة وهي في رمضان أنزل القرآن جملة واحدة من الذكر إلى البيت المعمور". وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله: "هدى للناس" قال: يهتدون به "وبينات من الهدى" قال: فيه الحلال والحرام والحدود. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن ابن عباس في قوله: "فمن شهد منكم الشهر فليصمه" قال: هو إهلاكه بالدار. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن علي قال: من أدرك رمضان وهو مقيم ثم سافر فقد لزمه الصوم لأن الله يقول: "فمن شهد منكم الشهر فليصمه". وأخرج سعيد بن منصور عن ابن عمر نحوه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس في قوله: "يريد الله بكم اليسر" قال: اليسر الإفطار في السفر، والعسر: الصوم في السفر. وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع في قوله: "ولتكملوا العدة" قال: عدة شهر رمضان. وأخرج ابن جرير عن الضحاك: أنه قال: عدة ما أفطر المريض في السفر. وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين يوماً". وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: حق على الصائمين إذا نظروا إلى شهر شوال أن يكبروا الله حتى يفرغوا من عيدهم، لأن الله يقول: "ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم". وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة عن ابن مسعود أنه كان يكبر: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد. وأخرج ابن أبي شيبة والبيهقي في سننه عن ابن عباس أنه كان يكبر: الله أكبر كبيراً، الله أكبر كبيراً الله أكبر ولله الحمد وأجل، الله أكبر على ما هدانا.

وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ

قوله: 186- "وإذا سألك عبادي عني" يحتمل أن السؤال عن القرب والبعد كما يدل عليه قوله: "فإني قريب" ويحتمل أن السؤال عن إجابة الدعاء كما يدل على ذلك قوله: "أجيب دعوة الداع" ويحتمل أن السؤال عما هو أعم من ذلك، وهذا هو الظاهر مع قطع النظر عن السبب الذي سيأتي بيانه. وقوله: "فإني قريب" قيل: بالإجابة، وقيل: بالعلم، وقيل: بالإنعام. وقال في الكشاف: إنه تمثيل لحاله في سهولة إجابته لمن دعاه، وسرعة إنجاحه حاجة من سأله بمن قرب مكانه، فإذا دعي أسرعت تلبيته. ومعنى الإجابة هو معنى ما في قوله تعالى: " ادعوني أستجب لكم " وقيل: معناه أقبل عبادة من عبدني بالدعاء لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من أن الدعاء هو العبادة، كما أخرجه أبو داود وغيره من حديث النعمان بن بشير، والظاهر أن الإجابة هنا هي باقية على معناها اللغوي، وكون الدعاء من العبادة لا يستلزم أن الإجابة هي القبول للدعاء: أي جعله عبادة متقبلة، فالإجابة أمر آخر غير قبول هذه العبادة. والمراد أنه سبحانه يجيب بما شاء وكيف شاء، فقد يحصل المطلوب قريباً وقد يحصل بعيداً، وقد يدفع عن الداعي من البلاء ما لا يعلمه بسبب دعائه، وهذا مقيد بعدم اعتداء الداعي في دعائه، كما في قوله سبحانه: "ادعوا ربكم تضرعاً وخفيةً إنه لا يحب المعتدين" ومن الاعتداء أن يطلب ما لا يستحقه ولا يصلح له، كمن يطلب منزلة في الجنة مساوية لمنزلة الأنبياء أو فوقها. وقوله: "فليستجيبوا لي" أي كما أجبتهم إذا دعوني فليستجيبوا لي فيما دعوتهم إليه من الإيمان والطاعات، وقيل معناه: أنهم يطلبون إجابة الله سبحانه لدعائهم باستجابتهم له: أي القيام بما أمرهم به والترك لما نهاهم عنه. والرشد خلاف الغي، رشد يرشد رشداً ورشداً. قال الهروي: الرشد والرشد والرشاد: الهدي والاستقامة. قال: ومنه هذا الآية. وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه من طريق الصلت بن حكيم عن رجل من الأنصار عن أبيه عن جده قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن الحسن قال: سأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أين ربنا؟ فأنزل الله هذه الآية. وأخرج ابن مردويه عن أنس أنه سأل أعرابي صلى الله عليه وسلم أين ربنا؟ فنزلت. وأخرج ابن عساكر في تاريخه عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تعجزوا عن الدعاء، فإن الله أنزل علي "ادعوني أستجب لكم"" فقال رجل: يا رسول الله ربنا يسمع الدعاء أم كيف ذلك؟ فأنزل الله هذه الآية. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عطاء أنه بلغه لما نزلت "ادعوني أستجب لكم" قالوا: لو نعلم أي ساعة ندعو فنزلت. وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مسلم يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث خصال: إما أن يجعل له دعوته، وإما أن يدخر له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها". وثبت في الصحيح أيضاً من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت فلم يستجب لي". وأخرج ابن أبي حاتم عن أنس في قوله: "فليستجيبوا لي" قال: ليدعوني "وليؤمنوا بي" أي أنهم إذا دعوني استجبت لهم. وأخرج ابن جرير عن مجاهد قال: "فليستجيبوا لي" أي فليطيعوني. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن الربيع بن أنس في قوله: "لعلهم يرشدون" قال: يهتدون.

أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ ا

قوله: 187- "أحل لكم" فيه دلالة على أن هذا الذي أحله الله كان حراماً عليهم، وهكذا كان كما يفيده السبب لنزول الآية وسيأتي. والرفث: كناية عن الجماع. قال الزجاج: الرفث كلمة جامعة لكل ما يريد الرجل من امرأته، وكذا قال الأزهري، ومنه قول الشاعر: ويرين من أنس الحديث زوانيا وبهن عن رفث الرجال نفار وقيل الرفث: أصله قول الفحش، رفث وأرفث: إذا تكلم بالقبيح، وليس هو المراد هنا، وعدي الرفث بإلى لتضمينه معنى الإمضاء، وجعل النساء لباساً للرجال، والرجال لباساً لهن لامتزاج كل واحد منهما بالآخر عند الجماع كالامتزاج الذي يكون بين الثوب ولابسه. قال أبو عبيدة وغيره: يقال للمرأة: لباس وفراش وإزار. وقيل: إنما جعل كل واحد منهما لباساً للآخر لأنه يستره عند الجماع عن أعين الناس. وقوله: " تختانون أنفسكم " أي تخونونها بالمباشرة في ليالي الصوم، يقال: خان واختان بمعنى، وهما من الخيانة. قال القتيبي: أصل الخيانة أن يؤتمن الرجل على شيء فلا يؤدي الأمانة فيه انتهى. وإنما سماهم خائنين لأنفسهم لأن ضرر ذلك عائد عليهم وقوله: "فتاب عليكم" يحتمل معنيين: أحدهما قبول التوبة من خيانتهم لأنفسهم، والآخر التخفيف عنهم بالرخصة والإباحة كقوله: "علم أن لن تحصوه فتاب عليكم" يعني خفف عنكم، وكقوله: "فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله" يعني تخفيفاً، وهكذا قوله: "وعفا عنكم" يحتمل العفو من الذنب، ويحتمل التوسعة والتسهيل. وقوله: "وابتغوا" قيل هو الولد: أي ابتغوا بمباشرة نسائكم حصول ما هو معظم المقصود من النكاح وهو حصول النسل، وقيل: المراد ابتغوا القرآن بما أبيح لكم فيه قاله الزجاج وغيره، وقيل: ابتغوا الرخصة والتوسعة، وقيل: ابتغوا ما كتب لكم من الإماء والزوجات، وقيل غير ذلك مما لا يفيده النظم القرآني، ولا دل عليه دليل آخر، وقرأ الحسن البصري واتبعوا بالعين المهملة من الإتباع، وقوله: "حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر" هو تشبيه بليغ، والمراد هنا بالخيط الأبيض: هو المعترض في الأفق، لا الذي هو كذنب السرحان، فإن الفجر الكذاب الذي لا يحل شيئاً ولا يحرمه. والمراد بالخيط الأسود: سواد الليل، والتبين: أن يمتاز أحدهما عن الآخر، وذلك لا يكون إلا عند دخول وقت الفجر. وقوله: "ثم أتموا الصيام إلى الليل" فيه التصريح بأن اللصوم غاية هي الليل، فعند إقبال الليل من المشرق وإدبار النهار من المغرب يفطر الصائم ويحل له الأكل والشرب وغيرهما. وقوله: "ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد" قيل: المراد بالمباشرة هنا الجماع، وقيل: تشمل التقبيل واللمس إذا كانا لشهوة لا إذا كانا لغير شهوة، فهما جائزان كما قاله عطاء والشافعي وابن المنذر وغيرهم، وعلى هذا يحتمل ما حكاه ابن عبد البر من الإجماع على أن المعتكف لا يباشر ولا يقبل، فتكون هذه الحكاية للإجماع مقيدة بأن يكونا لشهوة، والاعتكاف في اللغة: الملازمة، يقال عكف على الشيء: إذا لازمه، ومنه قول الشاعر: وظل بنات الليل حولي عكفاً عكوف البواكي حولهن صريع ولما كان المعتكف يلازم المسجد قيل له: عاكف في المسجد ومعتكف فيه، لأنه يحبس نفسه لهذه العبادة في المسجد والاعتكاف في الشرع: ملازمة طاعة مخصوصة على شرط مخصوص. وقد وقع الإجماع على أنه ليس بواجب وعلى أنه لا يكون إلا في مسجد، وللإعتكاف أحكام مستوفاة في كتب الفقه وشروح الحديث. وقوله: "تلك حدود الله" أي هذه الأحكام حدود الله. وأصل الحد المنع، ومنه سمي البواب والسبحان حداداً، وسميت الأوامر والنواهي حدود الله، لأنها تمنع أن يدخل فيها ما ليس منها، وأن يخرج عنها ما هو منها، ومن ذلك سميت الحدود حدوداً لأنها تمنع أصحابها من العود. ومعنى النهي عن قربانها النهي عن تعديها بالمخالفة لها، وقيل: إن حدود الله هي محارمه فقط، ومنها المباشرة من المعتكف والإفطار في رمضان لغير عذر وغير ذلك مما سبق النهي عنه، ومعنى النهي عن قربانها على هذا واضح. وقوله: "كذلك يبين الله آياته" أي كما بين لكم هذه الحدود يبين لكم العلامات الهادية إلى الحق وقد أخرج البخاري وأبو داود والنسائي وغيرهم عن البراء بن عازب قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائماً فحضر الإفطار فنام قبل أن يفطر لم يأكل ولا يومه حتى يمسي، وإن قيس بن صرمة الأنصاري كان صائماً، فكان يومه ذلك يعمل في أرضه، فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال: هل عندك طعام؟ قالت: لا، ولكن انطلق فأطلب لك، فغلبته عينه فنام وجاءت امرأته، فلما رأته نائماً قالت: خيبة لك أنمت؟ فلما انتصف النهار غشي عليه، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية: "أحل لكم ليلة الصيام" إلى قوله: "من الفجر" ففرحوا بها فرحاً شديداً. وأخرج البخاري أيضاً من حديثه قال: لما نزل صوم شهر رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله، فكان رجال يخونون أنفسهم، فأنزل الله "علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم" الآية. وقد روي في بيان سبب نزول هذه الآية أحاديث عن جماعة من الصحابة نحو ما قاله البراء. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان الناس أول ما أسلموا إذا صام أحدهم يصوم يومه حتى إذا أمسى طعم من الطعام، ثم قال: وإن عمر بن الخطاب أتى امرأته، ثم أتى رسول الله فقال: يا رسول إني أعتذر إلى الله وإليك من نفسي، وذكر ما وقع منه، فنزل قوله تعالى: "أحل لكم ليلة الصيام" الآية. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه قال: إن المسلمين كانوا في شهر رمضان، إذا صلوا العشاء حرم عليهم النساء والطعام والشراب إلى مثلها من القابلة، ثم إن أناساً من المسلمين أصابوا النساء والطعام في رمضان بعد العشاء، منهم عمر بن الخطاب، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله "أحل لكم ليلة الصيام" الآية. وأخرج ابن أبي شيبة ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس قال: الرفث الجماع. وأخرج ابن المنذر عن ابن عمر مثله. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال: الدخول والتغشي والإفضاء والمباشرة والرفث واللمس والمس هذا الجماع، غير أن الله حيي كريم يكني بما شاء عما شاء. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله: "هن لباس لكم وأنتم لباس لهن" قال: هن سكن لكم وأنتم سكن لهن. وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "تختانون أنفسكم" قال: تظلمون أنفسكم. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: "فالآن باشروهن" قال: انكحوهن. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله: "وابتغوا ما كتب الله لكم" قال: الولد. وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد وقتادة والضحاك مثله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى: "وابتغوا ما كتب الله لكم" قال: ليلة القدر. وأخرج البخاري في تاريخه عن أنس مثله. وأخرج عبد الرزاق عن قتادة قال: "وابتغوا" الرخصة التي كتب الله لكم. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن سهل بن سعد. قال: أنزلت "وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود" ولم ينزل "من الفجر" فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود، فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل الله "من الفجر" فعلموا أنه يعني الليل والنهار. وفي الصحيحين وغيرهما "عن عدي بن حاتم، أنه جعل تحت وسادة خيطين أبيض وأسود، وجعل ينظر إليهما فلا يتبين له الأبيض من الأسود، فغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: إن وسادك إذاً لعريض، إنما ذلك بياض النهار من سواد الليل". وفي رواية في البخاري وغيره. إنه" قال له: إنك لعريض القفا". وفي رواية عند ابن جرير وابن أبي حاتم: "أنه ضحك منه" وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن الضحاك قال: كانوا يجامعون وهم معتكفون حتى نزلت "ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد". وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة نحوه. وأخرج ابن جرير عن الربيع نحوه. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عباس قال: "إذا جامع المعتكف بطل اعتكافه ويستأنف". وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "تلك حدود الله" قال: يعني طاعة الله. وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك. قال: "حدود الله" معصية الله: يعني المباشرة في الاعتكاف. وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل أنها الجماع. وأخرج أيضاً عن سعيد بن جبير في قوله: "كذلك" يعني هكذا يبين الله.

وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ

هذا يعم جميع الأمة وجميع الأموال، لا يخرج عن ذلك إلا ما ورد دليل الشرع بأنه يجوز أخذه، فإنه مأخوذ بالحق لا بالباطل، ومأكول بالحل لا بالإثم، وإن كان صاحبه كارهاً كقضاء الدين إذا امتنع منه من هو عليه، وتسليم ما أوجبه الله من الزكاة ونحوها، ونفقة من أوجب الشرع نفقته. والحاصل أن ما لم يبح الشرع أخذه من مالكه، فهو مأكول بالباطل وإن طابت به نفس مالكه: كمهر البغي. وحلوان الكاهن، وثمن الخمر. والباطل في اللغة: الذاهب الزائل. قوله: 188- "وتدلوا" مجزوم عطفاً على تأكلوا فهو من جملة النهي عنه، يقال: أدلى الرجل بحجته أو بالأمر الذي يرجو النجاح به تشبيهاً بالذي يرسل الدلو في البئر، يقال أدلى دلوه: أرسلها، والمعنى أنكم لا تجمعوا بين أكل الأموال بالباطل وبين الإدلاء بها إلى الحكام بالحجج الباطلة، وفي هذه الآية دليل أن حكم الحاكم لا يحلل الحرام ولا يحرم الحلال من غير فرق بين الأموال والفروج، فمن يحكم له القاضي بشيء مستنداً في حكمه إلى شهادة زور أو يمين فجور فلا يحل له أكله، فإن ذلك من أكل أموال الناس بالباطل، وهكذا إذا [رشى] الحاكم فحكم له بغير الحق فإنه من أكل أموال الناس بالباطل، ولا خلاف بين أهل العلم أن حكم الحاكم لا يحلل الحرام ولا يحرم الحلال. وقد روي عن أبي حنيفة ما يخالف ذلك، وهو مردود لكتاب الله تعالى ولسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في حديث أم سلمة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار" وهو في الصحيحين وغيرهما. وقوله: "فريقاً" أي قطعة أو جزءاً أو طائفة، فعبر بالفريق عن ذلك، وأصل الفريق: القطعة من الغنم تشذ عن معظمها. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير والتقدير لتأكلوا أموال فريق من الناس بالإثم، وسمي الظلم والعدوان إثماً باعتبار تعلقه بفاعله. وقوله: "وأنتم تعلمون" أي حال كونكم عالمين أن ذلك باطل ليس من الحق في شيء، وهذا أشد لعقابهم وأعظم لجرمهم. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ولا تأكلوا أموالكم" الآية، قال: هذا في الرجل يكون عليه مال وليس عليه بينة، فيجحد المال ويخاصم إلى الحكام وهو يعرف أن الحق عليه. وروى سعيد بن منصور وعبد بن حميد عن مجاهد قال: معناها لا تخاصم وأنت تعلم أنك ظالم. وأخرج ابن المنذر عن قتادة نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير أن امرأة القيس بن عابس وعبدان بن أشوع الحضرمي اختصما في أرض، وأراد امرؤ القيس أن يحلف، فنزلت: "ولا تأكلوا أموالكم" الآية.

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ

قوله: 189- "يسألونك" سيأتي بيان من هم السائلون له صلى الله عليه وسلم، والأهلة جمع هلال، وجمعها باعتبار هلال كل شهر، أو كل ليلة، تنزيلاً لاختلاف الأوقات منزلة اختلاف الذوات، والهلال: اسم لما يبدو في أول الشهر وفي آخره. قال الأصمعي: هو هلال حتى يستدير- وقيل: هو هلال حتى ينير بضوئه السماء وذلك ليلة السابع. وإنما قيل له: هلال لأن الناس يرفعون أصواتهم بالإخبار عنه عند رؤيته، ومنه استهل الصبي: إذا صاح، واستهل وجهه وتهلل: إذا ظهر فيه السرور. قوله: "قل هي مواقيت للناس والحج" فيه بيان وجه الحكمة في زيادة الهلال ونقصانه، وأن ذلك لأجل بيان المواقيت التي يوقت الناس عباداتهم ومعاملاتهم بها كالصوم والفطر والحج ومدة الحمل والعدة والإجارات والأيمان وغير ذلك، ومثله قوله تعالى: "لتعلموا عدد السنين والحساب" والمواقيت جمع الميقات، وهو الوقت. وقراءة الجمهور والحج بفتح الحاء. وقرأ ابن أبي إسحاق بكسرها في جميع القرآن. قال سيبويه: الحج بالفتح كالرد والشد، وبالكسر كالذكر مصدران بمعنى، وقيل: بالفتح مصدر، وبالكسر الاسم. وإنما أفرد سبحانه الحج بالذكر لأنه مما يحتاج فيه إلى معرفة الوقت، ولا يجوز فيه النسيء عن وقته، ولعظم المشقة على من التبس عليه وقت مناسكه أو أخطأ وقتها أو وقت بعضها. وقد جعل بعض علماء المعاني هذا الجواب، أعني قوله: "قل هي مواقيت" من الأسلوب الحكيم، وهو تلقي المخاطب بغير ما يترقب، تنبيهاً على أنه الأولى بالقصد، ووجه ذلك أنهم سألوا عن أجرام الأهلة باعتبار زيادتها ونقصانها، فأجيبوا بالحكمة التي كانت تلك الزيادة والنقصان لأجلها لكون ذلك أولى بأن يقصد السائل، وأحق بأن يتطلع لعمله. قوله: "وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها" وجه اتصال هذا بالسؤال عن الأهلة والجواب بأنها مواقيت للناس والحج أن الأنصار كانوا إذا حجوا لا يدخلون من أبواب بيوتهم إذا رجع أحدهم إلى بيته بعد إحرامه قبل تمام حجه، لأنهم يعتقدون أن المحرم لا يجوز بينه وبين السماء حائل، وكانوا يتسنمون ظهور بيوتهم. وقال أبو عبيدة: إن هذا من ضرب المثل، والمعنى: ليس البر أن تسألوا الجهال، ولكن البر التقوى واسألوا العلماء، كما تقول: أتيت هذا الأمر من بابه، وقيل: هو مثل في جماع النساء، وأنهم أمروا بإتيانهن في القبل لا في الدبر، وقيل غير ذلك. والبيوت جمع بيت، وقرئ بضم الباء وكسرها. وقد تقدم تفسير التقوى والفلاح، وسبق أيضاً أن التقدير في مثل قوله: "ولكن البر من اتقى" ولكن البر بر من اتقى. وقد أخرج ابن عساكر بسند ضعيف عن ابن عباس في قوله تعالى: "يسألونك عن الأهلة" قال: نزلت في معاذ بن جبل وثعلبة بن عثمة. وهما رجلان من الأنصار قالا: يا رسول الله ما بال الهلال يبدو ويطلع دقيقاً مثل الخيط، ثم يزيد حتى يعظم ويستوي، ثم لا يزال ينقص ويدق حتى يعود كما كان لا يكون على حال واحد؟ فنزلت "يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس" في حل دينهم ولصومهم ولفطرهم وعدد نسائهم والشروط التي إلى أجل. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة قال: سألو النبي صلى الله عليه وسلم عن الأهلة لم جعلت؟ فأنزل الله "يسألونك عن الأهلة" الآية، فجعلها لصوم المسلمين ولإفطارهم ولمناسكهم وحجهم وعدد نسائهم ومحل دينهم. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية نحوه. وأخرج ابن جرير عن الربيع بن أنس نحوه. وقد روى ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس نحوه. وأخرج الحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "جعل الله الأهله مواقيت للناس فصوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين يوماً". وأخرج أحمد والطبراني وابن عدي والدارقطني بسند ضعيف عن طلق بن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر نحو حديث ابن عمر. وأخرج البخاري وغيره عن البراء قال: كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيوت من ظهورها فنزلت "وليس البر" الآية. وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن جابر قال: كانت قريش تدعى الحمس، وكانوا يدخلون من الأبواب في الإحرام، وكانت الأنصار وسائر العرب لا يدخلون من باب في الإحرام، فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بستان إذ خرج من بابه وخرج معه قطبة بن عامر الأنصاري، فقالوا: يا رسول الله إن قطبة بن عامر رجل فاجر، وإنه خرج معك من الباب، فقال له: ما حملك على ما صنعت؟ قال: رأيتك فعلته ففعلت كما فعلت، فقال: إني رجل أحمسي، قال: فإن ديني دينك، فأنزل الله الآية. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس نحوه. وقد ورد هذا المعنى عن جماعة من الصحابة والتابعين.

وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ

لا خلاف بين أهل العلم أن القتال كان ممنوعاً قبل الهجرة لقوله تعالى: "فاعف عنهم واصفح" وقوله: "واهجرهم هجراً جميلاً" وقوله: " لست عليهم بمصيطر " وقوله: "ادفع بالتي هي أحسن" ونحو ذلك مما نزل بمكة، فلما هاجر إلى المدينة أمره الله سبحانه بالقتال، ونزلت هذه الآية، وقيل: إن أول ما نزل قوله تعالى: "أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا" فلما نزلت الآية كان صلى الله عليه وسلم يقاتل من قاتله، ويكف عمن كف عنه حتى نزل قوله تعالى: "اقتلوا المشركين" وقوله تعالى: "وقاتلوا المشركين كافة". وقال جماعة من السلف: إن المراد بقوله: 190- "الذين يقاتلونكم" من عدا النساء والصبيان والرهبان ونحوهم، وجعلوا هذه الآية محكمة غير منسوخة، والمراد بالاعتداء عند أهل القول الأول هو مقاتلة من يقاتل من الطوائف الكفرية. والمراد به على القول الثاني مجاوزة قتل من يستحق القتل إلى قتل من لا يستحقه ممن تقدم ذكره.

وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَاف

قوله: 191- "حيث ثقفتموهم" يقال: ثقف يثقف ثقفاً، ورجل ثقيف: إذا كان محكماً لما يتناوله من الأمور. قال في الكشاف: والثقف وجود على وجه الأخذ والغلبة، ومنه رجل ثقف: سريع الأخذ لأقرانه انتهى. ومنه قول حسان: فإما يثقفن بني لؤي جذيمة إن قتلهم دواء قوله: "وأخرجوهم من حيث أخرجوكم" أي مكة. قال ابن جرير: الخطاب للمهاجرين، والضمير لكفار قريش انتهى. وقد امتثل رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر ربه، فأخرج من مكة من لم يسلم عند أن فتحها الله عليه. وقوله: "والفتنة أشد من القتل" أي الفتنة التي أرادوا أن يفتنوكم، وهي رجوعكم إلى الكفر أشد من القتل، وقيل المراد بالفتنة: المحنة التي تنزل بالإنسان في نفسه أو أهله أو ماله أو عرضه، وقيل: إن المراد بالفتنة الشرك الذي عليه المشركون، لانهم كانوا يستعظمون القتل في الحرم، فأخبرهم الله أن الشرك الذي هم عليه أشد مما يستعظمونه، وقيل: المراد فتنتهم إياكم يصدكم عن المسجد الحرام أشد من قتلكم إياهم في الحرم أو من قتلهم إياكم إن قتلوكم. والظاهر أن المراد الفتنة في الدين بأي سبب كان، وعلى أي صورة اتفقت، فإنها أشد من القتل. قوله: "ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام" الآية. اختلف أهل العلم في ذلك، فذهبت طائفة إلى أنها محكمة، وأنه لا يجوز القتال في الحرم إلا بعد أن يتعدى بالقتال فيه فإنه يجوز دفعه بالمقاتلة له، وهذا هو الحق. وقالت طائفة: إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: "فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم" ويجاب عن هذا الاستدلال بأن الجمع ممكن ببناء العام على الخاص، فيقتل المشرك حيث وجد إلا بالحرم، ومما يؤيد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "إنها لم تحل لأحد قبلي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار" وهو في الصحيح. وقد احتج القائلون بالنسخ بقتله صلى الله عليه وسلم لابن خطل، وهو متعلق بأستار الكعبة: ويجاب عنه بأنه وقع في تلك الساعة التي أحل الله لرسوله صلى الله عليه وسلم.

فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ

قوله: 192- "فإن انتهوا" أي عن قتالكم ودخلوا في الإسلام.

وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ

قوله: 193- "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة" فيه الأمر بمقاتلة المشركين إلى غاية هي أن لا تكون فتنة وأن يكون الدين لله، وهو الدخول في الإسلام، والخروج عن سائر الأديان المخالفة له، فمن دخل في الإسلام وأقلع عن الشرك لم يحل قتاله، قيل: المراد بالفتنة هنا الشرك، والظاهر أنها الفتنة في الدين على عمومها كما سلف. قوله: "فلا عدوان إلا على الظالمين" أي لا تعتدوا إلا على من ظلم وهو من لم ينته عن الفتنة، ولم يدخل في الإسلام، وإنما سمي جزاء الظالمين عدواناً مشاكلة كقوله تعالى: "وجزاء سيئة سيئة مثلها". وقوله: "فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه". وقد أخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله: "وقاتلوا في سبيل الله" الآية أنها أول آية نزلت في القتال بالمدينة، فما نزلت كان رسول الله يقاتل من قاتله، ويكف عمن كف عنه، حتى نزلت سورة براءة. وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد في هذه الآية قال: إن أصحاب محمد أمروا بقتال الكفار. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ولا تعتدوا" يقول: لا تقتلوا النساء والصبيان والشيخ الكبير ولا من ألقى السلم وكف يده، فإن فعلتم فقد اعتديتم. وأخرج ابن أبي شيبة عن عمر بن عبد العزيز أنه قال: إن هذه الآية في النساء والذرية، وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله: "والفتنة أشد من القتل" يقول: الشرك أشد من القتل. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في الآية قال: ارتداد المؤمن إلى الوثن أشد عليه من أن يقتل محقاً. وأخرج ابن أبي شيبة وأبو داود في ناسخه وابن جرير عن قتادة في قوله: "ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه" قال: حتى يبدأوا بالقتال، ثم نسخ بعد ذلك فقال: "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة". وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وأبو داود في ناسخه عن قتادة أن قوله: "ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام" وقوله: "يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير" فكان كذلك حتى نسخ هاتين الآيتين جميعاً في براءة قوله: "فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم"، "وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة". وأخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله: "فإن انتهوا" قال: فإن تابوا. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل من طرق عن ابن عباس في قوله: "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة" يقول: شرك بالله "ويكون الدين" ويخلص التوحيد لله. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في الآية، قال: الشرك. وقوله: "فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين" قال: لا تقاتلوا إلا من قاتلكم. وأخرج ابن جرير عن الربيع في قوله: "ويكون الدين لله" يقول: حتى لا تعبدوا إلا الله. وأخرج أيضاً عن عكرمة في قوله: "فلا عدوان إلا على الظالمين" قال: هم من أبي أن يقول لا إله إلا الله. وأخرج عبد بن حميد ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة نحوه.

الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ

قوله: 194- "الشهر الحرام بالشهر الحرام" أي إذا قاتلوكم في الشهر الحرام وهتكوا حرمته قاتلتموهم في الشهر الحرام مكافأة لهم ومجازاة على فعلهم. "والحرمات" جمع حرمة، كالظلمات جمع ظلمة، إنما جمع الحرمات لأنه أراد الشهر الحرام والبلد الحرام وحرمة الإحرام، والحرمة: ما منع الشرع من انتهاكه. والقصاص: المساواة، والمعنى: أن كل حرمة يجري فيها القصاص، فمن هتك حرمة عليكم فلكم أن تهتكوا حرمة عليه قصاصاً، قيل: وهذا كان في أول الإسلام ثم نسخ بالقتال، وقيل: إنه ثابت بين أمة محمد صلى الله عليه وسلم لم ينسخ، ويجوز لمن تعدى عليه في مال أو بدن أن يتعدى بمثل ما تعدى عليه، وبهذا قال الشافعي وغيره. وقال آخرون: إن أمور القصاص مقصورة على الحكام، وهكذا الأموال لقوله صلى الله عليه وسلم: "أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك". أخرجه الدارقطني وغيره، وبه قال أبو حنيفة وجمهور المالكية وعطاء الخراساني، والقول الأول أرجح، وبه قال ابن المنذر واختاره ابن العربي والقرطبي، وحكاه الداودي عن مالك، ويؤيده إذنه صلى الله عليه وسلم لامرأة أبي سفيان أن تأخذ من ماله ما يكفيها وولدها وهو في الصحيح، ولا أصرح وأوضح من قوله تعالى في هذه الآية: "فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم" وهذه الجملة في حكم التأكيد للجملة الأولى، أعني قوله: "والحرمات قصاص" وإنما سمى المكافأة اعتداء مشاكلة كما تقدم. وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال:" لما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم معتمراً في سنة ست من الهجرة وحبسه المشركون عن الدخول والوصول إلى البيت، وصدوه بمن معه من المسلمين في ذي القعدة، وهو شهر حرام قاضاهم على الدخول من قابل، فدخلها في السنة الآتية هو ومن كان معه من المسلمين وأقصه الله منهم نزلت في ذلك هذه الآية "الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص"". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي العالية نحوه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد نحوه أيضاً. وأخرجا أيضاً عن قتادة نحوه. وأخرج ابن جرير عن ابن جريج نحوه. وأخرج أبو داود في ناسخه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله: "فمن اعتدى عليكم" الآية. وقوله: "وجزاء سيئة" الآية، وقوله: "ولمن انتصر بعد ظلمه" الآية، وقوله: "وإن عاقبتم" الآية قال: هذا ونحوه نزل بمكة والمسلمون يومئذ قليل ليس لهم سلطان بقهر المشركين، فكان المشركون يتعاطونهم بالشتم والأذى، فأمر الله المسلمين من يتجازى منهم أن يتجازى بمثل ما أوتى إليه أو يصبروا ويعفوا، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وأعز الله سلطانه، أمر الله المسلمين أن ينتهوا في مظالمهم إلى سلطانهم، ولا يعدوا بعضهم على بعض كأهل الجاهلية، فقال: "ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً" الآية، يقول: ينصره السلطان حتى ينصفه على من ظلمه، ومن انتصر لنفسه دون السلطان فهو عاص مسرف قد عمل بحمية الجاهلية ولم يرض بحكم الله تعالى انتهى. وأقول: هذه الآية التي جعلها ابن عباس رضي الله عنه ناسخة مؤيدة لما تدل عليه الآيات التي جعلها منسوخة ومؤكدة له، فإن الظاهر من قوله: "فقد جعلنا لوليه سلطاناً" أنه جعل السلطان له: أي جعل له تسلطاً يتسلط به على القاتل، ولهذا قال: "فلا يسرف في القتل" ثم لو سلمنا أن معنى الآية كما قاله لكان ذلك مخصصاً للقتل من عموم الآيات المذكورة لا ناسخاً لها، فإنه لم ينص في هذه الآية إلا على القتل وحده، وتلك الآيات شاملة له ولغيره، وهذا معلوم من لغة العرب التي هي المرجع في تفسير كلام الله سبحانه.

وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ

في هذه الآية الأمر بالإنفاق في سبيل الله، وهو الجهاد، واللفظ يتناول غيره مما يصدق عليه أنه من سبيل الله والباء في قوله: 195- "بأيديكم" زائدة، والتقدير: ولا تلقوا أيديكم، ومثله: "ألم يعلم بأن الله يرى" وقال المبرد: "بأيديكم" أي بأنفسكم تعبيراً بالبعض عن الكل، كقوله: "بما كسبت أيديكم" وقيل: هذا مثل مضروب، يقال: فلان ألقى بيده في أمر كذا: إذا استسلم، لأن المستسلم في القتال يلقي سلاحه بيديه، فكذلك فعل كل عاجز في أي فعل كان وقال قوم: التقدير ولا تلقوا أنفسكم بأيديكم. والتهلكة: مصدر من هلك يهلك هلاكاً وهلكاً وتهلكة: أي لا تأخذوا فيما يهلككم. وللسلف في معنى الآية أقوال سيأتي بيانها، وبيان سبب نزول الآية. والحق أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فكل ما صدق عليه أنه تهلكة في الدين أو الدنيا فهو داخل في هذا، وبه قال ابن جرير الطبري. ومن جملة ما يدخل تحت الآية أن يقتحم الرجل في الحرب فيحمل على الجيش مع عدم قدرته على التخلص وعدم تأثيره لأثر ينفع المجاهدين، ولا يمنع من دخول هذا تحت الآية إنكار من أنكره من الذين رأوا السبب، فإنهم ظنوا أن الآية لا تجاوز سببها، وهو ظن تدفعه لغة العرب. وقوله: "وأحسنوا" أي في الإنفاق في الطاعة، أو أحسنوا الظن بالله في إخلافه عليكم. وقد أخرج عبد بن حميد والبخاري والبيهقي في سننه عن حذيفة في قوله: "وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" قال: نزلت في النفقة. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في الآية قال: هو ترك النفقة في سبيل الله مخافة العيلة. وأخرج عبد بن حميد والبيهقي عن ابن عباس نحوه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن عكرمة نحوه أيضاً. وأخرج ابن جرير عن الحسن نحوه. وأخرج عبد بن حميد والبيهقي في الشعب عنه قال: هو البخل. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم في الآية قال: كان رجال يخرجون في بعوث يبعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير نفقة، فإما يقطع لهم، وإما كانوا عيالاً، فأمرهم الله أن يستنفقوا مما رزقهم الله ولا يلقوا بأيديهم إلى التهلكة. والتهلكة: أن تهلك رجال من الجوع والعطش ومن المشي. وقال لمن بيده فضل: "وأحسنوا إن الله يحب المحسنين". وأخرج عبد بن حميد وأبو يعلى وابن جرير والبغوي في معجمه وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان وابن مانع والطبراني عن الضحاك بن أبي جبير: أن الأنصار كانوا ينفقون في سبيل الله ويتصدقون، فأصابتهم سنة فساء ظنهم وأمسكوا عن ذلك، فأنزل الله الآية. وأخرج عبد بن حميد وأبو داود والترمذي وصححه والنسائي وأبو يعلى وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والطبراني وابن مردويه والبيهقي في سننه عن أسلم بن عمران قال: كنا بالقسطنطينية، وعلى أهل مصر عقبة بن عامر، وعلى أهل الشام فضالة بن عبيد، فخرج صف عظيم من الروم فصفقنا لهم، فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم، فصاح الناس وقالوا: سبحان الله يلقي بيده إلى التهلكة؟ فقام أبو أيوب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أيها الناس إنكم تؤولون الآية هذا التأويل. وإنما أنزلت فينا هذه الآية معشر الأنصار، إن لما أعز الله دينه وكثر ناصروه، قال بعضننا لبعض سراً دون رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أموال الناس قد ضاعت، وإن الله قد أعز الإسلام وكثر ناصروه، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها؟ فأنزل الله على نبيه يرد علينا: "وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" فكانت التهلكة: الإقامة في الأموال وإصلاحها وترك الغزو. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وصححه والبيهقي عن البراء بن عازب قال في تفسير الآية: هو الرجل يذنب الذنب فيلقي بيديه فيقول: لا يغفر الله لي أبداً. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه والطبراني والبيهقي في الشعب عن النعمان بن بشير نحوه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير قال في تفسير الآية: إنه القنوط. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: التهلكة عذاب الله. وأخرج ابن أبي حاتم عن عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث أنهم حاصروا دمشق فأسرع رجل إلى العدو وحده، فعاب ذلك عليه المسلمون، ورفع حديثه إلى عمرو بن العاص فأرسل إليه فرده، وقال: قال الله: "ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة". وأخرج ابن جرير عن رجل من الصحابة في قوله: "وأحسنوا" قال: أدوا الفرائض. وأخرج عبد بن حميد عن أبي إسحاق مثله. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن عكرمة قال: أحسنوا الظن بالله.

وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَ

قوله: 196- "وأتموا الحج" اختلف العلماء في المعنى المراد بإتمام الحج والعمرة لله، فقيل: أداؤهما والإتيان بهما من دون أن يشوبهما شيء مما هو محظور، ولا يخل بشرط ولا فرض لقوله تعالى: "فأتمهن" وقوله: "ثم أتموا الصيام إلى الليل". وقال سفيان الثوري: إثمامهما أن تخرج لهما لا لغيرهما، وقيل: إتمامهما أن تفرد كل واحد منهما من غير تمتع ولا قران، وبه قال ابن حبيب. وقال مقاتل: إتمامهما أن لا يستحلوا فيهما ما لا ينبغي لهم، وقيل: إتمامهما أن يحرم لهما من دويرة أهله، وقيل: أن ينفق في سفرهما الحلال الطيب، وسيأتي بيان سبب نزول الآية وما هو مروي عن السلف في معنى إتمامهما. وقد استدل بهذه الآية على وجوب العمرة لأن الأمر بإتمامهما أمر بها، وبذلك قال علي وابن عمر وابن عباس وعطاء وطاوس ومجاهد والحسن وابن سيرين والشعبي وسعيد بن جبير ومسروق وعبد الله بن شداد والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وابن الجهم من المالكية. وقال مالك والنخعي وأصحاب الرأي كما حكاه ابن المنذر عنهم: أنهم سنة. وحكي عن أبي حنيفة أنه يقول بالوجوب. ومن القائلين بأنها سنة ابن مسعود وجابر بن عبد الله. ومن جملة ما استدل به الأولون ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال لأصحابه: "من كان معه هدي فليهل بحج وعمرة". وثبت عنه أيضاً في الصحيح أنه قال: "دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة". وأخرج الدارقطني والحاكم من حديث زيد بن ثابت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الحج والعمرة فريضتان لا يضرك بأيهما بدأت". واستدل الآخرون بما أخرجه الشافعي في الآية وعبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد عن أبي صالح الحنفي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحج جهاد والعمرة تطوع". وأخرج ابن ماجه عن طلحة بن عبيد الله مرفوعاً مثله. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد والترمذي وصححه عن جابر "أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العمرة أواجبة هي؟ قال: لا وأن تعتمروا خير لكم" وأجابوا عن الآية وعن الأحاديث المصرحة بأنها فريضة بحمل ذلك على أنه قد وقع الدخول فيها، وهي بعد الشروع فيها واجبة بلا خلاف، وهذا وإن كان فيه بعد، لكنه يجب المصير إليه جمعاً بين الأدلة ولا سيما بعد تصريحه صلى الله عليه وسلم بما تقدم في حديث جابر من عدم الوجوب، وعلى هذا يحمل ما ورد مما فيه دلالة على وجوبها، كما أخرجه الشافعي في الأم أن في الكتاب الذي كتبه النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم: "إن العمرة هي الحج الأصغر". وكحديث ابن عمر عند البيهقي في الشعب قال: "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أوصني، فقال تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم شهر رمضان، وتحج وتعتمر، وتسمع وتطيع، وعليك بالعلانية، وإياك والسر" وهكذا ينبغي حمل ما ورد من الأحاديث التي قرن فيها بين الحج والعمرة في أنهما من أفضل الأعمال، وأنهما كفارة لما بينهما، وأنهما يهدمان ما كان قبلهما ونحو ذلك. قوله: "فإن أحصرتم" الحصر: الحبس. قال أبو عبيدة والكسائي والخليل: إنه يقال أحصر بالمرض، وحصر بالعدو. وفي المجمل لابن فارس العكس يقال: أحصر بالعدو، وحصر بالمرض. ورجح الأول ابن العربي وقال: هو رأي أكثر أهل اللغة. وقال الزجاج: إنه كذلك عند جميع أهل اللغة. وقال الفراء: هما بمعنى واحد في المرض والعدو. ووافقه على ذلك أبو عمرو الشيباني فقال: حصرني الشيء وأحصرني: أي حبسني. وبسبب هذا الاختلاف بين أهل اللغة اختلف أئمة الفقه في معنى الآية، فقالت الحنفية: المحصر من يصير ممنوعاً من مكة بعد الإحرام بمرض أو عدو أو غيره. وقالت الشافعية وأهل المدينة المراد بالآية حصر العدو. وقد ذهب جمهور العلماء إلى أن المحصر بعدو يحل حيث أحصر وينحر هديه إن كان ثم هدي ويحلق رأسه، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه في الحديبية . وقوله " فما استيسر من الهدي " ما في موضع رفع على الابتداء أو الخبر: أي فالواجب أو فعليكم، ويحتمل أن يكون في موضع نصب، أي فانحروا أو فاهدوا ما استيسر: أي ما تيسر، يقال: يسر الأمر واستيسر، كما يقال: صعب واستصعب، الهدي والهدي لغتان، وهما جمع هدية، وهي ما يهدى إلى البيت من بدنة أو غيرها. قال الفراء: أهل الحجاز وبنو أسد يخففون الهدي، وتميم وسفلى قيس يثقلون. قال الشاعر: حلفت برب كعبة والمصلى وأعناق الهدي مقلدات قال: وواحد الهدي هدية، ويقال: في جمع الهدي أهد. واختلف أهل العلم في المراد بقوله: "ما استيسر" فذهب الجمهور إلى أنه شاة. وقال ابن عمر وعائشة وابن الزبير: جمل أو بقرة. وقال الحسن: أعلا الهدي بدنة، وأوسطه بقرة، وأدناه شاة، وقوله: "ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله" هو خطاب لجميع الأمة من غير فرق بين محصر وغير محصر، وإليه ذهب جمع من أهل العلم- وذهبت طائفة إلى أنه خطاب للمحصرين خاصة: أي لا تحلوا من الإحرام حتى تعلموا أن الهدي الذي بعثتموه إلى الحرم قد بلغ محله، وهو الموضع الذي يحل فيه ذبحه. واختلفوا في تعيينه، فقال مالك والشافعي: هو موضع الحصر اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أحصر في عام الحديبية. وقال أبو حنيفة: هو الحرام لقوله تعالى: "ثم محلها إلى البيت العتيق" وأجيب عن ذلك بان المخاطب به هو الآمن الذي يمكنه الوصول إلى البيت. وأجاب الحنفية عن نحره صلى الله عليه وسلم في الحديبية بأن طرف الحديبية الذي إلى أسفل مكة هو من الحرم، ورد بأن المكان الذي وقع فيه النحر ليس هو من الحرم. قوله: "فمن كان منكم مريضاً" الآية، المراد بالمرض هنا ما يصدق عليه مسمى المرض لغة. والمراد بالأذى من الرأس: ما فيه من قمل أو جراح ونحو ذلك، ومعنى الآية: أن من كان مريضاً أو به أذى من رأسه فحلق فعليه فدية. وقد بينت السنة ما أطلق هنا من الصيام والصدقة والنسك، فثبت في الصحيح "أن رسول الله رأى كعب بن عجرة وهو محرم وقمله يتساقط على وجهه، فقال: أيؤذيك هوام رأسك؟ قال: نعم، فأمره أن يحلق ويطعم ستة مساكين، أو يهدي شاة، أو يصوم ثلاثة أيام". وقد ذكر ابن عبد البر أنه لا خلاف بين العلماء أن النسك هنا هو شاة. وحكي عن الجمهور أن الصوم المذكور في الآية ثلاثة أيام، والإطعام عشرة مساكين. والحديث الصحيح المتقدم يرد عليهم ويبطل قولهم. وقد ذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم وداود إلى أن الإطعام في ذلك مدان بمد النبي صلى الله عليه وسلم أي لكل مسكين وقال الثوري نصف صاع من بر أو صاع من غيره. وروي ذلك عن أبي حنيفة. قال ابن المنذر: وهذا غلط لأن في بعض أخبار كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: تصدق بثلاثة أصوع من تمر على ستة مساكين. واختلفت الرواية عن أحمد بن حنبل، فروي عنه مثل قول مالك والشافعي، وروي عنه أنه إن أطعم براً فمد لكل مسكين، وإن أطعم تمراً فنصف صاع. واختلفوا في مكان هذه الفدية فقال عطاء: ما كان من دم فبمكة، وما كان من طعام أو صيام فحيث شاء. وبه قال أصحاب الرأي. وقال طاوس والشافعي: الإطعام والدم لا يكونان إلا بمكة، والصوم حيث شاء. وقال مالك ومجاهد: حيث شاء في الجميع، وهو الحق لعدم الدليل على تعيين المكان. قوله: "فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي" أي برأتم من المرض- وقيل: من خوفكم من العدو على الخلاف السابق، ولكن الأمن من العدو أظهر من استعمال أمنتم في ذهاب المرض، فيكون مقوياً لقول من قال إن قوله: "فإن أحصرتم"، المراد به الإحصار من العدو، كما أن قوله: "فمن كان منكم مريضاً" يقوي قول من قال بذلك لإفراد عذر المرض بالذكر. وقد وقع الخلاف هل المخاطب بهذا هم المحصرون خاصة أم جميع الأمة على حسب ما سلف، والمراد بالتمتع المذكور في الآية أن يحرم الرجل بعمرة ثم يقيم حلالاً بمكة إلى أن يحرم بالحج، فقد استباح بذلك ما لا يحل للمحرم استباحته، وهو معنى تمتع واستمتع. ولا خلاف بين أهل العلم في جواز التمتع، بل هو عندي أفضل أنواع الحج كما حررته في شرحي على المنتقى. وقد تقدم الخلاف في معنى قوله: "فما استيسر من الهدي". قوله: "فمن لم يجد" الآية، أي فمن لم يجد الهدي، إما لعدم المال أو لعدم الحيوان، صام ثلاثة أيام في الحج: أي في أيام الحج، وهي من عند شروعه في الإحرام إلى يوم النحر، وقيل: يصوم قبل يوم التروية يوماً ويوم التروية ويوم عرفة، وقيل: ما بين أن يحرم بالحج إلى يوم عرفة، وقيل: يصومهن من أول عشر ذي الحجة، وقيل: ما دام بمكة، وقيل: إنه يجوز أن يصوم الثلاث قبل أن يحرم. وقد جوز بعض أهل العلم صيام أيام التشريق لمن لم يجد الهدي، ومنعه آخرون. قوله: "وسبعة إذا رجعتم" قرأه الجمهور بخفض سبعة، وقرأ زيد بن علي وابن أبي عبلة بالنصب على أنه معمول بفعل مقدر: أي وصوموا سبعة، وقيل: على أنه معطوف على ثلاثة، لأنها وإن كانت مجرورة لفظاً فهي في محل نصب كأنه قيل: فصيام ثلاثة. والمراد بالرجوع هنا الرجوع إلى الأوطان. قال أحمد وإسحاق: يجزيه الصوم في الطريق، ولا يتضيق عليه الوجوب إلا إذا وصل وطنه، وبه قال الشافعي وقتادة والربيع ومجاهد وعطاء وعكرمة والحسن وغيرهم. وقال مالك: إذا رجع من منى فلا بأس أن يصوم، والأول أرجح. وقد ثبت في الصحيح من حديث ابن عمر أنه قال صلى الله عليه وسلم: "فمن لم يجد فليصم ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع إلى أهله" فبين صلى الله عليه وسلم أن الرجوع المذكور في الآية هو الرجوع إلى الأهل. وثبت أيضاً في الصحيح من حديث ابن عباس بلفظ "وسبعة إذا رجعتم إلى أمصاركم" وإنما قال سبحانه: "تلك عشرة كاملة" مع أن كل أحد يعلم أن الثلاثة والسبعة عشرة، لدفع أن يتوهم متوهم التخيير بين الثلاث الأيام في الحج والسبعة إذا رجع. قال الزجاج. وقال المبرد: ذكر ذلك ليدل على انقضاء العدد لئلا يتوهم متوهم أنه قد منه شيء بعد ذكر السبعة، وقيل: هو توكيد كما تقول كتبت بيدي . وقد كانت العرب تأتي بمثل هذه الفذلكة فيما دون هذا العدد، كقول الشاعر: ثلاث واثنتان فهن خمس وسادسة تميل إلى سهامي وكذا قول الآخر. ثلاث بالعداد وذاك حسبي وست حين يدركني العشاء فذلك تســعة في اليوم ري وشرب المرء فوق الري داء وقوله: "كاملة" توكيد آخر بعد الفذلكة لزيادة التوصية بصيامها، وأن لا ينقص من عددها. وقوله: "ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام" الإشارة بقوله: "ذلك" قيل: هي راجعة إلى التمتع، فتدل على أنه لا متعة لحاضري المسجد الحرام كما يقول أبو حنيفة وأصحابه، قالوا: ومن تمتع منهم كان عليه دم، وهو دم جناية لا يأكل منه، وقيل: إنها راجعة إلى الحكم، وهو وجوب الهدي والصيام، فلا يجب ذلك على من كان من حاضري المسجد الحرام، كما يقوله الشافعي ومن وافقه. والمراد بمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام: من لم يكن ساكناً في الحرم، أو من لم يكن ساكناً في المواقيت فما دونها على الخلاف في ذلك بين الأئمة. وقوله: "واتقوا الله" أي فيما فرضه عليكم في هذه الأحكام، وقيل: هو أمر التقوى على العموم وتحذير من شدة عقاب الله سبحانه. وقد أخرج ابن أبي حاتم وأبو نعيم في الدلائل وابن عبد البر في التمهيد عن يعلى بن أمية قال: "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة وعليه جبة وعليه أثر خلوق، فقال: كيف تأمرني يا رسول الله أن أصنع في عمرتي؟ فأنزل الله: "وأتموا الحج والعمرة لله" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وأتموا الحج والعمرة لله" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين السائل عن العمرة؟ فقال: ها أنذا، قال: اخلع الجبة واغسل عنك أثر الخلوق، ثم ما كنت صانعاً في حجك فاصنعه في عمرتك". وقد أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما من حديثه، ولكن فيهما أنه نزل عليه صلى الله عليه وسلم بعد السؤال ولم يذكر ما هو الذي أنزل عليه. وأخرج ابن أبي شيبة عن علي في قوله: "وأتموا الحج والعمرة لله" قال: أن تحرم من دويرة أهلك. وأخرج ابن عدي والبيهقي مثله من حديث أبي هريرة مرفوعاً. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي حاتم عن ابن عمر قال: من تمامها أن يفرد كل واحد منهما عن الآخر، وأن يعتمر في غير أشهر الحج. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس قال: تمام الحج يوم النحر إذا رمى جمرة العقبة وزار البيت فقد حل، وتمام العمرة إذا طاف بالبيت وبالصفا وبالمروة فقد حل. وقد ورد في فضل الحج والعمرة أحاديث كثيرة ليس هذا موطن ذكرها. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "فإن أحصرتم" يقول: من أحرم بحج أو عمرة ثم حبس عن البيت بمرض يجهده أو عدو يحبسه، فعليه ذبح ما استيسر من الهدي شاة فما فوقها، وإن كانت حجة الإسلام فعليه قضاؤها، وإن كانت بعد حجة الفريضة فلا قضاء عليه. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن مسعود في قوله: "فإن أحصرتم" يقول: الرجل إذا أهل بالحج فأحصر بعث بما استيسر من الهدي، فإن كان عجل قبل أن يبلغ الهدي محله فحلق رأسه، أو مس طيباً، أو تداوى بدواء، كان عليه فدية من صيام أو صدقة أو نسك- فالصيام ثلاثة أيام، والصدقة ثلاثة آصع على ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع، والنسك شاة "فإذا أمنتم" يقول: فإذا بريء فمضى من وجهه ذلك إلى البيت أحل من حجته بعمرة، وكان عليه الحج من قابل، فإن هو رجع ولم يتم من وجهه ذلك إلى البيت كان عليه حجة وعمرة، فإن هو رجع متمتعاً في أشهر الحج كان عليه ما استيسر من الهدي شاة، فإن هو لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع. قال إبراهيم: فذكرت هذا الحديث لسعيد بن جبير فقال: هكذا قال ابن عباس في هذا الحديث كله. وأخرج مالك وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن علي في قوله: "فما استيسر من الهدي" قال: شاة. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس مثله. وأخرج الشافعي في الأم وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير والبيهقي "فما استيسر من الهدي" قال: بقرة أو جزور، قيل: أو ما يكفيه شاة؟ قال: لا. وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وعبد بن حميد عن ابن عباس قال في تفسير: "ما استيسر" ما يجد. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه قال: إن كان موسراً فمن الإبل، وإلا فمن البقر، وإلا فمن الغنم. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق القاسم عن عائشة وابن عمر أنهما كانا لا يريان ما استيسر من الهدي إلا من الإبل والبقر. وكان ابن عباس يقول: ما استيسر من الهدي شاة. وأخرج الشافعي في الأم وعبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: لا حصر إلا حصر العدو، فأما من أصابه مرض أو وجع أو ضلال فليس عليه شيء، إنما قال الله: "فإذا أمنتم" فلا يكون الأمن إلا من الخوف. وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عمر قال: لا إحصار إلا من عدو. وأخرج أيضاً عن الزهري نحوه. وأخرج أيضاً عن عطاء قال: لا إحصار إلا من مرض أو عدو أو أمر حادث. وأخرج أيضاً عن عروة قال: كل شيء حبس المحرم فهو إحصار. وأخرج البخاري عن المسور أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحر قبل أن يحلق وأمر أصحابه بذلك. وأخرج أبو داود في ناسخه عن ابن عباس في قوله: "ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله" ثم استثنى فقال: "فمن كان منكم مريضاً" الآية. وأخرج الترمذي وابن جرير عن كعب بن عجرة قال: لفي نزلت وإياي عنى بها "فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه". وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس "فمن كان منكم مريضاً" يعني من اشتد مرضه. وأخرج ابن أبي حاتم وابن المنذر عنه. قال: يعني بالمرض أن يكون برأسه أذى أو قروح، أو به أذى من رأسه- قال: الأذى: هو القمل. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: النسك المذكور في الآية شاة. وروي أيضاً عن علي مثله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "فمن تمتع بالعمرة إلى الحج" يقول: من أحرم بالعمرة في أشهر الحج. وأخرج عبد بن حميد عن الضحاك نحوه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم أن الزبير كان يقول: إنما المتعة لمن أحصر، وليست لمن خلي سبيله. وقال ابن عباس: هي لمن أحصر ومن خلي سبيله. وأخرج ابن جرير عن علي في قوله: "فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج" قال: فإن أخر العمرة حتى يجمعها مع الحج فعليه الهدي. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي عن علي بن أبي طالب في قوله: "فصيام ثلاثة أيام" قال قبل التروية يوم، ويوم التروية، ويوم عرفة فإن فاتته صامهن أيام التشريق. وأخرج هؤلاء إلا ابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عمر مثله إلا أنه قال: وإذا فاته صام أيام منى فإنهن من الحج. وأخرج ابن جرير والدارقطني والبيهقي عن ابن عمر نحوه مرفوعاً. وأخرج ابن أبي شيبة عن علقمة ومجاهد وسعيد بن جبير مثله. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: الصيام للمتمتع ما بين إحرامه إلى يوم عرفة. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية قال: إذا لم يجد المتمتع بالعمرة هدياً فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج قبل يوم عرفة، وإن كان يوم عرفة الثالث فقد تم صومه، وسبعة إذا رجع إلى أهله. وأخرج الدارقطني عن عائشة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من لم يكن معه هدي فليصم ثلاثة أيام قبل يوم النحر، ومن لم يكن صام تلك الثلاثة الأيام فليصم أيام التشريق". وأخرج أيضاً عن عبد الله بن حذافة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره في رهط أن يطوفوا في منى في حجة الوداع، فينادوا: إن هذه أيام أكل وشرب وذكر الله، فلا نصوم فيهن إلا صوماً في هدي". وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد عن عطاء في قوله تعالى: "ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام" قال: ست قريات: عرفة، وعرنة، والرجيع، والنخلتان، ومر الظهران، وضجنان. وقال مجاهد: هم أهل الحرم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس. قال: هم أهل الحرم. وأخرج ابن المنذر عن ابن عمر مثله.

الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ

قوله: 197- "الحج أشهر" فيه حذف، والتقدير: وقت الحج أشهر، أي وقت عمل الحج، وقيل التقدير: الحج في أشهر، وفيه أنه يلزم النصب مع حذف حرف الجر لا الرفع. قال الفراء: الأشهر رفع لأن معناه وقت الحج أشهر معلومات، وقيل التقدير: الحج حج أشهر معلومات. وقد اختلف في الأشهر المعلومات، فقال ابن مسعود وابن عمر وعطاء والربيع ومجاهد والزهري: هي شوال وذو القعدة وذو الحجة كله، وبه قال مالك. وقال ابن عباس والسدي والشعبي والنخعي: هي شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة، وبه قال أبو حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم. وقد روي أيضاً عن مالك. ويظهر فائدة الخلاف في ما وقع من أعمال الحج بعد يوم النحر، فمن قال إن ذا الحجة كله من الوقت لم يلزمه دم التأخير، ومن قال: ليس إلا العشر منه قال: يلزم دم التأخير. وقد استدل بهذه الآية من قال إنه لا يجوز الإحرام بالحج قبل أشهر الحج، وهو عطاء وطاوس ومجاهد والأوزاعي والشافعي وأبو ثور قالوا: فمن أحرم بالحج قبلها أحل بعمرة، ولا يجزيه عن إحرام الحج كمن دخل في صلاة قبل وقتها فإنها لا تجزيه. وقال أحمد وأبو حنيفة: إنه مكروه فقط. وروي نحوه عن مالك، والمشهور عنه جواز الإحرام بالحج في جميع السنة من غير كراهة. وروى مثله عن أبي حنيفة. وعلى هذا القول ينبغي أن ينظر في فائدة توقيت الحج بالأشهر المذكورة في الآية. وقد قيل: إن النص عليها لزيادة فضلها. وقد روي القول بجواز الإحرام في جميع السنة عن إسحاق بن راهويه وإبراهيم النخعي والثوري والليث بن سعد، واحتج لهم بقوله تعالى: "يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج" فجعل الأهلة كلها مواقيت للحج، ولم يخص الثلاثة الأشهر، ويجاب بأن هذه الآية عامة، وتلك خاصة، والخاص مقدم على العام. ومن جملة ما احتجوا به القياس للحج على العمرة، فكما يجوز الإحرام للعمرة في جميع السنة، كذلك يجوز للحج، ولا يخفى أن هذا القياس مصادم للنص القرآني فهو باطل، فالحق ما ذهب إليه الأولون إن كانت الأشهر المذكورة في قوله: "الحج أشهر" مختصة بالثلاثة المذكورة بنص أو إجماع، فإن لم يكن كذلك فالأشهر جمع شهر، وهو من جموع القلة يتردد ما بين الثلاثة إلى العشرة، والثلاثة هي المتيقنة فيجب الوقوف عندها، ومعنى قوله: "معلومات" أن الحج في السنة مرة واحدة في أشهر معلومات من شهورها ليس كالعمرة، أو المراد معلومات ببيان النبي صلى الله عليه وسلم، أو معلومات عند المخاطبين لا يجوز التقدم عليها ولا التأخر عنها. وقوله: "فمن فرض فيهن الحج" أصل الفرض في اللغة: الحز والقطع، ومنه فرضة القوس والنهر والجبل، ففرضية الحج لازمة للعبد الحر كلزوم الحز للقوس، وقيل معنى فرض: أبان، وهو أيضاً يرجع إلى القطع، لأن من قطع شيئاً فقد أبانه عن غيره. والمعنى في الآية: فمن ألزم نفسه فيهن الحج بالشروع فيه بالنية قصداً باطناً، وبالإحرام فعلاً ظاهراً، وبالتلبية نطقاً مسموعاً. وقال أبو حنيفة: إن إلزامه نفسه يكون بالتلبية أو بتقليد الهدي وسوقه. وقال الشافعي: تكفي النية في الإحرام بالحج. والرفث قال ابن عباس وابن جرير والسدي وقتادة والحسن وعكرمة والزهري ومجاهد ومالك: هو الجماع. وقال ابن عمر وطاوس وعطاء وغيرهم: الرفث: الإفحاش بالكلام. قال أبو عبيدة: الرفث: اللغاء من الكلام، وأنشد: ورب أسراب حجيج كظم عن اللغا ورفث التكلم يقال: رفث يرفث بكسر الفاء وضمها. والفسوق: الخروج عند حدود الشرع، وقيل: هو الذبح للأصنام، وقيل: التنابز بالألقاب، وقيل: السباب. والظاهر أنه لا يختص بمعصية معينة، وإنما خصصه من خصصه من خصصه بما ذكر باعتبار أنه قد أطلق على ذلك الفرد اسم الفسوق، كما قال سبحانه في الذبح للأصنام: "أو فسقاً أهل لغير الله به". وقال في التنابز: "بئس الاسم الفسوق". وقال صلى الله عليه وسلم في السباب: "سباب المسلم فسوق". ولا يخفى على عارف أن إطلاق اسم الفسوق على فرد من أفراد المعاصي لا يوجب اختصاصه به. والجدال مشتق من الجدل وهو القتل، والمراد به هنا المماراة، وقيل: السباب، وقيل: الفخر بالآباء. والظاهر الأول. وقد قرىء بنصب الثلاثة ورفعها، ورفع الأولين، ونصب الثالث، وعكس ذلك، ومعنى النفي لهذه الأمور النهي عنها. وقوله: "وما تفعلوا من خير يعلمه الله" حث على الخير بعد ذكر الشر، وعلى الطاعة بعد ذكر المعصية، وفيه أن كل ما يفعلونه من ذلك فهو معلوم عند الله لا يفوت منه شيء. وقوله: "وتزودوا" فيه الأمر باتخاذ الزاد، لأن بعض العرب كانوا يقولون: كيف نحج بيت ربنا ولا يطعمنا؟ فكانوا يحجون بلا زاد ويقولون: نحن متوكلون على الله سبحانه، وقيل المعنى: تزودوا لمعادكم من الأعمال الصالحة "فإن خير الزاد التقوى" والأول أرجح كما يدل على ذلك سبب نزول الآية، وسيأتي. وقوله: "فإن خير الزاد التقوى" إخبار بأن خير الزاد اتقاء المنهيات، فكأنه قال: اتقوا الله في إتيان ما أمركم به من الخروج بالزاد فإن خير الزاد التقوى، وقيل المعنى: فإن خير الزاد ما اتقى به المسافر من الهلكة والحاجة إلى السؤال والتكفف. وقوله: "واتقون يا أولي الألباب" فيه التخصيص لأولي الألباب بالخطاب بعد حث جميع العباد على التقوى، لأن أرباب الألباب هم القابلون لأوامر الله الناهضون بها، ولب كل شيء خالصه.

لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ

قوله: 198- "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم" فيه الترخيص لمن حج في التجارة ونحوها من الأعمال التي يحصل بها شيء من الرزق، وهو المراد بالفضل هنا، ومنه قوله تعالى: "فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله" أي لا إثم عليكم في أن تبتغوا فضلاً من ربكم. مع سفركم لتأدية ما افترضه عليكم من الحج. قوله: "فإذا أفضتم" أي دفعتم، يقال فاض الإناء: إذا امتلأ ما افترضه عليكم من الحج. قوله: "فإذا أفضتم" أي دفعتم، يقال فاض الإناء: إذا امتلأ ماء حتى ينصب من نواحيه، ورجل فياض: أي متدفقة يداه بالعطاء، ومعناه: أفضتم أنفسكم فترك ذكر المفعول، كما ترك في قولهم دفعوا من موضع كذا. وعرفات: اسم لتلك البقعة: أي موضع الوقوف، وقرأه الجماعة بالتنوين، وليس التنوين هنا للفرق بين ما ينصرف وما لا ينصرف، وإنما هو بمنزلة النون في مسلمين. قال النحاس: هذا الجيد. وحكى سيبويه عن العرب حذف التنوين من عرفات قال: لما جعلوها معرفة حذفوا التنوين. وحكى الأخفش والكوفيون فتح التاء تشبيهاً بتاء فاطمة، وأنشدوا: تنورتها من أذرعات وأهلها بيثرب أدنى دارها نظر عالي وقال في الكشاف: فإن قلت هلا منعت الصرف، وفيها السببان التعريف والتأنيث، قلت: لا يخلو التأنيث، إما أن يكون بالتاء التي في لفظها، وإما بتاء مقدرة كما في سعاد، فالتي في لفظها ليست للتأنيث وإنما هي مع الألف التي قبلها علامة جمع المؤنث، ولا يصح تقدير التاء فيها لأن هذه التاء لاختصاصها بجمع المؤنث مانعة من تقديرها، كما لا تقدر تاء التأنيث في بنت لأن التاء التي هي بدل من الواو لاختصاصها بالمؤنث كتاء التأنيث فأبت تقديرها انتهى، وسميت عرفات لأن الناس يتعارفون فيها، وقيل: إن آدم التقى هو وحواء فيها فتعارفا، وقيل غير ذلك. قال ابن عطية: والظاهر أنه اسم مرتجل كسائر أسماء البقاع، واستدل بالآية على وجوب الوقوف بعرفة. لأن الإفاضة لا تكون إلا بعده، والمراد بذكر الله عند المشعر الحرام دعاؤه، ومنه التلبية والتكبير، وسمي المشعر مشعراً من الشعار، وهو العلامة، والدعاء عنده من شعائر الحج، ووصف بالحرام لحرمته، وقيل: المراد بالذكر صلاة المغرب والعشاء بالمزدلفة جمعاً. وقد أجمع أهل العلم على أن السنة أن يجمع الحاج بينهما فيها. والمشعر: هو جبل قزح الذي يقف عليه الإمام، وقيل: هو ما بين جبلي المزدلفة من مأزمي عرفة إلى وادي محسر. قوله: "واذكروه كما هداكم" الكاف نعت مصدر محذوف، وما مصدرية أو كافة أي اذكروه ذكراً حسناً، كما هداكم هداية حسنة، وكرر الأمر بالذكر تأكيداً- وقيل: الأول أمر بالذكر عند المشعر الحرام، والثاني أمر بالذكر على حكم الإخلاص- وقيل: المراد بالثاني تعديد النعمة عليهم، وإن في قوله: "وإن كنتم من قبله" مخففة كما يفيده دخول اللام في الخبر- وقيل هي بمعنى قد: أي قد كنتم، والضمير في قوله: "من قبله" عائد إلى الهدى، وقيل: إلى القرآن. وقد أخرج الطبراني في الأوسط وابن مردويه عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: "الحج أشهر معلومات" شوال وذو القعدة وذو الحجة. وأخرج الطبراني في الأوسط أيضاً عن ابن عمر مرفوعاً مثله. وأخرج الخطيب عن ابن عباس مرفوعاً مثله أيضاً. وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن عمر بن الخطاب موقوفاً مثله. وأخرج الشافعي في الأم وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عمر موقوفاً مثله. وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عباس وعطاء والضحاك مثله. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في سننه من طرق ابن عمر في قوله: "الحج أشهر معلومات" قال: شوال وذو القعدة وعشر ليال من ذي الحجة. وأخرجوا إلا الحاكم عن ابن مسعود مثله. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والطبراني والبيهقي عن ابن عباس من طرق مثله. وأخرج ابن المنذر والدارقطني والطبراني والبيهقي عن عبد الله بن الزبير مثله أيضاً. وأخرج ابن أبي شيبة عن الحسن ومحمد وإبراهيم مثله. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عمر في قوله: "فمن فرض فيهن الحج" قال: من أهل فيهن بحج. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر والبيهقي عن ابن مسعود قال الفرض: الإحرام. وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن الزبير قال: الإهلال. وأخرج عنه ابن المنذر والدارقطني والبيهقي قال: فرض الحج الإحرام. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس قال: الفرض الإهلال. وروي نحو ذلك عن جماعة من التابعين. وأخرج الشافعي في الأم وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال: لا ينبغي لأحد أن يحرم بالحج إلا في أشهر الحج من أجل قول الله تعالى: "الحج أشهر معلومات". وأخرج ابن أبي شيبة وابن خزيمة والحاكم وصححه والبيهقي عنه نحوه. وأخرج الشافعي في الأم وابن أبي شيبة وابن مردويه والبيهقي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا ينبغي لأحد أن يحرم بالحج إلا في أشهر الحج". وأخرج الطبراني عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: "فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج" قال: "الرفث: التعريض للنساء بالجماع، والفسوق: المعاصي كلها، والجدال: جدال الرجل صاحبه". وأخرج ابن مردويه والأصبهاني في الترغيب عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فلا رفث: لا جماع، ولا فسوق: المعاصي والكذب". وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وأبو يعلى وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه من طرق عن ابن عباس في الآية قال: الرفث الجماع، والفسوق: المعاصي، والجدال: المراء. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة والطبراني في الأوسط عن ابن عمر قال: الرفث: غشيان النساء، والفسوق: السباب، والجدال: المراء. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي عنه نحوه. وروي نحو ما تقدم عن جماعة من التابعين بعبارات مختلفة. وأخرج عبد بن حميد والبخاري وأبو داود والنسائي وغيرهم عن ابن عباس قال: كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون: نحن متوكلون ثم يقدمون فيسألون الناس، فأنزل الله: "وتزودوا فإن خير الزاد التقوى". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه قال: كان ناس يخرجون من أهليهم ليست معهم أزودة يقولون: نحج بيت الله ولا يطعمنا؟ فنزلت الآية. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عمر قال: كانوا إذا أحرموا ومعهم أزوادهم رموا بها واستأنفوا زاداً آخر، فأنزل الله: "وتزودوا فإن خير الزاد التقوى" فنهوا عن ذلك وأمروا أن يتزودوا الكعك والدقيق والسويق. وأخرج الطبراني عن ابن الزبير قال: كان الناس يتوكل بعضهم على بعض في الزاد فأمرهم الله أن يتزودوا. وقد روي عن جماعة من التابعين مثل ما تقدم عن الصحابة. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وأبو داود وابن جرير عن ابن عباس قال: كانوا يتقون البيوع والتجارة في الموسم والحج ويقولون: أيام ذكر الله، فنزلت "ليس عليكم جناح" الآية. وقد أخرج نحوه عنه البخاري وغيره. وأخرج عبد بن حميد وعبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وأبو داود وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي عن أبي أمامة التميمي قال: قلت لابن عمر: إنا أناس نكري فهل لنا من حج؟ قال: أليس تطوفون بالبيت، وبين الصفا والمروة، وتأتون المعرف، وترمون الجمار، وتحلقون رؤوسكم؟ قلت: بلى، فقال ابن عمر: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الذي سألتني عنه فلم يجبه حتى نزل عليه جبريل بهذه الآية "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم" فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه الآية وقال: وأنتم حجاج. وأخرج البخاري وغيره عن ابن عباس أنه كان يقرأ "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم" في مواسم الحج. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن ابن الزبير أنه قرأها كما قرأها ابن عباس. وأخرج ابن أبي داود في المصاحف أن ابن مسعود قرأها كذلك. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس قال: إنما سمي عرفات لأن جبريل كان يقول لإبراهيم عليه السلام حين رأى المناسك عرفت. وأخرج مثله ابن أبي حاتم عن ابن عمر. وأخرج مثله عبد الرزاق وابن جرير عن علي. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عمر أنه سئل عن المشعر الحرام. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عنه أنه قال: المشعر الحرام: المزدلفة كلها. وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في سننه عنه قال: هو الجبل وما حوله. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس مثله. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عنه قال: ما بين الجبلين الذي بجمع مشعر. وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني عن ابن الزبير في قوله: "واذكروه كما هداكم" قال: ليس هذا بعام. هذا لأهل البلد كانوا يفيضون من جمع ويفيض سائر الناس من عرفات، فأبى الله لهم ذلك، فأنزل: "ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس". وأخرج عبد بن حميد عن سفيان في قوله: "وإن كنتم من قبله" قال: من قبل القرآن. وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "وإن كنتم من قبله لمن الضالين" قال: لمن الجاهلين.

ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ

قيل: الخطاب في قوله: 199- "ثم أفيضوا" للحمس من قريش لأنهم كانوا لا يقفون مع الناس بعرفات، بل كانوا يقفون بالمزدلفة، وهي من الحرم، فأمروا بذلك- وعلى هذا تكون ثم لعطف جملة على جملة لا للترتيب- وقيل: الخطاب لجميع الأمة، والمراد بالناس إبراهيم: أي ثم أفيضوا من حيث أفاض إبراهيم، فيحتمل أن يكون أمراً لهم بالإفاضة من عرفة، ويحتمل أن يكون إفاضة أخرى وهي التي من المزدلفة، وعلى هذا تكون ثم على بابها أي للترتيب. وقد رجح هذا الاحتمال الأخير ابن جرير الطبري، وإنما أمروا بالاستغفار لأنهم في مساقط الرحمة، ومواطن القبول، ومظنات الإجابة- وقيل: إن المعنى استغفروا للذي كان مخالفاً لسنة إبراهيم، وهو وقوفكم بالمزدلفة دون عرفة.

فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ

والمراد بالمناسك أعمال الحج، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني مناسككم" أي فإذا فرغتم من أعمال الحج فاذكروا الله، وقيل: المراد بالمناسك الذبائح، وإنما قال سبحانه 200- "كذكركم آباءكم" لأن العرب كانوا إذا فرغوا من حجهم يقفون عند الجمرة فيذكرون مفاخر آبائهم ومناقب أسلافهم، فأمرهم الله بذكره مكان ذلك الذكر، ويجعلونه ذكراً مثل ذكرهم لآبائهم أو أشد من ذكرهم لآبائهم. قال الزجاج: إن قوله: "أو أشد" في موضع خفض عطفاً على ذكركم، والمعنى: أو كأشد ذكراً، ويجوز أن يكون في موضع نصب: أي اذكروه أشد ذكراً. وقال في الكشاف: إنه عطف على ما أضيف إليه الذكر في قوله: "كذكركم" كما تقول كذكر قريش آباءهم أو قوم أشد منهم ذكراً. قوله: "فمن الناس من يقول" الآية، لما أرشد سبحانه عباده إلى ذكره، وكان الدعاء نوعاً من أنواع الذكر جعل من يدعوه منقسماً إلى قسمين: أحدهما يطلب حظ الدنيا ولا يلتفت إلى حظ الآخرة، والقسم الآخر يطلب الأمرين جميعاً، ومفعول الفعل، أعني قوله: "آتنا" محذوف: أي ما نريد أو ما نطلب، والواو في قوله: "وما له" واو الحال، والجملة بعدها حالية. والخلاق: النصيب: أي وما لهذا الداعي في الآخرة من نصيب، لأن همه مقصور على الدنيا لا يريد غيرها ولا يطلب سواها. وفي هذا الخبر معنى النهي عن الاقتصار على طلب الدنيا والذم لمن جعلها غاية رغبته ومعظم مقصوده.

وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ

وقد اختلف في تفسير الحسنتين المذكورتين في الآية، فقيل: هما ما يطلبه الصالحون في الدنيا من العافية وما لا بد منه من الرزق، وما يطلبونه في الآخرة من نعيم الجنة والرضا، وقيل المراد بحسنة الدنيا: الزوجة الحسناء، وحسنة الآخرة: الحور العين، وقيل: حسنة الدنيا: العلم والعبادة، وقيل غير ذلك. قال القرطبي: والذي عليه أكثر أهل العلم أن المراد بالحسنتين نعيم الدنيا والآخرة. قال: وهذا هو الصحيح، فإن اللفظ يقتضي هذا كله، فإن حسنة نكرة في سياق الدعاء فهو محتمل لكل حسنة من الحسنات على البدل، وحسنة الآخرة: الجنة بإجماع انتهى. قوله: 201- "وقنا" أصله أوقنا حذفت الواو كما حذفت في يقي لأنها بين ياء وكسرة مثل يعد، هذا قول البصريين. وقال الكوفيون: حذفت فرقاً بين اللازم والمتعدي.

أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ

وقوله 202- "أولئك" إشارة إلى الفريق الثاني "لهم نصيب من" جنس "ما كسبوا" من الأعمال: أي من ثوابها، ومن جملة أعمالهم الدعاء، فما أعطاهم الله بسببه من الخير فهو مما كسبوا، وقيل: إن معنى قوله: "مما كسبوا" التعليل: أي من أجل ما كسبوا، وهو بعيد، وقيل: إن قوله: "أولئك" إشارة إلى الفريقين جميعاً: أي للأولين نصيب من الدنيا ولا نصيب لهم في الآخرة، وللآخرين نصيب مما كسبوا في الدنيا وفي الآخرة. وسريع من سرع يسرع كعظم يعظم سرعاً وسرعة، والحساب مصدر كالمحاسبة، وأصله العدد، يقال: حسب يحسب حساباً، وحسابة وحسباناً وحسباً. والمراد هنا المحسوب، سمي حساباً تسمية للمفعول بالمصدر، والمعنى: أن حسابه لعباده في يوم القيامة سريع مجيئه، فبادروا ذلك بأعمال الخير، أو أنه وسف نفسه بسرعة حساب الخلائق على كثرة عددهم، وأنه لا يشغله شأن عن شأن فيحاسبهم في حالة واحدة كما قال تعالى: "ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة".

وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ

قوله: 203- "في أيام معدودات" قال القرطبي: لا خلاف بين العلماء أن الأيام المعدودات في هذه الآية هي أيم منى وهي أيام التشريق، وهي أيام رمي الجمار. وقال الثعلبي: قال إبراهيم: الأيام المعدودات أيام العشر، والأيام المعلومات أيام النحر. وكذا روي عن مكي والمهدوي. قال القرطبي: ولا يصح لما ذكرناه من الإجماع على ما نقله أبو عمر بن عبد البر وغيره. وروى الطحاوي عن أبي يوسف أن الأيام المعلومات أيام النحر، قال: لقوله تعالى: " ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام " وحكى الكرخي عن محمد بن الحسن أن الأيام المعلومات أيام النحر الثلاثة: يوم الأضحى، ويومان بعده. قال الكيا الطبري: فعلى قول أبي يوسف ومحمد لا فرق بين المعلومات والمعدودات، لأن المعدودات المذكورة في القرآن أيام التشريق بلا خلاف. وروي عن مالك أن الأيام المعدودات والأيام المعلومات يجمعها أربعة أيام، يوم النحر، وثلاثة أيام بعده، فيوم النحر معلوم غير معدود، واليومان بعده معلومان معدودان، واليوم الرابع معدود لا معلوم، وهو مروي عن ابن عمر. وقال ابن زيد: الأيام المعلومات: غير ذي الحجة، وأيام التشريق. والمخاطب بهذا الخطاب المذكور في الآية، أعني قوله تعالى: "واذكروا الله في أيام معدودات" هو الحاج وغيره كما ذهب إليه الجمهور، وقيل: هو خاص بالحاج. وقد اختلف أهل العلم في وقته، فقيل: من صلاة الصبح يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق، وقيل: من غداة عرفة إلى صلاة العصر من آخر النحر، وبه قال أبو حنيفة، وقيل: من صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة الصبح من آخر أيام التشريق، وبه قال مالك والشافعي. قوله: "فمن تعجل" الآية، اليومان هما يوم ثاني النحر ويوم ثالثه. وقال ابن عباس والحسن وعكرمة ومجاهد وقتادة والنخعي: من رمى في اليوم الثاني من الأيام المعدودات فلا حرج، ومن تأخر إلى الثالث فلا حرج، فمعنى الآية كل ذلك مباح، وعبر عنه بهذا التقسيم اهتماماً وتأكيداً، لأن من العرب من كان يذم التعجل، ومنهم من كان يذم التأخر، فنزلت الآية رافعة للنجاح في كل ذلك. وقال علي وابن مسعود: معنى الآية: من تعجل فقد غفر له، ومن تأخر فقد غفر له، والآية قد دلت على أن التعجل والتأخر مباحان. وقوله: "لمن اتقى" معناه أن التخيير ورفع الإثم ثابت لمن اتقى، لأن صاحب التقوى يتحرز عن كل ما يريبه، فكان أحق بتخصيصه بهذا الحكم. قال الأخفش: التقدير ذلك لمن اتقى، وقيل: لمن اتقى بعد انصرافه من الحج عن جميع المعاصي، وقيل: لمن اتقى قتل الصيد، وقيل معناه: السلامة لمن اتقى، وقيل هو متعلق بالذكر: أي الذكر لمن اتقى. وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة قالت: "كانت قريش ومن دان بدينها يقفون بالمزدلفة وكانوا يسمون الحمس، وكان سائر العرب يقفون بعرفات، فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه أن يأتي عرفات ثم يقف بها ثم يفيض منها، فذلك قوله تعالى: "ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس"". وأخرجا أيضاً عنها موقوفاً نحوه. وقد ورد في هذا المعنى روايات عن الصحابة والتابعين. وأخرج ابن جرير عن مجاهد قال: إذا كان يوم عرفة هبط الله إلى سماء الدنيا في الملائكة، فيقول لهم: عبادي آمنوا بوعدي وصدقوا برسلي ما جزاؤهم؟ فيقال: أن تغفر لهم، فذلك قوله: "ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم". وقد وردت أحاديث كثيرة في المغفرة لأهل عرفة، ونزول الرحمة عليهم، وإجابة دعائهم. وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء في قوله تعالى: "فإذا قضيتم مناسككم" قال: حجكم . وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله : " فإذا قضيتم مناسككم " قال : إهراق الدماء "فاذكروا الله كذكركم آباءكم" قال: تفاخر العرب بينها بفعال آبائها يوم النحر حين يفرغون، فأمروا بذكر الله مكان ذلك. وأخرج البيهقي في الشعب عن ابن عباس قال: كان المشركون يجلسون في الحج فيذكرون أيام آبائهم وما يعدون من أنسابهم يومهم أجمع، فأنزل الله على رسوله: "فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكراً". وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني عن عبد الله بن الزبير نحوه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير وعكرمة نحوه أيضاً. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: "كذكركم آباءكم" يقول: كما يذكر الأبناء الآباء. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس أيضاً أنه قيل له في قوله: "كذكركم آباءكم" إن الرجل ليأتي عليه اليوم وما يذكر أباه، فقال: إنه ليس بذاك، ولكن يقول: تغضب لله إذا عصي أشد من غضبك إذا ذكر والدك بسوء. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان قوم من الأعراب يجيئون إلى المواقف فيقولون: اللهم اجعله عام غيث وعام خصب وعام ولاد حسن، لا يذكرون من أمر الآخرة شيئاً، فأنزل الله فيهم "فمن الناس من يقول: ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق" ويجيء بعدهم آخرون من المؤمنين فيقولون: "ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار" فأنزل الله فيهم "أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب". وأخرج الطبراني عن عبد الله بن الزبير قال: كان الناس في الجاهلية إذا وقفوا عند المشعر الحرام دعوا فقال أحدهم: اللهم ارزقني إبلاً، وقال الآخر: الله ارزقني غنماً، فأنزل الله الآية. وأخرج ابن جرير عن أنس أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة فيدعون: الله اسقنا المطر، وأعطنا على عدونا الظفر، وردنا صالحين إلى صالحين، فنزلت الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء في قوله: "أولئك لهم نصيب مما كسبوا" قال: مما عملوا من الخير. وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "سريع الحساب" قال: سريع الإحصاء. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي الدنيا وابن أبي حاتم عن علي قال: الأيام المعدودات ثلاثة أيام: يوم الأضحى، ويومان بعده، اذبح في أيها شئت، وأفضلها أولها. وأخرج الفريابي وابن أبي الدنيا وابن المنذر عن ابن عمر أنها أيام التشريق الثلاثة. وفي لفظ: هذه الأيام الثلاثة بعد يوم النحر. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الشعب والضياء في المختارة عن ابن عباس قال: الأيام المعلومات أيام العشر، والأيام المعدودات أيام التشريق. وأخرج الطبراني عن ابن الزبير قال في قوله: " ويذكروا اسم الله في أيام معلومات " قال: هن أيام التشريق، يذكر فيهن بتسبيح وتهليل وتكبير وتحميد. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: الأيام المعدودات أربعة أيام: يوم النحر، والثلاثة أيام بعده. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر أنه كان يكبر تلك الأيام بمنى ويقول التكبير واجب، ويتأول هذه الآية "واذكروا الله في أيام معدودات". وأخرج ابن جرير والبيهقي في سننه عن ابن عباس أنه كان يكبر يوم النحر ويتلو هذه الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله: "واذكروا الله في أيام معدودات" قال: التكبير أيام التشريق، يقول في دبر كل صلاة: الله أكبر الله أكبر الله أكبر. وأخرج ابن المنذر عن ابن عمر أنه كان يكبر ثلاثاً ثلاثاً وراء الصلوات ويقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. وأخرج مالك عن يحيى بن سعيد أنه بلغه أن عمر بن الخطاب خرج الغد من يوم النحر بمنى حين ارتفع النهار شيئاً، فكبر وكبر الناس بتكبيره- ثم خرج الثانية في يومه ذلك بعد ارتفاع النهار، فكبر وكبر الناس بتكبيره حتى بلغ تكبيرهم البيت، ثم خرج الثالثة من يومه ذلك حين زاغت الشمس، فكبر وكبر الناس بتكبيره. وقد ثبت في الصحيح من حديث ابن عمر "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرمي الجمار ويكبر مع كل حصاة". وقد روي نحو ذلك من حديث عائشة عند الحاكم وصححه. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه" قال: في تعجيله "ومن تأخر فلا إثم عليه" قال: في تأخيره. وأخرج ابن جرير عن ابن عمر قال: النفر في يومين لمن اتقى. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه قال: من غابت له الشمي في اليوم الذي قال الله فيه: "فمن تعجل في يومين" وهو بمنى فلا ينفرن حتى يرمي الجمار من الغد. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "لمن اتقى" قال: لمن اتقى الصيد وهو محرم. وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وأهل السنن والحاكم وصححه عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو واقف بعرفة، وأتاه الناس من أهل مكة فقالوا: يا رسول الله كيف الحج؟ قال: "الحج عرفات، فمن أدرك ليلة جمع قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك، أيام منى ثلاثة أيام "فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه" قال: مغفوراً له "ومن تأخر فلا إثم عليه" قال: مغفوراً له". وأخرج ابن جرير عن قتادة في قوله: "لمن اتقى" قال: لمن اتقى في حجه. قال قتادة: وذكر لنا أن ابن مسعود كان يقول: من اتقى في حجه غفر له ما تقدم من ذنبه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن أبي العالية في قوله: "فلا إثم عليه لمن اتقى" قال: ذهب إثمه كله إن اتقى فيما بقي من عمره.

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ

لما ذكر سبحانه طائفتي المسلمين بقوله: "فمن الناس من يقول" عقب ذلك بذكر طائفة المنافقين، وهم الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر. وسبب النزول الأخنس بن شريق كما يأتي بيانه. قال ابن عطية: ما ثبت قط أن الأخنس أسلم- وقيل إنها نزلت في قوم من المنافقين، وقيل: إنها نزلت في كل من أضمر كفراً أو نفاقاً أو كذباً، وأظهر بلسانه خلافه. ومعنى قوله: 204- "يعجبك" واضح. ومعنى قوله: "ويشهد الله على ما في قلبه" أنه يحلف على ذلك فيقول: يشهد الله على ما في قلبي من محبتك أو من الإسلام، أو يقول: الله يعلم أني أقول حقاً، وأني صادق في قولي لك. وقرأ ابن محيصن: "ويشهد الله" بفتح حرف المضارعة ورفع الاسم الشريف على أنه فاعل، والمعنى: ويعلم الله منه خلاف ما قال: ومثله قوله تعالى: "والله يشهد إن المنافقين لكاذبون" وقراءة الجماعة أبلغ في الذم. وقرأ ابن عباس " ويشهد الله على ما في قلبه " وقرأ أبي وابن مسعود " ويشهد الله على ما في قلبه ". وقوله: "في الحياة الدنيا" متعلق بالقول، أو بيعجبك، فعلى الأول القول صادر في الحياة، وعلى الثاني الإعجاب صادر فيها. والألد: الشديد الخصومة. يقال: رجل ألد، وامرأة لداء، ولددته ألده: إذا جادلته فغلبته، ومنه قول الشاعر: وألد ذي جنف على كأنما تغلي عداوة صدره في مرجل والخصام مصدر خاصم، قاله الخليل، وقيل: جمع خصم، قاله الزجاج: ككلب وكلاب، وصعب وصعاب وضخم وضخام. والمعنى: أنه أشد المخاصمين خصومة، لكثرة جداله وقوة مراجعته، وإضافة الألد إلى الخصام بمعنى في: أي ألد الخصام، أو جعل الخصام ألد على المبالغة.

وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ

وقوله: 205- "وإذا تولى" أي أدبر وذهب عنك يا محمد، وقيل: إنه بمعنى ضل وغضب، وقيل: إنه بمعنى الولاية: أي إذا كان والياً فعل ما يفعله ولاة السوء من الفساد في الأرض. والسعي المذكور يحتمل أن يكون المراد به العمل في الفساد، وإن لم يكن فيه سعي بالقدمين، كالتدبير على المسلمين بما يضرهم، وأعمال الحيل عليهم، وكل عمل يعمله الإنسان بجوارحه أو حواسه يقال له سعي، وهذا هو الظاهر من هذه الآية. وقوله: "ويهلك" عطف على قوله: "ليفسد" وفي قراءة أبي وليهلك. وقرأه قتادة بالرفع. وروي عن ابن كثير: "ويهلك" بفتح الياء وضم الكاف ورفع الحرث والنسل، وهي قراءة الحسن وابن محيصن. والمراد بالحرث: الزرع والنسل: الأولاد، وقيل الحرث: النساء. قال الزجاج: وذلك لأن النفاق يؤدي إلى تفريق الكلمة ووقوع، القتال، وفيه هلاك الخلق، وقيل معناه: أن الظالم يفسد في الأرض فيمسك الله المطر فيهلك الحرث والنسل. وأصل الحرث في اللغة: الشق، ومنه المحراث لما يشق به الأرض، والحرث: كسب المال وجمعه. وأصل النسل في اللغة: الخروج والسقوط ومنه نسل الشعر، ومنه أيضاً "إلى ربهم ينسلون"، "وهم من كل حدب ينسلون" ويقال لما خرج من كل أنثى لخروجه منها. وقوله: "والله لا يحب الفساد" يشمل كل نوع من أنواعه من غير فرق بين ما فيه فساد الدين، وما فيه فساد الدنيا.

وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ

والعزة: القوة والغلبة، من عزه يعزه: إذا غلبه، ومنه "وعزني في الخطاب"، وقيل العزة هنا: الحمية، ومنه قول الشاعر: أخذته عزة من جهله فتولى مغضباً فعل الضجر وقيل العزة هنا: المنعة وشدة النفس. ومعنى: 206- "أخذته العزة بالإثم" حملته العزو على الإثم، من قولك أخذته بكذا: إذا حملته عليه وألزمته إياه، وقيل: أخذته العزة بما يؤثمه: أي ارتكب الكفر للعزة، ومنه: "بل الذين كفروا في عزة وشقاق" وقيل الباء في قوله: "بالإثم" بمعنى اللام: أي أخذته العزة والحمية عن قبول الوعظ للإثم الذي في قلبه، وهو النفاق، وقيل الباء بمعنى مع: أي أخذته العزة من الإثم. وقوله: "فحسبه جهنم" أي كافيه معاقبة وجزاء، كما تقول للرجل: كفاك ما حل بك، وأنت تستعظم عليه ما حل به. والمهاد جمع المهد، وهو الموضع المهيأ للنوم، ومنه مهد الصبي، وسميت جهنم مهاداً، لأنها مستقر الكفار، وقيل المعنى: أنها بدل لهم من المهاد كقوله: "فبشرهم بعذاب أليم" وقول الشاعر: تحية بينهم ضرب وجيع

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ

207- " ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رؤوف بالعباد " ويشري بمعنى يبيع: أي يبيع نفسه في مرضاة الله كالجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومثله قوله تعالى: "وشروه بثمن بخس" وأصله الاستبدال ومنه قوله: "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة"، ومنه قول الشاعر: وشريت بردا ليتني من بعد برد كنت هامه ومنه قول الآخر: يعطي بها ثمناً فيمنعها ويقول صاحبه ألا تشرى والمرضاة: الرضا، تقول: رضي يرضى، رضا ومرضاة. ووجه ذكر الرأفة هنا أنه أوجب عليهم ما أوجبه ليجازيهم ويثيبهم عليه، فكان ذلك رأفة بهم ولطفاً لهم. وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: لما أسبت السرية التي فيها عاصم ومرثد قال رجال من المنافقين: يا ويح هؤلاء المقتولين الذي هلكوا هكذا، لا هم قعدوا في أهلهم، ولا هم أدوا رسالة صاحبهم؟ فأنزل الله: "ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا" أي ما يظهر من الإسلام بلسانه "ويشهد الله على ما في قلبه" أنه مخالف لما يقوله بلسانه: "وهو ألد الخصام" أي ذو جدال إذا كلمك وراجعك "وإذا تولى" خرج من عندك "سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد" أي لا يحب عمله ولا يرضى به "ومن الناس من يشري نفسه" الذين يشرون أنفسهم من الله بالجهاد في سبيله والقيام بحقه، حتى هلكوا على ذلك: يعني هذه السرية. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن السدي في قوله: "ومن الناس من يعجبك" الآية، قال: نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زهرة أقبل إلى النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وقال: جئت أريد الإسلام ويعلم الله أني لصادق، فأعجب النبي صلى الله عليه وسلم ذلك منه، فذلك قوله: "ويشهد الله على ما في قلبه". ثم خرج من عند النبي صلى الله عليه وسلم فمر بزرع لقوم من المسلمين وحمر، فأحرق الزرع، وعقر الحمر، فأنزل الله "وإذا تولى سعى في الأرض" الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وهو ألد الخصام" قال: هو شديد الخصومة. وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد في قوله: "وإذا تولى سعى في الأرض" قال: عمل في الأرض "ويهلك الحرث" قال: نبات الأرض "والنسل" نسل كل شيء من الحيوان الناس والدواب. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد أيضاً أنه سئل عن قوله: "وإذا تولى سعى في الأرض" قال: يلي في الأرض فيعمل فيها بالعدوان والظلم، فيحبس الله بذلك القطر من السماء، فتهلك بحبس القطر الحرث والنسل والله لا يحب الفساد. ثم قرأ مجاهد: "ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس" الآية. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه سئل عن قوله: "ويهلك الحرث والنسل" قال: الحرث الزرع، والنسل: نسل كل دابة. وأخرج ابن المنذر والطبراني والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود قال: إن من أكبر الذنوب عند الله أن يقول الرجل لأخيه: اتق الله، فيقول عليك بنفسك أنت تأمرني. وأخرج ابن المنذر والبيهقي في الشعب عن سفيان قال: قال رجل لمالك بن مغول: اتق الله، فسقط فوضع خده على الأرض تواضعاً لله. وأخرج ابن أبي حاتم وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "ولبئس المهاد" قال: بئس المنزل. وأخرجا عن مجاهد قال: بئس ما شهدوا لأنفسهم. وأخرج ابن مردويه "عن صهيب قال: لما أردت الهجرة من مكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم قالت لي قريش: يا صهيب قدمت إلينا ولا مال لك، وتخرج وأنت ومالك، والله لا يكون ذلك أبداً، فقلت لهم: أرأيتم إن دفعت إليكم مالي تخلون عني؟ قالوا: نعم، فدفعت إليهم مالي فخلوا عني، فخرجت حتى قدمت المدينة، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ربح البيع صهيب مرتين". وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية وابن عساكر عن سعيد بن المسيب نحوه. وأخرج الطبراني والحاكم والبيهقي في الدلائل عن صهيب نحوه. وأخرج ابن المنذر والحاكم وصححه عن أنس قال: نزلت في خروج صهيب إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرج ابن جرير عن قتادة قال: هم المهاجرون والأنصار.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ

لما ذكر الله سبحانه أن الناس ينقسمون إلى ثلاث طوائف: مؤمنين، وكافرين، ومنافقين، أمرهم بعد ذلك بالكون على ملة واحدة. وإنما أطلق على الثلاث الطوائف لفظ الإيمان لأن أهل الكتاب يؤمنون بنيهم وكتابهم، والمنافق مؤمن بلسانه وإن كان غير مؤمن بقلبه. والسلم بفتح السين وكسرها قال الكسائي: ومعناهما واحد، وكذا عند البصريين، وهما جميعاً يقعان للإسلام والمسالمة. وقال أبو عمرو بن العلاء: إنه بالفتح للمسألة، وبالكسر للإسلام. وأنكر المبرد هذه التفرقة. وقال الجوهري: السلم بفتح السين: الصلح، وتكسر ويذكر ويؤنث، وأصله من الاستسلام والانقياد. ورجح الطبري أنه هنا بمعنى الإسلام، ومنه قول الشاعر الكندى: دعوت عشيرتي للسلم لما رأيتهم تولوا مدبرين أي إلى الإسلام. وقرأ الأعمش السلم بفتح السين واللام. وقد حكى البصريون في سلم وسلم وسلم أنها بمعنى واحد وكافة حال من المسلم أو من ضمير المؤمنين، فمعناه على الأول: لا يخرج منكم أحد، وعلى الثاني: لا يخرج من أنواع السلم شيء بل ادخلوا فيها جميعاً: أي في خصال الإسلام، وهو مشتق من قولهم كففت: أي منعت، أي لا يمتنع منكم أحد من الدخول في الإسلام، والكف: المنع، والمراد به هنا الجميع 208- "ادخلوا في السلم كافة" أي جميعاً. وقوله: "ولا تتبعوا خطوات الشيطان" أي لا تسلكوا الطريق التي يدعوكم إليه الشيطان، وقد تقدم الكلام على خطوات.

فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ

قوله: 209- "زللتم" أي تنحيتم عن طريق الاستقامة، وأصل الزلل في القدم، ثم استعمل في الاعتقادات والآراء وغير ذلك، يقال: زل يزل وزللاً وزلولاً: أي دحضت قدمه. وقرئ: "زللتم" بكسر اللام وهما لغتان، والمعنى: فإن ضللتم وعرجتم عن الحق "من بعد ما جاءتكم البينات" أي الحجج الواضحة والبراهين الصحيحة، أن الدخول في الإسلام هو الحق "فاعلموا أن الله عزيز" غالب لا يعجزه الانتقام منكم: "حكيم" لا ينتقم إلا بحق.

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ

قوله: 210- "هل ينظرون" أي ينتظرون، يقال: نظرته وانتظرته بمعنى، والمراد هل ينتظر التاركون للدخول في السلم، والظلل جمع ظلة وهي ما يظللك، وقرأ قتادة ويزيد بن القعقاع في ظلال وقرأ يزيد أيضاً "والملائكة" بالجر عطفاً على الغمام أو على ظلل. قال الأخفش: "والملائكة" بالخفض بمعنى: وفي الملائكة قال: والرفع أجود. وقال الزجاج: التقدير في ظلل من الغمام ومن الملائكة. والمعنى: هل ينتظرون إلا أن يأتيهم الله بما وعدهم من الحساب والعذاب في ظلل من الغمام والملائكة. قال الأخفش: وقد يحتمل أن يكون معنى الإتيان راجعاً إلى الجزاء، فسمي الجزاء إتياناً كما سمي التخويف والتعذيب في قصة ثمود إتياناً، فقال: "فأتى الله بنيانهم من القواعد" وقال في قصة النضير: "فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا" وإنما احتمل الإتيان هذا، لأن أصله عند أهل اللغة القصد إلى الشيء، فمعنى الآية: هل ينظرون إلا أن يظهر الله فعلاً من الأفعال من خلق من خلقه يقصد إلى محاربتهم. وقيل إن المعنى: يأتيهم أمر الله وحكمه، وقيل إن قوله: "في ظلل" بمعنى بظلل، وقيل المعنى: يأتيهم ببأسه في ظلل. والغمام: السحاب الرقيق الأبيض، سمي بذلك لانه يغم: أي يستر. ووجه إتيان العذاب في الغمام على تقدير أن ذلك هو المراد ما في مجيء الخوف من محل الأمن من الفظاعة وعظم الموقع، لأن الغمام مظنة الرحمة لا مظنة العذاب. وقوله: "وقضي الأمر" عطف على يأتيهم داخل في حيز الانتظار، وإنما عدل إلى صيغة الماضي دلالة على تحققه فكأنه كان، أو جملة مستأنفة جيء بها للدلالة على أن مضمونها واقع لا محالة: أي وفرغ من الأمر الذي هو إهلاكهم. وقرأ معاذ بن جبل وقضاء الأمر بالمصدر عطفاً على الملائكة. وقرأ يحيى بن يعمر: وقضى الأمور بالجمع. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي "ترجع الأمور" على بناء الفعل للفاعل، وقرأ الباقون على البناء للمفعول. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة" قال: يعني مؤمني أهل الكتاب، فإنهم كانوا مع الإيمان بالله مستمسكين ببعض أمر التوراة والشرائع التي أنزلت فيهم، يقول: ادخلوا في شرائع دين محمد ولا تدعوا منها شيئاً، وحسبكم الإيمان بالتوراة وما فيها. وأخرج ابن جرير عن عكرمة: أن هذه الآية نزلت في ثعلبة وعبد الله بن سلام وابن يامين وأسد وأسيد ابني كعب وسعيد بن عمرو وقيس بن زيد كلهم من يهود قالوا: يا رسول الله يوم السبت يوم كنا نعظمه فدعنا فلنسبت فيه، وإن التوراة كتاب الله فلنقم بها الليل، فنزلت: "يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة". وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: السلم الطاعة لله، وكافة يقول: جميعاً. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه قال: السلم: الإسلام، والزلل: ترك الإسلام. وأخرج ابن جرير عن السدي قال: "فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات" قال: فإن [ضللتم] من بعد ما جاءكم محمد صلى الله عليه وسلم. وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يجمع الله الأولين والآخرين لميقات يوم معلوم قياماً شاخصة أبصارهم إلى السماء ينتظرون فصل القضاء وينزل الله في ظلل من الغمام من العرش إلى الكرسي". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عمر في هذه الآية: قال: يهبط حين يهبط وبينه وبين خلقه سبعون ألف حجاب، منها النور والظلمة والماء، فيصوت الماء في تلك الظلمة صوتاً تنخلع له القلوب. وأخرج أبو يعلى وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن عباس في هذه الآية قال: يأتي الله يوم القيامة في ظلل من السحاب قد قطعت طاقات. وأخرج ابن جرير والديلمي عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن من الغمام طاقات يأتي الله فيها محفوفات بالملائكة" وذلك قوله: "هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن عكرمة "في ظلل من الغمام" قال: طاقات والملائكة حوله. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال: يأتيهم الله في ظلل من الغمام، وتأتيهم الملائكة عند الموت. وأخرج عن عكرمة في قوله: "وقضي الأمر" يقول: قامت الساعة.

سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آَتَيْنَاهُمْ مِنْ آَيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ

المأمور بالسؤال لبني إسرائيل هو النبي صلى الله عليه وسلم، ويجوز أن يكون هو كل فرد من السائلين، وهو سؤال تقريع وتوبيخ. 211- و"كم" في محل نصب بالفعل المذكور بعدها على أنها مفعول بآتى، ويجوز أن ينتصب بفعل مقدر دل عليه المذكور: أي كم آتينا آتيناهم، وقدر متأخراً لأن لها صدر الكلام، وهي إما استفهامية للقرير أو خبرية للتكثير. "من آية" في موضع نصب على التمييز، وهي البراهين التي جاء بها أنبياؤهم في أمر محمد صلى الله عليه وسلم- وقيل: المراد بذلك الآيات التي جاء بها موسى، وهي التسع. والمراد بالنعمة هنا ما جاءهم من الآيات. وقال ابن جرير الطبري: النعمة هنا الإسلام، والظاهر دخول كل نعمة أنعم الله بها على عبد من عباده كائناً من كان، فوقع منه التبديل لها، وعدم القيام بشكرها- ولا ينافي ذلك كون السياق في بني إسرائيل، أو كونهم السبب في النزول لما تقرر من أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وفي قوله: "فإن الله شديد العقاب" من الترهيب والتخويف ما لا يقادر قدره.

زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ

قوله: 212- "زين" مبني للمجهول، والمزين: هو الشيطان أو الأنفس المجبولة على حب العاجلة. والمراد بالذين كفروا رؤساء قريش أو كل كافر. وقرأ مجاهد وحميد بن قيس زين على البناء للمعلوم. قال النحاس: وهي قراءة شاذة لأنه لم يتقدم للفاعل ذكر. وقرأ ابن أبي عبلة زينب إنما خص الذين كفروا بالذكر مع كون الدنيا مزينة للمسلم والكافر كما وصف سبحانه بأنه جعل ما على الأرض زينة لها ليبلو الخلق أيهم أحسن عملاً، لأن الكافر افتتن بهذا التزيين وأعرض عن الآخرة، والمسلم لم يفتتن به، بل أقبل على الآخرة. قوله: "ويسخرون من الذين آمنوا" هذه الجملة في محل نصب على الحال: أي والحال أن أولئك الكفار يسخرون من الذين آمنوا لكونهم فقراء لا حظ لهم من الدنيا كحظ رؤساء الكفر وأساطين الضلال، وذلك لأن عرض الدنيا عندهم هو الأمر الذي يكون من ناله سعيداً رابحاً، ومن حرمه شقياً خاسراً. وقد كان غالب المؤمنين إذ ذاك فقراء لاشتغالهم بالعبادة وأمر الآخرة، وعدم التفاتهم إلى الدنيا وزينتها. وحكى الأخفش أنه يقال: سخرت منه وسخرت به، وضحكت منه وضحكت به، وهزأت منه وهزأت به، والاسم السخرية والسخري. ولما وقع من الكفار ما وقع من السخرية بالمؤمنين رد الله عليهم بقوله: "والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة" والمراد بالفوقية هنا: العلو في الدرجة، لأنهم في الجنة والكفار في النار- ويحتمل أن يراد بالفوق المكان، لأن الجنة في السماء، والنار في أسفل سافلين، أو أن المؤمنين هم الغالبون في الدنيا كما وقع ذلك من ظهور الإسلام وسقوط الكفر وقتل أهله، وأسرهم وتشريدهم، وضرب الجزية عليهم، ولا مانع من حمل الآية على جميع ذلك لولا التقييد بكونه في يوم القيامة. قوله: "والله يرزق من يشاء بغير حساب" يحتمل أن يكون فيه إشارة إلى أن الله سبحانه سيرزق المستضعفين من المؤمنين ويوسع عليهم، ويجعل ما يعطيهم من الرزق بغير حساب: أي بغير تقدير، ويحتمل أن المعنى: أن الله يوسع على بعض عباده في الرزق كما وسع على أولئك الرؤساء من الكفار استدراجاً لهم، وليس في التوسعة دليل على أن من وسع عليه فقد رضي عنه، ويحتمل أن يراد بغير حساب من المرزوقين كما قال سبحانه: "ويرزقه من حيث لا يحتسب".

كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَت

قوله: 213- "كان الناس أمة واحدة" أي كانوا على دين واحد فاختلفوا "فبعث الله النبيين" ويدل على هذا المحذوف: أعني قوله: فاختلفوا قراءة ابن مسعود فإنه قرأ " كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين ". واختلف في الناس المذكورين في هذه الآية من هم؟ فقيل: هم بنو آدم حين أخرجهم الله نسماً من ظهر آدم، وقيل: آدم وحده، وسمي ناساً لأنه أصل النسل، وقيل: آدم وحواء، وقيل: المراد القرون الأولى التي كانت بين آدم ونوح، وقيل: المراد نوح ومن في سفينته، وقيل: معنى الآية كان الناس أمة واحدة كلهم كفار فبعث الله النبيين، وقيل: المراد الإخبار عن الناس الذين هم الجنس كله أنهم كانوا أمة واحدة في خلوهم عن الشرائع وجهلهم بالحقائق، لولا أن الله من عليهم بإرسال الرسل. والأمة مأخوذة من قولهم أممت الشيء: أي قصدته، أي مقصدهم واحد غير مختلف. قوله: "فبعث الله النبيين" قيل: جملتهم مائة ألف وأربعمة وعشرون ألفاً، والرسل منهم ثلثمائة وثلاثة عشر. وقوله: "مبشرين ومنذرين" بالنصب على الحال. وقوله: "وأنزل معهم الكتاب" أي الجنس. وقال ابن جرير الطبري: إن الألف واللام للعهد والمراد التوراة. وقوله: "ليحكم" مسند إلى الكتاب في قول الجمهور، وهو مجاز مثل قوله تعالى: "هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق" وقيل: إن المعنى ليحكم كل نبي بكتابه، وقيل: ليحكم الله، والضمير في قوله: "فيه" الأولى راجع إلى ما في قوله: "فيما اختلفوا فيه" والضمير في قوله: "وما اختلف فيه" يحتمل أن يعود إلى الكتاب، ويحتمل أن يعود إلى المنزل عليه وهو محمد صلى الله عليه وسلم، قاله الزجاج، ويحتمل أن يعود إلى الحق. وقوله: "إلا الذين أوتوه" أي أوتوا الكتاب، أو أوتوا الحق أو أوتوا النبي: أي اعطوا علمه. وقوله: "بغياً بينهم" منتصب على أنه مفعول به: أي لم يختلفوا إلا للبغي: أي الحسد والحرص على الدنيا، وفي هذا تنبيه على السفه في فعلهم، والقبيح الذي وقعوا فيه، لأنهم جعلوا نزول الكتاب سبباً في شدة الخلاف. وقوله: "فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق" أي فهدى الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى الحق، وذلك بما بينه لهم في القرآن من اختلاف من كان قبلهم وقيل: معناه فهدى الله أمة محمد للتصديق بجميع الكتب بخلاف من قبلهم، فإن بعضهم كذب كتاب بعض، وقيل: إن الله هداهم إلى الحق من القبلة، وقيل: هداهم ليوم الجمعة، وقيل: هداهم لاعتقاد الحق في عيسى بعد أن كذبته اليهود وجعلته النصارى رباً، وقيل: المراد بالحق الإسلام. وقال الفراء: إن في الآية قلباً، وتقديره: فهدى الله الذين آمنوا بالحق لما اختلفوا فيه. واختاره ابن جرير وضعفه ابن عطية. وقوله: "بإذنه". قال الزجاج: معناه بعلمه. قال النحاس: وهذا غلط، والمعنى بأمره. وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله: "سل بني إسرائيل" قال: هم اليهود "كم آتيناهم من آية بينة" ما ذكر الله في القرآن وما لم يذكر "ومن يبدل نعمة الله" قال: يكفرها. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية قال: آتاهم الله آيات بينات: عصى موسى، ويده، وأقطعهم البحر، وأغرق عدوهم وهم ينظرون، وظلل من الغمام، وأنزل عليهم المن والسلوى "ومن يبدل نعمة الله" يقول: من يكفر بنعمة الله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن جريج في قوله: "زين للذين كفروا الحياة الدنيا" قال : الكفار يبتغون الحياة الدنيا ويطلبونها " ويسخرون من الذين آمنوا " في طلبهم للآخرة . قال ابن جريج: لا أحسبه إلا عن عكرمة قال: قالوا: لو كان محمد نبياً لاتبعه ساداتنا وأشرافنا، والله اما أتبعه إلا أهل الحاجة مثل ابن مسعود وأصحابه. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "ويسخرون من الذين آمنوا" يقولون: ما هؤلاء على شيء استهزاء وسخرياً "والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة" هنا كم التفاضل. وأخرج عبد الرزاق عن قتادة قال: فوقهم في الجنة. وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء قال: سألت ابن عباس عن هذه الآية "والله يرزق من يشاء بغير حساب" قال: تفسيرها ليس على الله رقيب ولا يحاسبه. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: لا يحاسب الرب. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو يعلى والطبراني بسند صحيح عن ابن عباس قال: كان الناس أمة واحدة قال: على الإسلام كلهم. وأخرج البزار وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم عنه قال: كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق فاختلفوا، فبعث الله النبيين. قال: وكذلك في قراءة عبد الله " كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي بن كعب قال: كانوا أمة واحدة مسلمين، ثم اختلفوا من بعد آدم. وأخرج وكيع وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد كان الناس أمة واحدة قال: آدم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي أنه كان يقرأها " كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين " وإن الله إنما بعث الرسل وأنزل الكتب بعد الاختلاف وما اختلف الذين أوتوه: يعني بني إسرائيل أوتوا الكتاب والعلم بغياً بينهم، يقول: بغياً على الدنيا وطلب ملكها وزخرفها أيهم يكون له الملك والمهابة في الناس. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس "كان الناس أمة واحدة" قال: كفاراً. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي هريرة في قوله: "فهدى الله الذين آمنوا" قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "نحن الآخرون الأولون يوم القيامة، وأول الناس دخولاً يبدأ بهم، أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم، فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق، فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له، فالناس لنا فيه تبع، فغداً لليهود، وبعد غد للنصارى" وهو في الصحيح بدون ذكر الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم في قوله: "فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق" قال: اختلفوا في يوم الجمعة، فأخذ اليهود يوم السبت، والنصارى يوم الأحد، فهدى الله أمة محمد ليوم الجمعة- واختلفوا في القبلة، فاستقبلت النصارى المشرق، واليهود بيت المقدس، وهدى أمة محمد للقبلة، واختلفوا في الصلاة، فمنهم من يركع ولا يسجد، ومنهم من يسجد ولا يركع، ومنهم من يصلي وهو يتكلم، ومنهم من يصلي وهو يمشي فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك، واختلفوا في الصيام، فمنهم من يصوم النهار، ومنهم من يصوم من بعد الطعام فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك، واختلفوا في إبراهيم، فقالت اليهود: كان يهودياً، وقالت النصارى: كان نصرانياً وجعله الله حنيفاً مسلماً، فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك، واختلفوا في عيسى، فكذبت به اليهود، وقالوا لأمه بهتاناً عظيماً، وجعلته النصارى إلهاً وولداً، وجعله الله روحه وكلمته، فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك.

أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّ

214- "أم" هنا منقطعة بمعنى بل. وحكى بعض اللغويين أنها قد تجيء بمثابة همزة الاستفهام يبتدأ بها الكلام، فعلى هذا معنى الاستفهام هنا التقرير والإنكار: أي أحبستم دخولكم الجنة واقعاً، ولم تمتحنوا بمثل ما امتحن به من كان قبلكم، فتصبروا كما صبروا، ذكر الله سبحانه هذه التسلية بعد أن ذكر اختلاف الأمم على أنبيائهم، تثبيتاً للمؤمنين وتقوية لقلوبهم، ومثل هذه الآية قوله تعالى: "أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم" وقوله تعالى: " الم * أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ". وقوله: "مستهم" بيان لقوله: " مثل الذين خلوا ". و"البأساء والضراء" قد تقدم تفسيرهما، والزلزلة: شدة التحريك يكون في الأشخاص وفي الأحوال، يقال: زلزل الله الأرض زلزلة وزلزالاً بالكسر، فتزلزلت: إذا تحركت واضطربت، فمعنى زلزلوا: خوفوا وأزعجوا إزعاجاً شديداً. وقال الزجاج: أصل الزلزلة: نقل الشيء من مكانه، فإذا قلت: زلزلته فمعناه كررت زلـله من مكانه. وقوله: "حتى يقول" أي استمر ذلك إلى غاية هي قول الرسول ومن معه "متى نصر الله" والرسول هنا قيل: هو محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: هو شعياء، وقيل: هو كل رسول بعث إلى أمته. وقرأ مجاهد والأعرج ونافع وابن محيصن بالرفع في قوله: "حتى يقول" وقرأ غيرهم بالنصب بالرفع على أنه حكاية لحال ماضية، والنصب بإضمار أن على أنه غاية لما قبله. وقرأ الأعمش: " وزلزلوا حتى يقول الرسول " بالواو بدل حتى، ومعنى ذلك أن الرسول ومن معه بلغ بهم الضجر إلى أن قالوا هذه المقالة المقتضية لطلب النصر واستبطاء حصوله واستطالة تأخره، فبشرهم الله سبحانه بقوله: "ألا إن نصر الله قريب". وقالت طائفة في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: حتى يقول الذين آمنوا متى نصر الله، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم ألا إن نصر الله قريب، ولا ملجئ لهذا التكلف، لأن قول الرسول ومن معه: "متى نصر الله" ليس فيه إلا استجال النصر من الله سبحانه، وليس فيه ما زعموه من الشك والارتياب حتى يحتاج إلى ذلك التأويل المتعسف. وقد أخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر عن قتادة أن هذه الآية نزلت في يوم الأحزاب، أصاب النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ وأصحابه بلاء وحصر. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: أخبر الله المؤمنين أن الدنيا دار بلاء وأنه مبتليهم فيها، وأخبرهم أنه هكذا فعل بأنبيائه وصفوته لتطيب أنفسهم فقال: "مستهم البأساء والضراء" فالبأساء: الفتن، والضراء: السقم، وزلزلوا بالفتن وأذى الناس إياهم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي في قوله: " ولما يأتكم مثل الذين خلوا " قال: أصابهم هذا يوم الأحزاب حتى قال قائلهم: "ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً" ولعله يعني بقوله حتى قال قائلهم: يعني قائل المنافقين كما يفيد ذلك قوله تعالى: " إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا * هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا * وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا ".

يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ

السائلون هنا: هم المؤمنون سألوا عن الشيء الذي ينفقونه ما هو؟ فأجيبوا ببيان المصرف الذي يصرفون فيه تنبيهاً على أنه الأولى بالقصد، لأن الشيء لا يعتد به إلا إذا وضع في موضعه وصادف مصرفه، وقيل: إنه قد تضمن قوله: 215- "ما أنفقتم من خير" بيان ما ينفقونه وهو كل خير، وقيل: إنهم إنما سألوا عن وجوه البر التي ينفقون فيها، وهو خلاف الظاهر. وقد تقدم الكلام في الأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل.

كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ

وقوله: 216- "كتب" أي فرض، وقد تقدم بيان معناه. بين سبحانه أن هذا: أي فرض القتال عليهم من جملة ما امتحنوا به. والمراد بالقتال قتال الكفار. والكره بالضم: المشقة، وبالفتح: ما أكرهت عليه، ويجوز الضم في معنى الفتح فيكونان لغتين، يقال: كرهت الشيء كرهاً وكرهاً وكراهة وكراهية وأكرهته عليه إكراهاً، وإنما كان الجهاد كرهاً لأن فيه إخراج المال، ومفارقة الأهل والوطن، والتعرض لذهاب النفس، وفي التعبير بالمصدر وهو قوله: "كره" مبالغة، ويحتمل أن يكون بمعنى المكروه كما في قولهم: الدرهم ضرب الأمير. وقوله: "وعسى أن تكرهوا شيئاً" قيل: عسى هنا بمعنى قد، وروي ذلك عن الأصم. وقال أبو عبيدة: عسى من الله إيجاب، والمعنى: عسى أن تكرهوا الجهاد لما فيه من المشقة وهو خير لكم، فربما بغلبون وتظفرون وتغنمون وتؤجرون، ومن مات مات شهيداً، وعسى أن تحبوا الدعة وترك القتال وهو شر لكم، فربما يتقوى عليكم العدو فيغلبكم، ويقصدكم إلى عقر دياركم فيحل بكم أشد مما تخافونه من الجهاد الذي كرهتم مع ما يفوتكم في ذلك من الفوائد العاجلة والآجلة: "والله يعلم" ما فيه صلاحكم وفلاحكم: "وأنتم لا تعلمون". وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي في قوله: "يسألونك ماذا ينفقون" قال: يوم نزلت هذه الآية لم تكن زكاة، وهي النفقة ينفقها الرجل على أهله، والصدقة يتصدق بها فنسختها الزكاة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريج قال: سأل المؤمنون رسول الله صلى الله عليه وسلم أين يضعون أموالهم؟ فنزلت "يسألونك ماذا ينفقون" الآية، فذلك النفقة في التطوع والزكاة سواء ذلك كله. وأخرج ابن المنذر أن عمرو بن الجموح سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ماذا تنفق من أموالنا وأين نضعها؟ فنزلت. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: "كتب عليكم القتال" قال: إن الله أمر النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بمكة بالتوحيد وإقام الصلاة وإيتاء الزكة وأن يكفوا أيديهم عن القتال، فلما هاجر إلى المدينة نزلت سائر الفرائض وأذن لهم في القتال، فنزلت: "كتب عليكم القتال" قال: إن الله أمر النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بمكة بالتوحيد وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وأن يكفوا أيديهم عن القتال، فلما هاجر إلى المدينة نزلت سائر الفرائض وأذن لهم في القتال، فنزلت: "كتب عليكم القتال" يعني فرض عليكم وأذن لهم بعد ما نهاهم عنه "وهو كره لكم" يعني القتال وهو مشقة عليكم "وعسى أن تكرهوا شيئاً" يعني الجهاد قتال المشركين "وهو خير لكم"، ويجعل الله عاقبته فتحاً وغنيمة وشهادة "وعسى أن تحبوا شيئاً" يعني القعود عن الجهاد "وهو شر لكم" فيجعل الله عاقبته شراً، فلا تصيبوا ظفراً ولا غنيمة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن جريج قال: قلت لعطاء ما يقول في قوله: "كتب عليكم القتال" أوجب الغزو على الناس من أجلها؟ قال: لا، كتب على أولئك حينئذ. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن شهاب في الآية قال: الجهاد مكتوب على كل أحد غزا أو قعد، فالقاعد إن استعين به أعان، وإن استغيث به أغاث، وإن استنفر نفر، وإن استغني عنه قعد، وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله: "وهو كره لكم" قال: نسختها هذه الآية: "وقالوا: سمعنا وأطعنا". وأخرجه ابن جرير موصولاً عن عكرمة عن ابن عباس. وأخرج ابن المنذر والبيهقي في سننه من طريق علي قال: عسى من الله واجب. وأخرج ابن المنذر عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي نحوه أيضاً. وقد ورد في فضل الجهاد ووجوبه أحاديث كثيرة لا يتسع المقام لبسطها.

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ

قوله: 217- "قتال فيه" هو بدل اشتمال، قاله سيبويه. ووجهه أن السؤال عن الشهر لم يكن إلا باعتبار ما وقع فيه من القتال. قال الزجاج: المعنى يسألونك عن القتال في الشهر الحرام، وأنشد سيبويه قول الشاعر: فما كان قيس هلكه هلك واحد ولكنه بنيان قوم تهدما فقوله هلكه اشتمال من قيس، وقال الفراء: هو مخفوض يعني قوله: "قتال فيه" على نية عن وقال أبو عبيدة: هو مخفوض على الجوار. قال النحاس: لا يجوز أن يعرب الشيء على الجوار في كتاب الله ولا في شيء من الكلام، وإنما وقع في شيء شاذ، وهو قولهم: هذا جحر ضب خرب. وتابع النحاس ابن عطية في تخطئة أبي عبيدة. قال النحاس: ولا يجوز إضمار عن، والقول فيه أند بدل. وقرأ ابن مسعود وعكرمة: " يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه ". وقرأ الأعرج قتال فيه بالرفع. قال النحاس وهو غامض في العربية، والمعنى: يسألونك عن الشهر الحرام جاشز قتال فيه. وقوله: "قل قتال فيه كبير" مبتدأ وخبر: أي القتال فيه أمر كبير مستنكر، والشهر الحرام: المراد به الجنس. وقد كانت العرب لا تسفك دماً ولا تغير على عدو، والأشهر الحرم هي: ذو القعدة، وذو الحجة ومحرم، ورجب، ثلاثة سرد وواحد فرد. وقوله: "وصد عن سبيل الله" مبتدأ. وقوله: "وكفر به" معطوف على صد. وقوله: "والمسجد الحرام" عطف على سبيل الله. وقوله: "وإخراج أهله منه" معطوف أيضاً على صد.. وقوله: "أكبر عند الله" خبر صد وما عطف عليه: أي الصد عن سبيل الله، والكفر به والصد عن المسجد الحرام، وإخراج أهل الحرم منه "أكبر عند الله" أي أعظم إثماً وأشد ذنباً من القتال في الشهر الحرام كذا قال المبرد وغيره، والضمير في قوله: "وكفر به" يعود إلى الله- وقيل: يعود إلى الحج. وقال الفراء: إن قوله: "وصد" عطف على كبير، والمسجد عطف على الضمير في قوله: "وكفر به" فيكون الكلام منتسقاً متصلاً غير منفصل. قال ابن عطية: وذلك خطأ لأن المعنى يسوق إلى أن قوله: "وكفر به" أي بالله عطف أيضاً على كبير، ويجيء من ذلك أن إخراج أهل المسجد منه أكبر من الكفر بالله، وهذا بين فساده. ومعنى الآية على القول الأول الذي ذهب إليه الجمهور: أنكم يا كفار قريش تستعظمون علينا القتال في الشهر الحرام، وما تفعلون أنتم من الصد عن سبيل الله لمن أراد الإسلام ومن الكفر بالله، ومن الصد عن المسجد الحرام، ومن إخراج أهل الحرم منه أكبر جرماً عند الله. والسبب يشهد لهذا المعنى، ويفيد أنه المراد كما سيأتي بيانه، فإن السؤال منهم المذكور في هذه الآية هو سؤال إنكار لما وقع من السرية التي بعثها النبي صلى الله عليه وسلم. والمراد بالفتنة هنا الكفر: أي كفركم أكبر من القتل الواقع من السرية التي بعثها النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: المراد بالفتنة: الإخراج لأهل الحرم منه، وقيل: المراد بالفتنة التي الكفار عليها. وهذا أرجح من الوجهين الأولين، لأن الكفر والإخراج قد سبق ذكرهما وأنهما مع الصد أكبر عند الله من القتال في الشهر الحرام. وقوله: "ولا يزالون" ابتداء كلام يتضمن الإخبار من الله عز وجل للمؤمنين بأن هؤلاء الكفار لا يزالون مستمرين على قتالكم وعداوتكم حتى يردوكم عن الإسلام إلى الكفر إن استطاعوا ذلك وتهيأ لهم منكم، والتقيد بهذا الشرط مشعر باستبعاد تمكنهم من ذلك وقدرتهم عليه، ثم حذر الله سبحانه المؤمنين من الاغترار بالكفار والدخول فيما يريدونه من ردهم عن دينهم الذي هو الغاية لما يريدونه من المقاتلة للمؤمنين فقال: " ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم " إلى آخر الآية والردة: الرجوع عن الإسلام إلى الكفر، والتقييد بقوله: "فيمت وهو كافر" يفيد أن عمل من ارتد إنما يبطل إذا مات على الكفر. وحبط: معناه بطل وفسد، ومنه الحبط وهو فساد يلحق المواشي في بطونها من كثرة أكلها للكلأ فتنتفخ أجوافها، وربما تموت من ذلك، وفي هذه الآية تهديد للمسلمين ليثبتوا على دين الإسلام. ومعنى قوله: "في الدنيا والآخرة" أنه لا يبقى له حكم المسلمين في الدنيا، فلا يأخذ شيئاً مما سيتحقه المسلمون، ولا يظفر بحظ من حظوظ الإسلام، ولا ينال شيئاً من ثواب الآخرة الذي يوجبه الإسلام ويستحقه أهله. وقد اختلف أهل العلم في الردة هل تحبط العمل بمجردها أم لا تحبط إلا بالموت على الكفر، والواجب حمل ما أطلقته الآيات في غير هذا الموضع على ما في هذه الآية من التقييد. وقد تقدم الكلام في معنى الخلود.

إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ

قوله: 218- "وهاجروا" الهجرة معناها الانتقال من موضع إلى موضع، وترك الأول لإيثار الثاني، والهجر ضد الوصل، والتهاجر: التقاطع والمراد بها هنا الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام. والمجاهدة: إستخراج الجهد، جهد مجاهدة وجهاداً، والجهاد والتجاهد: بذل الوسع. وقوله: "يرجون" معناه يطمعون، وإنما قال: يرجون بعد تلك الأوصاف المادحة التي وصفهم بها، لأنه لا يعلم أحد في هذه الدنيا أنه صائر إلى الجنة، ولو بلغ في طاعة الله كل مبلغ. والرجاء الأمل، يقال: رجوت فلاناً أرجوه رجاءً ورجاوة. وقد يكون الرجاء بمعنى الخوف كما في قوله تعالى: "ما لكم لا ترجون لله وقاراً" أي لا تخافون عظمة الله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والبيهقي في سننه بسند صحيح عن جندب بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه بعث رهطاً وبعث عليهم أبا عبيدة بن الجراح أو عبيدة بن الحارث، فلما ذهب لينطلق بكى شوقاً وصبابةً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فجلس فبعث مكانه عبد الله بن جحش وكتب له كتاباً وأمره أن لا يقرأ الكتاب حتى يبلغ مكان كذا وكذا وقال: لا تكرهن أحداً من أصحابك على المسير معك، فلما قرأ الكتاب استرجع وقال: سمعاً وطاعةً لله ولرسوله، فخبرهم الخبر، وقرأ عليهم الكتاب فرجع رجلان ومضى بقيتهم فلقوا ابن الحضرمي فقتلوه، ولم يدروا أن ذلك اليوم من رجب أو جمادى، فقال: المشركون للمسلمين: قتلتم في الشهر الحرام، فأنزل الله: "يسألونك عن الشهر الحرام" الآية، فقال بعضهم: إن لم يكونوا أصابوا وزراً فليس لهم أجر، فأنزل الله "إن الذين آمنوا والذين هاجروا" إلى آخر الآية". وأخرج البزار عن ابن عباس أن سبب نزول الآية هو ذلك. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه قال: إن المشركين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وردوه عن المسجد الحرام في شهر حرام، ففتح الله على نبيه في شهر حرام من العام المقبل، فعاب المشركون على رسول الله صلى الله عليه وسلم القتال في شهر حرام. فقال الله: "قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله" من القتال فيه، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم بعث سرية، فلقوا عمرو بن الحضرمي وهو مقبل من الطائف في آخر ليلة من جمادى وأول ليلة من رجب، وإن أصحاب محمد كانوا يظنون أن تلك الليلة من جمادى، وكانت أول رجب ولم يشعروا فقتله رجل منهم وأخذوا ما كان معه، وأن المشركين أرسلوا يعيرونه بذلك، فنزلت الآية. وأخرج ابن إسحاق عنه: أن سبب نزول الآية مصاب عمرو بن الحضرمي. وقد ورد من طرق كثيرة في تعيين السبب مثل ما تقدم وأخرج ابن أبي داود عن عطاء بن ميسرة قال: أحل القتال في الشهر الحرام في براءة في قوله: "فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا المشركين كافة". وأخرج ابن أبي حاتم عن سفيان الثوري أنه سئل عن هذه الآية فقال: هذا شيء منسوخ، ولا بأس بالقتال في الشهر الحرام. وأخرج النحاس في ناسخه عن ابن عباس أن هذه الآية منسوخة بآية السيف في براءة "فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم". وأخرج ابن المنذر عن ابن عمر "والفتنة أكبر من القتل" قال: الشرك. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد " ولا يزالون يقاتلونكم " قال: كفار قريش. وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس في قوله: "أولئك يرجون رحمة الله" قال: هؤلاء خيار هذه الأمة جعلهم الله أهل رجاء، إنه من رجا طلب، ومن خاف هرب. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة نحوه.

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ

السائلون في قوله: 219- "يسألونك عن الخمر" هم المؤمنون كما سيأتي بيانه عند ذكر سبب نزول الآية، والخمر مأخوذة من خمر إذا ستر، ومنه خمار المرأة، وكل شيء غطى شيئاً فقد خمرة، ومنه خمروا آنيتكم وسمي خمراً لأنه يخمر العقل: أي يغطيه ويستره، ومن ذلك الشجر الملتف يقال له: الخمر بفتح الميم، لأنه يغطي ما تحته ويستره، يقال منه أخمرت الأرض: كثر خمرها. قال الشاعر: ألا يا زيد والضحاك سيرا فقد جاوزتما خمر الطريق أي جاوزتما الوهد، وقيل: إنما سميت الخمر خمراً لأنها تركت حتى أدركت، كما يقال قد اختمر العجين: أي بلغ إدراكه، وخمر الرأي: أي ترك حتى تبين فيه الوجه، وقيل: إنما سميت الخمر خمراً لأنها تخالط العقل من المخامرة وهي المخالطة. وهذه المعاني الثلاثة متقاربة موجودة في الخمر لأنها تركت حتى أدركت ثم خالطت العقل فخمرته: أي سترته، والخمر: ماء العنب الذي غلا واشتد وقذف بالزبد، وما خامر العقل من غيره فهو في حكمه كما ذهب إليه الجمهور. وقال أبو حنيفة والثوري وابن أبي ليلى وابن عكرمة وجماعة من فقهاء الكوفة: ما أسكر كثيره من غير خمر العنب فهو حلال: أي ما دون المسكر فيه. وذهب أبو حنيفة إلى حل ما ذهب ثلثاه بالطبخ، والخلاف في ذلك مشهور. وقد أطلت الكلام على الخمر في شرحي للمنتقى فليرجع إليه. والميسر مأخوذ من اليسر، وهو وجوب الشيء لصاحبه، يقال يسر لي كذا: إذا وجب فهو ييسر يسراً وميسراً، والياسر اللاعب بالقداح. وقد يسر ييسر. قال الشاعر: فأعنهم وأيسر كما يسروا به وإذا هم نزلوا بضنك فانزل وقال الأزهري: الميسر: الجزور التي كانوا يتقامرون عليه، سمي ميسراً، لأنه يجزأ أجزاء، فكأنه موضع التجزئة، وكل شيء جزأته فقد يسرته، والياسر: الجازر. قال: وهذا الأصل في الياسر، ثم يقال للضاربين بالقداح والمتقامرين على الجزور: ياسرون، لأنهم جازرون، إذ كانوا سبباً لذلك. وقال في الصحاح: ويسر القوم الجزور: إذا اجتزروها واقتسموا أعضاءها، ثم قال: ويقال يسر القوم: إذا قامروا، ورجل ميسر وياسر بمعنى، والجمع أيسار. قال النابغة: إني أتمم أيساري وأمنحهم مشي الأيادي وأكسوا الحفنة الأدما والمراد بالميسر في الآية قمار العرب بالأزلام. قال جماعة من السلف من الصحابة والتابعين ومن بعضهم كل شيء فيه قمار من نرد أو شطرنج أو غيرهما فهو الميسر، حتى لعب الصبيان بالجوز والكعاب إلا ما أبيح من الرهان في الخيل والقرعة في إفراز الحقوق. وقال مالك: الميسر ميسران: ميسر اللهو، وميسر القمار، فمن ميسر اللهو: النرد والشطرنج والملاهي كلها، وميسر القمار: ما يتخاطر الناس عليه، وكل ما قومر به فهو ميسر، وسيأتي البحث مطولاً في هذا في سورة المائدة عند قوله: "إنما الخمر والميسر". قوله: "قل فيهما إثم كبير" يعني الخمر والميسر، فإثم الخمر: أي إثم تعاطيها، ينشأ من فساد عقل مستعملها فيصدر عنه ما يصدر عن فاسد العقل من المخاصمة والمشاتمة، وقول الفحش والزور، وتعطيل الصلوات، وسائر ما يجب عليه. وأما إثم الميسر: أي إثم تعاطيه، فما ينشأ عن ذلك من فقر وذهاب المال في غير طائل، والعداوة وإيجاش الصدور. وأما منافع الخمر فربح التجارة فيها، وقيل: ما يصدر عنها من الطرب والنشاط وقوة القلب وثبات الجنان وإصلاح المعدة وقوة الباءة وقد أشار شعراء العرب إلى شيء من ذلك قال: وإذا شــربت فإنني رب الخورنق والسدير وإذا صحوت فإنني رب الشـويهـة والبعير وقال آخر: ونشربها فتتركنا ملوكاً وأسداً ما ينهنهنا اللقاء وقال من أشار إلى ما فيها من المفاسد والمصالح: رأيت الخمر صالحة وفيها خصال تفسد الرجل الحليما فلا والله أشربها صحيحاً ولا أشـفي بهـا أبداً ســقيما ولا أعطي بها ثمناً حيـاتي ولا أدعــو لهـا أبــداً نــديمـا ومنافع الميسر: مصير الشيء إلى الإنسان بغير تعب ولا كد، وما يحصل من السرور والأربحية عند أن يصير له منها سهم صالح. وسهام الميسر أحد عشر، منها سبعة لها فروض على عدد ما فيها من الحظوظ. الأول الفذ بفتح الفاء بعدها معجمة، وفيه علامة واحدة وله نصيب وعليه نصيب. الثاني التوأم بفتح المثناة الفوقية وسكون الواو وفتح الهمزة، وفيه علامتان، وله وعليه نصيبان. الثالث الرقيب، وفيه ثلاث علامات، وله وعليه ثلاثة أنصباء. الرابع الحلس بمهملتين، الأولى مكسورة واللام ساكنة، وفيه أربع علامات، وله وعليه أربعة أنصباء. الخامس النافر بالنون والفاء والمهملة، ويقال: النافس بالسين المهملة مكان الراء، وفيه خمس علامات، وله وعليه خمسة أنصباء. السادس المسبل بضم الميم وسكون المهملة وفتح الباء الموحدة وفيه ست علامات، وله وعليه ستة أنصباء. السابع المعلى بضم الميم وفتح المهملة وتشديد اللام المفتوحة وفيه سبع علامات، وله وعليه سبعة أنصباء وهو أكثر السهام حظاً، وأعلاها قدراً، فجملة ذلك ثمانية وعشرون فرداً. والجزور تجعل ثمانية وعشرين جزءاً، هكذا قال الأصمعي، وبقي من السهام أربعة أغفالاً لا فروض لها، وهي: المنيح بفتح الميم وكسر النون وسكون الياء التحتية وبعدها مهملة، والسفيح بفتح المهملة وكسر الفاء وسكون الياء التحتية بعدها مهملة، والوفد بفتح الواو وسكون المعجمة بعدها مهملة والضعف بالمعجمة بعدها مهملة ثم فاء، وإنما أدخلوا هذه الأربعة التي لا فروض لها بين ذوات الفروض لتكثر السهام على الذي يجيلها ويضرب بها فلا يجد إلى الميل مع أحد سبيلاً. وقد كان المجيل للسهام يلتحف بثوب ويحثو على ركبتيه ويخرج رأسه من الثوب، ثم يدخل يده في الربابة بكسر المهملة وبعدها باء موحدة وبعد الألف باء موحدة أيضاً، وهي الخريطة التي يجعل فيها السهام، فيخرج منها باسم كل رجل سهماً، فمن خرج له سهم له فرض أخذ فرضه، ومن خرج له سهم لا فرض له لم يأخذ شيئاً وغرم قيمة الجزور، وكانوا يدفعون تلك الأنصباء إلى الفقراء. وقد قال ابن عطية: إن الأصمعي أخطأ في قوله: إن الجزور تقسم على ثمانية وعشرين جزءاً، وقال: إنما تقسم على عشرة أجزاء. قوله تعالى: "وإثمهما أكبر من نفعهما" أخبر سبحانه بأن الخمر والميسر وإن كان فيهما نفع فالإثم الذي يلحق متعاطيهما أكثر من هذا النفع، لأنه لا خير يساوي فساد العقل الحاصل بالخمر، فإنه ينشأ عنه من الشرور ما لا يأتي عليه الحصر، وكذلك لا خير في الميسر يساوي ما فيها من المخاطرة بالمال والتعرض للفقر، واستجلاب العداوات المفضية إلى سفك الدماء وهتك الحرم. وقرأ حمزة والكسائي كثير بالمثلثة. وقرأ الباقون بالباء الموحدة. وقرأ أبي: وإثمهما أقرب من نفعهما. قوله: "قل العفو" قرأه الجمهور بالنصب. وقرأ أبو عمرو وحده بالرفع. واختلف فيه عن ابن كثير، وبالرفع قرأه الحسن وقتادة. قال النحاس: إن جعلت ذا بمعنى الذي كان الاختيار الرفع على معنى الذي ينفقون هو العفو، وإن جعلت ما وذا شيئاً واحداً كان الاختيار النصب على معنى: قل ينفقون العفو، والعفو: ما سهل وتيسر ولم يشق على القلب، والمعنى: أنفقوا ما فضل عن حوائجكم ولم تجهدوا أنفسكم، وقيل: هو ما فضل عن نفقة العيال. وقال جمهور العلماء: هو نفقات التطوع، وقيل: إن هذه الآية منسوخة بآية الزكاة المفروضة، وقيل: هي محكمة، وفي المال حق سوى الزكاة. قوله: "كذلك يبين الله لكم الآيات" أي في أمر النفقة.

فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ

قوله: 220- "في الدنيا والآخرة" متعلق بقوله: "تتفكرون" أي تتفكرون في أمرهما، فتحبسون من أموالكم ما تصلحون به معايش دنياكم، وتنفقون الباقي في الوجوه المقربة إلى الآخرة، وقيل في الكلام تقديم وتأخير: أي كذلك يبين الله لكم الآيات في الدنيا والآخرة لعلكم تتفكرون في الدنيا وزوالها وفي الآخرة وبقائها، فترغبون عن العاجلة إلى الآجلة، وقيل: يجوز أن يكون إشارة إلى قوله: "وإثمهما أكبر من نفعهما" أي لتتفكروا في أمر الدنيا والآخرة، وليس هذا بجيد. قوله: "ويسألونك عن اليتامى" هذه الآية نزلت بعد نزول قوله تعالى: "ولا تقربوا مال اليتيم" وقوله: "إن الذين يأكلون أموال اليتامى" وقد كان ضاق على الأولياء الأمر كما سيأتي بيانه إن شاء الله، فنزلت هذه الآية. والمراد بالإصلاح هنا مخالطتهم على وجه الإصلاح لأموالهم، فإن ذلك أصلح من مجانبتهم. وفي ذلك دليل على جواز التصرف في أموال الأيتام من الأولياء والأوصياء بالبيع والمضاربة والإجارة ونحو ذلك. قوله: "وإن تخالطوهم فإخوانكم" اختلف في تفسير المخالطة لهم، فقال أبو عبيدة، مخالطة اليتامى أن يكون لأحدهم المال ويشق على كافله أن يفرد طعامه عنه ولا يجد بداً من خلطه بعياله، فيأخذ من مال اليتيم ما يرى أنه كافيه بالتحري فيجعله مع نفقة أهله، وهذا قد تقع فيه الزيادة والنقصان، فدلت هذه الآية على الرخصة، وهي ناسخة لما قبلها، وقيل المراد بالمخالطة: المعاشرة للأيتام، وقيل المراد بها: المصاهرة لهم. والأولى عدم قصر المخالطة على نوع خاص بل تشمل كل مخالطة كما يستفاد من الجملة الشرطية. وقوله: "فإخوانكم" خبر لمبتدأ محذوف: أي فهم إخوانكم في الدين. وفي قوله: "والله يعلم المفسد من المصلح" تحذير للأولياء: أي لا يخفى على الله من ذلك شيء فهو يجازء كل أحد بعمله من أصلح فلنفسه، ومن أفسد فعلى نفسه، وقوله: "لأعنتكم" أي ولو شاء لجعل ذلك شاقاً عليكم ومتعباً لكم وأوقعكم فيما فيه الحرج والمشقة، وقيل النعت هنا: معناه الهلاك. قاله أبو عبيدة، وأصل العنت المشقة. وقال ابن الأنباري: أصل العنت التشديد ثم نقل إلى معنى الهلاك. وقوله: "عزيز" أي لا يمتنع عليه شيء، لأنه غالب لا يغالب "حكيم" يتصرف في ملكه بما تقتضيه مشيئته وحكمته، وليس لكم أن تختاروا لأنفسكم. وقد أخرج أحمد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد والترمذي وصححه والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والضياء في المختارة عن عمر أنه قال: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً فإنها تذهب المال والعقل، فنزلت "يسألونك عن الخمر والميسر" يعني هذه الآية، فدعي عمر فقرئت عليه، فقال: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزلت في سورة النساء "يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى" فكان ينادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة أن لا يقربن الصلاة سكران، فدعي عمر فقرئت عليه فقال: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزلت الآية التي في المائدة، فدعي عمر فقرئت عليه، فلما بلغ "فهل أنتم منتهون" قال عمر: انتهينا انتهينا. وأخرج ابن أبي حاتم عن أنس قال: كنا نشرب الخمر فأنزلت "يسألونك عن الخمر والميسر" الآية، فقلنا نشرب منها ما ينفعنا، فنزلت في المائدة "إنما الخمر والميسر" الآية فقالوا: اللهم انتهينا. وأخرج أبو عبيد والبخاري في الأدب المفرد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عمر قال: الميسر القمار. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد مثله. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر عن ابن عباس مثله قال: كان الرجل في الجاهلية يخاطر عن أهله وماله، فأيهما قمر صاحبه ذهب بأهله وماله. وقوله: "قل فيهما إثم كبير" يعني: ما ينقص من الدين عند شربها "ومنافع للناس" يقول: فيما يصيبون من لذتها وفرحها إذا شربوا "وإثمهما أكبر من نفعهما" يقول: ما يذهب من الدين فالإثم فيه أكبر مما يصيبون من لذتها وفرحها إذا شربوها، فأنزل الله بعد ذلك "لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى" الآية، فكانوا لا يشربونها عند الصلاة، فإذا صلوا العشاء شربوها، ثم إن ناساً من المسلمين شربوها فقاتل بعضهم بعضاً، وتكلموا بما لم يرض الله من القول فأنزل الله "إنما الخمر والميسر والأنصاب" الآية فحرم الخمر ونهى عنها. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه قال: منافعهما قبل التحريم، وإثمهما بعد ما حرمهما. وأخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم عنه أن نفراً من الصحابة حين أمروا بالنفقة في سبيل الله أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنا لا ندري ما هذه النفقة التي أمرنا بها في أموالنا، فما ننفق منها؟ فأنزل الله: "ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو" وكان قبل ذلك ينفق ماله حتى ما يجد ما يتصدق به، ولا ما يأكل حتى يتصدق عليه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال: العفو هو ما لا يتبين في أموالكم، وكان هذا قبل أن تفرض الصدقة. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والبيهقي في الشعب عنه في الآية قال: "العفو" ما يفضل عن أهلك وفي لفظ قال: الفضل عن العيال. وأخرج ابن جرير عنه في قوله: "قل العفو" قال: لم تفرض فيه فريضة معلومة ثم قال: "خذ العفو وأمر بالعرف" ثم نزلت في الفرائض بعد ذلك مسماة. وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، وابدأ بمن تعول". وثبت نحوه في الصحيح مرفوعاً من حديث حكيم بن حزام. وفي الباب أحاديث كثيرة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: " لعلكم تتفكرون * في الدنيا والآخرة " قال: يعني في زوال الدنيا وفنائها وإقبال الآخرة وبقائها. وأخرج أبو داود والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عنه قال: لما أنزل الله "ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن" " إن الذين يأكلون أموال اليتامى " الآية، انطلق من كان عنده يتيم يعزل طعامه عن طعامه، وشرابه عن شرابه، فجعل يفصل له الشيء من طعامه فيحبس له حتى يأكله أو يفسد فيرمي به فاشتد ذلك عليهم، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله: "ويسألونك عن اليتامى" الآية. فخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم. وقد روي نحو ذلك عن جماعة من التابعين. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وإن تخالطوهم" قال: المخالطة أن يشرب من لبنك وتشرب من لبنه، ويأكل من قصعتك وتأكل من قصعته، ويأكل من ثمرتك وتأكل من ثمرته "والله يعلم المفسد من المصلح" قال: يعلم من يتعمد أكل مال اليتيم، ومن يتحرج منه ولا يألو عن إصلاحه "ولو شاء الله لأعنتكم" يقول: لو شاء ما أحل لكم ما أعنتكم مما لا تتعمدون. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله: "لأعنتكم" يقول: لأحرجكم وضيق عليكم، ولكنه وسع ويسر. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله: " ولو شاء الله لأعنتكم " قال: ولو شاء لجعل ما أصبتم من أموال اليتامى موبقاً.

وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى ال

قوله: 221- "ولا تنكحوا" قرأه الجمهور بفتح التاء، وقرئ في الشواذ بضمها، قيل: والمعنى: كان المتزوج لها أنكحها من نفسها. وفي هذه الآية النهي عن نكاح المشركات، فقيل: المراد بالمشركات الوثنيات، وقيل: إنها تعم الكتابيات لأن أهل الكتاب مشركون "وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله" وقد اختلف أهل العلم في هذه الآية، فقالت طائفة: إن الله حرم نكاح المشركات فيها والكتابيات من الجملة، ثم جاءت آية المائدة فخصصت الكتابيات من هذا العموم. وهذا محكي عن ابن عباس ومالك وسفيان بن سعيد وعبد الرحمن بن عمر والأوزاعي. وذهبت طائفة إلى أن هذه الآية ناسخة لآية المائدة، وأنه يحرم نكاح الكتابيات والمشركات، وهذا أحد قولي الشافعي، وبه قال جماعة من أهل العلم. ويجاب عن قولهم أن هذه الآية ناسخة لآية المائدة بأن سورة البقرة من أول ما نزل وسورة المائدة من آخر ما نزل. والقول الأول هو الراجح. وقد قال به مع من تقدم عثمان بن عفان وطلحة وجابر وحذيفة وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والحسن وطاوس وعكرمة والشعبي والضحاك كما حكاه النحاس والقرطبي. وقد حكاه ابن المنذر عن المذكورين، وزاد عمر بن الخطاب وقال: لا يصح عن أحد من الأوائل أنه حرم ذلك. وقال بعض أهل العلم: إن لفظ المشرك لا يتناول أهل الكتاب لقوله تعالى: " ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم ". وقال: "لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين" وعلى فرض أن لفظ المشركين يعم، فهذا العموم مخصوص بآية المائدة كما قدمنا. قوله: "ولأمة مؤمنة" أي ولرقيقة مؤمنة، وقيل المراد بالأمة: الحرة لأن الناس كلهم عبيد الله وإماؤه والأول أولى لما سيأتي لأنه الظاهر من اللفظ ولأنه أبلغ، فإن تفضيل الأمة الرقيقة المؤمنة على الحرة المشركة يستفاد منه تفضيل الحرة المؤمنة على الحرة المشركة بالأولى. وقوله: "ولو أعجبتكم" أي ولو أعجبتكم المشركة من جهة كونها ذات جمال أو مال أو شرف، وهذه الجملة حالية. قوله: "ولا تنكحوا المشركين" أي لا تزوجوهم بالمؤمنات "حتى يؤمنوا" قال القرطبي: وأجمعت الأمة على أن المشرك لا يطأ المؤمنة بوجه لما في ذلك من الغضاضة على الإسلام، وأجمع القراء على ضم التاء من تنكحوا. وقوله: "ولعبد" الكلام فيه كالكلام في قوله: "ولأمة" والترجيح كالترجيح. قوله: "أولئك" إشارة إلى المشركين والمشركات "يدعون إلى النار" أي إلى الأعمال الموجبة للنار، فكان في مصاهرتهم ومعاشرتهم ومصاحبتهم من الخطر العظيم ما لا يجوز للمؤمنين أن يتعرضوا له ويدخلوا فيه "والله يدعو إلى الجنة" أي إلى الأعمال الموجبة للجنة، وقيل: المراد أن أولياء الله هم المؤمنون يدعون إلى الجنة. وقوله: "بإذنه" أي بأمره، فقاله الزجاج، وقيل: بتيسيره وتوفيقه، قاله صاحب الكشاف. وقد أخرج ابن أبي حاتم وابن المنذر عن مقاتل بن حيان قال: نزلت هذه الآية في أبي مرثد الغنوي استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في عناق أن يتزوجها، وكانت ذات حظ من الجمال وهي مشركة وأبو مرئد يومئذ مسلم، فقال: يا رسول الله إنها تعجبني، فأنزل الله: "ولا تنكحوا المشركات". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله: "ولا تنكحوا المشركات" قال استثنى الله من ذلك نساء أهل الكتاب، فقال: "والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب". وقد روي هذا المعنى عنه من طرق. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن سعيد بن جبير في قوله: "ولا تنكحوا المشركات" يعني أهل الأوثان. وأخرج عبد بن حميد والبيهقي عن مجاهد نحوه، وكذلك أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة نحوه أيضاً. وأخرج عبد بن حميد عن النخعي نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم عن ابن عمر أنه كره نكاح نساء أهل الكتاب، وتأول: "ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن". وأخرج البخاري عنه قال: حرم الله نكاح المشركات على المسلمين، ولا أعرف شيئاً من الإشراك أعظم من أن تقول المرأة ربها عيسى أو عبد من عباد الله. وأخرج الواحدي وابن عساكر من طريق السدي عن أبي مالك عن ابن عباس في قوله تعالى: "ولأمة مؤمنة خير من مشركة" قال: نزلت في عبد الله بن رواحة، وكانت له أمة سوداء وأنه غضب عليها فلطمها، ثم إنه فزع فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره خبرها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم له: ما هي يا عبد الله؟ قال: تصوم وتصلي وتحسن الوضوء، وتشهد أن لا إله إلآ الله وأنك رسول الله، فقال: يا عبد الله هذه مؤمنة، فقال عبد الله: فوالذي بعثك بالحق لأعتقنها ولأتزوجنها، ففعل فطعن عليه ناس من المسلمين وقالوا: نكح أمة، وكانوا يريدون أن ينكحوا إلى المشركين وينكحوهم رغبة في أحسابهم، فأنزل الله فيهم "ولأمة مؤمنة خير من مشركة". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن السدي مثله. وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان في قوله: "ولأمة مؤمنة" قال: بلغنا أنها كانت أمة لحذيفة سوداء، فأعتقها وتزوجها حذيفة. وأخرج ابن جرير عن أبي جعفر محمد بن علي قال: النكاح يولي في كتاب الله، ثم قرأ "ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا".

وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ

قوله: 222- "المحيض" هو الحيض، وهو مصدر، يقال: حاضت المرأة حيضاً ومحيضاً فهي حائض وحائضة، كذا قال الفراء وأنشد: كحائضة تزني بها غير طاهرة ونساء حيض وحوائض، والحيضة بالكسرة، المرة الواحدة وقيل: الاسم، وقيل: المحيض عبارة عن الزمان والمكان، وهو مجاز فيهما. وقال ابن جرير الطبري: المحيض اسم الحيض، ومثله قول رؤبة: إليك أشكو شدة المعيش أي العيش، وأصل هذه الكلمة من السيلان والانفجار يقال: حاض السيل وفاض، وحاضت الشجرة: أي سالت رطوبتها، ومنه الحيض: أي الحوض، لأن الماء يحوض إليه: أي يسيل. وقوله: "قل هو أذى" أي قل: هو شيء يتأذى به: أي برائحته، والأذى كناية عن القذر ويطلق على القول المكروه ومنه قوله تعالى: "لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى". ومنه قوله تعالى: "ودع أذاهم" وقوله: "فاعتزلوا النساء في المحيض" أي فاجتنبوهن في زمان الحيض إن حمل المحيض على المصدر أو في محل الحيض إن حمل على الإسم. والمراد من هذا الاعتزال ترك المجامعة لا ترك المجالسة أو الملامسة فإن ذلك جائز، بل يجوز الاستمتاع منها بما عدا الفرج أو بما دون الإزار على خلاف في ذلك، وما يروى عن ابن عباس وعبيدة السلماني أنه يجب على الرجل أن يعتزل فراش زوجته إذا حاضت فليس ذلك بشيء، ولا خلاف بين أهل العلم في تحريم وطء الحائض وهو معلوم من ضرورة الدين. قوله: "ولا تقربوهن حتى يطهرن" قرأ نافع وأبو عمرو وابن كثير وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر يطهرن بتشديد الطاء وفتحها وفتح الهاء وتشديدها. وفي مصحف أبي وابن مسعود ويتطهرن والطهر انقطاع الحيض، والتطهر: الاغتسال. وبسبب اختلاف القراء اختلف أهل العلم، فذهب الجمهور إلى أن الحائض لا يحل وطؤها لزوجها حتى تتطهر بالماء. وقال محمد بن كعب القظي ويحيى بن بكير: إذا طهرت الحائض وتيممت حيث لا ماء حلت لزوجها وإن لم تغتسل. وقال مجاهد وعكرمة: إن انقطاع الدم يحلها لزوجها، ولكن تتوضأ. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد: إن انقطع دمها بعد مضي عشرة أيام جاز له أن يطأها قبل الغسل، وإن كان انقطاعه قبل العشر لم يجز حتى تغتسل أو يدخل عليها وقت الصلاة. وقد رجح ابن جرير الطبري قراءة التشديد. والأولى أن يقال: إن الله سبحان جعل للحل غايتين كما تقتضيه القراءتان: إحداهما انقطاع الدم، والأخرى التطهر منه، والغاية الأخرى مشتملة على زيادة على الغاية الأولى، فيجب المصير إليها. وقد دل أن الغاية الأخرى هي المعتبرة. قوله تعالى بعد ذلك: "فإذا تطهرن" فإن ذلك يفيد أن المعتبر التطهر، لا مجرد انقطاع الدم. وقد تقرر أن القراءتين بمنزلة الآيتين، فكما أنه يجب الجمع بين الآيتين المشتملة إحداهما على زيادة بالعمل بتلك الزيادة، كذلك يجب الجمع بين القراءتين. قوله: " فاتوهن من حيث أمركم الله " أي فجامعوهن، وكنى عنه بالإتيان. والمراد أنهم يجامعونهن في المأتى الذي أباحه الله، وهو القبل قيل: و"من حيث" بمعنى في حيث، كما في قوله تعالى: "إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة" أي في يوم الجمعة، وقوله: "ماذا خلقوا من الأرض" أي في الأرض، وقيل: إن المعنى من الوجه الذي أذن الله لكم فيه: أي من غير صوم وإحرام واعتكاف، وقيل: إن المعنى من قبل الطهر لا من قبل الحيض، وقيل: من قبل الحلال، لا من قبل الزنا. قوله: "إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين" قيل: المراد التوابون من الذنوب، والمتطهرون من الجنابة والأحداث، وقيل: التوابون من إتيان النساء في أدبارهن، وقيل: من إتيانهن في الحيض، والأول أظهر.

نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ

قوله: 223- " نساؤكم حرث لكم فاتوا حرثكم أنى شئتم " لفظ الحرث يفيد أن الإباحة لم تقع إلا في الفرج الذي هو القبل خاصة، إذ هو مزدرع الذرية، كما أن الحرث مردرع النبات. فقد شبه ما يلقى في أرحامهن من النطف التي منها النسل بما يلقى في الأرض من البذور التي منها النبات بجامع أن كل واحد منهما مادة لما يحصل منه، وهذه الجملة بيان للجملة الأولى، أعني قوله: " فاتوهن من حيث أمركم الله ". وقوله: "أنى شئتم" أي من أي جهة شئتم من خلف وقدام وباركة ومستلقية ومضجعة، إذا كان في موضع الحرث، وأنشد ثعلب: إنما الأرحام أرضو ن لنــا محـترثـات فعلينا الزرع فيهـا وعلى الله النبات وإنما عبر سبحانه بقوله: "أنى" لكونها أعم في اللغة من كيف وأين ومتى. وأما سيبويه ففسرها هنا بكيف. وقد ذهب السلف والخلف من الصحابة والتابعين والأئمة إلى ما ذكرناه من تفسير الآية، وأن إتيان الزوجة في دبرها حرام. وروي عن سعيد بن المسيب ونافع وابن عمر ومحمد بن كعب القرظي وعبد الملك بن الماجشون أنه يجوز ذلك، حكاه عنهم القرطبي في تفسيره قال: وحكي ذلك عن مالك في كتاب له يسمى كتاب السر وحذاق أصحاب مالك ومشايخهم ينكرون ذلك الكتاب، ومالك أجل من أن يكون له كتاب سر، ووقع هذا القول في العتبية. وذكر ابن العربي أن ابن شعبان أسند جواز ذلك إلى زمرة كبيرة من الصحابة والتابعين وإلى مالك من روايات كثيرة في كتاب جماع النسوان وأحكام القرآن وقال الطحاوي: روى أصبغ بن الفرج عن عبد الرحمن بن القاسم قال: ما أدركت أحداً أقتدي به في ديني شك في أنه حلال: يعني وطء المرأة في دبرها ثم قرأ: "نساؤكم حرث لكم" ثم قال: فأي شيء أبين من هذا. وقد روى الحاكم والدارقطني والخطيب البغدادي عن مالك من طرق ما يقتضي إباحة ذلك. وفي أسانيدها ضعف. وقد روى الطحاوي عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم أنه سمع الشافعي يقول: ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في تحليله ولا تحريمه شيء، والقياس أنه حلال. وقد روى ذلك أبو بكر الخطيب. قال ابن الصباغ: كان الربيع يحلف بالله الذي لا إله إلا هو لقد كذب ابن عبد الحكم على الشافعي في ذلك، فإن الشافعي نص على تحريمه في ستة كتب من كتبه. قوله: "وقدموا لأنفسكم" أي خيراً كما في قوله تعالى: "وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله" وقيل: ابتغاء الولد، وقيل: التزويج بالعفائف، وقيل غير ذلك. وقوله: "واتقوا الله" فيه تحذير عن الوقوع في شيء من المحرمات. وفي قوله: "واعلموا أنكم ملاقوه" مبالغة في التحذير. وفي قوله: "وبشر المؤمنين" تأنيس لمن يفعل الخير ويجتنب الشر. وقد أخرج مسلم وأهل السنن وغيرهم عن أنس "أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة منهم أخرجوها من البيت ولم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يجامعوها في البيوت، فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأنزل الله: "ويسألونك عن المحيض" الآية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: جامعوهن في البيوت واصنعوا كل شيء إلا النكاح". وأخرج النسائي والبزار عن جابر قال: إن اليهود قالوا: من أتى المرأة في دبرها كان ولده أحول، فجاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه عن ذلك وعن إتيان الحائض، فنزلت. وأخرج ابن جرير عن مجاهد قال الأذى: الدم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله: "فاعتزلوا النساء" يقول: اعتزلوا نكاح فروجهن. وفي قوله: "ولا تقربوهن حتى يطهرن" قال: من الدم. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد قال: حتى ينقطع الدم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس في قوله: "فإذا تطهرن" قال: بالماء. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن جرير عن عكرمة نحوه أيضاً. وأخرج ابن المنذر عن مجاهد وعطاء أنهما قالا إذا رأت الطهر فلا بأس أن تستطيب بالماء ويأتيها قبل أن تغتسل. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: " فاتوهن من حيث أمركم الله " قال: يعني أن يأتيها طاهراً غير حائض. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة نحوه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: " فاتوهن من حيث أمركم الله " قال: من حيث أمركم أن تعتزلوهن. وأخرج ابن أبي شيبة عن عكرمة مثله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر والبيهقي عن ابن عباس قال: من حيث نهاكم أن تأتوهن وهن حيض: يعني من قبل الفرج. وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن الحنفية قال: " فاتوهن من حيث أمركم الله " من قبل التزويج. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن عطاء في قوله: "يحب التوابين" قال: من الذنوب "ويحب المتطهرين" قال: بالماء. وأخرج ابن أبي حاتم عن الأعمش قال: التوبة من الذنوب والتطهير من الشرك. وأخرج البخاري وأهل السنن وغيرهم عن جابر قال: كانت اليهود تقول إذا أتى الرجل امرأته من خلفها في قبلها جاء الولد أحول، فنزلت: " نساؤكم حرث لكم فاتوا حرثكم أنى شئتم " إن شاء محتبية وإن شاء غير محتبية، غير أن ذلك في صمام واحد. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير عن مرة الهمداني نحوه. وقد روي هذا عن جماعة من السلف وصرحوا أنه السبب، ومن الراوين لذلك عبد الله بن عمر عند ابن عساكر، وأم سلمة عند عبد الرزاق وعبد بن حميد والبيهقي في الشعب. وأخرجه أيضاً عنها ابن أبي شيبة وأحمد والدارمي وعبد بن حميد والترمذي وحسنه "أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض نساء الأنصار عن التحبية، فتلا عليها الآية وقال: صماماً واحداً" والصمام: السبيل. وأخرج أحمد وعبد بن حميد والترمذي وحسنه والنسائي والضياء في المختارة وغيرهم عن ابن عباس قال: جاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله هلكت. قال: وما أهلكك؟ قال: حولت رحلي الليلة. فلم يرد عليه شيئاً. فأوحى الله إلى رسوله هذه الآية "نساؤكم حرث لكم" يقول: أقبل وأدبر واتق الدبر والحيضة. وأخرج أحمد عن ابن عباس مرفوعاً أن هذه الآية نزلت في أناس من الأنصار أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه فقال: ائتها على كل حال إذا كان في الفرج. وأخرج الدارمي وأبو داود وابن جرير وابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عنه قال ابن عمر: والله يغفر له أوهم، إنما كان هذا الحي من الأنصار وهم أهل وثن مع هذا الحي من اليهود وهم أهل الكتاب كانوا يرون لهم فضلاً عليهم في العلم، فكانوا يقتدون بكثير من فعلهم، فكان من أمر أهل الكتاب لا يأتون النساء إلا على حرف، وذلك أستر ما تكون المرأة، وكان هذا الحي من الأنصار قد أخذوا بفعلهم، وكان هذا الحي من قريش يشرحون النساء شرحاً ويتلذذون منهن مقبلات ومدبرات ومستلقيات فلما قدم المهاجرون المدينة تزوج رجل منهم امرأة من الأنصار. فذهب يفعل بها ذلك فأنكرته عليه، وقالت: إنما كنا نؤتي على حرف فاصنع ذلك وإلا فاجتنبني، فسرى أمرهما، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله الآية: "نساؤكم حرث لكم" يقول: مقبلات ومدبرات بعد أن يكون في الفرج وإن كان من قبل دبرها في قبلها، زاد الطبراني: قال ابن عباس، قال ابن عمر: في دبرها فأوهم، والله يغفر له، وإنما كان هذا الحديث على هذا. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد والدارمي والبيهقي عن ابن مسعود أنه قال: محاش النساء عليكم حرام. وأخرج الشافعي في الأم وابن أبي شيبة وأحمد والنسائي وابن ماجه وابن المنذر والبيهقي في سننه من طريق خزيمة بن ثابت "أن سائلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إتيان النساء في أدبارهن، فقال: حلال أو لا بأس، فلما ولي دعاه فقال: كيف قلت؟ أمن دبرها في قبلها فنعم، أم من دبرها في دبرها فلا، إن الله لا يستحي من الحق لا تأتوا النساء في أدبارهن". وأخرج ابن عدي والدارقطني عن جابر بن عبد الله نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة والترمذي وحسنه والنسائي وابن حبان عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ينظر الله إلى رجل أتى امرأة في الدبر". وأخرج أحمد والبيهقي في سننه عن ابن عمرو: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الذي يأتي امرأته في دبرها هي اللوطية الصغرى". وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ملعون من أتى امرأته في دبرها". وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد والنسائي والبيهقي عنه قال: إتيان الرجال والنساء في أدبارهن كفر. وقد رواه ابن عدي عن أبي هريرة مرفوعاً قال ابن كثير: والموقوف أصح. وقد ورد النهي عن ذلك من طرق منها عند البزار عن عمر مرفوعاً وعند النسائي عنه موقوفاً وهو أصح. وعند ابن عدي في الكامل عن ابن مسعود مرفوعاً عند ابن عدي أيضاً عن عقبة بن عامر مرفوعاً، وعند أحمد عن طلق بن يزيد أو يزيد بن طلق مرفوعاً، وعند ابن أبي شيبة وأحمد والترمذي وحسنه عن علي بن طلق مرفوعاً وقد ثبت نحو ذلك عن جماعة من الصحابة والتابعين مرفوعاً وموقوفاً. وأخرج البخاري وغيره عن نافع قال: قرأت ذات يوم: "نساؤكم حرث لكم" فقال ابن عمر: أتدري فيم أنزلت هذه الآية؟ قلت: لا، قال: نزلت في إتيان النساء في أدبارهن. وأخرج البخاري عن ابن عمر أنه قال: " فاتوا حرثكم أنى شئتم " قال: في الدبر. وقد روي هذا عن ابن عمر من طرق كثيرة. وفي رواية عند الدارقطني أنه قال له نافع: من دبرها في قبلها؟ فقال: لا: إلا في دبرها. وأخرج ابن راهويه وأبو يعلى وابن جرير والطحاوي وابن مردويه بإسناد حسن عن أبي سعيد الخدري، أن رجلاً أصاب امرأته في دبرها، فأنكر الناس عليه ذلك، فنزلت الآية. وأخرج البيهقي في سننه عن محمد بن علي قال: كنت عند محمد بن كعب القرظي فجاءه رجل فقال: ما تقول في إتيان المرأة في دبرها؟ فقال: هذا شيخ من قريش فسله، يعني عبد الله بن علي بن السائب: فقال: قذر ولو كان حلالاً. وقد روي القول بحل ذلك عن محمد بن المنكدر عند ابن جرير وعن ابن أبي مليكة عند ابن جرير أيضاً، وعن مالك بن أنس عند ابن جرير والخطيب وغيرهما، وعن الشافعي عند الطحاوي والحاكم والخطيب. وقد قدمنا مثل هذا، وليس في أقوال هؤلاء حجة ألبتة: ولا يجوز لأحد أن يعمل على أقوالهم، فإنهم لم يأتوا بدليل يدل على الجواز، فمن زعم منهم أنه فهم ذلك من الآية فقد أخطأ في فهمه. وقد فسرها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكابر أصحابه بخلاف ما قاله هذا المخطئ في فهمه كائناً من كان ومن زعم منهم أن سبب نزول الآية أن رجلاً أتى امرأته في دبرها، فليس في هذا ما يدل على أن الآية أحلت ذلك، ومن زعم ذلك فقد أخطأ، بل الذي تدل عليه الآية أن ذلك حرام، فكون ذلك هو السبب لا يستلزم أن تكون الآية نازلة في تحليله، فإن الآيات النازلة على أسباب تأتي تارة بتحليل هذا، وتارة بتحريمه. وقد روي عن ابن عباس أنه فسر هذه الآية بغير ما تقدم، فقال: معناها إن شئتم فاعزلوا وإن شئتم فلا تعزلوا. روى ذلك عنه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والضياء في المختارة. وروي نحو ذلك عن ابن عمر. وأخرجه ابن أبي شيبة وعن سعيد بن المسيب، أخرجه ابن أبي شيبة وابن جرير.

وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ

العرضة: النصبة، قاله الجوهري. يقال: جعلت فلاناً عرضة لكذا: أي نصبة: وقيل: العرضة من الشدة والقوة، ومنه قولهم للمرأة عرضة للنكاح: إذا صلحت له وقويت عليه، ولفلان عرضة: أي قوة، ومنه قول كعب بن زهير: من كل نضاخة الدفرى إذا عرقت عرضتها طامس الأعلام مجهول ومثله قول أوس بن حجر: وأدماء مثل العجل يوماً عرضتها لرحلي وفيها هزة وتقاذف ويطلق العرضة على الهمة، ومنه قول الشاعر: هم الأنصار عرضتها اللقاء أي همتها، ويقال: فلان عرضة للناس لا يزالون يقعون فيه- فعلى المعنى الذي ذكره الجوهري أن العرضة النصبة كالقبضة والغرفة يكون ذلك اسماً لما تعرضه دون الشيء: أي تجعله حاجزاً له ومانعاً منه: أي لا تجعلوا الله حاجزاً ومانعاً لما حلفتم عليه، وذلك لأن الرجل كان يحلف على بعض الخير من صلة رحم أو إحسان إلى الغير أو إصلاح بين الناس بأن لا يفعل ذلك، ثم يمتنع من فعله معللاً لذلك الامتناع بأنه قد حلف أن لا يفعله، وهذا المعنى هو الذي ذكره الجمهور في تفسير الآية، ينهاهم الله أن يجعلوه عرضة لأيمانهم: أي حاجزاً لما حلفوا عليه ومانعاً منه، وسمي المحلوف عليه يميناً لتلبسه باليمين، وعلى هذا يكون قوله: 224- "أن تبروا" عطف بيان لأيمانكم: أي لا تجعلوا الله مانعاً للأيمان التي هي بركم وتقواكم وإصلاحكم بين الناس، ويتعلق قوله: "لأيمانكم" بقوله: "لا تجعلوا" أي لا تجعلوا الله لأيمانكم مانعاً وحاجزاً، ويجوز أن يتعلق بعرضة: أي لا تجعلوه شيئاً معترضاً بينكم وبين البر وما بعده. وعلى المعنى الثاني، وهو أن العرضة: الشدة والقوة يكون معنى الآية: لا تجعلوا اليمين بالله قوة لأنفسكم، وعدة في الامتناع من الخير، ولا يصح تفسير الآية على المعنى الثالث، وهو تفسير العرضة بالهمة- وأما على المعنى الرابع، وهو من قولهم فلان لا يزال عرضة للناس: أي يقعون فيه، فيكون معنى الآية عليه: ولا تجعلوا الله معرضاً لأيمانكم، فتبذلونه بكثرة الحلف به، ومنه: "واحفظوا أيمانكم" وقد ذم الله المكثرين للحلف فقال: "ولا تطع كل حلاف مهين". وقد كانت العرب تتمادح بقلة الأيمان حتى قال قائلهم: قليل الألايا حافظ ليمينه وإن ندرت منه الألية برت وعلى هذا فيكون قوله: "أن تبروا" علة للنهي أي لا تجعلوا الله معرضاً لأيمانكم إرادة أن تبروا وتتقوا وتصلحوا لأن من يكثر الحف بالله يجترئ على الحنث ويفجر في يمينه. وقد قيل في تفسير الآية أقوال هي راجعة إلأى هذه الوجوه التي ذكرناها، فمن ذلك قول الزجاج معنى الآية أن يكون الرجل إذا طلب منه الفعل الذي فيه خير اعتل بالله، فقال على يمين وهو لم يحلف، وقيل معناها: لا تحلفوا بالله كاذبين إذا أردتم البر والتقوى والإصلاح، وقيل: معناها إذا حلفتم على أن لا تصلوا أراحامكم ولا تتصدقوا ولا تصلحوا وعلى أشباه ذلك من أبواب البر فكفروا عن اليمين. وقد قيل إن قوله: "أن تبروا" مبتدأ خبره محذوف أي البر والتقوى، والإصلاح أولى. قاله الزجاج وقيل إنه منصوب: أي لا تمنعكم اليمين بالله البر والتقوى والإصلاح وروي ذلك عن الزجاج أيضاً، وقيل: معناه أن لا تبروا، فحذف لا، كقوله: "يبين الله لكم أن تضلوا" أي لا تضلوا. قاله ابن جرير الطبري، وقيل: هو في موضع جر على قول الخليل والكسائي، والتقدير في "أن تبروا". وقوله: "سميع" أي لأقوال العباد "عليم" بما يصدر منهم.

لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ

واللغو: مصدر لغا يلغو لغواً، ولغى يلغي لغياً: إذا أتى بما لا يحتاج إليه في الكلام أو بما لا خير فيه وهو الساقط الذي لا يعتد به، فاللغو من اليمين: هو الساقط الذي لا يعتد به، ومنه اللغو في الدية، وهو الساقط الذي لا يعتد به من أولاد الإبل، قال جرير: ويذهب بينها المري لغواً كما ألغيت في الدية الحوارا وقال آخر: ورب أسراب حجيج كظم عن اللغا ورفث التكلم أي لا يتكلمن بالساقط والرفث، ومعنى الآية: لا يعاقبكم الله بالساقط من أيمانكم، ولكن يعاقبكم بما كسبت قلوبكم: أي اقترفته بالقصد إليه: وهي اليمين المعقودة، ومثله قوله تعالى: "ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان" ومثله قول الشاعر: ولست بمأخوذ بلغو يقوله إذا لم تعمد عاقدات العزائم وقد اختلف أهل العلم في تفسير اللغو، فذهب ابن عباس وعائشة وجمهور العلماء أيضاً: أنه قول الرجل لا والله وبلى والله في حديثه وكلامه غير معتقد لليمين، ولا مريد لها. قال المروزي: هذا معنى لغو اليمين الذي اتفق عليه عامة العلماء. وقال أبو هريرة وجماعة من السلف: هو أن يحلف الرجل على الشيء لا يظن إلا أنه إياه فإذا ليس هو ما ظنه، وإلى هذا ذهبت الحنفية والزيدية، وبه قال مالك في الموطأ. وروي عن ابن عباس أنه قال: لغو اليمين أن تحلف وأنت غضبان، وبه قال طاوس ومكحول، وروي عن مالك، وقيل: إن اللغو هو يمين المعصية، قاله سعيد بن المسيب وأبو بكر بن عبد الرحمن وعبد الله بن الزبير وأخوه عروة كالذي يقسم ليشربن الخمر أو ليقطعن الرحم، وقيل: لغو اليمين: هو دعاء الرجل على نفسه كأن يقول: أعمى الله بصره، أذهب الله ماله، هو يهودي، وهو مشرك. قاله زيد بن أسلم. وقال مجاهد: لغو اليمين أن يتبايع الرجلان فيقول أحدهما: والله لا أبايعك بكذا، ويقول الآخر: والله لا أشتريه بكذا. وقال الضحاك: لغو اليمين هي المكفرة: أي إذا كفرت سقطت وصارت لغواً. والراجح القول الأول لمطابقته للمعنى اللغوي، ولدلالة الأدلة عليه كما سيأتي. وقوله: 225- " والله غفور حليم " أي حيث لم يؤاخذكم بما تقولونه بألسنتكم من دون عمد وقصد. وآخذكم بما تعمدته قلوبكم وتكلمت به ألسنتكم، وتلك هي اليمين المعقودة المقصودة. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله: "ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم" يقول: لا تجعلني عرضة ليمينك أن لا تصنع الخير، ولكن كفر عن يمينك واصنع الخير. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عنه: هو أن يحلف الرجل أن لا يكلم قرابته أو لا يتصدق ويكون بين رجلين مغاضبة فيحلف لا يصلح بينهما ويقول: قد حلفت، قال: يكفر عن يمينه. وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء قال: جاء رجل إلى عائشة فقال: إني نذرت إن كلمت فلاناً فإن كل مملوك لي عتيق، وكل مال لي ستر للبيت، فقالت: لا تجعل مملوكيك عتقاء ولا تجعل مالك ستراً للبيت فإن الله يقول: "ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم" فكفر عن يمينك. وقد ورد أن هذه الآية نزلت في أبي بكر في شأن مسطح، رواه ابن جرير عن ابن جريج، والقصة مشهورة. وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه". وثبت أيضاً في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني". وأخرج ابن ماجه وابن جرير عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حلف على يمين قطيعة رحم أو معصية فبره أن يحنث فيها ويرجع عن يمينه". وأخرج أحمد وأبو داود وابن ماجه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا نذر ولا يمين فيما لا يملك ابن آدم ولا في معصية الله ولا في قطيعة رحم". وأخرج أبو داود والحاكم وصححه عن عمر مرفوعاً مثله. وأخرج النسائي وابن ماجه عن مالك الجشمي قال: قلت يا رسول الله: يأتيني ابن عمي فأحلف أن لا أعطيه ولا أصله، فقال: كفر عن يمينك. وأخرج مالك في الموطأ وعبد الرزاق وعبد بن حميد والبخاري وغيرهم عن عائشة قالت: أنزلت هذه الآية: "لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم" في قول الرجل: لا والله وبلى والله وكلا والله. وأخرج أبو داود وابن جرير وابن حبان وابن مردويه والبيهقي من طريق عطاء بن أبي رباح أنه سئل عن اللغو في اليمين فقال: قالت عائشة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "هو كلام الرجل في بيته كلا والله وبلى والله". وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن عائشة أنها قالت في تفسيره الآية: إن اللغو هو القوم يتدارون في الأمر يقول هذا لا والله ويقول هذا كلا والله، يتدارون في الأمر لا تعقد عليه قلوبهم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن عائشة أنها قالت: هو اللغو في المزاحة والهزل، وهو قول الرجل لا والله وبلى والله، فذاك لا كفارة فيه، وإنما الكفارة فيما عقد عليه قلبه أن يفعله ثم لا يفعله. وأخرج ابن جرير عن الحسن قال: "مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم ينتضلون ومع النبي صلى الله عليه وسلم رجل من أصحابه، فرمى رجل من القوم، فقال: أصبت والله وأخطأت والله، فقال الذي مع النبي صلى الله عليه وسلم: حنث الرجل يا رسول الله، فقال: كلا، أيمان الرماة لغو لا كفارة فيها ولا عقوبة". وقد روى أبو الشيخ عن عائشة وابن عباس وابن عمر وابن عمرو أن اللغو لا والله وبلى والله. أخرجه سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد عن ابن عباس أنه قال: لغو اليمين أن تحلف وأنت غضبان. وأخرج ابن جرير عن أبي هريرة قال: لغو اليمين حلف الإنسان على الشيء يظن أنه الذي حلف عليه فإذا هو غير ذلك. وأخرج ابن أبي حاتم والبيهقي عن عائشة نحوه. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس: أنها أن يحلف الرجل على تحريم ما أحل الله له. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: هو الرجل يحلف على المعصية. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن النخعي: هو أن يحلف الرجل على الشيء ثم ينسى. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: "والله غفور" يعني إذ تجاوز عن اليمين التي حلف عليها "حليم" إذ لم يجعل فيها الكفارة.

لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ

قوله: 226- "يؤلون" أي يحلفون: والمصدر إيلاً وألية وألوة، وقرأ ابن عباس: الذين آلوا يقال: آلى يؤالي ويأتلي بالتاء ائتلاء: أي حلف، ومنه: " ولا يأتل أولو الفضل منكم "، ومنه: قليل الألايا حافظ ليمينه البيت. وقد اختلف أهل العلم في الإيلاء، فقال الجمهور: إن الإيلاء هو أن يحلف أن لا يطأ امرأته أكثر من أربعة أشهر، فإن حلف على أربعة أشهر فما دونهما لم يكن مولياً وكانت عندهم يميناً محضاً، وبهذا قال مالك والشافعي وأحمد وأبو ثور. وقال الثوري والكوفيون: الإيلاء أن يحلف على أربعة أشهر فصاعداً، وهو قول عطاء. وروي عن ابن عباس أنه لا يكون مولياً حتى يحلف أن لا يمسها أبداً. وقالت طائفة: إذا حلف أن لا يقرب امرأته يوماً أو أقل أو أكثر ثم لم يطأ أربعة أشهر بانت منه بالإيلاء. وبه قال ابن مسعود والنخعي وابن أبي ليلى والحكم وحماد بن أبي سليمان وقتادة وإسحاق. قال ابن المنذر: وأنكر هذا القول كثير من أهل العلم. قوله: "من نسائهم" يشمل الحرائر والإماء إذا كن زوجات، وكذلك يدخل تحت قوله: "للذين يؤلون" العبد إذا حلف من زوجته، وبه قال الشافعي وأحمد وأبو ثور قالوا: وإيلاؤه كالحر. وقال مالك والزهري وعطاء وأبو حنيفة وإسحاق: إن أجله شهران. وقال الشعبي: إيلاء الأمة نصف إيلاء الحرة. والتربص: التأني والتأخر، قال الشاعر: تربص بها ريب المنون لعلها تطلق يوماً أو بموت حليلها وقت الله سبحانه بهذه المدة دفعاً للضرار عن الزوجة. وقد كان أهل الجاهلية يؤلون السنة والسنتين وأكثر من ذلك يقصدون بذلك ضرار النساء. وقد قيل: إن الأربعة الأشهر هي التي لا تطيق المرأة الصبر عن زوجها زيادة عليها. قوله: " فإن فاؤوا " أي رجعوا ومنه: "حتى تفيء إلى أمر الله" أي ترجع، ومنه قيل للظل بعد الزوال فيء لأنه رجع عن جانب المشرق إلى جانب المغرب، يقال: فاء يفيء فيئة وفيوءاً، وإنه لسريع الفيئة: أي الرجعة، ومنه قول الشاعر: ففاءت ولم تقض الذي أقبلت له ومن حاجة الإنسان ما ليس قاضيا قال ابن المنذر: وأجمع كل من يحفظ عنه العلم على أن الفيء الجماع لمن لا عذر له، فإن كان له عذر مرض أو سجن فهي امرأته، فإذا زال العذر فابى الوطء فرق بينهما إن كانت المدة قد انقضت، قاله مالك، وقالت طائفة: إذا أشهد على فيئته بقلبه في حال العذر أجزأه. وبه قال الحسن وعكرمة والنخعي والأوزاعي وأحمد بن حنبل. وقد أوجب الجمهور على المولي إذا فاء بجماع امرأته الكفارة. وقال الحسن والنخعي: لا كفارة عليه.

وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ

قوله: 227- "وإن عزموا الطلاق" العزم: العقد على الشيء، ويقال عزم يعزم عزماً وعزيمةً وعزماناً، واعتزم اعتزاماً، فمعنى عزموا الطلاق: عقدوا عليه قلوبهم. والطلاق من طلقت المرأة تطلق، كنصر ينصر، طلاقاً فهي طالق وطالقة أيضاً ويجوز طلقت بضم الللام، مثل عظم يعظم، وأنكره الأخفش. والطلاق حل عقدة النكاح، وفي ذلك دليل على أنها لا تطلق بمضي أربعة أشهر كما قال مالك، ما لم يقع إنشاء تطليق بعد المدة، وأيضاً فإنه قال: "سميع"، وسميع يقتضس مسموعاً بعد المضي. وقال أبو حنيفة: "سميع" لإيلائه "عليم" بعزمه الذي دل عليه مضي أربعة أشهر. واعلم أن أهل كل مذهب قد فسروا هذه الآية بما يطابق مذهبهم وتكلفوا بما لم يدل عليه اللفظ، ولا دليل آخر، ومعناها ظاهر واضح، وهو أن الله جعل الأجل لمن يولي: أي يحلف من امرأته أربعة أشهر. ثم قال: مخبراً لعباده بحكم هذا المولي بعد هذه المدة " فإن فاؤوا " رجعوا إلى بقاء الزوجية واستدامة النكاح "فإن الله غفور رحيم" أي لا يؤاخذهم بتلك اليمين بل يغفر لهم ويرحمهم "وإن عزموا الطلاق" أي وقع العزم منهم عليه والقصد له "فإن الله سميع" لذلك منهم "عليم" به، فهذا معنى الآية الذي لا شك فيه ولا شبهة، فمن حلف أن يطأ امرأته ولم يقيد بمدة أو قيد بزيادة على أربعة أشهر كان علينا إمهاله أربعة أشهر، فإذا مضت فهو بالخيار إما رجع إلى نكاح امرأته، وكانت زوجته بعد مضي المدة كما كانت زوجته قبلها، أو طلقها وكان له حكم المطلق لامرأته ابتداءً، وأما إذا وقت بدون أربعة أشهر فإن أراد أن يبر في يمينه اعتزل امرأته التي حلف منها حتى تنقضي المدة كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين آلى من نسائه شهراً فإنه اعتزلهن حتى مضى الشهر، وإن أراد أن يطأ امرأته قبل مضي تلك المدة التي هي دون أربعة أشهر حنث في يمينه ولزمته الكفارة، وكان ممتثلاً لما صح عنه صلى الله عليه وسلم من قوله: "من حلف على شيء فرأى غيره خيراً منه فليأت الذي هو خير منه وليكفر عن يمينه". وقد أخرج الشافعي وعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال: الإيلاء أن يحلف أنه لا يجامعها أبداً. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عنه في قوله: "للذين يؤلون من نسائهم" قال: هو الرجل يحلف لامرأته بالله لا ينكحها فتتربص أربعة أشهر فإن هو نكحها كفر عن يمينه، فإن مضت أربعة أشهر قبل أن ينكحها خيره السلطان إما أنه يفيء وإما أن يعزم فيطلق كما قال الله سبحانه. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد والطبراني والبيهقي عنه قال: كان إيلاء الجاهلية السنة والسنتين وأكثر من ذلك، فوقت الله لهم أربعة أشهر فإن كان إيلاؤه إيلاء الجاهلية السنة والسنتين وأكثر من ذلك، فوقت الله لهم أربعة أشهر فإن كان إيلاؤه أقل من أربعة أشهر فليس بإيلاء. وأخرج عبد بن حميد عن علي قال: الإيلاء إيلاءان: إيلاء في الغضب، وإيلاء في الرضا- فأما الإيلاء في الغضب: فإذا مضت أربعة أشهر فقد بانت منه، وأما ما كان في الرضا فلا يؤاخذ به. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: لا إيلاء إلا بغضب. وأخرج أبو عبيد في فضائله وابن المنذر عن أبي بن كعب أنه قرأ فإن فاءوا فيهن فإن الله غفور رحيم. وأخرج عبد بن حميد عن علي قال: الفيء: الجماع. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه من طرق عن ابن عباس مثله. وأخرج ابن المنذر عن ابن مسعود مثله. وأخرج ابن المنذر عن علي قال: الفيء الرضا. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود مثله. وأخرج عبد بن حميد عن الحسن، قال: الفيء الإشهاد، وأخرج عبد الرزاق عنه قال: الفيء الجماع، فإن كان له عذر أجزأه أن يفيء بلسانه. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال: إذا حال بينه وبينها مرض أو سفر أو حبس أو شيء يعذر به فإشهاده فيء. وللسلف في الفيء أقوال مختلفة، فينبغي الرجوع إلى معنى الفيء لغة، وقد بيناه. وأخرج ابن جرير عن عمر بن الخطاب أنه قال في الإيلاء: إذا مضت أربعة أشهر لا شيء عليه حتى يوقف فيطلق أو يمسك. وأخرج الشافعي وابن جرير والبيهقي عن عثمان بن عفان نحوه. وأخرج مالك والشافعي وعبد بن حميد وابن جرير والبيهقي عن علي نحوه. وأخرج البخاري وعبد بن حميد عن ابن عمر نحوه أيضاً. وأخرج ابن جرير والبيهقي عن عائشة نحوه. وأخرج ابن جرير والدارقطني والبيهقي من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه قال: سألت اثني عشر رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يولي من امرأته فكلهم يقول: ليس عليه شيء حتى تمضي الأربعة الأشهر فتوقف فإن فاء وإلا طلاق. وأخرج البيهقي عن ثابت بن عبيدة مولى زيد بن ثابت عن اثني عشر رجلاً من الصحابة نحوه. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي عن عمر وعثمان وعلي وزيد بن ثابت وابن مسعود وابن عمر وابن عباس قالوا: الإيلاء تطليقة بائنة إذا مرت أربعة أشهر، قبل أن يفيء فهي أملك بنفسها، وللصحابة والتابعين في هذا أقوال مختلفة متناقضة، والمتعين الرجوع إلى ما في الآية الكريمة، وهو ما عرفناك فاشدد عليه يديك. وأخرج عبد الرزاق عن عمر قال: إيلاء العبد شهران. وأخرج مالك عن ابن شهاب قال: إيلاء العبد نحو إيلاء الحر.

وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَاد

قوله: 228- "والمطلقات" يدخل تحت عمومه المطلقة قبل الدخول، ثم خصص بقوله تعالى: "فما لكم عليهن من عدة تعتدونها" فوجب بناء العام على الخاص، وخرجت من هذا العموم المطلقة قبل الدخول وكذلك خرجت الحامل بقوله تعالى: "وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن" وكذلك خرجت الآيسة بقوله تعالى: "فعدتهن ثلاثة أشهر" والتربص: الانتظار، قيل: هو خبر في معنى الأمر: أي ليتربصن قصد بإخراجه مخرج الخبر تأكيد وقوعه، وزاده تأكيداً وقوعه خبراً للمبتدأ. قال ابن العربي: وهذا باطل، وإنما هو خبر عن حكم الشرع، فإن وجدت مطلقة لا تتربص فليس ذلك من الشرع، ولا يلزم من ذلك وقوع خبر الله سبحانه على خلاف مخبره. والقروء جمع قرء. وروي عن نافع أنه قرأ قرو بتشديد الواو. وقرأه الجمهور بالهمز. وقرأ الحسن بفتح القاف وسكون الراء والتنوين. قال الأصمعي: الواحد قرء بضم القاف. وقال أبو زيد الفتح: وكلاهما قال أقرأت المرأة: حاضت، وأقرأت: طهرت. وقال الأخفش: أقرأت المرأة: إذا صارت صاحبة حيض، فإذا حاضت قلت: قرأت بلا ألف. وقال أبو عمرو بن العلاء من العرب من يسمي الحيض قرءاً، ومنهم من يسمي الطهر قرءاً، ومنهم من يجمعهما جميعاً فيسمي الحيض مع الطهر قرءاً، وينبغي أن يعلم أن القرء في الأصل: الوقت، يقال: هبت الرياح لقرئها ولقارئها: أي لوقتها، ومنه قول الشاعر: كرهت العقر عقر بني شليل إذا هبت لقارئها الرياح فيقال للحيض قرء، وللطهر قرء، لأن كل واحد منهما له وقت معلوم. وقد أطلقته العرب تارة على الأطهار، وتارة على الحيض، فمن إطلاقه على الأطهار قول الأعشى: أفي كل عام أنت جاشم غزوة تشد لأقصـاهـا عزيم عزائكـا مورثـة مـالا وفي الحي رفـعــة لما ضاع فيها من قروء نسائكا أي أطهارهن، ومن إطلاقه على الحيض قول الشاعر: يا رب ذي حنق علي قارض له قرو كقرو الحائض يعني أنه طعنه فكان له دم كدم الحائض. وقال قوم: هو مأخوذ من قرى الماء في الحوض وهو جمعه ومنه القرآن لاجتماع المعاني فيه. قال عمرو بن كلثوم: ذراعي عيطل أدماء بكر هجان اللون لم تقرا جنينا أي لم تجمعه في بطنها. والحاصل أن القروء في لغة العرب مشترك بين الحيض والطهر، ولأجل هذا الاشتراك، اختلف أهل العلم في تعيين ما هو المراد بالقروء المذكورة في الآية، فقال أهل الكوفة: هي الحيض وهو قول عمر وعلي وابن مسعود وأبي موسى ومجاهد وقتادة والضحاك وعكرمة والسدي وأحمد بن حنبل. وقال أهل الحجاز: هي الأطهار، وهو قول عائشة وابن عمر وزيد بن ثابت والزهري وأبان بن عثمان والشافعي، واعلم أنه قد وقع الاتفاق بينهم على أن القرء الوقت، فصار معنى الآية عند الجميع، والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة أوقات فهي على هذا مفسرة في العدد مجملة في المعدود، فوجب طلب البيان للمعدود من غيرها فأهل القول الأول استدلوا على أن المراد في هذه الآية الحيض بقوله صلى الله عليه وسلم: "دعي الصلاة أيام أقرائك" وبقوله صلى الله عليه وسلم: "طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان" وبأن المقصود من العدة استبراء الرحم وهو يحصل بالحيض لا بالطهر. واستدل أهل القول الثاني بقوله تعالى: "فطلقوهن لعدتهن" ولا خلاف أنه يؤمر بالطلاق وقت الطهر. ولقوله صلى الله عليه وسلم لعمر: "مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء" وذلك لأن زمن الطهر هو الذي تطلق فيه النساء. قال أبو بكر بن عبد الرحمن: ما أدركنا أحداً من فقهائنا إلا يقول: بأن الأقراء هي الأطهار، فإذا طلق الرجل في طهر لم يطأ فيه اعتدت بما بقي منه ولو ساعة ولو لحظة، ثم استقبلت طهراً ثانياً بعد حيضة، فإذا رأت الدم من الحيضة الثالثة خرجت من العدة انتهى. وعندي أن لا حجة في بعض ما احتج به أهل القولين جميعاً. أما قول الأولين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "دعي الصلاة أيام أقرائك" فغاية ما في هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق الأقراء على الحيض، ولا نزاع في جواز ذلك كما هو شأن اللفظ المشترك فإنه يطلق تارة على هذا، وتارة على هذا وإنما النزاع في الأقراء المذكورة في هذه الآية وأما قوله صلى الله عليه وسلم في الأمة: "وعدتها حيضتان" فهو حديث أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه والدارقطني والحاكم وصححه من حديث عائشة مرفوعاً. وأخرجه ابن ماجه والبيهقي من حديث ابن عمر مرفوعاً أيضاً، ودلالته على ما قاله الأولون قوية. وأما قولهم: إن المقصود من العدة استبراء الرحم وهو يحصل بالحيض لا بالطهر. فيجاب عنه بأنه إنما يتم لو لم يكن في هذه العدة شيء من الحيض على فرض تفسير الأقراء بالأطهار، وليس كذلك بل هي مشتملة على الحيض كما هي مشتملة على الأطهار وأما استدلال أهل القول الثاني بقوله تعالى: "فطلقوهن لعدتهن" فيجاب عنه بأن التنازع في اللام في قوله: "لعدتهن" يصير ذلك محتملاً، ولا تقوم الحجة بمحتمل. وأما استدلالهم بقوله صلى الله عليه وسلم لعمر: "مره فليراجعها" الحديث فهو في الصحيح، ودلالته قوية على ما ذهبوا إليه، ويمكن أن يقال: إنها تنقضي العدة بثلاثة أطهار أو بثلاث حيض، ولا مانع من ذلك فقد جوز جمع من أهل العلم حمل المشترك على معنييه، وبذلك يجمع بين الأدلة، ويرتفع الخلاف، ويندفع النزاع. وقد استشكل الزمخشري تمييز الثلاثة بقوله: قروء وهي جمع كثرة دون أقراء التي هي من جموع القلة. وأجاب بأنهم يتسعون في ذلك فيستعملون كل واحد من الجمعين مكان الآخر لاشتراكهما في الجمعية. قوله: "ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن" قيل: المراد به الحيض، وقيل: الحمل، وقيل: كلاهما، ووجه النهي عن الكتمان ما فيه في بعض الأحوال من الإضرار بالزوج وإذهاب حقه، فإذا قالت المرأة: حضت وهي لم تحض ذهبت بحقه من الارتجاع، وإذا قالت: لم تحض وهي قد حاضت ألزمته من النفقة ما لم يلزمه فأضرت به، وكذلك الحمل ربما تكتمه لتقطع حقه من الارتجاع، وربما تدعيه لتوجب عليه النفقة، ونحو ذلك من المقاصد المستلزمة للإضرار بالزوج. وقد اختلفت الأقوال في المدة التي تصدق فيها المرأة إذا ادعت انقضاء عدتها. وقوله: "إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر" فيه وعيد شديد للكاتمات، وبيان أن من كتمت ذلك منهن لم تستحق اسم الإيمان. والبعولة جمع بعل وهو الزوج، سمي بعلاً لعلوه على الزوجة لأنهم يطلقونه على الرب، ومنه قوله تعالى: "أتدعون بعلاً" أي رباً، ويقال: بعول وبعولة كما يقال في جمع الذكر ذكور وذكورة، وهذه التاء لتأنيث الجمع وهو شاذ لا يقاس عليه بل يعتبر فيه السماع، والبعولة أيضاً تكون مصدراً من بعل الرجل يبعل، مثل منع يمنع: أي صار بعلاً. وقوله: "أحق بردهن" أي برجعتهن، وذلك يختص بمن كان يجوز للزوج مراجعتها فيكون في حكم التخصيص لعموم قوله: "والمطلقات يتربصن بأنفسهن" لأنه يعم المطلقات وغيرهن. وقوله: "في ذلك" يعني في مدة التربص، فإن انقضت مدة التربص فهي أحق بنفسها، ولا تحل له إلا بنكاح مستأنف بولي وشهود ومهر جديد، ولا خلاف في ذلك، والرجعة تكون باللفظ وتكون بالوطء، ولا يلزم المراجع شيء من أحكام النكاح بلا خلاف. وقوله: "إن أرادوا إصلاحاً" أي بالمراجعة: أي إصلاح حاله معها وحالها معه، فإن قصد الإضرار بها فهي محرمة لقوله تعالى: "ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا" قيل: وإذا قصد بالرجعة الضرار فهي صحيحة وإن ارتكب بذلك محرماً وظلم نفسه، وعلى هذا فيكون الشرط المذكور في الآية لحث الأزواج على قصد الصلاح والزجر لهم عن قصد الضرار، وليس المراد به جعل قصد الإصلاح شرطاً لصحة الرجعة. قوله: "ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف" أي لهن من حقوق الزوجية على الرجال بمثل ما للرجال عليهن، فيحسن عشرتها بما هو معروف من عادة الناس أنهم يفعلونه لنسائهم، وهي كذلك تحسن عشرة زوجها بما هو معروف من عادة الناس أنهم يفعلونه لنسائهم، وهي كذلك تحسن عشرة زوجها بما هو معروف من عادة النساء أنهن يفعلنه لأزواجهن من طاعة وتزين وتحبب ونحو ذلك. قوله: "وللرجال عليهن درجة" أي منزلة ليست لهن وهو قيامه عليها في الإنفاق، وكونه من أهل الجهاد والعقل والقوة، وله من الميراث أكثر مما لها، وكونه يجب عليها امتثال أمره والوقوف عند رضاه ولو لم يكن من فضيلة الرجال على النساء إلا كونهن خلقن من الرجال لما ثبت أن حواء خلقت من ضلع آدم. وقد أخرج أبو داود وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية قالت: طلقت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن للمطلقة عدة، فأنزل الله حين طلقت العدة للطلاق فقال: "والمطلقات يتربصن" الآية. وأخرج أبو داود والنسائي وابن المنذر عن ابن عباس "والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء" ثم قال: "واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر" فنسخ وقال: "ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها". وأخرج مالك والشافعي وعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والدارقطني والبيهقي من طرق عائشة أنها قالت: الأقراء الأطهار. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر والبيهقي عن ابن عمر وزيد بن ثابت مثله. وأخرج المذكورون عن عمرو بن دينار قال الأقراء: الحيض عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. وأخرج البيهقي وابن جرير عن ابن عباس في قوله: "ثلاثة قروء" قال: ثلاث حيض. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في قوله تعالى: "ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن" قال: كانت المرأة تكتم حملها حتى تجعله لرجل آخر فنهاهن الله عن ذلك. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عمر في الآية قال: الحمل والحيض. وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس في قوله تعالى: "وبعولتهن أحق بردهن" يقول: إذا طلق الرجل امرأته تطليقة أو تطليقتين وهي حامل فهو أحق برجعتها ما لم تضع حملها، وهو قوله: "ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن". وأخرج عبد بن حميد وابن جرير والبيهقي عن مجاهد في قوله: "وبعولتهن أحق بردهن في ذلك" قال: في العدة. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن قتادة مثله، وزاد ما لم يطلقها ثلاثاً. وأخرج ابن جرير عن الضحاك في قوله: "ولهن مثل الذي عليهن" قال: إذا أطعن الله وأطعن أزواجهن فعليه أن يحسن صحبتها، ويكف عنها أذاه، وينفق عليها من سعته. وقد أخرج أهل السنن عن عمرو بن الأحوص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا إن لكم على نسائكم حقاً ولنسائكم عليكم حقاً، إما حقكم على نسائكم أن لا يوطئن فرشكم من تكرهون ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون، ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن" وصححه الترمذي. وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن جرير والحاكم وصححه والبيهقي عن معاوية بن حيدة القشيري "أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم ما حق المرأة على الزوج؟ قال: أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت ولا تضرب الوجه، ولا تهجر إلا في البيت". وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله: "وللرجال عليهن درجة" قال: فضل ما فضله الله به عليها من الجهاد وفضل ميراثه على ميراثها وكل ما فضل به عليها. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن أبي مالك في الآية قال: يطلقها وليس لها من الأمر شيء. وأخرجا عن زيد بن أسلم قال: الإمارة.

الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آَتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاح

المراد بالطلاق المذكور هو الرجعي بدليل ما تقدم في الآية الأولى: أي الطلاق الذي تثبت فيه الرجعة للأزواج هو مرتان: أي الطلقة الأولى والثانية، إذ لا رجعة بعد الثالثة، وإنما قال سبحانه: 229- "مرتان" ولم يقل طلقتان إشارة إلى أنه ينبغي أن يكون الطلاق مرة بعد مرة، لا طلقتان دفعة واحدة، كذا قال جماعة من المفسرين، ولما لم يكن بعد الطلقة الثانية إلا أحد أمرين، إما إيقاع الثالثة التي بها تبين الزوجة، أو الإمساك لها واستدامة نكاحها، وعدم إيقاع الثالثة عليها قال سبحانه: "فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان" أي فإمساك بعد الرجعة لمن طلقها زوجها طلقتين بمعروف: أي بما هو معروف عند الناس من حسن العشرة "أو تسريح بإحسان" أي بإيقاع طلقة ثالثة عليها من دون ضرار لها، وقيل المراد: "فإمساك بمعروف" أي برجعة بعد الطلقة الثانية "أو تسريح بإحسان" أي بترك الرجعة بعد الثانية حتى تنقضي عدتها. والأول أظهر. وقوله: "الطلاق" مبتدأ بتقدير مضاف: أي عدد الطلاق الذي تثبت فيه الرجعة مرتان. وقد اختلف أهل العلم في إرسال الثلاث دفعة واحدة هل يقع ثلاثاً أو واحدة فقط فذهب إلى الأول الجمهور، وذهب إلى الثاني من عداهم وهو الحق. وقد قررته في مؤلفاتي تقريراً بالغاً، وأفردته برسالة مستقلة. قوله: "ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً" الخطاب للأزواج: أي لا يحل للأزواج أن يأخذوا مما دفعوه إلى نسائهم من المهر شيئاً على وجه المضارة لهن، وتنكير "شيئاً" للتحقير: أي شيئاً نزراً فضلاً عن الكثير، وخص ما دفعوه إليهن بعدم حل الأخذ منه مع كونه لا يحل للأزواج أن يأخذوا شيئاً من أموالهن التي يملكنها من غير المهر لكون ذلك هو الذي تتعلق به نفس الزوج، وتتطلع لأخذه دون ما عداه، مما هو في ملكها، على أنه إذا كان أخذ ما دفعه إليها لا يحل له كان ما عداه ممنوعاً منه بالأولى- وقيل: الخطاب في قوله: "ولا يحل لكم" للأئمة والحكام ليطابق قوله: "فإن خفتم" فإن الخطاب فيه للأئمة والحكام، وعلى هذا يكون إسناد الأخذ إليهم لكونهم الآمرين بذلك. والأول أولى لقوله: "مما آتيتموهن" فإن إسناده إلى غير الأزواج بعيد جداً، لأن إيتاء الأزواج لم يكن عن أمرهم- وقيل: إن الثاني أولى لئلا يتشوش النظم. قوله: "إلا أن يخافا" أي لا يجوز لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً إلا أن يخافا " أن لا يقيما حدود الله " أي عدم إقامة حدود الله التي حدها للزوجين، وأوجب عليهما الوفاء بها من حسن العشرة والطاعة، فإن خافا ذلك "فلا جناح عليهما فيما افتدت به" أي لا جناح على الرجل في الأخذ، وعلى المرأة في الإعطاء بأن تفتدي نفسها من ذلك النكاح ببذل شيء من المال يرضى به الزوج فيطلقها لأجله، وهذا هو الخلع وقد ذهب الجمهور إلى جواز ذلك للزوج، وأنه يحل له الأخذ مع ذلك الخوف وهو الذي صرح به القرآن. وحكى ابن المنذر عن بعض أهل العلم أنه لا يحل له ما أخذ ولا يحبر على رده، وهذا في غاية السقوط. وقرأ حمزة: "إلا أن يخافا" على البناء للمجهول، والفاعل محذوف، وهو الأئمة والحكام واختاره أبو عبيد قال لقوله: "فإن خفتم" فجعل الخوف لغير الزوجين. وقد احتج بذلك من جعل الخلع إلى السلطان، وهو سعيد بن جبير والحسن وابن سيرين. وقد ضعف النحاس اختيار أبي عبيد المذكور . وقوله: " فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله " أي إذا خاف الأئمة والحكام، أو المتوسطون بين الزوجين وإن لم يكونوا أئمة وحكاماً عدم إقامة حدود الله من الزوجين، وهي ما أوجبه عليهما كما سلف. وقد حكي عن بكر بن عبد الله المدني أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى في سورة النساء: "وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً أتأخذونه بهتاناً وإثماً مبيناً" وهو قول خارج عن الإجماع ولا تنافي بين الاثنين. وقد اختلف أهل العلم إذا طلب الزوج من المرأة زيادة على ما دفعه إليها من المهر وما يتبعه ورضيت بذلك المرأة هل يجوز أم لا؟ وظاهر القرآن الجواز لعدم تقييده بمقدار معين، وبهذا قال مالك والشافعي وأبو ثور، وروي مثل ذلك عن جماعة من الصحابة والتابعين وقال طاوس وعطاء والأوزاعي وأحمد وإسحاق: إنه لا يجوز، وسيأتي ما ورد في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقوله تعالى: "تلك حدود الله" أي أحكام النكاح والفراق المذكورة هي حدود الله التي أمرتم بامتثالها، فلا تعتدوها بالمخالفة لها فتستحقوا ما ذكره الله من التسجيل على فاعل ذلك بأنه ظالم.

فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ

قوله تعالى: 230- "فإن طلقها" أي الطلقة الثالثة التي ذكرها سبحانه بقوله: "أو تسريح بإحسان" أي فإن وقع منه ذلك فقد حرمت عليه بالتثليث "فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره" أي حتى تتزوج بزوج آخر. وقد أخذ بظاهر الآية سعيد بن المسيب ومن وافقه قالوا: يكفي مجرد العقد لأنه المراد بقوله: "حتى تنكح زوجاً غيره" وذهب الجمهور من السلف والخلف إلى أنه لا بد مع العقد من الوطء لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من اعتبار ذلك وهو زيادة يتعين قبولها، ولعله لم يبلغ سعيد بن المسيب ومن تابعه، وفي الآية دليل على أنه لا بد من أن يكون ذلك نكاحاً شرعياً مقصوداً لذاته لا نكاحاً غير مقصود لذاته، بل حيلة للتحليل، وذريعة إلى ردها إلى الزوج الأول، فإن ذلك حرام للأدلة الواردة في ذمه وذم فاعله، وأنه التيس المستعار الذي لعنه الشارع ولعن من اتخذه لذلك. قوله: "فإن طلقها" أي الزوج الثاني "فلا جناح عليهما" أي الزوج الأول والمرأة "أن يتراجعا" أي يرجع كل واحد منهما لصاحبه. قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الحر إذا طلق زوجته ثلاثاً ثم انقضت عدتها ونكحت زوجاً ودخل بها ثم فارقها وانقضت عدتها ثم نكحها الزوج الأول أنها تكون عنده على ثلاث تطليقات. قوله: "إن ظنا أن يقيما حدود الله" أي حقوق الزوجية الواجبة لكل منهما على الآخر. وأما إذا لم يحصل ظن ذلك بأن يعلما أو أحدهما عدم الإقامة لحدود الله، أو ترددا أو أحدهما ولم يحصل لهما الظن، فلا يجوز الدخول في هذا النكاح لأنه مظنة للمعصية لله والوقوع فيما حرمه على الزوجين. وقوله: "وتلك حدود الله" إشارة إلى الأحكام المذكورة كما سلف، وخص الذين يعلمون مع عموم الدعوة للعالم وغيره، ووجوب التبليغ لكل فرد، لأنهم المنتفعون بالبيان المذكور. وقد أخرج مالك والشافعي وعبد بن حميد والترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن هشام بن عروة عن أبيه قال: كان الرجل إذا طلق امرأته ثم ارتجعها قبل أن تنقضي عدتها كان ذلك له وإن طلقها ألف مرة، فعمد رجل إلى امرأته فطلقها حتى وإذا ما دنا وقت انقضاء عدتها أرجعها، ثم طلقها، ثم قال: والله لا آويك إلى ولا تحلين أبداً، فأنزل الله: "الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان" فاستقبل الناس الطلاق جديداً من يومئذ من كان منهم طلق ومن لم يطلق. وأخرج نحوه الترمذي وابن مردويه والحاكم وصححه عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة. وأخرج البخاري عنها: أنها أتتها امرأة فسألتها عن شيء من الطلاق، قالت: فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت: "الطلاق مرتان". وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وأحمد وعبد بن حميد وأبو داود في ناسخه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي عن أبي رزن الأسدي قال: "قال رجل: يا رسول الله أرأيت قول الله الطلاق مرتان، فأين الثالثة؟ قال: التسريح بإحسان الثالثة". وأخرج نحوه ابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس مرفوعاً. وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد أنه قال: قال الله للثالثة: "فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان". وأخرج ابن أبي حاتم عن يزيد بن أبي حبيب قال: التسريح في كتاب الله الطلاق. وأخرج البيهقي من طريق السدي عن ابن عباس وابن مسعود وناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "الطلاق مرتان" قالوا: وهو الميقات الذي تكون فيه الرجعة، فإذا طلق واحدة أو اثنتين، فإما أن يمسك ويراجع بمعروف، وإما أن يسكت عنها حتى تنقضي عدتها فتكون أحق بنفسها. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان الرجل يأكل من مال امرأته الذي نحلها وغيره لا يرى أن عليه جناحاً، فأنزل الله: "ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً" فلم يصح لهم بعد هذه الآية أخذ شيء من أموالهن إلا بحقها، ثم قال: " إلا أن يخافا أن لا يقيما حدود الله فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله " وقال: "فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: " إلا أن يخافا أن لا يقيما حدود الله " قال: إلا أن يكون النشوز وسوء الخلق من قبلها، فتدعوك إلى أن تفتدي منك فلا جناح عليك فيما افتدت به. وأخرج مالك والشافعي وأحمد وأبو داود والنسائي والبيهقي من طريق عمرة بنت عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة "عن حبيبة بنت سهل الأنصاري أنها كانت تحب ثابت بن قيس، وأن رسول الله خرج إلى الصبح فوجدها عند بابه في الغلس فقال: من هذه؟ قالت: أنا حبيبة بنت سهل، فقال: ما شأنك؟ قالت: لا أنا ولا بأنت، فلما جاء ثابت بن قيس قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذه حبيبة بنت سهل، فذكرت ما شاء الله أن تذكر، فقالت حبيبة: يا رسول الله كل ما أعطاني عنده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذ منها، فأخذ منها وجلست في أهلها". وأخرج ابن جرير عن ابن جريج قال: نزلت هذه الآية في ثابت بن قيس وفي حبيبة، وكانت اشتكته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تردين عليه حديقته؟ قالت: نعم، فدعاه فذكر ذلك له، فقال: ويطيب لي ذلك، قال: نعم، قال ثابت: قد فعلت، فنزلت "ولا يحل لكم أن تأخذوا" الآية". وأخرج عبد الرزاق وأبو داود وابن جرير والبيهقي من طريق عمرة عن عائشة نحوه. وأخرج البخاري والنسائي وابن ماجه وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس "أن جميلة بنت عبد الله بن سلول امرأة ثابت بن قيس بن شماس أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله ثابت بن قيس ما أعتب عليه في خلق ولا دين، ولكن لا أطيقه بغضاً وأكره الكفر في الإسلام، قال: أتردين عليه حديقته؟ قالت: نعم، قال: أقبل الحديقة وطلقها تطليقة". ولفظ ابن ماجه "فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ منها حديقته ولا يزداد". وأخرج البيهقي من طريق عطاء قال: "أتت امرأة النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: إني أبغض زوجي وأحب فراقه، قال: أتريدين عليه حديقته التي أصدقك؟ قالت: نعم وزيادة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم أما الزيادة من مالك فلا". وأخرج البيهقي عن أبي الزبير أن ثابت بن قيس ذكر القصة، وفيه "أما الزيادة فلا". وأخرج ابن مردويه بإسناد جيد عن ابن عباس، وفيه "أنه أمر النبي صلى الله عليه وسلم ثابتاً أن يأخذ ما ساق ولا يزداد". وأخرج البيهقي عن أبي سعيد وذكر القصة، وفيها "فردت عليه حديقته وزادت". وأخرج ابن جرير عن عمر أنه قال في بعض المختلعات: اخلعها ولو من قرطها. وفي لفظ أخرجه عبد الرزاق عنه أنه قال للزوج: "خذ ولو عقاصها". قال البخاري: أجاز عثمان الخلع دون عقاصها. وأخرج عبد بن حميد والبيهقي عن عطاء أن النبي صلى الله عليه وسلم كره أن يأخذ من المختلعة أكثر مما أعطاها. وقد ورد في ذم المختلعات أحاديث منها عن ثوبان عند أحمد وأبي داود والترمذي وحسنه وابن ماجه وابن جرير والحاكم وصححه والبيهقي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة وقال: المختلعات هن المنافقات". ومنها عن ابن عباس عند ابن ماجه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تسأل المرأة زوجها الطلاق في غير كنهه فتجد ريح الجنة، وإن ريحها ليوجد مسيرة أربعين عاماً". ومنها عن أبي هريرة عند أحمد والنسائي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المختلعات والمنتزعات هن المنافقات" ومنها عن عقبة عند ابن جرير مرفوعاً مثل حديث أبي هريرة. وقد اختلف أهل العلم في عدة المختلعة، والراجح أنها تعتد بحيضة لما أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه والنسائي والحاكم وصححه عن ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر امرأة ثابت بن قيس أن تعتد بحيضة". ولما أخرجه الترمذي عن الربيع بنت معوذ بن عفراء "أنها اختلعت على عهد رسول الله، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تعتد بحيضة، أو أمرت أن تعتد بحيضة". قال الترمذي: الصحيح أنها أمرت أن تعتد بحيضة. وأخرج النسائي وابن ماجه عنها أنها قالت: اختلعت من زوجي، فجئت عثمان فسألته ماذا علي من العدة؟ فقال: لا عدة عليك إلا أن يكون حديث عهد بك فتمكثين حتى تحيضي حيضة، قالت: إنما أتبع في ذلك قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في مريم المغالية، وكانت تحب ثابت بن قيس فاختلعت منه. وأخرج النسائي عن الربيع بنت معوذ "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر امرأة ثابت بن قيس أن تتربص حيضة واحدة فتلحق بأهلها" ولم يرد ما يعارض هذا من المرفوع، بل ورد عن جماعة من الصحابة والتابعين أن عدة المختلعة كعدة الطلاق، وبه قال الجمهور. قال الترمذي: وهو قول أكثر أهل العلم من الصحابة وغيرهم، واستدلوا على ذلك بأن المختلعة من جملة المطلقات، فهي داخلة تحت عموم القرآن. والحق ما ذكرناه، لأن ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم يخصص عموم القرآن. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس في قوله: "فإن طلقها فلا تحل له" يقول: فإن طلقها ثلاثاً فلا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره. وأخرج ابن المنذر عن علي نحوه. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة نحوه. وأخرج الشافعي وعبد الرزاق وابن أبي شيبة وأحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه والبيهقي عن عائشة قالت: "جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إني كنت عند رفاعة فطلقني فبت طلاقي، فتزوجني عبد الرحمن بن الزبير وما معه إلا مثل هدبة الثوب، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك". وقد روي نحو هذا عنها من طرق. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وأحمد والنسائي وابن ماجه وابن جرير والبيهقي عن عمر مرفوعاً نحوه. وأخرج أحمد وابن جرير والبيهقي عن أنس مرفوعاً نحوه أيضاً. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير عن أبي هريرة مرفوعاً نحوه، ولم يسم هؤلاء الثلاثة الصحابة صاحبة القصة. وأخرج أحمد والنسائي عن ابن عباس "أن العميصاء أو الرميصاء أتت النبي صلى الله عليه وسلم" وفي آخره "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ليس ذلك لك حتى يذوق عسيلتك رجل غيره". وقد ثبت لعن المحلل في أحاديث منها عن ابن مسعود عند أحمد والترمذي وصححه والنسائي والبيهقي في سننه قال: "لعن النبي صلى الله عليه وسلم المحلل والمحلل له" ومنها عن علي عند أحمد وأبي داود والترمذي وابن ماجه والبيهقي مرفوعاً مثل حديث ابن مسعود، ومنها عن جابر مرفوعاً عند الترمذي مثله، ومنها عن ابن عباس مرفوعاً عند ابن ماجه مثله، ومنها عن عقبة بن عامر عند ابن ماجه والحاكم وصححه والبيهقي مرفوعاً مثله، ومنها عن أبي هريرة مرفوعاً عند أحمد وابن أبي شيبة والبيهقي مثله. وفي الباب أحاديث في ذم التحليل وفاعله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس في قوله: "فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا" يقول: إذا تزوجت بعد الأول فدخل بها الآخر فلا حرج على الأول أن يتزوجها إذا طلقها الآخر أو مات عنها فقد حلت له. وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل في قوله: "أن يقيما حدود الله" قال: أمر الله وطاعته.

وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آَيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُو

البلوغ إلى الشيء: معناه الحقيقي الوصول إليه، ولا يستعمل البلوغ بمعنى المقاربة إلا مجازاً لعلاقة مع قرينة كما هنا، فإنه لا يصح إرادة المعنى الحقيقي، لأن المرأة إذاً قد بلغت آخر جزء مع قرينة كما هنا، فإنه لا يصح إرادة المعنى الحقيقي، لأن المرأة إذاً قد بلغت آخر جزء من العدة وجاوزته إلى الجزء الذي هو الأجل للإنقضاء فقد خرجت من العدة، ولم يبق للزوج عليها سبيل. قال القرطبي في تفسيره: إن معنى: 231- "بلغن" هنا قاربن بإجماع العلماء. قال: ولأن المعنى يضطر إلى ذلك، لأنه بعد بلوغ الأجل لا خيار له في الإمساك، والإمساك بمعروف: هو القيام بحقوق الزوجية: أي إذا طلقتم النساء فقاربن آخر العدة فلا تضاروهن بالمراجعة من غير قصد لاستمرار الزوجية واستدامتها، بل اختاروا أحد أمرين: إما الإمساك بمعروف من غير قصد لضرار أو التسريح بإحسان: أي تركها حتى تنقضي عدتها من غير مراجعة ضرار، ولا تمسكوهن ضراراً كما كانت تفعل الجاهلية من طلاق المرأة حتى يقرب انقضاء عدتها، ثم مراجعتها لا عن حاجاة ولا لمحبة، ولكن لقصد تطويل العدة وتوسيعها مدة الانتظار "ضراراً" لقصد الاعتداء منكم عليهن والظلم لهن ‌"ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه" لأنه عرضها لعقاب الله وسخطه. قال الزجاج: يعني عرض نفسه للعذاب، لأن إتيان ما نهى الله عنه تعرض لعذاب الله "ولا تتخذوا آيات الله هزواً" أي لا تتخذوا أحكام الله على طريقة الهزؤ، فإنها جد كلها، فمن هزل فيها فقد لزمته- نهاهم سبحانه أن يفعلوا كما كانت الجاهلية تفعل، فإنه كان يطلق الرجل منهم أو يعتق أو يتزوج ويقول كنت لاعباً. قال القرطبي: ولا خلاف بين العلماء أن من طلق هازلاً أن الطلاق يلزمه. قوله: " واذكروا نعمة الله عليكم " أي النعمة التي صرتم فيها بالإسلام وشرائعه بعد أن كنتم في جاهلية جهلاء، وظلمات بعضها فوق بعض والكتاب: هو القرآن. والحكمة قال المفسرون: هي السنة التي سنها لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم "يعظكم به" أي يخوفكم بما أنزل عليكم، وأفراد الكتاب والحكمة بالذكر مع دخولهما في النعمة دخولاً أولياً، تنبيهاً على خطرهما وعظم شأنهما. وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان الرجل يطلق امرأته ثم يراجعها قبل انقضاء عدتها ثم يطلقها، فيفعل بها ذلك يضارها ويعطلها، فأنزل الله "وإذا طلقتم النساء" الآية. وأخرج نحوه مالك وابن جرير وابن المنذر عن ثور بن يزيد. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير والبيهقي عن الحسن في قوله: "ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا" قالك هو الرجل يطلق امرأته فإذا أرادت أن تنقضي عدتها أشهج على رجعتها، يريد أن يطول عليها. وأخرج ابن ماجه وابن جرير والبيهقي عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما بال أقوام يلعبون بحدود الله يقول: قد طلقتك، قد راجعتك، قد طلقتك، قد راجعتك، ليس هذا طلاق المسلمين، طلقوا المرأة في قبل عدتها". وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن عبادة بن الصامت قال: " كان الرجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول للرجل: زوجتك ابنتي، ثم يقول: كنت لاعباً، ويقول: قد أعتقت، ويقول: كنت لاعباً، فأنزل الله سبحانه: "ولا تتخذوا آيات الله هزواً" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثلاث من قالهن لاعباً أو غير لاعب فهن جائزات عليه: الطلاق، والنكاح، والعتاق". وأخرج ابن مردويه عن أبي الدرداء قال:" كان الرجل يطلق ثم يقول: لعبت ويعتق ثم يقول: لعبت فأنزل الله: "ولا تتخذوا آيات الله هزواً" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من طلق أو أعتق فقال: لعبت فليس قوله بشيء يقع عليه فيلزمه". وأخرج ابن مردويه أيضاً عن ابن عباس قال: طلق رجل امرأته وهو يلعب لا يريد الطلاق، فأنزل الله ولا تتخذوا آيات الله هزواً فألزمه رسول الله صلى الله عليه وسلم الطلاق. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن مرفوعاً نحو حديث عبادة. وأخرج أبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجه والحاكم وصححه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح، والطلاق، والرجعة".

وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ و

الخطاب في هذه الآية بقوله: 232- "وإذا طلقتم" وبقوله: "فلا تعضلوهن" إما أن يكون للأزواج، ويكون معنى العضل منهم أن يمنعوهن من أن يتزوجن من أردن من الأزواج بعد انقضاء عدتهن لحمية الجاهلية، كما يقع كثيراً من الخلفاء والسلاطين غيرة على من كن تحتهم من النساء أن يصرن تحت غيرهم، لأنهم لما نالوه من رياسة الدنيا وما صاروا فيه من النخوة والكبرياء يتخيلون أنهم قد خرجوا من جنس بني آدم إلا من عصمه الله منهم بالورع والتواضع، وإما أن يكون الخطاب للأولياء، ويكون معنى إسناد الطلاق إليهم أنهم سبب له لكونهم المزوجين للنساء المطلقات من الأزواج المطلقين لهن. وبلوغ الأجل المذكور هنا المراد به المعنى الحقيقي: أي نهايته لا كما سبق في الآية الأولى. والعضل: الحبس. وحكى الخليل دجاجة معضلة قد احتبس بيضها، وقيل العضل: التضييق والمنع، وهو راجع إلى معنى الحبس، يقال: أردت أمراً فعضلتني عنه: أي منعتني وضيقت علي، وأعضل الأمر: إذا ضاقت عليك فيه الحيل. وقال الأزهري: أصل العضل من قولهم عضلت الناقة: إذا نشب ولدها فلم يسهل خروجه، وعضلت الدجاجة: نشب بيضها، وكل مشكل عند العرب معضل، ومنه قول الشافعي رحمه الله: ‌‌إذا المعضلات تصدين لي كشفت خفاء لها بالنظر ويقال أعضل الأمر: إذا اشتد، وداء عضال: أي شديد عسير البرء أعيا الأطباء، وعضل فلان آيمه: أي منعها. يعضلها بالضم والكسر لغتان. وقوله: "أن ينكحن" أي من أن ينكحن فمحله الجر عند الخليل، والنصب عند سيبويه والفراء، وقيل: هو بدل اشتمال من الضمير المنصوب في قوله: "فلا تعضلوهن". وقوله: "أزواجهن" إن أريد به المطلقون لهن فهو مجاز باعتبار ما كان، وإن أريد به من يردن أن يتزوجنه فهو مجاز باعتبار ما سيكون. وقوله: "ذلك" إشارة إلى ما فصل من الأحكام، وإنما أفرد مع كون المذكور قبله جمعاً حملاً على معنى الجمع بتأويله بالفريق ونحوه. وقوله: "ذلكم" محمول على لفظ الجمع، خالف سبحانه ما بين الإشارتين افتناناً. وقوله: "أزكى" أي أنمى وأنفع "وأطهر" من الأدناس "والله يعلم" ما لكم فيه الصلاح "وأنتم لا تعلمون" ذلك. وقد أخرج البخاري وأهل السنن وغيرهم عن معقل بن يسار قال: كانت لي أخت فأتاني ابن عم فأنكحتها إياه، فكانت عنده ما كانت، ثم طلقها تطليقة لم يراجعها حتى انقضت العدة، فهويها وهويته ثم خطبها مع الخطاب فقلت له: يا لكع أكرمتك بها وزوجتكها فطلقتها ثم جئت تخطبها، والله لا ترجع إليك أبداً، وكان رجلاً لا بأس به، وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه، فعلم الله حاجته إليها وحاجته إلى بعلها فأنزل الله "وإذا طلقتم النساء" الآية. قال: ففي نزلت هي الآية، فكفرت عن يميني وأنكحتها إياه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في الرجل يطلق امرأته طلقة أو طلقتين فتنقضي عدتها ثم يبدو له تزويجها وأن يراجعها وتريد المرأة ذلك، فمنعها وليها من ذلك، فنهى الله أن يمنعوها. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن السدي قال: نزلت هذه الآية في جابر بن عبد الله الأنصاري، كانت له ابنة عم فطلقها زوجها تطليقة وانقضت عدتها، فأراد مراجعتها فأبى جابر، فقال: طلقت بنت عمنا ثم تريد أن تنكحها الثانية، وكانت المرأة تريد زوجها، فأنزل الله "وإذا طلقتم النساء". وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل "إذا تراضوا بينهم بالمعروف" يعني بمهر وبينة ونكاح مؤتنف. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن مردويه عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنكحوا الأيامى، فقال رجل: يا رسول الله ما العلائق بينهم؟ قال: ما تراضى عليهن أهلهن". وأخرج ابن المنذر عن الضحاك قال: "والله يعلم وأنتم لا تعلمون" قال: الله يعلم من حب كل واحد منهما لصاحبه ما لا تعلم أنت أيها الولي.

وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا م

لما ذكر الله سبحانه النكاح والطلاق، ذكر الرضاع، لأن الزوجين قد يفترقان وبينهما ولد، ولهذا قيل: إن هذا خاص بالمطلقات، وقيل: هو عام. وقوله: 233- "يرضعن" قيل: هو خبر في معنى الأمر للدلالة على تحقق مضمونه، وقيل: هو خبر على بابه ليس هو في معنى الأمر على حسب ما سلف في قوله: "يتربصن" وقوله: "كاملين" تأكيد للدلالة على أن هذا التقدير تحقيقي لا تقريبي. وقوله: "لمن أراد أن يتم الرضاعة" أي ذلك لمن أراد أن يتم الرضاعة، وفيه دليل على أن إرضاع الحولين ليس حتماً، بل هو التمام، ويجوز الاقتصار على ما دونه. وقرأ مجاهد وابن محيصن لمن أراد أن تنم بفتح التاء ورفع الرضاعة على إسناد الفعل إليها. وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة والجارود بن أبي سبرة بكسر الراء من الرضاعة وهي لغة. وروي عن مجاهد أنه قرأ الرضعة، وقرأ ابن عباس لمن أراد أن يكمل الرضاعة . قال النحاس: لا يعرف البصريون الرضاعة إلا بفتح الراء. وحكى الكوفيون جواز الكسر. والآية تدل على وجوب الرضاع على الأم لولدها، وقد حمل ذلك على ما إذا لم يقبل الرضيع غيرها. قوله: "وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن" أي على الأب الذي يولد له، وآثر هذا اللفظ دون قوله: وعلى الوالد للدلالة على أن الأولاد للآباء لا للأمهات، ولهذا ينسبون إليهم دونهن كأنهن إنما ولدن لهم فقط، ذكر معناه في الكشاف، والمراد بالرزق هنا: الطعام الكافي المتعارف به بين الناس، والمراد بالكسوة: ما يتعارفون به أيضاً، وفي ذلك دليل على وجوب ذلك على الآباء للأمهات المرضعات. وهذا في المطلقات، وأما غير المطلقات فنفقتهن وكسوتهن واجبة على الأزواج من غير إرضاعهن لأولادهن. وقوله: "لا تكلف نفس إلا وسعها" هو تقييد لقوله: "بالمعروف" أي هذه النفقة والكسوة الواجبتان على الأب بما يتعارفه الناس لا يكلف منها إلا ما يدخل تحت وسعه وطاقته لا ما يشق عليه ويعجز عنه، وقيل: المراد لا تكلف المرأة الصبر على التقتير في الأجرة، ولا يكلف الزوج ما هو إسراف، بل يراعى القصد. قوله: "لا تضار" قرأ أبو عمرو وابن كثير وجماعة ورواه أبان عن عاصم بالرفع على الخبر، وقرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي وعاصم في المشهور عنه تضار بفتح الراء المشددة على النهي، وأصله لا تضارر أو لا تضارر على البناء للفاعل أو للمفعول: أي لا تضارر الأب بسبب الولد بأن تطلب منه ما لا يقدر عليه من الرزق والكسوة، أو بأن تمرط في حفظ الولد والقيام بما يحتاج إليه، أو لا تضارر من زوجها بأن يقصر عليها في شيء مما يجب عليه أو ينتزع ولدها منها بلا سبب، وهكذا قراءة الرفع تحتمل الوجهين، وقرأ عمر بن الخطاب لا تضارر على الأصل بفتح الراء الأولى، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع لا تضار بإسكان الراء وتخفيفها، وروي عن الإسكان والتشديد، وقرأ الحسن وابن عباس لا تضارر بكسر الراء الأولى، ويجوز أن تكون الباء في قوله: بولده صلة لقوله: تضار على أنه بمعنى تضر: أي لا تضر والدة بولدها فتسيء تربيته أو تقصر في غذائه، وأضيف الولد تارة إلى الأب وتارة إلى الأم، لأن كل واحد منهما يستحق أن ينسب إليه مع ما في ذلك من الاستعطاف، وهذه الجملة تفصيل للجملة التي قبلها وتقرير لها: أي لا يكلف كل واحد منهما الآخر ما لا يطيقه فلا تضاره بسبب ولده. قوله: "وعلى الوارث" هو معطوف على قوله: "وعلى المولود له" وما بينهما تفسير للمعروف، أو تعليل له معترض بين المعطوف والمعطوف عليه. واختلف أهل العلم في معنى قوله: "وعلى الوارث مثل ذلك" فقيل: هو وارث الصبي: أي إذا مات المولود له على وارث هذا الصبي المولود إرضاعه كما كان يلزم أباه ذلك، قاله عمر بن الخطاب وقتادة والسدي والحسن ومجاهد وعطاء وأحمد وإسحاق وأبو حنيفة وابن أبي ليلى على خلاف بينهم، هل يكون الوجوب على من يأخذ نصيباً من الميراث، أو على الذكور فقط، أو على كل ذي رحم له وإن لم يكن وارثاً منه، وقيل: المراد بالوارث وارث الأب تجب عليه نفقة المرضعة وكسوتها بالمعروف، قاله الضحاك. وقال مالك في تفسير هذه الآية بمثل ما قاله الضحاك، ولكنه قال: إنها منسوخة، وإنما لا تلزم الرحل نفقة أخ ولا ذي قرابة ولا ذي رحم منه، وشرطه الضحاك بأن لا يكون للصبي مال، فإن كان له مال أخذت أجرة رضاعة من ماله. وقيل: المراد بالوارث المذكور في الآية هو الصبي نفسه: أي عليه من ماله إرضاع نفسه إذا مات أبوه وورث من ماله، قاله قبيصة بن ذؤيب وبشير بن ناصر قاضي عمر بن عبد العزيز. وروي عن الشافعي، وقيل: هو الباقي من والدي المولود بعد موت الآخر منهما، فإذا مات الأب كان على الأم كفاية الطفل إذا لم يكن له مال، قاله سفيان الثوري، وقيل: إن معنى قوله تعالى: "وعلى الوارث مثل ذلك" أي: وارث المرضعة يجب عليه أن يصنع بالمولود كما كانت الأم تصنعه به من الرضاع والخدمة والتربية. وقيل: إن معنى قوله تعالى: "وعلى الوارث مثل ذلك" أنه يحرم عليه الإضرار بالأم كما يحرم على الأب، وبه قالت طائفة من أهل العلم، قالوا: وهذا هو الأصل، فمن ادعى أنه يرجع فيه العطف إلى جميع ما تقدم فعليه الدليل. قال القرطبي: وهو الصحيح، إذ لو أراد الجميع الذي هو الرضاع والإنفاق وعدم الضرر يقال: وعلى الوارث مثل هؤلاء، فدل على أنه معطوف على المنع من المضارة، وعلى ذلك تأوله كافة المفسرين فيما حكى القاضي عبد الوهاب. قال ابن عطية: وقال مالك وجميع أصحابه والشعبي والزهري والضحاك وجماعة من العلماء: المراد بقوله مثل ذلك أن لا تضار. وأما الرزق والكسوة فلا يجب شيء منه. وحكى ابن القاسم عن مالك مثل ما قدمنا عنه في تفسير هذه الآية ودعوى النسخ. ولا يخفى عليك ضعف ما ذهبت إليه هذه الطائفة، فإن ما خصصوا به معنى قوله: "وعلى الوارث مثل ذلك" من ذلك المعنى: أي عدم الإضرار بالمرضعة قد أفاده قوله: "لا تضار والدة بولدها" لصدق ذلك على كل مضارة ترد عليها من المولود له أو غيره. وأما قول القرطبي: لو أراد الجميع لقال مثل هؤلاء، فلا يخفى ما فيه من الضعف البين، فإن اسم الإشارة يصلح للمتعدد كما يصلح للواحد بتأويل المذكور أو نحوه. وأما ما ذهب إليه أهل القول الأول من أن المراد بالوارث وارث الصبي، فيقال عليه إن لم يكن وارثاً حقيقة مع وجود الصبي حياً، بل هو وارث مجازاً باعتبار ما يؤول إليه. وأما ما ذهب إليه أهل القول الثاني فهو وإن كان فيه حمل الوارث على معناه الحقيقي، لكن في إيجاب النفقة عليه مع غنى الصبي ما فيه، ولهذا قيده القائل به بأن يكون الصبي فقيراً، ووجه الاختلاف في تفسير الوارث ما تقدم من ذكر الوالدات والمولود له والوالد، فاحتمل أن يضاف الوارث إلى كل منهم. قوله: " فإن أرادا فصالا " الضمير للوالدين. والفصال: الفطام عن الرضاع: أي التفريق بين الصبي والثدي، ومنه سمي الفصيل لأنه مفصول عن أمه. وقوله: "عن تراض منهما" أي صادراً عن تراض من الأبوين إذا كان الفصال قبل الحولين "فلا جناح عليهما" في ذلك الفصال. سبحانه لما بين أن مدة الرضاع حولين كاملين قيد ذلك بقوله: "لمن أراد أن يتم الرضاعة" وظاهره أن الأب وحده إذا أراد أن يفصل الصبي قبل الحولينر كان ذلك جائزاً له، وهنا اعتبر سبحانه تراضي الأبوين ونشاورهما فلا بد من الجمع بين الأمرين بأن يقال: إن الإرادة المذكورة في قوله: "لمن أراد أن يتم الرضاعة" لا بد أن تكون منهما، أو يقال: إن تلك الإرادة إذا لم يكن الأبوان للصبي حيين بأن كان الموجود أحدهما، أو كانت المرضعة للصبي ظئراً غير أمه. والتشاور: استخراج الرأي يقال: شرت العسل: استخرجته، وشرت الدابة: أجريتها لاستخراج جريها، فلا بد لأحد الأبوين إذا أراد فصال الرضيع أن يراضي الآخر ويشاوره حتى يحصل الاتفاق بينهما على ذلك. قوله: "وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم" قال الزجاج: التقدير أن تسترضعوا لأولادكم غير الوالدة. وعن سيبويه أنه حذف اللام لأنه يتعدى إلى مفعولين، والمفعول الأول محذوف، والمعنى: أن تسترضعوا المراضع أولادكم "إذا سلمتم ما آتيتم" بالمد أي أعطيتم، وهي قراءة الجماعة إلا ابن كثير، فإنه قرأ بالقصر: أي فعلتم، ومنه قول زهير: وما كان من خير أتوه فإنما توارثه آباء آبائهم قبل والمعنى أنه لا بأس عليكم أن تسترضعوا أولادكم غير أمهاتكم إذا سلمتم إلى الأمهات أجرهن بحساب ما قد أرضعن لكم إلى وقت إرادة الاسترضاع، قاله سفيان الثوري ومجاهد. وقال قتادة والزهري: إن معنى الآية: إذا سلمتم ما آتيتم من إرادة الاسترضاع أي سلم كل واحد من الأبوين ورضي وكان ذلك عن اتفاق منهما وقصد خير وإرادة معروف من الأمر، وعلى هذا فيكون قوله: "سلمتم" عاماً للرجال والنساء تغليباً وعلى القول الأول الخطاب للرجال فقط، وقيل المعنى: إذا سلمتم لمن أردتم استرضاعها أجرها، فيكون المعنى إذا سلمتم ما أردتم إيتاءه: أي إعطاءه إلى المرضعات بالمعروف: أي بما يتعارفه الناس من أجر المرضعات من دون مماطلة لهن أو حط بعض ما هو لهن من ذلك، فإن عدم توفير أجرهن يبعثهن على التساهل بأمر الصبي والتفريط في شأنه. وقد أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وأبو داود في ناسخه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن مجاهد في قوله: "والوالدات يرضعن أولادهن" قال: المطلقات "حولين" قال: سنتين "لا تضار والدة بولدها" يقول: لا تأبى أن ترضعه ضراراً لتشق على أبيه "ولا مولود له بولده" يقول: ولا يضار الوالد بولده فيمنع أمه أن ترضعه ليحزنها بذلك "وعلى الوارث" قال: يعني الولي من كان "مثل ذلك" قال: النفقة بالمعروف وكفالته ورضاعه إن لم يكن للمولود مال، وأن لا تضار أمه " فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور " قال: غير مسيئين في ظلم أنفسهما ولا إلى صبيهما فلا جناح عليهما " وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم " قال : خيفة الضيعة على الصبي " فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف" قال: حساب ما أرضع به الصبي. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في تفسير هذه الآية أنه قال: المراد بقوله: "والوالدات يرضعن أولادهن" هي في الرجل يطلق امرأته وله منها ولد. وقال في قوله: "إذا سلمتم ما آتيتم" قال: ما أعطيتم الظئر من فضل على أجرها. وأخرج أبو داود في ناسخه عن زيد بن أسلم في قوله: "والوالدات يرضعن أولادهن" قال: إنها المرأة تطلق أو يموت عنها زوجها. وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر والحاكم والبيهقي في سننه عن ابن عباس في التي تضع لستة أشهر أنها ترضع حولين كاملين، وإذا وضعت لسبعة أشهر أرضعت ثلاثة وعشرين شهراً، ثم تلا "وحمله وفصاله ثلاثون شهراً". وأخرج ابن جرير عن الضحاك في قوله: "وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف" قال: على قدر الميسرة. وأخرج أبو داود في ناسخه وابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم في قوله: "لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده" ليس لها أن تلقي ولدها عليه ولا يجد من يرضعه، وليس له أن يضارها فينتزع منها ولدها وهي تحب أن ترضعه "وعلى الوارث" قال: هو ولي الميت. وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء وإبراهيم والشعبي في قوله: "وعلى الوارث" قال: هو وارث الصبي ينفق عليه. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة نحوه، وزاد: إذا كان المولود لا مال له مثل الذي على والده من أجر الرضاع. وأخرج عبد بن حميد عن الحسن نحوه. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن ابن سيرين نحوه أيضاً. وأخرج ابن جرير عن قبيصة بن ذؤيب في قوله: "وعلى الوارث مثل ذلك" قال: هو الصبي. وأخرج وكيع عن عبد الله بن مغفل نحوه. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس في قوله: "وعلى الوارث مثل ذلك" قال: لا يضار. وأخرج ابن جرير عن مجاهد. قال: التشاور فيما دون الحولين ليس لها أن تفطمه إلا أن يرضى، وليس له أن يفطمه إلا أن ترضى. وأخرجوا عن عطاء في قوله تعالى: "وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم" قال: أمه أو غيرها "فلا جناح عليكم إذا سلمتم" قال: إذا سلمت لها أجرها "ما آتيتم" ما أعطيتم.

وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير

لما ذكر سبحانه عدة الطلاق واتصل بذكرها ذكر الإرضاع عقب ذلك بذكر عدة الوفاة، لئلا يتوهم أن عدة الوفاة مثل عدة الطلاق. قاله الزجاج: ومعنى الآية والرجال الذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً: أي ولهم زوجات فالزوجات يتربصن. وقال أبو علي الفارسي: تقديره والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بعدهم، وهو كقولك السمن منوان بدرهم: أي منه. وحكي المهدوي عن سيبويه أن المعنى: وفيما يتلى عليكم الذين يتوفون، وقيل التقدير: وأزواج الذين يتوفون منكم يتربصن، ذكره صاحب الكشاف، وفيه أن قوله: 234- "ويذرون أزواجاً" لا يلائم ذلك التقدير، لأن الظاهر من النكرة المعادة المغايرة. وقال بعض النحاة من الكوفيين: إن الخبر عن الذين متروك، والقصد الإخبار عن أزواجهم بأنهن يتربصن. ووجه الحكمة في جعل العدة للوفاة هذا المقدار أن الجنين الذكر يتحرك في الغالب لثلاثة أشهر، والأنثى لأربعة، فزاد الله سبحانه على ذلك عشراً، لأن الجنين ربما يضعف عن الحركة فتتأخر حركته قليلاً ولا تتأخر عن هذا الأجل. وظاهر هذه الآية العموم، وأن كل من مات عنها زوجها تكون عدتها هذه العدة، ولكنه قد خصص هذا العموم قوله تعالى: "وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن" وإلى هذا ذهب الجمهور. وروي عن بعض الصحابة وجماعة من أهل العلم أن الحامل تعتد بآخر الأجلين جمعاً بين العام والخاص وإعمالاً لهما، والحق ما قاله الجمهور. والجمع بين العام والخاص على هذه الصفة لا يناسب قوانين اللغة ولا قواعد الشرع، ولا معنى لإخراج الخاص من بين أفراد العام إلا بيان أن حكمه مغاير لحكم العام ومخالف له. وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه أذن لسبيعة الأسلمية أن تتزوج بعد الوضع والتربص الثاني والتصبر عن النكاح. وظاهر الآية عدم الفرق بين الصغيرة والكبيرة والحرة والأمة وذات الحيض والآيسة، وأن عدتهن جميعاً للوفاة أربعة أشهر وعشر، وقيل: إن عدة الأمة نصف عدة الحرة شهران وخمسة أيام. قال ابن العربي: إجماعاً إلا ما يحكى عن الأصم فإنه سوى بين الحرة والأمة، وقال الباجي: ولا نعلم في ذلك خلافاً إلا ما يروى عن ابن سيرين أنه قال عدتها عدة الحرة، وليس بالثابت عنه، ووجه ما ذهب إليه الأصم وابن سيرين ما في هذه الآية من العموم، ووجه ما ذهب إلأيه من عداهما قياس عدة الوفاة على الحد فإنه ينصف للأمة بقوله سبحانه: "فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب". وقد تقدم حديث "طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان" وهو صالح للاحتجاج به، وليس المراد منه. إلا جعل طلاقها على النصف من طلاق الحرة، وعدتها على النصف من عدتها، ولكنه لما لم يكن أن يقال: طلاقها تطليقة ونصف وعدتها حيضة ونصف لكون ذلك لا يعقل كانت عدتها وطلاقها ذلك القدر المذكور في الحديث جبراً للكسر، ولكن ها هنا أمر يمنع من هذا القياس الذي عمل به الجمهور، وهو أن الحكمة في جعل عدة الوفاة أربعة أشهر وعشراً هو ما قدمنا من معرفة خلوها من الحمل، ولا يعرف إلا بتلك المدة، ولا فرق بين الحرة والأمة في مثل ذلك، بخلاف كون عدتها في غير الوفاة حيضتين، فإن ذلك يعرف به خلو الرحم، ويؤيد عدم الفرق ما سيأتي في عدة أم الولد. واختلف أهل العلم في عدة أم الولد لموت سيدها. فقال سعيد بن المسيب ومجاهد وسعيد بن جبير والحسن وابن سيرين والزهري وعمر بن عبد العزيز والأوزاعي وإسحاق وابن راهويه وأحمد بن حنبل في رواية عنه: أنها تعتد بأربعة أشهر وعشر لحديث عمرو بن العاص: قال: لا تلبسوا علينا سنة نبينا صلى الله عليه وسلم "عدة أم الولد إذا توفي عنها سيدها أربعة أشهر وعشر". وأخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه والحاكم وصححه، وضعفه أحمد وأبو عبيد. وقال الدارقطني: الصواب أنه موقوف. وقال طاوس وقتادة: عدتها شهران وخمس ليال. وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن صالح: تعتد بثلاث حيض، وهو قول علي وابن مسعود وعطاء وإبراهيم النخعي. وقال مالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه: عدتها حيضة وغير الحائض شهر، وبه يقول ابن عمر والشعبي ومكحول والليث وأبو عبيد وأبو ثور والجمهور. قوله: "فإذا بلغن أجلهن" المراد بالبلوغ هنا: انقضاء العدة "فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن" من التزين والتعرض للخطاب "بالمعروف" الذي لا يخالف شرعاً ولا عادةً مستحسنة. وقد استدل بذلك على وجوب الإحداد على المعتدة عدم الوفاة. وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من غير وجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً" وكذلك ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وغيرهما النهي عن الكحل لمن هي في عدة الوفاة، والإحداد: ترك الزينة من الطيب، وليس الثياب الجيدة والحلي وغير ذلك، ولا خلاف في وجوب ذلك في عدة الوفاة، ولا خلاف في عدم وجوبه في عدة الرجعية، واختلفوا في عدة البائنة على قولين، ومحل ذلك كتب الفروع. وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله: "والذين يتوفون منكم" قال: كان الرجل إذا مات وترك امرأته اعتدت سنة في بيته ينفق عليها من ماله. ثم أنزل الله "والذين يتوفون منكم" الآية فهذه عدة المتوفى عنها إلا أن تكون حاملاً، فعدتها أن تضع ما في بطنها. وقال في ميراثها: "ولهن الربع مما تركتم" فبين ميراث المرأة وترك الوصية والنفقة "فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم" يقول: إذا طلقت المرأة أو مات عنها زوجها، فإذا انقضت عدتها فلا جناح عليها أن تتزين وتتصنع وتتعرض للتزويج، فذلك المعروف. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن أبي العالية قال: ضمت هذه الأيام العشر إلى الأربعة أشهر، لأن في العشر ينفخ فيه الروح. وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك في قوله: "فإذا بلغن أجلهن" يقول: إذا انقضت عدتها. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن شهاب في قوله: "فلا جناح عليكم" يعني أولياءها. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم عن ابن عباس أنه كره للمتوفى عنها زوجها الطيب والزينة. وأخرج مالك وعبد الرزاق وأهل السنن وصححه الترمذي والحاكم عن الفريعة بنت مالك بن سنان وهي أخت أبي سعيد الخدري أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأل أن ترجع إلى أهلها في بني خدرة، وأن زوجها خرج في طلب أعبد لها أبقوا حتى إذا تطرف القدوم لحقهم فقتلوه، قالت: فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أرجع إلى أهلي فإن زوجي لم يتركني في منزل يملكه ولا نفقة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، فانصرفت حتى إذا كانت في الحجرة أو في المسجد فدعاني أو أمر بي فدعيت، فقال: كيف قلت؟ قالت: فرددت إليه القصة التي ذكرت له من شأن زوجي، فقال: امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله. قالت: فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشراً، قالت: فلما كان عثمان بن عفان أرسل إلي فسألني عن ذلك فأخبرته، فاتبعه وقضى به.

وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ

الجناح: الإثم، أي لا إثم عليكم، والتعريض ضد التصريح، وهو من عرض الشيء: أي جانبه كأنه يحوم به حول الشيء ولا يظهره، وقيل هو من قولك: عرضت الرجل: أي أهديت له. ومنه أن ركباً من المسلمين عرضوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ثياباً بيضاً: أي أهدوا لهما، فالمعرض بالكلام يوصل إلى صاحبه كلاماً يفهم معناه. وقال في الكشاف: الفرق بين الكناية والتعريض، أن الكناية أن يذكر الشيء بغير لفظه الموضوع له. والتعريض أن يذكر شيئاً يدل به على شيء لم يذكره، كما يقول المحتاج للمحتاج إليه: جئتك لأسلم عليك، ولأنظر إلى وجهك الكريم، ولذلك قالوا: وحسبك بالتسليم مني تقاضيا وكأنه إمالة الكلام إلى عرض يدل على الغرض، ويسمى التلويح لأنه يلوح منه ما يريده انتهى. والخطبة بالكسر: ما يفعله الطالب من الطلب، والاستلطاف بالقول والفعل، يقال: خطبها يخطبها خطبة وخطباً. وأما الخطبة بضم الخاء فهي الكلام الذي يقوم به الرجل خاطباً. وقوله: 235- "أكننتم" معناه سترتم وأضمرتم من التزويج بعد انقضاء العدة. والإكنان: التستر والإخفاء: يقال: أكننته وكننته بمعنى واحد. ومنه بيض مكنون، ودر مكنون. ومنه أيضاً أكن البيت صاحبه: أي ستره. وقوله: "علم الله أنكم ستذكرونهن" أي علم الله أنكم لا تصبرون عن النطق لهن برغبتكم فيهن، فرخص لكم في التعريض دون التصريح. وقال في الكشاف: إن فيه طرفاً من التوبيخ كقوله: "علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم". وقوله: "ولكن لا تواعدوهن سراً" معناه: على سر، فحذف الحرف لأن الفعل لا يتعدى إلى المفعولين. وقد اختلف العلماء في معنى السر فقيل: معناه نكاحاً: أي لا يقل الرجل لهذه المعتدة تزوجيني بل يعرض تعريضاً. وقد ذهب إلى أن معنى الآية هذا جمهور العلماء، وقيل السر: الزنا، أي لا يكن منكم مواعدة على الزنا في العدة ثم التزويج بعدها. قاله جابر بن زيد وأبو مجلز والحسن وقتادة والضحاك والنخعي واختاره ابن جرير الطبري، ومنه قول الحطيئة: ويحرم سر جارتهم عليهم ويأكل جارهم أنف القصاع وقيل السر: الجماع، أي لا تصفوا أنفسكم لهن بكثرة الجماع ترغيباً لهن في النكاح، وإلى هذا ذهب الشافعي في معنى الآية، ومنه قول امرئ القيس: ألا زعمت بسباسة اليوم أنني كبرت وأن لا يحسن السر أمثالي ومثله قول الأعشى: فلن تطلبوا سرها للغنى ولن تسلموها لأزهادها أراد: تطلبون نكاحها لكثرة مالها، ولن تسلموها لقلة مالها، والاستدراك بقوله: "لكن" من مقدر محذوف دل عليه "ستذكرونهن" أي فاذكروهن "ولكن لا تواعدوهن سراً". قال ابن عطية: أجمعت الأمة على أن الكلام مع المعتدة بما هو رفث من ذكر جماع أو تحريض عليه لا يجوز. وقال أيضاً: أجمعت الأمة على كراهة المواعدة في العدة للمرأة في نفسها وللأب في ابنته البكر وللسيد في أمته. قوله: "إلا أن تقولوا قولاً معروفاً" قيل: هو استثناء منقطع بمعنى لكن، والقول المعروف: هو ما أبيح من التعريض. ومنع صاحب الكشاف أن يكون منقطعاً وقال: هو مستثنى من قوله: "لا تواعدوهن" أي لا تواعدوهن مواعدة قط إلا مواعدة معروفة غير منكرة فجعله على هذا استثناءً مفرغاً، ووجه منع كونه منقطعاً أنه يؤدي إلى جعل التعريض موعوداً وليس كذلك، لأن التعريض طريق المواعدة، لا أنه الموعود في نفسه. قوله: "ولا تعزموا عقدة النكاح" قد تقدم الكلام في معنى العزم، يقال: عزم الشيء، وعزم عليه، والمعنى هنا: لا تعزموا على عقد النكاح ثم حذف على. قال سيبويه: والحذف في هذه الآية لا يقاس عليه. وقال النحاس: يجوز أن يكون المعنى ولا تعقدوا عقدة النكاح، لأن معنى تعزموا وتعقدوا واحد، وقيل: إن العزم على الفعل يتقدمه فيكون في هذا النهي مبالغة، لأنه إذا نهي عن المتقدم على الشيء، كان النهي عن ذلك الشيء بالأولى. قوله: "حتى يبلغ الكتاب أجله" يريد حتى حتى تنقضي العدة، والكتاب هنا هو الحد والقدر الذي رسم من المدة، سماه كتاباً لكونه محدوداً ومفروضاً كقوله تعالى: "إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً" وهذا الحكم أعني تحريم عقد النكاح في العدة مجمع عليه. وقد أخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد والبخاري وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس في قوله: "ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء" قال: التعريض أن تقول: إني أريد التزويج، وإني لأحب المرأة من أمرها وأمرها، وإن من شأني النساء، ولوددت أن الله يسر لي امرأة صالحة. وأخرج ابن جرير عنه أنه يقول لها: إن رأيت لا تسبقني بنفسك، ولوددت أن الله قد هيأ بيني وبينك، ونحو هذا من الكلام. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال: يقول: إني فيك لراغب، ولوددت أني تزوجتك. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن الحسن في قوله: "أو أكننتم" قال: أسررتم. وأخرج عبد الرزاق عن الضحاك مثله. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير عن الحسن في قوله: "علم الله أنكم ستذكرونهن" قال: بالخطيئة. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير عن مجاهد قال: ذكره إياها في نفسه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ولكن لا تواعدوهن سراً" قال: يقول لها: إني عاشق، وعاهديني أن لا تتزوجني غيري ونحو هذا "إلا أن تقولوا قولاً معروفاً" وهو قوله: إن رأيت أن لا تسبقني بنفسك. وأخرج ابن جرير عنه في السر أنه الزنا، كان الرجل يدخل من أجل الزنا وهو يعرض بالنكاح. وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عنه في قوله: "إلا أن تقولوا قولاً معروفاً" قال: يقول: إنك لجميلة، وإنك إلي خير، وإن النساء من حاجتي. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله: "ولا تعزموا عقدة النكاح" قال: لا تنكحوا "حتى يبلغ الكتاب أجله" قال: حتى تنقضي العدة.

لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ

المراد بالجناح هنا التبعة من المهر ونحوه، فرفعه رفع لذلك: أي لا تبعة عليكم بالمهر ونحوه إن طلقتم النساء على الصفة المذكورة، وما في قوله: 236- " ما لم تمسوهن " هي مصدرية ظرفية بتقدير المضاف: أي مدة عدم مسيسكم. ونقل أبو البقاء أنها شرطية من باب اعتراض الشرط على الشرط ليكون الثاني قيداً للأول كما في قولك: إن تأتني إن تحسن إلي أكرمك: أي إن تأتني محسناً إلي، والمعنى: إن طلقتموهن غير ماسين لهن. وقيل إنها موصولة: أي إن طلقتم النساء اللاتي لم تمسوهن، وهكذا اختلفوا في قوله: " أو تفرضوا " فقيل: أو بمعنى إلا: أي إلا أن تفرضوا، وقيل بمعنى حتى: أي حتى تفرضوا، وقيل بمعنى الواو: أي وتفرضوا. ولست أرى لهذا التطويل وجهاً، ومعنى الآية أوضح من أن يلتبس، فإن الله سبحانه رفع الجناح عن المطلقين ما لم يقع أحد الأمرين: أي مدة انتفاء ذلك الأحد، ولا ينتفي الأحد المبهم إلا بانتفاء الأمرين معاً، فإن وجد المسيس وجب المسمى أو مهر المثل، وإن وجد الفرض وجب نصفه مع عدم المسيس، وكل واحد منها جناح: أي المسمى أو نصفه أو مهر المثل. واعلم أن المطلقات أربع: مطلقة مدخول بها مفروض لها، وهي التي تقدم ذكرها قبل هذه الآية، وفيها نهي الأزواج عن أن يأخذوا مما آتوهن شيئاً، وأن عدتهن ثلاثة قروء. ومطلقة غير مفروض لها ولا مدخول بها، وهي المذكورة هنا فلا مهر لها، بل المتعة، وبين في سورة الأحزاب أن غير المدخول بها إذا طلقت فلا عدة عليها. ومطلقة مفروض لها غير مدخول بها، وهي المذكورة بقوله سبحانه هنا: " وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة "، ومطلقة مدخول بها غير مفروض لها، وهي المذكورة في قوله تعالى: "فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن" والمراد بقوله: "ما لم تمسوهن" ما لم تجامعوهن، وقرأ ابن مسعود من قبل أن تجامعوهن. أخرجه عنه ابن جرير، وقرأه نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وعاصم ما لم تمسوهن وقرأه حمزة والكسائي تماسوهن من المفاعلة، والمراد بالفريضة هنا تسمية المهر. قوله: "ومتعوهن" أي أعطوهن شيئاً يكون متاعاً لهن، وظاهر الأمر الوجوب، وبه قال علي وابن عمر والحسن البصري وسعيد بن جبير وأبو قلابة والزهري وقتادة والضحاك ومن أدلة الوجوب قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحاً جميلاً" وقال مالك وأبو عبيد والقاضي شريح وغيرهم: إن المتعة للمطلقة المذكورة مندوبة لا واجبة لقوله تعالى: "حقاً على المحسنين" ولو كانت واجبة لأطلقها على الخلق أجمعين، ويجاب عنه بأن ذلك لا ينافي الوجوب بل هو تأكيد له كما في قوله في الآية الأخرى: "حقاً على المتقين" أي أن الوفاء بذلك والقيام به شأن أهل التقوى، وكل مسلم يجب عليه أن يتقي الله سبحانه، وقد وقع الخلاف أيضاً هل المتعة مشروعة لغير هذه المطلقة قبل المسيس والفرض أم ليست بمشروعة إلا لها فقط؟ فقيل: إنها مشروعة لكل مطلقة، وإليه ذهب ابن عباس وابن عمر وعطاء وجابر بن زيد وسعيد بن جبير وأبو العالية والحسن البصري والشافعي في أحد قوليه وأحمد وإسحاق، ولكنهم اختلفوا هل هي واجبة في غير المطلقة قبل البناء والفرض أم مندوبة فقط، واستدلوا بقوله تعالى: "وللمطلقات متاع بالمعروف حقاً على المتقين" وبقوله تعالى: "يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحاً جميلاً" والآية الأولى عامة لكل مطلقة، والثانية في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وقد كن مفروضاً لهن مدخولاً بهن. وقال سعيد بن المسيب: إنها تجب للمطلقة إذا طلقت قبل المسيس وإن كانت مفروضاً لها لقوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن" قال: هذه الآية التي في الأحزاب نسخت التي في البقرة. وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن المتعة مختصة بالمطلقة قبل البناء والتسمية، لأن المدخول بها تستحق جميع المسمى أو مهر المثل، وغير المدخولة التي قد فرض لها زوجها فريضة: أي سمى لها مهراً وطلقها قبل الدخول تستحق نصف المسمى، ومن القائلين بهذا ابن عمر ومجاهد. وقد وقع الإجماع على أن المطلقة قبل الدخول والفرض لا تستحق إلا المتعة إذا كانت حرة. وأما إذا كانت أمة فذهب الجمهور إلى أن لها المتعة، وقال الأوزاعي والثوري: لا متعة لها لأنها تكون لسيدها، وهو لا يستحق مالاً في مقابل تأذي مملوكته، لأن الله سبحانه إنما شرع المتعة للمطلقة قبل الدخول والفرض، لكونها تتأذى بالطلاق قبل ذلك. وقد اختلفوا في المتعة المشروعة هل هي مقدرة بقدر أم لا؟ فقال مالك والشافعي في الجديد: لا حد لها معروف بل ما يقع عليه اسم المتعة. وقال أبو حنيفة: إنه إذا تنازع الزوجان في قدر المتعة وجب لها نصف مهر مثلها، ولا ينقص من خمسة دراهم، لأن أقل المهر عشرة دراهم. وللسلف فيها أقوال سيأتي ذكرها إن شاء الله. وقوله: "على الموسع قدره وعلى المقتر قدره" يدل على أن الاعتبار في ذلك بحال الزوج، فالمتعة من الغني فوق المتعة من الفقير. وقرأه الجمهور على الموسع بسكون الواو وكسر السين، وهو الذي اتسعت حاله. وقرأ أبو حيوة بفتح الواو وتشديد السين وفتحها. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر قدره بسكون الدال فيهما. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص بفتح الدال فيهما. قال الأخفش: وغيره: هما لغتان فصيحتان، وهكذا يقرأ في قوله تعالى: "فسالت أودية بقدرها". وقوله: "وما قدروا الله حق قدره" والمقتر المقل، ومتاعاً مصدر مؤقتاً لقوله: "ومتعوهن" والمعروف ما عرف في الشرع والعادة الموافقة له. وقوله: "حقاً" وصف لقوله: " متاعا " أي مصدر لفعل محذوف: أي حق ذلك حقاً، يقال: حققت عليه القضاء وأحققت: أي أوجبت.

وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَي

قوله: 237- "وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن" الآية، فيه دليل على أن المتعة لا تجب لهذه المطلقة لوقوعها في مقابلة المطلقة قبل البناء والفرض التي تستحق المتعة. وقوله: " فنصف ما فرضتم " أي: فالواجب عليكم نصف ما سميتم لهن من المهر وهذا مجمع عليه. وقرأ الجمهور "فنصف" بالرفع. وقرأ من عدا الجمهور بالنصب: أي فادفعوا نصف ما فرضتم وقرئ أيضاً بضم النون وكسرها وهما لغتان. وقد وقع الاتفاق أيضاً على أن المرأة التي لم يدخل بها زوجها ومات وقد فرض لها مهراً تستحقه كاملاً بالموت، ولها الميراث وعليها العدة. واختلفوا في الخلوة هل تقوم مقام الدخول وتستحق المرأة بها كمال المهر كما تستحقه بالدخول أم لا؟ فذهب إلى الأول مالك والشافعي في القديم والكوفيون والخلفاء الراشدون وجمهور أهل العلم، وتجب عندهم أيضاً العدة. وقال الشافعي في الجديد: لا يجب إلا نصف المهر، وهو ظاهر الآية لما تقدم من أن المسيس هو الجماع ولا تجب عنده العدة، وإليه ذهب جماعة من السلف قوله: "إلا أن يعفون" أي المطلقات، ومعناه: يتركن ويصفحن، ووزنه يفعلن، وهو استثناء مفرغ من أعم العام، وقيل منقطع، ومعناه: يتركن النصف الذي يجب لهن على الأزواج. ولم تسقط النون مع إن، لأن جمع المؤنث في المضارع على حالة واحدة في الرفع والنصب والجزم لكون النون ضميراً وليست بعلامة إعراب كما في المذكر في قولك: الرجال يعفون، وهذا عليه جمهور المفسرين. وروي عن محمد بن كعب القرظي أنه قال: "إلا أن يعفون" يعني الرجال وهو ضعيف لفظاً. ومعنى قوله: " أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح " معطوف على محل قوله: "إلا أن يعفون" لأن الأول مبني وهذا معرب، قيل: هو الزوج، وبه قال جبير بن مطعم وسعيد بن المسيب وشريح وسعيد بن جبير ومجاهد والشعبي وعكرمة ونافع وابن سيرين والضحاك ومحمد بن كعب القرظي وجابر بن زيد وأبوا مجلز والربيع بن أنس وإياس بن معاوية ومكحول ومقاتل بن حيان وهو الجديد من قولي الشافعي، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه والثوري وابن شبرمة والأوزاعي ورجحه ابن جرير. وفي هذا القول قوة وضعف، أما قوته فلكون الذي بيده عقدة النكاح حقيقة هو الزوج، لأنه هو الذي إليه رفعه بالطلاق، وأما ضعفه فلكون العفو منه غير معقول، وما قالوا به من أن المراد بعفوه أن يعطيها المهر كاملاً غير ظاهر. لأن العفو لا يطلق على الزيادة. وقيل المراد بقوله: " أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح " هو الولي، وبه قال النخعي وعلقمة والحسن وطاوس وعطاء وأبو الزناد وزيد بن أسلم وربيعة والزهري والأسود بن يزيد والشعبي وقتادة ومالك والشافعي في قوله القديم، وفيه قوة وضعف، أما قوته فلكون معنى العفو فيه معقولاً، وأما ضعفه فلكون عقدة النكاح بيد الزوج لا بيده، ومما يزيد هذا القول ضعفاً أنه ليس للولي أن يعفو عن الزوج مما لا يملكه. وقد حكى القرطبي الإجماع على أن الولي لا يملك شيئاً من مالها، والمهر مالها. فالراجح ما قاله الأولون لوجهين: الأول أن الزوج هو الذي بيده عقدة النكاح حقيقة. الثاني أن عفوه بإكمال المهر هو صادر عن المالك مطلق التصرف بخلاف الولي، وتسمية الزيادة عفواً وإن كان خلاف الظاهر، لكن لما كان الغالب أنهم يسوقون المهر كاملاً عند العقد كان العفو معقولاً، لأنه تركه لها ولم يسترجع النصف منه، ولا يحتاج في هذا إلى أن يقال إنه من باب المشاكلة كما في الكشاف، لأنه عفو حقيقي: أي ترك لما يستحق المطالبة به، إلا أن يقال إنه مشاكلة، أو يطيب في توفية المهر قبل أن يسوقه الزوج. قوله: " وأن تعفوا أقرب للتقوى " قيل: هو خطاب للرجال والنساء تغليباً، وقرأه الجمهور بالتاء الفوقية، وقرأ أبو نهيك والشعبي بالياء التحتية، فيكون الخطاب مع الرجال. وفي هذا دليل على ما رجحناه من أن الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج، لأن عفو الولي عن شيء لا يملكه ليس هو أقرب إلى التقوى، بل أقرب إلى الظلم والجور. قوله: "ولا تنسوا الفضل بينكم" قرأه الجمهور بضم الواو، وقرأ يحيى بن يعمر بكسرها وقرأ علي ومجاهد وأبو حيوة وابن أبي عبلة ولا تناسوا والمعنى: أن الزوجين لا ينسيان التفضل من كل واحد منهما على الآخر، ومن جملة ذلك أن تتفضل المرأة بالعفو عن النصف ويتفضل الرجل عليها بإكمال المهر، وهو إرشاد للرجال والنساء من الأزواج إلى ترك التقصي على بعضهم بعضاً، والمسامحة فيما يستغرقه أحدهما على الآخر للوصلة التي قد وقعت سهماً من إفضاء البعض إلى البعض، وهي وصلة لا يشبهها وصلة، فمن رعاية حقها ومعرفتها حق معرفتها الحرص منهما على التسامح. وقوله: " إن الله بما تعملون بصير " فيه من ترغيب المحسن وترهيب غيره ما لا يخفى. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله: "ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة" قال: المس: النكاح، والفريضة: الصداق "متعوهن" قال: هو على الرجل يتزوج المرأة ولم يسم لها صداقاً، ثم يطلقها قبل أن يدخل بها، فأمره الله أن يمتعها على قدر عسره ويسره، فإن كان موسراً متعها بخادم، وإن كان معسراً متعها بثلاثة أثواب أو نحو ذلك. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أنه قال: متعة الطلاق: أعلاها الخادم ودون ذلك الورق، ودون ذلك الكسوة. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن ابن عمر قال: أدنى ما يكون من المتعة ثلاثون درهماً. وروى القرطبي في تفسيره عن الحسن بن علي أنه متع بعشرين ألفاً ورقاق من عسل. وعن شريح أنه متع بخمسمائة درهم. وأخرج الدارقطني عن الحسن بن علي أنه متع بعشرة آلاف. وأخرج عبد الرزاق عن ابن سيرين أنه كان يمتع بالخادم والنفقة أو بالكسوة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله: "من قبل أن تمسوهن" قال المس: الجماع، فلها نصف صداقها، وليس لها أكثر من ذلك إلا أن يعفون. وهي المرأة الثيب والبكر يزوجها غير أبيها فجعل الله العفو لهن إن شئن عفون بتركهن، وإن شئن أخذن نصف الصداق "أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح" وهو أبو الجارية البكر جعل العفو إليه ليس لها معه أمر إذا طلقت ما كانت في حجره. وأخرج الشافعي وسعيد بن منصور والبيهقي عن ابن عباس قال في الرجل يتزوج المرأة فيخلو بها ولا يمسها ثم يطلقها: ليس لها إلا نصف الصداق، لأن الله يقول: " وإن طلقتموهن " الآية. وأخرج البيهقي عن ابن مسعود قال: لها نصف الصداق وإن جلس بين رجليها. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط والبيهقي بسند حسن عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الذي بيده عقدة النكاح الزوج". وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم والدارقطني والبيهقي عن علي مثله من قوله. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر والبيهقي عن ابن عباس مثله. وأخرج ابن أبي حاتم والبيهقي عنه قال: هو أبوها وأخوها ومن لا تنكح إلا بإذنه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله: "ولا تنسوا الفضل بينكم" قال: في هذا أو غيره. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وأحمد وأبو داود والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجه والحاكم وصححه البيهقي أن قوماً أتوا ابن مسعود فقالوا: إن رجلاً تزوج منا امرأة ولم يفرض لها صداقاً ولم يجمعها إليه حتى مات فقال: أرى أن أجل لها صداقاً كصداق نسائها لا وكس ولا شطط، ولها الميراث وعليها العدة أربعة أشهر وعشر، فسمع بذلك ناس من أشجع منهم مغفل بن سنان، فقالوا: نشهد أنك قضيت مثل الذي قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأة منا يقال لها: بروع بنت واشق. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة والبيهقي عن علي أنه قال في التوفى عنها زوجها ولم يفرض لها صداقاً: لها الميراث وعليها العدة ولا صداق لها. وقال: لا يقبل قول أعرابي من أشجع على كتاب الله. وأخرج الشافعي والبيهقي عن ابن عباس قال في المرأة التي يموت عنها زوجها وقد فرض لها صداقاً: لها الصداق والميراث. وأخرج مالك والشافعي وابن أبي شيبة والبيهقي عن عمر بن الخطاب أنه قضى في المرأة يتزوجها الرجل: أنه إذا أرخيت الستور فقد وجب الصداق. وأخرج ابن أبي شيبة والبيهقي عن عمر وعلي قال: إذا أرخى ستراً وأغلق باباً فلها الصداق كاملاً وعليها العدة. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة والبيهقي عن زرارة بن أوفى قال: قضى الخلفاء الراشدون أنه من أغلق باباً أو أرخى ستراً فقد وجب الصداق والعدة. وأخرج مالك والبيهقي عن زيد بن ثابت نحوه. وأخرج البيهقي عن محمد بن ثوبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من كشف امرأة فنظر إلى عورتها فقد وجب الصداق".

حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ

المحافظة على الشيء: المداومة والمواظبة عليه، والوسطى: تأنيث الأوسط، وأوسط الشيء ووسطه: خياره. ومنه قوله تعالى: "وكذلك جعلناكم أمة وسطاً"، ومنه قول بعض العرب: يمدح النبي صلى الله عليه وسلم: يا أوسط الناس طرأ في مفاخرهم وأكرم الناس أماً برة وأبا ووسط فلان القوم يسطهم: أي صار في وسطهم: وأفرد الصلاة الوسطى بالذكر بعد دخولها في عموم الصلوات تشريفاً لها. وقرأ أبو جعفر 238- "والصلاة الوسطى" بالنصب على الإغراء، وكذلك قرأ الحلواني، وقرأ قالون عن نافع الوصطى بالصاد لمجاورة الطاء وهما لغتان: كالسراط والصراط. وقد اختلف أهل العلم في تعيينها على ثمانية عشر قولاً أوردتها في شرحي للمنتقى، وذكرت ما تمسكت به كل طائفة، وأرجح الأقوال وأصحها ما ذهب إليه الجمهور من أنها العصر، لما ثبت عند البخاري ومسلم وأهل السنن وغيرهم من حديث علي قال:" كنا نراها الفجر حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم الأحزاب: شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر، ملأ الله قبورهم وأجوافهم ناراً". وأخرج مسلم والترمذي وابن ماجه وغيرهم من حديث ابن مسعود مرفوعاً مثله. وأخرجه أيضاً ابن جرير وابن المنذر والطبراني من حديث ابن عباس مرفوعاً. وأخرجه البزار بإسناد صحيح من حديث جابر مرفوعاً. وأخرجه أيضاً البزار بإسناد صحيح من حديث حذيفة مرفوعاً. وأخرجه الطبراني بإسناد ضعيف من حديث أم سلمة مرفوعاً. وورد في تعيين أنها العصر من غير ذكر يوم الأحزاب أحاديث مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم: منها عن ابن عمر عند ابن منده، ومنها عن سمرة عند أحمد وابن جرير والطبراني، ومنها عنه أيضاً عند ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد والترمذي وصححه ابن جرير والطبراني والبيهقي، وعن أبي هريرة عند ابن جرير والبيهقي والطحاوي. وأخرجه عنه أيضاً ابن سعيد والبزار وابن جرير والطبراني، وعن ابن عباس عند البزار بأسانيد صحيحة، وعن أبي مالك الأشعري عند ابن جرير والطبراني، فهذه أحاديث مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم مصرحة بأنها العصر. وقد روي عن الصحابة في تعيين أنها العصر آثار كبيرة، وفي الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم ما لا يحتاج معه إلى غيره. وأما ما روي عن علي وابن عباس أنهما قالا: إنها صلاة الصبح. كما أخرجه مالك في الموطأ عنهما، وأخرجه ابن جرير عن ابن عباس، وكذلك أخرجه عنه عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر، وكذلك أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عمر، وكذلك أخرجه ابن جرير عن جابر، وكذلك أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي أمامة، وكل ذلك من أقوالهم وليس فيها شيء من المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولا تقوم بمثل ذلك حجة لا سيما إذا عارض ما قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم ثبوتاً يمكن أن يدعى فيه التواتر، وإذا لم تقم الحجة بأقوال الصحابة لم تقم بأقوال من بعدهم من التابعين وتابعهم بالأولى، وهكذا لا تقوم الحجة بما أخرجه ابن أبي حاتم بإسناد حسن عن ابن عباس أنه قال: صلاة الوسطى المغرب، وهكذا لا اعتبار بما ورد من قول جماعة من الصحابة أنها الظهر أو غيرها من الصلوات، ولكن المحتاج إلى إمعان نظر وفكر ما ورد مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم مما فيه دلالة على أنها الظهر، كما أخرجه ابن جرير عن زيد بن ثابت مرفوعاص: "إن الصلاة الوسطى صلاة الظهر". ولا يصح رفعه بل المروي عن زيد بن ثابت ذلك من قوله، واستدل على ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بالهاجرة، وكانت أثقل الصلاة على أصحابه، وأين يقع هذا الاستدلال من تلك الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهكذا الاعتبار بما روي عن ابن عمر من قوله: إنها الظهر. وكذلك ما روي عن عائشة وأبي سعيد الخدري وغيرهم، فلا حجة في قول أحد من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما ما رواه عبد الرزاق وابن جرير وغيرهما أن حفصة قالت لأبي رافع مولاها وقد أمرته أن يكتب لها مصحفاً: إذا أتيت على هذه الآية "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى" فتعال حتى أمليها عليك، فلما بلغ ذلك أمرته أن يكتب حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر. وأخرجه أيضاً عنها مالك وعبد بن حميد وابن جرير والبيهقي في سننه وزادوا: وقالت أشهد أني سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأخرج مالك وأحمد وعبد بن حميد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم "عن أبي يونس مولى عائشة أنها أمرته أن يكتب لها مصحفاً وقالت: إذا بلغت هذه الآية فآذني "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى" قال: فلما بلغتها آذنتها فأملت علي حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر قالت عائشة: سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم". وأخرج وكيع وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن أم سلمة أنها أمرت من يكتب لها مصحفاً، وقالت له كما قالت حفصة وعائشة. فغاية ما في هذه الروايات عن أمهات المؤمنين الثلاث رضي الله عنهن أنهن يروين هذا الحرف هكذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس فيه ما يدل على تعيين الصلاة الوسطى أنها الظهر أو غيرها، بل غاية ما يدل عليه عطف صلاة العصر على صلاة الوسطى أنها غيرها، لأن المعطوف غير المعطوف عليه، وهذا الاستدلال لا يعارض ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم ثبوتاً لا يدفع أنها العصر كما قدمنا بيانه. فالحاصل أن هذه القراءة التي نقلتها أمهات المؤمنين الثلاث بإثبات قوله: وصلاة العصر معارضة بما أخرجه ابن جرير "عن عروة قال: كان في مصحف عائشة حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وهي صلاة العصر ". وأخرج وكيع عن حميدة قالت: قرأت في مصحف عائشة حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر. وأخرج ابن أبي داود عن قبيصة بن ذؤيب مثله. وأخرج سعيد بن منصور وأبو عبيد عن زياد بن أبي مريم أن عائشة أمرت بمصحف لها أن يكتب وقالت: إذا بلغتم "حافظوا على الصلوات" فلا تكتبوها حتى تؤذنوني، فلما أخبروها أنهم قد بلغوا قالت: اكتبوها صلاة الوسطى صلاة العصر. وأخرج ابن جرير والطحاوي والبيهقي عن عمرو بن رافع قال: كان مكتوباً في مصحف حفصة "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وهي صلاة العصر". وأخرج أبو عبيد في فضائله وابن المنذر عن أبي بن كعب أنه كان يقرأها حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر. وأخرج أبو عبيد وعبد بن حميد والبخاري في تاريخه وابن جرير والطحاوي عن ابن عباس أنه كان ليقرأها حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر.وأخرج المحاملي عن السائن إبن يزيد أنه تلاها كذلك فهذه الروايات تعارض تلك الروايات باعغتبار التلاوة ونقل القراءة ، ويبقى ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من التعين صافيا عن شوب كدر المعارضة . على أنه قد ورد ما يدل على نسخ تلك القراءة التي نقلتها حفصة وعائشة وأم سلمة . فأخرج عبد إبن حميد ومسلم وأبو داوود في ناسخه وابن جرير والبيهقي عن البراء بن عازب قال : نزلت حافظوا على الصلوات وصلاة العصر فقرأنها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله ثم نسخها الله ، فأنزل " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى " فقيل له إذا صلاة العصر ؟ قال : قد حدثتك كيف نزلت وكيف نسخها الله واللع أعلم . وأخرج البيهقي عنه بوجه آخر نحوه . وإذا تقرر لك هذا وعرفت ما سقناه تبين لك أنه لم يرد ما يعارض أن الصلاة الوسطى صلاة العصر أما حجج بقيت الأقوال فليس فيها شيء مما ينبغي الإشتغال به لأنه لم يثبت عن النبي صلى الله علايه وسلم في ذلك شيء ، وبعض القائلين عول على أمر لا يعول عليه فقال : إنها صلاة كذا بأنها وسطى بالنسبة إلا أن قبلها كذا من الصلوات وبعدها كذا من الصلوات وهذا الرأي المحض والتخمين البحت لا ينبغي أن تستند إليه الأحكام الشرعية على فرض عدم وجود ما يعارضه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف مع وجود ما هو في أعلى درجات الصحة والقوة والثبوت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ويا لله العجب من قوم لم يكتفوا بتقصيرهم في علم السنة وإعراضهم عن خير العلوم وأنفعها، حتى كلفوا أنفسهم التكلم على أحكام الله والتحري على تفسير كتاب الله بغير علم ولا هدى، فجاءوا بما يضحك منه تارة ويبكي منه أخرى. قوله: "وقوموا لله قانتين" القنوت قيل: هو الطاعة: أي قوموا لله في صلاتكم طائعين، قاله جابر بن زيد وعطاء وسعيد بن جبير والضحاك والشعبي، وقيل: هو الخشوع، قاله ابن عمر ومجاهد. ومنه قول الشاعر: قانتاً لله يدعو ربه وعلى عمد من الناس اعتزل وقيل: هو الدعاء، وبه قال ابن عباس. وفي الحديث "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قنت شهراً يدعو على رعل وذكوان". وقال قوم: إن القنوت طول القيام، وقيل: معناه ساكتين قاله السدي، ويدل عليه حديث زيد بن أرقم في الصحيحين وغيرهما قال:" كان الرجل يكلم صاحبه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في الحاجة في الصلاة حتى نزلت هذه الآية: "وقوموا لله قانتين" فأمرنا بالسكوت"، وقيل: أصل القنوت في اللغة الدوام على الشيء، فكل معنى يناسب الدوام يصح إطلاق القنوت عليه. وقد ذكر أهل العلم أن القنوت ثلاثة عشر معنى وقد ذكرنا ذلك في شرح المنتقى، والمتعين ها هنا حمل القنوت على السكوت للحديث المذكور.

فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ

قوله: 239- "فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً" الخوف هو الفزع، والرجال جمع رجل أو راجل، من قولهم: رجل الإنسان يرجل راجلاً: إذا عدم المركوب ومشى على قدميه فهو رجل وراجل. يقول أهل الحجاز: مشى فلان إلى بيت الله حافياً رجلاً. حكاه ابن جرير الطبري وغيره. لما ذكر الله سبحانه الأمر بالمحافظة على الصلوات، ذكر حالة الخوف أنهم يضيعون فيها ما يمكنهم ويدخل تحت طوقهم من المحافظة على الصلاة بفعلها حال الترجل وحال الركوب، وأبان لهم أن هذه العبادة لازمة في كل الأحوال بحسب الإمكان. وقد اختلف أهل العلم في حد الخوف المبيح لذلك والبحث مستوفي في كتب الفروع. قوله: "فإذا أمنتم" أي إذا زال خوفكم فارجعوا إلى ما أمرتم به من إتمام الصلاة مستقبلين القبلة قائمين بجميع شروطها وأركانها وهو قوله: "فاذكروا الله كما علمكم" وقيل معنى الآية: خرجتم من دار السفر إلى دار الشرائع "ما لم تكونوا تعلمون" والكاف صفة لمصدر محذوف: أي ذكراً كائناً كتعليمه إياكم، أو مثل تعليمه إياكم. وقد أخرج ابن جرير عن سعيد بن المسيب قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مختلفين في الصلاة الوسطى هكذا، وشبك بين أصابعه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عمر أنه سئل عن الصلاة الوسطى؟ فقال: هي فيهن فحافظوا عليهن. وأخرج عبد بن حميد عن زيد بن ثابت أنه سأله رجل عن الصلاة الوسطى فقال: حافظ على الصلوات تدركها. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد عن الربيع بن خيثم أن سائلاً سأله عن الصلاة الوسطى، قال: حافظ عليهن فإنك إن فعلت أصبتها، إنما هي واحدة منهن. وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن سيرين قال: سئل شريح عن الصلاة الوسطى، فقال: حافظوا عليها تصيبوها. وقد قدمنا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه رضي الله عنهم في تعيينها. وأخرج الطبراني عن ابن عباس في قوله تعالى: "وقوموا لله قانتين" مثل ما قدمنا عن زيد بن أرقم. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود نحوه. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد عن محمد بن كعب نحوه أيضاً. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن عكرمة نحوه. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وقوموا لله قانتين" قال: مصلين. أخرج ابن جرير عنه في الآية قال: كل أهل دين يقومون فيها عاصين، قوموا أنتم مطيعين. وأخرج ابن أبي شيبة عن الضحاك مثله. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله: "وقوموا لله قانتين" قال: من القنوت الركوع والخشوع، وطول الركوع: يعني طول القيام وغض البصر وخفض الجناح والرهبة لله. وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن في الصلاة لشغلاً" وفي صحيح مسلم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن". وقد اختلف الأحاديث في القنوت المصطلح عليه، هل هو قبل الركوع أو بعده، وهو هو في جميع الصلوات أو بعضها، وهو هو مختص بالنوازل أم لا؟ والراجح اختصاصه بالنوازل. وقد أوضحنا ذلك في شرحنا للمنتقى فليرجع إليه. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى: "فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً" قال: يصلي الراكب على دابته، والراجل على رجليه "فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون" يعني كما علمكم أن يصلي الراكب على دابته، والراجل على رجليه. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن جابر بن عبد الله قال: إذا كانت المسايفة فليوم برأسه حيث كان وجهه فذلك قوله: "فرجالاً أو ركباناً". وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس قال: "فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً" قال: ركعة ركعة. وأخرج وكيع وابن جرير عن مجاهد "فإذا أمنتم" قال: خرجتم من دار السفر إلى دار الإقامة.

وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ

هذا عود إلى بقية الأحكام المفصلة فيما سلف. وقد اختلف السلف ومن تبعهم من المفسرين في هذه الآية هل هي محكمة أو منسوخة؟ فذهب الجمهور إلى أنها منسوخة بالأربعة الأشهر والعشر كما تقدم، وأن الوصية المذكورة فيها منسوخة بما فرض الله لهن من الميراث. وحكى ابن جرير عن مجاهد أن هذه الآية محكمة لا نسخ فيها، وأن العدة أربعة أشهر وعشر، ثم جعل الله لهن وصية منه سكنى سبعة أشهر وعشرين ليلة، فإن شاءت المرأة سكنت في وصيتها، وإن شاءت خرجت. وقد حكى ابن عطية والقاضي عياض أن الإجماع منعقد على أن الحول منسوخ وأن عدتها أربعة أشهر وعشر. وقد أخرج عن مجاهد ما أخرجه ابن جرير عنه البخاري في صحيحه. وقوله: 240- "وصية" قرأ نافع وابن كثير وعاصم في رواية أبي بكر والكسائي بالرفع على أن ذلك مبتدأ لخبر محذوف يقدر مقدماً: أي عليهم وصية، وقيل: إن الخبر قوله: "لأزواجهم" وقيل: إنه خبر محذوف: أي وصية الذين يتوفون وصية أو حكم الذين يتوفون وصية. وقرأ أبو عمر وحمزة وابن عامر بالنصب على تقدير فعل محذوف: أي فليوصوا وصية، أو أوصى الله وصية، أو كتب الله عليهم وصية. وقوله: "متاعاً" منصوب بوصية أو بفعل محذوف: أي متعوهن متاعاً، أو جعل الله لهن ذلك متاعاً، ويجوز أن يكون منتصباً على الحال. والمتاع هنا: نفقة السنة. وقوله: "غير إخراج" صفة لقوله: "متاعاً" وقال الأخفش: إنه مصدر كأنه قال: لا إخراجاً، وقيل إنه حال: أي متعوهن غير مخرجات، وقيل: منصوب بنزع الخافض: أي من غير إخراج، والمعنى: أنه يجب على الذين يتوفون أن يوصوا قبل نزول الموت بهم لأزواجهم أن يمتعن بعدهم حولاً كاملاً بالنفقة والسكنى من تركهم ولا يخرجن من مساكنهن. وقوله: "فإن خرجن" يعني باختيارهن قبل الحول "فلا جناح عليكم" أي: لا حرج على الولي والحاكم وغيرهما "فيما فعلن في أنفسهن" من التعرض للخطاب والتزين لهم. وقوله: "من معروف" أي: بما هو معروف في الشرع غير منكر. وفيه دليل على أن النساء كن مخيرات في سكنى الحول وليس ذلك بحتم عليهن، وقيل: المعنى لا جناح عليكم في قطع النفقة عنهن وهو ضعيف، لأن متعلق الجناح هو مذكور في الآية بقوله: "فيما فعلن".

وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ

وقوله: 241- "وللمطلقات متاع" قد اختلف المفسرون في هذه الآية، فقيل: هي المتعة، وأنها واجبة لكل مطلقة، وقيل: إن هذه الآية خاصة بالثيبات اللواتي قد جومعن، لأنه قد تقدم قبل هذه الآية ذكر المتعة للواتي لم يدخل بهن الأزواج. وقد قدمنا الكلام على هذه المتعة والخلاف في كونها خاصة بمن طلقت قبل البناء والفرض أو عامة للمطلقات، وقيل: إن هذه الآية شاملة للمتعة الواجبة وهي متعة المطلقة قبل البناء والفرض، وغير الواجبة وهي متعة سائر المطلقات فإنها مستحبة فقط، وقيل: المراد بالمتعة هنا النفقة. وقد أخرج البخاري وغيره عن ابن الزبير قال: قلت لعثمان بن عفان "والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً" قد نسختها الآية الأخرى فلم تكتبها أو لم تدعها؟ قال: يا ابن أخي لا أغير شيئاً منه من مكانه. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال: كان للمتوفى عنها زوجها نفقتها وسكناها في الدار سنة، فنسختها آية المواريث فجعل لهن الربع والثمن مما ترك الزوج. وأخرج ابن جرير نحوه عن عطاء. وأخرج نحوه أيضاً أبو داود والنسائي عن ابن عباس من وجه آخر. وأخرج الشافعي وعبد الرزاق عن جابر بن عبد الله قال: ليس للمتوفى عنها زوجها نفقة حسبها الميراث. وأخرج أبو داود في ناسخه والنسائي عن عكرمة قال: نسختها "والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً". وأخرج ابن الأنباري في المصاحف عن زيد بن أسلم نحوه. وأخرج أيضاً عن قتادة نحوه. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: " فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف " قال: النكاح الحلال الطيب. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد قال: لما نزل قوله: "متاعاً بالمعروف حقاً على المحسنين" قال رجل: إن أحسنت فعلت، وإن لم أرد ذلك لم أفعل، فأنزل الله "وللمطلقات متاع بالمعروف حقاً على المتقين". وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب قال: نسخت هذه الآية بقوله: "وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم". وأخرج أيضاً عن عتاب بن خصيف في قوله: "وللمطلقات متاع" قال كان ذلك قبل الفرائض. وأخرج مالك وعبد الرزاق والشافعي وعبد بن حميد وابن المنذر والبيهقي عن ابن عمر قال: لكل مطلقة متعة إلا التي تطلقها ولم تدخل بها وقد فرض لها، كفى بالنصف متاعاً. وأخرج ابن المنذر عن علي بن أبي طالب قال: لكل مؤمنة طلقت حرة أو أمة متعة، وقرأ "وللمطلقات متاع بالمعروف حقاً على المتقين". وأخرج البيهقي عن جابر بن عبد الله قال: "لما طلق حفص بن المغيرة امرأته فاطمة أتت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: لزوجها: متعها، قال: لا أجد ما أمتعها، قال: فإنه لا بد من المتاع، متعها ولو نصف صاع من تمر". وأخرج عبد بن حميد عن أبي العالية في الآية، قال: لكل مطلقة متعة.

كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ

242- " كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون ".

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ

الاستفهام هنا للتقرير، والرؤية المذكورة هي رؤية القلب لا رؤية البصر. والمعنى عند سيبويه: تنبيه إلى أمر الذين خرجوا، ولا تحتاج هذه الرؤية إلى مفعولين كذا قيل. وحاصله أن الرؤية هنا التي بمعنى الإدراك مضمنة معنى التنبيه، ويجوز أن تكون مضمنة معنى الانتهاء: أي ألم ينته علمك إليهم، أو معنى الوصول: أي ألم يصل علمك إليهم، ويجوز أن تكون بمعنى الرؤية البصرية: أي ألم تنظر إلى الذين خرجوا. جعل الله سبحانه قصة هؤلاء لما كانت بمكان من الشيوع والشهرة يحمل كل أحد على الإقرار بها بمنزلة المعلومة لكل فرد، أو المبصرة لكل مبصر، لأن أهل الكتاب قد أخبروا بها ودونوها وأشهروا أمرها، والخطاب هنا لكل من يصلح له. والكلام جار مجرى المثل في مقام التعجيب ادعاء لظهوره وجلائه بحيث يستوي في إدراكه الشاهد والغائب. وقوله: 243- "وهم ألوف" في محل نصب على الحال من ضمير خرجوا، وألوف من جموع الكثرة، فدل على أنها ألوف كثيرة. وقوله: "حذر الموت" مفعول له. وقوله :"فقال لهم الله موتوا" هو أمر تكوين عبارة عن تعلق إرادته بموتهم دفعة، أو تمثيل لإماتته سبحانه إياهم ميتة نفس واحدة كأنهم أمروا فأطاعوا. قوله: "ثم أحياهم" هو معطوف على مقدر يقتضيه المقام: أي قال الله لهم موتوا فماتوا ثم أحياهم، أو على قال لما كان عبارة عن الإماتة وقوله: "إن الله لذو فضل على الناس" التنكير في قوله فضل للتعظيم: أي لذو فضل عظيم على الناس جميعاً، أما هؤلاء الذين خرجوا فلكونه أحياهم ليعتبروا، وأما المخاطبون فلكونه قد أرشدهم إلى الاعتبار والاستبصار بقصة هؤلاء.

وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ

قوله: 244- "وقاتلوا في سبيل الله" هو معطوف على مقدر كأنه قيل: اشكروا فضله بالاعتبار بما قص عليكم وقاتلوا، هذا إذا كان الخطاب بقوله: "وقاتلوا" راجعاً إلى المخاطبين بقوله: "ألم تر إلى الذين خرجوا" كما قاله جمهور المفسرين، وعلى هذا يكون إيراد هذه القصة لتشجيع المسلمين على الجهاد، وقيل: الخطاب للذين أحيوا من بني إسرائيل فيكون عطفاً على قوله: "موتوا" وفي الكلام محذوف تقديره: وقال لهم قاتلوا. وقال ابن جرير: لا وجه لقول من قال: إن الأمر بالقتال للذين أحيوا.

مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ

وقوله: 245- "من ذا الذي يقرض الله" لما أمر سبحانه بالقتال والجهاد أمر بالإنفاق في ذلك، ومن استفهامية مرفوعة المحل بالابتداء، وذا خبره، والذي وصلته وصف له أو بدل منه، وإقراض الله مثل لتقديم العمل الصالح الذي يستحق به فاعله الثواب، وأصل القرض اسم لكل ما يلتمس عليه الجزاء، يقال: أقرض فلان فلاناً: أي أعطاه ما يتجازاه. قال الشاعر وإذا جوزيت قرضاً فاجزه وقال الزجاج: القرض في اللغة: البلاء الحسن والبلاء السيء. قال أمية: كل امرئ سوف يجزى قرضه حسناً أو سيئاً ومديناً مثل ما دانا وقال آخر: فجازى القروض بأمثالها فبالخير خيراً وبالشر شراً وقال الكسائي القرض: ما أسلفت من عمل صالح أو سيء، وأصل الكلمة القطع، ومنه المقراض واستدعاء القرض في الآية إنما هو تأنيس وتقريب للناس بما يفهمونه. والله هو الغني الحميد: شبه عطاء المؤمن ما يرجو ثوابه في الآخرة بالقرض، كما شبه إعطاء النفوس والأموال في أخذ الجنة بالبيع والشراء. وقوله: "حسناً" أي: طيبة به نفسه من دون من ولا أذى. وقوله: "فيضاعفه" قرأ عاصم وغيره بالألف ونصب الفاء. وقرأ نافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي بإثبات الألف ورفع الفاء، وقرأ ابن عامر ويعقوب فيضعفه بإسقاط الألف مع تشديد العين ونصب الفاء. وقرأ ابن كثير وأبو جعفر بالتشديد ورفع الفاء. فمن نصب فعلى أنه جواب الاستفهام، ومن رفع فعلى تقدير مبتدأ: أي هو يضاعفه. وقد اختلف في تقدير هذا التضعيف على أقوال. وقيل: لا يعلمه إلا الله وحده. وقوله: "والله يقبض ويبسط" هذا عام في كل شيء فهو القابض الباسط، والقبض: التقتير، والبسط: التوسيع، وفيه وعيد بأن من بخل من البسط يوشك أن يبدل بالقبض، ولهذا قال: "وإليه ترجعون" أي هو يجازيكم بما قدمتم عند الرجوع إليه، وإذا أنفقتم مما وسع به عليكم أحسن إليكم، وإن بخلتم عاقبكم. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر والحاكم عن ابن عباس في قوله: "ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم" قال: كانوا أربعة آلاف خرجوا فراراً من الطاعون وقالوا: نأتي أرضاً ليس بها موت، حتى إذا كانوا بموضع كذا وكذا قال لهم الله: موتوا فماتوا، فمر عليهم نبي من الأنبياء فدعا ربه أن يحييهم حتى يعبدون فأحياهم. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه: أن القرية التي خرجوا منها داودان. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم هذه القصة مطولة عن أبي مالك وفيها أنهم بضعة وثلاثون ألفاً. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن عبد العزيز: أن ديارهم هي أذرعات. وأخرج أيضاً عن أبي صالح قال: كانوا تسعة آلاف. وأخرج جماعة من محدثي المفسرين هذه القصة على أنحاء، ولا يأتي الاستكثار من طرقها بفائدة. وقد ورد في الصحيحين وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن الفرار من الطاعون، وعن دخول الأرض التي هو بها من حديث عبد الرحمن بن عوف. وأخرج سعيد بن منصور وابن سعد والبزار وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود قال: "لما نزلت "من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً" قال أبو الدحداح الأنصاري: يا رسول الله إن الله ليريد منا القرض؟ قال: نعم يا أبا الدحداح، قال: أرني يدك يا رسول الله، فناوله يده، قال: فإني قد أقرضت ربي حائطي، وله فيه ستمائة نخلة". وقد أخرج هذه القصة عبد الرزاق وابن جرير من طريق زيد بن أسلم زاد الطبراني عن أبيه عن عمر بن الخطاب وابن مردويه عن أبي هريرة وابن إسحاق وابن المنذر عن ابن عباس. وأخرج ابن جرير عن السدي في قوله: "أضعافاً كثيرة" قال: هذا التضعيف لا يعلم أحد ما هو. وأخرج أحمد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي عثمان النهدي قال: بلغني عن أبي هريرة حديث أنه قال: "إن الله ليكتب لعبده المؤمن بالحسنة الواحدة ألف ألف حسنة" فحججت ذلك العام ولم أكن أريد أن أحج إلا لألقاه في هذا الحديث، فلقيت أبا هريرة فقلت له، فقال: ليس هذا، قلت: ولم يحفظ هذا الحديث الذي حدثك إنما قلت: "إن الله ليعطي العبد المؤمن بالحسنة الواحدة ألفي ألف حسنة" ثم قال أبو هريرة: أو ليس تجدوه هذا في كتاب الله؟ "من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة" فالكثيرة عند الله أكثر من ألفي ألف وألفي ألف، والذي نفسي بيده لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله يضاعف الحسنة ألفي ألف حسنة". وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان في صحيحه وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر قال: "لما نزلت "مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل" إلى آخره، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رب زد أمتي فنزلت "من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة" قال: رب زد أمتي فنزلت "إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب"". وأخرج ابن المنذر عن سفيان قال: "لما نزلت "من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها" قال: رب زد أمتي، فنزلت "من ذا الذي يقرض الله" قال: رب زد أمتي، فنزلت "مثل الذين ينفقون أموالهم" قال: رب زد أمتي، فنزلت "إنما يوفى الصابرون"" وفي الباب أحاديث هذه أحسنها وستأتي عند تفسير قوله تعالى: "كمثل حبة أنبتت سبع سنابل" فابحثها. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "والله يقبض ويبسط" قال: يقبض الصدقة، ويبسط: قال: يخلف "وإليه ترجعون" قال: من التراب وإلى التراب تعودون. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في الآية قال: علم الله أن فيمن يقاتل في سبيل الله من لا يجد قوة وفيمن لا يقاتل في سبيل الله من يجد غنى، فندب هؤلاء إلى القرض فقال: "من ذا الذي يقرض الله" قال: يبسط عليك وأنت ثقيل عن الخروج لا تريده، ويقبض عن هذا وهو يطيب نفساً بالخروج ويخف له، فقوه مما بيدك يكن لك الحظ.

أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا

قوله: 246- " ألم تر إلى الملإ " الكلام فيه كالكلام في قوله: "ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم" وقد قدمناه، والملأ الأشراف من الناس كأنهما ملئوا شرفاً. وقال الزجاج: سموا بذلك لأنهم ملئون بما يحتاج إلأيه منهم، وهو اسم جمع كالقوم والرهط. ذكر الله سبحانه في التحريض على القتال قصة أخرة جرت في بني إسرائيل بعد القصة المتقدمة وقوله: "من بعد موسى" من ابتدائية وعاملها مقدر: أي كائنين من بعد موسى: أي بعد وفاته. وقوله: "لنبي لهم" قيل: هو شمويل بن يار بن علقمة ويعرف بابن العجوز، ويقال فيه شمعون، وهو من ولد يعقوب، وقيل: من نسل هارون، وقيل: هو يوشع بن نون، وهذا ضعيف جداً لأن يوشع هو فتى موسى، ولم يوجد إلا بعد ذلك بدهر طويل، وقيل اسمه إسماعيل. وقوله: "ابعث لنا ملكاً" أي أميراً نرجع إليه ونعمل على رأيه. وقوله: "نقاتل" بالنون والجزم على جواب الأمر، وبه قرأ الجمهور. وقرأ الضحاك وابن أبي عبلة بالياء ورفع الفعل على أنه صفة للملك. وقرئ بالنون والرفع على أنه حال أو كلام مستأنف. وقوله: "هل عسيتم" بالفتح للسين وبالكسر لغتان، وبالثانية قرأ نافع، وبالأولى قرأ الباقون. قال في الكشاف: وقراءة الكسر ضعيفة. وقال أبو حاتم: ليس للكسر وجه انتهى. وقال أبو علي: وجه الكسر قول العرب: هو عس بذلك، مثل حر وشج، وقد جاء فعل وفعل في نحو نقم ونقم، فكذلك عسيت وعسيت، وكذا قال مكي. وقد قرأ بالكسر أيضاً الحسن وطلحة فلا وجه لتضعيف ذلك، وهو من أفعال المقاربة: أي هل قاربتم أن لا تقاتلوا، وإدخال حرف الاستفهام على فعل المقاربة لتقرير ما هو متوقع عنده والإشعار بأنه كائن، وإدخال حرف الاستفهام على فعل المقاربة لتقرير ما هو متوقع عنده والإشعار بأنه كائن، وفصل بين عسى وخبرها بالشرط للدلالة على الاعتناء به. قال الزجاج: أن لا تقاتلوا في موضع نصب: أي هل عسيتم مقاتلة. قال الأخفش: أن في قوله: " وما لنا أن لا نقاتل " زائدة. وقال الفراء: هو محمول على المعنى: أي وما منعنا كما تقول ما لك ألا تصلي، وقيل المعنى: وأي شيء لنا في أن لا نقاتل. قال النحاس: وهذا أجودها. وقوله: "وقد أخرجنا" تعليل والجملة حالية، وإفراد الأولاد بالذكر لأنهم الذين وقع عليهم السبي، أو لأنهم بمكان فوق مكان سائر القرابة "فلما كتب" أي فرض، أخبر سبحانه أنهم تولوا لاضطراب نياتهم وفتور عزائمهم. واختلف في عدد القليل الذين استثناهم الله سبحانه، وهم الذين اكتفوا بالغرفة.

وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَة

وقوله: 247- "وقال لهم نبيهم" شروع في تفصيل ما جرى بينهم وبين نبيهم من الأقوال والأفعال. وطالوت: اسم عجمي، وكان سقاء، وقيل: دباغاً، وقيل: مكارياً، ولم يكن من سبط النبوة وهم بنولاوي، ولا من سبط الملك وهم بنو يهوذا، فلذلك "قالوا أنى يكون له الملك علينا" أي كيف ذلك، ولم يكن من بيت الملك، ولا هو ممن أوتي سعة من المال حتى نتبعه لشرفه أو لماله، وهذه الجملة أعني قوله: "ونحن أحق" حالية وكذلك الجملة المعطوفة عليها. وقوله: "اصطفاه عليكم" أي اختاره واختيار الله هو الحجة القاطعة. ثم بين لهم مع ذلك وجه الاصطفاء: بأن الله زاده بسطة في العلم، الذي هو ملاك الإنسان ورأس الفضائل وأعظم وجوه الترجيح، وزاده بسطة في الجسم الذي يظهر به الأثر في الحروب ونحوها، فكان قوياً في دينه وبدنه، وذلك هو المعتبر، لا شرف الأنسب. فإن فضائل النفس مقدمة عليه "والله يؤتي ملكه من يشاء" فالملك ملكه، والعبيد عبيده، فما لكم والاعتراض على شيء ليس هو لكم ولا أمره إليكم. وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن قوله: "والله يؤتي ملكه من يشاء" من قول نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: هو من قول نبيهم وهو الظاهر. وقوله: "واسع" أي واسع الفضل، يوسع على من يشاء من عباده "عليم" بمن يستحق الملك ويصلح له.

وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آَيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آَلُ مُوسَى وَآَلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ

248- والتابوت فعلوت من التوب وهو الرجوع لأنهم يرجعون إليه: أي علامة ملكه إتيان التابوت الذي أخذ منهم: أي رجوعه إليكم وهو صندوق التوراة. والسكينة فعيلة مأخوذة من السكون والوقار والطمأنينة: أي فيه سبب سكون قلوبكم فيما اختلفتم فيه من أمر طالوت. قال ابن عطية: الصحيح أن التابوت كانت فيه أشياء فاضلة من بقايا الأنبياء وآثارهم، فكانت النفوس تسكن إلى ذلك وتأنس به وتتقوى. وقد اختلف في السكينة على أقوال سيأتي بيان بعضها، وكذلك اختلف في البقية، فقيل: هي عصا موسى ورضاض الألواح، وقيل غير ذلك. قيل: والمراد بآل موسى وهارون هما أنفسهما: أي مما ترك هارون وموسى، ولفظ آل مقحمة لتفخيم شأنهما، وقيل: المراد الأنبياء من بني يعقوب لأنهما من ذرية يعقوب، فسائر قرابته ومن تناسل منه آل لهما.

فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَ

وفصل معناه: خرج بهم، فصلت الشيء فانفصل أي قطعته فانقطع، وأصله متعد، يقال: فصل نفسه ثم استعمل استعمال اللازم كانفصل، وقيل: إن فصل يستعمل لازماً ومتعدياً، يقال: فصل عن البلد فصولاً، وفصل نفسه فصلاً. والابتلاء: الاختبار. والنهر: قيل: هو بين الأردن وفلسطين، وقرأه الجمهور بنهر بفتح الهاء. وقرأ حميد ومجاهد والأعرج بسكون الهاء. والمراد بهذا الابتلاء اختبار طاعتهم، فمن أطاع في ذلك الماء أطاع فيما عداه، ومن عصى في هذا وغلبته نفسه فهو بالعصيان في سائر الشدائد أحرى، ورخص لهم في الغرفة ليرتفع عنهم أذى العطش عند الصابرين على شظف العيش الدافعين أنفسهم عن الرفاهية. فالمراد بقوله: 249- "فمن شرب منه" أي كرع ولم يقتصر على الغرفة، ومن ابتدائية. ومعنى قوله: "فليس مني" أي ليس من أصحابي من قوله: فلان من فلان كأنه بعضه لاختلاطهما وطول صحبتهما، وهذا مهيع في كلام العرب معروف، ومنه قول الشاعر: إذا حاولت في أسد فجورا فإني لست منك ولست مني وقوله: "ومن لم يطعمه" يقال طعمت الشيء: أي ذقته، وأطعمته الماء: أي أذقته، وفيه دليل على أن الماء يقال له طعام، والاغتراف: الأخذ من الشيء باليد أو بآلة، والغرف مثل الاغتراف، والغرفة المرة الواحدة. وقد قرئ بفتح الغين وضمها، فالفتح للمرة، والضم اسم للشيء المغترف، وقيل: بالفتح الغرفة بالكف الواحدة، وبالضم الغرفة بالكفين، وقيل: هما لغتان بمعنى واحد، ومنه قول الشاعر: لا يدلفون إلى ماء بآنية إلا اغترافاً من الغدران بالراح قوله: "إلا قليلاً" سيأتي بيان عددهم، وقرئ: إلا قليل ولا وجه له إلا ما قيل من أنه من هجر اللفظ إلى جانب المعنى: أي لم يعطه إلا قليل، وهو متعسف. قوله: "فلما جاوزه" أي جاوز النهر طالوت "والذين آمنوا معه" وهم القليل الذين أطاعوه، ولكنهم اختلفوا في قوة اليقين، فبعضهم قال: "لا طاقة لنا" و"قال الذين يظنون" أي يتيقنون "أنهم ملاقوا الله" والفئة: الجماعة، والقطعة منهم من فأوت رأسه بالسيف: أي قطعته.

وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ

وقوله: 250- "برزوا" أي صاروا في البراز وهو المتسع من الأرض. وجالوت أمير العمالقة. قالوا: أي جميع من معه من المؤمنين، والإفراغ يفيد معنى الكثرة. وقوله: "وثبت أقدامنا" هذا عبارة عن القوة وعدم الفشل، يقال: ثبت قدم فلان على كذا إذا استقر له ولم يزل عنه، وثبت قدمه في الحرب إذا كان الغلب له والنصر معه. قوله: "وانصرنا على القوم الكافرين" هم جالوت وجنوده. ووضع الظاهر موضع المضمر إظهاراً لما هو العلة الموجبة للنصر عليهم وهي كفرهم، وذكر النصر بعد سؤال تثبيت الأقدام، لكون الثاني هو غاية الأول.

فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ

قوله: 251- "فهزموهم بإذن الله" الهزم: بالكسر: ومنه سقاء منهزم: أي انثنى بعضه على بعض مع الجفاف، ومنه ما قيل في زمزم إنها هزمة جبريل: أي هزمتها برجله فخرج الماء، والهزم: ما يكسر من يابس الحطب، وتقدير الكلام فأنزل الله عليهم النصر: "فهزموهم بإذن الله" أي بأمره وإرادته. قوله: "وقتل داود جالوت" هو داود بن إيشا بكسر الهمزة ثم تحتية ساكنة بعدها معجمة، ويقال: داود بن زكريا بن بشوي من سبط يهوذا بن يعقوب جمع الله له بين النبوة والملك بعد أن كان راعياً، وكان أصغر إخوته، اختاره طالوت لمقاتلة جالوت فقتله. والمراد بالحكمة هنا النبوة، وقيل: هي تعليمه صنعة الدروع ومنطق الطير، وقيل: هي إعطاؤه السلسلة التي كانوا يتحاكمون إليها. قوله: "وعلمه مما يشاء" قيل: إن المضارع هنا موضوع موضع الماضي، وفاعل هذا الفعل هو الله تعالى، وقيل: داود. وظاهر هذا التركيب أن الله سبحانه علمه مما قضت به مشيئته وتعلقت به إرادته، وقد قيل إن من ذلك ما قدمنا من تعليمه صنعة الدروع وما بعده. قوله: " ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض " قرأه الجماعة "ولولا دفع الله" وقرأ نافع " دفع " وهما مصدران لدفع، كذا قال سيبويه. وقال أبو حاتم: دافع ودفع واحد مثل: طرقت نعلي وطارقته. واختار أبو عبيدة قراءة الجمهور وأنكر قراءة دفاع، قال: لأن الله عز وجل لا يغالبه أحد. قال مكي: يوهم أبو عبيدة أن هذا من باب المفاعلة وليس به، وعلى القراءتين فالمصدر مضاف إلى الفاعل: أي "ولولا دفع الله الناس" وبعضهم بدل من الناس وهم الذين يباشرون أسباب الشر والفساد ببعض آخر منهم، وهم الذين يكفونهم عن ذلك ويردونهم عنه "لفسدت الأرض" لتغلب أهل الفساد عليها وإحداثهم للشرور التي تهلك الحرث والنسل وتنكير فضل للتعظيم.

تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ

وآيات الله: هي ما اشتملت عليه هذه القصة من الأمور المذكورة. والمراد 252- "بالحق" هنا الخبر الصحيح الذي لا ريب فيه عند أهل الكتاب والمطلعين على أخبار العالم. وقوله: "إنك لمن المرسلين" إخبار من الله سبحانه بأنه من جملة رسل الله سبحانه تقوية لقلبه وتثبيتاً لجنانه وتشديداً لأمره. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل" قال: هذا حين رفعت النبوة واستخرج أهل الإيمان، وكانت الجبابرة قد أخرجتهم من ديارهم وأبنائهم "فلما كتب عليهم القتال" وذلك حين أتاهم التابوت، قال: وكان من إسرائيل سبطان: سبط نبوة، وسبط خلافة، فلا تكون الخلافة إلا في سبط الخلافة، ولا تكون النبوة إلا في سبط النبوة، " وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه " وليس من أحد السبطين لا من سبط النبوة ولا من سبط الخلافة "قال إن الله اصطفاه عليكم" فأبوا أن يسلموا له الرياسة حتى قال لهم: "إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية" وكان موسى حين ألقى الألواح تكسرت ورفع منها وجمع ما بقي فجعله في التابوت، وكانت العمالقة قد سبت ذلك التابوت، والعمالقة فرقة من عاد كانوا بأريحاء، فجاءت الملائكة بالتابوت تحمله بين السماء والأرض وهم ينظرون إليه حتى وضعته عند طالوت، فلما رأوا ذلك قالوا: نعم فسلموا له وملكوه، وكانت الأنبياء إذا حضروا قتالاً قدموا التابوت بين أيديهم ويقولون: إن آدم نزل بذلك التابوت وبالركن وبعصى موسى من الجنة. وبلغني أن التابوت وعصى موسى في بحيرة طبرية، وأنهما يخرجان قبل يوم القيامة. وقد ورد هذا المعنى مختصراً ومطولاً عن جماعة من السلف فلا يأتي التطويل بذكر ذلك بفائدة يعتد بها. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق السدي عن أبي مالك عن ابن عباس "وزاده بسطة" يقول: فضيلة "في العلم والجسم" يقول: كان عظيماً جسيماً يفضل بني إسرائيل بعنقه. وأخرج أيضاً عن وهب بن منبه "وزاده بسطة في العلم" قال: العلم بالحرب. وأخرج ابن المنذر عنه أنه سئل أنبياً كان طالوت؟ قال: لا، لم يأته وحي. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عنه أنه سئل عن تابوت موسى ما سعته؟ قال: نحو من ثلاثة أذرع في ذراعين. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: السكينة الرحمة. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه قال: السكينة والطمأنينة. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال: السكينة دابة قدر الهر لها عينان لهما شعاع، وكان إذا التقى الجمعان أخرجت يديها ونظرت إليهم فيهزم الجيش من الرعب. وأخرج الطبراني بسند ضعيف عن علي قال: السكينة ريح خجوج ولها رأسان. وأخرج عبد الرزاق وأبو عبيد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن علي قال: السكينة لها وجه كوجه الإنسان، ثم هي بعد ريح هفانة. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن مجاهد قال: السكينة من الله كهيئة الريح، لها وجه كوجه الهر وجناحان وذنب مثل ذنب الهر. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير عن ابن عباس قال: "فيه سكينة من ربكم" قال: طست من ذهب من الجنة كان يغسل بها قلوب الأنبياء ألقي الألواح فيها. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن وهب بن منبه أنه قال: هي روح من الله لا تتكلم، إذا اختلفوا في شيء تكلم فأخبرهم ببيان ما يريدون. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال: هي شيء تسكن إليه قلوبهم. وأخرج عبد الرزاق عن قتادة قال: فيه سكينة، أي: وقار. وأقول: هذه التفاسير المتناقضة لعلها وصلت إلأى هؤلاء الأعلام من وجهة اليهود أقماهم الله، فجاءوا بهذه الأمور لقصد التلاعب بالمسلمين رضي الله عنهم والتشكيك عليهم، وانظر إلى جعلهم لها تارةً حيواناً وتارةً جماداً وتارةً شيئاً لا يعقل، كقول مجاهد: كهيئة الريح لها وجه كوجه الهر، وجناحان وذنب مثل ذنب الهر. وهكذا كل منقول عن بني إسرائيل يتناقض ويشتمل على ما لا يعقل في الغالب، ولا يصح أن يكون مثل هذه التفاسير المتناقضة مروياً عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا رأياً رآه قائله، فهم أجل قدراً من التفسير بالرأي وبما لا مجال للاجتهاد فيه. إذا تقرر لك هذا عرفت أن الواجب الرجوع في مثل ذلك إلى معنى السكينة لغة وهو معروف ولا حاجة إلى ركوب هذه الأمور المتعسفة المتناقضة، فقد جعل الله عنها سعة ولو ثبت لنا في السكينة تفسير عن النبي صلى الله عليه وسلم لوجب علينا المصير إليه والقول به، ولكنه لم يثبت من وجه صحيح بل ثبت انها تنزلت عن بعض الصحابة عند تلاوته للقرآن كما في صحيح مسلم عن البراء قال:" كان رجل يقرأ سورة الكهف وعنده فرس مربوط، فتغشته سحابة فجعلت تدور وتدنو، وجعل فرسه ينفر منها: فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال: تلك السكينة نزلت للقرآن" .وليس في هذا إلا ان هذه التي سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم سحابة دارت على ذلك القارئ فالله أعلم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وبقية مما ترك آل موسى" قال: عصاه ورضاض الألواح. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن أبي صالح قال: كان في التابوت عصى موسى وعصى هارون، وثياب موسى وثياب هارون، ولوحان من التوراة والمن، وكلمة الفرج لا إله إلا الله الحليم الكريم وسبحان الله رب السموات السبع ورب العرش العظيم والحمد لله رب العالمين. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة في قوله: "تحمله الملائكة" قال: أقبلت به الملائكة تحمله حتى وضعته في بيت طالوت فأصبح في داره. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس "إن في ذلك لآية" قال: علامة. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس "إن الله مبتليكم بنهر" يقول: بالعطش، فلما انتهى إلى النهر وهو نهر الأردن كرع فيه عامة الناس فشربوا منه، فلم يزد من شرب منه إلا عطشاً، وأجزأ من اغترف غرفة بيده وانقطع الظمأ عنه. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير "فشربوا منه إلا قليلاً منهم" قال: القليل ثلثمائة وبضعة عشر عدة أهل بدر. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد والبخاري وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن البراء قال: كنا أصحاب محمد نتحدث أن أصحاب بدر على عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر، ولم يجاوز معه إلا مؤمن بضعة عشر وثلثمائة. وقد أخرج ابن جرير عن قتادة قال: ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم بدر: "أنتم بعدة أصحاب طالوت يوم لقي جالوت". وأخرج ابن عساكر من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال: كانوا ثلثمائة ألف وثلاثة آلاف وثلثمائة وثلاثة عشر، فشربوا منه كلهم إلا ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً عدة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر، فردهم طالوت ومضى ثلثمائة وثلاثة عشر. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله: "الذين يظنون" قال: الذين يستيقنون. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: كان طالوت أميراً على الجيش، فبعث أبو داود مع داود بشيء إلى إخوته، فقال داود لطالوت: ماذا لي، وأقبل جالوت فقال: لك ثلث ملكي وأنكحك ابنتي، فأخذ مخلاة فجعل فيها ثلاث مروات، ثم سمى إبراهيم وإسحاق ويعقوب، ثم أدخل يده فقال: بسم الله إلهي وإله آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فخرج على إبراهيم فجعله في مرحمته، فرمى بها جالوت فخرق ثلاثة وثلاثين بيضة عن رأسه وقتلت ما وراءه ثلاثين ألفاً. وقد ذكر المفسرون أقاصيص كثيرة من هذا الجنس والله أعلم. وأخرج ابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس في قوله: "ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض" قال: يدفع الله بمن يصلي عمن لا يصلي، وبمن بحج عمن لا يحج، وبمن يزكي عمن لا يزكي. وأخرج ابن عدي وابن جرير بسند ضعيف عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ليدفع بالمسلم الصالح عن مائة أهل بيت من جيرانه البلاء" ثم قرأ ابن عمر "ولولا دفع الله الناس" الآية وفي إسناده يحيى بن سعيد العطار الحمصي وهو ضعيف جداً.

تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ م

قوله: 253- "تلك الرسل" قيل: هو إشارة إلى جميع الرسل فتكون الألف واللام للاستغراق- وقيل: هو إشارة إلى الأنبياء المذكورين في هذه السورة، وقيل: إلى الأنبياء الذين بلغ علمهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم. والمراد بتفضيل بعضهم على بعض أن الله سبحانه جعل لبعضهم من مزايا الكمال فوق ما جعله للآخر، فكان الأكثر مزايا فاضلاً والآخر مفضولاً. وكما دلت هذه الآية على أن بعض الأنبياء أفضل من بعض كذلك دلت الآية الأخرى وهي قوله تعالى: "ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبوراً". وقد استشكل جماعة من أهل العلم الجمع بين هذه الآية وبين ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعاً بلفظ "لا تفضلوني على الأنبياء" وفي لفظ آخر "لا تفضلوا بين الأنبياء" وفي لفظ "لا تخيروا بين الأنبياء" فقال قوم: إن هذا القول منه صلى الله عليه وسلم كان قبل أن يوحى إليه بالتفضيل، وأن القرآن ناسخ للمنع من التفضيل، وقيل: إنه قال صلى الله عليه وسلم ذلك على سبيل التواضع كما قال: " لا يقل أحدكم أنا خير من يونس بن متى" تواضعاً مع علمه أنه أفضل الأنبياء كما يدل عليه قوله: "أنا سيد ولد آدم"، وقيل: إنما نهى عن ذلك قطعاً للجدال والخصام في الأنبياء، فيكون مخصوصاً بمثل ذلك لا إذا كان صدور ذلك مأموناً، وقيل: إن النهي إنما هو من جهة النبوة فقط، لأنها خصلة واحدة لا تفاضل فيها، ولا نهي عن التفاضل بزيادة الخصوصيات والكرامات، وقيل: إن المراد النهي عن التفضيل لمجرد الأهواء والعصبية. وفي جميع هذه الأقوال ضعف. وعندي أنه لا تعارض بين القرآن والسنة، فإن القرآن دل على أن الله فضل بعض أنبيائه على بعض، وذلك لا يستلزم أنه يجوز لنا أن نفضل بعضهم على بعض، فإن المزايا التي هي مناط التفضيل معلومة عند الله لا تخفى عليه منها خافية وليست بمعلومة عند البشر، فقد يجهل أتباع نبي من الأنبياء بعض مزاياه وخصوصياته فضلاً عن مزايا غيره، والتفضيل لا يجوز إلا بعد العلم بجميع الأسباب التي يكون بهال هذا فاضلاً وهذا مفضولاً، لا قبل العلم ببعضها أو بأكثرها أو بأقلها، فإن ذلك تفضيل بالجهل وإقدام على أمر لا يعلمه الفاعل له وهو ممنوع منه، فلو فرضنا أنه لم يرد إلا القرآن في الإخبار لنا بأن الله فضل بعض أنبيائه على بعض لم يكن فيه دليل على أنه يجوز للبشر أن يفضلوا بين الأنبياء، فكيف وقد وردت السنة الصحيحة بالنهي عن ذلك؟ وإذا عرفت هذا علمت أنه لا تعارض بين القرآن والسنة بوجه من الوجوه، فالقرآن فيه الإخبار من الله بأنه نفضل بعض أنبيائه على بعض، والسنة فيها النهي لعباده أن يفضلوا بين أنبيائه، فمن تعرض للجمع بينهما زاعماً أنهما متعارضان فقد غلط غلطاً بيناً. قوله: "منهم من كلم الله" وهو موسى ونبينا سلام الله عليهما. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في آدم: "إنه نبي مكلم". وقد ثبت ما يفيد ذلك في صحيح ابن حبان من حديث أبي ذر. قوله: "ورفع بعضهم درجات" هذا البعض يحتمل أن يراد به من عظمت منزلته عند الله سبحانه من الأنبياء ويحتمل أن يراد به نبينا صلى الله عليه وسلم لكثرة مزاياه المقتضية لتفضيله، ويحتمل أن يراد به إدريس لأن الله سبحانه أخبرنا بأنه رفعه مكاناً علياً، وقيل: إنهم أولوا العزم، وقيل: إبراهيم، ولا يخفاك أن الله سبحانه أيهم هذا البعض المرفوع، فلا يجوز لنا التعرض للبيان له إلا ببرهان من الله سبحانه أو من أنبيائه عليهم الصلاة والسلام ولم يرد ما يرشد إلى ذلك، فالتعرض لبيانه هو من تفسير القرآن الكريم بمحض الرأي، وقد عرفت ما فيه من الوعيد الشديد مع كون ذلك ذريعة إلى التفضيل بين الأنبياء وقد نهينا عنه، وقد جزم كثير من أئمة التفسير أنه نبينا صلى الله عليه وسلم وأطالوا في ذلك، واستدلوا بما خصه الله به من المعجزات ومزايا الكمال وخصال الفضل، وهم بهذا الجزم بدليل لا يدل على المطلوب قد وقعوا في خطرين وارتكبوا نهيين، وهما تفسير القرآن بالرأي، والدخول في ذرائع التفضيل بين الأنبياء، وإن لم يكن ذلك تفضيلاً صريحاً فهو ذريعة إليه بلا شك ولا شبهة، لأن من جزم بأن هذا البعض المرفوع درجات هو النبي الفلاني انتقل من ذلك إلى التفضيل المنهي عنه، وقد أغنى الله نبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم عن ذلك بما لا يحتاج معه إلى غيره من الفضائل والفواضل، فإياك أن تتقرب إليه صلى الله عليه وسلم بالدخول في أبواب نهاك عن دخولها فتعصيه وتسيء وأنت تظن أنك مطيع محسن. قوله: "وآتينا عيسى ابن مريم البينات" أي الآيات الباهرة والمعجزات الظاهرة من إحياء الأموات وإبراء المرضى وغير ذلك. قوله: "وأيدناه بروح القدس" هو جبريل، وقد تقدم الكلام على هذا. قوله: "ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم" أي من بعد الرسل، وقيل: من بعد موسى وعيسى ومحمد، لأن الثاني مذكور صريحاً، والأول والثالث وقعت الإشارة إلأيهما بقوله: "منهم من كلم الله" أي: لو شاء الله عدم اقتتالهم ما اقتتلوا، فمفعول المشيئة محذوف على القاعدة ولكن اختلفوا استثناءً من الجملة الشرطية: أي ولكن الاقتتال ناشئ عن اختلافهم اختلافاً عظيماً حتى صاروا مللاً مختلفة" منهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله" عدم اقتتالهم بعد هذا الإختلاف " ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد" لا راد لحكمه، ولا مبدل لقضائه، فهو يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله تعالى: "فضلنا بعضهم على بعض" قال: اتخذ الله إبراهيم خليلاً، وكلم موسى تكليماً، وجعل عيسى كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له: كن فيكون، وهو عبد الله وكلمته وروحه، وآتى داود زبوراً، وآتى سليمان ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده، وغفر لمحمد ما تقدم من ذنبه وما تأخر. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي عن مجاهد في قوله: " منهم من كلم الله " قال: كلم الله موسى، وأرسل محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة. وأخرج ابن أبي حاتم عن عامر الشعبي في قوله: "ورفع بعضهم درجات" قال: محمداً صلى الله عليه وسلم. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة: "ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم" يقول: من بعد موسى وعيسى. وأخرج ابن عساكر عن ابن عباس قال:" كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وعند أبو بكر وعمر وعثمان ومعاوية إذ أقبل علي فقال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاوية: أتحب علياً؟ قال: نعم، قال: إنها ستكون بينكم فتنة هنيهة، قال معاوية: فما بعد ذلك يا رسول الله؟ قال: عفو الله ورضوانه، قال: رضينا بقضاء الله، فعند ذلك نزلت هذه الآية "ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد"" قال السيوطي: وسنده واه.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ

ظاهر الأمر في قوله: 254- "أنفقوا" الوجوب، وقد حمله جماعة على صدقة الفرض لذلك، ولما في آخر الآية من الوعيد الشديد، وقيل: إن هذه الآية تجمع زكاة الفرض والتطوع. قال ابن عطية: وهذا صحيح، ولكن ما تقدم من الآيات في ذكر القتال وأن الله يدفع بالمؤمنين في صدور الكافرين يترجح منه أن هذا الندب إنما هو في سبيل الله. قال القرطبي: وعلى هذا التأويل يكون إنفاق المال مرة واجباً، ومرة ندباً بحسب تعين الجهاد وعدم تعينه. قوله: "من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه" أي: أنفقوا ما دمتم قادرين "من قبل أن يأتي" ما لا يمكنكم الإنفاق فيه وهو "يوم لا بيع فيه" أي لا يتبايع الناس فيه. والخلة: خالص المودة مأخوذة من تخلل الأسرار بين الصديقين. أخبر سبحانه أنه لا خلة في يوم القيامة نافعة ولا شفاعة مؤثرة إلا لمن أذن الله له. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بنصب لا بيع ولا خلة ولا شفاعة، من غير تنوين. وقرأ الباقون برفعها منونة، وهما لغتان مشهورتان للعرب، ووجهان معروفان عند النحاة، فمن الأول قول حسان: ألا طعان ألا فرسان عادية ألا يحشئوكم حول التنانير ومن الثاني قول الراعي: وما صرمتك حتى قلت معلنة لا ناقة لي في هذا ولا جمل ويجوز في غير القرآن التغاير برفع البعض ونصب البعض كما هو مقرر في علم الإعراب. قوله: "والكافرون هم الظالمون" فيه دليل على أن كل كافر ظالم لنفسه، ومن جملة من يدخل تحت هذا العموم مانع الزكاة منعاً يوجب كفره لوقوع ذلك في سياق الأمر بالإنفاق. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريج في قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم" قال: من الزكاة والتطوع. وأخرج ابن المنذر عن سفيان قال: يقال نسخت الزكاة كل صدقة في القرآن، ونسخ شهر رمضان كل صوم. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال: قد علم الله أن ناساً يتخاللون في الدنيا ويشفع بعضهم لبعض، فأما يوم القيامة فلا خلة إلا خلة المتقين. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن عطاء قال: الحمد لله الذي قال: "والكافرون هم الظالمون" ولم يقل والظالمون هم الكافرون.

اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِ

قوله: 255- "لا إله إلا هو" أي لا معبود بحق إلا هو، وهذه الجملة خبر المبتدأ. والحي: الباقي، وقيل: الذي لا يزول ولا يحول، وقيل: المصرف للأمور والمقدر للأشياء. قال الطبري عن قوم إنه يقال حي كما وصف نفسه، ويسلم ذلك دون أن ينظر فيه، وهو خبر ثان ومبتدأ محذوف. والقيوم القائم على كل نفس بما كسبت، وقيل: القائم بذاته المقيم لغيره، وقيل: القائم بتدبير الخلق وحفظه، وقيل: هو الذي لا ينام، وقيل: الذي لا بديل له. وأصل قيوم قيووم اجتمعت الياء والواو وسبقت إحداهما بالسكون فأدغمت الأولى في الثانية بعد قلب الواو ياء. وقرأ ابن مسعود وعلقمة والنخعي والأعمش الحي القيام بالألف، وروي ذلك عن عمر، ولا خلاف بين أهل اللغة أن القيوم أعرف عند العرب وأصح بناء، وأثبت علة. والسنة: النعاس في قول الجمهور، والنعاس: ما يتقدم النوم من الفتور وانطباق العينين، فإذا صار في القلب صار نوماً. وفرق المفصل بين السنة والنعاس والنوم فقال: السنة من الرأس، والنعاس في العين، والنوم في القلب انتهى. والذي ينبغي التعويل عليه في الفرق بين السنة والنوم أن السنة لا يفقد معها العقل، بخلاف النوم فإنه استرخاء أعضاء الدماغ من رطوبات الأبخرة حتى يفقد معه العقل، بل وجميع الإدراكات بسائر المشاعر، والمراد أنه لا يعتريه سبحانه شيء منهما، وقدم السنة على النوم، لكونها تتقدمه في الوجود. قال الرازي في تفسيره: إن السنة ما تتقدم النوم، فإذا كانت عبارة عن مقدمة النوم، فإذا قيل: لا تأخذه سنة دل على أنه لا يأخذه نوم بطريق الأولى، فكان ذكر النوم تكراراً، قلنا: تقدير الآية لا تأخذه سنة فضلاً عن أن يأخذه نوم، والله أعلم بمراده انتهى. وأقول: إن هذه الأولولية التي ذكرها غير مسلمة، فإن النوم قد يرد ابتداء من دون ما ذكر من النعاس. وإذا ورد على القلب والعين دفعة واحدة فإنه قال له نوم، ولا يقال له سنة، فلا يستلزم نفي السنة نفي النوم. وقد ورد عن العرب نفيهما جميعاً، ومنه قول زهير: ولا سنة طوال الدهر تأخذه ولا ينام وما في أمره فند فلم يكتف بنفي السنة، وأيضاً فإن الإنسان يقدر على أن يدفع عن نفسه السنة، ولا يقدر على أن يدفع عن نفسه النوم، فقد يأخذه النوم ولا تأخذه السنة، فلو وقع الاقتصار في النظم القرآني على نفي السنة لم يفد ذلك نفي النوم، وهكذا لو وقع الاقتصار على نفي النوم لم يفد نفي السنة، فكم من ذي سنة غير نائم، وكرر حرف النفي للتنصيص على شمول النفي لكل واحد منهما. قوله: "من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه" في هذا الاستفهام من الإنكار على من يزعم أن أحداً من عباده يقدر على أن ينفع أحداً منهم بشفاعة أو غيرها والتقريع والتوبيخ له ما لا مزيد عليه، وفيه من الدفع في صدور عباد القبور والصد في وجوههم والفت في أعضادهم ما لا يقادر قدره ولا يبلغ مداه، والذي يستفاد منه فوق ما يستفاد من قوله تعالى: "ولا يشفعون إلا لمن ارتضى" وقوله تعالى: "وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى" وقوله تعالى: "لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن" بدرجات كثيرة. وقد بينت الأحاديث الصحيحة الثابتة في دواوين الإسلام صفة الشفاعة، ولمن هي، ومن يقوم بها. قوله: "يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم" الضميران لما في السموات والأرض بتغليب العقلاء على غيرهم، وما بين أيديهم وما خلفهم عبارة عن المتقدم عليهم والمتأخر عنهم، أو عن الدنيا والآخرة وما فيهما. قوله: "ولا يحيطون بشيء من علمه" قد تقدم معنى الإحاطة، والعلم هنا بمعنى المعلوم: أي لا يحيطون بشيء من معلوماته. قوله: "وسع كرسيه" الكرسي الظاهر أنه الجسم الذي وردت الآثار بصفته كما سيأتي بيان ذلك. وقد نفى ودوده جماعة من المعتزلة، وأخطئوا في ذلك خطأ بيناً، وغلطوا غلطاً فاحشاً. وقال بعض السلف: إن الكرسي هنا عبارة عن العلم. قالوا: ومنه قيل للعلماء الكراسي، ومنه الكراسة التي يجمع فيها العلم، ومنه قول الشاعر: تحف بهم بيض الوجوه وعصبة كراسي بالأخبار حين تنوب ورجح هذا القول ابن جرير الطبري، وقيل كرسيه: قدرته التي يمسك بها السموات والأرض، كما يقال: اجعل لهذا الحائط كرسياً: أي ما يعمده، وقيل: إن الكرسي هو العرش، وقيل: هو تصوير لعظمته ولا حقيقة له، وقيل: هو عبارة عن الملك. والحق القول الأول، ولا وجه للعدول عن المعنى الحقيقي إلا مجرد خيالات تسببت عن جهالات وضلالات، والمراد بكونه وسع السموات والأرض أنها صارت فيه وأنه وسعها ولم يضق عنها لكونه بسيطاً واسعاً. وقوله: "ولا يؤوده حفظهما" معناه لا يثقله ثقالة أدنى الشيء، بمعنى أثقلني وتحملت منه مشقة. وقال الزجاج: يجوز أن يكون الضمير في قوله: "يؤوده" لله سبحانه، ويجوز أن يكون للكرسي لأنه من أمر الله " العلي " يراد به علو القدرة والمنزلة. وحكى الطبري عن قوم أنهم قالوا: هو العلي عن خلقه بارتفاع مكانه عن أماكن خلقه. قال ابن عطية: وهذه أقوال جهلة مجسمين، وكان الواجب أن لا تحكى انتهى. والخلاف في إثبات الجهة معروفة، ولكن الناشئ على مذهب يرى غيره خارجاً عن الشرع ولا ينظر في أدلته ولا يلتفت إليها، والكتاب والسنة هما المعيار الذي يعرف به الحق من الباطل، ويتبين به الصحيح من الفاسد "ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض" ولا شك أن هذا اللفظ يطلق على الظاهر الغالب كما في قوله: "إن فرعون علا في الأرض" وقال الشاعر: فلما علونا واستوينا عليهم تركناهم صرعى لنسر وكاسر والعظيم بمعنى عظم شأنه وخطره. قال في الكشاف: إن الجملة الأولى بيان لقيامه بتدبير الخلق وكونه مهيمناً عليه غير ساه عنه. والثانية بيان لكونه مالكاً لما يدبره. والجملة الثالثة بيان لكبرياء شأنه. والجملة الرابعة بيان لإحاطته بأحوال الخلق وعلمه بالمرتضى منهم المستوجب للشفاعة وغير المرتضى. والجملة الخامسة بيان لسعة علمه وتعلقه بالمعلومات كلها، أو لجلاله وعظم قدره. وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم في قوله: "الحي" أي حي لا يموت " القيوم " القائم الذي لا بديل له. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي عن مجاهد في قوله: "القيوم" قال: القائم على كل شيء. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال: القيوم الذي لا زوال له. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس في قوله: "لا تأخذه سنة ولا نوم" قال: السنة النعاس، والنوم هو النوم. وأخرجوا إلا البيهقي عن السدي قال: السنة ريح النوم الذي تأخذه في الوجه فينعس الإنسان. وأخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله: "يعلم ما بين أيديهم" قال: ما مضى من الدنيا "وما خلفهم" من الآخرة. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس "ما بين أيديهم" ما قدموا من أعمالهم "وما خلفهم" ما أضاعوا من أعمالهم. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله: "وسع كرسيه" قال: علمه، ألا ترى إلى قوله: "ولا يؤوده حفظهما". وأخرج الدارقطني في الصفات والخطيب في تاريخه عنه قال: "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله "وسع كرسيه" قال: كرسيه موضع قدمه، والعرش لا يقدر قدره إلا الله عز وجل". وأخرجه الحاكم وصححه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ والبيهقي عن أبي موسى الأشعري مثله موقوفاً. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: لو أن السموات السبع والأرضين السبع بسطن ثم وصلن بعضهن إلى بعض ما كن في سعته: يعني الكرسي إلا بمنزلة الحلقة في المفازة. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ في العظمة وابن مردويه والبيهقي عن أبي ذر الغفاري: أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكرسي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده ما السموات السبع عند الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة". وأخرج عبد بن حميد والبزار وأبو يعلى وابن جرير وأبو الشيخ والطبراني والضياء المقدسي في المختارة عن عمر قال: "أتت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: ادع الله أن يدخلني الجنة، فعظم الرب سبحانه وقال: إن كرسيه وسع السموات والأرض، وإن له أطيطاً كأطيط الرحل الجديد من ثقله" وفي إسناده عبد الله بن خليفة وليس بالمشهور. وفي سماعه من عمر نظر، ومنهم من يرويه عن عمر موقوفاً. وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة مرفوعاً: أنه موضع القدمين. وفي إسناده الحكم بن ظهير الفزاري الكوفي وهو متروك. وقد ورد عن جماعة من السلف من الصحابة وغيرهم في وصف الكرسي آثار لا حاجة في بسطها. وقد روى أبو داود في كتاب السنة من سننه من حديث جبير بن مطعم حديثاً في صفته، وكذلك أورد ابن مردويه عن بريدة وجابر وغيرهما. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ولا يؤوده حفظهما" قال: لا يثقل عليه. وأخرج ابن أبي حاتم عنه "ولا يؤوده" قال: ولا يكثره. وأخرج ابن جرير عنه قال: العظيم الذي قد كمل في عظمته. واعلم أنه قد ورد في فضل هذه الآية أحاديث. فأخرج أحمد ومسلم واللفظ له عن أبي بن كعب "أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله أي آية من كتاب الله أعظم؟ قال: آية الكرسي، قال: ليهنك العلم أبا المنذر". وأخرج النسائي وأبو يعلى وابن حبان وأبو الشيخ في العظمة والطبراني والحاكم وصححه عن أبي بن كعب: أنه كان له جرن فيه تمر، فكان يتعاهده، فوجده ينقص، فحرسه ذات ليلة فإذا هو بداية شبه الغلام المحتلم، قال: فسلمت فرد السلام، فقلت: ما أنت، جني أم إنسي؟ قال: جني، قلت: ناولني يدك، فناولني فإذا يده يد كلب وشعره شعر كلب، فقلت: هكذا خلق الجن؟ قال: لقد علمت الجن أن ما فيهم من هو أشد مني، قلت: ما حملك على ما صنعت؟ قال: بلغني أنك رجل تحب الصدقة فأحببنا أن نصيب من طعامك، فقال له أبي: فما الذي يجيرنا منكم؟ قال: هذه الآية آية الكرسي التي في سورة البقرة "من قالها حين يمسي أجير منا حتى يصبح، ومن قالها حين يصبح أجير منا حتى يمسي- فلما أصبح أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: صدق الخبيث". وأخرج البخاري في تاريخه والطبراني وأبو نعيم في المعرفة بسند رجاله ثقات عن ابن الأسقع البكري "أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءهم في صفة المهاجرين، فسأله إنسان أي آية في القرآن آعظم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم" حتى انقضت الآية". وأخرج أحمد من حديث أبي ذر مرفوعاً نحوه. وأخرج الخطيب البغدادي في تاريخه عن أنس مرفوعاً نحوه أيضاً. وأخرج الدارمي عن أنفع بن عبد الله الكلاعي نحوه. وأخرج البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة قال: "وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت فجعل يحثو وذكر قصة، وفي آخرها أنه قال له: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها، قلت: ما هي؟ قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي، فإنك لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح- فأخبر أبو هريرة بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أما إنه صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب يا أبا هريرة؟ قال: لا، قال: ذلك شيطان كذا". وأخرج نحو ذلك أحمد عن أبي أيوب. وأخرج الطبراني والحاكم وأبو نعيم والبيهقي عن معاذ بن جبل مرفوعاً نحوه. وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أعظم آية في كتاب الله- الله لا إله إلا هو الحي القيوم". وأخرج نحوه أحمد والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن أبي ذر مرفوعاً. وأخرج نحوه أيضاً أحمد والطبراني من حديث أبي أمامة مرفوعاً. وأخرج سعيد بن منصور والحاكم والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "سورة البقرة فيها آية سيدة آي القرآن لا تقرأ في بيت فيه شيطان إلا خرج منه، آية الكرسي". قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وأخرج الحاكم من حديث زائدة مرفوعاً "لكل شيء سنام، وسنام القرآن سورة البقرة، وفيها آية هي سيدة آي القرآن، آية الكرسي"، وقال: غريب لا نعرفه إلا من حديث حكيم بن جبير. وقد تكلم فيه شعبة وضعفه، وكذا ضعفه أحمد ويحيى بن معين وغير واحد، وتركه ابن مهدي، وكذبه السعدي. وأخرج أبو داود والترمذي وصححه من حديث أسماء بنت يزيد بن السكن قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في هاتين الآيتين: "الله لا إله إلا هو الحي القيوم"، و" الم * الله لا إله إلا هو " إن فيهما اسم الله الأعظم. وقد وردت أحاديث في فضلها غير هذه، وورد أيضاً في فضل قراءتها دبر الصلوات وفي غير ذلك، وورد أيضاً في فضلها مع مشاركة غيرها لها أحاديث، وورد عن السلف في ذلك شيء كثير.

لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ

قد اختلف أهل العلم في قوله: 256- "لا إكراه في الدين" على أقوال: الأول إنها منسوخة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أكره العرب على دين الإسلام وقاتلهم ولم يرض منهم إلا بالإسلام، والناسخ لها قوله تعالى: "يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين" وقال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين" وقال: " ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون "، وقد ذهب إلى هذا كثير من المفسرين. القول الثاني أنها ليست بمنسوخة وإنما نزلت في أهل الكتاب خاصة، وأنهم لا يكرهون على الإسلام إذا أدوا الجزية، بل الذين يكرهون هم أهل الأوثان، فلا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف، وإلى هذا ذهب الشعبي والحسن وقتادة والضحاك. القول الثالث: أن هذه الآية في الأنصار خاصة، وسيأتي بيان ما ورد في ذلك. القول الرابع: أن معناها لا تقولوا لمن أسلم تحت السيف إنه مكره فلا إكراه في الدين. القول الخامس: أنها وردت في السبي متى كانوا من أهل الكتاب لم يجبروا على الإسلام. وقال ابن كثير في تفسيره: أي لا تكرهوا أحداً على الدخول في دين الإسلام، فإنه بين واضح جلي دلائله وبراهينه لا تحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه، بل من هداه الله للإسلام وشرح صدره ونور بصيرته دخل فيه على بينة، ومن أعمى الله قلبه وختم على سمعه وبصره فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرهاً مقسوراً، وهذا يصلح أن يكون قولاً سادساً. وقال في الكشاف في تفسيره هذه الآية: أي لم يجبر الله أمر الإيمان على الإجبار والقسر، ولكن على التمكين والاختيار، ونحوه قوله: "ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين" أي: لو شاء لقسرهم على الإيمان، ولكن لم يفعل، وبني الأمر على الاختيار، وهذا يصلح أن يكون قولاً سابعاً. والذي ينبغي اعتماده ويتعين الوقوف عنده: أنها في السبب الذي نزلت لأجله محكمة غير منسوخة، وهو أن المرأة من الأنصار تكون مقلاة لا يكاد يعيش لها ولد، فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده، فلما أجليت يهود بني نضير كان فيهم من أبناء الأنصار فقالوا: لا ندع أبناءنا فنزلت، أخرجه أبو داود والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان وابن مردويه والبيهقي في السنن والضياء في المختارة عن ابن عباس. وقد وردت هذه القصة من وجوه، حاصلها ما ذكره ابن عباس مع زيادات تتضمن أن الأنصار قالوا: إنما جعلناهم على دينهم: أي دين اليهود، ونحن نرى أن دينهم أفضل من ديننا، وأن الله جاء بالإسلام فلنكرهنهم، فلما نزلت خير الأبناء رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكرههم على الإسلام. وهذا يقتضي أن أهل الكتاب لا يكرهون على الإسلام إذا اختاروا البقاء على دينهم وأدوا الجزية. وأما أهل الحرب فالآية وإن كانت تعمهم، لأن النكرة في سياق النفي وتريف الدين يفيدان ذلك، والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، لكن قد خص هذا العموم بما ورد من آيات في إكراه أهل الحرب من الكفار على الإسلام. قوله: "قد تبين الرشد من الغي" الرشد هنا الإيمان، والغي الكفر: أي قد تميز أحدهما على الآخر. وهذا استئناف يتضمن التعليل لما قبله. والطاغوت فعلوت من طغى يطغي ويطغو: إذا جاوز الحد. قال سيبويه: هو اسم مذكر مفرد: أي اسم جنس يشمل القليل والكثير، وقال أبو على الفارسي: إنه مصدر كرهبوت وجبروت يوصف به الواحد والجمع، وقلبت لامه إلى موضع العين وعينه إلى موضع اللام كجبذ وجذب، ثم تقلب الواو ألفاً لتحركها وتحرك ما قبلها، فقيل: طاغوت، واختار هذا القول النحاس، وقيل: أصل الطاغوت في اللغة مأخوذ من الطغيان يؤدي معناه من غير اشتقاق، كما قيل: لآلئ من اللؤلؤ. وقال المبرد: هو جمع. قال ابن عطية: وذلك مردود. قال الجوهري: والطاغوت: الكاهن والشيطان وكل رأس في الضلال، وقد يكون واحداً. قال الله تعالى :"يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به" وقد يكون جمعاً. قال الله تعالى: "أولياؤهم الطاغوت" والجمع طواغيت: أي فمن يكفر بالشيطان أو الأصنام أو أهل الكهانة ورؤوس الضلالة أو بالجميع "ويؤمن بالله" عز وجل بعد ما تميز له الرشد من الغي فقد فاز وتمسك بالحبل الوثيق: أي المحكم. والوثقى فعلى من الوثاقة وجمعها وثق مثل الفضلى والفضل. وقد اختلف المفسرون في تفسير العروة الوثقى بعد اتفاقهم على أن ذلك من باب التشبيه والتمثيل لما هو معلوم بالدليل بما هو مدرك بالحاسة، فقيل: المراد بالعروة الإيمان، وقيل: الإسلام، وقيل: لا إله إلا الله، ولا مانع من الحمل على الجميع. والانفصام: الانكسار من غير بينونة. قال الجوهري: فصم الشيء كسره من غير أن يبين. وأما القصم بالقاف فهو الكسر مع البينونة، وفسر صاحب الكشاف الانفصام بالانقطاع.

اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ

قوله: 257- "الله ولي الذين آمنوا" الولي فعيل بمعنى فاعل، وهو الناصر. وقوله: "يخرجهم" تفسير للولاية، أو حال من الصمير في ولي، وهذا يدل على أن المراد بقوله: "الذين آمنوا" الذين أرادوا الإيمان، لأن من قد وقع منه الإيمان قد خرج من الظلمات إلى النور إلا أن يراد بالإخراج إخراجهم من الشبه التي تعرض للمؤمنين فلا يحتاج إلى تقدير الإرادة، والمراد بالنور في قوله: "يخرجونهم من النور إلى الظلمات" ما جاء به أنبياء الله من الدعوة إلى الدين، فإن ذلك نور للكفار أخرجهم أولياؤهم عنه إلى ظلمة الكفر: أي قررهم أولياؤهم على ما هم عليه من الكفر بسبب صرفهم عن إجابة الداعي إلى الأنبياء. وقيل: المرد بالذين كفروا هنا الذين ثبت في علمه تعالى كفرهم يخرجهم أولياؤهم من الشياطين ورؤوس الضلال من النور الذي هو فطرة الله التي فطر الناس عليها إلى ظلمات الكفر التي وقعوا فيها بسبب ذلك الإخراج. وقد أخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد ابن جرير وابن المنذر والبيهقي عن سعيد بن جبير نحو ما تقدم عن ابن عباس من ذكر سبب نزول قوله تعالى: "لا إكراه في الدين" وزاد أن النبي صلى الله عليه وسلم خير الأبناء. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن الشعبي نحوه أيضاً، وقال: فلحق بهم: أي ببني النضير من لم يسلم وبقي من أسلم. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: كان الناس من الأنصار مسترضعين في بني قريظة فثبتوا على دينهم، فلما جاء الإسلام أراد أهلوهم أن يكرهوهم على الإسلام فنزلت. وأخرج ابن جرير عن الحسن نحوه. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير عن ابن عباس في قوله: "لا إكراه في الدين" قال: نزلت في رجل من الأنصار من بني سالم بن عوف يقال له الحصين، كان له ابنان نصرانيان، وكان هو رجلاً مسلماً، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: ألا أستكرههما فإنهما قد أبيا إلا النصرانية؟ فنزلت. وأخرج عبد بن حميد بن عبد الله بن عبيدة نحوه. وكذلك أخرج أبو داود في ناسخه وابن جرير وابن المنذر عن السدي نحوه. وأخرج عبد بن حميد وأبو داود في ناسخه وابن جرير عن قتادة قال: كانت العرب ليس لها دين، فأكرهوا على الدين بالسيف. قال: ولا تكرهوا اليهود ولا النصارى والمجوس إذا أعطوا الجزية. وأخرج سعيد بن منصور عن الحسن نحوه. وأخرج البخاري عن أسلم: سمعت عمر بن الخطاب يقول لعجوز نصرانية: أسلمي تسلمي، فأبت، فقال: اللهم اشهد، ثم تلا "لا إكراه في الدين" وروي عنه سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم أنه قال لزنبق الرومي غلامه: لو أسلمت استغنت بك على أمانة المسلمين فأبى، فقال: "لا إكراه في الدين". وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن سليمان بن موسى في قوله: "لا إكراه في الدين" قال نسختها: "جاهد الكفار والمنافقين". وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب قال: الطاغوت الشيطان. وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: الطاغوت الكاهن. وأخرج ابن جرير عن أبي العالية قال: الطاغوت الساحر. وأخرج ابن أبي حاتم عن مالك بن أنس قال: الطاغوت ما يعبد من دون الله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: العروة الوثقى لا إله إلا الله. وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم عن أنس بن مالك: أنها القرآن. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد: أنها الإيمان. وعن سفيان: أنها كلمة الإخلاص. وقد ثبت في الصحيحين تفسير العروة الوثقى في غير هذه الآية بالإسلام مرفوعاً في تعبيره صلى الله عليه وسلم لرؤيا عبد الله بن سلام. وأخرج ابن عساكر عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر فإنهما حبل الله الممدود، فمن تمسك بهما فقد تمسك بعروة الله الوثقى التي لا انفصام لها". وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس قال: إذا وحد الله وآمن بالقدر فهي العروة الوثقى. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن معاذ أنه سئل عن قوله: "لا انفصام لها" قال: لا انقطاع لها دون دخول الجنة. وأخرج ابن المنذر والطبراني عن ابن عباس في قوله: "الله ولي الذين آمنوا" الآية، قال: هم قوم كانوا كفروا بعيسى فآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم "الذين كفروا أولياؤهم الطاغوت" الآية، قال: هم قوم آمنوا بعيسى فلما بعث محمد كفروا به. وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال: الظلمات الكفر. والنور: الإيمان. وأخرج أبو الشيخ عن السدي مثله.

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ

في هذه الآية استشهاد على ما تقدم ذكره من أن الكفرة أولياؤهم الطاغوت، وهمزة الاستفهام لإنكار النفي والتقرير المنفي: أي ألم ينته علمك أو نظرك إلى هذا الذي صدرت منه هذه المحاجة. قال الفراء: ألم تر بمعنى هل رأيت: أي هل رأيت الذي حاج إبراهيم وهو النمروذ بن كوس بن كنعان بن سلم بن نوح، وقيل: إنه النمروذ بن فالخ بن عامر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام. وقوله: 258- "أن آتاه الله الملك" أي لأن آتاه الله، أو من أجل أن آتاه الله على معنى أن إيتاء الملك أبطره وأورثه الكبر والعتو، فحاج لذلك، أو على أنه وضع المحاجة التي هي أقبح وجوه الكفر موضع ما يجب عليه من الشكر، كما يقال: عاديتني لأني أحسنت إليك، أو وقت أن آتاه الله الملك. وقوله: "إذ قال إبراهيم" هو ظرف لحاج، وقيل: بدل من قوله: "أن آتاه الله الملك" على الوجه الأخير وهو بعيد. قوله: "ربي الذي يحيي ويميت" بفتح ياء ربي، وقرئ بحذفها. قوله: "أنا أحيي" قرأ جمهور القراء أنا أحيي بطرح الألف التي بعد النون من أنا في الوصل وأثبتها نافع وابن أبي أويس كما في قول الشاعر: أنا شيخ العشيرة فاعرفوني حميداً قد تذربت السناما أراد إبراهيم عليه السلام أن الله هو الذي يخلق الحياة والموت في الأجساد، وأراد الكافر أنه يقدر أن يعفو عن القتل فيكون ذلك إحياءً، وعلى أن يقتل فيكون ذلك إماتة، فكان هذا جواباً أحمق لا يصح نصبه في مقابلة حجة إبراهيم، لأنه أراد غير ما أراده الكافر، فلو قال له: ربه الذي يخلق الحياة والموت في الأجساد فهل تقدر على ذلك؟ لبهت الذي كفر بادئ بدء وفي أول وهلة، ولكنه انتقل معه إلى حجة أخرى تنفيساً لخناقه، وإرسالاً لعنان المناظرة فقال: "فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب" لكون هذه الحجة لا تجري فيها المغالطة ولا يتيسر للكافر أن يخرج عنها بمخرج مكابرة ومشاغبة. قوله: "فبهت الذي كفر" بهت الرجل وبهت وبهت: إذا انقطع وسكت متحيراً. قال ابن جرير: وحكي عن بعض العرب في هذا المعنى بهت بفتح الباء والهاء. قال ابن جني: قرأ أبو حيوة فبهت بفتح الباء وضم الهاء، وهي لغة في بهت بكسر الهاء، قال: وقرأ ابن السميفع فبهت بفتح الباء والهاء على معنى فبهت إبراهيم الذي كفر، فـ"الذي" في موضع نصب، قال: وقد يجوز أن يكون بهت بفتحهما لغة في بهت. وحكى أبو الحسن الأخفش قراءة فبهت بكسر الهاء، قال: والأكثر بالفتح في الهاء. قال ابن عطية: وقد تأول قوم في قراءة من قرأ فبهت بفتحهما أنه بمعنى سب وقذف، وأن النمروذ هو الذي سب حين انقطع ولم يكن له حيلة انتهى. وقال سبحانه: "فبهت الذي كفر" ولم يقل فبهت الذي حاج، إشعاراً بأن تلك المحاجة كفر. وقوله: "والله لا يهدي القوم الظالمين" تذييل مقرر لمضمون الجملة التي قبله. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب أن الذي حاج إبراهيم في ربه هو نمروذ بن كنعان. وأخرجه ابن جرير عن مجاهد وقتادة والربيع والسدي. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن زيد بن أسلم: أن أول جبار كان في الأرض نمروذ، وكان الناس يخرجون يمتارون من عنده الطعام، فخرج إبراهيم عليه السلام يمتار مع من يمتار، فإذا مر به ناس قال: من ربكم؟ قالوا: أنت، حتى مر به إبراهيم، فقال: من ربك؟ قال: الذي يحيي ويميت، قال: أنا أحيي وأميت، قال: فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب، فبهت الذي كفر، فرده بغير طعام. فرجع إبراهيم إلى أهله فمر على كثيب من رمل أصفر فقال: ألا آخذ من هذا فآتي به أهلي، فتطيب أنفسهم حين أدخل عليهم، فأخذ منه فأتى أهله فوضع متاعه ثم نام، فقامت امرأته إلى متاعه ففتحته فإذا هي بأجود طعام رآه آخذ، فصنعت له منه فقربته إليه، وكان عهده بأهله أنه ليس عندهم طعام، فقال: من أين هذا؟ قالت: من الطعام الذي جئت به، فعرف أن الله رزقه فحمد الله. ثم بعث الله إلى الجبار ملكاً أن آمن وأتركك على ملكك. قال: فهل رب غيري؟ فجاءه الثانية فقال له ذلك فأبى عليه، ثم أتاه الثالثة فأبى عليه، فقال له الملك: فاجمع جموعك إلى ثلاثة أيام، فجمع الجبار جموعه فأمر الله الملك ففتح عليه باباً من البعوض وطلعت الشمس فلم يروها كثرتها، فبعثها الله عليهم فأكلت شحومهم وشربت دماءهم فلم يبق إلا العظام، والملك كما هو لا يصيبه من ذلك شيء، فبعث الله عليه بعوضة فدخلت في منخره فمكث أربعمائة سنة يضرب رأسه بالمطارق، وأرحم الناس به من جمع يديه ثم ضرب بهما رأسه، وكان جباراً أربعمائة سنة، فعذبه الله أربعمائة سنة كملكه، ثم أماته الله، وهو الذي كان بنى صرحاً إلى السماء فأتى الله بنياته من القواعد. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في الآية، قال: هو نمروذ بن كنعان يزعمون أنه أول من ملك في الأرض أتى برجلين قتل أحدهما وترك الآخر، فقال: "أنا أحيي وأميت". وأخرج أبو الشيخ عن السدي "والله لا يهدي القوم الظالمين" قال: إلى الإيمان.

أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِ

قوله: 259- " أو كالذي" أو للعطف حملاً على المعنى، والتقدير: هل رأيت كالذي حاج أو كالذي مر على قرية. قاله الكسائي والفراء. وقال المبرد: إن المعنى: ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه، ألم تر من هو كالذي مر على قرية فحذف قوله من هو. وقد اختار جماعة أن الكاف زائدة، واختار آخرون أنها إسمية. والمشهور أن القرية هي بيت المقدس بعد تخريب بختنصر لها، وقيل: المراد بالقرية أهلها. وقوله: "خاوية على عروشها" أي ساقطة على عروشها، أي سقط السقف ثم سقطت الحيطان عليه، قاله السدي واختاره ابن جرير وقيل: معناه خالية من الناس والبيوت قائمة، وأصل الخواء الخلو، يقال: خوت الدار وخويت تخوي خواءً ممدود وخوياً وخوياً: أقفرت، والخواء أيضاً الجوع لخلو البطن عن الغذاء. والظاهر القول الأول بدلالة قوله: "على عروشها" من خوى البيت إذا سقط، أو من خوت الأرض إذا تهدمت، وهذه الجملة حالية: أي من حال كونها كذلك. وقوله: "أنى يحيي هذه الله" أي متى يحيي أو كيف يحيي، وهو استبعاد لإحيائها وهي على تلك الحالة المشابهة لحالة الأموات المباية لحالة الأحياء، وتقديم المفعول لكون الاستبعاد ناشئاً من جهته لا من جهة الفاعل. فلما قال المار هذه المقالة مستبعداً لإحياء القرية المذكورة بالعمارة لها والسكون فيها ضرب الله له المثل في نفسه بما هو أعظم مما سأل عنه "فأماته الله مائة عام ثم بعثه" وحكى الطبري عن بعضهم أنه قال: كان هذا القول شكاً في قدرة الله سبحانه على إحياء قرية بجلب العمارة إليها، وإنما يتصور الشك إذا كان سؤاله عن إحياء موتاها. وقوله: "مائة عام" منصوب على الظرفية. والعام: السنة أصله مصدر كالعوم سمي به هذا القدر من الزمان. وقوله: "بعثه" معناه أحياه. قوله: "قال كم لبثت" هو استئناف كأن سائلاً سأله ماذا قال له بعد بعثه. واختلف في فاعل قال، فقيل: هو الله عز وجل، وقيل: ناداه بذلك ملك السماء، قيل هو جبريل، وقيل غيره، وقيل إنه نبي من الأنبياء، قيل رجل من المؤمنين من قومه شاهده عنده أن أماته الله وعمر إلى عند بعثه. والأول أولى لقوله فيما بعد: "وانظر إلى العظام كيف ننشزها" وقرأ ابن عامر وأهل الكوفة إلا عاصماً " كم لبثتم " بإدغام الثاء في التاء. وكم في موضع نصب على الظرفية، وإنما قال: "يوماً أو بعض يوم" بناءً على ما عنده وفي ظنه فلا يكون كاذباً، ومثله قول أصحاب الكهف: " قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم " ومثله قوله صلى الله عليه وسلم في قصة ذي اليدين: "لم تقصر ولم أنس" وهذا مما يؤيذ قول من قال: إن الصدق ما طابق الاعتقاد، والكذب ما خالفه. وقوله: "قال بل لبثت مائة عام" هو استئناف أيضاً كما سلف: أي ما لبثت يوماً أو بعض يوم بل لبث مائة عام. وقوله: "فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه" أمره سبحانه أن ينظر إلى هذا الأثر العظيم من آثار القدرة، وهو عدم تغير طعامه وشرابه مع طول تلك المدة. وقرأ ابن مسعود وهذا طعامك وشرابك لم يتسنه وقرأ طلحة بن مصرف وانظر لطعامك وشرابك لمائة سنة. وروي عن طلحة أيضاً أنه قرأ لم يسن بإدغام التاء في السين وحذف الهاء. وقرأه الجمهور بإثبات الهاء في الوصل، والتسنه مأخوذ من السنة: أي لم تغيره السنون، وأصلها سنهة أو سنوة من سنهت النخلة وتسنهت: إذا أتت عليها السنون، ونخلة سنا: أي تحمل سنة ولا تحمل أخرى، وأسنهت عند بني فلان: أقمت عندهم، وأصله يتسنا سقطت الألف للجزم والهاء للسكت وقيل: هو من أسن الماء: إذا تغير، وكان يجب على هذا أن يقال: يتأسن من قوله: "حمإ مسنون" قاله أبو عمرو الشيبانس. وقاله الزجاج: ليس كذلك، لأن قوله: "مسنون" ليس معناه متغير، وإنما معناه مصبوب على سنه الأرض. وقوله: "وانظر إلى حمارك" اختلف المفسرون في معناه، فذهب الأكثر إلى أن معناه انظر إليه كيف تفرقت أجزاؤه، ونخرت عظامه ثم أحياه الله وعاد كما كان. وقال الضحاك ووهب بن منبه: انظر إلى حمارك قائماً في مربطه لم يصبه شيء بعد أن مضت عليه مائة عام، ويؤيد القول الأول قوله تعالى: "وانظر إلى العظام كيف ننشزها" ويؤيد القول الثاني مناسبته لقوله: "فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه" وإنما ذكر سبحانه عدم تغير طعامه وشرابه بعد إخباره أنه لبث مائة عام، مع أن عدم تغير ذلك الطعام والشراب لا يصلح أن يكون دليلاً على تلك المدة الطويلة، بل على ما قاله من لبثه يوماً أو بعض يوم لزيادة استعظام ذلك الذي أماته الله تلك المدة، فإنه إذا رأى طعامه وشرابه لم يتغير مع كونه قد ظن أنه لم يلبث إلا يوماً أو بعض يوم زادت الحيرة وقويت عليه الشبهة، فإذا نظر إلى حماره عظاماً نخرة تقرر لديه أن ذلك صنع من تأتي قدرته بما لا تحيط به العقول، فإن الطعام والشراب سعيد التغير. وقد بقي هذه المدة الطويلة غير متغير، والحمار يعيش المدة الطويلة. وقد صار كذلك "فتبارك الله أحسن الخالقين". قوله: "ولنجعلك آية للناس" قال الفراء: إنه أدخل الواو في قوله: "ولنجعلك" دلالة على أنها شرط لفعل بعدها، معناه: ولنجعلك آية للناس ودلالة على البعث بعد الموت جعلنا ذلك. وإن شئت جعلت الواو مقحمة زائدة. قال الأعمش: موضع كونه آية هو أنه جاء شباباً على حاله يوم مات، فوجد الأبناء والحفدة شيوخاً. قوله: "وانظر إلى العظام كيف ننشزها" قرأ الكوفيون وابن عامر بالزاي والباقون بالراء. وروى أبان عن عاصم نشرها بفتح النون الأولى وسكون الثانية وضم الشين والراء. وقد أخرج الحاكم وصححه عن زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قرأ كيف ننشزها بالزاي. فمعنى القراءة بالزاي نرفعها، ومنه النشز: وهو المرتفع من الأرض: أي يرفع بعضها إلى بعض. وأما معنى القراءة بالراء المهملة فواضحة من أنشر الله الموتى: أي أحياهم وقوله: "ثم نكسوها لحماً" أي: نسترها به كما نستر الجسد باللباس فاستعار اللباس لذلك، كما استعارة النابغة للإسلام فقال: الحمد لله إذ لم يأتني أجلي حتى اكتسيت من الإسلام سربالا قوله: "فلما تبين له" أي ما تقدم ذكره من الآيات التي أراه الله سبحانه وأمره بالنظر إليها والتفكر فيها "قال أعلم أن الله على كل شيء قدير" لا يستعصي عليه شيء من الأشياء. قال ابن جرير: المعنى في قوله: "فلما تبين له" أي لما اتضح له عياناً ما كان مستنكراً في قدرة الله عنده قبل عيانه. "قال أعلم" وقال أبو علي الفارسي معناه: أعلم أن هذا الضرب من العلم الذي لم أكن علمته. وقرأ حمزة والكسائي " قالوا ربكم أعلم " على لفظ الأمر خطاباً لنفسه على طريق التجريد. وقد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن علي في قوله: "أو كالذي مر على قرية" قال: خرج عزير نبي الله من مدينته وهو شاب، فمر على قرية خربة وهي خاوية على عروشها، فقال: "أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه" فأول ما خلق الله عيناه فجعل ينظر إلى عظامه ينضم بعضها إلى بعض، ثم كسيت لحماً، ثم نفخ فيه الروح، فقيل له: "كم لبثت قال لبثت يوماً أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام" فأتى مدينته. وقد ترك جاراً له إسكافاً شاباً فجاء وهو شيخ كبير. وقد ورد عن جماعة من السلف أن الذي أماته الله عزير، منهم ابن عباس عند ابن جرير وابن عساكر، ومنهم عبد الله بن سلام عند الخطيب وابن عساكر، ومنهم عكرمة وقتادة وسليمان وبريدة والضحاك والسدي عند ابن جرير، وورد عن جماعة آخرين أن الذي أماته الله هو نبي اسمه أرمياء، فمنهم عبد الله بن عبيد بن عمير عند عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم، ومنهم وهب بن منبه عند عبد الرزاق وابن جرير وأبي الشيخ. وأخرج ابن إسحاق عنه أيضاً أنه الخضر. وأخرج ابن أبي حاتم عن رجل من أهل الشام أنه حزيقل. وروى ابن كثير عن مجاهد أنه رجل من بني إسرائيل. والمشهور القول الأول. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "خاوية" قال: خراب. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة قال: "خاوية" ليس فيها أحد. وأخرج أيضاً عن الضحاك قال: "على عروشها" سقوفها. وأخرج ابن جرير عن السدي قال: ساقطة على سقوفها. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة قال: "لبثت يوماً" ثم التفت فرأى الشمس فقال "أو بعض يوم". وأخرج عنه أيضاً قال: كان طعامه الذي معه سلة من تين، وشرابه زق من عصير. وأخرج أيضاً عن مجاهد نحوه. وأخرج أبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "لم يتسنه" قال: لم يتغير. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير قال: "لم يتسنه" لم ينتن. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود في قوله: "ولنجعلك آية للناس" مثل ما تقدم عن الأعمش، وكذلك أخرج مثله أيضاً عن عكرمة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "كيف ننشزها" قال: نخرجها. وأخرج ابن جرير عن زيد بن ثابت قال: نحييها.

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُ

قوله: 260- " وإذ " ظرف منصوب بفعل محذوف: أي اذكر وقت قول إبراهيم، وإنما كان الأمر بالذكر موجهاً إلى الوقت دون ما وقع فيه مع كونه المقصود لقصد المبالغة، لأن طلب وقت الشيء يستلزم طلبه بالأولى، وهكذا يقال في سائر المواضع الواردة في الكتاب العزيز يمثل هذا الظرف. وقوله: "رب" آثره على غيره لما فيه من الاستعطاف الموجب لقبول ما يرد بعده من الدعاء. وقوله: "أرني" قال الأخفش: لم يرد رؤية القلب، وإنما أراد رؤية العين وكذا قال غيره، ولا يصح أن يراد الرؤية القلبية هنا، لأن مقصود إبراهيم أن يشاهد الإحياء لتحصل له الطمأنينة والهمزة الداخلة على الفعل لقصد تعديته إلى المفعول الثاني وهو الجملة: أعني قوله: "كيف تحيي الموتى" وكيف في محل نصب على التشبيه بالظرف أو بالحال والعامل فيها الفعل الذي بعدها. وقوله: " أولم تؤمن " عطف على مقدر أي ألم تعلم ولم تؤمن بأني قادر على الإحياء حتى تسألني إراءته: "قال بلى" علمت وآمنت بأنك قادر على ذلك، ولكن سألت ليطمئن قلبي باجتماع دليل العيان إلى دلائل الإيمان. وقد ذهب الجمهور إلى أن إبراهيم لم يكن شاكاً في إحياء الموتى قط، وإنما طلب المعاينة لما جبلت عليه النفوس البشرية من رؤية ما أخبرت عنه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس الخبر كالمعاينة". وحكى ابن جرير عن طائفة من أهل العلم أنه سأل ذلك لأنه شك في قدرة الله. واستدلوا بما صح عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وغيرهما من قوله: "نحن أحق بالشك من إبراهيم" وبما روي عن ابن عباس أنه قال: "ما في القرآن عندي آية أرجى منها". وأخرجه عنه عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه، ورجح هذا ابن جرير بعد حكايته له. قال ابن عطية: وهو عندي مردود، يعني قول هذه الطائفة، ثم قال: وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: "نحن أحق بالشك من إبراهيم" فمعناه: أنه لو كان شاكاً لكنا نحن أحق به، ونحن لا نشك، فإبراهيم أحرى أن لا يشك. فالحديث مبني على نفي الشك عن إبراهيم. وأما قول ابن عباس: هي أرجى آية، فمن حيث أن فيها الإدلال على الله وسؤال الإحياء في الدنيا، وليست مظنة ذلك. ويجوز أن نقول هي أرجى آية لقوله: "أولم تؤمن" أي أن الإيمان كاف لا يحتاج معه إلى تنقير وبحث، قال: فالشك يبعد على من ثبت قدمه في الإيمان فقط، فكيف بمرتبة النبوة والخلة؟ والأنبياء معصومون من الكبائر ومن الصغائر التي فيها رذيلة إجماعاً، وإذا تأملت سؤاله عليه السلام وسائر الألفاظ للآية لم تعط شكاً، وذلك أن الاستفهام بكيف إنما هو سؤال عن حالة شيء موجود متقرر الوجود عند السائل والمسؤول نحو قولك: كيف علم زيد؟ وكيف نسج الثوب؟ ونحو هذا، ومتى قلت: كيف ثوبك؟ وكيف زيد؟ فإنما السؤال عن حال من أحواله. وقد تكون كيف خبراً عن شيء شأنه أن يستفهم عنه بكيف نحو قولك: كيف شئت فكن، ونحو قول البخاري: كيف كان بدء الوحي؟ وهي في هذه الآية استفهام عن هيئة الإحياء، والإحياء متقرر، ولكن لما وجدنا بعض المنكرين لوجود شيء قد يعبرون عن إنكاره بالاستفهام عن حالة لذلك الشيء يعلم أنها لا تصح، فيلزم من ذلك أن الشيء في نفسه لا يصح، مثال ذلك أن يقول مدع: أنا أرفع هذا الجبل، فيقول المكذب له: أرني كيف ترفعه. فهذه طريقة مجاز في العبارة ومعناها تسليم جدل، فيقول المكذب له: أرني كيف ترفعه. فهذه طريقة مجاز في العبارة ومعناها تسليم جدل، كأنه يقول: افرض أنك ترفعه. فلما كان في عبارة الخليل هذا الاشتراك المجازي خلص الله له ذلك وحمله على أن بين له الحقيقة فقال له: " أولم تؤمن قال بلى " فكمل الأمر وتخلص من كل شيء، ثم علل عليه السلام سؤاله بالطمأنينة. قال القرطبي: هذا ما ذكره ابن عطية وهو بالغ، ولا يجوز على الأنبياء صلوات الله عليهم مثل هذا الشك فإنه كفر، والأنبياء متفقون على الإيمان بالبعث. وقد أخبر الله سبحانه أن أنبياءه وأولياءه ليس للشيطان عليهم سبيل: فقال: "إن عبادي ليس لك عليهم سلطان". وقال اللعين: "إلا عبادك منهم المخلصين" وإذا لم يكن له عليهم سلطنه فكيف يشككم، وإنما سأل أن يشاهد كيفية جمع أجزاء الموتى بعد تفريقها، واتصال الأعصاب والجلود بعد تمزيقها فأراد أن يرقى من علم اليقين إلى عين اليقين. فقوله: "أرني كيف" طلف مشاهدة الكيفية. قال الماوردي: وليست الألف في قوله: "أولم تؤمن" ألف الاستفهام، وإنما هي ألف إيجاب وتقرير كما قال جرير: ألستم خير من ركب المطايا وأندى العالمين بطون راح والواو واو الحال، وتؤمن: معناه إيماناً مطلقاً دخل فيه فضل إحياء الموتى، والطمأنينة: اعتدال وسكون. وقال ابن جرير: معنى "ليطمئن قلبي" ليوقن. قوله: "فخذ أربعة من الطير" الفاء جواب شرط محذوف: أي إن أردت ذلك فخذ، والطير: اسم جمع لطائر كركب لراكب، أو جمع أو مصدر، وخص الطير بذلك، قيل: لأنه أقرب أنواع الحيوان إلى الإنسان، وقيل: إن الطير همته الطيران في السماء، والخليل كنت همته العلو، وقيل غير ذلك من الأسباب الموجبة لتخصيص الطير. وكل هذه لا تسمن ولا تغني من جوع وليست إلا خواطر أفهام وبوادر أذهان لا ينبغي أن تجعل وجوهاً لكلام الله، وعللاً لما يرد في كلامه، وهكذا قيل: ما وجه تخصيص هذا العدد فإن الطمأنينة تحصل بإحياء واحد؟ فقيل إن الخليل إنما سأل واحداً على عدد العبودية، فأعطى أربعاً على قدر الربوبية، وقيل إن الطيور الأربعة إشارة إلى الأركان الأربعة التي منها تتركب أركان الحيوان ونحو ذلك من الهذيان. قوله: "فصرهن إليك" قرئ بضم الصاد وكسرها: أي اضممهن إليك وأملهن واجمعهن، يقال: رجل أصور: إذا كان مائل العنق، ويقال صار الشيء يصوره: أماله. قال الشاعر: الله يعلم أنا في تلفتنا يوم الفراق إلى جيراننا صور وقيل معناه قطعتهن، يقال: صار الشيء يصوره: أي قطعته، ومنه قول توبة بن الحمير: فأدنت لي الأسباب حتى بلغتها بنهضي وقد كان اجتماعي يصورها أي يقطعها، وعلى هذا يكون قوله: "إليك" متعلقاً بقوله: "خذ". وقوله: "ثم اجعل على كل جبل منهن جزءاً" فيه الأمر بالتجزئة، لأن جعل كل جزء على جبل تستلزم تقدم التجزئة. قال الزجاج: المعنى ثم اجعل على كل جبل من كل واحد منهن جزءاً، والجزء النصيب. وقوله: "يأتينك" في محل جزم على أنه جواب الأمر، ولكنه بني لأجل نون الجمع المؤنث. وقوله: "سعياً" المراد به الإسراع في الطيران أو المشي. وقد أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس قال: إن إبراهيم مر برجل ميت زعموا أنه حبشي على ساحل البحر، فرأى دواب البحر تخرج فتأكل منه، وسباع الأرض تأتيه فتأكل منه، والطير يقع عليه فيأكل منه، فقال إبراهيم عند ذلك: رب، هذه دواب البحر تأكل من هذا، وسباع الأرض والطير، ثم تميت هذه فتبلى ثم تحييها، فأرني كيف تحيي الموتى " قال أولم تؤمن " يا إبراهيم أني أحيي الموتى؟ "قال بلى" يا رب "ولكن ليطمئن قلبي" يقول: لأرى من آياتك وأعلم أنك قد أجبتني فقال الله: خذ أربعاً من الطير واصنع ما صنع، والطير الذي أخذ: وز، ورأل، وديك، وطاوس، أخذ نصفين مختلفين: ثم أتى أربعة أجبل، فجعل على كل جبل نصفين مختلفين وهو قوله: "ثم اجعل على كل جبل منهن جزءاً" ثم تنحى ورؤوسها تحت قدميه فدعا باسم الله الأعظم، فرجع كل نصف إلى نصفه، وكل ريش إلى طائره، ثم أقبلت تطير بغير رؤوس إلى قدميه تريد رؤوسها بأعناقها، فرفع قدميه فوضع كل طائر منها عنقه في رأسه فعادت كما كانت. وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة نحوه. وأخرج أيضاً عبد بن حميد وابن المنذر عن الحسن نحوه. وأخرج ابن جرير عن ابن جريج أنها كانت جيفة حمار. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس في قوله: "ولكن ليطمئن قلبي" يقول: أعلم أنك تجيبني إذا دعوتك، وتعطيني إذا سألتك. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "فخذ أربعة من الطير" قال: الغرنوق، والطاوس، والديك، والحمامة. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتمال عن مجاهد، قال: الأربعة من الطير: الديك، والطاوس، والغراب، والحمام. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر، والبيهقي عن ابن عباس "فصرهن" قال: قطعهن. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه قال هي بالنبطية: شققهن. وأخرجا عنه أنه قال: "فصرهن" أوثقهن. وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال: وضعهن على سبعة أجبل، وأخذ الرؤوس بيده فجعل ينظر إلى القطرة تلقى القطرة والريشة تلقى الريشة حتى صرن أحياء ليس لهن رؤوس، فجئن إلى رؤوسهن فدخلن فيها.

مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ

قوله: 261- " كمثل حبة" لا يصح جعل هذا خبراً عن قوله: "مثل الذين ينفقون" لاختلافهما فلا بد من تقدير محذوف أما في الأول: أي مثل نفقة الذين ينفقون، أو في الثاني: أي كمثل زارع حبة، والمراد بالسبع السنابل هي التي تخرج في ساق واحد يتشعب منه سبع شعب في كل شعبة سنبلة، والحبة اسم لكل ما يزدرعه ابن آدم، ومنه قول المتلمس: آليت حب العراق الدهر أطعمه والحب يأكله في القرية السوس قيل: المراد بالسنابل هنا سنابل الدخن، فهو الذين يكون في السنبلة منه هذا العدد. وقال القرطبي: إن سنبل الدخن يجيء في السنبلة منه أكثر من هذا العدد بضعفين وأكثر على ما شاهدنا. قال ابن عطية: وقد يوجد في سنبل القمح ما فيه مائة حبة، وأما في سائر الحبوب فأكثر، ولكن المثال وقع بهذا القدر. وقال الطبري: إن قوله: "في كل سنبلة مائة حبة" معناه إن وجد ذلك وإلا فعلى أن تفرضه. قوله: "والله يضاعف لمن يشاء" يحتمل أن يكون المراد يضاعف هذه المضاعفة لمن يشاء أو يضاعف هذا العدد، فيزيد عليه أضعافه لمن يشاء وهذا هو الراجح لما سيأتي. وقد ورد القرآن بأن الحسنة بعشر أمثالها، واقتضت هذه الآية بأن نفقة الجهاد حسنتها بسبعمائة ضعف فيبنى العام على الخاص، وهذا بناءً على أن سبيل الله هو الجهاد فقط، وأما إذا كان المراد به وجوه الخير فيخص هذا التضعيف إلى سبعمائة بثواب النفقات وتكون العشرة الأمثال فيما عدا ذلك.

الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ

قوله: 262- " الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله" هذه الجملة متضمنة لبيان كيفية الإنفاق الذي تقدم، أي هو إنفاق الذي ينفقون ثم لا يتبعون ما أنفقوا مناً ولا أذى: والمن هو ذكر النعمة على معنى التعديد لها والتقريع بها، وقيل المن: التحدث بما أعطى حتى يبلغ ذلك المعطى فيؤذيه، والمن من الكبائر كما ثبت في صحيح مسلم وغيره أنه أحد الثلاثة الذين لا ينظر الله إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب عظيم. والأذى: السب والتطاول والتشيكي. قال في الكشاف: ومعنى ثم إظهار التفاوت بين الإنفاق وترك المن والأذى، وإن تركهما خير من نفس الإنفاق، كما جعل الاستقامة على الإيمان خيراً من الدخول فيه بقوله: "ثم استقاموا" انتهى. وقد المن على الأذى لكثرة وقوعه ووسط كلمة "لا" للدلالة على سمول النفي. وقوله: "عند ربهم" فيه تأكيد وتشريف. وقوله: "ولا خوف عليهم" ظاهرة نفي الخوف عنهم في الدارين لما تفيده النكرة الواقعة في سياق النفي من الشمول، وكذلك "ولا هم يحزنون" يفيد دوام انتفاء الحزن عنهم.

قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ

قوله: 263- "معروف ومغفرة" قيل الخبر محذوف: أي أولى وأمثل، ذكره النحاس. قال: ويجوز أن يكون خبراً عن مبتدأ محذوف: أي الذي أمرتم به قول معروف. وقوله: "ومغفرة" مبتدأ أيضاً وخبره قوله: "خير من صدقة" وقيل: إن قوله: خير خبر عن قوله: قول معروف وعن قوله: ومغفرة وجاز الابتداء بالنكرتين لأن الأولى تخصصت بالوصف، والثانية بالعطف، والمعنى: أن القول المعروف من المسؤول للسائل وهو التأنس والترجية بما عند الله، والرد الجميل خير من الصدقة التي يتبعها أذى. وقد ثبت في صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم: "الكلمة الطيبة صدقة، وإن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق" وما أحسن ما قاله ابن دريد: لا تدخلنك ضجرة من سائل فلخير دهرك أن ترى مسؤولاً لا تجبهن بالـرد وجــه مؤمـل فبقــاء عـزك أن تـرى مأمـولاً والمراد بالمغفرة الستر للخلة، وسوء حالة المحتاج، والعفو عن السائل إذا صدر منه من الإلحاح ما يكدر صدر المسؤول، وقيل: المراد: أن العفو من جهة السائل، لأنه إذا رده رداً جميلاً عذره، وقيل المراد: فعل يؤدي إلى المغفرة خير من صدقة: أي غفران الله خير من صدقتكم. وهذه الجملة مستأنفة مقررة لترك اتباع المن والأذى للصدقة.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَل

قوله: 264- "يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى" الإبطال للصدقات: إذهاب أثرها وإفساد منفعتها: أي لا تبطلوها بالمن والأذى أو بأحدهما. قوله: "كالذي" أي إبطالاً كإبطال الذي على أنه نعت لمصدر محذوف، ويجوز أن يكون حالاً: أي لا تبطلوا مشابهين للذي ينفق ماله رئاء الناس، وانتصاب رئاء على أنه علة لقوله: "ينفق" أي لأجل الرياء أو حال أي ينفق مرائياً لا يقصد بذلك وجه الله وثواب الآخرة، بل يفعل ذلك رياءً للناس استجلاباً لثنائهم عليه ومدحهم له، قيل: والمراد به المنافق بدليل قوله: "ولا يؤمن بالله واليوم الآخر". قوله: "فمثله كمثل صفوان" الصفوان الحجر الكبير الأملس. وقال الأخفش: صفوان جمع صفوانة. وقال الكسائي: صفوان واحد وجمعه صفي وأصفى، وأنكره المبرد. وقال النحاس: يجوز أن يكون جمعاً ويجوز أن يكون واحداً وهو أولى لقوله: "عليه تراب فأصابه وابل" والوابل المطر الشديد، مثل الله سبحانه هذا المنفق بصفوان عليه تراب يظنه الظان أرضاً منبتة طيبة، فإذا أصابه وابل من المطر أذهب عنه التراب وبقي صلداً: أي أجرد نقياً من التراب الذي كان عليه، فكذلك هذا المرائي فإن نفقته لا تنفعه كما لا ينفع المطر الواقع على الصفوان الذي عليه تراب قوله: "لا يقدرون على شيء مما كسبوا" أي: لا ينتفعون بما فعلوه رياءً ولا يجدون له ثواباً، والجملة مستانفة كأنه قيل: ماذا يكون حالهم حينئذ؟ فقيل: لا يقدرون إلخ، والضميران للموصول: أي كالذي باعتبار المعنى كما في قوله تعالى: " وخضتم كالذي خاضوا " أي الجنس أو الجمع أو الفريق.

وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ

قوله: 265- " ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم " قيل إن قوله: " ابتغاء مرضاة الله " مفعول له، وتثبيتاً معطوف عليه، وهو أيضاً مفعول له: أي الإنفاق لأجل الابتغاء. والتثبيت كذا قال مكي في المشكل. قال ابن عطية: وهو مردود لا يصح في تثبيتاً أنه مفعول من أجله، لأن الإنفاق ليس من أجل التثبيت. قال: وابتغاء نصب على المصدر في موضع الحال، وكان يتوجه فيه النصب على المفعول من أجله، لكن النصب على المصدر هو الصواب من جهة عطف المصدر الذي هو تثبيتاً عليه، وابتغاء معناه طلب، ومرضات مصدر رضي يرضى، وتثبيتاً معناه: أنهم يثبتون من أنفسهم ببذل أموالهم على الإيمان وسائر العبادات رياضةً لها وتدريباً وتمريناً، أو يكون التثبيت بمعنى التصديق: أي تصديقاً للإسلام ناشئاً من جهة أنفسهم. وقد اختلف السلف في معنى هذا الحرف، فقال الحسن ومجاهد: معناه أنهم يتثبتون أن يضعوا صدقاتهم، وقيل: معناه تصديقاً ويقيناً، وروي ذلك عن ابن عباس، وقيل: معناه احتساباً من أنفسهم، قاله قتادة، وقيل: معناه أن أنفسهم لها بصائر فهي تثبتهم على الإنفاق في طاعة الله تثبيتاً، قاله الشعبي والسدي وابن زيد وأبو صالح وهذا أرجح مما قبله. يقال: ثبت فلاناً في هذا الأمر أثبته تثبيتاً: أي صححت عزمه. قوله: "كمثل جنة بربوة أصابها وابل" الجنة: البستان، وهي أرض تنبت فيها الأشجار حتى تغطيها، مأخوذة من لفظ الجن والجنين لاستتارها. والربوة: المكان المرتفع ارتفاعاً يسيراً، وهي مثلثة الراء، وبها قرئ، وإنما خص الربوة لأن نباتها يكون أحسن من غيره، مع كونه لا يصطلمه البرد في الغالب للطافة هوائه بهبوب الرياح المطلفة له. قال الطبري: وهي رياض الحزن منسوبة إلى نجد. لأنها خير من رياض تهامة، ونبات نجد أعطر، ونسيمه أبرد وأرق. ونجد يقال لها حزن، وليست هذه المذكورة هنا من ذاك، ولفظ الربوة مأخوذ من ربا يربو إذا زاد. وقال الخليل الربوة: أرض مرتفعة طيبة. والوابل المطر الشديد كما تقدم، يقال: وبلت السماء تبل، والأرض موبلة. قال الأخفش: ومنه قوله تعالى: "أخذاً وبيلاً" أي شديداً، وضرب وبيل، وعذاب وبيل "فآتت أكلها" بضم الهمزة: الثمر الذي يؤكل كقوله تعالى: "تؤتي أكلها كل حين" وإضافته إلى الجنة إضافة اختصاص كسرج الفرس وباب الدار.قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وأكلها بضم الهمزة وسكون الكاف تخفيفاً. وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي بتحريك الكاف بالضم. وقوله: "ضعفين" أي مثلي ما كانت تثمر بسبب الوابل. فالمراد بالضعف المثل، وقيل أربعة أمثال، ونصبه على الحال من أكلها: أي مضاعفاً. قوله: "فإن لم يصبها وابل فطل" أي فإن الطل يطفيها: وهو المطر الضعيف المستدق القطر. قال المبرد وغيره: وتقديره فطل يكفيها. وقال الزجاج: تقديره فالذي يصيبها طل والمراد أن الطل ينوب مناب الوابل في إخراج الثمرة ضعفين. وقال قوم: الطل الندى. وفي الصحاح الطل: أضعف المطر، والجمع أطلال. قال الماوردي: وزرع الطل أضعف من زرع المطر. والمعنى: أن نفقات هؤلاء زاكية عند الله لا تضيع بحال وإن كانت متفاوتة، ويجوز أن يعتبر التمثيل ما بين حالهم باعتبار ما صدر عنهم من النفقة الكثيرة والقليلة، وبين الجنة المعهودة باعتبار ما أصابها من المطر الكثير والقليل، فكما أن كل واحد من المطرين يضعف أكلها، فكذلك نفقتهم جلت أو قلت بعد أن يطلب بها وجه الله زاكية زائدة في أجورهم. وقوله: "والله بما تعملون بصير". قرأ الزهري بالتاء التحتية. وقرأ الجمهور بالفوقية، وفي هذا ترغيب لما لهم في الإخلاص مع ترهيب من الرياء ونحوه، فهو وعد ووعيد. وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم في قوله: "كمثل حبة أنبتت سبع سنابل" عن الربيع قال: "كان من بايع النبي صلى الله عليه وسلم على الهجرة ورابط معه بالمدينة ولم يذهب وجهاً إلا بإذنه كانت له الحسنة بسبعمائة ضعف، ومن بايع على الإسلام كانت الحسنة له عشر أمثالها". وأخرج مسلم وأحمد والنسائي والحاكم والبيهقي عن ابن مسعود "أن رجلاً تصدق بناقة مخطومة في سبيل الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة كلها مخطومة". وأخرج أحمد والترمذي وحسنه والنسائي وابن حبان والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن خزيم بن فاتك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أنفق نفقة في سبيل الله كتب له سبعمائة ضعف". وأخرجه البخاري في تاريخه من حديث أنس. وأخرجه أحمد من حديث أبي عبيدة وزاد "ومن أنفق على نفسه وأهله أو عاد مريضاً فالحسنة بعشر أمثالها". وأخرج نحوه النسائي في الصوم. وأخرج ابن ماجه وابن أبي حاتم من حديث عمران بن حصين وعلي وأبي الدرداء وأبي هريرة وأبي أمامة وعبد الله بن عمرو وجابر كلهم يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أرسل بنفقة في سبيل الله وأقام في بيته فله بكل درهم يوم القيامة سبعمائة درهم، ومن غزا بنفسه في سبيل الله وأنفق في وجهه ذلك فله بكل درهم يوم القيامة سبعمائة ألف درهم، ثم تلا هذه الآية "والله يضاعف لمن يشاء"". وأخرجه أيضاً ابن ماجه من حديث الحسن بن علي. وأخرج أحمد من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله، يقول الله: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به". وأخرجه أيضاً مسلم. وأخرج الطبراني من حديث معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "طوبى لمن أكثر في الجهاد في سبيل الله من ذكر الله، فإن له بكل كلمة سبعين الف حسنة، كل حسنة منها عشرة أضعاف" وقد تقدم ذكر طرف من أحاديث التضعيف للحسنات عند قوله تعالى: "من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة". وقد وردت الأحاديث الصحيحة في أجر من جهز غازياً. وأخرج أبو داود والحاكم وصححه عن سهل بن معاذ عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الصلاة والصوم والذكر تضاعف على النفقة في سبيل الله سبعمائة ضعف". وأخرج أحمد والطبراني في الأوسط والبيهقي في سننه عن بريدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "النفقة في الحج كالنفقة في سبيل الله بسبعمائة ضعف". وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال في تفسير قوله تعالى: "ثم لا يتبعون ما أنفقوا مناً ولا أذى" إن أقواماً يبعثون الرجل منهم في سبيل الله أو ينفق على الرجل أو يعطيه النفقة ثم يمن عليه ويؤذيه: يعني أن هذا سبب النزول. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة نحوه. وقد وردت الأحاديث الصحيحة في النهي عن المن والأذى وفي فضل الإنفاق في سبيل الله وعلى الأقارب وفي وجوه الخير، ولا حاجة إلى التطويل بذكرها فهي معروفة في مواطنها. وأخرج ابن أبي حاتم عن عمرو بن دينار قال: بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من صدقة أحب إلى الله من قول الحق، ألم تسمع قول الله تعالى: "قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى"". وأخرج ابن المنذر عن الضحاك في قوله: "قول معروف" قال: رد جميل، تقول: يرحمك الله، يرزقك الله، ولا تنهره ولا تغلظ له القول. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: "لا يدخل الجنة منان وذلك في كتاب الله "لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى"". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "صفوان" يقول: الحجر "فتركه صلداً" يقول: ليس عليه شيء. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن عكرمة قال: الوابل المطر. وأخرجا عن قتادة قال: الوابل المطر الشديد، قال: وهذا مثل ضربه الله لأعمال الكفار يوم القيامة: "لا يقدرون على شيء مما كسبوا" يومئذ كما ترك هذا المطر هذا الحجر ليس عليه شيء أنقى مما كان. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس "فتركه صلداً" قال: يابساً جاثياً لا ينبت شيئاً. وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع في قوله: " ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله " قال: هذا مثل ضربه الله لعمل المؤمن. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن الشعبي في قوله: "وتثبيتاً من أنفسهم" قال: تصديقاً ويقيناً. وأخرج ابن جرير عن أبي صالح نحوه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير قال: يتثبتون أين يضعون أموالهم. وأخرجا عن الحسن قال: كان الرجل إذا هم بصدقة تثبت فإن كان الله أمضاه، وإن خالطه شيء من الرياء أمسك. وأخرج ابن المنذر عن قتادة في قوله: "تثبيتاً" قال: النية. وأخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس قال: الربوة النشز من الأرض. وأخرج ابن جرير عن مجاهد قال: الربوة الأرض المستوية المرتفعة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس قال: هي المكان المرتفع الذي لا تجري فيه الأنهار. وأخرج ابن جرير عنه في قوله تعالى: "فطل" قال: الندى. أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن الضحاك قال: الطل الرذاذ من المطر: يعني اللين منه. وأخرجا عن قتادة قال: هذا مثل ضربه الله لعمل المؤمن يقول: ليس لخيره خلف كما ليس لخير هذه الجنة خلف على أي حال كان، إن أصابها وابل وإن أصابها طل.

أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُب

الود: الحب للشيء مع تمنيه، والهمزة الداخلة على الفعل لإنكار الوقوع، والجنة تطلق على الشجر الملتف وعلى الأرض التي فيها الشجر. والأول أولى هنا لقوله: 266- "تجري من تحتها الأنهار" بإرجاع الضمير إلى الشجر من دون حاجة إلى مضاف محذوف وأما على الوجه الثاني فلا بد من تقديره أي من تحت أشجارها وهكذا قوله: "فاحترقت" لا يحتاج إلى تقدير مضاف على الوجه الأول، وأما على الثاني فيحتاج إلى تقديره: أي فاحترقت أشجارها، وخص النخيل والأعناب بالذكر مع قوله: "له فيها من كل الثمرات" لكونهما أكرم الشجر، وهذه الجمل صفات للجنة، والواو في قوله: "وأصابه الكبر" قيل: عاطفة على قوله: "تكون" ماض على مستقبل، وقيل على قوله: "يود" وقيل إنه محمول على المعنى إذ تكون في معنى كانت وقيل إنها واو الحال أي وقد أصابه الكبر وهذا أرجح. وكبر السن هو مظنة شدة الحاجة لما يلحق صاحبه من العجز عن تعاطي الأسباب. وقوله: "وله ذرية ضعفاء" حال من الضمير في أصابه: أي والحال أن له ذرية ضعفاء، فإن من جمع بين كبر السن وضعف الذرية كان تحسره على تلك الجنة في غاية الشدة. والإعصار: الريح الشديدة التي تهب من الأرض إلى السماء كالعمود، وهي التي يقال لها الزوبعة، قاله الزجاج. قال الجوهري: الزوبعة رئيس من رؤساء الجن، ومنه سمي الإعصار زوبعة، ويقال أم زوبعة: وهي ريج يثير الغبار ويرتفع إلى السماء كأنه عمود، وقيل: هي ريح تثير سحاباً ذات رعد وبرق. وقوله: "فاحترقت" عطف على قوله: "فأصابها" وهذه الآية تمثيل من يعمل خيراً ويضم إليه ما يحبطه فيجده يوم القيامة عند شدة حاجته إليه لا يسمن ولا يغني من جوع بحال من له هذه الجنة الموصوفة وهو متصف بتلك الصفة. وقد أخرج البخاري وغيره عن ابن عباس قال: قال عمر يوماً لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيم ترون هذه الآية نزلت "أيود أحدكم أن تكون له جنة" قالوا: الله أعلم، قال: قولوا: نعلم أو لا نعلم، فقال ابن عباس في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين، فقال عمر: يابن أخي قل ولا تحقر نفسك، قال ابن عباس: ضربت مثلاً لعمل، قال عمر: أي عمل؟ قال ابن عباس: لرجل غني يعمل لطاقة الله، ثم بعث الله له الشيطان فعمل في المعاصي حتى أغرق عمله. وأخرج ابن جرير عن عمر قال: هذا مثل ضرب لإنسان يعمل عملاً صالحاً حتى إذا كان عند آخر عمره أحوج ما يكون إليه عمل عمل السوء. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه من طرق عن ابن عباس في قوله: "إعصار فيه نار" قال: ريح فيها سموم شديدة.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآَخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِ

قوله: 267- "من طيبات ما كسبتم" أي: من جيد ما كسبتم ومختاره، كذا قال الجمهور. وقال جماعة: إن معنى الطيبات هنا الحلال. ولا مانع من اعتبار الأمرين جميعاً، لأن جيد الكسب ومختاره إنما يطلق على الحلال عند أهل الشرع، وإن أطلقه أهل اللغة على ما هو جيد في نفسه حلالاً كان أو حراماً، فالحقيقة الشرعية مقدمة على اللغوية. وقوله: "ومما أخرجنا لكم من الأرض" أي: ومن طيبات ما أخرجنا لكم من الأرض، وحذف لدلالة ما قبله عليه، وهي النباتات والمعادن والركاز. قوله: "ولا تيمموا الخبيث" أي: لا تقصدوا المال الرديء، وقرأه الجمهور بفتح حرف المضارعة وتخفيف الياء، وقرأ ابن كثير بتشديدها. وقرأ ابن مسعود ولا تأمموا وهي لغة. وقرأ أبو مسلم بن خباب بضم الفوقية وكسر الميم. وحكى أبو عمرو أن ابن مسعود قرأ تئمموا بهمزة بعد المضمومة. وفي الآية الأمر بإنفاق الطيب والنهي عن إنفاق الخبيث. وقد ذهب جماعة من السلف إلى أن الآية في الصدقة المفروضة، وذهب آخرون إلى أنها تعم صدقة الفرض والتطوع، وهو الظاهر، وسيأتي من الأدلة ما يؤيد هذا، وتقديم الظرف في قوله: "منه تنفقون" يفيد التخصيص أي لا تخصوا الخبيث بالإنفاق، والجملة في محل نصب على الحال: أي لا تقصدوا المال الخبيث مخصصين الإنفاق به قاصرين له عليه. قوله: "ولستم بآخذيه" أي: والحال أنكم لا تأخذونه في معاملاتكم في وقت من الأوقات هكذا بين معناه الجمهور، وقيل معناه: ولستم بآخذيه لو وجدتموه في السوق يباع. وقوله: "إلا أن تغمضوا فيه" هو من أغمض الرجل في أمر كذا: إذا تساهل ورضي ببعض حقه وتجاوز وغض بصره عنه، ومنه قول الشاعر: إلى كم وكم أشياء منك تريبني أغمض عنها لست عنها بذي عمى وقرأ الزهري بفتح التاء وكسر الميم مخففاً. وروي عنه أنه قرا بضم التاء وفتح الغين وكسر الميم مشددة وكذلك قرأ قتادة، والمعنى على القراءة الأولى من هاتين القراءتين: إلا أن تهضموا سومها من البائع منكم، وعلى الثانية: إلا أن تأخذوا بنقصان. قال ابن عطية: وقراءة الجمهور تخرج على التجاوز أو على تغميض العين، لأن أغمض بمنزلة غمض، وعلى أنها بمعنى حتى: أي حتى تأتوا غامضاً من التأويل، والنظر في أخذ ذلك.

الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ

قوله: 268- " الشيطان يعدكم الفقر " قد تقدم معنى الشيطان واشتقاقه. ويعدكم معناه يخوفكم الفقر: أي بالفقر لئلا تنفقوا، فهذه الآية متصلة بما قبلها. وقرئ الفقر بضم الفاء وهي لغة. قال الجوهري: والفقر لغة في الفقر، مثل الضعف والضعف. والفحشاء الخصلة الفحشاء، وهي المعاصي والإنفاق فيها والبخل عن الإنفاق في الطاعات. قال في الكشاف: والفاحش عند العرب البخيل انتهى. ومنه قول طرفة بن العبد: أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي عقيلة مال الفاحش المتشدد ولكن العرب وإن أطلقته على البخيل فذلك لا ينافي إطلاقهم له على غيره من المعاصي، وقد وقع كثيراً في كلامهم. وقوله: "والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً" الوعد في كلام العرب: إذا أطلق فهو في الخير، وإذا قيد فقد يقيد تارة بالخير وتارة بالشر. ومنه قوله تعالى: "النار وعدها الله الذين كفروا" ومنه أيضاً ما في هذه الآية من تقييد وعد الشيطان بالفقر، وتقييد وعد الله سبحانه بالمغفرة، والفضل. والمغفرة: الستر على عباده في الدنيا والآخرة لذنوبهم وكفارتها، والفضل أن يخلف عليهم أفضل مما أنفقوا فيوسع لهم في أرزاقهم وينعم عليهم في الآخرة بما هو أفضل وأكثر وأجل وأجمل.

يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ

269-قوله "يؤتي الحكمة" هي العلم، وقيل: الفهم وقيل: الإصابة في القول، ولا مانع من الحمل على الجميع شمولاً أو بدلاً، وقيل: إنها النبوة، وقيل: العقل، وقيل: الخشية، وقيل: الورع وأصل الحكمة ما يمنع من السفه، وهو كل قبيح. والمعنى: أن من أعطاه الله الحكمة فقد أعطاه خيراً كثيراً: أي عظيماً قدره جليلاً خطره. وقرأ الزهري ويعقوب ومن يؤتى الحكمة على البناء للفاعل وقرأه الجمهور على البناء للمفعول والألباب: العقول، واحدها لب، وقد تقدم الكلام فيه.

وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ

قوله: 270- "وما أنفقتم من نفقة" ما شرطية ويجوز أن تكون موصولة، والعائد محذوف: أي الذي أنفقتموه، وهذا بيان لحكم عام يشمل كل صدقة مقبولة وغير مقبولة وكل نذر مقبول أو غير مقبول. وقوله: "فإن الله يعلمه" فيه معنى الوعد لمن أنفق ونذر على الوجه المقبول، والوعيد لمن جاء بعكس ذلك. ووحد الضمير مع كونه مرجعه شيئين، هما النفقة والنذر، لأن التقدير: وما أنفقتم من نفقة فإن الله يعلمها، أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه، ثم حذف أحدهما استغناءً بالآخر، قاله النحاس، وقيل: إن ما كان للعطف فيه بكلمة أو كما في قولك: زيد أو عمرو، فإنه يقال: أكرمته ولا يقال: أكرمتها، والأولى أن يقال: إن العطف بأو يجوز فيه الأمران توحيد الضمير كما في هذه الآية، وفي قوله تعالى: " وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها ". وقوله: "ومن يكسب خطيئة أو إثماً ثم يرم به بريئاً"، وتثنيته كما في قوله تعالى: "إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما" ومن الأول في العطف بالواو قول امرئ القيس: فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها لما نسجته من جنوب وشمال ومنه قول الشاعر: نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأي مختلف ومنه: "والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها" وقيل: إنه إذا وجد الضمير بعد ذكر شيئين أو أشياء فهو بتأويل المذكور: أي فإن الله يعلم المذكور، وبه جزم ابن عطية ورجحه القرطبي وذكر معناه كثير من النحاة في مؤلفاتهم. قوله: "وما للظالمين من أنصار" أي ما للظالمين أنفسهم بما وقعوا فيه من الإثم لمخالفة ما أمر الله به من الإنفاق في وجوه الخير من أنصار ينصرونهم يمنعونهم من عقاب الله بما ظلموا به أنفسهم والأولى الحمل على العموم من غير تخصيص لما يفيده السياق: أي ما الظالمين بأي مظلمة كانت من أنصار.

إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ

271- قوله " إن تبدوا الصدقات فنعما هي" قرئ بفتح النون وكسر العين وبكسرهما وبكسر النون وسكون العين وبكسر النون وإخفاء حركة العين. وقد حكى النحويون في نعم أربع لغات، وهي هذه التي قرئ بها، وفي هذا نوع تفصيل لما أجمل في الشرطية المتقدمة: أي إن تظهروا الصدقات فنعم شيئاً إظهارها، وإن تخفوها تصيبوا بها مصارفها من الفقراء فالإخفاء خير لكم. وقد ذهب جمهور المفسرين إلى أن هذه الآية في صدقة التطوع لا في صدقة الفرض فلا فضيلة للإخفاء فيها بل قد قيل إن الإظهار فيها أفضل، وقالت طائفة: إن الإخفاء أفضل في الفرض والتطوع. قوله: "ويكفر عنكم من سيئاتكم" قرأ أبو عمرو وعاصم في رواية حفص بالياء والرفع. وقرأ الأعمش ونافع وحمزة والكسائي بالنون والجزم وقرأ ابن عباس بالتاء الفوقية وفتح الفاء والجزم. وقرأ الحسين بن علي الجعفي بالنون ونصب الراء. فمن قرأ بالرفع فهو معطوف على محل الجملة الواقعة جواباً بعد الفاء، أو على أنه خبر مبتدأ محذوف. ومن قرأ بالجزم فهو معطوف على الفاء وما بعدها. ومن قرأ بالنصب فعلى تقدير أن. قال سيبويه: والرفع ها هنا الوجه الجيد، وأجاز الجزم بتأويل وإن تخفوها يكن الإخفاء خيراً لكم ويكفر، وبمثل قول سيبويه قال الخليل. ومن في قوله: "من سيئاتكم" للتبعيض: أي شيئاً من سيئاتكم. وحكى الطبري عن فرقة أنها زائدة، وذلك على رأي الأخفش. قال ابن عطية: وذلك منهم خطأ. وقد أخرج ابن جرير عن علي بن أبي طالب في قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم" قال: من الذهب والفضة "ومما أخرجنا لكم من الأرض" يعني من الحب والثمر وكل شيء عليه زكاة. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن مجاهد في قوله: "أنفقوا من طيبات ما كسبتم" قال: من التجارة "ومما أخرجنا لكم من الأرض" قال: من الثمار. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد والترمذي وصححه وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن البراء بن عازب في قوله: "ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون" قال: نزلت فينا معشر الأنصار، كنا أصحاب نخل وكان الرجل يأتي من نخله على قدر كثرته وقلته، وكان الرجل يأتي القنو والقنوين فيعلقه في المسجد، وكان أهل الصفة ليس لهم طعام، فكان أحدهم إذا جاع أتى القنو فضربه بعصاه فيسقط البسر والتمر فيأكل، وكان ناس ممن لا يرغب في الخير يأتي الرجل بالقنو فيه الشيص والحشف وبالقنو قد انكسر فيعلقه، فأنزل الله: "يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه" قال: لو أن أحدكم أهدي إليه مثل ما أعطى لم يأخذه إلا على إغماض وحياء، قال: فكنا بعد ذلك يأتي أحدنا بصالح ما عنده. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة قال: ذكر لنا أن الرجل كان يكون له الحائطان فينظر إلى أردئهما تمراً في تمراً فيتصدق به ويخلط به الحشف فنزلت الآية، فعاب الله ذلك عليهم ونهاهم عنه. وأخرج عبد بن حميد عن جعفر بن محمد بن أبيه قال: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدقة الفطر فجاء رجل بتمر رديء، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم الذي يخرص النخل أن لا يجيز. فأنزل الله تعالى الآية هذه. وأخرج عبد بن حميد وأبو داود والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والدارقطني والحاكم والبيهقي في سننه عن سهل بن حنيف قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من جاء بهذا؟ وكان كل من جاء بشيء نسب إليه، فنزلت: "ولا تيمموا الخبيث" الآية. ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لونين من التمر أن يوجدوا في الصدقة، الجعرور ولون الحبيق وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والضياء في المختارة عن ابن عباس قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يشترون الطعام الرخيص ويتصدقون، فأنزل الله "يا أيها الذين آمنوا" الآية. وأخرج ابن جرير عن عبيدة السلماني قال: سألت علي بن أبي طالب عن قول الله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا أنفقوا" الآية، فقال: نزلت هذه الآية في الزكاة المفروضة، كان الرجل بعمد إلى التمر فيصرمه فيعزل الجيد ناحية، فإذا جاء صاحب الصدقة أعطاه من الرديء. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "يؤتي الحكمة من يشاء" قال: المعرفة بالقرآن ناسخه ومنسوخه، محكمة ومتشابهة، ومقدمه ومؤخره، وحلاله وحرامه وأمثاله. وأخرج ابن مردويه عنه: أنها القرآن يعني تفسيره. وأخرج ابن المنذر عنه أنها النبوة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه قال: إنها الفقه في القرآن. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي الدرداء "يؤتي الحكمة" قال: قراءة القرآن والفكرة فيه. وأخرج ابن جرير عن أبي العالية قال: هي الكتاب والفهم به. وأخرج أيضاً عن النخعي نحوه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد قال: هي الكتاب يؤتي إصابته من يشاء. وأخرج عبد بن حميد عنه قال: هي الإصابة في القول. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية قال: هي الخشية لله. وأخرج أيضاً عن مطر الوراق مثله. وأخرج ابن المنذر عن سعيد بن جبير مثله. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "فإن الله يعلمه" قال: يحصيه. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في نذر الطاعة والمعصية في الصحيح وغيره ما هو معروف كقوله صلى الله عليه وسلم: "لا نذر في معصية الله" وقوله: "من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه" وقوله: "النذر ما ابتغي به وجه الله" وثبت عنه في كفارة النذر ما هو معروف. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "إن تبدوا الصدقات فنعما هي" الآية، قال: فجعل السر في التطوع بفضل علانيتها سبعين ضعفاً، وجعل صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها بخمسة وعشرين ضعفاً. وكذلك جميع الفرائض والنوافل في الأشياء كلها. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "إن تبدوا الصدقات" الآية، قال: كان هذا يعمل قبل أن تنزل براءة، فلما نزلت براءة بفرائض الصدقات وتفصيلها انتهت الصدقات إليها. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "إن تبدوا الصدقات" الآية، قال: هذا منسوخ. وقوله: " في أموالهم حق معلوم * للسائل والمحروم " قال: منسوخ، نسخ كل صدقة في القرآن الآية التي في سورة التوبة "إنما الصدقات للفقراء" وقد ورد في فضل صدقة السر أحاديث صحيحة مرفوعة.

لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ

قوله: 272- "ليس عليك هداهم" أي ليس بواجب عليك أن تجعلهم مهديين قابلين لما أمروا به ونهوا عنه "ولكن الله يهدي من يشاء" هداية توصله إلى المطلوب، وهذه الجملة معترضة وفيها الإلتفات، وسيأتي بيان السبب الذي نزلت لأجله، والمراد بقوله: "من خير" كل ما يصدق عليه اسم الخير كائناً ما كان، وهو متعلق بمحذوف: أي أي شيء تنفقون كائناً من خير، ثم بين أن النفقة المعتد بها المقبولة إنما هي ما كان ابتغاء وجه الله سبحانه: أي لابتغاء وجه الله. وقوله: "يوف إليكم" أي: أجره وثوابه على الوجه الذي تقدم ذكره من التضعيف.

لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّه

قوله: 273- "للفقراء" متعلق بقوله: "وما تنفقوا من خير" أو بمحذوف: أي اجعلوا ذلك للفقراء أو خبر مبتدأ محذوف: أي إنفاقكم للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله بالغزو أو الجهاد، وقيل: امتنعوا عن التكسب لما فيه من الضعف " لا يستطيعون ضربا في الأرض " للتكسب بالتجارة والزراعة، ونحو ذلك بسبب ضعفهم، قيل: هم فقراء الصفة، وقيل: كل من يتصف بالفقر وما ذكر معه. ثم ذكر سبحانه من أحوال أولئك الفقراء ما يوجب الحنو عليهم والشفقة بهم، وهم كونهم متعففين عن المسألة من أحوال أولئك الفقراء ما يوجب الحنو عليهم والشفقة بهم، وهو كونهم متعففين عن المسألة وإظهار المسكنة بحيث يظنهم الجاهل بهم أغنياء. والتعفف تفعل وهو بناء مبالغة من عف عن الشيء: إذا أمسك عنه وتنزه عن طلبه وفي يحبسهم لغتان: فتح السين، وكسرها. قال أبو علي الفارسي: والفتح أقيس، لأن العين من الماضي مكسورة، فبابها أن تأتي في المضارع مفتوحة. فالقراءة بالكسر على هذا حسنة وإن كانت شاذة. ومن في قوله: من التعفف لابتداء الغاية، وقيل: لبيان الجنس. قوله: "تعرفهم بسيماهم" أي برثاثة ثيابهم وضعف أبدانهم وكل ما يشعر بالفقر والحاجة. والخطاب إما لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل من يصلح للمخاطبة، والسيما مقصورة: العلامة، وقد تمد. والإلحاف: الإلحاح في المسألة، وهو مشتق من اللحاف، سمي بذلك لاشتماله على وجوه الطلب في المسألة كاشتمال اللحاف على التغطية. ومعنى قوله: "لا يسألون الناس إلحافاً" أنهم لا يسألونهم ألبتة، لا سؤال إلحاح، ولا سؤال غير إلحاح. وبه قال الطبري والزجاج، وإليه ذهب جمهور المفسرين، ووجه أن التعفف صفة ثابتة لهم لا تفارقهم، ومجرد السؤال ينافيها، وقيل: المراد أنهم إذا سألوا سألوا بتلطف ولا يلحفون في سؤالهم، وهذا وإن كان هو الظاهر من توجه النفي إلى القيد دون المقيد، لكن صفة التعفف تنافيه، وأيضاً كون الجاهل بهم يحسبهم أغنياء لا يكون إلا مع عدم السؤال ألبتة.

الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ

وقوله: 274- "بالليل والنهار" يفيد زيادة رغبتهم في الإنفاق وشدة حرصهم عليه حتى أنهم لا يتركون ذلك ليلاً ولا نهاراً، ويفعلونه سراً وجهراً عند أن تنزل بهم حاجة المحتاجين، ويظهر لديهم فاقة المفتاقين في جميع الأزمنة على جميع الأحوال. ودخول الفاء في خبر الموصول أعني قوله: "فلهم أجرهم" للدلالة على سببية ما قبلها لما بعدها، وقيل: هي للعطف والخبر للموصول محذوف: أي ومنهم الذين ينفقون. وقد أخرج عبد بن حميد والنسائي والبزار وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي في سننه والضياء في المختارة عن ابن عباس، قال: كانوا يكرهون أن يرضخوا لأنسابهم من المشركين فنزلت هذه الآية: "ليس عليك هداهم" إلى قوله: "وأنتم لا تظلمون" فرخص لهم. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والضياء عنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمرنا أن لا تتصدق إلا على أهل الإسلام حتى نزلت هذه الآية، فأمر بالصدقة بعدها على كل من سألك من كل دين. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن سعيد بن جبير نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن الحنفية نحوه. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: كان أناس من الأنصار لهم نسب وقرابة من قريظة والنضير، وكان يتقون أن لا يتصدقوا عليهم ويريدونهم أن يسلموا، فنزلت "ليس عليك هداهم" الآية. وأخرج ابن المنذر عن عمرو الهلالي قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم أنتصدق على فقراء أهل الكتاب؟ فأنزل الله "ليس عليك هداهم" الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء الخراساني قال في قوله: "وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله" قال: إذا أعطيت لوجه الله فلا عليك ما كان عمله. وأخرج ابن المنذر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله: "للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله" قال: هم أصحاب الصفة. وأخرج ابن سعد عن محمد بن كعب القرظي نحوه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: هم مهاجرو قريش بالمدينة مع النبي صلى الله عليه وسلم أمروا بالصدقة عليهم. وأخرج ابن جرير عن الربيع في قوله: "الذين أحصروا في سبيل الله" قال: حصروا أنفسهم في سبيل الله للغزو فلا يستطيعون تجارة. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: هم قوم أصابتهم الجراحات في سبيل الله فصاروا زمنى، فجعل لهم في أموال المسلمين حقاً. وأخرج ابن أبي حاتم عن رجاء بن حيوة في قوله: "لا يستطيعون ضرباً في الأرض" قال: لا يستطيعون تجارة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله: "يحسبهم الجاهل أغنياء" قال: دل الله المؤمنين عليهم وجعل نفقاتهم لهم، وأمرهم أن يضعوا نفقاتهم فيهم ورضي عنهم. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "تعرفهم بسيماهم" قال: التجشع. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الربيع أن معناه تعرف في وجوههم الجهد من الحاجة. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد "تعرفهم بسيماهم" قال: رثاثة ثيابهم، وثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان، واللقمة واللقمتان، إنما المسكين الذي يتعفف، وأقرأوا إن شئتم: لا يسألون الناس إلحافاً" وقد ورد في تحريم المسألة أحاديث كثيرة إلا لذي سلطان أو في أمر لا يجد منه بداً. وأخرج ابن سعد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن عدي والطبراني وأبو الشيخ عن يزيد بن عبد الله بن غريب المليكي عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنزلت هذه الآية "الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار" في أصحاب الخيل". وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن عساكر عن أبي أمامة الباهلي نحوه قال: فيمن لا يربطها خيلاء ولا رياء ولا سمعة. وأخرج ابن جرير عن أبي الدرداء نحوه. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن حنش الصنعاني أنه سمع ابن عباس يقول في هذه الآية: هم الذين يعلفون الخيل في سبيل الله. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن عساكر من طريق عبد الوهاب بن مجاهد عن أبيه عن ابن عباس في هذه الآية، قال: نزلت في علي بن أبي طالب كانت له أربعة دراهم فأنفق بالليل درهماً، وبالنهار درهماً، ودرهماً سراً، ودرهماً علانيةً. وعبد الوهاب ضعيف ولكن قد رواه ابن مردويه من وجه آخر عن ابن عباس. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في هذه الآية قال: هؤلاء قوم أنفقوا في سبيل الله الذي افترض عليهم في غير سرف ولا إملاق ولا تبذير ولا فساد. وأخرج ابن المنذر عن سعيد بن المسيب قال: نزلت في عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان في نفقتهم في جيش العسرة.

الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ

الربا في اللغة: الزيادة مطلقاً، يقال ربا الشيء يربو: إذا زاد، وفي الشرع يطلق على شيئين على ربا الفضل، وربا النسيئة حسبما هو منفصل في كتب الفروع، وغالب ما كانت تفعله الجاهلية أنه إذا حل أجل الدين قال من هو له لمن هو عليه: أتقضي أم تربي؟ فإذا لم يقض زاد مقداراً في المال الذي وأخر له الأجل إلى حين. وهذا حرام بالاتفاق، وقياس كتابة الربا بالياء للكسرة في أوله. وقد كتبوه في المصحف بالواو. قال في الكشاف: على لغة من يفخم كما كتبت الصلاة والزكاة، وزيدت الألف بعدها تشبيهاً بواو الجمع انتهى. قلت: وهذا مجرد اصطلاح لا يلزم المشي عليه، فإن هذه النقوش الكتابية أمور اصطلاحية لا يشاحح في مثلها إلا فيما كان يدل به منها على الحرف الذي كانه في أصل الكلمة ونحوه كما هو مقرر في مباحث الخط من علم الصرف، وعلى كل حال فرسم الكلمة وجعل نقشها الكتابي على ما يقتضيه اللفظ بها هو الأولى، فما كان في النطق ألفاً كالصلاة والزكاة ونحوهما كان الأولى في رسمه أن يكون كذلك، وكون أصل هذا الألف واواً أو ياءً لا يخفى على من علم الصرف، وهذه النقوش ليست إلا لفهم اللفظ الذي يدل على بها عليه كيف هو في نطق من ينطق به لا لتفهيم أن أصل الكلمة كذا مما لا يجري به النطق، فاعرف هذا ولا تشتغل بما يعتبره كثير من أهل العلم في هذه النقوش ويلزمون به أنفسهم ويعيبون من خالفه، فإن ذلك من المشاححة في الأمور الاصطلاحية التي لا تلزم أحداً أن يتقيد بها، فعليك بأن ترسم هذه النقوش على ما يلفظ به اللافظ عند قراءتها، فإنه الأمر المطلوب من وضعها والتواضع عليها، وليس الأمر المطلوب منها أن تكون دالة على ما هو أصل الكلمة التي يتلفظ بها المتلفظ مما لا يجري في لفظه الآن، فلا تغتر بما يروى عن سيبويه ونحاة البصرة أن يكتب الربا بالواو، لأنه يقول في تثنيته ربوان. وقال الكوفيون: يكتب بالياء، وتثنيته ربيان. قال الزجاج: ما رأيت خطأ أقبح من هذا ولا أشنع، لا يكفيهم الخطأ في الخط حتى يخطئوا في التثنية وهم يقرأون " وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو " وليس المراد بقوله هنا: 275- "الذين يأكلون الربا" اختصاص هذا الوعيد بمن يأكله، بل هو عام لكل من يعامل بالربا فيأخذه ويعطيه، وإنما خص الأكل لزيادة التشنيع على فاعله، ولكونه هو الغرض الأهم فإن آخذ الربا إنما أخذه للأكل قوله: "لا يقومون" أي يوم القيامة، كما يدل عليه قراءة ابن مسعود " لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ". أخرجه عبد بن حميد وابن أبي حاتم، وبهذا فسره جمهور المفسرين قالوا: إنه يبعث كالمجنون عقوبة له وتمقيتاً عند أهل المحشر، وقيل: إن المراد تشبيه من يحرص في تجارته فيجمع ماله من الربا بقيام المجنون، لأن الحرص والطمع والرغبة في الجمع قد استفزته حتى صار شبيهاً في حركته بالمجنون، كما يقال لمن يسرع في مشيه ويضطرب في حركاته: إنه قد جن، ومنه قول الأعشى في ناقته: وتصبح من غب السرى وكأنها ألم بها من طائف الجن أولق فجعلها بسرعة مشيها ونشاطها كالمجنون. قوله: "إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس" أي إلا قياماً كقيام الذي يتخبطه، والخبط: الضرب بغير استواء كخبط العشواء وهو المصروع. والمس: الجنون، والأمس: المجنون، وكذلك الأولق وهو متعلق بقوله: "يقومون" أي: لا يقومون من المس الذي بهم "إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان" أو متعلق بيقوم. وفي الآية دليل على فساد قول من قال: إن الصرع لا يكون من جهة الجن، وزعم أنه من فعل الطبائع، وقال: إن الآية خارجة على ما كانت العرب تزعمه من أن الشيطان يصرع الإنسان، وليس بصحيح، وإن الشيطان لا يسلك في الإنسان ولا يكون منه مس. وقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من أن يتخبطه الشيطان، كما أخرجه النسائي وغيره. قوله: "ذلك" إشارة إلى ما ذكر من حالهم وعقوبتهم بسبب قولهم: "إنما البيع مثل الربا" أي: أنهم جعلوا البيع والربا شيئاً واحداً، وإنما شبهوا البيع بالربا مبالغة بجعلهم الربا أصلاً والبيع فرعاً، أي: إنما البيع بلا زيادة عند حلول الأجل كالبيع بزيادة عند حلوله، فإن العرب كانت لا تعرف ربا إلا ذلك، فرد الله سبحانه عليهم بقوله: "وأحل الله البيع وحرم الربا" أي: أن الله حل البيع وحرم نوعاً من أنواعه، وهو البيع المشتمل على الربا. والبيع مصدر باع يبيع: أي دفع عوضاً وأخذ معوضاً، والجملة بيانية لا محل لها من الإعراب. قوله: "فمن جاءه موعظة من ربه" أي من بلغته موعظة من الله من المواعظ التي تشتمل عليها الأوامر والنواهي، ومنها ما وقع هنا من النهي عن الربا "فانتهى" أي فامتثل النهي الذي جاءه والزجر عن المنهي عنه وهو معطوف: أي قوله: "فانتهى" على قوله: "جاءه". وقوله: "من ربه" متعلق بقوله: "جاءه" أو بمحذوف وقع صفة لموعظة: أي كائنة من " من ربه فانتهى فله ما سلف " أي ما تقدم منه من الربا لا يؤاخذ به، لأنه فعله قبل أن يبلغه تحريم الربا أو قبل أن تنزل آية تحريم الربا. وقوله: " وأمره إلى الله " قيل: الضمير عائد إلى ما سلف: أي أمره إلى الله في العفو عنه وإسقاط التبعة فيه، وقيل: الضمير يرجع إلى المربي: أي أمر من عامل بالربا إلى الله في تثبيته على الانتهاء أو الرجوع إلى المعصية "ومن عاد" إلى أكل الربا والمعاملة به "فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون" والإشارة إلى من عاد، وجمع أصحاب باعتبار معنى من، وقيل: إن معنى من عاد: هو أن يعود إلى القول: بـ"إنما البيع مثل الربا" وأنه يكفر بذلك فيستحق الخلود، وعلى التقدير الأول يكون الخلود مستعاراً على معنى المبالغة، كما تقول العرب ملك خالد: أي طويل البقاء، والمصير إلى هذا التأويل واجب للأحاديث المتواترة القاضية بخروج الموحديث من النار.

يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ

قوله: 276- "يمحق الله الربا" أي: يذهب بركته في الدنيا وإن كان كثيراً فلا يبقى بيد صاحبه، وقيل: يمحق بركته في الآخرة. قوله: "ويربي الصدقات" أي يزيد في المال الذي أخرجت صدقته، وقيل: يبارك في ثواب الصدقة ويضاعفه ويزيد في أجر المتصدق، ولا مانع من حمل ذلك على الأمرين جميعاً. قوله: "والله لا يحب كل كفار أثيم" أي لا يرضى، لأن الحب مختص بالتوابين، وفيه تشديد وتغليظ عظيم على من أربى حيث حكم عليه بالكفر، ووصفه بأثيم للمبالغة، وقيل: لإزالة الاشتراك، إذ قد يقع على الزراع، ويحتمل أن المراد بقوله: "كل كفار" من صدرت منه خصلة توجب الكفر، ووجه التصاقه بالمقام أن الذين قالوا: إنما البيع مثل الربا كفار.

إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ

وقد تقدم تفسير قوله: 277- "إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات" إلى آخر الآية. وقد أخرج أبو يعلى من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله: "الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس" قال: يعرفون يوم القيامة بذلك لا يستطيعون القيام إلا كما يقوم المتخبط المنخنق "ذلك بأنهم قالوا: إنما البيع مثل الربا" وكذبوا على الله "وأحل الله البيع وحرم الربا" ومن عاد فأكل الربا "فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في الآية قال: آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنوناً يخنق. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر من وجه آخر عنه أيضاً في قوله: "لا يقومون" قال: ذلك حين يبعث من قبره. وأخرج الأصبهاني في ترغيبه عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يأتي آكل الربا يوم القيامة مختبلاً يجر شفتيه، ثم قرأ "لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس"" وقد وردت أحاديث كثيرة في تعظيم ذنب الربا، منها من حديث عبد الله بن مسعود عند الحاكم وصححه والبيهقي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الربا ثلاثة وسبعون باباً، أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه، وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم" ومن حديث أبي هريرة مرفوعاً عند ابن ماجه والبيهقي بلفظ "سبعون باباً" وورد هذا المعنى مع اختلاف العدد عن عبد الله بن سلام وكعب وابن عباس وأنس. وأخرج ابن جرير عن الربيع في الآية قال: يبعثون يوم القيامة وبهم خبل من الشيطان وهي في بعض القراءات: لا يقومون يوم القيامة. يعني قراءة ابن مسعود المتقدم ذكرها. وفي الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة قالت: لما نزلت الآيات من آخر سورة البقرة في الربا "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد فقرأهن على الناس، ثم حرم التجارة في الخمر". وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن عمر بن الخطاب أنه خطب فقال: إن من آخر القرآن نزولاً آية الربا، وإنه قد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبينه لنا فدعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم. وأخرج البخاري وغيره عن ابن عباس أنه قال: آخر آية أنزلها على رسوله آية الربا. وأخرج البيهقي في الدلائل عن عمر مثله. وأخرج ابن جرير عن مجاهد في الربا الذي نهى الله عنه قال: كان أهل الجاهلية يكون للرجل على الرجل الدين فيقول: لك كذا وكذا وتؤخر عني فيؤخر عنه. وأخرج أيضاً عن قتادة نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير نحوه أيضاً وزاد في قوله: "فمن جاءه موعظة من ربه" قال: يعني البيان الذي في القرآن في تحريم الربا فانتهى عنه "فله ما سلف" يعني فله ما كان أكل من الربا قبل التحريم "وأمره إلى الله" يعني بعد التحريم وبعد تركه إن شاء عصمه منه وإن شاء لم يفعل "ومن عاد" يعني في الربا بعد التحريم فاستحله بقولهم: " إنما البيع مثل الربا " - " فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " يعني لا يموتون. وأخرج ابن جرير وابن المنذر من طريق ابن جريج عن ابن عباس في قوله: "يمحق الله الربا" قال: ينقص الربا "ويربي الصدقات" قال: يزيد فيها، وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة مرفوعاً " من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا طيباً، ، فإن الله يقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل". وأخرج البزار وابن جرير وابن حبان والطبراني من حديث عائشة نحوه. وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن ابن عمر مرفوعاً نحوه أيضاً. وفي حديث عائشة وابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ بعد أن ساق الحديث "يمحق الله الربا ويربي الصدقات". وأخرج الطبراني عن أبي برزة الأسلمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن العبد ليتصدق بالكسرة تربو عند الله حتى تكون مثل أحد" وهذه الأحاديث تبين معنى الآية.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ

قوله: 278- "اتقوا الله" أي قوا أنفسكم من عقابه واتركوا البقايا التي بقيت لكم من الربا، وظاهره أنه أبطل من الربا ما لم يكن مقبوضاً. قوله: "إن كنتم مؤمنين" قيل: هو شرط مجازي على جهة المبالغة، وقيل: إن إن في هذه الآية بمعنى إذ. قال ابن عطية: وهو مردود لا يعرف في اللغة، والظاهر أن المعنى: إن كنتم مؤمنين على الحقيقة، فإن ذلك يستلزم امتثال أوامر الله ونواهيه.

فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ

قوله: 279- "فإن لم تفعلوا" يعني ما أمرتم به من الاتقاء وترك ما بقي من الربا "فأذنوا بحرب من الله ورسوله" أي فاعلموا بها، من أذن بالشيء إذا علم به، قيل: هو من الإذن بالشيء وهو الاستماع لأنه من طرق العلم. وقرأ أبو بكر عن عاصم وحمزة فأذنوا على معنى فأعلموا غيركم أنكم على حربهم. وقد دلت هذه على أن أكل الربا والعمل به من الكبائر، ولا خلاف في ذلك، وتنكير الحرب للتعظيم، وزادها تعظيماً نسبتها إلى اسم الله الأعظم وإلى رسوله الذي هو أشرف خليقته. قوله: "فإن تبتم" أي من الربا "فلكم رؤوس أموالكم" تأخذونها "لا تظلمون" غراماءكم بأخذ الزيادة "ولا تظلمون" أنتم من قبلهم بالمطل والنقص، والجملة حالية أو استئنافية. وفي هذا دليل على أن أموالهم مع عدم التوبة حلال لمن أخذها من الأئمة ونحوهم ممن ينوب عنهم.

وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ

قوله: 280- "وإن كان ذو عسرة" لما حكم سبحانه لأهل الربا برؤوس أموالهم عند الواجدين للمال حكم في ذوي العسرة بالنظر إلى يسار، والعسرة: ضيق الحال من جهة عدم المال، ومنه جيش العسرة. والنظرة: التأخير، والميسرة مصدر بمعنى اليسر، وارتفع ذو بكان التامة التي بمعنى وجد، وهذا قول سيبويه وأبو علي الفارسي وغيرهما. وأنشد سيبويه: فدى لبني ذهل بن شيبان يا فتى إذا كان يوم ذو كواكب أشهب وفي مصحف أبي وإن كان ذا عسرة على معنى: وإن كان المطلوب ذا عسرة. وقرأ الأعمش وإن كان معسراً قال أبو عمرو الداني عن أحمد بن موسى وكذلك في مصحف أبي بن كعب. وروى المعتمر عن حجاج الوراق قال في مصحف عثمان: " وإن كان ذو عسرة " قال النحاس ومكي والنقاش: وعلى هذا يختص لفظ الآية بأهل الربا، وعلى من قرأ ذو فهي عامة في جميع من عليه دين، وإليه ذهب الجمهور. وقرأ الجماعة "فنظرة" بكسر الظاء. وقرأ مجاهد وأبو رجاء والحسن بسكونها وهي لغة تميم. وقرأ نافع وحده "ميسرة" بضم السين والجمهور بفتحها، وهي اليسار. قوله: "وأن تصدقوا" بحذف إحدى التاءين، وقرئ بتشديد الصاد: أي وأن تصدقوا على معسري غرمائكم بالإبراء خير لكم، وفيه الترغيب لهم بأن يتصدقوا برؤوس أموالهم على من أعسر وجعل ذلك خيراً من إنظاره، قاله السدي وابن زيد والضحاك. قال الطبري: وقال آخرون: معنى الآية وأن تصدقوا على الغني والفقير خير لكم. والصحيح الأول، وليس في الآية مدخل للغني. قوله: "إن كنتم تعلمون" جوابه محذوف: أي إن كنتم تعلمون أنه خير لكم عملتم به.

وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ

قوله: 281- "واتقوا يوماً" هو يوم القيامة وتنكيره للتهويل وهو منصوب على أنه مفعول به لا ظرف. وقوله: "ترجعون فيه إلى الله" وصف له. وقرأ أبو عمرو بفتح التاء وكسر الجيم، والباقون بضم التاء وفتح الجيم، وذهب قوم إلى أن هذا االيوم المذكور هو يوم الموت. وذهب الجمهور إلى أنه يوم القيامة كما تقدم. وقوله: "إلى الله" فيه مضاف محذوف تقديره إلى حكم الله "ثم توفى كل نفس" من النفوس المكلفة "ما كسبت" أي جزاء ما عملت من خير أو شر، وجملة "وهم لا يظلمون" حالية، وجمع الضمير لأنه أنسب بحال الجزاء كما أن الإفراد أنسب بحال الكسب، وهذه الآية فيها الموعظة الحسنة لجميع الناس. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن السدي في قوله: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا" قال: نزلت في العباس بن عبد المطلب ورجل من بني المغيرة كانا شريكين في الجاهلية يسلفان الربا إلى ناس من ثقيف، فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة في الربا، فأنزل الله هذه الآية. وأخرج ابن جرير عن ابن جريج قال: كانت ثقيف قد صالحت النبي صلى الله عليه وسلم على أن ما لهم من ربا على الناس، وما كان للناس عليهم من ربا فهو موضوع، فلما كان الفتح استعمل عتاب بن أسيد على مكة، وكانت بنو عمرو ابن عوف يأخذون الربا من بني المغيرة، وكان بنو المغيرة يربون لهم في الجاهلية، فجاء الإسلام ولهم عليهم مال كثير فأتاهم بنو عمرو يطلبون رباهم، فأبى بنو المغيرة أن يعطوهم في الإسلام، ورفعوا ذلك إلى عتاب بن أسيد، فكتب عتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا" فكتب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عتاب وقال: إن رضوا وإلا فأذنهم بحرب. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "فأذنوا بحرب" قال: من كان مقيماً على الربا لا ينزع منه فحق على إمام المسلمين أن يستتيبه، فإن نزع وإلا ضرب عنقه. وأخرجوا أيضاً عنه في قوله: "فأذنوا بحرب" قال: استيقنوا بحرب. وأخرج أهل السنن وغيرهم عن عمرو بن الأحوص أنه شهد حجة الوداع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ألا إن كل ربا في الجاهلية موضوع، لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون، وأول ربا موضوع ربا العباس". وأخرج ابن منده عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في ربيعة بن عمرو وأصحابه "وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم". وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وإن كان ذو عسرة" قال: نزلت في الربا. وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وعبد بن حميد عن شريح نحوه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن الضحاك في الآية قال: وكذلك كل دين على مسلم. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير نحوه. وقد وردت أحاديث صحيحة في الصحيحين وغيرهما في الترغيب لمن له دين على معسر أن ينظره. وأخرج أبو عبيد وعبد بن حميد والنسائي وابن جرير والطبراني وابن المنذر والطبراني وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال: آخر آية نزلت من القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم: "واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله". وأخرج ابن أبي شيبة عن السدي وعطية العوفي مثله. وأخرج ابن الأنباري عن أبي صالح وسعيد بن جبير مثله أيضاً. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر والبيهقي من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنها آخر آية نزلت، وكان بين نزولها وبين موت النبي صلى الله عليه وسلم إحدى وثمانون يوماً. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير أنه عاش النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزولها تسع ليال ثم مات.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْ

هذا شروع في بيان حال المداينة الواقعة بين الناس بعد بيان حال الربا: أي إذا داين بعضكم بعضاً وعامله بذلك، وذكر الدين بعد ذكر ما يغني عنه من المداينة لقصد التأكيد مثل قوله: "ولا طائر يطير بجناحيه" وقيل: إنه ذكر ليرجع إليه الضمير في من قوله: 282- " فاكتبوه " ولو قال: فاكتبوا الدين لم يكن فيه من الحسن ما في قوله: "إذا تداينتم بدين"، والدين عبارة عن كل معاملة كان أحد العوضين فيها نقداً، والآخر في الذمة نسيئة، فإن العين عند العرب ما كان حاضراً، والدين ما كان غائباً، قال الشاعر: وعدتنا بدرهمينا طلاء وسواء معجلاً غير دين وقال الآخر: إذا ما أوقدوا ناراً وحطباً فذاك الموت نقداً غير دين وقد بين الله سبحانه هذا المعنى بقوله: "إلى أجل مسمى" وقد استدل به على أن الأجل المجهول لا يجوز وخصوصاً أجل السلم. وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من أسلف في تمر فليسلف في كيل معلوم إلى أجل معلوم" وقد قال بذلك الجمهور، واشترطوا توقيته بالأيام أو الأشهر أو السنين، قالوا: ولا يجوز إلى الحصاد أو الدياس أو رجوع القافلة أو نحو ذلك. وجوزه مالك. قوله: "فاكتبوه" أي الدين بأجله لأنه أدفع للنزاع وأقطع للخلاف. قوله: "وليكتب بينكم كاتب" هو بيان لكيفية الكتابة المأمور بها، وظاهر الأمر الوجوب، وبه قال عطاء والشعبي وغيرهما، فأوجبوا على الكاتب أن يكتب إذا طلب منه ذلك، ولم يوجد كاتب سواه، وقيل: الأمر للندب. وقوله: "بالعدل" متعلق بمحذوف صفة لكاتب أي كاتب كائن بالعدل: أي يكتب بالسوية لا يزيد ولا ينقص ولا يميل إلى أحد الجانبين، وهو أمر للمتداينين باختيار كاتب متصف بهذه الصفة لا يكون في قلبه ولا قلمه هوادة لأحدهما على الآخر، بل يتحرى الحق بينهم والمعدلة فيهم. قوله: "ولا يأب كاتب" النكرة في سياق النفي مشعرة بالعموم: أي لا يمتنع أحد من الكتاب أن يكتب كتاب التداين كما علمه الله: أي على الطريقة التي علمه الله من الكتابة، أو كما علمه الله بقوله: "بالعدل". قوله: "وليملل الذي عليه الحق" الإملال والإملاء لغتان: الأولى لغة أهل الحجاز وبني أسد والثانية لغة بني تميم، فهذه الآية جاءت على اللغة الأولى، وجاء على اللغة الثانية قوله تعالى: "فهي تملى عليه بكرة وأصيلاً" و"الذي عليه الحق" هو من عليه الدين، أمره الله تعالى بالإملاء، لأن الشهادة إنما تكون على إقراره بثبوت الدين في ذمته، وأمره الله بالتقوى فيما يمليه على الكاتب، بالغ في ذلك بالجمع بين الإسم والوصف في قوله: "وليتق الله ربه" ونهاه عن البخس وهو النقص، وقيل: إنه نهي للكاتب. والأول أولى لأن من عليه الحق هو الذي يتوقع منه النقص، ولو كان نهياً للكاتب لم يقتصر في نهيه على النقص، لأنه يتوقع منه الزيادة كما يتوقع منه النقص. والسفيه هو الذي لا رأي له في حسن التصرف فلا يحسن الأخذ ولا الإعطاء، شبه بالثوب السفيه وهو الخفيف النسج، والعرب تطلق السفه على ضعف العقل تارة، وعلى ضعف البدن أخرى، فمن الأول قول الشاعر: نخاف أن تسفه أحلامنا ونجهل الدهر مع الجاهل ومن الثاني قول ذي الرمة: مشين كما اهتزت رماح تسفهت أعاليها مر الرياح النواسم أي استضعفها واستلانها بحركتها، وبالجملة فالسفيه هو المبذر إما لجهله بالصرف أو لتلاعبه بالمال عبثاً مع كونه لا يجهل الصواب. والضعيف: هو الشيخ الكبير، أو الصبي. قال أهل اللغة: الضعف بضم الضاد في البدن، وبفتحها في الرأي. والذي لا يستطيع أن يمل هو الأخرس أو العيي الذي لا يقدر على التعبير كما ينبغي، وقيل: إن الضعيف هو المذهول العقل الناقص الفطنة العاجز عن الإملاء، والذي لا يستطيع أن يمل هو الصغير. قوله: "فليملل وليه بالعدل" الضمير عائد إلى الذي عليه الحق فيمل عن السفيه وليه المنصوب عنه بعد حجره عن التصرف في ماله، ويمل عن الصبي وصيه أو وليه، وكذلك يمل عن العاجز الذي لا يستطيع الإملال لضعف وليه لأنه في حكم الصبي أو المنصوب عنه من الإمام أو القاضي، ويمل عن الذي لا يستطيع وكيله إذا كان صحيح العقل وعرضت له آفة في لسانه أو لم تعرض، ولكنه جاهل لا يقدر على التعبير كما ينبغي. وقال الطبري: إن الضمير في قوله: "وليه" يعود إلى الحق، وهو ضعيف جداً. قال القرطبي في تفسيره: وتصرف السفيه المحجور عليه دون وليه فاسد إجماعاً مفسوخ أبداً لا يوجب حكماً ولا يؤثر شيئاً، فإن تصرف سفيه ولا حجر عليه ففيه خلاف انتهى. قوله: "واستشهدوا شهيدين من رجالكم" الاستشهاد: طلب الشهادة، وسماهما شهيدين قبل الشهادة من مجاز الأول أي باعتبار ما يؤول إليه أمرهما من الشهادة، و"من رجالكم" متعلق بقوله: "واستشهدوا" أو بمحذوف هو صفة لشهيدين: أي كائنين من رجالكم: أي من المسلمين فيخرج الكفار، ولا وجه لخروج العبيد من هذه الآية، فهم إذا كانوا مسلمين من رجال المسلمين، وبه قال شريح وعثمان البتي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو ثور. وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي وجمهور العلماء: لا تجوز شهادة العبد لما يلحقه من نقص الرق. وقال الشعبي والنخعي: يصح في الشيء اليسير دون الكثير. واستدل الجمهور على عدم جواز شهادة العبد بأن الخطاب في هذه الآية مع الذين يتعاملون بالمداينة والعبيد لا يملكون شيئاً تجري فيه المعاملة. ويجاب عن هذا بأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وأيضاً العبد تصح منه المداينة وسائر المعاملات إذا أذن له مالكه بذلك. وقد اختلف الناس هل الإشهاد واجب أو مندوب، فقال أبو موسى الأشعري وابن عمر والضحاك وعطاء وسعيد بن المسيب وجابر بن زيد ومجاهد وداود علي الظاهري وابنه: إنه واجب، ورجحه ابن جرير الطبري، وذهب الشعبي والحسن ومالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابه إلى أنه مندوب، وهذا الخلاف بين هؤلاء هو في جوب الإشهاد على البيع. واستدل الموجبون بقوله تعالى: "وأشهدوا إذا تبايعتم" ولا فرق بين هذا الأمر وبين قوله: "واستشهدوا"، فيلزم القائلين بوجوب الإشهاد في البيع أن يقولوا بوجوبه في المداينة. قوله: "فإن لم يكونا" أي الشهيدان " رجلين فرجل وامرأتان " أي: فليشهد رجل وامرأتان أو فرجل وامرأتان يكفون. وقوله: " ممن ترضون من الشهداء " متعلق بمحذوف وقع صفة لرجل وامرأتان: أي كائنون ممن ترضون حال كونهم من الشهداء. والمراد ممن ترضون دينهم وعدالتهم، أي كائنون ممن ترضون حال كونهم من الشهداء. والمراد ممن ترضون دينهم وعدالتهم، وفيه أن المرأتين في الشهادة برجل، وأنها لا تجوز شهادة النساء إلا مع الرجل لا وحدهن إلا فيما لا يطلع عليه غيرهن للضرورة. واختلفوا هل يجوز الحكم بشهادة امرأتين مع يمين المدعي كما جاز الحكم برجل مع يمين المدعي؟ فذهب مالك والشافعي إلى أنه يجوز ذلك، لأن الله سبحانه قد جعل المرأتين كالرجل في هذه الآية. وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنه لا يجوز ذلك، وهذا يرجع إلى الخلاف في الحكم بشاهد مع يمين المدعي، والحق أنه جائز لورود الدليل عليه، وهو زيادة لم تخالف ما في الكتاب العزيز فيتعين قبولها. وقد أوضحنا ذلك في شرحنا للمنتقى وغيره من مؤلفاتنا، ومعلوم عند كل من يفهم أنه ليس في هذه الآية ما يرد به قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشاهد واليمين، ولم يدفعوا هذا إلا بقاعدة مبينة على شفا جرف هار هي قوله: إن الزيادة على النص نسخ، وهذه دعوى باطلة، بل الزيادة على النص شريعة ثابتة جاءنا بها من جاءنا بالنص المتقدم عليها، وأيضاً كان يلزمهم أن لا يحكموا بنكول المطلوب ولا بيمين الرد على الطالب. وقد حكموا بهما، والجواب الجواب. قوله: "أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى" قال أبو عبيد: معنى تضل تنسى، والضلال عن الشهادة إنما هو نسيان جزء منها وذكر جزء. وقرأ حمزة إن تضل بكسر الهمزة. وقوله: "فتذكر" جوابه على هذه القراءة، وعلى قراءة الجمهور هو منصوب بالعطف على تضل، ومن رفعه فعلى الاستئناف. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو فتذكر بتخفيف الذال والكاف، ومعناه: تزيدها ذكراً. وقراءة الجماعة بالتشديد: أي تنبيهاً إذا غفلت ونسيت، وهذه الآية تعليل لاعتبار العدد في النساء: أي فليشهد رجل وتشهد امرأتان عوضاً عن الرجل الآخر لأجل تذكير إحداهما للأخرى إذا ضلت، وعلى هذا فيكون في الكلام حذف وهو سؤال سائل عن وجه اعتبار امرأتين عوضاً عن الرجل الواحد، فقيل: وجهه أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى، والعلة في الحقيقة هي التذكير، ولكن الضلال لما كان سبباً له نزل منزلته، وأبهم الفاعل في تضل وتذكر، لأن كلاً منهما يجوز عليه الوصفان، فالمعنى: إن ضلت هذه ذكرتها هذه، وإن ضلت هذه ذكرتها هذه لا على التعيين: أي: إن ضلت إحدى المرأتين ذكرتها المرأة الأخرى، وإنما اعتبر فيهما هذا التذكير لما يلحقهما من ضعف النساء بخلاف الرجال. وقد يكون الوجه في الإبهام أن ذلك يعني الضلال والتذكير يقع بينهما متناوباً حتى ربما ضلت هذه عن وجه وضلت تلك عن وجه آخر، فذكرت كل واحدة منهما صاحبتها. وقال سفيان بن عيينة: معنى قوله: "فتذكر إحداهما الأخرى" تصيرها ذكراً، يعني أن مجموع شهادة المرأتين مثل شهادة الرجل الواحد. وروي نحوه عن أبي عمرو بن العلاء، ولا شك أن هذا باطل لا يدل عليه شرع ولا لغة ولا عقل. قوله: "ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا" أي لأداء الشهادة التي قد تحملوها من قبل، وقيل: إذا ما دعوا لتحمل الشهادة، وتسميتهم شهداء مجاز كما تقدم، وحملها الحسن على المعنيين. وظاهر هذا النهي أن الامتناع من أداء الشهادة حرام. قوله: "ولا تسأموا أن تكتبوه" معنى تسأموا: تملوا. قال الأخفش: يقال: سئمت أسأم سآمة وسئاماً، ومنه قول الشاعر: سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ثمانين حولاً لا أبا لك يسأم أي لا تملوا أن تكتبوه: أي الدين الذي تداينتم به، وقيل: الحق، وقيل: الشاهد، وقيل: الكتاب، نهاهم الله سبحانه عن ذلك لأنهم ربما ملوا من كثرة المداينة أن يكتبوا، ثم بالغ في ذلك فقال: "صغيراً أو كبيراً" أي حال كون ذلك المكتوب صغيراً أو كبيراً: أي لا تملوا في حال من الأحوال سواء كان الدين كثيراً أو قليلاً، وقيل: إنه كنى بالسآمة عن الكسل. والأول أولى. وقدم الصغير هنا على الكبير للاهتمام به لدفع ما عساه أن يقال: إن هذا مال صغير: أي قليل لا احتياج إلى كتبه، والإشارة في قوله: "ذلكم" إلى المكتوب المذكور في ضمير قوله: "أن تكتبوه" "وأقسط" معناه أعدل: أي أصح وأحفظ "وأقوم للشهادة" أي أعون على إقامة الشهادة وأثبت لها وهو مبني من أقام، وكذلك أقسط مبني من فعله: أي أقسط. وقد صرح سيبويه بأنه قياسي: أي بني أفعل التفضيل. ومعنى قوله: " وأدنى أن لا ترتابوا " أقرب لنفي الريب في معاملاتكم: أي الشك، ولذلك أن الكتاب الذي يكتبونه يدفع ما يعرض لهم من الريب كائناً ما كان. قوله: "إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم" أن في موضع نصب على الاستثناء قاله الأخفش، وكان تامة: أي إلا أن تقع أو توجد تجارة، والاستثناء منقطع: أي لكن وقت تبايعكم وتجارتكم حاضرة بحضور البدلين "تديرونها بينكم" تتعاطونها يداً بيد، فالإدارة: التعاطي والتقابض، فالمراد التبايع الناجز يداً بيد فلا حرج عليكم إن تركتم كتابه. وقرئ بنصب تجارة على أن كان ناقصة: أي إلا أن تكون التجارة تجارة حاضرة. قوله: "وأشهدوا إذا تبايعتم" قيل معناه: وأشهدوا إذا تبايعتم هذا التبايع المذكور هذا وهو التجارة الحاضرة على أن الإشهاد فيها يكفي، وقيل معناه: إذا تبايعتم أي تبايع كان حاضراً أو كالئاً، لأن ذلك أدفع لمادة الخلاف وأقطع لمنشأ الشجار. وقد تقدم قريباً ذكر الخلاف في كون هذه الإشهاد واجباً أو مندوباً. قوله: "ولا يضار كاتب ولا شهيد" يحتمل أن يكون مبنياً للفاعل أو للمفعول، فعلى الأول معناه: لا يضارر كاتب ولا شهيد من طلب ذلك منهما، إما بعدم الإجابة، أو بالتحريف والتبديل والزيادة والنقصان في كتابه، ويدل على هذا قراءة عمر بن الخطاب وابن عباس وابن أبي إسحاق ولا يضارر بكسر الراء الأولى، وعلى الثاني لا يضارر كاتب ولا شهيد بأن يدعيا إلى ذلك وهما مشغولان بمهم لهما ويضيق عليهما في الإجابة ويؤذيا إن حصل منهما التراخي، أو يطلب منهما الحضور من مكان بعيد، ويدل على ذلك قراءة ابن مسعود ولا يضارر بفتح الراء الأولى، وصيغة المفاعلة تدل على اعتبار الأمرين جميعاً. وقد تقدم في تفسير قوله تعالى: "لا تضار والدة بولدها" ما إذا راجعته زادك بصيرة إن شاء الله. قوله: "وإن تفعلوا" أي ما نهيتم عنه من المضارة "فإنه" أي فعلكم هذا "فسوق بكم" أي خروج عن الطاعة إلى المعصية ملتبس بكم "واتقوا الله" في فعل ما أمركم به وترك ما نهاكم عنه "ويعلمكم الله" ما تحتاجون إليه من العلم، وفيه الوعد لمن اتقاه أن يعلمه، ومنه قوله تعالى: "إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً".

وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ و

قوله: 283- "وإن كنتم على سفر" لما ذكر سبحانه مشروعية الكتابة والإشهاد لحفظ الأموال ودفع الريب، عقب ذلك بذكر حالة العذر عن وجود الكاتب ونص على حالة السفر فإنها من جملة أحوال العذر، ويلحق بذلك كل عذر يقوم مقام السفر، وجعل الرهان المقبوضة قائمة مقام الكتابة: أي فإن كنتم مسافرين "ولم تجدوا كاتباً" في سفركم "فرهان مقبوضة" قال أهل العلم: الرهن في السفر ثابت ينص التنزيل، وفي الحضر بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما ثبت في الصحيحين "أنه صلى الله عليه وسلم رهن درعاً له من يهودي". وقرأ الجمهور كاتباً أي رجلاً يكتب لكم. وقرأ ابن عباس وأبي ومجاهد والضحاك وعكرمة وأبو العالية كتاباً قال ابن الأنباري: فسره مجاهد فقال: معناه فإن لم تجدوا مداداً: يعني في الأسفار. وقرأ أبو عمرو وابن كثير فرهن بضم الراء والهاء. وروي عنهما تخفيف الهاء جمع رهان. قاله الفراء والزجاج وابن جرير الطبري. وقرأ عاصم بن أبي النجود فرهن بفتح الراء وإسكان الهاء. وقراءة الجمهور رهان؟ قال الزجاج: يقال في الرهن رهنت أو أرهنت، وكذا قال ابن الأعرابي والأخفش. وقال أبو علي الفارسي: يقال أرهنت في المعاملات، وأما في القرض والبيع فرهنت: وقال ثعلب: الرواة كلهم في قول الشاعر: فلما خشيت أظافيرهم نجوت وأرهنتهم مالكاً على أرهنتهم على أنه يجوز رهنته وأرهنته إلا الأصمعي فإنه رواه وأرهنهم على أنه عطف لفعل مستقبل على فعل ماض وشبهه بقوله: قمت وأصك وجهه. وقال ابن السكيت: أرهنت فيهما بمعنى أسلفت، والمرتهن الذي يأخذ الرهن، والشيء مرهون ورهين، وراهنت فلاناً على كذا مراهنة خاطرته. وقد ذهب الجمهور إلى اعتبار القبض كما صرح به القرآن، وذهب مالك إلى أنه يصح الارتهان بالإيجاب والقبول من دون قبض. قوله: "فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤد الذي اؤتمن أمانته" أي إن كان الذي عليه الحق أميناً عند صاحب الحق لحسن ظنه به وأمانته لديه واستغنى بأمانته عن الارتهان "فليؤد الذي اؤتمن" وهو المديون "أمانته" أي الدين الذي عليه، والأمانة مصدر سمي به الذي في الذمة وأضافها إلى الذين عليه الدين من حيث أن لها إليه نسبة، وقرئ ايتمن بقلب الهمزة ياءً، وقرئ بإدغام الياء في التاء وهو خطأ، لأن المنقلبة من الهمزة لا تدغم لأنها في حكمها "وليتق الله ربه" في أن لا يكتم من الحق شيئاً. قوله: "ولا تكتموا الشهادة" نهي للشهود أن يكتموا ما تحملوه من الشهادة، وهو في حكم التفسير لقوله: "ولا يضار كاتب" أي لا يضارر بكسر الراء الأولى على أحد التفسيرين المتقدمين. قوله: "ومن يكتمها فإنه آثم قلبه" خص القلب بالذكر لأن الكتم من أفعاله، ولكونه رئيس الأعضاء، وهو المضغة التي إن صلحت صلح الجسد كله، وإن فسدت فسد كله، وارتفاع القلب على أنه فاعل أو مبتدأ وآثم خبره على ما تقرر في علم النحو، ويجوز أن يكون قلبه بدلاً من آثم بدل البعض من الكل، ويجوز أن يكون أيضاً بدلاً من الضمير الذي في آثم الراجع إلى من، وقرئ قلبه بالنصب كما في قوله: "إلا من سفه نفسه". وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس في قوله: "يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين" قال: نزلت في السلم في كيل معلوم إلى أجل معلوم. وأخرج الشافعي وعبد الرزاق وعبد بن حميد والبخاري وغيرهم عنه قال: أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى أن الله أجله، وقرأ هذه الآية. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في الآية. قال: أمر بالشهادة عند المداينة لكيلا يدخل في ذلك جحود ولا نسيان، فمن لم يشهد على ذلك فقد عصى " ولا يأب الشهداء " يعني من احتيج إليه من المسلمين ليشهد على شهادة أو كانت عنده شهادة، فلا يحل له أن يأبى إذا ما دعي، ثم قال بعد هذا: "ولا يضار كاتب ولا شهيد" والضرار أن يقول الرجل للرجل وهو عنه غني: إن الله قد أمرك أن لا تأبى إذا دعيت، فيضاره بذلك وهو مكتف بغيره، فنهاه الله عن ذلك. وقال: "وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم" يعني معصية. قال: ومن الكبائر كتمان الشهادة، لأن الله تعالى يقول: "ومن يكتمها فإنه آثم قلبه". وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم في قوله: "ولا يأب كاتب" قال: واجب على الكاتب أن يكتب. وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال: كانت الكتابة عزيمة فنسخها: "ولا يضار كاتب ولا شهيد". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد. قال: "فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً" قال: هو الجاهل "أو ضعيفاً" قال: هو الأحمق. وأخرج ابن جرير عن الضحاك والسدي في قوله: "سفيهاً" قالا: هو الصبي الصغير. وأخرج ابن جرير من طريق عطية العوفي عن ابن عباس "فليملل وليه" قال صاحب الدين. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن الحسن قال: ولي اليتيم. وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال: ولي السفيه أو الضعيف. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر والبيهقي عن مجاهد في قوله: "من رجالكم" قال: من الأحرار. وأخرج ابن جرير عن الربيع في قوله: "ممن ترضون من الشهداء" قال: عدول. وأخرج الشافعي والبيهقي عن مجاهد قال: عدلان حران مسلمان. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: "أن تضل إحداهما" يقول: أن تنسى إحدى المرأتين الشهادة "فتذكر إحداهما الأخرى" يعني تذكرها التي حبطت شهادتها. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ولا يأب الشهداء" قال: إذا كانت عندهم شهادة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الربيع قال: كان الرجل يطوف في القوم الكثير يدعوهم يشهدون فلا يتبعه أحد منهم، فأنزل الله: "ولا يأب الشهداء". وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة نحوه. وأخرج ابن المنذر عن عائشة في قوله: "أقسط عند الله" قالت: أعدل. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله: "ولا يضار كاتب ولا شهيد" قال: يأتي الرجل الرجلين فيدعوهما إلى الكتابة والشهادة فيقولان: إنا على حاجة، فيقول: إنكما قد أمرتما أن تجيبا فليس له أن يضارهما. وأخرج ابن جرير عن طاوس "لا يضار كاتب"، فيكتب ما لم يمل عليه "ولا شهيد" فيشهد بما لم يستشهد. وأخرج ابن جرير عن الضحاك في قوله: "وإن كنتم على سفر" الآية، قال: من كان على سفر فبايع بيعاً إلى أجل فلم يجد كاتباً فرخص له في الرهان المقبوضة، وليس له إن وجد كاتباً أن يرتهن. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: لا يكون الرهن إلا في السفر. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: لا يكون الرهن إلا مقبوضاً. وأخرج البخاري في تاريخه وأبو داود وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن ماجه وأبو نعيم والبيهقي عن أبي سعيد الخدري أنه قرأ هذه الآية: " يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين " حتى بلغ "فإن أمن بعضكم بعضاً" قال: هذه نسخت ما قبلها. وأقول: رضي الله عن هذا الصحابي الجليل، ليس هذا من باب النسخ، فهذا مقيد بالائتمان وما قبله ثابت محكم لم ينسخ وهو مع عدم الائتمان. وأخرج ابن جرير عن السدي في قوله: "آثم قلبه" قال: فاجر قلبه. وأخرج ابن جرير بإسناد صحيح عن سعيد بن المسيب أنه بلغه أن أحدث القرآن بالعرش آية الدين. وأخرج أبو عبيد في فضائله عن ابن شهاب قال: آخر القرآن عهدا بالعرش آية الربا وآية الدين.

لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ

قوله: 284- "لله ما في السموات وما في الأرض" قد تقدم تفسيره. قوله: " وإن تبدوا ما في أنفسكم " إلى آخر الآية، ظاهره أن الله يحاسب العباد على ما أضمرته أنفسهم أو أظهرته من الأمور التي يحاسب عليها، فيغفر لمن يشاء منهم ما يغفره منها، ويعذب من يشاء منهم بما أسر أو أظهر منها، هذا معنى الآية على مقتضى اللغة العربية. وقد اختلف أهل العلم في هذه الآية على أقوال: الأول أنها وإن كانت عامة، فهي مخصوصة بكتمان الشهادة، وأن الكاتم للشهادة يحاسب على كتمه سواء أظهر للناس أنه كاتم للشهادة أو لم يظهر. وقد روي هذا عن ابن عباس وعكرمة والشعبي ومجاهد، وهو مردود بما في الآية من عموم اللفظ، ولا يصلح ما تقدم قبل هذه الآية من النهي عن كتم الشهادة أن تكون مختصة به. والقول الثاني: أن ما في الآية مختص بما يطرأ على النفوس من الأمور التي هي بين الشك واليقين، قاله مجاهد، وهو أيضاً تخصيص بلا مخصص. والقول الثالث: أنها محكمة عامة، ولكن العذاب على ما في النفس يختص بالكفار والمنافقين. حكاه الطبري عن قوم، وهو أيضاً تخصيص بلا مخصص، فإن قوله: "يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء" لا يختص ببعض معين إلا بدليل. والقول الرابع: أن هذه الآية منسوخة، قاله ابن مسعود وعائشة وأبو هريرة والشعبي وعطاء ومحمد بن سيرين ومحمد بن كعب وموسى بن عبيدة، وهو مروي عن ابن عباس وجماعة من الصحابة والتابعين، وهذا هو الحق لما سيأتي من التصريح بنسخها، ولما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله غفر لهذه الأمة ما حدثت به أنفسها". قوله: "يحاسبكم به الله" قدم الجار والمجرور على الفاعل لإظهار العناية به، وقدم الإبداء على الإخفاء، لأن الأصل في الأمور التي يحاسب عليها هو الأعمال البادية، وأما تقديم الإخفاء في قوله سبحانه: "قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله" فلكون العلم يتعلق بالأعمال الخافية والبادية على السوية، وقدم المغفرة على التعذيب لكون رحمته سبقت غضبه، وجملة قوله: "فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء" مستأنفة: أي فهو يغفر وهي متضمنة لتفصيل ما أجمل في قوله: "يحاسبكم به الله" وهذا على قراءة ابن عامر وعاصم. وأما على قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو وحمزة والكسائي بجزم الراء والباء، فالفاء عاطفة لما بعدها على المجزوم قبلها، وهو جواب الشرط: أعني قوله: "يحاسبكم به الله". وقرأ ابن عباس والأعرج وأبو العالية وعاصم الجحدري بنصب الراء والباء في قوله: "فيغفر" "ويعذب" على إضمار أن عطفاً على المعنى. وقرأ طلحة بن مصرف يغفر بغير فاء على البدل، وبه قرأ الجعفي وخلاد. وقد أخرج أحمد ومسلم وأبو داود في ناسخه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال: "لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لله ما في السموات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم" الآية، اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جثوا على الركب، فقالوا: يا رسول الله كلفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة والصيام والجهاد والصدقة، وقد أنزل الله عليك هذه الآية ولا نطيقها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا، بل قولوا: " سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير " فلما اقترأها القوم وذلك بها ألسنتهم أنزل الله في أثرها "آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه" الآية، فلما فعلوا ذلك نسخها الله فأنزل " لا تكلف نفس إلا وسعها " إلى آخرها". وأخرج أحمد ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر والحاكم والبيهقي عن ابن عباس مرفوعاً نحوه، وزاد فأنزل الله "ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا" قال: قد فعلت "ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به" قال: قد فعلت "واعف عنا واغفر لنا وارحمنا" الآية، قال: قد فعلت. وقد رويت هذه القصة عن ابن عباس من طرق. وأخرج البخاري والبيهقي عن مروان الأصفر عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحسبه ابن عمر "إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه" قال: نسختها الآية التي بعدها. وأخرج عبد بن حميد والترمذي عن علي نحوه. وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير والطبراني عن ابن مسعود نحوه. وأخرج ابن جرير عن عائشة نحوه أيضاً. وبمجموع ما تقدم يظهر لك ضعف ما أخرجه سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في هذه الآية أنه قال: نزلت في كتمان الشهادة فإنها لو كانت كذلك لم يشتد الأمر على الصحابة. وعلى كل حال فبعد هذه الأحاديث المصرحة بالنسخ والناسخ لم يبق مجال لمخالفتها، ومما يؤيد ذلك ما ثبت في الصحيحين والسنن الأربع من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل به". وأخرج ابن جرير عن عائشة قالت: كل عبد هم بسوء ومعصية وحدث نفسه به حاسبه الله في الدنيا يخاف ويحزن ويشتد همه لا يناله من ذلك شيء كما هم بالسوء ولم يعمل منه بشيء. وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير عنها نحوه، والأحاديث المتقدمة المصرحة بالنسخ تدفعه. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: إن الله يقول يوم القيامة: إن كتابي لم يكتبوا من أعمالكم إلا ما ظهر منها، فأما ما أسررتم في أنفسكم فأنا أحاسبكم به اليوم فأغفر لمن شئت وأعذب من شئت، وهو مدفوع بما تقدم.

آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ

قوله: 285- "بما أنزل إليه من ربه" أي بجميع ما أنزل الله "والمؤمنون" عطف على الرسول، وقوله: "كل" أي من الرسول والمؤمنين "آمن بالله" ويجوز أن يكون قوله: "والمؤمنون" مبتدأ. وقوله: "كل" مبتدأ ثان. وقوله: "آمن بالله" خبر المبتدأ الثاني، وهو وخبره خبر المبتدأ الأول، وأفراد الضمير في قوله: "آمن بالله" مع رجوعه إلى كل المؤمنين، لما أن المراد بيان إيمان كل فرد منهم من غير اعتبار الاجتماع كما اعتبر ذلك في قوله تعالى: "وكل أتوه داخرين". قال الزجاج: لما ذكر الله سبحانه في هذه السورة فرض الصلاة والزكاة، وبين أحكام الحج، وحكم الحيض، والطلاق والإيلاء، وأقاصيص الأنبياء، وبين حكم الربا، ذكر تعظيمه سبحانه بقوله: "لله ما في السموات وما في الأرض" ثم ذكر تصديق نبيه صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر تصديق المؤمنين بجميع ذلك فقال: "آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه" أي صدق الرسول بجميع هذه الأشياء التي جرى ذكرها، وكذلك المؤمنون كلهم صدقوا بالله وملائكته وكتبه ورسله، وقيل: سبب نزولها الآية التي قبلها. وقد تقدم بيان ذلك. قوله: "وملائكته" أي: من حيث كونهم عباده المكرمين المتوسطين بينه وبين أنبيائه في إنزال كتبه، وقوله: "وكتبه" لأنها المشتملة على الشرائع التي تعبد بها عباده. وقوله: "ورسله" لأنهم المبلغون لعباده ما نزل إليهم. وقرأ نافع وابن كثير وعاصم في رواية أبي بكر وابن عامر "وكتبه" بالجمع. وقرأوا في التحريم " وكتبه " وقرأ ابن عباس هنا " وكتبه " وكذلك قرأ حمزة والكسائي، وروي عنه أنه قال: الكتاب أكثر من الكتب. وبينه صاحب الكشاف فقال: لأنه إذا أريد بالواحد الجنس والجنسية قائمة في وحدان الجنس كلها لم يخرج منه شيء، وأما الجمع فلا يدخل تحته إلا ما فيه الجنسية من الجموع انتهى. ومن أراد تحقيق المقام فليرجع إلى شرح التلخيص المطول عند قول صاحب التلخيص واستغراق المفرد أشمل. وقرأ الجمهور ورسله بضم السين. وقرأ أبو عمرو بتخفيف السين. وقرأ الجمهور "لا نفرق" بالنون. والمعنى: يقولون: لا نفرق. والمعنى: يقولون: لا نفرق. وقرأ سعيد بن جبير ويحيى بن يعمر وأبو زرعة وابن عمر وابن جرير ويعقوب لا يفرق بالياء التحتية. وقوله: "بين أحد" ولم يقل بين آحاد، لأن الأحد يتناول الواحد والجمع كما في قوله تعالى: "فما منكم من أحد عنه حاجزين" فوصفه بقوله: "حاجزين" لكونه في معنى الجمع، وهذه الجملة يجوز أن تكون في محل نصب على الحال وأن تكون خبراً آخر لقوله: "كل". وقوله: "من رسله" أظهر في محل الإضمار للاحتراز عن توهم اندراج الملائكة في الحكم، أو الإشعار بعلة عدم التفريق بينهم. وقوله: "وقالوا سمعنا وأطعنا" هو معطوف على قوله: "آمن" وهو وإن كان للمفرد وهذا للجماعة فهو جائز نظراً إلى جانب المعنى: أي أدركناه بأسماعنا وفهمناه وأطعنا ما فيه، وقيل معنى سمعنا: أجبنا دعوتك. قوله: "غفرانك" مصدر منصوب بفعل مقدر: أي اغفر غفرانك. قاله الزجاج وغيره، وقدم السمع والطاعة على طلب المغفرة لكون الوسيلة تتقدم على المتوسل إليه.

لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا

قوله: 286- "لا يكلف الله نفساً إلا وسعها" التكليف هو الأمر بما فيه مشقة وكلفة، والوسع: الطاقة، والوسع: ما يسع الإنسان ولا يضيق عليه، وهذه جملة مستقلة جاءت عقب قوله سبحانه: "وإن تبدوا ما في أنفسكم" الآية لكشف كربة المسلمين، ودفع المشقة عليهم في التكليف بما في الأنفس وهي كقوله سبحانه: "يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر". قوله: "لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت" فيه ترغيب وترهيب: أي لها ثواب ما كسبت من الخير، وعليها وزر ما اكتسبت من الشر، وتقدم لها وعليها على الفعلين ليفيد أن ذلك لها لا لغيرها، وعليها لا على غيرها، وهذا مبني على أن كسب للخير فقط، واكتسب للشر فقط، كما قاله صاحب الكشاف وغيره، وقيل: كل واحد من الفعلين يصدق على الأمرين، وإنما كرر الفعل وخالف بين التصريفين تحسيناً للنظم كما في قوله تعالى: "فمهل الكافرين أمهلهم رويداً". قوله: "ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا" أي: لا تؤاخذنا بإثم ما يصدر منا من هذين الأمرين. وقد استشكل هذا الدعاء جماعة من المفسرين وغيرهم قائلين إن الخطأ والنسيان مغفوران غير مؤاخذ بهما، فما معنى الدعاء بذلك، فإنه من تحصيل الحاصل. وأجيب عن ذلك أن المراد طلب المؤاخذة بما صدر عنهم من الأسباب المؤدية إلى النسيان والخطأ من التفريط وعدم المبالاة، لا من أجل النسيان والخطأ فإنه لا مؤاخذة بهما كما يفيد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان" وسيأتي مخرجه، وقيل: إنه يجوز للإنسان أن يدعو بحصول ما هو حاصل له قبل الدعاء لقصد استدامته، وقيل: إنه وإن ثبت شرعاً أنه لا مؤاخذة بهما، فلا امتناع في المؤاخذة بهما عقلاً، وقيل: لأنهم كانوا على جانب عظيم من التقوى بحيث لا يصدر عنهم الذنب تعمداً، وإنما يصدر عنهم خطأ أو نسياناً، فكأنه وصفهم بالدعاء بذلك إيذاناً بنزاهة ساحتهم عما يؤاخذون به، كأنه قيل: إن كان النسيان والخطأ مما يؤاخذ به، فما منهم سبب مؤاخذة إلا الخطأ والنسيان. قال القرطبي: وهذا لم يختلف فيه أن الإثم مرفوع، وإنما اختلف فيما يتعلق على ذلك من الأحكام هل ذلك مرفوع ولا يلزم منه شيء، أو يلزم أحكام ذلك كله؟ اختلف فيه، والصحيح أن ذلك يختلف بحسب الوقائع، فقسم لا يسقط باتفاق كالغرامات والديانات والصلوات المفروضات. وقسم يسقط باتفاق كالقصاص والنطق بكلمة الكفر، وقسم ثالث مختلف فيه كمن أكل ناسياً في رمضان أو حنث ساهياً، وما كان مثله مما يقع خطأ ونسياناً، ويعرف ذلك في الفروع انتهى. قوله: "ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا" عطف على الجملة التي قبله، وتكرير النداء للإيذان بمزيد التضرع واللجوء إلى الله سبحانه. والإصر: العبء الثقيل الذي يأصر صاحبه: أي يحبسه مكانه لا يستقل به لثقله. والمراد به هنا التكليف الشاق، والأمر الغليظ الصعب، وقيل الإصر: شدة العمل وما غلظ على بني إسرائيل من قتل الأنفس وقطع موضع النجاسة، ومنه قول النابغة: يا مانع الضيم أن تغشي سراتهم والحامل الإصر عنهم بعدما غرقوا وقيل الإصر: المسخ قردة وخنازير، وقيل: العهد، ومنه قوله تعالى: "وأخذتم على ذلكم إصري" وهذا الخلاف يرجع إلى بيان ما هو الإصر الذي كان على من قبلنا، لا إلى معنى الإصر في لغة العرب، فإنه ما تقدم ذكره بلا نزاع، والإصار: الحبل الذي تربط به الأحمال ونحوها، يقال: أصر يأصر إصراً: حبس، والإصر بكسر الهمزة من ذلك. قال الجوهري: والموضع مأصر، والجمع مآصر، والعامة تقول معاصر. ومعنى الآية أنهم طلبوا من الله سبحانه أن لا يحملهم من ثقل التكاليف ما حمل الأمم قبلهم. وقوله: "كما حملته" صفة مصدر محذوف: أي حملاً مثل حملك إياه على من قبلنا، أو صفة لإصراً: أي إصراً مثل الإصر الذي حملته على من قبلنا. قوله: "ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به" هو أيضاً عطف على ما قبله، وتكرير النداء للنكتة المذكورة قبل هذا. والمعنى لا تحملنا من الأعمال ما لا نطيق، وقيل: هو عبارة عن إنزال العقوبات، كأنه قال: لا تنزل علينا العقوبات بتفريطنا في المحافظة على تلك التكاليف الشاقة التي كلفت بها من قبلنا، وقيل: المراد به الشاق الذي لا يكاد يستطاع من التكاليف. قال في الكشاف: وهذا تقرير لقوله: "ولا تحمل علينا إصراً". قوله: "واعف عنا" أي عن ذنوبنا، يقال عفوت من ذنبه: إذا تركته ولم تعاقبه عليه "واغفر لنا" أي استر على ذنوبنا، والغفر: الستر "وارحمنا" أي تفضل برحمة منك علينا "أنت مولانا" أي ولينا وناصرنا، وخرج هذا مخرج التعليم كيف يدعون، وقيل معناه: أنت سيدنا ونحن عبيدك "فانصرنا على القوم الكافرين" فإن من حق المولى أن ينصر عبيده، والمراد عامة الكفرة، وفيه إشارة إلى أعلاء كلمة الله في الجهاد في سبيله. وقد قدمنا في شرح الآية التي قبل هذه أعني قوله: "إن تبدوا ما في أنفسكم" إلخ، أنه ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى قال عقب كل دعوة من هذه الدعوات قد فعلت، فكان ذلك دليلاً على أنه سبحانه لم يؤاخذهم بشيء من الخطأ والنسيان ولا حمل عليهم شيئاً من الإصر الذي حمله على من قبلهم، ولا حملهم ما لا طاقة لهم به، وعفا عنهم وغفر لهم ورحمهم، ونصرهم على القوم الكافرين، والحمد لله رب العالمين. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حبان "لا نفرق بين أحد من رسله" لا نكفر بما جاءت به الرسل، ولا نفرق بين أحد منهم، ولا نكذب به "وقالوا سمعنا" للقرآن الذي جاء من الله "وأطعنا"، أقروا لله أن يطيعوه في أمره ونهيه. وأخرج ابن أبي حاتم وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "غفرانك ربنا" قال: قد غفرت لكم "وإليك المصير" قال: إليك المرجع والمآب يوم يقوم الحساب. وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن أبي حاتم عن حكيم بن جابر قال: لما نزلت "آمن الرسول" الآية، قال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم: إن الله قد أحسن الثناء عليك وعلى أمتك فسل تعطه، فقال: "لا يكلف الله نفساً إلا وسعها" حتى ختم السورة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "لا يكلف الله نفساً إلا وسعها" قال: هم المؤمنون وسع الله عليهم أمر دينهم فقال: "ما جعل عليكم في الدين من حرج". وقال: "يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر". وقال: "فاتقوا الله ما استطعتم". وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله: "لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت" قال: من العمل. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: "إلا وسعها" قال: إلا طاقتها. وأخرج ابن المنذر عن الضحاك نحوه. وقد أخرج ابن ماجه وابن المنذر وابن حبان في صحيحه والطبراني والدارقطني والحاكم والبيهقي في سننه عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه". وأخرج ابن ماجه من حديث أبي ذر مرفوعاً، والطبراني من حديث ثوبان ومن حديث ابن عمر ومن حديث عقبة بن عامر. وأخرجه البيهقي أيضاً من حديثه. وأخرجه ابن عدي في الكامل وأبو نعيم من حديث أبي بكرة. وأخرجه ابن أبي حاتم من حديث أم الدرداء. وأخرجه سعيد بن منصور وعبد بن حميد عن حديث الحسن مرسلاً، وأخرجه عبد بن حميد من حديث الشعبي مرسلاً. وفي أسانيد هذه الأحاديث مقال ولكنها يقوي بعضها بعضاً فلا تقصر عن رتبة الحسن لغيره. وقد تقدم حديث "إن الله قال قد فعلت" وهو في الصحيح وهو يشهد لهذه الأحاديث. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "إصراً" قال: عهداً. وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد مثله. وأخرج ابن جرير عن ابن جريج مثله. وأخرج أيضاً عن عطاء بن أبي رباح في قوله: "ولا تحمل علينا إصراً" قال: لا تمسخنا قردة وخنازير. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في الآية أن الإصر: الذنب الذي ليس فيه توبة ولا كفارة. وأخرج ابن أبي حاتم عن الفضيل في الآية قال: كان الرجل من بني إسرائيل إذا أذنب قيل له: توبتك أن تقتل نفسك فيقتل نفسه، فوضعت الآصار عن هذه الأمة. وأخرج عبد بن حميد عن عطاء قال: لما نزلت هذه الآيات "ربنا لا تؤاخذنا" إلخ، كلما قالها جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم قال النبي: آمين رب العالمين. وأخرج أبو عبيد عن ميسرة أن جبريل لقن النبي صلى الله عليه وسلم خاتمة البقرة آمين. وأخرج أبو عبيد وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن معاذ بن جبل أنه كان إذا فرغ من قراءة هذه السورة قال: آمين. وأخرج أبو عبيد عن جبير بن نفير أنه كان يقول: آمين آمين. وأخرج عبد بن حميد عن أبي ذر قال: هي للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة. وأخرج ابن جرير عن الضحاك في هذه الآية قال: سألها نبي الله ربه فأعطاه إياها، فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة. وقد ثبت عند الشيخين وأهل السنن وغيرهم عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه". وأخرج أبو عبيد والدارمي والترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم وصححه والبيهقي عن النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله كتب كتاباً قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي عام، فأنزل منه آيتين ختم بها سورة البقرة، ولا يقرآن في دار ثلاث ليال فيقر بهما شيطان". وأخرج أحمد والنسائي والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الشعب بسند صحيح عن حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: "أعطيت هذه الآيات من آخر سورة البقرة من كنز تحت العرش لم يعطها نبي قبلي". وأخرج أحمد والبيهقي عن أبي ذر مرفوعاً نحوه. وأخرج أبو عبيد وأحمد ومحمد بن نصر عن عقبة بن عامر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اقرأوا هاتين الآيتين من آخر سورة البقرة "آمن الرسول" إلى خاتمتها، فإن الله اصطفى بها محمداً" وإسناده حسن. وأخرج مسلم عن ابن مسعود قال: لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى إلى سدرة المنتهى وأعطي ثلاثاً، أعطي الصلوات الخمس، وأعطي خواتيم سورة البقرة، وغفر لمن لا يشرك بالله من أمته شيئاً المقحمات. وأخرج الحاكم وصححه البيهقي في الشعب عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله ختم سورة البقرة بآيتين أعطانيهما من كنزه الذي تحت العرش، فتعلموهما وعلموهما نساءكم وأبناءكم فإنهما صلاة وقرآن ودعاء". وأخرج الديلمي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اثنان هما قرآن وهما يشفيان، وهما مما يحبهما الله الآيتان من آخر البقرة". وأخرج الطبراني بسند جيد عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله كتب كتاباً قبل ان يخلق السموات والأرض بألفي عام فأنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة لا يقرآن في دار ثلاث ليال فيقربها شيطان". وأخرج ابن عدي عن ابن مسعود الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أنزل الله آيتين من كنوز الجنة، كتبهما الرحمن بيده قبل أن يخلق الخلق بألفي سنة، من قرأهما بعد العشاء الآخرة أجزأتاه عن قيام الليل". وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ آخر سورة البقرة أو آية الكرسي ضحك وقال: إنهما من كنز تحت العرش. وأخرج ابن مردويه عن معقل بن يسار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعطيت فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة من تحت العرش". وأخرج مسلم والنسائي واللفظ له عن ابن عباس قال:" بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده جبريل إذ سمع نقيضاً فرفع جبريل بصره فقال: هذا باب قد فتح من السماء ما فتح قط، قال: فنزل منع ملك فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أبشر بنورين قد أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ حرفاً منهما إلا أوتيته". فهذه ثلاثة عشر حديثاً في فضل هاتين الآيتين مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وقد روي في فضلهما من غير المرفوع عن عمر وعلي وابن مسعود وأبي مسعود وكعب الأحبار والحسن وأبي قلابة، وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم ما يغني عن غيره.


1-الفاتحة 2-البقرة 3-آل-عمران 4-النساء 5-المائدة 6-الأنعام 7-الأعراف 8-الأنفال 9-التوبة 10-يونس 11-هود 12-يوسف 13-الرعد 14-إبراهيم 15-الحجر 16-النحل 17-الإسراء 18-الكهف 19-مريم 20-طه 21-الأنبياء 22-الحج 23-المؤمنون 24-النور 25-الفرقان 26-الشعراء 27-النمل 28-القصص 29-العنكبوت 30-الروم 31-لقمان 32-السجدة 33-الأحزاب 34-سبأ 35-فاطر 36-يس 37-الصافات 38-ص 39-الزمر 40-غافر 41-فصلت 42-الشورى 43-الزخرف 44-الدخان 45-الجاثية 46-الأحقاف 47-محمد 48-الفتح 49-الحجرات 50-ق 51-الذاريات 52-الطور 53-النجم 54-القمر 55-الرحمن 56-الواقعة 57-الحديد 58-المجادلة 59-الحشر 60-الممتحنة 61-الصف 62-الجمعة 63-المنافقون 64-التغابن 65-الطلاق 66-التحريم 67-الملك 68-القلم 69-الحاقة 70-المعارج 71-نوح 72-الجن 73-المزمل 74-المدثر 75-القيامة 76-الإنسان 77-المرسلات 78-النبأ 79-النازعات 80-عبس 81-التكوير 82-الانفطار 83-المطففين 84-الانشقاق 85-البروج 86-الطارق 87-الأعلى 88-الغاشية 89-الفجر 90-البلد 91-الشمس 92-الليل 93-الضحى 94-الشرح 95-التين 96-العلق 97-القدر 98-البينة 99-الزلزلة 100-العاديات 101-القارعة 102-التكاثر 103-العصر 104-الهمزة 105-الفيل 106-قريش 107-الماعون 108-الكوثر 109-الكافرون 110-النصر 111-المسد 112-الإخلاص 113-الفلق 114-الناس