islamkingdomfaceBook islamkingdomtwitter islamkingdominstagram islamkingdomyoutube islamkingdomnew

فتح القدير
17124

10-يونس

الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ

هي مكية إلا ثلاث آيات من قوله: "فإن كنت في شك" إلى آخرهن، هكذا روى القرطبي في تفسيره عن ابن عباس. وحكي عن مقاتل أنها مكية إلا آيتين، وهي قوله: "فإن كنت في شك" فإنها نزلت في المدينة. وحكي عن الكلبي أنها مكية إلا قوله: "ومنهم من لا يؤمن به" فإنها نزلت بالمدينة. وحكى عن الحسن وعكرمة وعطاء وجابر أنها مكية من غير استثناء. وأخرج النحاس وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت سورة يونس بمكة. وأخرج أبو الشيخ عن ابن سيرين قال: كانت سورة يونس بعد السابعة. وأخرج ابن مردويه عن أنس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله أعطاني الرائيات إلى الطواسين مكان الإنجيل". وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن الأحنف قال: صليت خلف عمر غداة فقرأ يونس وهود وغيرهما. قوله: 1- "الر" قد تقدم الكلام مستوفى على هذه الحروف الواقعة في أوائل السور في أول سورة البقرة فلا نعيده، ففيه ما يغني عن الإعادة. وقد قرأ بالإمالة أبو عمرو وحمزة وخلف وغيرهم. وقرأ جماعة من غير إمالة، وقد قيل: إن معنى "الر" أنا الله أرى. قال النحاس: ورأيت أبا إسحاق يميل إلى هذا القول، لأن سيبويه قد حكى مثله عن العرب، وأنشد: بالخير خيرات وإن شرافا أي وإن شراً فشر. وقال الحسن وعكرمة "الر" قسم، وقال سعيد عن قتادة "الر" اسم للسورة، وقيل غير ذلك مما فيه تكلف لعلم ما استأثر الله بعلمه، وقد اتفق القراء على أن "الر" ليس بآية، وعلى أن طه آية، وفي مقنع أبي عمرو الداني أن العادين لطه آية هم الكوفيون فقط، قيل: ولعل الفرق أن "الر" لا يشاكل مقاطع الآي التي بعده، والإشارة بقوله: "تلك" إلى ما تضمنته السورة من الآيات، والتبعيد للتعظيم، واسم الإشارة مبتدأ وخبره ما بعده. وقال مجاهد وقتادة: أراد التوراة والإنجيل وسائر الكتب المتقدمة، فإن تلك إشارة إلى غائب مؤنث، وقيل "تلك" بمعنى هذه: أي هذه آيات الكتاب الحكيم، وهو القرآن، ويؤيد كون الإشارة إلى القرآن أنه لم يجر للكتب المتقدمة ذكر، وأن الحكيم من صفات القرآن لا من صفات غيره، و "الحكيم" المحكم بالحلال والحرام والحدود والأحكام، قاله أبو عبيدة وغيره، وقيل: الحكيم معناه الحاكم فهو فعيل بمعنى فاعل كقوله: "وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه"، وقيل: الحكيم بمعنى المحكوم فيه فهو فعيل بمعنى مفعول: أي حكم الله فيه بالعدل والإحسان، قاله الحسن وغيره، وقيل الحكيم ذو الحكمة لاشتماله عليها.

أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ

والاستفهام في قوله: 2- "أكان للناس عجباً" لإنكار العجب مع ما يفيده من التقريع والتوبيخ، واسم كان "أن أوحينا" وخبرها "عجباً" أي أكان إيحاؤنا عجباً للناس. وقرأ ابن مسعود عجب على أنه اسم كان، على أن كان تامة، و "أن أوحينا" بدل من عجب. وقرئ بإسكان الجيم من رجل في قوله: "إلى رجل منهم" أي من جنسهم وليس في هذا الإيحاء إلى رجل من جنسهم ما يقتضي العجب فإنه لا يلابس الجنس ويرشده ويخبره عن الله سبحانه إلا من كان من جنسه، ولو كان من غير جنسهم لكان من الملائكة أو من الجن ويتعذر المقصود حينئذ من الإرسال، لأنهم لا يأنسون إليه ولا يشاهدونه، ولو فرضنا تشكله لهم وظهوره، فإما أن يظهر في غير شكل النوع الإنساني، وذلك أوحش لقلوبهم وأبعد من أنسهم، أو في الشكل الإنساني فلا بد من إنكارهم لكونه في الأصل غير إنسان، هذا إن كان العجب منهم لكونه من جنسهم، وإن كان لكونه يتيماً أو فقيراً، فذلك لا يمنع من أن يكون من كان كذلك جامعاً من خصال الخير والشرف ما لا يجمعه غيره وبالغاً في كمال الصفات إلى حد يقصر عنه من كان غنياً، أو كان غير يتيم، وقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يصطفيه الله بإرساله من خصال الكمال عند قريش ما هو أشهر من الشمس وأظهر من النهار، حتى كانوا يسمونه الأمين. قوله: "أن أنذر الناس" في موضع نصب بنزع الخافض: أي بأن أنذر الناس، وقيل: هي المفسرة لأن في الإيحاء معنى القول، وقيل: هي المخففة من الثقيلة. قوله: "قدم صدق" أي منزل صدق، وقال الزجاج: درجة عالية. ومنه قوله ذي الرمة: لكم قدم لا ينكر الناس أنها مع الحسب العالي طمت على البحر وقال ابن الأعرابي: القدم المتقدم في الشرف، وقال أبو عبيدة والكسائي: كل سابق من خير أو شر فهو عند العرب قدم، يقال: لفلان قدم في الإسلام، وله عندي قدم صدق، وقدم خير، وقدم شر، ومنه قول العجاج: زل بنو العوام عند آل الحكم وترك الملك لملك ذي قدم وقال ثعلب: القدم كل ما قدمت من خير، وقال ابن الأنباري: القدم كناية عن العمل الذي لا يقع فيه تأخير ولا إبطاء، وقال قتادة: سلف صدق، وقال الربيع: ثواب صدق، وقال الحسن: هو محمد صلى الله عليه وسلم، وقال الحكيم الترمذي: قدمه صلى الله عليه وسلم في المقام المحمود، وقال مقاتل: أعمالاً قدموها واختارها ابن جرير، ومنه قول الوضاح: صل لذي العرش واتخذ قوماً ينجيك يوم الخصام والزلل وقيل غير ما تقدم مما لا حاجة إلى التطويل بإيراده. قوله: " قالوا إن هذا لسحر مبين ". قرأ ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي وخلف والأعمش وابن محيصن "لساحر" على أنهم أرادوا رسول الله صلى الله عليه وسلم باسم الإشارة. وقرأ الباقون "لسحر" على أنهم أرادوا القرآن، وقد تقدم معنى السحر في البقرة، وجملة "قال الكافرون" مستأنفة كأنه قيل: ماذا صنعوا بعد التعجب، وقال القفال: فيه إضمار، والتقدير: فلما أنذرهم قال: الكافرون ذلك.

إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ

ثم إن الله سبحانه جاء بكلام يبطل به العجب الذي حصل للكفار من الإيحاء إلى رجل منهم فقال: 3- "إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام" أي من كان له هذا الاقتدار العظيم الذي تضيق العقول عن تصوره كيف يكون إرساله لرسول إلى الناس من جنسهم محلاً للتعجب مع كون الكفار يعترفون بذلك، فكيف لا يعترفون بصحة هذه الرسالة بهذا الرسول، وقد تقدم تفسير هذه الآية في الأعراف في قوله: "إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش" فلا بعيدة هنا، ثم ذكر ما يدل على مزيد قدرته وعظيم شأنه فقال: "يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه" وترك العاطف، لأن جملة يدبر كالتفسير والتفصيل لما قبلها، وقيل: هي في محل نصب على الحال من ضمير استوى، وقيل: مستأنفة جواب سؤال مقدر، وأصل التدبير النظر في أدبار الأمور وعواقبها لتقع على الوجه المقبول. وقال مجاهد: يقضيه ويقدره وحده، وقيل يبعث الأمر، وقيل ينزل الأمر، وقيل يأمر به ويمضيه، والمعنى متقارب، واشتقاقه من الدبر، والأمر الشأن، وهو أحوال ملكوت السموات والأرض والعرش وسائر الخلق. قال الزجاج: إن الكفار الذين خوطبوا بهذه الآية كانوا يقولون: إن الأصنام شفعاؤنا عند الله، فرد الله عليهم بأنه ليس لأحد أن يشفع إليه في شيء إلا بعد إذنه، لأنه أعلم بموضع الحكمة والصواب. وقد تقدم معنى الشفاعة في البقرة، وفي هذا بيان لاستبداده بالأمور في كل شيء سبحانه وتعالى، والإشارة بقوله: "ذلكم" إلى فاعل هذه الأشياء من الخلق والتدبير: أي الذي فعل هذه الأشياء العظيمة "الله ربكم" واسم الإشارة مبتدأ وخبره الاسم الشريف، وربكم بدل منه أو بيان له أو خبر ثان، وفي هذه الجملة زيادة تأكيد لقوله: "إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض" ثم أمرهم سبحانه بعبادته بعد أن بين لهم أنه الحقيق بها دون غيره لبديع صنعه وعظيم اقتداره، فكيف يعبدون الجمادات التي لا تسمع ولا تبصر ولا تنفع ولا تضر؟ والاستفهام في قوله: "أفلا تذكرون" للإنكار والتوبيخ والتقريع، لأن من له أدنى تذكر وأقل اعتبار يعلم بهذا ولا يخفى عليه.

إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ

ثم بين لهم ما يكون آخر أمرهم بعد الحياة الدنيا، فقال: 4- "إليه مرجعكم جميعاً" وفي هذا من التهديد والتخويف ما لا يخفى، وانتصاب "وعد الله" على المصدر، لأن في قوله: "إليه مرجعكم جميعاً" معنى الوعد أو هو منصوب بفعل مقدر، والمراد بالمرجع الرجوع إليه سبحانه إما بالموت أو بالبعث أو بكل واحد منهما، ثم أكد ذلك الوعد بقوله: "حقاً" فهو تأكيد لتأكيد فيكون في الكلام من الوكادة ما هو الغاية في ذلك. وقرأ ابن أبي عبلة "وعد الله حق" على الاستئناف، ثم علل سبحانه ما تقدم بقوله: "إنه يبدأ الخلق ثم يعيده" أي إن هذا شأنه يبتدئ خلقه من التراب ثم يعيده إلى التراب، أو معنى الإعادة الجزاء يوم القيامة. قال مجاهد: ينشئه ثم يميته، ثم يحييه للبعث، وقيل: ينشئه من الماء ثم يعيده من حال إلى حال. وقرأ يزيد بن القعقاع: " إنه يبدأ الخلق " بفتح الهمزة، فتكون الجملة في موضع نصب بما نصب به وعد الله: أي وعدكم أنه يبدأ الخلق ثم يعيده، ويجوز أن يكون التقدير لأنه يبدأ الخلق، وأجاز الفراء أن تكون أن في موضع رفع فتكون اسماً. قال أحمد بن يحيى بن ثعلب يكون التقدير حقاً إبداؤه الخلق، ثم ذكر غاية ما يترتب على الإعادة فقال: "ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط" أي بالعدل الذي لا جور فيه "والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون" يحتمل أن يكون الموصول الآخر معطوفاً على الموصول الأول: أي ليجزي الذين آمنوا ويجزي الذين كفروا وتكون جملة "لهم شراب من حميم" في محل نصب على الحال هي وما عطف عليها: أي وعذاب أليم ويكون التقدير هكذا ويجزي الذين كفروا حال كون لهم هذا الشراب وهذا العذاب، ولكن يشكل على ذلك أن هذا الشراب وهذا العذاب الأليم هما من الجزاء، ويمكن أن يقال: إن الموصول في "والذين كفروا" مبتدأ وما بعده خبره، فلا يكون معطوفاً على المعطوف الأول، والباء في "بما كانوا يكفرون" للسببية: أي بسبب كفرهم، والحميم: الماء الحار، وكل مسخن عند العرب فهو حميم. وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "الر" قال: فواتح أسماء من أسماء الله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي في الأسماء والصفات وابن النجار في تاريخه عنه قال: في قوله: "الر" أنا الله أرى. وأخرج ابن المنذر عن سعيد بن جبير مثله. وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك مثله أيضاً. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك في قوله: "تلك آيات الكتاب" قال: يعني هذه. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "تلك آيات الكتاب" قال: الكتب التي خلت قبل القرآن. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس قال: لما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم رسولاً أنكرت العرب ذلك أو من أنكر منهم، فقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشراً مثل محمد، فأنزل الله: "أكان للناس عجباً أن أوحينا إلى رجل منهم" الآية "وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم" الآية، فلما كرر الله سبحانه عليهم الحج قالوا: وإذا كان بشراً، فغير محمد كان أحق بالرسالة، " لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم " يقول: أشرف من محمد، يعنون الوليد بن المغيرة من مكة، ومسعود بن عمرو الثقفي من الطائف، فأنزل الله رداً عليهم: "أهم يقسمون رحمة ربك" الآية. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه في قوله: "وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم" قال: ما سبق لهم من السعادة في الذكر الأول. وأخرج ابن جرير عنه أيضاً قال: أجراً حسناً بما قدموا من أعمالهم. وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه "عن ابن مسعود قال: القدم هو العمل الذي قدموا. قال الله سبحانه: " ونكتب ما قدموا وآثارهم " والآثار ممشاهم. قال: مشى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أسطوانتين من مسجدهم ثم قال: هذا أثر مكتوب". وأخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري في قوله: "قدم صدق" قال: محمد صلى الله عليه وسلم يشفع لهم. وأخرج ابن مردويه عن علي بن أبي طالب مثله. وأخرج الحاكم وصححه عن أبي بن كعب قال: سلف صدق. والروايات عن التابعين وغيرهم في هذا كثيرة، وقد قدمنا أكثرها. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "يدبر الأمر" قال: يقضيه وحده، وفي قوله: "إنه يبدأ الخلق ثم يعيده" قال: يحييه ثم يميته ثم يحييه.

هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ

ذكر هاهنا بعض نعمه على المكلفين، وهي ما يستدل به على وجوده ووحدته وقدرته وعلمه وحكمته بإتقان صنعه في هذين النيرين المتعاقبين على الدوام بعدما ذكر قبل هذا إبداعه للسموات والأرض، واستواءه على العرش وغير ذلك. والضياء قيل: جمع ضوء كالسياط والحياض. وقرأ قنبل عن ابن كثير " ضياء " بجعل الياء همزة مع الهمزة، ولا وجه له لأن ياءه كانت واواً مفتوحة، وأصله ضواء فقلبت ياء لكسر ما قبلها. قال المهدوي: ومن قرأ ضئاء بالهمزة فهو مقلوب قدمت الهمزة التي بعد الألف، فصارت قبل الألف، ثم قلبت الياء همزة، والأولى أن يكون ضياء مصدراً لا جمعاً، مثل قام يقوم قياماً، وصام يصوم صياماً، ولا بد من تقدير مضاف: أي جعل الشمس ذات ضياء والقمر ذا نور إلا أن يحمل على المبالغة، وكأنهما جعلا نفس الضياء والنور. قيل: الضياء أقوى من النور، وقيل: الضياء هو ما كان بالذات، والنور ما كان بالعرض، ومن هنا قال الحكماء: إن نور القمر مستفاد من ضوء الشمس. قوله: 5- "وقدره منازل" أي قدر مسيره في منازل، أو قدره ذا منازل، والضمير راجع إلى القمر، ومنازل القمر: هي المسافة التي يقطعها في يوم وليلة بحركته الخاصة به، وجملتها ثمانية وعشرون وهي معروفة، ينزل القمر في كل ليلة منها منزلاً لا يتخطاه، فيبدو صغيراً في أول منازله، ثم يكبر قليلاً قليلاً حتى يبدو كاملاً، وإذا كان في آخر منازله رق واستقوس، ثم يستتر ليلتين إذا كان الشهر كاملاً، أو ليلة إذا كان ناقصاً، والكلام في هذا يطول. وقد جمعنا فيه رسالة مستقلة جواباً عن سؤال أورده علينا بعض الأعلام. وقيل: إن الضمير راجع إلى كل واحد من الشمس والقمر، كما قيل في قوله تعالى: "وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها". وفي قول الشاعر: نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأي مختلف وقد قدمنا تحقيق هذا فيما سبق من هذا التفسير والأولى رجوع الضمير إلى القمر وحده، كما في قوله تعالى: "والقمر قدرناه منازل"، ثم ذكر بعض المنافع المتعلقة بهذا التقدير، فقال: "لتعلموا عدد السنين والحساب" فإن في العلم بعدد السنين من المصالح الدينية والدنيوية ما لا يحصى، وفي العلم بحساب الأشهر والأيام والليالي من ذلك ما لا يخفى، ولولا هذا التقدير الذي قدره الله سبحانه لم يعلم الناس بذلك ولا عرفوا ما يتعلق به كثير من مصالحهم. والسنة تتحصل من اثني عشر شهراً، والشهر يتحصل من ثلاثين يوماً إن كان كاملاً، واليوم يتحصل من ساعات معلومة هي أربع وعشرون ساعة لليل والنهار قد يكون لكل واحد منهما اثنتا عشرة ساعة في أيام الاستواء، ويزيد أحدهما على الآخر في أيام الزيادة وأيام النقصان، والاختلاف بين السنة الشمسية والقمرية معروف، ثم بين سبحانه أنه ما خلق الشمس والقمر واختلاف تلك الأحوال إلا بالحق والصواب دون الباطل والعبث، فالإشارة بقوله: "ذلك" إلى المذكور قبله، والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال، ومعنى تفصيل الآيات تبيينها، والمراد بالآيات التكوينية أو التنزيلية أو مجموعهما، وتدخل هذه الآيات التكوينية المذكورة هنا دخولاً أولياً في ذلك. قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص ويعقوب "يفصل" بالتحتية. وقرأ ابن السميفع تفصل بالفوقية على البناء للمفعول. وقرأ الباقون بالنون. واختار أبو عبيد وأبو حاتم القراءة الأولى، ولعل وجه هذا الاختيار أن قبل هذا الفعل "ما خلق الله ذلك إلا بالحق" وبعده "وما خلق الله في السموات والأرض".

إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ

ثم ذكر سبحانه المنافع الحاصلة من اختلاف الليل والنهار وما خلق في السموات والأرض من تلك المخلوقات، فقال: 6- "إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السموات والأرض لآيات لقوم يتقون" أي الذين يتقون الله سبحانه ويجتنبون معاصيه وخصهم بهذه الآيات لأنهم الذين يمعنون النظر والتفكر في مخلوقات الله سبحانه حذراً منهم عن الوقوع في شيء مما يخالف مراد الله سبحانه ونظراً لعاقبة أمرهم، وما يصلحهم في معادهم. قال القفال: من تدبر في هذه الأحوال علم أن الدنيا مخلوقة لبقاء الناس فيها، وأن خالقها وخالقهم ما أهملهم بل جعلها لهم دار عمل، وإذا كان كذلك فلا بد من أمر ونهي. وقد أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله تعالى: "جعل الشمس ضياء والقمر نوراً" قال: لم يجعل الشمس كهيئة القمر لكي يعرف الليل من النهار، وهو قوله: "فمحونا آية الليل" الآية. وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال: وجوههما إلى السموات، وأقفيتهما إلى الأرض. وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن عمرو مثله. وأخرج أبو الشيخ عن خليفة العبدي قال: لو أن الله تبارك وتعالى لم يعبد إلا عن رؤية ما عبده أحد، ولكن المؤمنون تفكروا في مجيء هذا الليل إذا جاء فملأ كل شيء، وغطى كل شيء، وفي مجيء سلطان النهار إذا جاء فمحا سلطان الليل، وفي السحاب المسخر بين السماء والأرض، وفي النجوم، وفي الشتاء والصيف، فوالله ما زال المؤمنون يتفكرون فيما خلق ربهم تبارك وتعالى حتى أيقنت قلوبهم بربهم.

إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آَيَاتِنَا غَافِلُونَ

شرع الله سبحانه في شرح أحوال من لا يؤمن بالمعاد، ومن يؤمن به، وقدم الطائفة التي لم تؤمن، لأن الكلام في هذه السورة مع الكفار الذين يعجبون مما لا عجب فيه، ويهملون النظر والتفكر فيما لا ينبغي إهماله مما هو مشاهد لكل حي طوال حياته، فيتسبب عن إهمال النظر، والتفكر الصادق: عدم الإيمان بالمعاد، ومعنى الرجاء هنا الخوف، ومنه قول الشاعر: إذا لسعته النحل لم يرج لسعها وخالفها في بيت نوب عواسل وقيل يرجون: يطمعون، ومنه قول الشاعر: أترجو بني مروان سمعي وطاعتي وقومي تميم والفلاة ورائيا فالمعنى على الأول لا يخافون عقاباً، وعلى الثاني لا يطمعون في ثواب إذا لم يكن المراد باللقاء حقيقته، فإن كان المراد به حقيقته كان المعنى: لا يخافون رؤيتنا أو لا يطمعون في رؤيتنا، وقيل المراد بالرجاء هنا التوقع فيدخل تحته الخوف والطمع، فيكون المعنى "لا يرجون لقاءنا" لا يتوقعون لقاءنا فهم لا يخافونه ولا يطمعون فيه "ورضوا بالحياة الدنيا" أي رضوا بها عرضاً عن الآخرة، فعملوا لها "واطمأنوا بها" أي سكنت أنفسهم إليها وفرحوا بها "والذين هم عن آياتنا غافلون" لا يعتبرون بها ولا يتفكرون فيها.

أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ

8- "أولئك مأواهم" أي مثواهم ومكان إقامتهم النار، والإشارة إلى المتصفين بالصفات السابقة من عدم الرجاء، وحصول الرضا والاطمئنان، والغفلة "بما كانوا يكسبون" أي بسبب ما كانوا يكسبون من الكفر والتكذيب بالمعاد فهذا حال الذين لا يؤمنون بالمعاد.

إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ

وأما حال الذين يؤمنون به فقد بينه سبحانه بقوله: 9- "إن الذين آمنوا" أي فعلوا الإيمان الذي طلبه الله منهم بسبب ما وقع منهم من التفكر والاعتبار فيما تقدم ذكره من الآيات "وعملوا الصالحات" التي يقتضيها الإيمان، وهي ما شرعه الله لعباده المؤمنين "يهديهم ربهم بإيمانهم" أي يرزقهم الهداية بسبب هذا الإيمان المضموم إليه العمل الصالح فيصلون بذلك إلى الجنة، وجملة "تجري من تحتهم الأنهار" مستأنفة أو خبر ثان أو في محل نصب على الحال. ومعنى من تحتهم من تحت بساتينهم أو من بين أيديهم لأنهم على سرر مرفوعة. وقوله: "في جنات النعيم" متعلق بتجري أو بيهديهم أو خبر آخر أو حال من الأنهار.

دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآَخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ

قوله: 10- "دعواهم" أي دعاؤهم ونداؤهم، وقيل: الدعاء العبادة كقوله تعالى: "وأعتزلكم وما تدعون من دون الله" وقيل: معنى دعواهم هنا الادعاء الكائن بين المتخاصمين. والمعنى: أن أهل الجنة يدعون في الدنيا والآخرة تنزيه الله سبحانه من المعايب والإقرار له بالإلهية. قال القفال: أصله من الدعاء لأن الخصم يدعو خصمه إلى من يحكم بينهما، وقيل معناه: طريقتهم وسيرتهم، وذلك أن المدعي للشيء مواظب عليه فيمكن أن تجعل الدعوى كناية عن الملازمة وإن لم يكن في قوله: "سبحانك اللهم" دعوى ولا دعاء، وقيل معناه: تمنيهم كقوله: "ولهم ما يدعون" وكأن تمنيهم في الجنة ليس إلا تسبيح الله وتقديسه، وهو مبتدأ وخبره سبحانك اللهم، و "فيها" أي في الجنة. والمعنى القول الأول: أن دعاءهم الذي يدعون به في الجنة هو تسبيح الله وتقديسه، والمعنى: نسبحك يا ألله تسبيحاً. قوله: "وتحيتهم فيها سلام" أي تحية بعضهم للبعض، فيكون المصدر مضافاً إلى الفاعل، أو تحية الله أو الملائكة لهم، فيكون من إضافة المصدر إلى المفعول. وقد مضى تفسير هذا في سورة النساء، قوله: "وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين" أي وخاتمة دعائهم الذي هو التسبيح أن يقولوا: الحمد لله رب العالمين. قال النحاس: مذهب الخليل أن أن هذه مخففة من الثقيلة. والمعنى: أنه الحمد لله. وقال محمد بن يزيد المبرد: ويجوز أن تعملها خفيفة عملها ثقيلة. والرفع أقيس، ولم يحك أبو عبيد إلا التخفيف. وقرأ ابن محيصن بتشديد أن ونصب الحمد. وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "ورضوا بالحياة الدنيا" قال: مثل قوله: "من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها" الآية. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد أيضاً في قوله: "يهديهم ربهم بإيمانهم" قال: يكون لهم نور يمشون به. وأخرج أبو الشيخ عن قتادة مثله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "يهديهم ربهم بإيمانهم" قال: حدثنا الحسن قال: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن المؤمن إذا خرج من قبره صور له عمله في صورة حسنة وريح طيبة، فيقول له: ما أنت؟ فوالله إني لأراك عين امرئ صدق، فيقول له: أنا عملك، فيكون له نوراً وقائداً إلى الجنة، وأما الكافر فإذا خرج من قبره صور له عمله في صورة سيئة وريح منتنة، فيقول له: ما أنت؟ فوالله إني لأراك عين امرئ سوء، فيقول له: أنا عملك، فينطلق به حتى يدخله النار". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن جريج نحوه. وأخرج ابن مردويه عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قالوا سبحانك اللهم أتاهم ما اشتهوا من الجنة من ربهم". وقد روي نحو هذا عن جماعة من التابعين. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أبي الهذيل قال: الحمد أول الكلام وآخر الكلام، ثم تلا: "وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين".

وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ

لما ذكر الله سبحانه الوعيد على عدم الإيمان بالمعاد، ذكر أن هذا العذاب من حقه أن يتأخر عن هذه الحياة الدنيا. قال القفال: لما وصفهم بالغفلة أكد ذلك بأن من غاية غفلتهم أن الرسول متى أنذرهم استعجلوا العذاب، فبين الله سبحانه أنه لا مصلحة في إيصال الشر إليهم، فلعلهم يتوبون ويخرج من أصلابهم من يؤمن، قيل معنى 11- "ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير" لو عجل الله للناس العقوبة كما يتعجلون بالثواب والخير "لقضي إليهم أجلهم" أي ماتوا، وقيل المعنى: لو فعل الله مع الناس في إجابته إلى المكروه مثل ما يريدون فعله معهم في إجابته إلى الخير لأهلكهم، وقيل: الآية خاصة بالكفار الذين أنكروا البعث وما يترتب عليه. قال في الكشاف: وضع استعجالهم بالخير موضع تعجيله لهم الخير إشعاراً بسرعة إجابته وإسعافه بطلبتهم حتى كأن استعجالهم بالخير تعجيل له، والمراد أهل مكة وقوله: "فأمطر علينا حجارة من السماء" الآية. قيل والتقدير: ولو يعجل الله لهم الشر عند استعجالهم به تعجيلاً مثل تعجيله لهم الخير عند استعجالهم به، فحذف ما حذف لدلالة الباقي عليه. قال أبو علي الفارسي: في الكلام حذف، والتقدير "ولو يعجل الله للناس الشر" تعجيلاً مثل "استعجالهم بالخير"، ثم حذف تعجيلاً وأقام صفتة مقامه، ثم حذف صفته وأقام المضاف إليه مقامه قال: هذا مذهب الخليل وسيبويه، وهو قول الأخفش والفراء، قالوا: وأصله كاستعجالهم، ثم حذف الكاف ونصب. قال الفراء: كما تقول ضربت زيداً ضربك: أي كضربك، ومعنى "لقضي إليهم أجلهم" لأهلكوا، ولكنه سبحانه لم يعجل لهم الشر فأمهلوا، وقيل معناه: أميتوا. وقرأ ابن عامر "لقضي" على البناء للفاعل، وهي قراءة حسنة لمناسبة ذلك لقوله: "ولو يعجل الله". قوله: "فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يعمهون" الفاء للعطف على مقدر يدل عليه الكلام، لأن قوله: "ولو يعجل الله" يتضمن نفي التعجيل، فكأنه قيل: لكن لا يعجل لهم الشر ولا يقضي إليهم أجلهم فنذرهم إلخ: أي فنتركهم ونمهلهم، والطغيان: التطاول، وهو العلو والارتفاع، ومعنى "يعمهون" يتحيرون: أي نتركهم يتحيرون في تطاولهم وتكبرهم وعدم قبولهم للحق استدراجاً لهم منه سبحانه وخذلاناً.

وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ

ثم بين الله سبحانه أنهم كاذبون في استعجال الشر ولو أصابهم ما طلبوه لأظهروا العجز والجزع فقال: 12- "وإذا مس الإنسان الضر" أي هذا الجنس الصادق على كل ما يحصل التضرر به "دعانا لجنبه" اللام للوقت كقوله جئته لشهر كذا، أو في محل نصب على الحال بدلالة عطف قاعداً أو قائماً عليه، وتكون اللام بمعنى على: أي دعانا مضطجعاً "أو قاعداً أو قائماً" وكأنه قال: دعانا في جميع الأحوال المذكورة وغيرها، وخص المذكورة بالذكر لأنها لأنها الغالب على الإنسان، وما عداها نادر كالركوع والسجود، ويجوز أن يراد أنه يدعو الله حال كونه مضطجعاً غير قادر على القعود، وقاعداً غير قاعد على القيام، وقائماً غير قادر على المشي، والأول أولى. قال الزجاج: إن تعديل أحوال الدعاء أبلغ من تعديد أحوال المضرة، لأنه إذا كان داعياً على الدوام، ثم نسي في وقت الرخاء كان أعجب. قوله: "فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه" أي فلما كشفنا عنه ضره الذي مسه كما تفيده الفاء مضى على طريقته التي كان عليها قبل أن يمسه الضر ونسي حالة الجهد والبلاء، أو مضى عن موقف الدعاء والتضرع لا يرجع إليه كأنه لا عهد له به كأنه لم يدعنا عند أن مسه الضر إلى كشف ذلك الضر الذي مسه. وقيل معنى "مر" استمر على كفره ولم يشكر ولم يتعظ. قال الأخفش: أن في "كأن لم يدعنا" هي المخففة من الثقيلة، والمعنى: كأنه انتهى. والجملة التشبيهية في محل نصب على الحال. وهذه الحالة التي ذكرها الله سبحانه للداعي لا تختص بأهل الكفر، بل تتفق لكثير من المسلمين تلين ألسنهم بالدعاء وقلوبهم بالخشوع والتذلل عند نزول ما يكرهون بهم. فإذا كشفه الله عنهم غفلوا عن الدعاء والتضرع، وذهلوا عما يجب عليهم من شكر النعمة التي أنعم الله بها عليهم من إجابة دعائهم ورفع ما نزل بهم من الضر ودفع ما أصابهم من المكروه. وهذا مما يدل على أن الآية تعم المسلم والكافر كما يشعر به لفظ الناس ولفظ الإنسان، اللهم أوزعنا شكر نعمك، وأذكرنا الأحوال التي منيت علينا فيها بإجابة الدعاء، حتى نستكثر من الشكر الذي لا نطيق سواه ولا نقدر على غيره، وما أغناك عنه وأحوجنا إليه و "لئن شكرتم لأزيدنكم" والإشارة بقوله: "كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون" إلى مصدر الفعل المذكور بعده كما مر غير مرة أي مثل ذلك التزيين العجيب زين للمسرفين عملهم. والمسرف في اللغة: هو الذي ينفق المال الكثير لأجل الغرض الخسيس، ومحل كذلك النصب على المصدرية. والتزيين هو إما من جهة الله تعالى على طريقة التحلية وعدم اللطف بهم، أو من طريق الشيطان بالوسوسة، أو من طريق النفس الأمارة بالسوء. والمعنى: أنه زين لهم الإعراض عن الدعاء والغفلة عن الشكر والاشتغال بالشهوات.

وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ

ثم ذكر سبحانه ما يجري مجرى الردع والزجر عما صنعه هؤلاء فقال: 13- "ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا" يعني الأمم الماضية من قبل هؤلاء الكفار المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم: أي أهلكناهم من قبل زمانكم: وقيل: الخطاب لأهل مكة على طريق الالتفات للمبالغة في الزجر، و "لما" ظرف لأهلكنا: أي أهلكناهم حين فعلوا الظلم بالتكذيب، والتجاري على الرسل، والتطاول في المعاصي من غير تأخير لإهلاكهم كما أخرنا إهلاككم، والواو في "وجاءتهم رسلهم بالبينات" للحال بإضمار قد: أي وقد جاءتهم رسلهم الذين أرسلناهم إليهم بالبينات: أي بالآيات البينات الواضحات الدلالة على صدق الرسل، وقيل الواو للعطف على "ظلموا" والأول أولى، وقيل المراد بالظلم هنا هو الشرك، والواو في "وما كانوا ليؤمنوا" للعطف على "ظلموا"، أو الجملة اعتراضية، واللام لتأكيد النفي: أي وما صح لهم وما استقام أن يؤمنوا لعدم استعدادهم لذلك وسلب الألطاف عنهم "كذلك نجزي القوم المجرمين" أي مثل ذلك الجزاء نجزي القوم المجرمين، وهو الاستئصال الكلي لكل مجرم، وهذا وعيد شديد لمن كان في عصره من الكفار. أو لكفار مكة على الخصوص.

ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ

ثم خاطب سبحانه الذين بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: 14- "ثم جعلناكم خلائف" أي استخلفناكم في الأرض بعد تلك القرون التي تسمعون أخبارها وتنظرون آثارها، والخلائف جمع خليفة، وقد تقدم الكلام عليه في آخر سورة الأنعام، واللام في "لننظر كيف تعملون" لام كي: أي لكي ننظر كيف تعملون من أعمال الخير والشر، و "كيف" في محل نصب بالفعل الذي بعده: أي لننظر أي عمل تعملونه، أو في محل نصب على الحالية: أي على أي حالة تعملون الأعمال اللائقة بالاستخلاف.

وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآَنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِن

ثم حكى الله سبحانه نوعاً ثالثاً من تعنتهم وتلاعبهم بآيات الله فقال: 15- "وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات" وفيه التفات من الخطاب إلى الغيبة إعراضاً عنهم، والمراد بالآيات، الآيات التي في الكتاب العزيز: أي وإذا تلا التالي عليهم آياتنا الدالة على إثبات التوحيد وإبطال الشرك حال كونها بينات: أي واضحات الدلالة على المطلوب "قال الذين لا يرجون لقاءنا" وهم المنكرون للمعاد، وقد تقدم تفسيره قريباً: أي قالوا لمن يتلوها عليهم وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم "ائت بقرآن غير هذا أو بدله" طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سمعوا ما غاظهم فيما تلاه عليهم من القرآن من ذم عبادة الأوثان، والوعيد الشديد لمن عبدها أحد أمرين: إما الإتيان بقرآن غير هذا القرآن مع بقاء هذا القرآن على حاله، وإما تبديل هذا القرآن بنسخ بعض آياته أو كلها ووضع أخرى مكانها مما يطابق إرادتهم ويلائم غرضهم، فأمره الله أن يقول في جوابهم "ما يكون لي" أي ما ينبغي لي ولا يحل لي أن أبدله من تلقاء نفسي، فنفى عن نفسه أحد القسمين، وهو التبديل لأنه الذي يمكنه لو كان ذلك جائزاً، بخلاف القسم الآخر وهو الإتيان بقرآن آخر، فإن ذلك ليس في وسعه ولا يقدر عليه. وقيل إنه صلى الله عليه وسلم نفى عن نفسه أسهل القسمين ليكون دليلاً على نفي أصعبهما بالطريق الأولى، وهذا منه صلى الله عليه وسلم من باب مجاراة السفهاء، إذ لا يصدر مثل هذا الاقتراح عن العقلاء بعد أن أمره الله سبحانه بذلك. وهو أعلم بمصالح عباده وبما يدفع الكفار عن هذه الطلبات الساقطة والسؤالات الباردة، و "تلقاء" مصدر استعمل ظرفاً، من قبل نفسي. قال الزجاج: سألوه إسقاط ما فيه من ذكر البعث والنشور، وقيل: سألوه أن يسقط ما فيه من عيب آلهتهم وتسفيه أحلامهم، وقيل: سألوه أن يحول الوعد وعيداً والحرام حلالاً والحلال حراماً، ثم أمره أن يؤكد ما أجاب به عليهم من أنه ما صح له ولا استقام أن يبدله من تلقاء نفسه بقوله: "إن أتبع إلا ما يوحى إلي" أي ما اتبع شيئاً من الأشياء إلا ما يوحى إلي من عند الله سبحانه من غير تبديل ولا تحويل ولا تحريف ولا تصحيف، فقصر حاله صلى الله عليه وسلم على اتباع مايوحى إليه، وربما كان مقصد الكفار بهذا السؤال التعريض للنبي صلى الله عليه وسلم بأن القرآن كلامه وأنه يقدر على الإتيان بغيره والتبديل له، ثم أمره الله سبحانه أن يقول لهم تكميلاً للجواب عليهم: "إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم" فإن هذه الجملة كالتعليل لما قدمه من الجواب قبلها، واليوم العظيم هو يوم القيامة: أي "إني أخاف إن عصيت ربي" بفعل ما تطلبون على تقدير إمكانه عذاب يوم القيامة.

قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ

ثم أكد سبحانه كون هذا القرآن من عند الله وأنه صلى الله عليه وسلم إنما يبلغ إليهم منه ما أمره الله بتبليغه لا يقدر على غير ذلك، فقال: 16- "قل لو شاء الله ما تلوته عليكم" أي أن هذا القرآن المتلو عليكم هو بمشيئة الله وإرادته ولو شاء الله أن لا أتلوه عليكم ولا أبلغكم إياه ما تلوته، فالأمر كله منوط بمشيئة الله ليس لي في ذلك شيء، قوله: "ولا أدراكم به" معطوف على ما تلوته، ولو شاء الله ما أدراكم بالقرآن: أي ما أعلمكم به على لساني يقال: دريت الشيء وأدراني الله به. هكذا قرأ الجمهور بالألف من أدراه يدريه أعلمه يعلمه. وقرأ ابن كثير " ولا أدراكم به " بغير ألف بين اللام والهمزة والمعنى: ولو شاء الله لأعلمكم به من غير أن أتلوه عليكم، فتكون اللام لام التأكيد دخلت على ألف أفعل. وقد قرئ أدرؤكم بالهمزة فقيل: هي منقلبة عن الألف لكونهما من واد واحد، ويحتمل أن يكون من درأته إذا دفعته، وأدرأته إذا جعلته دارياً. والمعنى: لأجعلكم بتلاوته خصماء تدرءونني بالجدال وتكذبونني. وقرأ ابن عباس والحسن " ولا أدراكم به " قال أبو حاتم: أصله ولا أدريتكم به، فأبدل من الياء ألفاً. قال النحاس: وهذا غلط. والرواية عن الحسن ولا أدرأتكم بالهمزة. قوله: "فقد لبثت فيكم عمراً من قبله" تعليل لكون ذلك بمشيئة الله ولم يكن من النبي صلى الله عليه وسلم إلا التبليغ: أي قد أقمت فيما بينكم عمراً من قبله: أي زماناً طويلاً، وهو أربعون سنة من قبل القرآن تعرفونني بالصدق والأمانة، لست ممن يقرأ ولا ممن يكتب "أفلا تعقلون" الهمزة للتقريع والتوبيخ: أي أفلا تجرون على ما يقتضيه العقل من عدم تكذيبي لما عرفتم من العادة المستمرة إلى المدة الطويلة بالصدق والأمانة، وعدم قراءتي للكتب المنزلة على الرسل وتعلمي لما عند أهلها من العلم، ولا طلبي لشيء من هذا الشأن ولا حرصي عليه، ثم جئتكم بهذا الكتاب الذي عجزتم عن الإتيان بسورة منه، وقصرتم عن معارضته وأنتم العرب المشهود لهم بكمال الفصاحة المعترف لهم بأنهم البالغون فيها إلى مبلغ لا يتعلق به غيركم؟. وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: " ولو يعجل الله للناس الشر " الآية، قال: هو قول الإنسان لولده وماله إذا غضب عليهم: اللهم لا تبارك فيه والعنه "لقضي إليهم أجلهم" قال: لأهلك من دعا عليه وأماته. وأخرج أبو الشيخ عن سعيد بن جبير في الآية قال: قول الرجل للرجل: اللهم العنه، اللهم اخزه، وهو يحب أن يستجاب له. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال: هو دعاء الرجل على نفسه وما له بما يكره أن يستجاب له. وحكى القرطبي في تفسيره عن ابن إسحاق ومقاتل في الآية قالا: هو قول النضر بن الحارث: "اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء" فلو عجل لهم هذا لهلكوا. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريج في قوله: "دعانا لجنبه" قال: مضطجعاً. وأخرج أبو الشيخ عن قتادة في قوله: "دعانا لجنبه أو قاعداً أو قائماً" قال: على كل حال. وأخرج أبو الشيخ عن أبي الدرداء قال: ادع الله يوم سرائك يستجاب لك يوم ضرائك. وأقول أنا: أكثر من شكر الله على السراء يدفع عنك الضراء، فإن وعده للشاكرين بزيادة النعم مؤذن بدفعه عنهم النقم لذهاب حلاوة النعمة عند وجود مرارة النقمة: اللهم اجمع لنا بين جلب النعم وسلب النقم، فإنا نشكرك عدد ما شكرك الشاكرون بكل لسان في كل زمان، ونحمدك عدد ما حمدك الحامدون بكل لسان في كل زمان. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: "ثم جعلناكم خلائف في الأرض" الآية، قال: ذكر لنا أن عمر بن الخطاب قرأ هذه الآية فقال: صدق ربنا ما جعلنا خلائف في الأرض إلا لينظر إلى أعمالنا، فأروا الله خير أعمالكم بالليل والنهار والسر والعلانية. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن جريج قال: "خلائف في الأرض" لأمة محمد صلى الله عليه وسلم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: "ائت بقرآن غير هذا أو بدله" قال: هذا قول مشركي أهل مكة للنبي صلى الله عليه وسلم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "ولا أدراكم به" أعلمكم به. وأخرج أبو الشيخ عن قتادة قال: "ولا أدراكم به" ولا أشعركم به. وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير عن ابن عباس أنه كان يقرأ: (ولا أنذرتكم به). وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله: "فقد لبثت فيكم عمراً من قبله" قال: لم أتل عليكم ولم أذكر. وأخرجا عنه قال: لبث أربعين سنة قبل أن يوحى غليه ورأى الرؤيا سنتين، وأوحى الله إليه عشر سنين بمكة، وعشراً بالمدينة، وتوفي وهو ابن اثنتين وستين سنة. وأخرج ابن أبي شيبة والبخاري والترمذي عن ابن عباس قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لأربعين سنة، فمكث بمكة ثلاثة عشر يوحى غليه، ثم أمر بالهجرة فهاجر عشر سنين، ومات وهو ابن ثلاث وستين سنة.

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ

قوله: 17- "فمن أظلم" استفهام فيه معنى الجحد أي لا أحد أظلم "ممن افترى على الله" الكذب وزيادة "كذباً" مع أن الافتراء لا يكون إلا كذباً لبيان أن هذا مع كونه افتراء على الله هو كذب في نفسه، فربما يكون الافتراء كذباً في الإسناد فقط، كما إذا أسند ذنب زيد إلى عمرو، ذكر معنى هذا أبو السعود في تفسيره، قيل: وهذا من جملة رده صلى الله عليه وسلم على المشركين لما طلبوا منه أن يأتي بقرآن غير هذا القرآن، أو يبدله، فبين لهم أنه لو فعل ذلك لكان من الافتراء على الله، ولا ظلم يماثل ذلك، وقيل: المفتري على الله الكذب هم المشركون، والمكذب بآيات الله هم أهل الكتاب "إنه لا يفلح المجرمون" تعليل لكون لا أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بآياته: أي لا يظفرون بمطلوب ولا يفوزون بخير، والضمير في "إنه" للشأن: أي إن الشأن هذا.

وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ

ثم نعى الله سبحانه عليهم عبادة الأصنام، وبين أنها لا تنفع من عبدها ولا تضر من لم يعبدها فقال: 18- "ويعبدون من دون الله" أي متجاوزين الله سبحانه إلى عباده غيره لا بمعنى ترك عبادته بالكلية "ما لا يضرهم ولا ينفعهم" أي ما ليس من شأنه الضرر ولا النفع، ومن حق المعبود أن يكون مثيباً لمن أطاعه معاقباً لمن عصاه، والواو لعطف هذه الجملة على جملة "وإذا تتلى عليهم آياتنا" و "ما" في "ما لا يضرهم" موصولة أو موصوفة، والواو في "ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله" للعطف على "ويعبدون" زعموا أنهم يشفعون لهم عند الله فلا يعذبهم بذنوبهم، وهذا غاية الجهالة منهم حيث ينتظرون الشفاعة في المآل ممن لا يوجد منه نفع ولا ضر في الحال، وقيل: أرادوا بهذه الشفاعة إصلاح أحوال دنياهم، ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يجيب عنهم فقال: "قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض". قرأ أبو السمال العدوي "تنبئون" بالتخفيف من أنبأ ينبئ. وقرأ من عداه بالتشديد من نبأ ينبئ. والمعنى: أتخبرون الله أن له شركاء في ملكه يعبدون كما يعبد، أو أتخبرونه أن لكم شفعاء بغير إذنه والله سبحانه لا يعلم لنفسه شريكاً ولا شفيعاً بغير إذنه من جميع مخلوقاته الذين هم في سمواته وفي أرضه؟ وهذا الكلام حاصله عدم وجود من هو كذلك أصلاً، وفي هذا من التهكم بالكفار مالا يخفى، ثم نزه الله سبحانه نفسه عن إشراكهم، وهو يحتمل أن يكون ابتداء كلام غير داخل في الكلام الذي أمر الله سبحانه رسوله أن يجيب به عليهم، ويحتمل أن يكون من تمام ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقوله لهم جواباً عليهم. قرأ حمزة والكسائي "عما يشركون" بالتحتية. وقرأ الباقون بالفوقية، واختار القراءة الأولى أبو عبيد.

وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ

قوله: 19- "وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا" قد تقدم تفسيره في البقرة. والمعنى: أن الناس ما كانوا جميعاً إلا أمة واحدة موحدة لله سبحانه مؤمنة به، فصار البعض كافراً وبقي البعض الآخر مؤمناً فخالف بعضهم بعضاً. وقال الزجاج: هم العرب كانوا على الشرك. وقال: كل مولود يولد على الفطرة، فاختلفوا عند البلوغ، والأول أظهر. وليس المراد أن كل طائفة أحدثت ملة من ملل الكفر مخالفة للأخرى، بل المراد كفر البعض وبقي البعض على التوحيد كما قدمنا "ولولا كلمة سبقت من ربك" وهي أنه سبحانه لا يقضي بينهم فيما اختلفوا فيه إلا يوم القيامة "لقضي بينهم" في الدنيا "فيما" هم "فيه يختلفون" لكنه قد امتنع ذلك بالكلمة التي لا تتخلف، وقيل معنى "لقضي بينهم" بإقامة الساعة عليهم، وقيل: لفرغ من هلاكهم، وقيل: الكلمة إن الله أمهل هذه الأمة فلا يهلكهم بالعذاب في الدنيا، وقيل: الكلمة أنه لا يأخذ أحداً إلا بحجة، وهي إرسال الرسل كما قال تعالى: "وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً"، وقيل: الكلمة قوله: سبقت رحمتي غضبي. وقرأ عيسى بن عمر لقضي بالبناء للفاعل. وقرأ من عداه بالبناء للمفعول. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: قال النضر: إذا كان يوم القيامة شفعت لي اللات والعزى، فأنزل الله: " فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح المجرمون * ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم " الآية. وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا" قال ابن مسعود: كانوا على هدى. وروي أنه قرأ هكذا. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "وما كان الناس إلا أمة واحدة" قال: آدم وحده "فاختلفوا" قال: حين قتل أحد ابني آدم أخاه. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في الآية قال: كان الناس أهل دين واحد على دين آدم فكفروا، فلولا أن ربك أجلهم إلى يوم القيامة لقضي بينهم.

وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ

قوله: 20- "ويقولون" ذكر سبحانه هاهنا نوعاً رابعاً من مخازيهم، وهو معطوف على قوله: "ويعبدون" وجاء بالمضارع لاستحضار صورة ما قالوه. قيل: والقائلون هم أهل مكة، كأنهم لم يعتدوا بما قد نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الآيات الباهرة والمعجزات القاهرة التي لو لم يكن منها إلا القرآن لكفى به دليلاً بيناً ومصدقاً قاطعاً: أي هلا أنزلت عليه آية من الآيات التي نقترحها عليه ونطلبها منه كإحياء الأموات وجعل الجبال ذهباً ونحو ذلك؟ ثم أمره الله سبحانه أن يجيب عنهم فقال: "قل إنما الغيب لله" أي أن نزول الآية غيب، والله هو المختص بعلمه، المستأثر به، لا علم لي ولا لكم ولا لسائر مخلوقاته "فانتظروا" نزول ما اقترحتموه من الآيات "إني معكم من المنتظرين" لنزولها، وقيل المعنى: انتظروا قضاء الله بيني وبينكم بإظهار الحق على الباطل.

وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آَيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ

قوله: 21- "وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في آياتنا" لما بين سبحانه في الآية المتقدمة أنهم طلبوا آية عناداً ومكراً ولجاجاً، وأكد ذلك بما ذكره هنا من أنه سبحانه إذا أذاقهم رحمة منه من بعد أن مستهم الضراء فعلوا مقابل هذه النعمة العظيمة المكر منهم في آيات الله، والمراد بإذاقتهم رحمته سبحانه أنه وسع عليهم في الأرزاق، وأدر عليهم النعم بالمطر وصلاح الثمار بعد أن مستهم الضراء بالجدب وضيق المعايش، فما شكروا نعمته ولا قدروها حق قدرها، بل أضافوها إلى أصنامهم التي لا تنفع ولا تضر، وطعنوا في آيات الله واحتالوا في دفعها بكل حيلة، وهو معنى المكر فيها. وإذا الأولى شرطية، وجوابها إذا لهم مكر، وهي فجائية، ذكر معنى ذلك الخليل وسيبويه. ثم أمر الله سبحانه رسوله أن يجيب عنهم فقال: "قل الله أسرع مكراً" أي أعجل عقوبة، وقد دل أفعل التفضيل على أن مكرهم كان سريعاً، ولكن مكر الله أسرع منه. وإذا الفجائية يستفاد منها السرعة، لأن المعنى أنهم فاجئوا المكر: أي أوقعوه على جهة الفجاءة والسرعة، وتسمية عقوبة الله سبحانه مكراً من باب المشاكلة كما قرر في مواطن من عبارات الكتاب العزيز: "إن رسلنا يكتبون ما تمكرون". قرأ يعقوب في رواية وأبو عمرو في رواية "يمكرون" بالتحتية، وقرأ الباقون بالفوقية. والمعنى: أن رسل الله وهم الملائكة يكتبون مكر الكفار لا يخفى ذلك على الملائكة الذين هم الحفظة، فكيف يخفى على العليم الخبير؟ وفي هذا وعيد لهم شديد، وهذه الجملة تعليلية للجملة التي قبلها، فإن مكرهم إذا كان ظاهراً لا يخفى، فعقوبة الله كائنة لا محالة، ومعنى هذه الآية قريب من معنى الآية المتقدمة وهي "وإذا مس الإنسان ضر" وفي هذه زيادة، وهي أنهم لا يقتصرون على مجرد الإعراض، بل يطلبون الغوائل لآيات الله بما يدبرونه من المكر.

هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّ

22- " هو الذي يسيركم في البر والبحر " ضرب سبحانه لهؤلاء مثلاً حتى ينكشف المراد انكشافاً تاماً، ومعنى تسييرهم في البر أنهم يمشون على أقدامهم التي خلقها لهم لينتفعوا بها ويركبون ما خلقه الله لركوبهم من الدواب، ومعنى تسييرهم في البحر: أنه ألهمهم لعمل السفائن التي يركبون فيها في لجج البحر ويسر ذلك لهم ودفع عنهم أسباب الهلاك. وقد قرأ ابن عامر وهو الذي ينشركم في البحر بالنون والشين المعجمة من النشر كما في قوله: "فانتشروا في الأرض" أي ينشرهم سبحانه في البحر فينجي من يشاء ويغرق من يشاء "حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم" الفلك يقع على الواحد والجمع ويذكر ويؤنث، وقد تقدم تحقيقه "وجرين" أي السفن بهم: أي بالراكبين عليها، وحتى لانتهاء الغاية والغاية مضمون الجملة الشرطية بكمالها، فالقيود المعتبرة في الشرط ثلاثة: أولها: الكون في الفلك، والثاني: جريها بهم بالريح الطيبة التي ليست بعاصفة، وثالثها: فرحهم. والقيود المعتبرة في الجزاء ثلاثة: الأول "جاءتها" أي لجاءت الفلك ريح عاصف أو جاءت الريح الطيبة: أي تلقتها ريح عاصف، والعصوف شدة هبوب الريح، والثاني "وجاءهم الموج من كل مكان" أي من جميع الجوانب للفلك والمراد جاء الراكبين فيها، والموج ما ارتفع من الماء فوق البحر، والثالث "ظنوا أنهم أحيط بهم" أي غلب على ظنونهم الهلاك، وأصله من إحاطة العدو بقوم أو ببلد، فجعل هذه الإحاطة مثلاً في الهلاك وإن كان بغير العدو كما هنا، وجواب إذا في قوله: "إذا كنتم في الفلك" قوله: "جاءتها" إلى آخره ويكون قوله: "دعوا الله" بدلاً من ظنوا لكون هذا الدعاء الواقع منهم إنما كان عند ظن الهلاك وهو الباعث عليه، فكان بدلاً منه بدل اشتمال لاشتماله عليه، ويمكن أن يكون جملة دعوا مستأنفة كأنه قيل: ماذا صنعوا؟ فقيل: دعوا الله، وفي قوله: "وجرين بهم" التفات من الخطاب إلى الغيبة، جعل الفائدة فيه صاحب الكشاف المبالغة. وقال الرازي: الانتقال من مقام الخطاب إلى مقام الغيبة في هذا المقام دليل المقت والتبعيد كما أن عكس ذلك في قوله: "إياك نعبد" دليل الرضا والتقريب، وانتصاب مخلصين على الحال: أي لم يشوبوا دعاءهم بشيء من الشوائب، كما جرت عادتهم في غير هذا الموطن أنهم يشركون أصنامهم في الدعاء، وليس هذا لأجل الإيمان بالله وحده، بل لأجل أن ينجيهم مما شارفوه من الهلاك لعلمهم أنه لا ينجيهم سوى الله سبحانه. وفي هذا دليل على أن الخلق جبلوا على الرجوع إلى الله في الشدائد، وأن المضطر يجاب دعاؤه وإن كان كافراً. وفي هذه الآية بيان أن هؤلاء المشركين كانوا لا يلتفتون إلى أصنامهم في هذه الحالة وما يشابهها، فيا عجباً لما حدث في الإسلام من طوائف يعتقدون في الأموات؟ فإذا عرضت لهم في البحر مثل هذه الحالة دعوا الأموات ولم يخلصوا الدعاء لله كما فعله المشركون كما تواتر ذلك إلينا تواتراً يحصل به القطع، فانظر هداك الله ما فعلت هذه الاعتقادات الشيطانية وأين وصل بها أهلها، وإلى أين رمى بهم الشيطان، وكيف اقتادهم وتسلط عليهم؟ حتى انقادوا له انقياداً ما كان يطمع في مثله ولا في بعضه من عباد الأوثان، فإنا لله وإنا إليه راجعون، واللام في "لئن أنجيتنا من هذه" هي اللام الموطئة للقسم: أي قائلين ذلك، والإشارة بقوله: "من هذه" إلى ما وقعوا فيه من مشارفة الهلاك في البحر، واللام في "لنكونن" جواب القسم: أي لنكونن في كل حال ممن يشكر نعمك التي أنعمت بها علينا، منها هذه النعمة التي نحن بصدد سؤالك أن تفرجها عنا وتنجينا منها، وقيل: إن هذه الجملة مفعول دعوا.

فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ

23- "فلما نجاهم" الله من هذه المحنة التي وقعوا فيها، وأجاب دعاءهم لم يفوا بما وعدوا من أنفسهم، بل فعلوا فعل الجاحدين لا فعل الشاكرين، وجعلوا البغي في الأرض بغير الحق مكان الشكر. وإذا في "إذا هم يبغون" هي الفجائية: أي فاجئوا البغي في الأرض بغير الحق، والبغي: هو الفساد، من قولهم بغى الجرح: إذا ترامى في الفساد، وزيادة في الأرض للدلالة على أن فسادهم هذا شامل لأقطار الأرض، والبغي وإن كان ينافي أن يكون بحق، بل لا يكون إلا بالباطل، لكن زيادة بغير الحق إشارة إلى أنهم فعلوا ذلك بغير شبهة عندهم، بل تمرداً وعناداً، لأنهم قد يفعلون ذلك لشبهة يعتقدونها مع كونها باطلة. قوله: "يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا" لما ذكر سبحانه أن هؤلاء المتقدم ذكرهم يبغون في الأرض بغير الحق ذكر عاقبة البغي وسوء مغبته. قرأ ابن إسحاق وحفص والمفضل بنصب متاع، وقرأ الباقون بالرفع. فمن قرأ بالنصب جعل ما قبله جملة تامة: أي بغيكم وبال على أنفسكم، فيكون بغيكم مبتدأ وعلى أنفسكم خبره، ويكون متاع في موضع المصدر المؤكد، كأنه قيل: تتمتعون متاع الحياة الدنيا، ويكون المصدر مع الفعل المقدر استئنافاً، وقيل: إن متاع على قراءة النصب ظرف زمان نحو مقدم الحاج: أي زمن متاع الحياة الدنيا، وقيل: هو مفعوله له: أي لأجل متاع الحياة الدنيا، وقيل منصوب بنزع الخافض: أي كمتاع، وقيل: على الحال على أنه مصدر بمعنى المفعول: أي ممتعين، وقد نوقش غالب هذه الأقوال في توجيه النصب. وأما من قرأ برفع متاع فجعله خبر المبتدأ: أي بغيكم متاع الحياة الدنيا، ويكون على أنفسكم متعلق بالمصدر، والتقدير: إنما بغيكم على أمثالكم والذين جنسهم جنسكم متاع الحياة الدنيا ومنفعتها التي لا بقاء لها، فيكون المراد بأنفسكم على هذا الوجه أبناء جنسهم، وعبر عنهم بالأنفس لما يدركه الجنس على جنسه من الشفقة، وقيل: ارتفاع متاع على أنه خبر ثان، وقيل على أنه خبر لمبتدأ محذوف: أي هو متاع. قال النحاس: على قراءة الرفع يكون بغيكم مرتفعاً بالابتداء وخبره متاع الحياة الدنيا، وعلى أنفسكم مفعول البغي، ويجوز أن يكون خبره على أنفسكم ويضمر مبتدأ: أي ذلك متاع الحياة الدنيا، أو هو متاع الحياة الدنيا انتهى. وقد نوقش أيضاً بعض هذه الوجوه المذكورة في توجيه الرفع بما يطول به البحث في غير طائل. والحاصل أنه إذا جعل خبر المبتدأ على أنفسكم، فالمعنى: أن ما يقع من البغي على الغير هو بغي على نفس الباغي باعتبار ما يؤول إليه الأمر من الانتقام منه مجازاة على بغيه، وإن جعل الخبر متاع، فالمراد أن بغي هذا الجنس الإنساني على بعضه بعضاً هو سريع الزوال قريب الاضمحلال، كسائر أمتعة الحياة الدنيا فإنها ذاهبة عن قرب متلاشية بسرعة ليس لذلك كثير فائدة ولا عظيم جدوى. ثم ذكر سبحانه ما يكون على ذلك البغي من المجازاة يوم القيامة مع وعيد شديد فقال: "ثم إلينا مرجعكم" وتقديم الخبر للدلالة على القصر، والمعنى: أنكم بعد هذه الحياة الدنيا ومتاعها ترجعون إلى الله فيجازي المسيء بإساءته والمحسن بإحسانه "فننبئكم بما كنتم تعملون" في الدنيا: أي فنخبركم بما كنتم تعملون في الدنيا من خير وشر والمراد بذلك المجازاة كما تقول لمن أساء: سأخبرك بما صنعت، وفيه أشد وعيد وأفظع تهديد. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن الربيع في قوله: "فانتظروا إني معكم من المنتظرين" قال: خوفهم عذابه وعقوبته. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في آياتنا" قال: استهزاء وتكذيب. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله: "وظنوا أنهم أحيط بهم" قال: هلكوا. وأخرج ابن أبي شيبة وأبو داود والنسائي وابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص ما حاصله: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أهدر يوم الفتح دم جماعة، منهم عكرمة بن أبي جهل، هرب من مكة وركب البحر فأصابهم عاصف، فقال أصحاب السفينة لأهل السفينة: أخلصوا فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئاً، فقال عكرمة: لئن لم ينجني في البحر الإخلاص ما ينجيني في البر غيره، اللهم إن لك عهداً إن أنت عافيتني مما أنا فيه أن آتي محمداً حتى أضع يدي في يده فلأجدنه عفواً كريماً، فجاء فأسلم. وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه وأبو نعيم والخطيب في تاريخه والديلمي في مسند الفردوس عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث هن رواجع على أهلها: المكر، والنكث، والبغي، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم" " ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله " " فمن نكث فإنما ينكث على نفسه "". وأخرج الحاكم وصححه والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تبغ ولا تكن باغياً، فإن الله يقول: "إنما بغيكم على أنفسكم"". وأخرج أبو الشيخ عن مكحول قال: ثلاث من كن فيه كن عليه: المكر، والبغي، والنكث، قال الله سبحانه: "إنما بغيكم على أنفسكم". أقول أنا: وينبغي أن يلحق بهذه الثلاث التي دل القرآن على أنها تعود على فاعلها: الخدع، فإن الله يقول: "يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم". وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو بغى جبل على جبل لدك الباغي منهما". وأخرج ابن مردويه من حديث ابن عمر مثله.

إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْه

لما ذكر الله سبحانه ما تقدم من متاع الدنيا جاء بكلام مستأنف يضمن بيان حالها وسرعة تقضيها، وأنها تعود بعد أن تملأ الأعين برونقها، وتجتلب النفوس ببهجتها. وتحمل أهلها على أن يسفكوا دماء بعضهم بعضاً، ويهتكوا حرمهم حباً لها وعشقاً لجمالها الظاهري، وتكالباً على التمتع بها، وتهافتاً على نيل ما تشتهي الأنفس منها بضرب من التشبيه المركب، فقال: 24- "إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء" إلى آخر الآية. والمعنى: أن مثلها في سرعة الذهاب والاتصاف بوصف يضاد ما كانت عليه ويباينه، مثل ما على الأرض من أنواع النبات في زوال رونقه وذهاب بهجته وسرعة تقضيه، بعد أن كان غضاً مخضراً طرياً قد تعانقت أغصانه المتمايلة، وزهت أوراقه المتصافحة، وتلألأت أنوار نوره، وحاكت الزهر أنواع زهره، وليس المشبه به هو ما دخله الكاف في قوله: "كماء أنزلناه من السماء" بل ما يفهم من الكلام، والباء في "فاختلط به نبات الأرض" للسببية: أي فاختلط بسببه نبات الارض بأن اشتبك بعضه ببعض حتى بلغ إلى حد الكمال، ويحتمل أن يراد أن النبات كان في أول بروزه ومبدأ حدوثه غير مهتز ولا مترعرع فإذا نزل الماء عليه اهتز وربا حتى اختلط بعض الأنواع ببعض "مما يأكل الناس والأنعام" من الحبوب والثمار والكلأ والتبن وأخذت الأرض زخرفها. قال في الصحاح الزخرف: الذهب، ثم يشبه به كل مموه مزور انتهى. والمعنى: أن الأرض أخذت لونها الحسن المشابه بعضه للون الذهب، وبعضه للون الفضة، وبعضه للون الياقوت، وبعضه للون الزمرد. وأصل ازينت: تزينت أدغمت التاء في الزاي وجيء بألف الوصل لأن الحرف المدغم مقام حرفين أولهما ساكن، والساكن لا يمكن الابتداء به. وقرأ ابن مسعود وأبي بن كعب وتزينت على الأصل. وقرأ الحسن والأعرج وأبو العالية وأزينت على وزن أفعلت: أي أزينت الزينة التي عليها، شبهها بالعروس التي تلبس الثياب الجيدة المتلونة ألواناً كثيرة. وقال عوف بن أبي جميلة. قرأ أشياخنا وازيانت على وزن اسوادت، وفي رواية المقدمي وازانت والأصل فيه تزاينت على وزن تفاعلت. وقرأ الشعبي وقتادة أزينت، ومعنى هذه القراءات كلها هو ما ذكرنا "وظن أهلها أنهم قادرون عليها" أي غلب على ظنونهم أو تيقنوا أنهم قادرون على حصادها والانتفاع بها، والضمير في عليها للأرض، والمراد النبات الذي هو عليها "أتاها أمرنا" جواب إذا، أي جاءها أمرنا بإهلاكها واستئصالها وضربها ببعض العاهات "فجعلناها حصيداً" أي جعلنا زرعها شبيهاً بالمحصود في قطعه من أصوله. قال أبو عبيدة: الحصيد المستأصل "كأن لم تغن بالأمس" أي كأن لم يكن زرعها موجوداً فيها بالأمس مخضراً طرياً، من غني بالمكان بالكسر يغني بالفتح إذا أقام به، والمراد بالأمس الوقت القريب، والمغاني في اللغة المنازل. وقال قتادة: كأن لم تنعم، قال لبيد: غنيت سنينا قبل مجرى داحس لو كان للنفس اللجوج خلود وقرأ قتادة "كأن لم يغن" بالتحتية بإرجاع الضمير إلى الزخرف. وقرأ من عداه "تغن" بالفوقية بإرجاع الضمير إلى الأرض "كذلك" أي مثل ذلك التفصيل البديع "نفصل الآيات" القرآنية التي من جملتها هذه الآية "لعلهم يتفكرون" فيما اشتملت عليه، ويجوز أن يراد الآيات التكوينية.

وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ

قوله: 25- "والله يدعو إلى دار السلام" لما نفر عباده عن الميل إلى الدنيا بما ضربه لهم من المثل السابق رغبهم في الدار الآخرة بإخبارهم بهذه الدعوة منه عز وجل إلى دار السلام، قال الحسن وقتادة: السلام هو الله تعالى، وداره الجنة. وقال الزجاج: المعنى والله يدعو إلى دار السلامة. ومعنى السلام والسلامة واحد كالرضاع والرضاعة، ومنه قول الشاعر: تحيي بالسلامة أم بكر وهل لك بعد قومك من سلام وقيل: أراد دار السلام الذي هو التحية، لأن أهلها ينالون من الله السلام بمعنى التحية كما في قوله: "تحيتهم فيها سلام"، وقيل: السلام اسم لأحد الجنان السبع: أحدها: دار السلام، والثانية: دار الجلال، والثالثة: جنة عدن، والرابعة: جنة المأوى، والخامسة: جنة الخلد، والسادسة: جنة الفردوس، والسابعة: جنة النعيم. وقيل: المراد دار السلام الواقع من المؤمنين بعضهم على بعض في الجنة، وقد اتفقوا على أن دار السلام هي الجنة، وإنما اختلفوا في سبب التسمية بدار السلام "ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم" جعل سبحانه الدعوة إلى دار السلام عامة، والهداية خاصة بمن يشاء أن يهديه تكميلاً للحجة وإظهاراً للاستغناء عن خلقه.

لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ

ثم قسم سبحانه أهل الدعوة إلى قسمين، وبين حال كل طائفة فقال: 26- "للذين أحسنوا الحسنى وزيادة" أي الذين أحسنوا بالقيام بما أوجبه الله عليهم من الأعمال والكف عما نهاهم عنه من المعاصي، والمراد بالحسنى المثوبة الحسنى. قال ابن الأنباري: العرب توقع هذه اللفظة على الخصلة المحبوبة المرغوب فيها، ولذلك ترك موصوفها، وقيل: المراد بالحسنى الجنة، وأما الزيادة فقيل المراد بها ما يزيد على المثوبة من التفضل كقوله: "ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله" وقيل: الزيادة النظر إلى وجهه الكريم، وقيل: الزيادة هي مضاعفة الحسنة إلى عشر أمثالها، وقيل: الزيادة غرفة من لؤلؤ، وقيل: الزيادة مغفرة من الله ورضوان، وقيل: هي أنه سبحانه يعطيهم في الدنيا من فضله ما لا يحاسبهم عليه، وقيل غير ذلك مما لا فائدة في ذكره، وسيأتي بيان ما هو الحق في آخر البحث "ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة" معنى يرهق يلحق، ومنه قيل: غلام مراهق إذا لحق بالرجال، وقيل: يعلو، وقيل: يغشى، والمعنى متقارب، والقتر: الغبار، ومنه قول الفرزدق: متوج برداء الملك يتبعه موج ترى فوقه الرايات والقترا وقرأ الحسن قتر بإسكان المثناة، والمعنى واحد، قاله النحاس، وواحد القتر قترة، والذلة: ما يظهر على الوجه من الخضوع والإنكسار والهوان، والمعنى: أنه لا يعلو وجوههم غبرة ولا يظهر فيها هوان، وقيل: القتر الكآبة، وقيل: سواد الوجوه، وقيل: هو دخان النار "أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون" الإشارة إلى المتصفين بالصفات السابقة هم أصحاب الجنة الخالدون فيها المتنعمون بأنواع نعيمها.

وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ

27- "والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها" هذا الفريق الثاني من أهل الدعوة، وهو معطوف على "للذين أحسنوا" كأنه قيل: وللذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها، أو يقدر وجزاء الذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها: أي يجازي سيئة واحدة بسيئة واحدة لا يزاد عليها، وهذا أولى من الأول لكونه من باب العطف على معمولي عاملين مختلفين، والمراد بالسيئة إما الشرك أو المعاصي التي ليست بشرك، وهي ما يتلبس به العصاة من المعاصي، قال ابن كيسان: الباء زائدة، والمعنى: جزاء سيئة مثلها، وقيل: الباء مع ما بعدها الخبر، وهي متعلقة بمحذوف قامت مقامه، والمعنى: جزاء سيئة كائن بمثلها كقولك إنما أنا بك، ويجوز أن يتعلق بجزاء والتقدير جزاء سيئة بمثلها كائن فحذف خبر المبتدأ، ويجوز أن يكون "جزاء" مرفوعاً على تقدير فلهم جزاء سيئة فيكون مثل قوله: "فعدة من أيام أخر" أي فعليه عدة، والباء على هذا التقدير متعلقة بمحذوف كأنه قال لهم جزاء سيئة ثابت بمثلها، أو تكون مؤكدة أو زائدة. قوله: "ترهقهم ذلة" أي يغشاهم هوان وخزي. وقرئ يرهقهم بالتحتية "ما لهم من الله من عاصم" أي لا يعصمهم أحد كائناً من كان من سخط الله وعذابه، أو ما لهم من جهة الله ومن عنده من يعصمهم كما يكون للمؤمنين، والأول أولى، والجملة في محل نصب على الحالية، أو مستأنفة "كأنما أغشيت وجوههم قطعاً من الليل مظلماً" قطعاً جمع قطعة، وعلى هذا يكون مظلماً منتصباً على الحال من الليل: أي أعشيت وجوههم قطعاً من الليل في حالة ظلمته. وقد قرأ بالجمع جمهور القراء. وقرأ الكسائي وابن كثير "قطعاً" بإسكان الطاء، فيكون مظلماً على هذا صفة لقطعاً، ويجوز أن يكون حالاً من الليل. قال ابن السكيت: القطع طائفة من الليل "أولئك" أي الموصوفون بهذه الصفات الذميمة "أصحاب النار هم فيها خالدون" وإطلاق الخلود هنا مقيد بما تواتر في السنة من خروج عصاة الموحدين.

وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ

قوله: 28- "ويوم نحشرهم جميعاً" الحشر الجمع، و "جميعاً" منتصب على الحال و "يوم" منصوب بمضمر: أي أنذرهم يوم نحشرهم، والجملة مستأنفة لبيان بعض أحوالهم القبيحة. والمعنى: أن الله سبحانه يحشر العابد والمعبود لسؤالهم "ثم نقول للذين أشركوا" في حالة الحشر ووقت الجمع تقريعاً لهم على رؤوس الأشهاد، وتوبيخاً لهم من حضور من يشاركهم في العبادة وحضور معبوداتهم "مكانكم" أي الزموا مكانكم واثبتوا فيه وقفوا في موضعكم "أنتم وشركاؤكم" على أن الواو واو مع. قوله: "فزيلنا بينهم": أي فرقنا وقطعنا ما كان بينهم من التواصل في الدنيا: يقال زيلته فتزيل: أي فرقته فتفرق، والمزايلة المفارقة، يقال: زايله مزايلة وزيالاً إذا فارقه، والتزايل التباين. قال الفراء: وقرأ بعضهم "فزيلنا" والمراد بالشركاء هنا الملائكة، وقيل الشياطين، وقيل الأصنام، وإن الله سبحانه ينطقها في هذا الوقت. وقيل المسيح، وعزير، والظاهر أنه كل معبود للمشركين كائناً ما كان، وجملة "وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون" في محل نصب على الحال بتقدير قد، والمعنى: وقد قال شركاؤهم الذين عبدوهم وجعلوهم شركاء لله سبحانه ما كنتم إيانا تعبدون، وإنما عبدتم هواكم وضلالكم وشياطينكم الذين أغووكم، وإنما أضاف الشركاء إليهم مع أنهم جعلوهم شركاء لله سبحانه، لكونهم جعلوا لهم نصيباً من أموالهم فهم شركاؤهم في أموالهم من هذه الحيثية، وقيل: لكونهم شركاؤهم في هذا الخطاب، وهذا الجحد من الشركاء وإن كان مخالفاً لما قد وقع من المشركين من عبادتهم، فمعناه إنكار عبادتهم إياهم عن أمرهم لهم بالعبادة.

فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ

29- "فكفى بالله شهيداً بيننا وبينكم" إن كنا أمرنا بعبادتنا أو رضينا ذلك منكم "إن كنا عن عبادتكم لغافلين"، إن هي المخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية، والقائل لهذا الكلام هم المعبودون. قالوا: لمن عبدهم من المشركين: إنا كنا عن عبادتكم لنا لغافلين، والمراد بالغفلة هنا: عدم الرضا بما فعله المشركون من العبادة لهم، وفي هذا دليل على أن هؤلاء المعبودين غير الشياطين لأنهم يرضون بما فعله المشركون من عبادتهم، ويمكن أن يكونوا من الشياطين، ويحمل هذا الجحد منهم على أنهم لم يجبروهم على عبادتهم ولا أكرهوهم عليها.

هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ

30- "هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت" أي في ذلك المكان وفي ذلك الموقف، أو في ذلك الوقت على استعارة اسم الزمان للمكان تذوق كل نفس وتختبر جزاء ما أسلفت من العمل، فمعنى "تبلو" تذوق وتختبر، وقيل تعلم، وقيل تتبع، وهذا على قراءة من قرأ يتلو بالمثناة الفوقية بإسناد الفعل إلى كل نفس، وأما على قراءة من قرأ نبلو بالنون، فالمعنى: أن الله يبتلي كل نفس ويختبرها، ويكون ما أسلفت بدلاً من كل نفس. والمعنى: أنه يعاملها معاملة من يختبرها ويتفقد أحوالها. قوله: "وردوا إلى الله مولاهم الحق" معطوف على "زيلنا"، والضمير في ردوا عائد إلى الذين أشركوا: أي ردوا إلى جزائه، وما أعد لهم من عقابه، ومولاهم: ربهم، والحق صفة له: أي الصادق الربوبية دون ما اتخذوه من المعبودات الباطلة، وقرئ الحق بالنصب على المدح كقولهم: الحمد لله أهل الحمد، " وضل عنهم ما كانوا يفترون " أي ضاع وبطل ما كانوا يفترون من أن الآلهة التي له حقيقة بالعبادة لتشفع لهم إلى الله وتقربهم إليه. والحاصل أن هؤلاء المشركين يرجعون في ذلك المقام إلى الحق، ويعترفون به، ويقرون به، ويقرون ببطلان ما كانوا يعبدونه ويجعلونه إلهاً، ولكن حين لا ينفعهم ذلك. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "فاختلط به نبات الأرض" قال: اختلط فنبت بالماء كل لون "مما يأكل الناس" كالحنطة والشعير، وسائر حبوب الأرض والبقول والثمار، وما تأكله الأنعام والبهائم من الحشيش والمراعي. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: "وازينت" قال: أنبتت وحسنت، وفي قوله: "كأن لم تغن بالأمس" قال: كأن لم تعش كأن لم تنعم. وأخرج ابن جرير عن أبي بن كعب وابن عباس ومروان بن الحكم أنهم كانوا يقرأون بعد قوله: "وظن أهلها أنهم قادرون عليها" وما كان الله ليهلكها إلا بذنوب أهلها. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه كان يقرأ وما أهلكناها إلا بذنوب أهلها، "كذلك نفصل الآيات". وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن أبي مجلز قال: كان مكتوب في سورة يونس إلى حيث هذه الآية: "حتى إذا أخذت الأرض زخرفها" إلى "يتفكرون"، ولو أن لابن آدم واديين من مال لتمنى وادياً ثالثاً، ولا يشبع نفس ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب، فمحيت. وأخرج أبو نعيم والدمياطي في معجمه من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله: "والله يدعو إلى دار السلام" يقول: يدعو إلى عمل الجنة. والله: السلام، والجنة: داره. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله: "ويهدي من يشاء" قال: يهديهم للمخرج من الشبهات والفتن والضلالات. وأخرج أحمد وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من يوم طلعت شمسه إلا وكل وجنبتيها ملكان يناديان نداء يسمعه خلق الله كلهم إلا الثقلين: يا أيها الناس هلموا إلى ربكم فما قل وكفى خير مما كثر وألهى، ولا آبت شمسه إلا وكل بجنبتيها ملكان يناديان نداء يسمعه خلق الله كلهم غير الثقلين: اللهم أعط منفقاً خلفاً، وأعط ممسكاً تلفاً" " والليل إذا يغشى * والنهار إذا تجلى " إلى قوله: "للعسرى". وأخرج ابن جرير والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن سعيد بن أبي هلال سمعت أبا جعفر محمد بن علي وتلا: "والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم" فقال: حدثني جابر قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فقال: "إني رأيت في المنام كأن جبريل عند رأسي، وميكائيل عند رجلي، يقول أحدهما لصاحبه: اضرب له مثلاً، فقال: اسمع سمعت أذنك، واعقل عقل قلبك، إنما مثلك ومثل أمتك مثل ملك اتخذ داراً، ثم بنى فيها بيتاً، ثم جعل فيها مأدبة، ثم بعث رسولاً يدعو الناس إلى طعامه، فمنهم من أجاب الرسول، ومنهم من ترك، فالله هو الملك، والدار الإسلام، والبيت الجنة، وأنت يا محمد رسول، فمن أجابك دخل الإسلام، ومن دخل الإسلام دخل الجنة، ومن دخل الجنة أكل منها". وقد روي معنى هذا من طرق. وأخرج أحمد في الزهد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "والله يدعو إلى دار السلام" قال: ذكر لنا أن في التوراة مكتوباً: يا باغي الخير هلم، ويا باغي الشر اتقه. وأخرج أبو الشيخ عن الحسن أنه كان إذا قرأ "والله يدعو إلى دار السلام" قال: لبيك ربنا وسعديك. وأخرج أحمد ومسلم والترمذي وابن ماجه وابن خزيمة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وغيرهم عن صهيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية "للذين أحسنوا الحسنى وزيادة" قال: "إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار نادى مناد: يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه، فيقولون: وما هو؟ ألم يثقل موازيننا، ويبيض وجوهنا، ويدخلنا الجنة، ويزحزحنا عن النار، قال: فيكشف لهم الحجاب فينظرون إليه، فوالله ما أعطاهم الله شيئاً أحب إليهم من النظر إليه، ولا أقر لأعينهم". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والدارقطني في الرؤية وابن مردويه عن أبي موسى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يبعث يوم القيامة منادياً ينادي بصوت يسمعه أولهم وآخرهم: إن الله وعدكم الحسنى وزيادة" فالحسنى الجنة، والزيادة النظر إلى وجه الرحمن. وأخرج ابن جرير وابن مردويه والبيهقي في الرؤية عن كعب بن عجرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "للذين أحسنوا الحسنى وزيادة" قال: الزيادة النظر إلى وجه الرحمن. وأخرج هؤلاء والدارقطني وابن أبي حاتم عن أبي بن كعب أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله: "للذين أحسنوا الحسنى وزيادة" قال: الذين أحسنوا: أهل التوحيد، والحسنى: الجنة، والزيادة: النظر إلى وجه الله. وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر مرفوعاً نحوه. وأخرج أبو الشيخ والدارقطني وابن مردويه والخطيب وابن النجار عن أنس مرفوعاً نحوه. وأخرج أبو الشيخ عن أبي هريرة نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن خزيمة وابن المنذر وأبو الشيخ والدارقطني وابن مردويه والبيهقي عن أبي بكر الصديق في الآية قال: الحسنى الجنة، والزيادة النظر إلى وجه الله. وأخرج ابن مردويه من طريق الحرث عن علي بن أبي طالب في الآية مثله. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ والدارقطني والبيهقي عن حذيفة في الآية قال: الزيادة النظر إلى وجه الله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والدارقطني والبيهقي عن أبي موسى نحوه. وأخرج ابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات من طريق عكرمة عن ابن عباس نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم واللالكائي عن ابن مسعود نحوه. وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي عن علي قال: الزيادة غرفة من لؤلؤة واحدة لها أربعة أبواب غرفها وأبوابها من لؤلة واحدة. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: "وزيادة" قال: هو مثل قوله: "ولدينا مزيد" يقول يجزيهم بعملهم، ويزيدهم من فضله. وقال: "من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها". وقد روي عن التابعين ومن بعدهم روايات في تفسير الزيادة غالبها أنها النظر إلى وجه الله سبحانه. وقد ثبت التفسير بذلك من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يبق حينئذ لقائل مقال، ولا التفات إلى المجادلات الواقعة بين المتمذهبة الذين لا يعرفون من السنة المطهرة ما ينتفعون به، فإنهم لو عرفوا ذلك لكفوا عن كثير من هذيانهم، والله المستعان. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ولا يرهق وجوههم" قال: لا يغشاهم "قتر" قال: سواد الوجوه. وأخرج أبو الشيخ عن عطاء في الآية قال: القتر سواد الوجه. وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد في الآية قال: خزي. وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم "ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة" قال: بعد نظرهم إليه عز وجل. وأخرج أبو الشيخ عن السدي في قوله: "والذين كسبوا السيئات" قال: الذين عملوا الكبائر "جزاء سيئة بمثلها" قال: النار "كأنما أغشيت وجوههم قطعاً من الليل مظلماً" القطع: السواد نسختها الآية في البقرة "بلى من كسب سيئة" الآية. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: "وترهقهم ذلة" قال: تغشاهم ذلة وشدة. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه في قوله: "ما لهم من الله من عاصم" يقول: من مانع. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "ويوم نحشرهم" قال: الحشر الموت. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن زيد في قوله: "فزيلنا بينهم" قال: فرقنا بينهم. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد قال: تنصب الآلههة التي كانوا يعبدونها من دون الله، فيقول: هؤلاء الذين كنتم تعبدون من دون الله؟ فيقولون: نعم هؤلاء الذين كنا نعبد، فتقول لهم الآلهة: والله ما كنا نسمع ولا نبصر ولا نعقل ولا نعلم أنكم كنتم تعبدوننا، فيقولون: بلى والله لإياكم كنا نعبد، فتقول لهم الآلهة: "فكفى بالله شهيداً بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين". وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يمثل لهم يوم القيامة ما كانوا يعبدون من دون الله، فيتبعونهم حتى يؤدوهم النار، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم "هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت"" وأخرج أبو الشيخ عن السدي "هنالك تبلو" يقول تتبع. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد قال: "تبلو" تختبر. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن زيد "تبلو" قال: تعاين "كل نفس ما أسلفت" ما عملت "وضل عنهم ما كانوا يفترون" ما كانوا يدعون معه من الأنداد. وأخرج أبو الشيخ عن السدي في قوله: "وردوا إلى الله مولاهم الحق" قال: نسخها قوله: "الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم".

قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ

لما بين فضائح المشركين أتبعها بإيراد الحجج الدامغة من أحوال الرزق والحواس والموت والحياة والابتداء والإعادة والإرشاد والهدى، وبنى سبحانه الحج على الاستفهام وتفويض الجواب إلى المسؤولين ليكون أبلغ في إلزام الحجة وأوقع في النفوس، فقال: 31- "قل" يا محمد للمشركين احتجاجاً لحقية التوحيد وبطلان ما هم عليه من الشرك "من يرزقكم من السماء والأرض" من السماء بالمطر، ومن الأرض بالنبات والمعادن، فإن اعترفوا حصل المطلوب، وإن لم يعترفوا فلا بد أن يعترفوا بأن الله هو الذي خلقهما " أمن يملك السمع والأبصار " أم هي المنقطعة، وفي هذا انتقال من سؤال إلى سؤال، وخص السمع والبصر بالذكر لما فيهما من الصنعة العجيبة والقدرة الباهرة العظيمة: أي من يستطيع ملكهما وتسويتهما على هذه الصفة العجيبة والخلقة الغريبة حتى ينتفعوا بهما هذا الانتفاع العظيم، ويحصلون بهما من الفوائد ما لا يدخل تحت حصر الحاصرين، ثم انتقل إلى حجة ثالثة، فقال: "ومن يخرج الحي من الميت" الإنسان من النطفة، والطير من البيضة، والنبات من الحبة، أو المؤمن من الكافر "ويخرج الميت من الحي" أي النطفة من الإنسان أو الكافر من المؤمن، والمراد من هذا الاستفهام عمن يحيي ويميت ثم انتقل إلى حجة رابعة، فقال: "ومن يدبر الأمر" أي يقدره ويقضيه، وهذا من عطف العام على الخاص لأنه قد عم ما تقدم وغيره "فسيقولون الله" أي سيكون قولهم في جواب هذه الاستفهامات إن الفاعل لهذه الأمور هو الله سبحانه إن أنصفوا وعملوا على ما يوجبه الفكر الصحيح والعقل السليم، وارتفاع الاسم الشريف على أنه خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره محذوف، أي الله يفعل ذلك، ثم أمره الله سبحانه بعد أن يجيبوا بهذا الجواب أن يقول لهم "أفلا تتقون" والاستفهام للإنكار، والفاء للعطف على مقدر: أي تعلمون ذلك أفلا تتقون وتفعلون ما يوجبه هذا العلم من تقوى الله الذي يفعل هذه الأفعال.

فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ

32- "فذلكم الله ربكم الحق" أي فذلكم الذي يفعل هذه الأفعال هو ربكم المتصف بأنه الحق لا ما جعلتموهم شركاء له، والاستفهام في قوله: "فماذا بعد الحق إلا الضلال" للتقريع والتوبيخ إن كانت ما استفهامية، لا إن كانت نافية كما يحتمله الكلام، والمعنى: أي شيء بعد الحق إلا الضلال، فإن ثبوت ربوبية الرب سبحانه حق بإقرارهم فكان غيره باطلاً لأن واجب الوجود يجب أن يكون واحداً في ذاته وصفاته "فأنى تصرفون" أي كيف تستجيزون العدول عن الحق الظاهر وتقعون في الضلال إذ لا واسطة بينهما؟ فمن تخطى أحدهما وقع في الآخر، والاستفهام للإنكار والاستبعاد والتعجب.

كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ

33- "كذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون" أي كما حق وثبت أن الحق بعد الضلال أو كما حق أنهم مصروفون عن الحق كذلك حقت كلمة ربك: أي حكمه وقضاؤه على الذين فسقوا: أي خرجوا من الحق إلى الباطل وتمردوا في كفرهم عناداً ومكابرة، وجملة "أنهم لا يؤمنون" بدل من الكلمة. قال الزجاج: أي حقت عليهم هذه الكلمة، وهي عدم إيمانهم، ويجوز أن تكون الجملة تعليلية لما قبلها بتقدير اللام: أي لأنهم لا يؤمنون. وقال الفراء: إنه يجوز إنهم لا يؤمنون بالكسر على الاستئناف، وقد قرأ نافع وابن عامر " لكلمات ربي " بالجمع. وقرأ الباقون بالإفراد.

قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ

قوله: 34- " قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده " أورد سبحانه في هذا حجة خامسة على المشركين أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقولها لهم، وهم وإن كانوا لا يعترفون بالمعاد، لكنه لما كان أمراً ظاهراً بيناً، وقد أقام الأدلة عليه في هذه السورة على صورة لا يمكن دفعها عند من أنصف ولم يكابر كان كالمسلم عندهم الذي لا جحد له ولا إنكار فيه، ثم أمره سبحانه أن يقول لهم: " قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده فأنى تؤفكون " أي هو الذي يفعل ذلك لا غيره وهذا القول الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم عن أمر الله سبحانه له هو نيابة عن المشركين في الجواب، إما على طريق التلقين لهم وتعريفهم كيف يجيبون وإرشادهم إلى ما يقولون، وإما لكون هذا المعنى قد بلغ في الوضوح إلى غاية لا يحتاج معها إلى إقرار الخصم ومعرفة ما لديه، وإما لكون المشركين لا ينطقون بما هو الصواب في هذا الجواب فراراً منهم عن أن تلزمهم الحجة أو أن يسجل عليهم بالعناد والمكابرة إن حادوا عن الحق. ومعنى "فأنى تؤفكون" فكيف تؤفكون: أي تصرفون عن الحق وتنقلبون منه إلى غيره.

قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ

ثم أمره الله سبحانه أن يورد عليهم حجة سادسة فقال: 35- "قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق" والاستفهام هاهنا كالاستفهامات السابقة، والاستدلال بالهداية بعد الاستدلال بالخلق وقع كثيراً في القرآن كقوله: "الذي خلقني فهو يهدين" وقوله: "الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى" وقوله: " الذي خلق فسوى * والذي قدر فهدى " وفعل الهداية يجيء متعدياً باللام وإلى، وهما بمعنى واحد. روي ذلك عن الزجاج. والمعنى: قل لهم يا محمد هل من شركائكم من يرشد إلى دين الإسلام ويدعو الناس إلى الحق؟ فإذا قالوا لا، فقل لهم: الله يهدي للحق دون غيره، ودليل ذلك ما تقدم من الأدلة الدالة على اختصاصه سبحانه بهذا، وهداية الله سبحانه لعباده إلى الحق هي بما نصبه لهم من الآيات في المخلوقات، وإرساله للرسل وإنزاله للكتب، وخلقه لما يتوصل به العباد إلى ذلك من العقول والأفهام والأسماع والأبصار، والاستفهام في قوله: " أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى " للتقرير وإلزام الحجة. وقد اختلف القراء في "لا يهدي" فقرأ أهل المدينة إلا نافعاً يهدي بفتح الياء وإسكان الهاء وتشديد الدال فجمعوا في قراءتهم هذه بين ساكنين. قال النحاس: والجمع بين ساكنين لا يقدر أحد أن ينطق به. قال محمد بن يزيد: لا بد لمن رام مثل هذا أن يحرك حركة خفيفة إلى الكسر، وسيبويه يسمى هذا اختلاساً. وقرأ أبو عمرو وقالون في رواية بين الفتح والإسكان. وقرأ ابن عامر وابن كثير وورش وابن محيصن بفتح الياء والهاء وتشديد الدال. قال النحاس: هذه القراءة بينة في العربية، والأصل فيها يهتدي، أدغمت التاء في الدال وقلبت حركتها إلى الهاء. وقرأ حفص ويعقوب والأعمش مثل قراءة ابن كثير إلا أنهم كسروا الهاء، قالوا لأن الكسر هو الأصل عند التقاء الساكنين. وأقر أبو بكر عن عاصم "يهدي" بكسر الياء والهاء وتشديد الدال وذلك للاتباع. وقرأ حمزة والكسائي وخلف ويحيى بن وثاب "يهدي" بفتح الياء وإسكان الهاء وتخفيف الدال من هدى يهدي. قال النحاس: وهذه القراءة لها وجهان في العربية، وإن كانت بعيدة: الأول: أن الكسائي والفراء قالا: إن يهدي بمعنى يهتدي. الثاني: أن أبا العباس قال: إن التقدير أم من لا يهدى غيره، ثم تم الكلام وقال بعد ذلك: " إلا أن يهدى " أي لكنه يحتاج أن يهدي، فهو استثناء منقطع كما تقول فلان لا يسمع غيره إلا أن يسمع: أي لكنه يحتاج أن يسمع. والمعنى على القراءات المتقدمة: أفمن يهدي الناس إلى الحق، وهو الله سبحانه أحق أن يتبع ويقتدى به، أم الأحق بأن يتبع ويقتدى به من لا يهتدي بنفسه إلا أن يهديه غيره فضلاً عن أن يهدي غيره؟ والاستثناء على هذا استثناء مفرغ من أعم الأحوال. قوله: "فما لكم كيف تحكمون" هذا تعجيب من حالهم باستفهامين متواليين: أي أي شيء لكم كيف تحكمون باتخاذ هؤلاء شركاء لله، وكلا الاستفهامين للتقريع والتوبيخ، وكيف في محل نصب بـ تحكمون.

وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ

ثم بين سبحانه ما هؤلاء عليه في أمر دينهم، وعلى أي شيء بنوه، وبأي شيء اتبعوا هذا الدين الباطل، وهو الشرك فقال: 36- " وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئا " وهذا كلام مبتدأ غير داخل في الأوامر السابقة. والمعنى: ما يتبع هؤلاء المشركون في إشراكهم بالله وجعلهم له أنداداً إلا مجرد الظن والتخمين والحدس، ولم يكن ذلك عن بصيرة، بل ظن من ظن من سلفهم أن هذه المعبودات تقربهم إلى الله، وأنها تشفع لهم، ولم يكن ظنه هذا لمستند قط، بل مجرد خيال مختل وحدس باطل، ولعل تنكير الظن هنا للتحقير: أي إلا ظناً ضعيفاً لا يستند إلى ما تستند إليه سائر الظنون. وقيل المراد بالآية إنه ما يتبع أكثرهم في الإيمان بالله والإقرار به إلا ظناً. والأول أولى. ثم أخبرنا الله سبحانه بأن مجرد الظن لا يغني من الحق شيئاً، لأن أمر الدين إنما يبنى على العلم، وبه يتضح الحق من الباطل، والظن لا يقوم مقام العلم، ولا يدرك به الحق، ولا يغني عن الحق في شيء من الأشياء، ويجوز انتصاب شيئاً على المصدرية أو على أنه مفعول به، و من الحق حال منه والجملة مستأنفة لبيان شأن الظن وبطلانه "إن الله عليم بما يفعلون" من الأفعال القبيحة الصادرة لا عن برهان.

وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآَنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ

قوله: 37- "وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله" لما فرغ سبحانه من دلائل التوحيد وحججه شرع في تثبيت أمر النبوة: أي وما صح وما استقام أن يكون هذا القرآن المشتمل على الحجج البينة والبراهين الواضحة يفترى من الخلق من دون الله، وإنما هو من عند الله عز وجل، وكيف يصح أن يكون مفترى، وقد عجز عن الإتيان بسورة منه القوم الذين هم أفصح العرب لساناً وأدقهم أذهاناً "ولكن" كان هذا القرآن "تصديق الذي بين يديه" من الكتب المنزلة على الأنبياء، ونفس هذا التصديق معجزة مستقلة، لأن أقاصيصه موافقة لما في الكتب المتقدمة، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يطلع على ذلك ولا تعلمه ولا سأل عنه ولا اتصل بمن له علم بذلك، وانتصاب تصديق على أنه خبر لكان المقدرة بعد لكن، ويجوز أن يكون انتصابه على العلية لفعل محذوف: أي لكن أنزله الله تصديق الذي بين يديه. قال الفراء: ومعنى الآية، وما ينبغي لهذا القرآن أن يفترى كقوله: "وما كان لنبي أن يغل" "وما كان المؤمنون لينفروا كافة". وقيل إن أن بمعنى اللام: أي وما كان هذا القرآن ليفترى، وقيل بمعنى لا: أي لا يفترى. قال الكسائي والفراء: إن التقدير في قوله: "ولكن تصديق" ولكن كان تصديق، ويجوز عندهما الرفع أي ولكن هو تصديق، وقيل المعنى: ولكن القرآن تصديق "الذي بين يديه" من الكتب: أي أنها قد بشرت به قبل نزوله فجاء مصدقاً لها، وقيل المعنى: ولكن تصديق النبي الذي بين يدي القرآن، وهو محمد صلى الله عليه وسلم لأنهم شاهدوه قبل أن يسمعوا منه القرآن. قوله: "وتفصيل الكتاب" عطف على قوله: "ولكن تصديق الذي بين يديه" فيجيء فيه الرفع والنصب على الوجهين المذكورين في تصديق، والتفضيل: التبيين، أي يبين ما في كتب الله المتقدمة، والكتاب للجنس، وقيل المراد ما بين في القرآن من الأحكام، فيكون المراد بالكتاب: القرآن. قوله: "لا ريب فيه" الضمير عائد إلى القرآن، وهو داخل في حكم الاستدراك خبر ثالث، ويجوز أن تكون هذه الجملة في محل نصب على الحال من الكتاب ويجوز أن تكون الجملة استئنافية لا محل لها، و "من رب العالمين" خبر رابع: أي كائن من رب العالمين، ويجوز أن يكون حالاً من الكتاب، أو من ضمير القرآن في قوله: "لا ريب فيه" أي كائناً من رب العالمين، ويجوز أن يكون متعلقاً بتصديق وتفصيل، وجملة "لا ريب فيه" متعرضة.

أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ

قوله: 38- "أم يقولون افتراه" الاستفهام للإنكار عليهم مع تقرير ثبوت الحجة، وأم هي المنقطعة التي بمعنى بل والهمزة: أي بل أيقولون أفتراه واختلقه. وقال أبو عبيدة: أم بمعنى الواو: أي ويقولون افتراه، وقيل الميم زائدة، والتقدير: أيقولون افتراه، والاستفهام للتقريع والتوبيخ. ثم أمره الله سبحانه أن يتحداهم حتى يظهر عجزهم ويتبين ضعفهم فقال: " قل فاتوا بسورة مثله " أي إن كان الأمر كما تزعمون من أن محمداً افتراه فأتوا أنتم على جهة الافتراء بسورة مثله في البلاغة، وجودة الصناعة، فأنتم مثله في معرفة لغة العرب وفصاحة الألسن وبلاغة الكلام "وادعوا" بمظاهريكم ومعاونيكم "من استطعتم" دعاءه والاستعانة به من قبائل العرب، ومن آلهتكم التي تجعلونهم شركاء لله. وقوله: "من دون الله" متعلق بادعوا: أي ادعوا من سوى الله من خلقه "إن كنتم صادقين" في دعواكم أن هذا القرآن مفترى. وسبحان الله العظيم ما أقوى هذه الحجة وأوضحها وأظهرها للعقول، فإنهم لما نسبوا الافتراء إلى واحد منهم في البشرية والعربية، قال لهم: هذا الذي نسبتموه إلي وأنا واحد منكم ليس عليكم إلا أن تأتوا وأنتم الجمع الجم بسورة مماثلة لسورة من سوره، واستعينوا بمن شئتم من أهل هذه اللسان العربية على كثرتهم وتباين مساكنهم، أو من غيرهم من بني آدم، أو من الجن، أو من الأصنام، فإن فعلتم هذا بعد اللتيا والتي فأنتم صادقون فيما نسبتموه إلي وألصقتموه بي. فلم يأتوا عند سماع هذا الكلام المنصف والتنزل البالغ بكلمة ولا نطقوا ببنت شفة، بل كاعوا عن الجواب وتشبثوا بأذيال العناد البارد والمكابرة المجردة عن الحجة، وذلك مما لا يعجز عنه مبطل.

بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ

ولهذا قال سبحانه عقب هذا التحدي البالغ 39- "بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه" فاضرب عن الكلام الأول، وانتقل إلى بيان أنهم سارعوا إلى تكذيب القرآن قبل أن يتدبروه ويفهموا معانيه وما اشتمل عليه، وهكذا صنع من تصلب في التقليد ولم يبال بما جاء به من دعا إلى الحق وتمسك بذيول الإنصاف، بل يرده بمجرد كونه لم يوافق هواه، ولا جاء على طبق دعواه قبل أن يعرف معناه ويعلم مبناه، كما تراه عياناً وتعلمه وجداناً. والحاصل أن من كذب بالحجة النيرة والبرهان الواضح قبل أن يحيط بعلمه، فهو لم يتمسك بشيء في هذا التكذيب إلا مجرد كونه جاهلاً لما كذب به غير عالم به، فكان بهذا التكذيب منادياً على نفسه بالجهل بأعلى صوت، ومسجلاً بقصوره عن تعقل الحجج بأبلغ تسجيل، وليس على الحجة ولا على من جاء بها من تكذيبه شيء: ما يبلغ الأعداء من جاهل ما يبلغ الجاهل من نفسه قوله: "ولما يأتهم تأويله" معطوف على "لم يحيطوا بعلمه" أي بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه وبما لم يأتهم تأويله، أو هذه الجملة في محل نصب على الحال: أي كذبوا به حال كونهم لم يفهموا تأويل ما كذبوا به ولا بلغته عقولهم. والمعنى: أن التكذيب منهم وقع قبل الإحاطة بعلمه، وقبل أن يعرفوا ما يؤول إليه من صدق ما اشتمل عليه من حكاية ما سلف من أخبار الرسل المتقدمين والأمم السابقين، ومن حكايات ما سيحدث من الأمور المستقبلة التي أخبر عنها قبل كونها، أو قبل أن يفهموه حق الفهم وتتعقله عقولهم، فإنهم لو تدبروه كلية التدبر لفهموه كما ينبغي، وعرفوا ما اشتمل عليه من الأمور الدالة أبلغ دلالة على أنه كلام الله، وعلى هذا فمعنى تأويله ما يؤول إليه ملن تدبره من المعاني الرشيقة واللطائف الأنيقة، وكلمة التوقع أظهر في المعنى الأول "كذلك كذب الذين من قبلهم" أي مثل ذلك التكذيب كذب الذين من قبلهم من الأمم عند أن جاءتهم الرسل بحجج الله وبراهينه، فإنهم كذبوا به قبل أن يحيطوا بعلمه، وقبل أن يأتيهم تأويله "فانظر كيف كان عاقبة الظالمين" من الأمم السالفة من سوء العاقبة بالخسف والمسخ ونحو ذلك من العقوبات التي حلت بهم كما حكى ذلك القرآن عنهم، واشتملت عليه كتب الله المنزلة عليهم.

وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ

قوله: 40- "ومنهم من يؤمن به" أي ومن هؤلاء الذين كذبوا بالقرآن من يؤمن به في نفسه ويعلم أنه صدق وحق، ولكنه كذب به مكابرة وعناداً، وقيل المراد: ومنهم من يؤمن به في المستقبل وإن كذب به في الحال، والموصول مبتدأ، وخبره منهم "ومنهم من لا يؤمن به" ولا يصدقه في نفسه، بل كذب به جهلاً كما مر تحقيقه، أو لا يؤمن به في المستقبل، بل يبقى على جحوده وإصراره، وقيل الضمير في الموضعين للنبي صلى الله عليه وسلم. وقد قيل إن هذا التقسيم خاص بأهل مكة، وقيل عام في جميع الكفار "وربك أعلم بالمفسدين" فيجازيهم بأعمالهم، والمراد بهم: المصرون المعاندون، أو بكلا الطائفتين، وهم الذين يؤمنون به في أنفسهم ويكذبون به في الظاهر، والذين يكذبون به جهلاً، أو الذين يؤمنون به في المستقبل، والذي لا يؤمنون به.

وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ

ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم إن أصروا على تكذيبه واستمروا عليه 41- "لي عملي ولكم عملكم" أي لي جزاء عملي ولكم جزاء عملكم فقد أبلغت إليكم ما أمرت بإبلاغه، وليس علي غير ذلك، ثم أكد هذا بقوله: "أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون" أي لا تؤاخذون بعملي، ولا أؤاخذ بعملكم. وقد قيل إن هذا منسوخ بآية السيف كما ذهب إليه جماعة من المفسرين. وقد أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "كذلك حقت كلمة ربك" يقول: سبقت كلمة ربك. وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك قال: صدقت. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: " أمن لا يهدي إلا أن يهدى " قال: الأوثان. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله: "وإن كذبوك فقل لي عملي" الآية، قال: أمره بهذا ثم نسخه فأمره بجهادهم.

وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ

قوله: 42- "ومنهم من يستمعون" إلخ. بين الله سبحانه في هذا أن في أولئك الكفار من بلغت حاله في النفرة والعداوة إلى هذا الحد، وهي أنهم يستمعون إلى النبي صلى الله عليه وسلم إذا قرأ القرآن وعلم الشرائع في الظاهر، ولكنهم لا يسمعون في الحقيقة لعدم حصول أثر السماع، وهو حصول القبول والعمل بما يسمعونه ولهذا قال: "أفأنت تسمع الصم" يعني أن هؤلاء وإن استمعوا في الظاهر فهم صم، والصمم مانع من سماعهم، فكيف تطمع منهم بذلك مع حصول المانع، وهو الصمم، فكيف إذا انضم إلى ذلك أنهم لا يعقلون، فإن من كان أصم غير عاقل لا يفهم شيئاً ولا يسمع ما يقال له. وجمع الضمير في يستمعون حملاً على معنى من، وأفرده في "ومنهم من ينظر" حملاً على لفظه. قيل والنكتة: كثرة المستمعين بالنسبة إلى الناظرين، لأن الاستماع لا يتوقف على ما يتوقف عليه النظر من المقاتلة وانتفاء الحائل وانفصال الشعاع، والنور الموافق لنور البصر.

وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ

والتقدير في قوله: 43- "ومنهم من يستمعون" "ومنهم من ينظر" ومنهم ناس يستمعون، ومنهم بعض ينظر، والهمزتان في "أفأنت تسمع" "أفأنت تهدي" للإنكار والفاء في الموضعين للعطف على مقدر كأنه قيل: أيستمعون إليك فأنت تسمعهم؟ أينظرون إليك فأنت تهديهم؟ والكلام في "ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون" كالكلام في "ومنهم من يستمعون" إلخ، لأن العمى مانع فكيف يطمع من صاحبه في النظر. وقد انضم إلى فقد البصر فقد البصيرة، لأن الأعمى الذي له في قلبه بصيرة قد يكون له من الحدس الصحيح ما يفهم به في بعض الأحوال فهماً يقوم مقام النظر، وكذلك الأصم العاقل قد يتحدس تحدساً يفيده بعض فائدة، بخلاف من جمع له بين عمى البصر والبصيرة فقد تعذر عليه الإدراك. وكذا من جمع له بين الصمم وذهاب العقل فقد انسد عليه باب الهدى، وجواب لو في الموضعين محذوف دل عليهما ما قبلهما، والمقصود من هذا الكلام تسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الطبيب إذا رأى مريضاً لا يقبل العلاج أصلاً أعرض عنه واستراح من الاشتغال به.

إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ

قوله: 44- "إن الله لا يظلم الناس شيئاً ولكن الناس أنفسهم يظلمون" ذكر هذا عقب ما تقدم من عدم الاهتداء بالأسماع والأبصار لبيان أن ذلك لم يكن لأجل نقص فيما خلقه الله لهم من السمع والعقل والبصر والبصيرة، بل لأجل ما صار في طبائعهم من التعصب والمكابرة للحق، والمجادلة بالباطل، والإصرار على الكفر، فهم الذين ظلموا أنفسهم بذلك، ولم يظلمهم الله شيئاً من الأشياء، بل خلقهم وجعل لهم من المشاعر ما يدركون به أكمل إدراك، وركب فيهم من الحواس ما يصلون به إلى ما يريدون، ووفر مصالحهم الدنيوية عليهم، وخلى بينهم وبين مصالحهم الدينية، فعلى نفسها براقش تجني. وقرأ حمزة والكسائي "ولكن الناس" بتخفيف النون ورفع الناس، وقرأ الباقون بتشديدها ونصب الناس. قال النحاس: زعم جماعة من النحويين منهم الفراء، أن العرب إذا قالت ولكن بالواو شددوا النون، وإذا حذفوا الواو خففوها. قيل: والنكتة في وضع الظاهر موضع المضمر زيادة التعيين والتقرير، وتقديم المفعول على الفعل لإفادة القصر، أو لمجرد الاهتمام مع مراعاة الفاصلة.

وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ

قوله: 45- "ويوم نحشرهم" الظرف منصوب بمضمر: أي واذكر يوم نحشرهم "كأن لم يلبثوا" أي كأنهم لم يلبثوا، والجملة في محل نصب على الحال: أي مشبهين من لم يلبث "إلا ساعة من النهار" أي شيئاً قليلاً منه، والمراد باللبث هو اللبث في الدنيا، وقيل في القبور، استقلوا المدة الطويلة إما لأنهم ضيعوا أعمارهم في الدنيا، فجعلوا وجودها كالعدم، أو استقصروها للدهش والحيرة، أو لطول وقوفهم في المحشر، أو لشدة ما هم فيه من العذاب نسوا لذات الدنيا وكأنها لم تكن، ومثل هذا قولهم: "لبثنا يوماً أو بعض يوم" وجملة "يتعارفون بينهم" في محل نصب على الحال، أو مستأنفة. والمعنى: يعرف بعضهم بعضاً كأ،هم لم يتفارقوا إلا قليلاً، وذلك عند خروجهم من القبور، ثم تنقطع التعاريف بينهم لما بين أيديهم من الأمور المدهشة للعقول المذهلة للأفهام. وقيل: إن هذا التعارف هو تعارف التوبيخ والتقريع، يقول بعضهم لبعض: أنت أضللتني وأغويتني لا تعارف شفقة ورأفة كما قال تعالى: "ولا يسأل حميم حميماً" وقوله: "فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون" فيجمع بأن المراد بالتعارف، هو تعارف التوبيخ، وعليه يحمل قوله: "ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول"، وقد جمع بين الآيات المختلفة في مثل هذا وغيره بأن المواقف يوم القيامة مختلفة فقد يكون في بعض المواقف ما لا يكون في الآخر "قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين" هذا تسجيل من الله سبحانه عليهم بالخسران، والجملة في محل النصب على الحال، والمراد بلقاء الله يوم القيامة عند الحساب والجزاء، ونفى عنهم أن يكونوا من جنس المهتدين لجهلهم وعدم طلبهم لما ينجيهم وينفعهم.

وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ

قوله: 46- "وإما نرينك بعض الذي نعدهم" أصله إن نرك وما مزيدة لتأكيد معنى الشرط وزيدت نون التأكيد، والمعنى إن حصلت منا الإراءة لك بعض الذي وعدناهم من إظهار دينك في حياتك بقتلهم وأسرهم، وجواب الشرط محذوف، والتقدير فتراه، أو فذاك، وجملة "أو نتوفينك" معطوفة على ما قبلها، والمعنى: أو لا نرينك ذلك في حياتك بل نتوفينك قبل ذلك "فإلينا مرجعهم" فعند ذلك نعذبهم في الآخرة فنريك عذابهم فيها، وجواب "أو نتوفينك" محذوف أيضاً، والتقدير: أو نتوفينك قبل الإراءة فنحن نريك ذلك في الآخرة، وقيل: إن جواب "أو نتوفينك" هو قوله: "فإلينا مرجعهم" لدلالته على ما هو المراد من إراءة النبي صلى الله عليه وسلم تعذيبهم في الآخرة، وقيل: العدول إلى صيغة المستقبل في الموضعين لاستحضار الصورة، والأصل أريناك أو توفيناك، وفيه نظر فإن إراءته صلى الله عليه وسلم لبعض ما وعد الله المشركين من العذاب لم تكن قد وقعت كالوفاة. وحاصل معنى هذه الآية: إن لم ننتقم منهم عاجلاً انتقمنا منهم آجلاً. وقد أراه الله سبحانه قتلهم وأسرهم وذلهم وذهاب عزهم وانكسار سورة كبرهم بما أصابهم به في يوم بدر وما بعده من المواطن، فلله الحمد. قوله: "ثم الله شهيد على ما يفعلون" جاء بثم الدالة على التبعيد مع كون الله سبحانه شهيداً على ما يفعلونه في الدارين للدلالة على أن المراد بهذه الأفعال ما يترتب عليها من الجزاء أو ما يحصل من إنطاق الجوارح بالشهادة عليهم يوم القيامة، فجعل ذلك بمنزلة شهادة الله عليهم كما ذكره النيسابوري.

وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ

47- "ولكل أمة" من الأمم الخالية في وقت من الأوقات "رسول" يرسله الله إليهم، ويبين لهم ما شرعه الله لهم من الأحكام على حسب ما تقتضيه المصلحة "فإذا جاء رسولهم" إليهم وبلغهم ما أرسله الله به فكذبوه جميعاً " قضي بينهم " أي بين الأمة ورسولها "بالقسط" أي العدل فنجا الرسول وهلك المكذبون له كما قال سبحانه: "وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً" ويجوز أن يراد بالضمير في بينهم الأمة على تقدير أنه كذبه بعضهم وصدقه البعض الآخر، فيهلك المكذبون وينجو المصدقون "وهم لا يظلمون" في ذلك القضاء فلا يعذبون بغير ذنب، ولا يؤاخذون بغير حجة، ومنه قوله تعالى: " وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم " وقوله: "فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد" والمراد بالمبالغة في إظهار العدل والنصفة بين العباد.

وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ

ثم ذكر سبحانه شبهة أخرى من شبه الكفار، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان كلما هددهم بنزول العذاب كانوا 48- "يقولون متى هذا الوعد" والاستفهام منهم للإنكار والاستبعاد وللقدح في النبوة "إن كنتم صادقين" خطاباً منهم للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، وجواب الشرط محذوف يدل عليه ما قبله، ويحتمل أن يراد بالقائلين هذه المقالة جميع الأمم الذين لم يسلموا لرسلهم الذين أرسلهم الله إليهم.

قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ

ثم أمر الله سبحانه رسوله أن يجيب عليهم بما يحسم مادة الشبهة ويقطع اللجاج فقال: 49- "قل لا أملك لنفسي ضراً ولا نفعاً" أي لا أقدر على جلب نفع لها ولا دفع ضر عنها، فكيف أقدر على أن أملك ذلك لغيري، وقدم الضر، لأن السياق لإظهار العجز عن حضور الوعد الذي استعجلوه واستبعدوه، والاستثناء في قوله: "إلا ما شاء الله" منقطع كما ذكره أئمة التفسير: أي ولكن ما شاء الله من ذلك كان، فكيف أقدر على أن أملك لنفسي ضراً أو نفعاً. وفي هذه أعظم واعظ وأبلغ زاجر لمن صار ديدنه وهجيراه المناداة لرسول الله صلى الله عليه وسلم والاستغاثة به عند نزول النوازل التي لا يقدر على دفعها إلا الله سبحانه، وكذلك من صار يطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم ما لا يقدر على تحصيله إلا الله سبحانه، فإن هذا مقام رب العالمين الذي خلق الأنبياء والصالحين وجميع المخلوقين ورزقهم وأحياهم ويميتهم، فكيف يطلب من نبي من الأنبياء أو ملك من الملائكة أو صالح من الصالحين ما هو عاجز عنه غير قادر عليه ويترك الطلب لرب الأرباب القادر على كل شيء الخالق الرازق المعطي المانع؟ وحسبك بما في هذه الآية موعظة، فإن هذا سيد ولد آدم وخاتم الرسل يأمره الله بأن يقول لعباده: لا أملك لنفسي ضراً ولا نفعاً، فكيف يملكه لغيره، وكيف يملكه غيره ممن رتبته دون رتبته ومنزلته لا تبلغ إلى منزلته لنفسه فضلاً عن أن يملكه لغيره، فيا عجباً لقوم يعكفون على قبور الأموات الذين قد صاروا تحت أطباق الثرى، ويطلبون منهم من الحوائج ما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل؟ كيف لا يتيقظون لما وقعوا فيه من الشرك ولا يتنبهون لما حل بهم من المخالفة لمعنى لا إله إلا الله، ومدلول "قل هو الله أحد"؟ وأعجب من هذا اطلاع أهل العلم على ما يقع من هؤلاء ولا ينكرون عليهم ولا يحولون بينهم وبين الرجوع إلى الجاهلية الأولى، بل إلى ما هو أشد منها فإن أولئك يعترفون بأن الله سبحانه هو الخالق الرازق المحيي المميت الضار النافع، وإنما يجعلون أصنامهم شفعاء لهم عند الله ومقربين لهم إليه، وهؤلاء يجعلون لهم قدرة على الضر والنفع، وينادونهم تارة على الاستقلال، وتارة مع ذي الجلال، وكفاك من شر سماعه والله ناصر دينه ومطهر شريعته من أوضار الشرك وأدناس الكفر، ولقد توسل الشيطان أخزاه الله بهذه الذريعة إلى ما تقر به عينه وينثلج به صدره من كفر كثير من هذه الأمة المباركة "وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً" "إنا لله وإنا إليه راجعون". ثم بين سبحانه أن لكل طائفة حداً محدوداً لا يتجاوزونه فلا وجه لاستعجال العذاب فقال: "لكل أمة أجل" فإذا جاء ذلك الوقت أنجز وعده وجازى كلاً بما يستحقه، والمعنى: أن لكل أمة ممن قضى بينهم وبين رسولهم، أو بين بعضهم البعض أجلاً معيناً ووقتاً خاصاً يحل بهم ما يريده الله سبحانه لهم عند حلوله "إذا جاء أجلهم" أي ذلك الوقت المعين، والضمير راجع إلى كل أمة "فلا يستأخرون" عن ذلك الأجل المعين "ساعة" أي شيئاً قليلاً من الزمان "ولا يستقدمون" عليه، وجملة لا يستقدمون معطوفة على جملة لا يستأخرون، ومثله قوله تعالى: "ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون" والكلام على هذه الآية المذكورة هنا قد تقدم في تفسير الآية التي في أول الأعراف فلا نعيده. وقد أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الحسن في قوله: "يتعارفون بينهم" قال: يعرف الرجل صاحبه إلى جنبه لا يستطيع أن يكلمه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "وإما نرينك" الآية، قال: سوء العذاب في حياتك "أو نتوفينك" قبل "فإلينا مرجعهم" وفي قوله: "ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم" قال: يوم القيامة.

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ

قوله: 50- "قل أرأيتم إن أتاكم عذابه" هذا منه سبحانه تزييف لرأي الكفار في استعجال العذاب بعد التزييف الأول: أي أخبروني إن أتاكم عذاب الله "بياتاً" أي وقت بيات، والمراد به الوقت الذي يبيتون فيه وينامون ويغفلون عن التحرز، والبيات بمعنى التبييت اسم مصدر كالسلام بمعنى التسليم، وهو منتصب على الظرفية، وكذلك نهاراً: أي وقت الاشتغال بطلب المعاش والكسب، والضمير في منه راجع إلى العذاب، وقيل: راجع إلى الله، والاستفهام في "ماذا يستعجل منه المجرمون" للإنكار المتضمن للنهي كما في قوله: "أتى أمر الله فلا تستعجلوه" ووجه الإنكار عليهم في استعجالهم أن العذاب مكروه تنفر منه القلوب وتأباه الطبائع فما المقتضى لاستعجالهم له؟ والجملة المصدرة بالاستفهام جواب الشرط بحذف الفاء، وقيل: إن الجواب محذوف، والمعنى: تندموا على الاستعجال، أو تعرفوا الخطأ منكم فيه، وقيل: إن الجواب قوله: "أثم إذا ما وقع" وتكون جملة "ماذا يستعجل منه المجرمون" اعتراضاً، والمعنى: إن أتاكم عذبه آمنتم به بعد وقوعه حين لا ينفعكم الإيمان. والأول أولى. وإنما قال يستعجل منه المجرمون ولم يقل يستعجلون منه للدلالة على ما يوجب ترك الاستعجال، وهو الإجرام، لأن من حق المجرم أن يخاف من العذاب بسبب إجرامه، فكيف يستعجله؟ كما يقال لمن يستوخم أمراً إذا طلبه: ماذا تجني على نفسك. وحكى النحاس عن الزجاج أن الضمير في "منه" إن عاد إلى العذاب كان لك في "ماذا" تقديران: أحدهما: أن تكون ما في موضع رفع بالابتداء، وذا بمعنى الذي، وهو خبر ما، والعائد محذوف. والتقدير الآخر: أن يكون "ماذا" إسماً واحداً في موضع رفع بالابتداء، والخبر ما بعده، وإن جعل الضمير في "منه" عائداً إلى الله تعالى كان "ماذا" شيئاً واحداً في موضع نصب بيستعجل، والمعنى: أي شيء يستعجل منه المجرمون: أي من الله عز وجل.

أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آَمَنْتُمْ بِهِ آَلْآَنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ

ودخول الهمزة الاستفهامية في 51- "أثم إذا ما وقع آمنتم به" على ثم كدخولها على الواو والفاء، وهي لإنكار إيمانهم حيث لا ينفع الإيمان وذلك بعد نزول العذاب، وهو يتضمن معنى التهويل عليهم وتفظيع ما فعلوه في غير وقته مع تركهم له في وقته الذي يحصل به النفع والدفع، وهذه الجملة داخلة تحت القول المأمور به وجيء بكلمة ثم التي للتراخي دلالة على الاستبعاد، وجيء بإذا مع زيادة ما للتأكيد دلالة على تحقق وقوع الإيمان منهم في غير وقته ليكون في ذلك زيادة استجهال لهم. والمعنى: أبعد ما وقع عذاب الله عليكم، وحل بكم سخطه وانتقامه آمنتم حين لا ينفعكم هذا الإيمان شيئاً، ولا يدفع عنكم ضراً، وقيل: إن هذه الجملة ليست داخلة تحت القول المأمور به، وأنها من قول الملائكة استهزاء بهم، وإزراء عليهم. والأول أولى. وقيل: إن ثم هاهنا هي بفتح الثاء فتكون ظرفية بمعنى هناك. والأول أولى. قوله: "آلآن وقد كنتم به تستعجلون" قيل: هو استئناف بتقدير القول غير داخل تحت القول الذي أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقوله لهم: أي قيل لهم عند إيمانهم بعد وقوع العذاب: آلآن آمنتم به وقد كنتم به تستعجلون: أي بالعذاب تكذيباً منكم واستهزاء، لأن استعجالهم كان على جهة التكذيب والاستهزاء، ويكون المقصود بأمره صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم هذا القول التوبيخ لهم والاستهزاء بهم والإزراء عليهم، وجملة "وقد كنتم به تستعجلون" في محل نصب على الحال، وقرئ آلآن بحذف الهمزة التي بعد اللام وإلقاء حركتها على اللام.

ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ

قوله: 52- "ثم قيل للذين ظلموا ذوقوا عذاب الخلد" معطوف على الفعل المقدر، قيل: آلآن، والمراد منه: التقريع والتوبيخ لهم: أي قيل للذين ظلموا أنفسهم بالكفر وعدم الإيمان: إن هذا الذي تطلبونه ضرر محض، عار عن النفع من كل وجه، والعاقل لا يطلب ذلك. ويقال لهم على سبيل الإهانة لهم: ذوقوا عذاب الخلد: أي العذاب الدائم الذي لا ينقطع، والقائل لهم هذه المقالة والتي قبلها قيل: هم الملائكة الذين هم خزنة جهنم، ولا يبعد أن يكون القائل لذلك هم الأنبياء على الخصوص، أو المؤمنون على العموم "هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون" في الحياة من الكفر والمعاصي، والاستفهام للتقرير، وكأنه يقال لهم هذا القول عن استغاثتهم من العذاب وحلول النقمة.

وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ

ثم حكى الله سبحانه عنهم بعد هذه البيانات البالغة، والجوابات عن أقوالهم الباطلة: أنهم استفهموا تارة أخرى عن تحقق العذاب، فقال: 53- "ويستنبئونك أحق هو" أي يستخبرونك عن جهة الاستهزاء منهم والإنكار أحق ما تعدنا به من العذاب في العاجل والآجل، وهذا السؤال منهم جهل محض، وظلمات بعضها فوق بعض، فقد تقدم ذكره عنهم مع الجواب عليه، فصنيعهم في هذا التكرير صنيع من لا يعقل ما يقول ولا ما يقال له، وقيل: المراد بهذا الاستخبار منهم هو عن حقية القرآن، وارتفاع حق على أنه خبر مقدم، والمبتدأ هو الضمير الذي بعده، وتقديم الخبر للاهتمام، أو هو مبتدأ، والضمير مرتفع به ساد مسد الخبر، والجملة في موضع نصب بيستنبئونك، وقرئ آلحق هو على أن اللام للجنس، فكأنه قيل: أهو الحق لا الباطل. قوله: "قل إي وربي إنه لحق" أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم هذه المقالة جواباً عن استفهامهم الخارج مخرج الاستهزاء: أي قل لهم يا محمد غير ملتفت إلى ما هو مقصودهم من الاستهزاء: "إي وربي إنه لحق": أي نعم وربي إن ما أعدكم به من العذاب لحق ثابت كائن لا محالة. وفي هذا الجواب تأكيد من وجوه: الأول: القسم مع دخول الحرف الخاص بالقسم الواقع موقع نعم، الثاني: دخول إن المؤكدة، الثالث: اللام في لحق، الرابع: إسمية الجملة، وذلك يدل على أنهم قد بلغوا في الإنكار والتمرد إلى الغاية التي ليس وراءها غاية، ثم توعدهم بأشد توعد، ورهبهم بأعظم ترهيب، فقال: "وما أنتم بمعجزين" أي فائتين العذاب بالهرب والتحيل الذي لا ينفع والمكابرة التي لا تدفع من قضاء الله شيئاً، وهذه الجملة إما معطوفة على جملة جواب القسم، أو مستأنفة لبيان عدم خلوصهم من عذاب الله بوجه من الوجوه.

وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ

ثم زاد في التأكيد، فقال: 54- "ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به" أي ولو أن لكل نفس من الأنفس المتصفة بأنها ظلمت نفسها بالكفر بالله وعدم الإيمان به ما في الأرض من كل شيء من الأشياء التي تشتمل عليها من الأموال النفيسة والذخائر الفائقة لافتدت به: أي جعلته فدية لها من العذاب، ومثله قوله تعالى: " إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به " وقد تقدم. قوله: "وأسروا الندامة لما رأوا العذاب" الضمير راجع إلى الكفار الذين سياق الكلام معهم، وقيل: راجع إلى الأنفس المدلول عليها بكل نفس. ومعنى أسروا: أخفوا: أي لم يظهروا الندامة بل أخفوها لما قد شاهدوه في ذلك الموطن مما سلب عقولهم، وذهب بتجلدهم، ويمكن أنه بقي فيهم وهم على تلك الحالة عرق ينزعهم إلى العصبية التي كانوا عليها في الدنيا، فأسروا الندامة لئلا يشمت بهم المؤمنون، وقيل: أسرها الرؤساء فيما بينهم دون أتباعهم خوفاً من توبيخهم لهم لكونهم هم الذين أضلوهم وحالوا بينهم وبين الإسلام، ووقوع هذا منهم كان عند رؤية العذاب، وأما بعد الدخول فيه فهم الذين "قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا" وقيل: معنى أسروا: أظهروا، وقيل: وجدوا ألم الحسرة في قلوبهم، لأن الندامة لا يمكن إظهارها، ومنه قول كثير: فأسررت الندامة يوم نادى برد جمال عاضرة المنادى وذكر المبرد في ذلك وجهين: الأول: أنها بدت في وجوههم أسرة الندامة، وهي الإنكسار، واحدها سرار، وجمعها أسارير، والثاني: ما تقدم، وقيل معنى "أسروا الندامة" أخلصوها، لأن إخفاءها إخلاصها، و "لما" في قوله: "لما رأوا العذاب" ظرف بمعنى حين منصوب بـ أسروا، أو حرف شرط جوابه محذوف لدلالة ما قبله عليه "وقضي بينهم بالقسط" أي قضى الله بين المؤمنين وبين الكافرين أو بين الرؤساء والأتباع، أو بين الظالمين من الكفار والمظلومين، وقيل: معنى القضاء بينهم: إنزال العقوبة عليهم، والقسط: العدل، وجملة "وهم لا يظلمون" في محل نصب على الحال: أي لا يظلمهم الله فيما فعل بهم من العذاب الذي حل بهم فإنه بسبب ما كسبوا.

أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ

وجملة 55- "ألا إن لله ما في السموات والأرض" مسوقة لتقرير كمال قدرته لأن من ملك ما في السموات والأرض تصرف به كيف يشاء، وغلب غير العقلاء لكونهم أكثر المخلوقات. قيل: لما ذكر سبحانه افتداء الكفار بما في الأرض لو كان لهم ذلك بين أن الأشياء كلها لله، وليس لهم شيء يتمكنون من الافتداء به، وقيل: لما أقسم على حقية ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يصحب ذلك بدليل البرهان البين بأن ما في العالم على اختلاف أنواعه ملكه يتصرف به كيف يشاء، وفي تصدير الجملة بحرف التنبيه تنبيه للغافلين، وإيقاظ للذاهلين، ثم أكد ما سبق بقوله: "ألا إن وعد الله حق" أي كائن لا محالة، وهو عام يندرج فيه ما استعجلوه من العذاب اندراجاً أولياً، وتصدير الجملة بحرف التنبيه كما قلنا في التي قبلها مع الدلالة على تحقق مضمون الجملتين "ولكن أكثر الناس" أي الكفار "لا يعلمون" ما فيه صلاحهم فيعملون به، وما فيه فسادهم فيجتنبونه.

هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ

56- "هو يحيي ويميت" يهب الحياة ويسلبها "وإليه ترجعون" في الدار الآخرة فيجازي كلاً بما يستحقه، ويتفضل على من يشاء من عباده.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ

قوله: 57- "يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم" يعني القرآن فيه ما يتعظ به من قرأه وعرف معناه، والوعظ في الأصل: هو التذكير بالعواقب سواء كان بالترغيب أو الترهيب، والواعظ هو كالطبيب ينهى المريض عما يضره، ومن في "من ربكم" متعلقة بالفعل، وهو جاءتكم، فتكون ابتدائية، أو متعلقة بمحذوف، فتكون تبعيضية "وشفاء لما في الصدور" من الشكوك التي تعتري بعض المرتابين لوجود ما يستفاد منه فيه من العقائد الحقة، واشتماله على تزييف العقائد الباطلة، والهدى: الإرشاد لمن اتبع القرآن وتفكر فيه وتدبر معانيه إلى الطريق الموصلة إلى الجنة، والرحمة: هي ما يوجد في الكتاب العزيز من الأمور التي يرحم الله بها عباده، فيطلبها من أراد ذلك حتى ينالها، فالقرآن العظيم مشتمل على هذه الأمور.

قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ

ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل الخطاب معه بعد خطابه للناس على العموم، فقال: 58- "قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا" المراد بالفضل من الله سبحانه: هو تفضله على عباده في الآجل والعاجل بما لا يحيط به الحصر، والرحمة: رحمته لهم. وروي عن ابن عباس أنه قال فضل الله: القرآن، ورحمته: الإسلام. وروي عن الحسن والضحاك ومجاهد وقتادة أن فضل الله: الإيمان، ورحمته: القرآن. والأولى: حمل الفضل والرحمة على العموم، ويدخل في ذلك ما في القرآن منهما دخولاً أولياً، وأصل الكلام: قل بفضل الله وبرحمته فليفرحوا، ثم حذف هذا الفعل لدلالة الثاني في قوله: "فبذلك فليفرحوا" عليه، قيل: والفاء في هذا الفعل المحذوف داخلة في جواب شرط مقدر كأنه قيل: إن فرحوا بشيء فليخصوا فضل الله ورحمته بالفرح. وتكرير الباء في برحمته للدلالة على أن كل واحد من الفضل والرحمة سبب مستقل في الفرح، والفرح: هو اللذة في القلب بسبب إدراك المطلوب، وقد ذم الله سبحانه الفرح في مواطن كقوله: "لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين" وجوزه في قوله: "فرحين بما آتاهم الله من فضله" وكما في هذه الآية، ويجوز أن تتعلق الباء في "بفضل الله وبرحمته" بقوله: "جاءتك"، والتقدير: جاءتكم موعظة بفضل الله وبرحمته فبذلك: أي فبمجيئها فليفرحوا، وقرأ يزيد بن القعقاع ويعقوب فلتفرحوا بالفوقية، وقرأ الجمهور بالتحتية، والضمير في هو خير راجع إلى المذكور من الفضل والرحمة، أو إلى المجيء على الوجه الثاني، أو إلى اسم الإشارة في قوله: "فبذلك" والمعنى: أن هذا خير لهم مما يجمعونه من حطام الدنيا. وقد قرئ بالتاء الفوقية في "يجمعون" مطابقة للقراءة بها في " ولا تفرحوا ". وقد تقرر في العربية أن لام الأمر تحذف مع الخطاب إلا في لغة قليلة جاءت هذه القراءة عليها، وقرأ الجمهور بالمثناة التحتية في يجمعون كما قرأوا في "فليفرحوا". وروي عن ابن عامر أنه قرأ بالفوقية في "يجمعون"، والتحتية في " فليفرحوا ". وقد أخرج الطبراني وأبو الشيخ عن أبي الأحوص قال: جاء رجل إلى عبد الله بن مسعود فقال: إن أخي يشتكي بطنه، فوصف له الخمر، فقال: سبحانه الله! ما جعل الله في رجس شفاء، إنما الشفاء في شيء من القرآن والعسل، فهما شفاء لما في الصدور وشفاء للناس. وأخرج أبو الشيخ عن الحسن قال: "إن الله جعل القرآن شفاء لما في الصدور، ولم يجعله شفاء لأمراضكم". وأخرج ابن المنذر وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال: "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني أشتكي صدري، فقال:إقرأ القرآن، يقول الله: شفاء لما في الصدور". وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن واثلة بن الأسقع "أن رجلاً شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وجع حلقه قال: عليك بقراءة القرآن والعسل، فالقرآن شفاء لما في الصدور، والعسل شفاء من كل داء". وأخرج أبو داود والحاكم وصححه وابن مردويه عن أبي قال: أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتاء يعني الفوقية، وقد روي نحو هذا من غير هذه الطريق. وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قل بفضل الله وبرحمته" قال: "بفضل الله القرآن، وبرحمته أن جعلكم من أهله". وأخرج الطبراني في الأوسط عن البراء مثله من قوله. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي في الشعب عن أبي سعيد الخدري مثله. وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر والبيهقي عن ابن عباس في الآية قال: بكتاب الله وبالإسلام. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عنه قال: فضله الإسلام، ورحمته القرآن. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عنه أيضاً قال: بفضل الله القرآن، وبرحمته حين جعلهم من أهله. وقد روي عن جماعة من التابعين نحو هذه الروايات المتقدمة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس هو خير مما يجمعون من الأموال والحرث والأنعام.

قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آَللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ

أشار سبحانه بقوله: 59- "قل أرأيتم ما أنزل الله" إلخ إلى طريق أخرى غير ما تقدم في إثبات النبوة، وتقرير ذلك ما حاصله أنكم تحكمون بتحليل البعض وتحريم البعض، فإن كان بمجرد التشهي والهوى فهو مهجور باتفاق العقلاء مسلمهم وكافرهم، وإن كان لاعتقادكم أنه حكم الله فيكم وفيما رزقكم فلا تعرفون ذلك إلا بطريق موصلة إلى الله، ولا طريق يتبين بها الحلال من الحرام إلا من جهة الرسل الذين أرسلهم الله إلى عباده، ومعنى أرأيتم: أخبروني و "ما" في محل نصب بأرأيتم المتضمن لمعنى أخبروني. وقيل: إن ما في محل الرفع بالابتداء وخبرها "آلله أذن لكم" و قل في قوله: "قل آلله أذن لكم" تكرير للتأكيد والرابط محذوف، ومجموع المبتدأ والخبر في محل نصب بأرأيتم، والمعنى: أخبروني الذي أنزل الله إليكم من رزق فجعلتم منه حراماً وحلالاً، آلله أذن لكم في تحليله وتحريمه "أم على الله تفترون" وعلى الوجهين، فمن في منه حراماً للتبعيض، والتقدير: فجعلتم بعضه حراماً وجعلتم بعضه حلالاً وذلك كما كانوا يفعلونه في الأنعام حسبما سبق حكاية ذلك عنهم في الكتاب العزيز، ومعنى إنزال الرزق: كون المطر ينزل من جهة العلو، وكذلك يقضي الأمر في أرزاق العباد في السماء على ما قد ثبت في اللوح المحفوظ من ذكره سبحانه وتعالى لكل شيء فيه. وروي عن الزجاج أن ما في موضع نصب بأنزل، وأنزل بمعنى خلق كما قال: "وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج" "وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد" وعلى هذا القول والقول الأول يكون قوله: "قل آلله أذن لكم" مستأنفاً، قيل: ويجوز أن تكون الهمزة في "آلله أذن لكم" للإنكار، وأم منقطعة بمعنى: بل أتفترون على الله، وإظهار الاسم الشريف وتقديمه على الفعل للدلالة على كمال الافتراء. وفي هذه الآية الشريفة ما يصك مسامع المتصدرين للإفتاء لعباد الله في شريعته، بالتحليل والتحريم والجواز وعدمه، مع كونهم من المقلدين الذين لا يعقلون حجج الله، ولا يفهمونها ولا يدرون ما هي، ومبلغهم من العلم الحكاية لقول قائل من هذه الأمة قد قلدوه في دينهم، وجعلوه شارعاً مستقلاً، ما عمل به من الكتاب والسنة فهو المعمول به عندهم، وما لم يبلغه أو بلغه ولم يفهمه حق فهمه، أو فهمه وأخطأ الصواب في اجتهاده وترجيحه، فهو في حكم المنسوخ عندهم المرفوع حكمه عن العباد، مع كون من قلدوه متعبداً بهذه الشريعة كما هم متعبدون بها ومحكوماً عليه بأحكامها كما هو محكوم عليهم بها، وقد اجتهد رأيه وأدى ما عليه، وفاز بأجرين مع الإصابة وأجر مع الخطأ، إنما الشأن في جعلهم لرأيه الذي أخطأ فيه شريعة مستقلة، ودليلاً معمولاً به، وقد أخطأوا في هذا خطأ بيناً، وغلطوا غلطاً فاحشاً، فإن الترخيص للمجتهد في اجتهاد رأيه يخصه وحده، ولا قائل من أهل الإسلام المعتد بأقوالهم أنه يجوز لغيره أن يعمل به تقليداً له واقتداء به، وما جاء به المقلدة في تقوم هذا الباطل، فهو من الجهل العاطل، اللهم كما رزقتنا من العلم ما نميز به بين الحق والباطل، فارزقنا من الإنصاف ما نظفر عنده بما هو الحق عندك يا واهب الخير.

وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ

ثم قال: 60- "وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة" أي أي شيء ظنهم في هذا اليوم، وما يصنع بهم فيه، وهذه الجملة الاستفهامية المتضمنة لتعظيم الوعيد لهم غير داخلة تحت القول الذي أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقوله لهم، بل مبتدأة مسوقة لبيان ما سيحل بهم من عذاب الله، و يوم القيامة منصوب بالظن، وذكر الكذب بعد الافتراء، مع أن الافتراء لا يكون إلا كذباً لزيادة التأكيد. وقرأ عيسى بن عمر وما ظن على أنه فعل "إن الله لذو فضل على الناس" يتفضل عليهم بأنواع النعم في الدنيا والآخرة "ولكن أكثرهم لا يشكرون" الله على نعمه الواصلة إليهم منه سبحانه في كل وقت من الأوقات، وطرفة من الطرفات.

وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآَنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَل

قوله: 61- "وما تكون في شأن" الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وما نافية. والشأن: الأمر بمعنى القصد، وأصله الهمز، وجمعه شؤون. قال الأخفش: تقول العرب: ما شأنت شأنه: أي ما عملت عمله " وما تتلوا منه من قرآن ". قال الفراء والزجاج: الضمير في منه يعود على الشأن، والجار والمجرور صفة لمصدر محذوف: أي تلاوة كائنة منه، إذ التلاوة للقرآن من أعظم شؤونه صلى الله عليه وسلم، والمعنى: أنه يتلو من أجل الشأن الذي حدث القرآن فيعلم كيف حكمه، أو يتلو القرآن الذي ينزل في ذلك الشأن. وقال ابن جرير الطبري: الضمير عائد في منه إلى الكتاب: أي ما يكون من كتاب الله من قرآن، وأعاده تفخيماً له كقوله: "إنني أنا الله" والخطاب في "ولا تعملون من عمل" لرسول الله وللأمة، وقيل الخطاب لكفار قريش " إلا كنا عليكم شهودا " استثناء مفرغ من أعم الأحوال للمخاطبين: أي شهوداً عليكم بعمله منكم، والضمير. في فيه من قوله: "تفيضون فيه" عائد على العمل، يقال: أفاض فلان في الحديث والعمل: إذا اندفع فيه. وقال الضحاك: الضمير في فيه عائد على القرآن، والمعنى: إذ تشيعون في القرآن الكذب. قوله: "وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء". قرأ الكسائي يعزب بكسر الزاي، وقرأ الباقون بالضم وهما لغتان فصيحتان، ومعنى يعزب: يغيب، وقيل يبعد. وقال ابن كيسان: يذهب، وهذه المعاني متقاربة، ومن في "من مثقال" زائدة للتأكيد: أي وما يغيب عن ربك وزن ذرة: أي نملة حمراء، وعبر بالأرض والسماء مع أنه سبحانه لا يغيب عنه شيء لا فيهما ولا فيما هو خارج عنهما، لأن الناس لا يشاهدون سواهما وسوى ما فيهما من المخلوقات، وقدم الأرض على السماء لأنها محل استقرار العالم فهم يشاهدون ما فيها من قرب، والواو في "ولا أصغر من ذلك ولا أكبر" للعطف على لفظ مثقال، وانتصبا لكونهما ممتنعين، ويجوز أن يكون العطف على ذرة، وقيل: انتصابهما بلا التي لنفي الجنس، والواو للاستئناف، وليس من متعلقات وما يعزب، وخبر لا "إلا في كتاب" والمعنى: ولا أصغر من مثقال الذرة ولا أكبر منه إلا وهو في كتاب مبين فكيف يغيب عنه؟ وقرأ يعقوب وحمزة برفع أصغر وأكبر، ووجه ذلك أنه معطوف على محل من مثقال، ومحله الرفع، وقد أورد على توجيه النصب والرفع على العطف على لفظ مثقال ومحله، أو على لفظ ذرة إشكال، وهو أنه يصير تقدير الآية: لا يعزب عنه شيء في الأرض ولا في السماء إلا في كتاب، ويلزم منه أن يكون ذلك الشيء الذي في الكتاب خارجاً عن علم الله وهو محال. وقد أجيب عن هذا الإشكال بأن الأشياء المخلوقة قسمان: قسم أوجده الله ابتداء من غير واسطة كخلق الملائكة والسموات والأرض، وقسم آخر أوجده بواسطة القسم الأول من حوادث عالم الكون والفساد، ولا شك أن هذا القسم الثاني متباعد في سلسلة العلية عن مرتبة الأول، فالمراد من الآية أنه لا يبعد عن مرتبة وجوده سبحانه شيء في الأرض ولا في السماء إلا وهو في كتاب مبين أثبت فيه صورة تلك المعلومات، والغرض الرد على من يزعم أنه غير عالم بالجزئيات. وأجيب أيضاً بأن الاستثناء منقطع: أي لكن هو في كتاب مبين. وذكر أبو علي الجرجاني أن إلا بمعنى الواو، على أن الكلام قد تم عند قوله: "ولا أكبر" ثم وقع الابتداء بقوله: "إلا في كتاب مبين" أي وهو أيضاً في كتاب مبين. والعرب قد تضع إلا موضع الواو، ومنه قوله تعالى: " إني لا يخاف لدي المرسلون * إلا من ظلم " يعني ومن ظلم، وقوله: "لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا" أي والذي ظلموا، وقدر هو بعد الواو التي جاءت إلا بمعناها كما في قوله: "وقولوا حطة" أي هي حطة، ومثله "ولا تقولوا ثلاثة" "وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين". وقال الزجاج: إن الرفع على الابتداء في قراءة من قرأ بالرفع، وخبره "إلا في كتاب" واختاره صاحب الكشاف، واختار في قراءة النصب التي قرأ بها الجمهور أنهما منصوبان بلا التي لنفي الجنس، واستشكل العطف بنحو ما قدمنا.

أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ

ثم لما بين سبحانه إحاطته بجميع الأشياء، وكان في ذلك تقوية لقلوب المطيعين، وكسر لقلوب العاصين ذكر حال المطيعين، فقال: 62- "ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون" الولي في اللغة: القريب. والمراد بأولياء الله: خلص المؤمنين كأنهم قربوا من الله سبحانه بطاعته واجتناب معصيته.

الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ

وقد فسر سبحانه هؤلاء الأولياء بقوله: 63- "الذين آمنوا وكانوا يتقون" أي يؤمنون بما يجب الإيمان به، ويتقون ما يجب عليهم اتقاؤه من معاصي الله سبحانه، والمراد بنفي الخوف عنهم أنهم لا يخافون أبداً كما يخاف غيرهم، لأنهم قد قاموا بما أوجب الله عليهم، وانتهوا عن المعاصي التي نهاهم عنها، فهم على ثقة من أنفسهم وحسن ظن بربهم، وكذلك لا يحزنون على فوت مطلب من المطالب، لأنهم يعلمون أن ذلك بقضاء الله وقدره فيسلمون للقضاء والقدر، ويريحون قلوبهم عن الهم والكدر، فصدورهم منشرحة، وجوارحهم نشطة، وقلوبهم مسرورة، ومحل الموصول النصب على أنه بدل من أولياء أو الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، أو هو مبتدأ وخبره لهم البشرى، فيكون غير متصل بما قبله، أو النصب أيضاً على المدح أو على أنه وصف لأولياء.

لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ

قوله: 64- "لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة" تفسير لمعنى كونهم أولياء الله: أي لهم البشرى من الله ما داموا في الحياة بما يوحيه إلى أنبيائه، وينزله في كتبه، من كون حال المؤمنين عنده هو إدخالهم الجنة ورضوانه عنهم، كما وقع كثير من البشارات للمؤمنين في القرآن الكريم، وكذلك ما يحصل لهم من الرؤيا الصالحة، وما يتفضل الله به عليهم من إجابة دعائهم، وما يشاهدونه من التبشير لهم عند حضور آجالهم بتنزل الملائكة عليهم قائلين لهم: لا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة، وأما البشرى في الآخرة فتلقي الملائكة لهم مبشرين بالفوز بالنعيم والسلامة من العذاب. والبشرى مصدر أريد به المبشر به، والظرفان في محل نصب على الحال: أي حال كونهم في الدنيا وحال كونهم في الآخرة، ومعنى: "لا تبديل لكلمات الله" لا تغيير لأقواله على العموم، فيدخل فيها ما وعد به عباده الصالحين دخولاً أولياً، والإشارة بقوله: "ذلك" إلى المذكور قبله من كونهم مبشرين بالبشارتين في الدارين "هو الفوز العظيم" الذي لا يقادر قدره ولا يماثله غيره، والجملتان: أعني "لا تبديل لكلمات الله" و "ذلك هو الفوز العظيم" اعتراض في آخر الكلام عند من يجوزه، وفائدتهما تحقيق المبشر به وتعظيم شأنه، أو الأولى اعتراضية، والثانية تذييلية. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق" قال: هم أهل الشرك كانوا يحلون من الأنعام والحرث ما شاءوا ويحرمون ما شاءوا. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن في قوله: "إذ تفيضون فيه" قال: إذ تفعلون. وأخرج الفريابي وابن جرير عن مجاهد مثله. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله: "وما يعزب عن ربك" قال: لا يغيب عنه وزن ذرة "ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين". قال: هو الكتاب الذي عند الله. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله: "ألا إن أولياء الله" قيل: من هم يا رب؟ قال: هم الذين آمنوا وكانوا يتقون. وأخرج أبو الشيخ عن سعيد بن جبير قال: هم الذين إذا رؤوا ذكر الله. وأخرج الطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه والضياء في المختارة عن ابن عباس مرفوعاً وموقوفاً قال: هم الذين إذا رؤوا يذكر الله لرؤيتهم. وأخرج عنه ابن المبارك والحكيم الترمذي في نوادر الأصول والبزار وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه مرفوعاً مثله. وأخرجه ابن المبارك وابن أبي شيبة وابن جرير وأبو الشيخ وابن مردويه عن سعيد بن جبير مرفوعاً وهو مرسل. وروي نحوه من طرق أخرى مرفوعاً وموقوفاً. وأخرج أحمد والحكيم والترمذي عن عمرو بن الجموح أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يحق العبد حق صريح الإيمان حتى يحب لله ويبغض لله، فإذا أحب لله وأبغض لله فقد استحق الولاء من الله، وإن أوليائي من عبادي وأحبائي من خلقي الذين يذكرون بذكري وأذكر بذكرهم". وأخرج أحمد عن عبد الرحمن بن غنم يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم: "خيار عباد الله الذين إذا رؤوا ذكر الله، وشرار عباده المشاءون بالنميمة المفرقون بين الأحبة الباغون البرآء العنت". وأخرج الحكيم الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خياركم من ذكركم الله رؤيته، وزاد في علمكم منطقه، ورغبكم في الآخرة عمله". وأخرج الحكيم الترمذي عن ابن عباس مرفوعاً نحوه. وأخرج الحاكم وصححه عن ابن عمر مرفوعاً: "إن لله عباداً ليسوا بالأنبياء ولا شهداء يغبطهم النبيون والشهداء يوم القيامة بقربهم ومجلسهم منهم، فجثا أعرابي على ركبتيه فقال: يا رسول الله صفهم لنا حلهم لنا؟ قال: قوم من أفناء الناس من نزاع القبائل، تصافوا في الله وتحابوا في الله، يضع الله لهم يوم القيامة منابر من نور فيجلسهم، يخاف الناس ولا يخافون، هم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون". وأخرج أبو داود وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في شعب الإيمان عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر نحوه. قال ابن كثير: وإسناده جيد. وأخرج ابن أبي الدنيا وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي عن أبي هريرة مرفوعاً نحوه. وأخرج أحمد وابن أبي الدنيا وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي عن أبي مالك الأشعري مرفوعاً نحوه. وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: " سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن قول الله: "ألا إن أولياء الله" الآية فقال: الذين يتحابون في الله". وأخرج ابن مردويه عن جابر مرفوعاً مثله. وقد ورد في فضل المتحابين في الله أحاديث ليس فيها أنهم المرادون بالآية. وأخرج سعيد بن منصور وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن عطاء بن يسار" عن رجل من أهل مصر قال: سألت أبا الدرداء عن معنى قوله: "لهم البشرى في الحياة الدنيا" فقال: ما سألني عنها أحد منذ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما سألني عنها أحد غيرك منذ أنزل علي: هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم، أو ترى له، فهي بشراه في الحياة الدنيا، وبشراه في الآخرة الجنة"، وفي إسناده هذا الرجل المجهول. وأخرج أبو داود الطيالسي وأحمد والدارمي والترمذي وابن ماجه والحكيم الترمذي وابن جرير وابن المنذر والطبراني وأبو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي عن عبادة بن الصامت قال:" سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله: "لهم البشرى في الحياة الدنيا" قال: هي الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أوترى له". وأخرج أحمد وابن جرير وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي "عن عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: "لهم البشرى في الحياة الدنيا" قال: الرؤيا الصالحة يبشر بها المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة، فمن رأى ذلك فليخبر بها" الحديث. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي هريرة "عن النبي صلى الله عليه وسلم في الآية قال: هي في الدنيا الرؤيا الصالحة يراها العبد الصالح أو ترى له، وفي الآخرة الجنة". وأخرج ابن أبي الدنيا وأبو الشيخ وابن مردويه وابن منده من طريق أبي جعفر عن جابر "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فسر البشرى في الحياة الدنيا بالرؤيا الحبيبة، وفي الآخرة ببشارة المؤمن عند الموت": إن الله قد غفر لك ولمن حملك إلى قبرك. وأخرج ابن مردويه عنه مرفوعاً مثل حديث جابر. وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود مرفوعاً الشطر الأول من حديث جابر. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير عن ابن عباس مثله. وقد وردت أحاديث صحيحة بأن الرؤيا الصالحة من المبشرات وأنها جزء من أجزاء النبوة، ولكنها لم تقيد لتفسير هذه الآية. وقد روي أن المراد بالبشرى في الآية هي قوله: "وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلاً كبيراً". أخرج ذلك ابن جرير وابن المنذر من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. وأخرج ابن المنذر عنه من طريق مقسم أنها قوله: "إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا". وأخرج ابن جرير والحاكم والبيهقي عن نافع قال: خطب الحجاج فقال: إن ابن الزبير بدل كتاب الله، فقال ابن عمر: لا تستطيع ذلك أنت ولا ابن الزبير، لا تبديل لكلمات الله.

وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ

قوله: 65- "ولا يحزنك قولهم" نهي للنبي صلى الله عليه وسلم عن الحزن من قول الكفار المتضمن للطعن عليه وتكذيبه والقدح في دينه، والمقصود التسلية له والتبشير. ثم استأنف سبحانه الكلام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم معللاً لما ذكره من النهي لرسوله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن العزة لله جميعاً" أي الغلبة والقهر له في مملكته وسلطانه ليست لأحد من عباده، وإذا كان ذلك كله له فكيف يقدرون عليك حتى تحزن لأقوالهم الكاذبة وهم لا يملكون من الغلبة شيئاً. وقرئ يحزنك من أحزنه. وقرئ أن العزة بفتح الهمزة على معنى لأن العزة لله، ولا ينافي ما في هذه الآية من جعل العز جميعها لله تعالى قوله سبحانه: "ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين" لأن كل عزة بالله فهي كلها لله، ومنه قوله: "كتب الله لأغلبن أنا ورسلي" "إنا لننصر رسلنا".

أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ

66- "ألا إن لله من في السموات ومن في الأرض" ومن جملتهم هؤلاء المشركون المعاصرون للنبي صلى الله عليه وسلم، وإذا كانوا في ملكه يتصرف فيهم كيف يشاء، فكيف يستطيعون أن يؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بما لا يأذن الله به وغلب العقلاء على غيرهم لكونهم أشرف. وفي الآية نعي على عباد البشر والملائكة والجمادات، لأنهم عبدوا المملوك وتركوا المالك، وذلك مخالف لما يوجبه العقل، ولهذا عقبه بقوله: "وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء" والمعنى: أنهم وإن سموا معبوداتهم شركاء لله فليست شركاء له على الحقيقة، لأن ذلك محال "لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا" وما في وما يتبع نافية وشركاء مفعول يتبع، وعلى هذا يكون مفعول يدعون محذوفاً، والأصل وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء، شركاء في الحقيقة: إنما هي أسماء لا مسميات لها، فحذف أحدهما لدلالة المذكور عليه، ويجوز أن يكون المذكور مفعول يدعون، وحذف مفعول يتبع لدلالة المذكور عليه، ويجوز أن تكون استفهامية بمعنى أي شيء يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء، ويكون على هذا الوجه شركاء منصوباً بـ يدعون، والكلام خارج مخرج التوبيخ لهم والإزراء عليهم. ويجوز أن تكون ما موصولة معطوفة على من في السموات: أي لله من في السموات ومن في الأرض وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء، والمعنى: أن الله مالك لمعبوداتهم لكونها من جملة من في السموات ومن في الأرض.ثم زاد سبحانه في تأكيد الرد عليهم والدفع لأقوالهم فقال : " إن يتبعون إلا الظن " أي ما يتبعون يقينا إنما يتبعون ظنا ، والظن لا يغني من الحق شيئا " إن هم إلا يخرصون " أي يقدرون أنهم شركاء تقديرا باطلا وكذبا بحتا ، وقد تقدمت هذه الآية في الأنعام .

هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ

ثم ذكر سبحانه طرفاً من آثار قدرته مع الامتنان على عباده ببعض نعمه قال: 67- "هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصراً" أي جعل لعباده الزمان منقسماً إلى قسمين: أحدهما: مظلم وهو الليل لأجل يسكن العباد فيه عن الحركة والتعب ويريحون أنفسهم عن الكد والكسب، والآخر: مبصر لأجل يسعون فيه بما يعود على نفعهم وتوفير معايشهم، ويحصلون ما يحتاجون إليه في وقت مضيء منير، لا يخفى عليهم فيه كبير ولا حقير، وجعله سبحانه للنهار مبصراً مجاز. والمعنى: أنه مبصر صاحبه كقولهم: نهاره صائم، والإشارة بقوله: "إن في ذلك" إلى الجعل المذكور "لآيات" عجيبة كثيرة "لقوم يسمعون" أي يسمعون ما يتلى عليهم من الآيات التنزيلية المنبهة على الآيات التكوينية مما ذكره الله سبحانه هاهنا منها ومن غيرها مما لم يذكره، فعند السماع منهم لذلك يتفكرون ويعتبرون، فيكون ذلك من أعظم أسباب الإيمان.

قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ

قوله: 68- "قالوا اتخذ الله ولداً سبحانه هو الغني" هذا نوع آخر من أباطيل المشركين التي كانوا يتكلمون بها، وهو زعمهم بأن الله سبحانه اتخذ ولداً، فرد ذلك عليهم بقوله: "سبحانه هو الغني" فتنزه جل وعلا عما نسبوه إليه من هذا الباطل البين، وبين أنه غني عن ذلك وأن الولد إنما يطلب للحاجة، والغني المطلق لا حاجة له حتى يكون له ولد يقضيها، وإذا انتفت الحاجة انتفى الولد، وأيضاً إنما يحتاج إلى الولد من يكون بصدد الانقراض ليقوم الولد مقامه، والأزلي القديم لا يفتقر إلى ذلك. وقد تقدم تفسير الآية في البقرة. ثم بالغ في الرد عليهم بما هو كالبرهان، فقال: "له ما في السموات وما في الأرض"، وإذا كان الكل له وفي ملكه فلا يصح أن يكون شيء مما فيهما ولداً له للمنافاة بين الملك والبنوة والأبوة. ثم زيف دعواهم الباطلة وبين أنها بلا دليل فقال: "إن عندكم من سلطان بهذا" أي ما عندكم من حجة وبرهان بهذا القول الذي تم لونه، و من في "من سلطان" زائدة للتأكيد، والجار والمجرور في "بهذا" متعلق إما بسلطان لأنه بمعنى الحجة والبرهان، أو متعلق بما عندكم لما فيه من معنى الاستقرار. ثم وبخهم على هذا القول العاطل عن الدليل الباطل عند العقلاء فقال: "أتقولون على الله ما لا تعلمون"، ويستفاد من هذا أن كل قول لا دليل عليه ليس هو من العلم في شيء، بل من الجهل المحض.

قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ

ثم أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم قولاً يدل على أن ما قالوه كذب، وأن من كذب على الله لا يفلح فقال: 69- "قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون" أي كل مفتر هذا شأنه، ويدخل فيه هؤلاء دخولاً أولياً. وذكر الكذب مع الافتراء للتأكيد كما سبق في مواضع من الكتاب العزيز. والمعنى: أن هؤلاء الذين يكذبون على ربهم لا يفوزون بمطلب من المطالب.

مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ

70- "متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون" ثم بين سبحانه أن هذا الافتراء وإن فاز صاحبه بشيء من المطالب العاجلة فهو متاع قليل في الدنيا، ثم يتعقبه الموت والرجوع إلى الله، فيعذب المفتري عذاباً مؤبداً. فيكون متاع خبر مبتدأ محذوف، والجملة مستأنفة لبيان أن ما يحصل للمفتري بافترائه ليس بفائدة يعتد بها، بل هو متاع يسير في الدنيا يتعقبه العذاب الشديد بسبب الكفر الحاصل بأسباب من جملتها الكذب على الله. وقال الأخفش: إن التقدير لهم متاع في الدنيا، فيكون المحذوف على هذا هو الخبر. وقال الكسائي: التقدير ذلك متاع أو هو متاع، فيكون المحذوف على هذا هو المبتدأ. وقد أخرج أبو الشيخ عن ابن عباس قال في قوله تعالى: "ولا يحزنك" لما لم ينتفعوا بما جاءهم من الله وأقاموا على كفرهم كبر ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءه من الله فيما يعاتبه "ولا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعاً هو السميع العليم" يسمع ما يقولون ويعلمه، فلو شاء بعزته لانتصر منهم. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "والنهار مبصراً" قال: منيراً. وأخرج أبو الشيخ عن الحسن في قوله: "إن عندكم من سلطان بهذا" يقول: ما عندكم سلطان بهذا.

وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآَيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ

لما بالغ سبحانه في تقرير البراهين الواضحة ودفع الشبهة المنهارة، شرع في ذكر قصص الأنبياء لما في ذلك من التسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: 71- "واتل عليهم" أي على الكفار المعاصرين لك المعارضين لما جئت به بأقوالهم الباطلة "نبأ نوح" أي خبره، والنبأ هو الخبر الذي له خطر وشأن، والمراد: ما جرى له مع قومه الذين كفروا بما جاء به كما فعله كفار قريش وأمثاله "إذ قال لقومه" أي وقت قال لقومه، والظرف منصوب بنبأ أو بدل منه بدل اشتمال، واللام في "لقومه" لام التبليغ "يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي" أي عظم وثقل، والمقام بفتح الميم: الموضع الذي يقام فيه، وبالضم الإقامة. وقد اتفق القراء على الفتح، وكنى بالمقام على نفسه كما يقال فعلته لمكان فلان: أي لأجله، ومنه "ولمن خاف مقام ربه" أي خاف ربه، ويجوز أن يراد بالمقام المكث: أي شق عليكم مكثي بين أظهركم، ويجوز أن يراد بالمقام القيام، لأن الواعظ يقوم حال وعظه، والمعنى: إن كان كبر عليكم قيامي بالوعظ في مواطن اجتماعكم، وكبر عليكم تذكيري لكم "بآيات الله" التكوينية والتنزيلية "فعلى الله توكلت" هذه الجملة جواب الشرط، والمعنى: إني لا أقابل ذلك منكم إلا بالتوكل على الله، فإن ذلك دأبي الذي أنا عليه قديماً وحديثاً. ويجوز أن يريد إحداث مرتبة مخصوصة عن مراتب التوكل، ويجوز أن يكون جواب الشرط "فأجمعوا" وجملة "فعلى الله توكلت" اعتراض كقولك: إن كنت أنكرت علي شيئاً فالله حسبي. ومعنى "فأجمعوا أمركم" اعتزموا عليه، من أجمع الأمر: إذا نواه وعزم عليه. قاله الفراء: وروي عن الفراء أنه قال: أجمع الشيء: أعده. وقال مؤرج السدوسي: أجمع الأمر أفصح من أجمع عليه، وأنشد: يا ليت شعري والمنى لا تنفع هل أغدون يوماً وأمري مجمع وقال أبو الهيثم: أجمع أمره: جعله جميعاً بعدما كان متفرقاً، وتفرقه أن تقول مرة أفعل كذا، ومرة أفعل كذا، فلما عزم على أمر واحد فقد جمعه: أي جعله جميعاً، فهذا هو الأصل في الإجماع، ثم صار بمعنى العزم. وقد اتفق جمهور القراء على نصب شركاءكم وقطع الهمزة من أجمعوا. وقرأ يعقوب وعاصم الجحدري بهمزة وصل في أجمعوا على أنه من جمع يجمع جمعاً. وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق ويعقوب وشركاؤكم بالرفع. قال النحاس: وفي نصب الشركاء على قراءة الجمهور ثلاثة أوجه: الأول: بمعنى وادعوا شركاءكم، قاله الكسائي والفراء: أي ادعوهم لنصرتكم، فهو على هذا منصوب بفعل مضمر. وقال محمد بن يزيد المبرد: هو معطوف على المعنى قال الشاعر: يا ليت زوجك في الوغى متقلداً سيفاً ورمحا والرمح لا يتقلد به، لكنه محمول كالسيف. وقال الزجاج: المعنى مع شركائكم، فالواو على هذا واو مع. وأما على قراءة أجمعوا بهمزة وصل فالعطف ظاهر: أي أجمعوا أمركم وأجمعوا شركاءكم. وأما توجيه قراءة الرفع، فعلى عطف الشركاء على الضمير المرفوع في أجمعوا، وحسن هذا العطف مع عدم التأكيد بمنفصل كما هو المعتبر في ذلك أن الكلام قد طال. قال النحاس وغيره: وهذه القراءة بعيدة لأنه لو كان شركاءكم مرفوعاً لرسم في المصحف بالواو، وليس ذلك موجوداً فيه. قاله المهدوي: ويجوز أن يرتفع الشركاء بالابتداء، والخبر محذوف: أي وشركاؤكم ليجمعوا أمرهم، ونسبة ذلك إلى الشركاء مع كون الأصنام لا تعقل لقصد التوبيخ والتقريع لمن عبدها. وروي عن أبي قرأ: وادعوا شركاءكم بإظهار الفعل. قوله: "ثم لا يكن أمركم عليكم غمة" الغمة: التغطية من قولهم، غم الهلال: إذا استتر: أي ليكن أمركم ظاهراً منكشفاً. قال طرفة: لعمرك ما أمري علي بغمة نهاري ولا ليلي علي بسرمد هكذا قال الزجاج. وقال الهيثم: معناه لا يكن أمركم عليكم مبهماً. وقيل إن الغمة: ضيق الأمر كذا روي عن أبي عبيدة. والمعنى: لا يكن أمركم عليكم بمصاحبتي والمجاملة لي ضيقاً شديداً، بل ادفعوا هذا الضيق والشدة بما شئتم وقدرتم عليه، وعلى الوجهين الأولين يكون المراد بالأمر الثاني هو الأمر الأول، وعلى الثالث يكون المراد به غيره. قوله: "ثم اقضوا إلي ولا تنظرون" أي ذلك الأمر الذي تريدونه بي، وأصل اقضوا من القضاء، وهو الإحكام. والمعنى: أحكموا ذلك الأمر. قال الأخفش والكسائي: هو مثل "وقضينا إليه ذلك الأمر" أي أنهيناه إليه وأبلغناه إياه، ثم لا تنظرون: أي لا تمهلون، بل عجلوا أمركم واصنعوا ما بدا لكم، وقيل معناه: ثم امضوا إلي ولا تؤخرون. قال النحاس: هذا قول صحيح في اللغة، ومنه قضى الميت: مضى. وحكى الفراء عن بعض القراء أنه قرأ ثم أفضوا بالفاء وقطع الهمزة: أي توجهوا، وفي هذا الكلام من نوح عليه السلام ما يدل على وثوقه بنصر ربه وعدم مبالاته بما يتوعده به قومه.

فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ

ثم بين لهم أن كل ما أتى به إليهم من الإعذار والإنذار وتبليغ الشريعة عن الله ليس هو لطمع دنيوي، ولا لغرض خسيس، فقال: 72- "فإن توليتم فما سألتكم من أجر" أي إن أعرضتم عن العمل بنصحي لكم وتذكيري إياكم، فما سألتكم في مقابلة ذلك من أجر تودونه إلي حتى تتهموني فيما جئت به، والفاء في "فإن توليتم" لترتيب ما بعدها على ما قبلها، والفاء في "فما سألتكم" جزائية "إن أجري إلا على الله" أي ما ثوابي في النصح والتذكير إلا عليه سبحانه فهو يثيبني آمنتم أو توليتم. قرأ أهل المدينة وأبو عمر وابن عامر وحفص بتحريك الياء من أجري، وقرأ الباقون بالسكون "وأمرت أن أكون من المسلمين" المنقادين لحكم الله الذين يجعلون أعمالهم خالصة لله سبحانه لا يأخذون عليها أجراً ولا يطمعون في عاجل.

فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ

قوله: 73- "فكذبوه فنجيناه ومن معه في الفلك" أي استمروا على تكذيبه وأصروا على ذلك، وليس المراد أنهم أحدثوا تكذيبه بعد أن لم يكن، والمراد بمن معه من قد أجابه وصار على دينه، والخلائف جمع خليفة، والمعنى: أنه سبحانه جعلهم خلفاء يسكنون الأرض التي كانت للمهلكين بالغرق ويخلفونهم فيها "وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا" من الكفار المعاندين لنوح الذين لم يؤمنوا به أغرقهم الله بالطوفان "فانظر كيف كان عاقبة المنذرين" فيه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتهديد للمشركين وتهويل عليهم.

ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ

74- "ثم بعثنا من بعده" أي من بعد نوح "رسلاً" كهود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب " فجاؤوهم بالبينات " أي بالمعجزات وبما أرسلهم الله به من الشرائع التي شرعها الله لقوم كل نبي "فما كانوا ليؤمنوا" أي فما أحدثوا الإيمان بل استمروا على الكفر وأصروا عليه. والمعنى: أنه ما صح ولا استقام لقوم من أولئك الأقوام الذين أرسل الله إليهم رسله أن يؤمنوا في وقت من الأوقات "بما كذبوا به من قبل" أي من قبل تكذيبهم الواقع منهم عند مجيء الرسل إليهم. والمعنى: أن كل قوم من العالم لم يؤمنوا عند أن أرسل الله إليهم الرسول المبعوث إليهم على الخصوص بما كانوا مكذبين به من قبل مجيئه إليهم، لأنهم كانوا غير مؤمنين بل مكذبين بالدين ولو كانوا مؤمنين لم يبعث إليهم رسولاً، وهذا مبني على أن الضمير في "فما كانوا ليؤمنوا" وفي "بما كذبوا" راجع إلى القوم المذكورين في قوله: "إلى قومهم" وقيل: ضمير كذبوا راجع إلى قوم نوح: أي فما كان قوم الرسل ليؤمنوا بما كذب به قوم نوح من قبل أن يأتي هؤلاء الأقوام الذين جاءوا من بعدهم "وجاءتهم رسلهم بالبينات" وقيل: إن الباء في "بما كذبوا به من قبل" للسببية: أي فما كانوا ليؤمنوا عند مجيء الرسل بسبب ما اعتادوه من تكذيب الحق من قبل مجيئهم، وفيه نظر. وقيل المعنى. "بما كذبوا به من قبل": أي في عالم الذر فإن فيهم من كذب بقلبه، وإن آمنوا ظاهرا. قال النحاس: ومن أحسن ما قيل إنه لقوم بأعيانهم "كذلك نطبع على قلوب المعتدين" أي مثل ذلك الطبع العظيم نطبع على قلوب المتجاوزين للحد المعهود في الكفر. وقد تقدم تفسير هذا في غير موضع. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن الأعرج في قوله: "فأجمعوا أمركم وشركاءكم" يقول: فأحكموا أمركم وادعوا شركاءكم. وأخرج أيضاً عن الحسن في الآية: أي فليجمعوا أمرهم معكم. وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: "ثم لا يكن أمركم عليكم غمة" قال: لا يكبر عليكم أمركم "ثم اقضوا" ما أنتم قاضون. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "ثم اقضوا" قال: انهضوا "إلي ولا تنظرون" يقول: ولا تؤخرون.

ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآَيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ

قوله: 75- "ثم بعثنا من بعدهم" معطوف على قوله: "ثم بعثنا من بعده رسلاً" والضمير في من بعدهم راجع إلى الرسل المتقدم ذكرهم، وخص موسى وهارون بالذكر مع دخولهما تحت الرسل لمزيد شرفهما وخطر شأن ما جرى بينهما وبين فرعون، والمراد بالملأ الأشراف، والمراد بالآيات: المعجزات، وهي التسع المذكورة في الكتاب العزيز "فاستكبروا" عن قبولها ولم يتواضعوا لها ويذعنوا لما اشتملت عليه من المعجزات الموجبة لتصديق ما جاء بها "وكانوا قوماً مجرمين" أي كانوا ذوي إجرام عظام وآثام كبيرة، فبسبب ذلك اجترأوا على ردها، لأن الذنوب تحول بين صاحبها وبين إدراك الحق وإبصار الصواب، قيل: وهذه الجملة معترضة مقررة لمضمون ما قبلها.

فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ

قوله: 76- "فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا إن هذا لسحر مبين" أي فلما جاء فرعون وملأه الحق من عند الله وهو المعجزات لم يؤمنوا بها بل حملوها على السحر مكابرة منهم.

قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ

فرد عليهم موسى قائلاً: 77- "أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا" قيل في الكلام حذف، والتقدير: أتقولون للحق سحر فلا تقولوا ذلك، ثم استأنف إنكار آخر من جهة نفسه فقال: "أسحر هذا" فحذف قولهم الأول اكتفاء بالثاني، والملجئ إلى هذا أنهم لم يستفهموه عن السحر حتى يحكي ما قالوه بقوله: "أسحر هذا" بل هم قاطعون بأنه سحر، لأنهم قالوا "إن هذا لسحر مبين" فحينئذ لا يكون قوله: "أسحر هذا" من قولهم، وقال الأخفش: هو من قولهم، وفيه نظر لما قدمنا، وقيل معنى "أتقولون" أتعيبون الحق وتطعنون فيه وكان عليكم أن تذعنوا له، ثم قال: أسحر هذا منكراً لما قالوه، وقيل إن مفعول "أتقولون" محذوف، وهو ما دل عليه قولهم: "إن هذا لسحر" والتقدير: أتقولون ما تقولون، يعني قولهم إن هذا لسحر مبين ثم قيل أسحر هذا، وعلى هذا التقدير والتقدير الأول فتكون جملة "أسحر هذا" مستأنفة من جهة موسى عليه السلام، والاستفهام للتقريع والتوبيخ بعد الجملة الأولى المستأنفة الواقعة جواب سؤال مقدر كأنه قيل: ماذا قال لهم موسى لما قالوا "إن هذا لسحر مبين" فقيل: قال "أتقولون للحق لما جاءكم"، على طريقة الاستفهام الإنكاري، والمعنى: أتقولون للحق لما جاءكم إن هذا لسحر مبين، وهو أبعد شيء من السحر. ثم أنكر عليهم وقرعهم ووبخهم فقال: "أسحر هذا" فجاء موسى عليه السلام بإنكار بعد إنكار وتوبيخ بعد توبيخ وتجهيل بعد تجهيل، وجملة "ولا يفلح الساحرون" في محل نصب على الحال: أي أتقولون للحق إنه سحر، والحال أنه لا يفلح الساحرون فلا يظفرون بمطلوب ولا يفوزون بخير ولا ينجون من مكروه، فكيف يقع في هذا من هو مرسل من عند الله، وقد أيده بالمعجزات والبراهين الواضحة؟

قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ

وجملة 78- "قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا" مستأنفة جواب سؤال مقدر كأنه قيل: فماذا قالوا بعد أن قال لهم موسى ما قال؟ وفي هذا ما يدل على أنهم انقطعوا عن الدليل وعجزوا عن إبراز الحجة، ولم يجحدوا ما يجيبون به عما أورده عليهم، بل لجأوا إلى ما يلجأ إليه أهل الجهل والبلادة، وهو الاحتجاج بما كان عليهم آباؤهم من الكفر، وضموا إلى ذلك ما هو غرضهم وغاية مطلبهم وسبب مكابرتهم للحق وجحودهم للآيات البينة، وهو الرياسة الدنيوية التي خافوا عليها وظنوا أنها ستذهب عنهم إن آمنوا، وكم بقي على الباطل، وهو يعلم أنه باطل بهذه الذريعة من طوائف هذا العالم في سابق الدهر ولا حقه، فمنهم من حبسه ذلك عن الخروج من الكفر، ومنهم من حبسه عن الخروج إلى السنة من البدعة، وإلى الرواية الصحيحة من الرأي البحت، يقال لفته لفتاً: إذا صرفه عن الشيء ولواه عنه، ومنه قال الشاعر: تلفت نحو الحي حتى رأيتني وجعت من الإصغاء ليتاً وأخدعا أي تريد أن تصرفنا عن الشيء الذي وجدنا عليه آباءنا، وهو عبادة الأصنام، والمراد بالكبرياء الملك. قال الزجاج: سمي الملك كبرياء لأنه أكبر ما يطلب من أمر الدنيا، وقيل سمي بذلك لأن الملك يتكبر. والحاصل أنهم عللوا عدم قبولهم دعوة موسى بأمرين: التمسك بالتقليد للآباء والحرص على الرياسة الدنيوية، لأنهم إذا أجابوا النبي وصدقوه صارت مقاليد أمر أمته إليه ولم يبق للملك رئاسة تامة، لأن التدبير للناس بالدين يرفع تدبير الملوك لهم بالسياسات والعادات، ثم قالوا: "وما نحن لكما بمؤمنين" تصريحاً منهم بالتكذيب وقطعاً للطمع في إيمانهم، وقد أفرد الخطاب لموسى في قولهم: أجئتنا لتلفتنا، ثم جمعوا بينه وبين هارون في الخطاب في قولهم: "وتكون لكما الكبرياء في الأرض وما نحن لكما بمؤمنين" ووجه ذلك أنهم أسندوا المجيء والصرف عن طريق آبائهم إلى موسى، لكونه المقصود بالرسالة المبلغ عن الله ما شرعه لهم، وجمعوا بينهما في الضميرين الآخرين، لأن الكبرياء شامل لهما في زعمهم ولكون ترك الإيمان بموسى يستلزم ترك الإيمان بهارون.

وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ

وقد مرت القصة في الأعراف قوله: 79- "وقال فرعون ائتوني بكل ساحر عليم" قال: هكذا لما رأى اليد البيضاء والعصا، لأنه اعتقد أنهما من السحر، فأمر قومه بأن يأتوه بكل ساحر عليم، هكذا قرأ حمزة والكسائي وابن وثاب والأعمش " سحار ". وقرأ الباقون "ساحر" وقد تقدم الكلام على هذا في الأعراف. والسحار صيغة مبالغة: أي كثير السحر كثير العلم بعمله وأنواعه.

فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ

80- "فلما جاء السحرة" في الكلام حذف، والتقدير هكذا: وقال فرعون ائتوني بكل سحار عليم فأتوا بهم إليه، فلما جاء السحرة، فتكون الفاء للعطف على المقدر المحذوف. قوله: "قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون" أي قال لهم هذه المقالة بعد أن قالوا له: إما أن تلقي، وإما أن نكون نحن الملقون: أي اطرحوا على الأرض ما معكم من حبالكم وعصيكم.

فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ

81- "فلما ألقوا" ما ألقوه من ذلك "قال" لهم "موسى ما جئتم به السحر" أي الذي جئتم به السحر على أن ما موصولة مبتدأ والخبر السحر، والمعنى أنه سحر، لا أنه آية من آيات الله. وأجاز الفراء نصب السحر بجئتم، وتكون ما شرطية، والشرط جئتم، والجزاء إن الله سيبطله على تقدير الفاء: أي فإن الله سيبطله، وقيل: إن السحر منتصب على المصدر: أي ما جئتم به سحراً، ثم دخلت الألف واللام فلا يحتاج على هذا إلى حذف الفاء، واختاره النحاس. وقال: حذف الفاء في المجازاة لا يجيزه كثير من النحويين إلا في ضرورة الشعر. وقرأ أبو عمرو وأبو جعفر " السحر " على أن الهمزة للاستفهام، والتقدير: أهو السحر فتكون ما على هذه القراءة استفهامية. وقرأ أبي ما أتيتم به سحر إن الله سيبطله أي سيمحقه فيصير باطلاً بما يظهره على يدي من الآيات المعجزة "إن الله لا يصلح عمل المفسدين" أي عمل هذا الجنس، فيشمل كل من يصدق عليه أنه مفسد ويدخل فيه السحر والسحرة دخولاً أولياً.

وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ

والواو في 82- "ويحق الله الحق" للعطف على سيبطله: أي يبينه ويوضحه "بكلماته" التي أنزلها في كتبه على أنبيائه لاشتمالها على الحجج والبراهين "ولو كره المجرمون" من آل فرعون أو المجرمون على العموم ويدخل تحتهم آل فرعون دخولاً أولياً، والإجرام الآثام.

فَمَا آَمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ

قوله: 83- "فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه" الضمير يرجع إلى موسى: أي من قوم موسى، وهم طائفة من ذراري بني إسرائيل، وقيل: المراد طائفة من ذراري فرعون فيكون الضمير عائداً على فرعون، قيل: ومنهم مؤمن آل فرعون وامرأته وماشطة ابنته وامرأة خازنه، وقيل: هم قوم آباؤهم من القبط وأمهاتهم من بني إسرائيل، روي هذا عن الفراء " على خوف من فرعون وملئهم " الضمير لفرعون، وجمع لأنه لما كان جباراً جمعوا ضميره تعظيماً له، وقيل: إن قوم فرعون سموا بفرعون مثل ثمود، فرجع الضمير إليهم بهذا الاعتبار، وقيل إنه عائد على مضاف محذوف، والتقدير: على خوف من آل فرعون، وروي هذا عن الفراء. ومنع ذلك الخليل وسيبويه فلا يجوز عندهما قامت هند وأنت تريد غلامها. وروي عن الأخفش أن الضمير يعود على الذرية، وقواه النحاس "أن يفتنهم" أي يصرفهم عن دينهم بالعذاب الذي كان ينزله بهم، وهو بدل اشتمال. ويجوز أن يكون في موضع نصب بالمصدر "وإن فرعون لعال في الأرض" أي عات متكبر متغلب على أرض مصر "وإنه لمن المسرفين" المجاوزين للحد في الكفر وما يفعله من القتل والصلب وتنويع العقوبات.

وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ

قوله: 84- "وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين" قيل: إن هذا من باب التكرير للشرط، فشرط في التوكل على الله الإيمان به والإسلام: أي الاستسلام لقضائه وقدره، وقيل: إن هذا ليس من تعليق الحكم بشرطين بل المعلق بالإيمان هو وجوب التوكل، والمشروط بالإسلام وجوده، والمعنى: أن يسلموا أنفسهم لله: أي يجعلوها له سالمة خالصة لا حظ للشيطان فيها لأن التوكل لا يكون مع التخليط. قال في الكشاف: ونظيره في الكلام إن ضربك زيد فاضربه إن كانت لك به قوة.

فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ

85- "فقالوا" أي قوم موسى مجيبين له "على الله توكلنا" ثم دعوا الله مخلصين فقالوا: "ربنا لا تجعلنا فتنة" أي موضع فتنة "للقوم الظالمين" والمعنى: لا تسلطهم علينا فيعذبونا حتى يفتنونا عن ديننا ولا تجعلنا فتنة لهم يفتنون بنا غيرنا فيقولون لهم: لو كان هؤلاء على حق لما سلطنا عليهم وعذبناهم، وعلى المعنى الأول تكون الفتنة بمعنى المفتون.

وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ

ولما قدموا التضرع إلى الله سبحانه في أن يصون دينهم عن الفساد أتبعوه بسؤال عصمة أنفسهم فقالوا: 86- "ونجنا برحمتك من القوم الكافرين" وفي هذا دليل على أنه كان لهم اهتمام بأمر الدين فوق اهتمامهم بسلامة أنفسهم.

وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآَ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ

قوله: 87- " وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا " أن هي المفسرة لأن في الإيحاء معنى أن تبوآ: أي اتخذا لقومكما بمصر بيوتاً، يقال: بوأت زيداً مكاناً وبوأت لزيد مكاناً، والمبوأ: المنزل الملزوم، ومنه بوأه الله منزلاً: أي ألزمه إياه وأسكنه فيه، ومنه الحديث: من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار ومنه قول الراجز: نحن بنو عدنان ليس شك تبوأ المجد بنا والملك قيل: ومصر في هذه الآية هي الإسكندرية، وقيل: هي مصر المعروفة لا الإسكندرية "واجعلوا بيوتكم قبلة" أي متوجهة إلى جهة القبلة، قيل: والمراد بالبيوت هنا المساجد، وإليه ذهب جماعة من السلف، وقيل: المراد بالبيوت التي يسكنون فيها، أمروا بأن يجعلوها منا قبلة، والمراد بالقبلة على القول الأول هي جهة بيت المقدس، وهو قبلة اليهود إلى اليوم، وقيل: جهة الكعبة، وأنها كانت قبلة موسى ومن معه، وقيل: المراد أنهم يجعلون بيوتهم مستقبلة للقبلة ليصلوا فيها سراً لئلا يصيبهم من الكفار معرة بسبب الصلاة، ومما يؤيد هذا قوله: "وأقيموا الصلاة" أي التي أمركم بإقامتها فإنه يفيد أن القبلة هي قبلة الصلاة إما في المساجد أو في البيوت لا جعل البيوت متقابلة، وإنما جعل الخطاب في أول الكلام مع موسى وهارون، ثم جعله لهما ولقومهما في قوله: "واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة" ثم أفرد موسى بالخطاب بعد ذلك، فقال: "وبشر المؤمنين" لأن اختيار المكان مفوض إلى الأنبياء، ثم جعل عاماً في استقبال القبلة وإقامة الصلاة، لأن ذلك واجب على الجميع لا يختص بالأنبياء، ثم جعل خاصاً بموسى لأنه الأصل في الرسالة وهارون تابع له، فكان ذلك تعظيماً للبشارة وللمبشر بها، وقيل: إن الخطاب في "وبشر المؤمنين" لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم على طريقة الالتفات والاعتراض، والأول أولى. وقد أرخج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "لتلفتنا" قال: لتلوينا. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي قال: لتصدنا عن آلهتنا. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "وتكون لكما الكبرياء في الأرض" قال: العظمة والملك والسلطان. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "فما آمن لموسى إلا ذرية" قال: الذرية القليل. وأخرج هؤلاء عنه في قوله: "ذرية من قومه" قال: من بني إسرائيل. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وأبو الشيخ عن مجاهد قال: هم أولاد الذين أرسل إليهم موسى من طول الزمان ومات آباؤهم. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: كانت الذرية التي آمنت لموسى من أناس غير بني إسرائيل من قوم فرعون منهم امرأة فرعون ومؤمن آل فرعون وخازن فرعون وامرأة خازنه. وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور ونعيم بن حماد في الفتن وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين" قال: لا تسلطهم علينا فيفتنونا. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه قال في تفسير الآية: لا تعذبنا بأيدي قوم فرعون ولا بعذاب من عندك، فيقول قوم فرعون: لو كانوا على الحق ما عذبوا ولا سلطنا عليهم فيفتنون بنا. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وأبو الشيخ عن أبي قلابة في الآية قال: سأل ربه أن لا يظهر علينا عدونا فيحسبون أنهم أولى بالعدل فيفتنون بذلك. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي مجلز نحوه. وأخرج أبو الشيخ عن قتادة في قوله: "وأوحينا إلى موسى وأخيه" الآية، قال ذلك حين منعهم فرعون الصلاة، فأمروا أن يجعلوا مساجدهم في بيوتهم وأن يوجهوها نحو القبلة. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: " أن تبوءا لقومكما بمصر " قال: مصر الإسكندرية. وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في الآية قال: كانوا لا يصلون إلا في البيع حتى خافوا من آل فرعون فأمروا أن يصلوا في بيوتهم. وأخرج الفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال: أمروا أن يتخذوا في بيوتهم مساجد. وأخرج أبو الشيخ عن أبي سنان قال: القبلة الكعبة، وذكر أن آدم فمن بعده كانوا يصلون قبل الكعبة. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "واجعلوا بيوتكم قبلة" قال: يقابل بعضها بعضاً.

وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آَتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ ا

لما بالغ موسى عليه السلام في إظهار المعجزات وإقامة الحجج البينات، ولم يكن لذلك تأثير فيمن أرسل إليهم دعا عليهم بعد أن بين سبب إصرارهم على الكفر وتمسكهم بالجحود والعناد، فقال مبيناً للسبب أولاً: 88- "ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالاً في الحياة الدنيا" قد تقدم أن الملأ هم الأشراف، والزينة: اسم لكل ما يتزين به من ملبوس ومركوب وحلية وفراش وسلاح وغير ذلك، ثم كرر النداء للتأكيد فقال: "ربنا ليضلوا عن سبيلك". وقد اختلف في هذه اللام الداخلة على الفعل، فقال الخليل وسيبويه: إنها لام العاقبة والصيرورة. والمعنى: أنه لما كان عاقبة أمرهم الضلال صار كأنه سبحانه أعطاهم ما أعطاهم من النعم ليضلوا، فتكون اللام على هذا متعلقة بآتيت، وقيل إنها لام كي: أي أعطيتهم لكي يضلوا. وقال قوم: إن المعنى أعطيتهم ذلك لئلا يضلوا، فحذفت لا كما قال سبحانه: "يبين الله لكم أن تضلوا". قال النحاس: ظاهر هذا الجواب حسن إلا أن العرب لا تحذف لا إلا مع أن، فموه صاحب هذا التأويل بالاستدلال بقوله: "يبين الله لكم أن تضلوا" وقيل: اللام للدعاء عليهم. والمعنى: ابتلهم بالهلاك عن سبيلك، واستدل هذا القائل بقوله سبحانه بعد هذا: "اطمس" "واشدد". وقد أطال صاحب الكشاف في تقرير هذا بما لا طائل تحته، والقول الأول هو الأولى. وقرأ الكوفيون "ليضلوا" بضم حرف المضارعة: أي يوقعوا الإضلال على غيرهم. وقرأ الباقون بالفتح: أي يضلون في أنفسهم "ربنا اطمس على أموالهم". قال الزجاج: طمس الشيء إذهابه عن صورته، والمعنى: الدعاء عليهم بأن يمحق الله أموالهم ويهلكها، وقرئ بضم الميم عن اطمس "واشدد على قلوبهم" أي اجعلها قاسية مطبوعة لا تقبل الحق ولا تنشرح للإيمان. قوله: "فلا يؤمنوا". قال المبرد والزجاج: هو معطوف على ليضلوا، والمعنى: آتيتهم النعم ليضلوا ولا يؤمنوا، ويكون ما بين المعطوف والمعطوف عليه اعتراضاً. وقال الفراء والكسائي وأبو عبيدة: هو دعاء بلفظ النهي، والتقدير: اللهم فلا يؤمنوا، ومنه قول الأعشى: فلا ينبسط من بين عينيك ما انزوى ولا تلقني إلا وأنفك راغم وقال الأخفش: إنه جواب الأمر: أي اطمس واشدد فلا يؤمنوا، فيكون منصوباً. وروي هذا عن الفراء أيضاً، ومنه: يا ناق سيري عنقاً فسيحاً إلى سليمان فنستريحا "حتى يروا العذاب الأليم" أي لا يحصل منهم الإيمان إلا مع المعاينة لما يعذبهم الله به، وعند ذلك لا ينفع إيمانهم. وقد استشكل بعض أهل العلم ما في هذه الآية من الدعاء على هؤلاء، وقال: إن الرسل إنما تطلب هداية قومهم وإيمانهم. وأجيب بأنه لا يجوز لنبي أن يدعو على قومه إلا بإذن الله سبحانه، وإنما يأذن الله بذلك لعلمه بأنه ليس فيهم من يؤمن، ولهذا لما أعلم الله نوحاً عليه السلام بأنه لا يؤمن من قومه إلا من قد آمن، قال: "رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً".

قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ

89- "قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما" جعل الدعوة هاهنا مضافة إلى موسى وهارون، وفيما تقدم أضافها إلى موسى وحده، فقيل: إن هارون كان يؤمن على دعاء موسى فسمي هاهنا داعياً، وإن كان الداعي موسى وحده، ففي أول الكلام أضاف الدعاء إلى موسى لكونه الداعي، وهاهنا أضافه إليهما تنزيلاً للمؤمن منزلة الداعي، ويجوز أن يكونا جميعاً داعيين، ولكن أضاف الدعاء إلى موسى في أول الكلام لأصالته في الرسالة. قال النحاس: سمعت علي بن سليمان يقول: الدليل على أن الدعاء لهما قول موسى ربنا ولم يقل رب. وقرأ علي والسلمي دعاؤكما وقرأ ابن السميفع دعواكما والاستقامة: الثبات على ما هما عليه من الدعاء إلى الله. قال الفراء وغيره: أمرا بالاستقامة على أمرهما والثبات عليه على دعاء فرعون وقومه إلى الإيمان إلى أن يأتيهما تأويل الإجابة أربعين سنة ثم أهلكوا: وقيل: معنى الاستقامة: ترك الاستعجال ولزوم السكينة والرضا والتسليم لما يقضي به الله سبحانه. قوله: "ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون" بتشديد النون للتأكيد وحركت بالكسر لكونه الأصل ولكونهما أشبهت نون التثنية. وقرأ ابن ذكوان بتخفيف النون على النفي لا على النهي. وقرئ بتخفيف الفوقية الثانية من تتبعان. والمعنى: النهي لهما عن سلوك طريقة من لا يعلم بعادة الله سبحانه في إجراء الأمور على ما تقتضيه المصالح تعجيلاً وتأجيلاً.

وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ

قوله: 90- "وجاوزنا ببني إسرائيل البحر" هو من جاوز المكان: إذا خلفه وتخطاه، والباء للتعدية: أي جعلناهم مجاوزين البحر حتى بلغوا الشط، لأن الله سبحانه جعل البحر يبساً فمروا فيه حتى خرجوا منه إلى البر. وقد تقدم تفسير هذا في سورة البقرة في قوله سبحانه: "وإذ فرقنا بكم البحر ". وقرأ الحسن وجوزنا وهما لغتان "فأتبعهم فرعون وجنوده" يقال: تبع وأتبع بمعنى واحد: إذا لحقه. وقال الأصمعي: يقال أتبعه بقطع الألف: إذا لحقه وأدركه، واتبعه بوصل الألف: إذا اتبع أثر أدركه أو لم يدركه. وكذا قال أبو زيد: وقال أبو عمرو: إن اتبعه بالوصل: اقتدى به، وانتصاب بغياً وعدواً على الحال، والبغي: الظلم، والعدو: الاعتداء، ويجوز أن يكون انتصابهما على العلة: أي للبغي والعدو. وقرأ الحسن وعدواً بضم العين والدال وتشديداً الواو مثل علا يعلو علواً، وقيل إن البغي: طلب الاستعلاء في القول بغير حق، والعدو في الفعل "حتى إذا أدركه الغرق" أي ناله ووصله وألجمه. وذلك أن موسى خرج ببني إسرائيل على حين غفلة من فرعون، فلما سمع فرعون بذلك لحقهم بجنوده، ففرق الله البحر لموسى وبني إسرائيل، فمشوا فيه حتى خرجوا من الجانب الآخر، وتبعهم فرعون والبحر باق على الحالة التي كان عليها عند مضي موسى ومن معه، فلما تكامل دخول جنود فرعون وكادوا أن يخرجوا من الجانب الآخر انطبق عليهم فغرقوا كما حكى الله سبحانه ذلك. "قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل" أي صدقت أنه بفتح الهمزة على أن الأصل بأنه، فحذفت الباء، والضمير للشأن. وقرئ بكسر إن على الاستئناف، وزعم أبو حاتم أن القول محذوف: أي آمنت، فقلت إنه ولم ينفعه هذا الإيمان أنه وقع منه بعد إدراك الغرق كله كما تقدم في النساء، ولم يقل اللعين آمنت بالله أو برب العالمين، بل قال: آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل، لأنه بقي فيه عرق من دعوى الإلهية. قوله: "وأنا من المسلمين" أي المستسلمين لأمر الله المنقادين له الذين يوحدونه وينفون ما سواه، وهذه الجملة إما في محل نصب على الحال أو معطوفة على آمنت.

آَلْآَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ

قوله: 91- "آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين" هو مقول قول مقدر معطوف على قال آمنت: أي فقيل له: أتؤمن الآن؟. وقد اختلف من القائل لفرعون بهذه المقالة؟ فقيل هي من قول الله سبحانه، وقيل من قول جبريل، وقيل من قول ميكائيل، وقيل من قول فرعون، قال ذلك في نفسه لنفسه. وجملة وقد عصيت قبل في محل نصب على الحال من فاعل الفعل المقدر بعد القول المقدر، وهو أتؤمن الآن، والمعنى: إنكار الإيمان منه عند أن ألجمه الغرق والحال أنه قد عصى الله من قبل، والمقصود التقريع والتوبيخ له. وجملة وكنت من المفسدين معطوفة على عصيت داخلة في الحال: أي كنت من المفسدين في الأرض بضلالك عن الحق وإضلالك لغيرك.

فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا لَغَافِلُونَ

قوله: 92- "فاليوم ننجيك ببدنك" قرئ ننجيك بالتخفيف، والجمهور على التثقيل. وقرأ اليزيدي: ننحيك بالحاء المهملة من التنحية، وحكاها علقمة عن ابن مسعود، ومعنى ننجيك بالجيم: نلقيك على نجوة من الأرض، وذلك أن بني إسرائيل لم يصدقوا أن فرعون غرق، وقالوا: هو أعظم شأناً من ذاك، فألقاه الله على نجوة من الأرض، أي مكان مرتفع من الأرض حتى شاهدوه، وقيل المعنى: نخرجك مما وقع فيه قومك من الرسول في قعر البحر ونجعلك طافياً ليشاهدوك ميتاً بالغرق، ومعنى ننحيك بالمهملة: نطرحك على ناحية من الأرض. وروي عن ابن مسعود أنه قرأ بأبدانك. وقد اختلف المفسرون في معنى ببدنك، فقيل معناه: بجسدك بعد سلب الروح منه، وقيل معناه: بدرعك، والدرع يسمى بدناً، ومنه قول كعب بن مالك: ترى الأبدان فيها مسبغات على الأبطال واليلب الحصينا أراد بالأبدان الدروع، وقال عمرو بن معدي كرب: ومضى نساؤهم بكل مضاضة جدلاء سابغة وبالأبدان أي بدروع سابغة ودروع قصيرة: وهي التي يقال لها أبدان كما قال أبو عبيدة. وقال الأخفش: وأما قول من قال بدرعك فليس بشيء، ورجح أن البدن المراد به هنا الجسد. قوله: "لتكون لمن خلفك آية" هذا تعليل لتنجيته ببدنه، وفي ذلك على أنه لم يظهر جسده دون قومه إلا لهذه العلة لا سوى، والمراد بالآية العلامة: أي لتكون لمن خلفك من الناس علامة يعرفون بها هلاكك، وأنك لست كما تدعي ويندفع عنهم الشك في كونك قد صرت ميتاً بالغرق، وقيل: المراد ليكون طرحك على الساحل وحدك دون المغرقين من قومك آية من آيات الله، يعتبر بها الناس أو يعتبر بها من سيأتي من الأمم إذا سمعوا ذلك حتى يحذروا من التكبر والتجبر والتمرد على الله سبحانه، فإن هذا الذي بلغ ما بلغ إليه من دعوى الإلهية واستمر على ذلك دهراً طويلاً كانت له هذه العاقبة القبيحة. وقرئ لمن خلفك على صيغة الفعل الماضي أي لمن يأتي بعدك من القرون أو من خلفك في الرياسة أو في السكون في المسكن الذي كنت تسكنه "وإن كثيراً من الناس عن آياتنا" التي توجب الاعتبار والتفكر وتوقظ من سنة الغفلة "لغافلون" عما توجبه الآيات، وهذه الجملة تذييلية. وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "ربنا اطمس على أموالهم" يقول: دمر على أموالهم وأهلكها "واشدد على قلوبهم" قال: اطبع "فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم" وهو الغرق. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن محمد بن كعب القرظي قال: سألني عمر بن عبد العزيز عن قوله: "ربنا اطمس على أموالهم" فأخبرته أن الله طمس على أموال فرعون وآل فرعون حتى صارت حجارة، فقال عمر: كما أنت حتى آتيك، فدعا بكيس مختوم ففكه، فإذا فيه الفضة مقطوعة كأنها الحجارة والدنانير والدراهم وأشباه ذلك من الأموال حجارة كلها. وقد روي أن أموالهم تحولت حجارة من طريق جماعة من السلف. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: قد أجيبت دعوتكما، قال: فاستجاب له وحال بين فرعون وبين الإيمان. وأخرج أبو الشيخ عن أبي هريرة قال: كان موسى إذا دعا أمن هارون على دعائه يقول: آمين. قال أبو هريرة: وهو اسم من أسماء الله، فذلك قوله: "قد أجيبت دعوتكما". وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس نحوه. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وأبو الشيخ عن عكرمة نحوه. وأخرج سعيد بن منصور عن محمد بن كعب القرظي نحوه أيضاً. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس قال: يزعمون أن فرعون مكث بعد هذه الدعوة أربعين سنة. وأخرج ابن جرير عن ابن جريج مثله. وأخرج الحكيم الترمذي عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس فاستقيما فامضيا لأمري، وهي الاستقامة. وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: العدو والعتو والعلو في كتاب الله التجبر. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: لما خرج آخر أصحاب موسى ودخل آخر أصحاب فرعون أوحى الله إلى البحر أن انطبق عليهم، فخرجت أصبع فرعون بلا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل، قال جبريل: فعرفت أن الرب رحيم وخفت أن تدركه الرحمة، فرمسته بجناحي وقلت: آلان وقد عصيت قبل؟ فلما خرج موسى وأصحابه قال من تخلف من قوم فرعون: ما غرق فرعون ولا أصحابه، ولكنهم في جزائر البحر يتصيدون، فأوحى الله إلى البحر أن الفظ فرعون عرياناً، فلفظه عرياناً أصلع أخينس قصيراً فهو قوله: "فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية" لمن قال: إن فرعون لمن يغرق، وكأن نجاة غيره لمن تكن نجاة عافية، ثم أوحى الله إلى البحر أن الفظ ما فيك فلفظهم على الساحل، وكان البحر لا يلفظ غريقاً في بطنه حتى يأكله السمك، فليس يقبل البحر غريقاً إلى يوم القيامة. وأخرج أحمد والترمذي وحسنه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أغرق الله فرعون فقال: "آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل" قال لي جبريل: يا محمد لو رأيتني وأنا آخذ من حال البحر فأدسه في فيه مخافة أن تدركه الرحمة". وقد روى هذا الحديث الترمذي من غير وجه، وقال: حسن صحيح غريب، وصححه أيضاً الحاكم. وروي عن ابن عباس مرفوعاً من طرق أخرى. وأخرج الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قال لي جبريل: ما كان على الأرض شيء أبغض إلي من فرعون، فلما آمن جعلت أحشو فاه حمأة وأنا أغطه خشية أن تدركه الرحمة". وأخرج ابن جرير والبيهقي من حديث أبي هريرة مرفوعاً نحوه. وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر مرفوعاً نحوه أيضاً. وأخرج أبو الشيخ عن أبي أمامة مرفوعاً نحوه أيضاً، وفي إسناد حديث أبي هريرة رجل مجهول، وباقي رجاله ثقات. والعجب كل العجب ممن لا علم له بفن الرواية من المفسرين، ولا يكاد يميز بين أصح الصحيح من الحديث وأكذب الكذب منه، كيف يتجارى على الكلام في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ببطلان ما صح منها، ويرسل لسانه وقلمه بالجهل البحت، والقصور الفاضح الذي يضحك منه كل من له أدنى ممارسة لفن الحديث، فيا مسكين ما لك ولهذا الشأن الذي لست منه في شيء؟ ألا تستر نفسك وتربع على ضلعك، وتعرف بأنك بهذا العلم من أجهل الجاهلين، وتشتغل بما هو علمك الذي لا تجاوزه، وحاصلك الذي ليس لك غيره، وهو علم اللغة وتوابعه من العلوم الآلية، ولقد صار صاحب الكشاف رحمه الله بسبب ما يتعرض له في تفسيره من علم الحديث الذي ليس هو منه في ورد ولا صدر سخرة للساخرين وعبرة للمعتبرين، فتارة يروي في كتابه الموضوعات وهو لا يدري أنها موضوعات، وتارة يتعرض لرد ما صح، ويجزم بأنه من الكذب على رسول الله والبهت عليه، وقد يكون في الصحيحين وغيرهما مما يلتحق بهما من رواية جماعة من الصحابة بأسانيد كلها أئمة ثقات أثبات حجج، وأدنى نصيب من عقل يحجر صاحبه عن التكلم في علم لا يعلمه ولا يدري به أقل دراية، وإن كان ذلك العلم من علوم الاصطلاح التي يتواضع عليها طائفة من الناس، ويصطلحون على أمور فيما بينهم، فما بالك بعلم السنة الذي هو قسيم كتاب الله، وقائله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وراويه عنه خير القرون، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، وكل حرف من حروفه وكلمة من كلماته يثبت بها شرع عام لجميع أهل الإسلام. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: "فاليوم ننجيك ببدنك" قال: أنجى الله فرعون لبني إسرائيل من البحر فنظروا إليه بعدما غرق. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري وأبو الشيخ عن مجاهد في الآية قال: بجسدك، قال: كذب بعض بني إسرائيل بموت فرعون، فألقي على ساحل البحر حتى يراه بنو إسرائيل أحمر قصيراً كأنه ثور. وأخرج ابن الأنباري عن محمد بن كعب في قوله: "فاليوم ننجيك ببدنك" قال: بدرعك، وكان درعه من لؤلؤة يلاقي فيها الحروب.

وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ

قوله: 93- "ولقد بوأنا" هذا من جملة ما عدده الله سبحانه من النعم التي أنعم بها على بني إسرائيل، ومعنى بوأنا: أسكنا، يقال: بوأت زيداً منزلاً: أسكنته فيه، والمبوأ اسم مكان أو مصدر، وإضافته إلى الصدق على ما جرت عليه قاعدة العرب، فإنهم كانوا إذا مدحوا شيئاً أضافوه إلى الصدق، والمراد به هنا المنزل المحمود المختار، قيل هو أرض مصر، وقيل الأردن وفلسطين، وقيل الشام "ورزقناهم من الطيبات" أي المستلذات من الرزق "فما اختلفوا" في أمر دينهم وتشعبوا فيه شعباً بعدما كانوا على طريقة واحدة غير مختلفة "حتى جاءهم العلم" أي لم يقع منهم الاختلاف في الدين إلا بعدما جاءهم العلم بقراءتهم التوراة وعلمهم بأحكامها، وما اشتملت عليه من الأخبار بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل المعنى: أنهم لم يختلفوا حتى جاءهم العلم، وهو القرآن النازل على نبينا صلى الله عليه وسلم، فاختلفوا في نعته وصفته، وآمن به من آمن منهم وكفر به من كفر. فيكون المراد بالمختلفين على القول الأول هم اليهود بعد أن أنزلت عليهم التوراة وعلموا بها، وعلى القول الثاني هم اليهود المعاصرين لمحمد صلى الله عليه وسلم "إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون" فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، والمحق بعمله بالحق والمبطل بعمله بالباطل.

فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ

94- "فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك" الشك في أصل اللغة: ضم الشيء بعضه إلى بعض، ومنه شك الجوهر في العقد، والشاك كأنه يضم إلى ما يتوهمه شيئاً آخر خلافه فيتردد ويتحير، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد غيره كما ورد في القرآن في غير موضع. قال أبو عمر محمد بن عبد الواحد الزاهد: سمعت الإمامين ثعلباً والمبرد يقولان: معنى "فإن كنت في شك" أي قل يا محمد للكافر فإن كنت في شك " فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك " يعني مسلمي أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأمثاله، وقد كان عبدة الأوثان يعترفون لليهود بالعلم ويقرون بأنهم أعلم منهم، فأمر الله سبحانه نبيه أن يرشد الشاكين فيما أنزله الله إليه من القرآن أن يسألوا أهل الكتاب الذين قد أسلموا، فإنهم سيخبرونهم بأنه كتاب الله حقاً، وأن هذا رسوله، وأن التوراة شاهدة بذلك ناطقة به، وفي هذا الوجه مع حسنه مخالفة للظاهر. وقال القتيبي: المراد بهذه الآية من كان من الكفار غير قاطع بتكذيب النبي صلى الله عليه وسلم ولا بتصديقه، بل كان في شك. وقيل: المراد بالخطاب النبي صلى الله عليه وسلم لا غيره. والمعنى: لو كنت ممن يلحقه الشك فيما أخبرناك به فسألت أهل الكتاب لأزالوا عنك الشك. وقيل: الشك هو ضيق الصدر: أي إن ضاق صدرك بكفر هؤلاء فاصبر واسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك يخبروك بصبر من قبلك من الأنبياء على أذى قومهم. وقيل معنى الآية: الفرض والتقدير، كأنه قال له: فإن وقع لك شك مثلاً وخيل لك الشيطان خيالاً منه تقديراً، فاسأل الذين يقرأون الكتاب، فإنهم سيخبرونك عن نبوتك وما نزل عليك، ويعترفون بذلك لأنهم يجدونه مكتوباً عندهم، وقد زال فيمن أسلم منهم ما كان مقتضياً لكتم ما عندهم. قوله: "لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين" في هذا بيان ما يقلع الشك من أصله ويذهب به بجملته، وهو شهادة الله سبحانه بأن هذا الذي وقع الشك فيه على اختلاف التفاسير في الشاك هو الحق الذي لا يخالطه باطل ولا تشوبه شبهة، ثم عقبه بالنهي للنبي صلى الله عليه وسلم عن الامتراء فيما أنزل الله عليه، بل يستمر على ما هو عليه من اليقين وانتفاء الشك.

وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ

ويمكن أن يكون هذا النهي له تعريضاً لغيره كما في مواطن من الكتاب العزيز، وهكذا القول في نهيه صلى الله عليه وسلم عن التكذيب بآيات الله، فإن الظاهر فيه التعريض ولا سيما بعد تعقيبه بقوله: 95- "فتكون من الخاسرين" وفي هذا التعريض من الزجر للممترين والمكذبين ما هو أبلغ وأوقع من النهي لهم أنفسهم، لأنه إذا كان بحيث ينهى عنه من لا يتصور صدوره عنه، فكيف بمن يمكن منه ذلك.

إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ

قوله: 96- "إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون" قد تقدم مثله في هذه السورة، والمعنى: أنه حق عليهم قضاء الله وقدره بأنهم يصرون على الكفر ويموتون عليه لا يقع منهم الإيمان بحال من الأحوال، وإن وقع منهم ما صورته صورة الإيمان كمن يؤمن منهم عند معاينة العذاب فهو في حكم العدم.

وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آَيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ

97- "ولو جاءتهم كل آية" من الآيات التكوينية والتنزيلية، فإن ذلك لا ينفعهم لأن الله سبحانه قد طبع على قلوبهم وحق منه القول عليهم "حتى يروا العذاب" فيقع منهم ما صورته صورة الإيمان وليس بإيمان، ولا يترتب عليه شيء من أحكامه.

فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آَمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آَمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ

قوله: 98- "فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها" لولا هذه هي التحضيضية التي بمعنى هلا كما قال الأخفش والكسائي وغيرهما، ويدل على ذلك كما في مصحف أبي وابن مسعود فهلا قرية والمعنى: فهلا قرية واحدة من هذه القرى التي أهلكناها آمنت إيماناً معتداً به، وذلك بأن يكون خالصاً لله قبل معاينة عذابه ولم يؤخره كما أخره فرعون، والاستثناء بقوله: "إلا قوم يونس" منقطع، وهو استثناء من القرى لأن المراد أهلها، والمعنى: لكن قوم يونس "لما آمنوا" إيماناً معتداً به قبل معاينة العذاب أو عند أول المعاينة قبل حلوله بهم "كشفنا عنهم عذاب الخزي" وقد قال بأن هذا الاستثناء منقطع جماعة من الأئمة منهم الكسائي والأخفش والفراء، وقيل: يجوز أن يكون متصلاً، والجملة في معنى النفي، كأنه قيل: ما آمنت قرية من القرى الهالكة إلا قوم يونس، وانتصابه على أصل الاستثناء. وقرئ بالرفع على البدل. وقال الزجاج في توجيه الرفع: يكون المعنى غير قوم يونس، ولكن حملت إلا عليها وتعذر جعل الإعراب عليها، فأعرب الاسم الذي بعدها بإعراب غير. قال ابن جرير: خص قوم يونس من بين الأمم بأن تيب عليهم من بعد معاينة العذاب، وحكي ذلك عن جماعة من المفسرين. وقال الزجاج: إنه لم يقع العذاب، وإنما رأوا العلامة التي تدل على العذاب، ولو رأوا عين العذاب لما نفعهم الإيمان، وهذا أولى من قول ابن جرير. والمراد بعذاب الخزي الذي كشفه الله عنهم، وهو العذاب الذي كان قد وعدهم يونس أنه سينزل عليهم ولم يروه، أو الذي قد رأوا علاماته دون عينه. "ومتعناهم إلى حين" أي بعد كشف العذاب عنهم متعهم الله في الدنيا إلى حين معلوم قدره لهم.

وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ

ثم بين سبحانه أن الإيمان وضده كلاهما بمشيئة الله وتقديره، فقال: 99- "ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم" بحيث لا يخرج عنهم أحد "جميعاً" مجتمعين على الإيمان لا يتفرقون فيه ويختلفون، ولكنه لم يشأ ذلك لكونه مخالفاً للمصلحة التي أرادها الله سبحانه، وانتصاب جميعاً على الحال كما قال سيبويه. قال الأخفش: جاء بقوله جميعاً بعد كلهم للتأكيد كقوله: "لا تتخذوا إلهين اثنين" ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً على إيمان جميع الناس أخبره الله بأن ذلك لا يكون، لأن مشيئته الجارية على الحكمة البالغة والمصالح الراجحة لا تقتضي ذلك، فقال: "أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين" فإن ذلك ليس في وسعك يا محمد ولا داخل تحت قدرتك، وفي هذا تسلية له صلى الله عليه وسلم ودفع لما يضيق به صدره من طلب صلاح الكل، الذي لو كان لم يكن صلاحاً محققاً بل يكون إلى الفساد أقرب، ولله الحكمة البالغة.

وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ

ثم بين سبحانه ما تقدم بقوله: 100- "وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله" أي ما صح وما استقام لنفس من الأنفس أن تؤمن بالله إلا بإذنه: أي بتسهيله وتيسيره ومشيئته لذلك فلا يقع غير ما يشاؤه كائناً ما كان "ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون" أي العذاب أو الكفر أو الخذلان الذي هو سبب العذاب. وقرأ الحسن وأبو بكر والمفضل ونجعل بالنون. وفي الرجس لغتان ضم الراء وكسرها، والمراد بالذين لا يعقلون: هم الكفار الذين لا يتعقلون حجج الله ولا يتفكرون في آياته ولا يتدبرونه فيما نصبه لهم من الأدلة. وقد أخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن عساكر عن قتادة في قوله: "ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق" قال: بوأهم الله الشام وبيت المقدس. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الضحاك قال: منازل صدق مصر والشام. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن زيد في قوله: "فما اختلفوا حتى جاءهم العلم" قال: العلم كتاب الله الذي أنزله وأمره الذي أمرهم به. وقد ورد في الحديث أن اليهود اختلفوا على إحدى وسبعين فرقة، وأن النصارى اختلفوا على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، وهو في السنن والمسانيد، والكلام فيه يطول. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والضياء في المختارة عن ابن عباس في قوله: "فإن كنت في شك" الآية، قال: لم يشك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يسأل. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن قتادة: ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا أشك ولا أسأل. وهو مرسل. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: " فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك " قال: التوراة والإنجيل الذين أدركوا محمداً من أهل الكتاب وآمنوا به، يقول: سلهم إن كنت في شك بأنك مكتوب عندهم. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون" قال: حق عليهم سخط الله بما عصوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك في قوله: "فلولا كانت قرية آمنت" يقول: فما كانت قرية آمنت. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في الآية قال: لم يكن هذا في الأمم قبل قوم يونس لم ينفع قرية كفرت ثم آمنت حين عاينت العذاب إلا قوم يونس، فاستثنى الله قوم يونس. قال: وذكر لنا أن قوم يونس كانوا بنينوى من أرض الموصل، فلما فقدوا نبيهم قذف الله في قلوبهم التوبة فلبسوا المسوح وأخرجوا المواشي وفرقوا بين كل بهيمة وولدها، فعجوا إلى الله أربعين صباحاً، فلما عرف الله الصدق من قلوبهم والتوبة والندامة على ما مضى منهم كشف عنهم العذاب بعد ما تدلى عليهم لم يكن بينهم وبين العذاب إلا ميل. وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن يونس دعا لقومه، فلما أبوا أن يجيبوه وعدهم العذاب، فقال: إنه يأتيكم يوم كذا وكذا، ثم خرج عنهم، وكانت الأنبياء إذا وعدت قومها العذاب خرجت، فلما أظلهم العذاب خرجوا ففرقوا بين المرأة وولدها، وبين السخلة وولدها، وخرجوا يعجون إلى الله، وعلم الله منهم الصدق فتاب عليهم وصرف عنهم العذاب، وقعد يونس في الطريق يسأل عن الخبر، فمر به رجل فقال: ما فعل قوم يونس؟ فحدثه بما صنعوا، فقال: لا أرجع إلى قوم قد كذبتهم، وانطلق مغاضباً: يعني مراغماً. وأخرج أحمد في الزهد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير قال: غشي قوم يونس العذاب كما يغشى القبر بالثوب إذا دخل فيه صاحبه ومطرت السماء دماً. وأخرج أحمد في الزهد وابن جرير عن ابن عباس أن العذاب كان هبط على قوم يونس لم يكن بينهم وبينه إلا قدر ثلثي ميل، فلما دعوا كشفه الله عنهم. وأخرج أحمد في الزهد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي الجلد قال: لما غشي قوم يونس العذاب مشوا إلى شيخ من بقية علمائهم، فقالوا له: ما ترى؟ قال: قولوا يا حي حين لا حي، ويا حي محيي الموتى، ويا حي لا إله إلا أنت، فقالوا فكشف عنهم العذاب. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ويجعل الرجس" قال: السخط. وأخرج أبو الشيخ عن قتادة قال: الرجس: الشيطان، والرجس العذاب.

قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ

قوله: 101- "قل انظروا ماذا في السموات والأرض" لما بين سبحانه أن الإيمان لا يحصل إلا بمشيئة الله أمر بالنظر والاستدلال بالدلائل السماوية والأرضية، والمراد بالنظر: التفكر والاعتبار: أي قل يا محمد للكفار تفكروا واعتبروا بما في السموات والأرض من المصنوعات الدالة على الصانع ووحدته وكمال قدرته. وماذا مبتدأ، وخبره في السموات والأرض. أو المبتدأ ما، وذا بمعنى الذي، وفي السموات والأرض صلته، والموصول وصلته خبر المبتدأ: أي أي شيء الذي في السموات والأرض، وعلى التقديرين فالجملة في محل نصب بالفعل الذي قبلها. ثم ذكر سبحانه أن التفكر والتدبر في هذه الدلائل لا ينفع في حق من استحكمت شقاوته فقال: "وما تغني الآيات والنذر" أي ما تنفع على أن ما نافية، ويجوز أن تكون استفهامية: أي أي شيء ينفع، والآيات هي التي عبر عنها بقوله: "ماذا في السموات والأرض" والنذر جمع نذير، وهم الرسل أو جمع إنذار وهو المصدر "عن قوم لا يؤمنون" في علم الله سبحانه، والمعنى: أن من كان هكذا لا يجدي فيه شيء ولا يدفعه عن الكفر دافع.

فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ

قوله: 102- "فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم" أي فهل ينتظر هؤلاء الكفار المعاصرون لمحمد صلى الله عليه وسلم إلا مثل وقائع الله سبحانه بالكفار الذين خلوا من قبل هؤلاء، فقد كان الأنبياء المتقدمون يتوعدون كفار زمانهم بأيام مشتملة على أنواع العذاب، وهم يكذبونهم ويصممون على الكفر حتى ينزل الله عليهم عذابه ويحل بهم انتقامه، ثم قال: "قل" يا محمد لهؤلاء الكفار المعاصرين لك "فانتظروا" أي تربصوا لوعد ربكم إني معكم من المتربصين لوعد ربي، وفي هذا تهديد شديد، ووعيد بالغ بأنه سينزل بهؤلاء ما نزل بأولئك من الإهلاك.

ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ

وثم في قوله: 103- "ثم ننجي رسلنا" للعطف على مقدر يدل عليه ما قبله كأنه قيل أهلكنا الأمم ثم نجينا رسلنا المرسلين إليهم. وقرأ يعقوب ثم "ننجي" مخففاً. وقرأ كذلك أيضاً في "حقاً علينا ننج المؤمنين". وروي كذلك عن الكسائي وحفص في الثانية. وقرأ الباقون بالتشديد، وهما لغتان فصيحتان: أنجى ينجي إنجاء، ونجى ينجي تنجية بمعنى واحد "والذين آمنوا" معطوف على رسلنا: أي نجيناهم ونجينا الذين آمنوا، والتعبير بلفظ الفعل المستقبل لاستحضار صورة الحال الماضية تهويلاً لأمرها "كذلك حقاً علينا" أي حق ذلك علينا حقاً، أو إنجاء مثل ذلك الإنجاء حقاً "ننج المؤمنين" من عذابنا للكفار، والمراد بالمؤمنين: الجنس، فيدخل في ذلك الرسل وأتباعهم، أو يكون خاصاً بالمؤمنين وهم أتباع الرسل، لأن الرسل داخلون في ذلك بالأولى.

قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ

قوله: 104- "قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني" أمر سبحانه رسوله بأن يظهر التباين بين طريقته وطريقة المشركين مخاطباً لجميع الناس، أو للكفار منهم، أو لأهل مكة على الخصوص بقوله: إن كنتم في شك من ديني الذي أنا عليه، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، ولم تعلموا بحقيقته ولا عرفتم صحته، وأنه الدين الحق الذي لا دين غيره، فاعلموا أني بريء من أديانكم التي أنتم عليها "فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله" في حال من الأحوال "ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم" أي أخصه بالعبادة لا أعبد غيره من معبوداتكم من الأصنام وغيرها، وخص صفة المتوفى من بين الصفات لما في ذلك من التهديد لهم: أي أعبد الله الذي يتوفاكم فيفعل بكم ما يفعل من العذاب الشديد، ولكونه يدل على الخلق أولاً، وعلى الإعادة ثانياً، ولكونه أشد الأحوال مهابة في القلوب، ولكونه يدل على الخلق أولاً، وعلى الإعادة ثانياً، ولكونه أشد الأحوال مهابة في القلوب، ولكونه قد تقدم ذكر الإهلاك والوقائع النازلة بالكفار من الأمم السابقة، فكأنه قال: أعبد الله الذي وعدني بإهلاككم. ولما ذكر أنه لا يعبد إلا الله بين أنه مأمور بالإيمان فقال: "وأمرت أن أكون من المؤمنين" أي بأن أكون من جنس من آمن بالله وأخلص له الدين.

وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ

وجملة 105- "وأن أقم وجهك للدين" معطوفة على جملة "أن أكون من المؤمنين" ولا يمنع من ذلك كون المعطوف بصيغة الأمر لأن المقصود من أن الدلالة على المصدر، وذلك لا يختلف بالخبرية والإنشائية، أو يكون المعطوف عليه في معنى الإنشاء، كأنه قيل: كن مؤمناً ثم أقم، والمعنى: أن الله سبحانه أمره بالاستقامة في الدين والثبات فيه، وعدم التزلزل عنه بحال من الأحوال. وخص الوجه لأنه أشرف الأعضاء، أو أمره باستقبال القبلة في الصلاة وعدم التحول عنها. وحنيفاً حال من الدين، أو من الوجه: أي مائلاً عن كل دين من الأديان إلى دين الإسلام. ثم أكد الأمر المتقدم للنهي عن ضده فقال: "ولا تكونن من المشركين" وهو معطوف على أقم، وهو من باب التعريض لغيره صلى الله عليه وسلم.

وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ

قوله: 106- "ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك" معطوف على "قل يا أيها الناس" غير داخل تحت الأمر، وقيل معطوف على ولا تكونن أي لا تدع من دون الله على حال من الأحوال ما لا ينفعك ولا يضرك بشيء من النفع والضر إن دعوته، ودعاء من كان هكذا لا يجلب نفعاً، ولا يقدر على ضر ضائع لا يفعله عاقل على تقدير أنه لا يوجد من يقدر على النفع والضر غيره، فكيف إذا كان موجوداً؟ فإن العدول عن دعاء القادر إلى دعاء غير القادر أقبح وأقبح "فإن فعلت" أي فإن دعوت، ولكنه كنى عن القول بالفعل "فإنك إذاً من الظالمين" هذا جزاء الشرط: أي فإن دعوت من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإنك في عداد الظالمين لأنفسهم، والمقصود من هذا الخطاب التعريض بغيره صلى الله عليه وسلم.

وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ

وجملة 107- "وإن يمسسك الله بضر" إلى آخرها مقررة لمضمون ما قبلها. والمعنى أن الله سبحانه هو الضار النافع، فإن أنزل بعبده ضراً لم يستطع أحد أن يكشفه كائناً من كان، بل هو المختص بكشفه كما اختص بإنزاله "وإن يردك بخير" أي خير كان لم يستطع أحد أن يدفعه عنك ويحول بينك وبينه كائناً من كان، وعبر بالفضل مكان الخير للإرشاد إلى أنه يتفضل على عباده بما لا يستحقونه بأعمالهم. قال الواحدي: إن قوله: "وإن يردك بخير" هو من القلب، وأصله وإن يرد بك الخير، ولكن لما تعلق كل واحد منهما بالآخر جاز أن يكون كل واحد منهما مكان الآخر. قال النيسابوري: وفي تخصيص الإرادة بجانب الخير، والمس بجانب الشر دليل على أن الخير يصدر عنه سبحانه بالذات، والشر بالعرض. قلت: وفي هذا نظر فإن المس هو أمر وراء الإرادة فهو مستلزم لها، والضمير في يصيب به راجع إلى فضله: أي يصيب بفضله من يشاء من عباده، وجملة "وهو الغفور الرحيم" تذييلية.

قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ

ثم ختم هذه السورة بما يستدل به على قضائه وقدره، فقال: 108- "قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم" أي القرآن "فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها" أي منفعة اهتدائه مختصة به، وضرر كفره مقصور عليه لا يتعداه، وليس لله حاجة في شيء من ذلك، ولا غرض يعود إليه "وما أنا عليكم بوكيل" أي بحفيظ يحفظ أموركم وتوكل إليه: إنما أنا بشير ونذير.

وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ

ثم أمره الله سبحانه أن يتبع ما أوحاه الله إليه من الأوامر والنواهي التي يشرعها الله له ولأمته ثم أمره بالصبر على أذى الكفار وما يلاقيه من مشاق التبليغ وما يعانيه من تلون أخلاق المشركين وتعجرفهم، وجعل ذلك الصبر ممتداً إلى غاية هي قوله: "حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين" أي يحكم الله بينه وبينهم في الدنيا بالنصر له عليهم، وفي الآخرة بعذابهم بالنار وهم يشاهدونه صلى الله عليه وسلم هو وأمته، المتبعون له المؤمنون به، العاملون بما يأمرهم به، المنتهون عما ينهاهم عنه، يتقلبون في نعيم الجنة الذي لا ينفد، ولا يمكن وصفه، ولا يوقف على أدنى مزاياه. وقد أخرج أبو الشيخ عن السدي في قوله: "وما تغني الآيات والنذر عن قوم" يقول: عند قوم "لا يؤمنون" نسخت قوله: " حكمة بالغة فما تغن النذر ". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: "فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم" قال: وقائع الله في الذين خلوا من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن الربيع في الآية قال: خوفهم عذابه ونقمته وعقوبته، ثم أخبرهم أنه إذا وقع من ذلك أمر نجى الله رسله والذين آمنوا، فقال: "ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا" الآية. وأخرج أبو الشيخ عن السدي في قوله: "وإن يردك بخير" يقول: بعافية وأخرج البيهقي في الشعب عن عامر بن قيس قال: ثلاث آيات في كتاب الله اكتفيت بهن عن جميع الخلائق: أولهن: "وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله"، والثانية: "ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له"، والثالثة: "ما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها". وأخرج أبو الشيخ عن الحسن نحوه. وأخرج أبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "فلا راد لفضله" قال: هو الحق المذكور في قوله: "قد جاءكم الحق من ربكم". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم في قوله: "واصبر حتى يحكم الله" قال: هذا منسوخ، أمره بجهادهم والغلظة عليهم.


1-الفاتحة 2-البقرة 3-آل-عمران 4-النساء 5-المائدة 6-الأنعام 7-الأعراف 8-الأنفال 9-التوبة 10-يونس 11-هود 12-يوسف 13-الرعد 14-إبراهيم 15-الحجر 16-النحل 17-الإسراء 18-الكهف 19-مريم 20-طه 21-الأنبياء 22-الحج 23-المؤمنون 24-النور 25-الفرقان 26-الشعراء 27-النمل 28-القصص 29-العنكبوت 30-الروم 31-لقمان 32-السجدة 33-الأحزاب 34-سبأ 35-فاطر 36-يس 37-الصافات 38-ص 39-الزمر 40-غافر 41-فصلت 42-الشورى 43-الزخرف 44-الدخان 45-الجاثية 46-الأحقاف 47-محمد 48-الفتح 49-الحجرات 50-ق 51-الذاريات 52-الطور 53-النجم 54-القمر 55-الرحمن 56-الواقعة 57-الحديد 58-المجادلة 59-الحشر 60-الممتحنة 61-الصف 62-الجمعة 63-المنافقون 64-التغابن 65-الطلاق 66-التحريم 67-الملك 68-القلم 69-الحاقة 70-المعارج 71-نوح 72-الجن 73-المزمل 74-المدثر 75-القيامة 76-الإنسان 77-المرسلات 78-النبأ 79-النازعات 80-عبس 81-التكوير 82-الانفطار 83-المطففين 84-الانشقاق 85-البروج 86-الطارق 87-الأعلى 88-الغاشية 89-الفجر 90-البلد 91-الشمس 92-الليل 93-الضحى 94-الشرح 95-التين 96-العلق 97-القدر 98-البينة 99-الزلزلة 100-العاديات 101-القارعة 102-التكاثر 103-العصر 104-الهمزة 105-الفيل 106-قريش 107-الماعون 108-الكوثر 109-الكافرون 110-النصر 111-المسد 112-الإخلاص 113-الفلق 114-الناس