islamkingdomfaceBook islamkingdomtwitter islamkingdominstagram islamkingdomyoutube islamkingdomnew

فتح القدير
18605

33-الأحزاب

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا

هي ثلاث وسبعون آية، وهي مدنية أخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل من طرق عن ابن عباس قال: نزلت سورة الأحزاب بالمدينة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. وأخرج عبد الرزاق في المصنف والطيالسي وسعيد بن منصور وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند وابن منيع والنسائي وابن المنذر وابن الأنباري في المصاحف والدارقطني في الإفراد والحاكم وصححه، وابن مردويه والضياء في المختارة عن زر قال: قال لي أبي بن كعب كأي تقرأ سورة الأحزاب أو كأين تعدها، قلت ثلثاً وسبعين آية، فقال أقط لقد رأيتها وإنها لتعادل سورة البقرة، أو أكثر من سورة البقرة، ولقد قرأنا فيها الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم فرفع فيما رفع قال ابن كثير: وإسناده حسن. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب قام، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد أيها الناس إن الله بعث محمداً بالحق وأنزل عليه الكتاب، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم، فقرأناها ووعيناها الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده، فأخشى أن يطول بالناس زمان أن يقول قائل: لا نجد آية الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله. وقد وري عنه نحو هذا من طرق. وأخرج ابن مردويه عن حذيفة قال: قال لي عمر بن الخطاب: كم تعدون سورة الأحساب؟ قلت ثنتين أو ثلاثاً وسبعين، قال: إن كانت لتقارب سورة البقرة، وإن كان فيها لآية الرجم. وأخرج البخاري في تاريخه قال: قرأت سورة الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فنسيت منها سبعين آية ما وجدتها. وأخرج أبو عبيد في الفضائل وابن الأنباري وابن مردويه عن عائشة قالت: كانت سورة الأحزاب تقرأ في زمان النبي صلى الله عليه وسلم مائتي آية، فلما كتب عثمان المصاحف لم يقرر منها إلا على ما هو الآن. قوله: 1- "يا أيها النبي اتق الله" أي دم على ذلك وازدد منه "ولا تطع الكافرين" من أهل مكة ومن هو على مثل كفرهم "والمنافقين" أي الذين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر. قال الواحدي: إنه أراد سبحانه بالكفارين أبا سفيان وعكرمة وأبا الأعور السلمي، وذكل أنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ارفض ذكر آلهتنا، وقل إن لها شفاعة لمن عبدها. قال: والمنافقين عبد الله بن أبي وعبد الله بن سعد بن أبي سرح. وسيأتي آخر البحث بيان سبب نزول الآية "إن الله كان عليماً حكيماً" أي كثير العلم والحكمة بليغهما، قال النحاس: ودل بقوله: "إن الله كان عليماً حكيماً" على أنه كان يميل إليهم: يعني النبي صلى الله عليه وسلم استدعاء لهم إلى الإسلام، والمعنى: أن الله عز وجل لو علم أن ميلك إليهم فيه منفعة لما نهاك عنهم لأنه حكيم، ولا يخفى بعد هذه الدلالة التي زعمها، ولكن هذه الجملة تعليل لجملة الأمر بالتقوى والنهي عن طاعة الكافرين والمنافقين، والمعنى: أنه لا يأمرك أو ينهاك إلا بما علم فيه صلاحاً أو فساداً لكثرة علمه وسعة حكمته.

وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا

2- "واتبع ما يوحى إليك من ربك" من القرآن: أي اتبع الوحي في كل أمورك ولا تتبع شيئاً مما عداه من مشورات الكافرين والمنافقين ولا من الرأي البحت، فإن فيما أوحي إليك ما يغنيك عن ذلك، وجملة "إن الله كان بما تعملون خبيراً" تعليل لأمره باتباع ما أوحي إليك، والأمر له صلى الله عليه وسلم أمر لأمته، فهم مأمورون باتباع القرآن كما هو مأمور باتباعه، ولهذا جاء بخطابه وخطابهم في قوله: "بما تعملون" على قراءة الجمهور بالفوقية للخطاب، واختار هذه القراءة أبو عبيدة وأبو حاتم. وقرأ أبو عمرو والسلمي وابن أبي إسحاق بالتحتية.

وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا

3- "وتوكل على الله وكفى بالله وكيلاً" أي اعتمد عليه وفوض أمورك إليه، وكفى به حافظاً يحفظ من توكل عليه.

مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي ال

ثم ذكر سبحانه مثلاً توطئه وتمهيداً لما يتعقبه من الأحكام القرآنية التي هي من الوحي الذي أمره الله باتباعه فقال: 4- "ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه". وقد اختلف في سبب نزول هذه الآية كما سيأتي، وقيل هي مثل ضربه الله للمظاهر: أي كما لا يكون للرجل قلبان كذلك لا تكون امرأة المظاهر أمه حتى يكون له أمان، وكذلك لا يكون الدعي ابناً لرجلين. وقيل كان الواحد من المنافقين يقول: لي قلب يأمرني بكذا وقلب بكذا. فنزلت الآية لرد النفاق وبيان أنه لا يجتمع مع الإسلام كما لا يجتمع قلبان، والقلب بضعة صغيرة على هيئة الصنوبرة خلقها الله وجعلها محلاً للعلم " وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم " وقرأ الكوفيون وابن عامر "اللائي" بياء ساكنة بعد همزة، وقرأ أبو عمرو والبزي بياء ساكنة بعد ألف محضة. قال أبو عمرو بن العلاء: إنها لغة قريش التي أمر الناس أن يقرأوا بها. وقرأ قنبل وورش بهمزة مكسورة بدون ياء. قرأ عاصم "تظاهرون" بضم الفوقية وكسر الهاء بعد ألف مضارع ظاهر، وقرأ ابن عامر بفتح الفوقية والهاء وتشديد الظاء مضارع تظاهر، والأصل تتظاهرون وقرأ الباقون تظهرون بفتح الفوقية بدون الظاء بدون ألف، والأصل تتظهرون، والظهار مشتق من الظهر، وأصله أن يقول الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي، والمعنى: وما جعل الله نساءكم اللائي تقولون لهن هذا القول كأمهاتكم في التحريم، ولكنه منكر من القول وزور "و" كذلك "ما جعل" الأدعياء الذين تدعون أنهم "أبناءكم" أبناء لكم، والأدعياء جمع دعي، وهو الذي يدعي ابناً لغير أبيه، وسيأتي الكلام في الظهار في سورة المجادلة، والإشارة بقوله: "ذلكم" إلى ما تقدم من ذكر الظهار والادعاء، وهو مبتدأ وخبره "قولكم بأفواهكم" أي ليس ذلك إلا مجرد قول بالأفواه ولا تأثير له، فلا تصير المرأة به أما ولا ابن الغير به ابناً، ولا يترتب على ذلك شيء من أحكام الأمومة والبنوة. وقيل الإشارة راجعة إلى الادعاء: أي ادعاؤكم أن أبناء الغير أبناؤكم لا حقيقة له، بل هو مجرد قول بالفم "والله يقول الحق" الذي يحق اتباعه لكونه حقاً في نفسه لا باطلاً، فيدخل تحته دعاء الأبناء لآبائهم "وهو يهدي السبيل" أي يدل على الطريق الموصلة إلى الحق، وفي هذا إرشاد للعباد إلى قول الحق وترك قول الباطل والزور.

ادْعُوهُمْ لِآَبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آَبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمً

ثم صرح سبحانه بما يجب على العباد من دعاء الأبناء للآباء فقال: 5- "ادعوهم لآبائهم" للصلب واسبوهم إليهم ولا تدعوهم إلى غيرهم، وجملة "هو أقسط عند الله" تعليل للأمر بدعاء الأبناء للآباء، والضمير راجع إلى مصدر ادعوهم، ومعنى أقسط أعدل: أي أعدل كل كلام يتعلق بذلك، فترك الإضافة للعموم كقوله الله أكبر، وقد يكون المضاف إليه مقدراً خاصاً: أي أعدل من قولكم هو ابن فلان ولم يكن ابنه لصلبه. ثم تمم سبحانه الإرشاد للعباد فقال: "فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم" أي فهم إخوانكم في الدين وهم مواليكم، فقولوا: أخي ومولاي ولا تقولوا ابن فلان، حيث لم تعلموا آباءهم على الحقيقية: قال الزجاج: ويجوز أن يكون مواليكم أولياءكم في الدين. وقيل المعنى: فإن كانوا محررين ولم يكونوا أحراراً، فقولوا موالي فلان "وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به" أي لا إثم عليكم فيما وقع منكم من ذلك خطأ من غير عمد، "ولكن" الإثم في "ما تعمدت قلوبكم" وهو ما قلتموه على طريقة العمد من نسبة الأبناء إلى غير آبائهم مع علمكم بذلك. قال قتادة: لو دعوت رجلاً لغير أبيه وأنت ترى أنه أبوه لم يكن عليك بأس "وكان الله غفوراً رحيماً" يغفر للمخطئ ويرحمه ويتجاوز عنه، أو غفوراً للذنوب رحيماً بالعباد، ومن جملة من يغفر له ويرحمه من دعا رجلاً لغير أبيه خطأ. أو قبل النهي عن ذلك.

النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَ

ثم ذكر سبحانه لرسوله مزية عظيمة وخصوصية جليلة لا يشاركه فيها أحد من العباد فقال: 6- "النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم" أي هو أحق بهم في كل أمور الدين والدنيا، وأولى بهم من أنفسهم فضلاً عن أن يكون أولى بهم من غيرهم، فيجب عليهم أن يؤثروه بما أراده من أموالهم، وإن كانوا محتاجين إليها، ويجب عليهم أن يحبوه زيادة على حبهم أنفسهم، ويجب عليهم أن يقدموا حكمه عليهم على حكمهم لأنفسهم. وبالجملة فإذا دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم لشيء ودعتهم أنفسهم إلى غيره وجب عليهم أن يقدموا ما دعاهم إليه ويؤخروا ما دعتهم أنفسهم إليه، ويجب عليهم أن يطيعوه فوق طاعتهم لأنفسهم ويقدموا طاعته على ما تميل إليه أنفسهم وتطلبه خواطرهم. وقيل المراد بأنفسهم في الآية بعضهم، فيكون المعنى: أن النبي أولى بالمؤمنين من بعضهم ببعض. وقيل هي خاصة بالقضاء: أي هو أولى بهم من أنفسهم فيما قضى بيه بينهم. وقيل أولى بهم في الجهاد بين يديه وبذل النفس دونه، والأول أولى "وأزواجه أمهاتهم" أي مثل أمهاتهم في الحكم بالتحريم ومنزلات منزلتهن في استحقاق التعظيم فلا يحل لأحد أن يتزوج بواحدة منهن كما لا يحل له أن يتزوج بأمه، فهذه الأمومة مختصة بتحريم النكاح لهن وبالتعظيم لجنابهن، وتخصيص المؤمنين يدل على أنهن لسن أمهات نساء المؤمنين ولا بناتهن أخوات المؤمنين، ولا أخوتهن أخوال المؤمنين. وقال القرطبي: الذي يظهر لي أنهن أمهات الرجال والنساء تعظيماً لخقهن على الرجال والنساء ضرورة. قال: ثم أن في مصحف أبي بن كعب وأزواجه أمهاتهم، وهو أب لهم وقرأ ابن عباس أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب وأزواجه أمهاتهم، ثم بين سبحانه أن القرابة أولى ببعضهم البعض فقال: " وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض " المراد بأولى الأرحام القرابات: أي هم أحق ببعضهم البعض في الميراث، وقد تقدم تفسير هذه الآية في آخر سورة الأنفال وهي ناسخة لما كان في صدر الإسلام من التوارث بالهجرة والموالاة. قال قتادة: لما نزل قوله سبحانه في سورة الأنفال: "والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا" فتوارث المسلمون بالهجرة، ثم نسخ ذلك بهذه الآيةن وكذا قال غيره. وقيل إن هذه الآية ناسخة للتوارث بالحلف والمؤاخاة في الدين، و "في كتاب الله" يجوز أن يتعلق بأفعل التفضيل في قوله: "أولى ببعض" لأنه يعمل في الظرف، ويجوز أن يتعلق بمحذوف هو حال من الضمير: أي كائناً في كتاب الله والمراد بالكتاب الوح المحفوظ أو القرآن أو آية المواريث، وقوله: "من المؤمنين" يجوز أن يكون بياناً لأولوا الأرحام والمعنى أن ذوي القرابات من المؤمنين "والمهاجرين" بعضهم أولى ببعض، ويجوز أن يكون بياناً لأولوا الأرحام والمعنى أن ذوي القرابات من المؤمنين "والمهاجرين" بعضم أولى ببعض، ويجوز أن يتعلق بأولي: أي أولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض من المؤمنين والمهاجرين الذي هم أجانب، وقيل إن معنى الآية: وأولوا الأرحام ببعضهم أولى ببعض: ألا ما يجوز لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم من كونهم كالأمهات في تحريم النكاح، وفي هذا من الضعف ما لا يخفى "إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفاً" هذا الاستثناء إما متصل من أعم العام، والتقدير: وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كل شيء من الإرث وغيره إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفاً من صدقة أو وصية فإن ذلك جائز. قاله قتادة والحسن وعطاء ومحمد ابن الحنفية. قال محمد ابن الحنفية: نزلت في إجازة الوصية لليهودي والنصراني. فالكافر ولي في النسب لا في الدين، فتجوز الوصية له، ويجوز أن يكون منقطعاً، والمعنى: لكن فعل المعروف للأولياء لا بأس به، ومعنى الآية: أن الله سبحانه لما نسخ التوارث بالحلف والهجرة أباح أن يوصي لهم. وقال مجاهد: اراد بالمعروف النصرة وحفظ الحرمة بحق الإيمان والهجرة، والإشارة بقوله: "كان ذلك" إلى ما تقدم ذكره: أي كان نسخ الميراث بالهجرة والمحالفة والمعاقدة، ورده إلى ذوي الأرحام من القرابات "في الكتاب مسطوراً" أي في اللوح المحفوظ، أو في القرآن مكتوباً. وقد أخرج أحمد والترمذي وحسنه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والضياء في المختارة عن ابن عباس قال: قام النبي صلى الله عليه وسلم يوماً يصلي، فخطر خطرة، فقال المنافقون الذين يصلون معه: ألا ترى أن له قلبين قلباً معكم وقلباً معهم؟ قنزل "ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه". وأخرج ابن مردويه عنه من طريق أخرى بلفظ صلى لله النبي صلى الله عليه وسلم صلاة فسها فيها، فخطرت منه كلمة فسمعها المنافقون، فقالوا: إن له قلبين، فنزلت. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عنه أيضاً قال: كان رجل من قريش يسمى من دهائه ذا القلبين، فأنزل الله هذا في شأنه. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عمر أن زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد حتى نزل القرآن "ادعوهم لآبائهم" الآية، فقال رسول الله أنت زيد بن حارثة بن شراحيل. وأخرج البخاري وغيره عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة، اقرأوا إن شئتم "النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم" فأيما مؤمن ترك مالاً فلترثه عصبته من كانوا، فإن ترك ديناً أو ضياعاً فليأتني فأنا مولاه". وأخرج أحمد وأبو داود وابن مردويه من حديث جابر نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والنسائي عن بريدة قال "غزوت مع علي إلى اليمن فرأيت منه جفوة، فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرت علياً فتنقصته، فرأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم تغير وقال: يا بريدة ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قلت بلى يا رسول الله، قال: من كنت مولاه فعلي مولاه" وقد ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين". وأخرج ابن سعد وابن المنذر والبيهقي في سننه عن عائشة أن امرأة قالت لها: يا أمه، فقالت: أنا أم رجالكم ولست أم نسائكم. وأخرج ابن سعد عن أم سلمة قالت: أنا أم الرجال منكم والنساء وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وإسحاق بن راهويه وابن المنذر والبيهقي في دلائله عن بجالة: قال مر عمر بن الخطاب بغلام وهو يقرأ في المصحف النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم فقال يا غلام حكها، فقال: هذا مصحف أبي، فذهب إليه فسأله، فقال: إنه كان يلهيني القرآن ويلهيك الصفق في الأسواق. وأخرج الفريابي والحاكم وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عباس أنه كان يقرأ النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم وأزواجه أمهاتهم.

وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا

قوله: 7- " وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم " العامل في الظرف محذوف: أي واذكر، كأنه قال: يا أيها النبي اتق الله واذكر أن الله أخذ ميثاق النبيين. قال قتادة: أخذ الله الميثاق على النبيين خصوصاً أن يصدق بعضهم بعضاً ويتبع بعضهم بعضاً. وقال مقاتل: أخذ ميثاقهم على أن يعبدوا الله، ويدعوا إلى عبادة الله، وأن يصدق بعضهم بعضاً، وأن ينصحوا لقومهم. والميثاق هو اليميمن، وقيل هو الإقرار بالله، والأول أولى، وقد سبق تحقيقه. ثم خصص سبحانه بعض النبيين بالذكر بعد التعميم الشامل لهم ولغيرهم، فقال: "ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم" ووجه تخصيصهم بالذكر الإعلام بأن لهم مزيد شرف وفضل لكونهم من أصحاب الشرائع المشهورة ومن أولي العزم من الرسل، وتقديم ذكر نبينا صلى الله عليه وسلم مع تأخر زمانه فيه من التشريف له والتعظيم ما لا يخفى. قال الزجاج: وأخذ الميثاق حيث أخرجوا من صلب آدم كالذر. ثم أكد ما أخذه على النبيين من الميثاق بتكرير ذكره ووصفه بالغلظ فقال: "وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً" أي عهداً شديداً على الوفاء بما حملوا وما أخذه الله عليهم، ويجوز أن يكون قد أخذ الله عليهم الميثاق مرتين، فأخذ عليهم في المرة الأولى مجر الميثاق بدون تغليظ ولا تشديد، ثم أخذه عليهم ثانياً مغلظاً مشدداً، ومثل هذه الآية قوله: " وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه ".

لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا

واللام في قوله: 8- "ليسأل الصادقين عن صدقهم" يجوز أن تكون لام كي: أي لكي يسأل الصادقين من النبيين عن صدقهم في تبليغ الرسالة إلى قومهم، وفي هذا وعيد لغيرهم، لأنهم إذا كانوا يسألون عن ذلك فكيف غيرهم. وقيل ليسأل الأنبياء عما أجابهم به قومهم كما في قوله: "فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين" ويجوز أن تتعلق بمحذوف: أي فعل ذلك ليسأل، "وأعد للكافرين عذاباً أليماً" معطوف على ما دل عليه "ليسأل الصادقين" إذ التقدير: أثاب الصادقين وأعد للكافرين، ويجوز أن يكون معطوفاً على أخذنا، لأن المعنى: أكد على الأنبياء الدعوة إلى دينه ليثيب المؤمنين وأعد للكافرين. وقيل إنه قد حذف من الثاني ما أثبت مقابله في الأول، ومن الأول ما أثبت مقابله في الثاني، والتقدير: ليسال الصادقين عن صدقهم فأثابهم، ويسأل الكافرين عما أجابوا به رسلهم وأعد لهم عذاباً أليماً. وقيل إنه معطوف على المقدر عاملاً في ليسأل كما ذكرنا، ويجوز أن يكون الكلام قد تم عند قوله: "ليسأل الصادقين عن صدقهم" وتكون جملة "وأعد لهم" مستأنفة لبيان ما أعده للكفار.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا

9- "يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم" هذا تحقيق لما سبق من الأمر بتقوى الله بحيث لا يبقى معها خوف من أحد وقوله عليكم متعلق بالنعمة إن كانت مصدراً أو بمحذوف هو حال: أي كائنة عليكم، ومعنى "إذ جاءتكم جنود" حين جاءتكم جنود، وهو ظرف للنعمة، أو للمقدر عاملاً في عليكم، أو لمحذوف هو اذكر، والمراد بالجنود: جنود الأحزاب الذين تحزبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وغزوه إلى المدينة، وهي الغزوة المسماة غزوة الخندق وهم: أبو سفيان بن حرب بقريش ومن معهم من الألفاف، وعيينة بن حصن الفزاري ومن معه من قومه غطفان وبنو قريظة والنضير، فضايقوا المسلمين مضايقة شديدة كما وصف الله سبحانه في هذه الآيات، وكانت هذه الغزوة في شوال سنة خمس من الهجرة. قاله ابن إسحاق. وقال ابن وهب وابن القاسم عن مالك: كانت في سنة أربع. وقد بسط أهل السير في هذه الوقعة ما هو معروف فلا نطيل بذكرها "فأرسلنا عليهم ريحاً" معطوف على جاءتكم. قال مجاهد: هي الصبا، أرسلت على الأحزاب يوم الخندق حتى ألقت قدورهم ونزعت فساطيطهم، ويدل على هذا ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من قوله نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور، والمراد بقوله: "وجنوداً لم تروها" الملائكة. قال المفسرونك بعث الله عليهم الملائكة فقلعت الأوتاد، وقطعت أطناب الفساطيط، وأطفأت النيران، وأكفأت القدور، وجالت الخيل بعضها في بعض، وأرسل الله عليهم الرعب، وكثر تكبير الملائكة في جوانب العسكر حتى كان سيد كل قوم يقول لقومه: يا بني فلان هلم إلي، فإذا اجتمعوا قال لهم: النجاء النجاء "وكان الله بما تعملون بصيراً" قرأ الجمهور "تعملون" بالفوقية: أي بما تعملون أيها المسلمون من ترتيب الحرب، وحفر الخندق، واستنصاركم به، وتوكلكم عليه، وقرأ أبو عمرو بالتحتية: أي بما يعمله الكفار من العناد لله ولرسوله، والتحزب على المسلمين واجتماعهم عليهم من كل جهة.

إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا

10- " إذ جاءوكم من فوقكم " إذ هذه وما بعدها بدل من إذ الأولى، والعامل في هذه هو العامل في تلك، وقيل منصوبة بمحذوف هو اذكر، ومعنى "من فوقكم" من أعلى الوادي، وهو من جهة المشرق، والذين جاءوا من هذه الجهة هم غطفان وسيدهم عيينة بن حصين، وهوازن وسيدهم عوف بن مالك، وأهل نجد وسيدهم طليحة بن خويلد الأسدي، وانضم إليهم عوف بن مالك وبنوا النضير، ومعنى "ومن أسفل منكم" من أسفل الوادي من جهة المغرب من ناحية مكة، وهم قريش ومن معهم من الأحابيش، وسيدهم أبو سفيان بن حرب، وجاء أبو الأعور السلمي ومعه حيي بن أخطب اليهودي في يهود بني قريظة من وجه الخندق، ومعهم عامر بن الطفيل، وجملة " وإذ زاغت الأبصار " معطوفة على ما قبلها: أي مالت عن كل شيء فلم تنظر إلا إلى عدوها مقبلاً من كل جانب، وقيل شخصت دهشاً من فرط الهول والحيرة "وبلغت القلوب الحناجر" جمع حنجرة، وهي جوف الحلقوم: أي ارتفعت القلوب عن مكانها، ووصلت من الفزع والخوف إلى الحناجر، فلولا أنه ضاق الحلقوم عنها، وهو الذي نهايته الحنجرة لخرجت، كذا قال قتادة. وقيل هو على طريق المبالغة المعهودة في كل العرب وإن لم ترتفع القلوب إلى ذلك المكان ولا خرجت عن موضعها، ولكنه مثل في إضطرابها وجنبها. قال الفراء: والمعنى أنهم جبنوا وجزع أكثرهم، وسبيل الجبان إذا اشتد خوفه أن تنتفخ رئته، فإذا انتفخت الرئة ارتفع القلب إلى الحنجرة، ولهذا يقال للجبان: انتفخ سحره "وتظنون بالله الظنونا" أي الظنون المختلفةن فبعضهم ظن النصر ورجا الظفر، وبعضهم ظن خلاف ذلك. وقال الحسن: ظن المنافقون أنه يستأصل محمد وأصحابه، وظن المؤمنون أنه ينصر. وقيل الآية خطاب للمنافقين، والأولى ما قاله الحسن. فيكون الخطاب لمن أظهر الإسلام على الإطلاق أعم من أن يكون مؤمناً في الواقع أو منافقاً. واختلف القراء في هذه الألف في "الظنونا": فأثبتها وصلا ووقفا نافع وابن عامر وأبو بكر، ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو والكسائي، وتمسكوا بخطف المصحف العثماني وجميع المصاحف في جميع البلدان فإن الألف فيها كلها ثابتة، واختار هذه القراءة أبو عبيدة إلا أنه قال: لا ينبغي للقارئ أن يدرج القراءة بعدهن بل يقف عليهن، وتمسكوا أيضاً بما في أشعار العرب من مثل هذا. وقرأ أبو عمرو وحمزة والجحدري ويعقوب بحذفها في الوصل والوقف معاً، وقالوا: هي من زيادات الخط فكتبت كذلك، ولا ينبغي النطق بها. وأما في الشعر فهو يجوز فيه للضرورة ما لا يجوز في غيره. وقرأ ابن كثير والنسائي وابن محيصن بإثباتها وقفاً وحذفها وصلاً، وهذه القراءة راجحة باعتبار اللغة العربية، وهذه الألف هي التي تسميها النحاة ألف الإطلاق، والكلام فيها معروف في علم النحو، وهكذا اختلف القراء في الألف التي في قوله "الرسولا" و "السبيلا" كما سيأتي آخر هذه السورة.

هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا

11- " هنالك ابتلي المؤمنون " الظرف منتصب بالفعل الذي بعده، وقيل بتظنون، واستضعفه ابن عطية، وهو ظرف مكان يقال للمكان البعيد هنالك كما يقال للمكان القريب هنا، وللمتوسط هناك. وقد يكون ظرف زمان: أي عند ذلك الوقت ابتلى المؤمنون ومنه قول الشاعر: وإذا الأمور تعاظمت وتشاكلت فهناك يعترفون أين المفزع أي في ذلك الوقت، والمعنى: أن في ذلك المكان أو الزمان اختبر المؤمنون بالخوف والقتال والجوع والحصر والنزال ليتبين المؤمن من المنافق "وزلزلوا زلزالاً شديداً" قرأ الجمهور "زلزلوا" بضم الزاي الأولى وكسر الثانية على ما هو الأصل في المبني للمفعول، وروي عن أبي عمرو أنه قرأ بكسر الأولى، وروى الزمخشري عنه أنه قرأ بإشمامها كسراً، وقرأ الجمهور "زلزالاً"بكسر الزاي الأولى، وقرأ عاصم والجحدري وعيسى بن عمر بفتحها. قال الزجاج: كل مصدر من المضاعف على فعلال يجوز فيه الكسر والفتح: نحو قلقلته قلقالاً، وزلزلوا زلزالاً، والكسر أجود. قال ابن سلام: معنى زلزلوا: حركوا بالخوف تحريكاً شديداً. وقال الضحاك: هو إزاحتهم عن أماكنهم حتى لم يكن لهم إلا موضع الخندق، وقيل المعنى أنهم اضطربوا اضطراباً مختلفاً، فمنهم من اضطرب في نفسه، ومنهم من اضطرب في دينه.

وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا

12- "وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض" معطوف على إذ زاغت الأبصار، والمرض في القلوب هو الشك والريبة، والمراد بالمنافقون: عبد الله بن أبي وأصحابه، وبالذين في قلوبهم مرض: أهل الشك والاضطراب " ما وعدنا الله ورسوله " من النصر والظفر "إلا غروراً" أي باطلاً من القول، وكان القائلون بهذه المقالة نحو سبعين رجلاً من أهل النفاق والشك، وهذا القول المحكي عن هؤلاء هو كالتفسير للظنون المذكورة: أي كان ظن هؤلاء هذا الظن، كما ظن المؤمنين النصر وإعلاء كلمة الله.

وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا

13- "وإذ قالت طائفة منهم" أي من المنافقين. قال مقاتل: هم بنو سالم من المنافقين. وقال السدي: هم عبد الله بن أبي وأصحابه، وقيل: هم أوس بن قبطي وأصحابه، والطائفة تقع على الواحد فما فوقه، والقول الذي قالته هذه الطائفة هو قوله: "يا أهل يثرب لا مقام لكم" أي لا موضع إقامة لكم، أو لا إقامة لكم ها هنا في العسكر. قال أبو عبيد: يثرب اسم الأرض، ومدينة النبي صلى الله عليه وسلم في ناحية منها. قال السهيلي: وسميت يثرب، لأن الذي نزلها من العمالقة اسمه يثرب بن عميل، قرأ الجمهور "لا مقام لكم" بفتح الميم، وقرأ حفص والسلمي والجحدري وأبو حيوة بضمها، على أنه مصدر من أقام يقيم، وعلى القراءة الأولى هو اسم مكان "فارجعوا" أي إلى منازلكم، أمروهم بالهرب من عسكر النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين خرجوا عام الخندق حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع والخندق بينهم وبين القوم، فقال هؤلاء الممنافقون: ليس ها هنا موضع إقامة، وأمروا الناس بالرجوع إلى منازلهم بالمدينة "ويستأذن فريق منهم النبي" معطوف على قالت طائفة منهم: أي يستأذنون في الرجوع إلى منازلهم وهم بنو حارثة وبنو سلمة، وجملة "يقولون" بدل من قوله يستأذن أو حال أو استئناف جواباً لسؤال مقدر، والقول الذي قالوه وهو قولهم: "إن بيوتنا عورة" أي ضائعة سائبة ليست بحصينة ولا ممتنعة من العدو. قال الزجاج: يقال عور المكان يعور عوراً وعورة، وبيوت عورة وعورة، وهي مصدر. قال مجاهد ومقاتل والحسن: قالوا بيوتنا ضائعة نخشى عليها السراق. وقال قتادة: قالوا بيوتنا مما يلي العدو ولا نأمن على أهلنا. قال الهروي: كل مكان ليس بممنوع ولا مستور فهو عورة، والعورة في الأصل: الخلل فأطلقت على المختل، والمراد: ذات عورة، وقرأ ابن عباس وعكرمة ومجاهد وأبو رجاء العطاردي عروة بكسر الواو أي قصر الجدران. قال الجوهري: العورة كل حال يتخوف منه في ثغر أو حرب. قال النحاس يقال أعور المكان: إذا تبينت فيه عورة، وأعور الفارس: إذا تبين منه موضع الخلل، ثم رد سبحانه عليهم بقوله: "وما هي بعورة" فكذبهم الله سبحانه فيما ذكروه، والجملة في محل نصب على الحال، ثم بين سبب استئذانهم وما يريدونه به، فقال: "إن يريدون إلا فراراً" أي ما يريدون إلا الهرب من القتال، وقيل المراد: ما يريدون إلا الفرار من الدين.

وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآَتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا

14- "ولو دخلت عليهم من أقطارها" يعني بيوتهم أو المدينة، والأقطار: النواحي جمع قطر، وهو الجانب والناحية، والمعنى: لو دخلت عليهم بيوتهم أو المدينة من جوانبها جميعاً لا من بعضها، نزلت بهم هذه النازلة الشديدة، واستبيحت ديارهم، وهتكت حرمهم ومنازلهم "ثم سئلوا الفتنة" من جهة أخرى عند نزول هذه النازلة الشديدة بهم " لأتوها " أي لجاءوها أو أعطوها، ومعنى الفتنة هنا: إما القتال في العصبية كما قال الضحاك، أو الشرك بالله والرجعة إلى الكفر الذي يبطنونه ويظهرون خلافه كما قال الحسن، قرأ الجمهور " لأتوها " بالمد: أي لأعطوها من أنفسهم، وقرأ نافع وابن كثير بالقصر: أي لجاءوها "وما تلبثوا بها إلا يسيراً" أي بالمدينة بعد أن أتوى الفتنة إلا تلبثاً يسيراً حتى يهلكوا، كذا قال الحسن والسدي والفراء والقتيبي. وقال أكثر المفسيرين: إن المعنى: وما احتبسوا عن فتنة الشرك إلا قليلاً، بل هم مسرعون إليها راغبون فيها لا يقفون عنها إلا مجرد وقوع السؤال لهم، ولا يتعللن عن الإجابة بأن بيوتهم في هذه الحالة عورة مع أنها قد صارت عورة على الحقيقة كما تعللوا عن أجابة الرسول والقتال معه بأنها عورة ولم تكن إذ ذاك عورة.

وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا

ثم حكى سبحانه عنهم ما قد كان وقع منهم من قبل من المعاهدة لله ولرسوله بالثبات في الحرب وعدم الفرار عنه فقال: 15- "ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار" أي من قبل غزوة الخندق ومن بعد بدر قال قتادة: وذكل أنهم غابوا عن بدر ورأوا ما أعطى الله أهل بدر من الكرامة والنصر فقالوا: لئن أشهدنا الله قتالاً لنقاتلن، وهم بنو حارثة وبنو سلمة "وكان عهد الله مسؤولاً" أي مسؤولاً عنه، ومطلوباً صاحبه بالوفاء به، ومجازى على ترك الوفاء به.

قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا

16- "قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل" فإن من حضر أجله مات أو قتل فر أو لم يفر "وإذا لا تمتعون إلا قليلاً" أي تمتعاً قليلاً أو زماناً قليلاً بعد فرارهم إلى أن تنقضي آجالهم، وكل ما هو آت فهو قريب قرأ الجمهور "تمتعون" بالفوقية، وقرأ يعقوب الحضرمي في رواية الساجي عنه بالتحتية. وفي بعض الروايات لا تمتعوا بحذف النون إعمالاً لإذن، وعلى قراءة الجمهور هي ملغاة.

قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا

17- " قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوء " أي هلاكاً أو نقصاً في الأموال وجدباً ومرضاً "أو أراد بكم رحمة" يرحمكم بها من خصب ونصر وعافية "ولا يجدون لهم من دون الله ولياً" يواليهم ويدفع عنهم "ولا نصيراً" ينصرهم من عذاب الله. وقد أخرج الطبراني وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عن أبي مريم الغساني أن أعرابياً قال: يا رسول الله أي شيء كان أول نبوتك؟ قال: أخذ الله مني الميثاق كما أخذ من النبيين ميثاقهم، ثم تلا "وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً" ودعوة إبراهيم قال: "وابعث فيهم رسولاً منهم"، وبشرى عيسى ابن مريم، ورأت أم رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامها أنه خرج من بين رجليها سراج أضاءت له قصور الشام. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال "قيل يا رسول الله متى أخذ ميثاقك؟ قال: وآدم بين الروح والجسد". وأخرج البزار والطبراني في الأوسط وأبو نعيم في الدلائل عنه قال "قيل يا رسول الله متى كنت نبياً؟ قال: وآدم بين الروح والجسد". وفي الباب أحاديث قد صحح بعضها. وأخرج الحسن بن سفيان وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل والديلمي وابن عساكر من طريق قتادة عن الحسن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم" الآية قال: "كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث"، قبدأ به قبلهم. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق الضحاك عن ابن عباس قال: "ميثاقهم" عهدهم. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني بسند صحيح عن ابن عباس "وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم" قال: إنما أخذ الله ميثاق النبيين على قومهم. وأخرج الحاكم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل وابن عساكر من طرق عن حذيفة قال: " لقد رأيتنا ليلة الأحزاب ونحن صافون قعود وأبو سفيان ومن معه من الأحزاب فوقنا، وقريظة اليهود أسفل منا، نخافهم على ذرارينا، وما أتت علينا ليلة قط أشد ظلمة ولا أشد ريحاً في أصوات ريحها أمثال الصواعق، وهي ظلمة ما يرى أحد منا أصبعه، فجعل المنافقون يستأذنون رسول الله صلى الله عليه وسلم و "يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة" فما يستأذن أحد منهم إلا أذن له، فيتسللون ونحن ثلثمائة، أو نحن ذلك إذا استقبلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً رجلاً حتى مر علي وما علي جنة من العدو ولا من البرد إلا مرط لامرأتي ما يجاوز ركبتي، فأتاني وأنا جث على ركبتي فقال: من هذا؟ فقلت: حذيفة، قال حذيفة، فتقاصرت إلى الأرض، فقلت: بلى يا رسول الله كراهية أن أقوم، قال: قم فقمت، فقال: إنه كان في القوم خبر، فأتني بخبر القوم، قال: وأنا من أشد القوم فزعاً وأشدهم قراً، فخرجت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته، قال: فوالله ما خلق الله فزعاً ولا قراً في جوفي إلا خرج من جوفي، فما أجد منه شيئاً، فلما وليت قال: يا حذيفة لا تحدثن في القوم شيئاً حتى تأتيني، فخرجت حتى إذا دنوت من عسكر القوم نظرت في ضوء نار لهم توقد، وإذا رجل أدهم ضخم يقول بيده على النار ويمسخ خاصرته ويقول: الرحيل الرحيل، ثم دخلت العسكر، فإذا أدنى الناس مني بنو عامر يقولون: يا آل عامر الرحيل الرحيل لا مقام لكم، وإذا الريح في عسكرهم ما تجاوز شبراً، فوالله إني لأسمع صوت الحجارة في رحالهم وفرشهم الريح تضربهم، ثم خرجت نحو النبي صلى الله عليه وسلم فلما انتصفت في الطريق أو نحو ذلك إذا أنا بنحو من عشرين فارساً معتمين فقالوا: أخبر صاحبك أن الله كفاه القوم، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته وهو مشتمل في شملة يصلي، وكان إذا حزبه أمر صلى، فأخبرته خبر القوم أني تركتهم يترحلون، وأنز الله "يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود" الآية". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس في قوله: "إذ جاءتكم جنود" قال: كان يوم أبي سفيان يوم الأحزاب. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم في الكنى وأبو الشيخ وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس قال: لما كان ليلة الأحزاب جاءت الشمال إلى الجنوب، فقالت: انطلقي فانصري الله ورسوله، فقالت الجنوب: إن الحرة لا تسري بالليل، فغضب الله عليها وجعلها عقيماً، فأرسل عليهم الصبا، فأطفأت نيرانهم وقطعت أطنابهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور،" فذلك قوله: "فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها". وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور". وأخرج البخاري وغيره عن عائشة في قوله: "إذ جاءوكم من فوقكم" الآية قالت: كان ذلك يوم الخندق، وفي الباب أحاديث في وصف هذه الغزوة وما وقع فيها، وقد اشتملت عليها كتب الغزوات والسير. واخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت بقرية تأكل القرى يقولون يثرب، وهي المدينة تنفي البأس كما ينفي الكير خبث الحديد". وأخرج أحمد وابن أبي حاتم وابن مردويه عن البراء بن عازب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سمى المدينة يثرب فليستغفر الله، هي طابة هي طابة هي طابة" ولفظ أحمد "إنما هي طابة" وإسناده ضعيف. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس مرفوعاً نحوه. وأخرج ابن جرير وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس في قوله: "ويستأذن فريق منهم النبي" قال: هم بنو حارثة قالوا: "بيوتنا عورة" أي مختلة نخشى عليها السرق. وأخرج ابن مردويه عن جابر نحوه. وأخرج البيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: جاء تأويل هذه الآية على رأس ستين سنة " ولو دخلت عليهم من أقطارها ثم سئلوا الفتنة لأتوها " قال: لأعطوها: يعني إدخال بني حارثة أهل الشام على المدينة.

قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا

قوله: 18- "قد يعلم الله المعوقين منكم" يقال عاقه واعتاقه وعوقه: إذا صرفه عن الوجه الذي يريده. قال الواحدي قال المفسرون: هؤلاء قوم من المنافقين كانوا يثبطون أنصار النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك أنهم قالوا لهم: ما محمد وأصحابه إلا أكلة رأس، ولو كانوا لحماً لالتقمهم أبو سفيان وحزبه، فخلوهم وتعالوا إلينا، وقيل إن القائل هذه المقالة اليهود قالوا "لإخوانهم" من المنافقين "هلم إلينا" ومعنى هلم أقبل واحضر وأهل الحجاز يسوون فيه بين الواحد والجماعة والمذكر والمؤنث، وغيرهم من العرب يقولون: هلم للواحد المذكر، وهلمي للمؤنث، وهلما للاثنين، وهلموا للجماعة، وقد مر الكلام على هذا في سورة الأنعام "ولا يأتون البأس" أي الحرب "إلا قليلاً" خوفاً من الموت، وقيل المعنى: لا يحضرون القتال إلا رياء وسمعة من غير احتساب.

أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأ

19- "أشحة عليكم" أي بخلاء عليكم لا يعاونوكم بحفر الخندق ولا بالنفقة في سبيل الله، قاله مجاهد وقتادة. وقيل أشحة بالقتال معكم، وقيل بالنفقة على فقرائكم ومساكينكم، وقيل أشحة بالغنائم إذا أصابوها. قاله السدي. وانتصابه على الحال من فاعل يأتون. أو من المعوقين. وقال الفراء: يجوز في نصبه أربعة أوجه: منها النصب على الذم، ومنها بتقدير فعل محذوف: أي يأتونه أشحة. قال النحاس: ولا يجوز أن يكون العامل فيه للمعوقين ولا القائلين لئلا يفرق بين الصلة والموصول " فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم " أي تدور يميناً وشمالاً، وذكل سبيل الجبان إذا شاهد ما يخافه "كالذي يغشى عليه من الموت" أي كعين الذي يغشى عليه من الموت، وهو الذي نزل به الموت وغشيته أسبابه، فيذهل ويذهب عقله ويشخص بصره فلا يطرف، كذلك هؤلاء تشخص أبصارهم لما يلحقهم من الخوف، ويقال للميت إذا شخص بصره: دارت عيناه، ودارت حماليق عينيه، والكاف نعت مصدر محذوف "فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد" يقال سلق فلان فلاناً بلسانه: إذا أغلظ له في القول مجاهراً. قال الفراء: أي آذوكم بالكلام في الأمن بألسنة سليطة ذربة، ويقال: خطيب مسلاق ومصلاق إذا كان بليغاً، ومنه قول الأعشى: فيهم المجد والسماحة والنجـ ـدة فيهم والخاطب المسلاق قال القتيبي: المعنى آذوكم بالكلام الشديد، والسلق الأذى، ومنه قول الشاعر: لقد سلقت هوازناً بنو أهل حتى انحنينا قال قتادة: معنى الآية: بسطوا ألسنتهم فيكم في وقت قسمة الغنيمة يقولون: أعطنا فإنه قد شهدنا معكم، فعند الغنيمة أشح قوم وأبسطهم لساناً ووقت البأس أجبن قوم وأخوفهم. قال النحاس: وهذا قول حسن، وانتصاب "أشحة على الخير" على الحالية من فاعل سلقوكم، ويجوز أن يكون نصبه على الذم. وقرأ ابن أبي عبلة برفع أشحة، والمراد هنا أنهم أشحة على الغنيمة يشاحون المسلمين عند القسمة، قاله يحيى بن سلام. وقيل على المال أن ينفقوه في سبيل الله. قاله السدي. ويمكن أن يقال معناه: أنهم قليلو الخير من غير تقييد بنوع من أنواعه والإشارة بقوله: "أولئك" إلى الموصوفين بتلك الصفات "لم يؤمنوا" إيماناً خالصاً بل هم منافقون: يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر "فأحبط الله أعمالهم" أي أبطلها بمعنى أظهر بطلانها، لأنها لم تكن لهم أعمال تقتضي الثوبا حتى يبطلها الله. قال مقاتل: أبطل جهادهم لأنه لم يكن في إيمان "وكان ذلك على الله يسيراً" أي وكان ذلك الإحباط لأعمالهم، أو كان نفاقهم على الله هيناً.

يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا

20- "يحسبون الأحزاب لم يذهبوا" أي يحسب هؤلاء المنافقون لجبنهم أن الأحزاب باقون في معسكرهم لم يذهبوا إلى ديارهم، وذلك لما نزل بهم من الفشر والروع "وإن يأت الأحزاب" مرة أخرى بعد هذه المرة "يودوا لو أنهم بادون في الأعراب" أي يتمنون أنهم في بادية الأعراب لما حل بهم من الرهبة، والبادي خلاف الحاضر، يقال: بدا يبدو بداوة إذا خرج إلى البادية "يسألون عن أنبائكم" أي عن أخباركم وما جرى لكم، كل قادم عليهم من جهتكم، أو يسأل بعضهم بعضاً عن الأخبار التي بلغته من أخبار الأحزاب ورسول الله صلى الله عليه وسلم. والمعنى: أنهم يتمنون أنهم بعيد عنكم يسألون عن أخباركم من غير مشاهدة للقتال لفرط جبنهم وضعف نياتهم "ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلاً" أي لو كانوا معكم في هذه الغزوة مشاهدين للقتال لفرط جبنهم وضعف نياتهم " ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلا " أي لو كانوا معكم في هذه الغزوة مشاهدين للقتال ما قاتلوا معكم إلا قتالاً قليلاً خوفاً من العار وحمية على الديار.

لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا

21- "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة" أي قدوة صالحة، يقال لي في فلان أسوة: أي لي به، والأسوة من الائتساء، كالقدوة من الاقتداء: اسم يوضع موضع المصدر. قال الجوهري: والأسوة والإسوة بالضم والكسر، والجمع أسى وإسى. قرأ الجمهور أسوة بالضم للهمزة، وقرأ عاصم بكسرها، وهما لغتان كما قال الفراء وغيره. وفي هذه الآية عتاب للمتخلفين عن القتال مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي لقد كان لكم في رسول الله حيث بذل نفسه للقتال وخرج إلى الخندق لنصرة دين الله أسوة، وهذه الآية وإن كان سببها خاصة فهي عامة في كل شيء، ومثلها "ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا"، وقوله: "قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله"، واللام في " لمن كان يرجو الله واليوم الآخر " متعلق بحسنة، أو بمحذوف هو صفة لحسنة: أي كائنة لمن يرجوالله. وقيل إن الجملة بدل من الكاف في لكم، ورده أبو حيان وقال: إنه لا يبدل من ضمير المخاطب بإعادة الجار. ويجاب عنه بأنه قد أجاز ذلك الكوفيون والأخفش وإنه منعه البصريون، والمراد بمن كان يرجو الله: المؤمنون، فإنهم الذين يرجون الله ويخافون عذابه، ومعنى يرجون الله: يرجون ثوابه أو لقاءه، ومعنى يرجون اليوم الآخر: أنهم يرجون رحمة الله فيه أو يصدقون بحصوله وأنه كائن لا محالة، وهذه الجملة تخصيص بعد التعميم بالجملة الأولى "وذكر الله كثيراً" معطوف على كان: أي ولمن ذرك الله في جميع أحواله ذكراً كثيراً، وجمع بين الرجاء لله والذكر له، فإن بذلك تتحقق الأسوة الحسنة برسول الله صلى الله عليه وسلم.

وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا

ثم بين سبحانه ما وقع من المؤمنين المخلصين عند رؤيتهم للأحزاب ومشاهدتهم لتلك الجيوش التي أحاطت بهم كالبحر العباب فقال: 22- "ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله" الأشارة بقوله هذا إلى ما رأوه من الجيوش، أو إلى الخطب الذي نزل والبلاء الذي دهم، وهذا القول منهم قالوه استبشاراً بحصول ما وعدهم الله ورسوله من مجيء هذه الجنود، وإنه يتعقب مجيئهم إليهم نزول النصر والظفر من عند الله، و ما في ما وعدنا الله هي الموصولة، أو المصدرية، ثم أردفوا ما قالوه بقولهم: "وصدق الله ورسوله" أي ظهر صدق خبر الله ورسوله "وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً" أي ما زادهم ما رأوه إلا إيماناً بالله وتسليماً لأمره. قال الفراء: ما زادهم النظر إلى الأحزاب إلا إيماناً وتسليماً. قال علي بن سليمان: رأى يدل على الرؤية وت أنيث الرؤية غير حقيقي، والمعنى: ما زادهم الرؤية إلا إيماناً للرب وتسليماً للقضاء، ولو قال ما زادتهم لجاز.

مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا

23- "من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه" أي من المؤمنين المخلصين رجال صدقوا أتوا بالصدق، من صدقني إذا قال الصدق، ومحل ما عاهدوا الله عليه النصب بنزع الخافض، والمعنى: أنهم وفوا بما عاهدوا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة من الثبات معه، والمقاتلة لمن قاتله، بخلاف من كذب في عهده وخان الله ورسوله وهم المنافقون، وقيل هم الذين نذروا أنهم إذا لقوا حرباً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبتوا له ولم يفروا، ووجه إظهار الاسم الشريف، والرسول في قوله: "صدق الله ورسوله" بعد قوله: " ما وعدنا الله ورسوله " هو قصد التعظيم كما في قول الشاعر: ‌أرى الموت لا يسبق الموت شيء وأيضاً لو أضمرهما لجمع بين ضمير الله وضمير رسوله في لفظ واحد. وقال صدقا، وقد ورد النهي عن جمعهما كما في حديث بئس خطيب القوم أنت لمن قال: ومن يعصهما فقد غوى. ثم فصل سبحانه حال الصادقين بما وعدوا الله ورسوله وقسمهم إلى قسمين فقال: "فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر" النحب: ما التزمه الإنسان واعتقد الوفاء به، ومنه قول الشاعر: عشية فر الحارثيون بعدما قضى نحبه في ملتقى القوم هوبر وقال الآخر: بطخفة جالدنا الملوك وخيلنا عشية بسطام جرين على نحب أي على أمر عظيم، والنحب يطلق على النذر والقتل والموت. قال ابن قتيبة: قضى نحبه: أي قتل وأصل النحب النذر. كانوا يوم بدر نذروا إن لقوا العدو أن يقاتلوا حتى يقتلوا أو يفتح الله لهم فقتلوا، فقيل فلان قضى نحبه: أي قتل، والنحب أيضاً الحاجة وإدراك الأمنية، يقول قائلهم: مالي عندهم نحب، والنحب العهد، ومنه قول الشاعر: لقد نحبت كلب على الناس أنهم أحق بتاج الماجد المتكرم وقال آخر: قد نحب المجد علينا نحباً ومن ورود النحب في الحاجة وإدراك الأمنية قول الشاعر: أنحب فيقضى أم ضلال وباطل ومعنى الآية: أن من المؤمنين رجالاً أدركوا أمنيتهم وقضوا حاجتهم ووفوا بنذرهم فقاتلوا حتى قتلوا، وذلك يوم أحد كحمزة ومصعب بن عمير وأنس بن النضر "ومنهم من ينتظر" قضاء نحبه حتى يحضر أجله كعثمان بن عفان وطلحة والزبير وأمثالهم فإنه مستمرون على الوفاء بما عاهدوا الله عليه من الثبات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والقتال لعدوه، ومنتظرون لقضاء حاجتهم وحصول أمنيتهم بالقتل وإدراك فضل الشهادة، وجملة "وما بدلوا تبديلاً" معطوفة على صدقوا: أي ما غيروا عهدهم الذي عاهدوا الله عليه كما غير المنافقون عهدهم، بل ثبتوا عليه ثبوتاً مستمراًن أما الذي قضوا نحبهم فظاهر، وأما الذين ينتظرون قضاء نحبهم فقد استمروا على ذلك حتى فارقوا الدنيا ولم يغيروا ولا بدلوا.

لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا

واللام في قوله: 24- "ليجزي الله الصادقين بصدقهم" يجوز أن يتعلق بصدقوا أو بزادهم، أو بما بدلوا، أو بمحذوف، كأنه قيل: وقع جميع ما وقع ليجزي الله الصادقين بصدقهم "ويعذب المنافقين إن شاء" بما صدر عنهم من التغيير والتبديل، جعل المنافقين كأنهم قصدوا عاقبة السوء وأرادوها بسبب تبديلهم وتغييرهم كما قصد الصادقون عاقبة الصدق بوفائهم، فكل من الفريقين مسوق إلى عاقبته من الثواب والعقاب، فكأنهما استويا في طلبها والسعي لتحصيلها، ومفعول إن شاء وجوابها محذوفان: أي إن شاء تعذيبهم عذبهم، وذلك إذا أقاموا على النفاق ولم يتركوه ويتوبوا عنه " وكان الله غفورا رحيما " أي لمن تاب منهم وأقلع عما كان عليهم من النفاق.

وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا

ثم رجع سبحانه إلى حكاية بقية القصة وما امتن به على رسوله والمؤمنين من النعمة فقال: 25- "ورد الله الذين كفروا" وهم الأحزاب، والجملة معطوفة على "فأرسلنا عليهم ريحاً" أو على المقدر عاملاً في ليجزي الله الصادقين بصدقهم، كأنه قيل: وقع ما وقع من الحواديث ورد الله الذين كفروا، ومحل "بغيظهم" النصب على الحال، والباء للمصاحبة: أي حال كونهم متلبسين بغيظهم ومصاحبين له، ويجوز أن تكون للسببية، وجملة "لم ينالوا خيراً" في محل نصب على الحال أيضاً من الموصول، أو من الحال الأولى على التعاقب، أو التداخل. والمعنى: أن الله ردهم بغيظهم لم يشف صدورهم ولا نالوا خيراً في اعتقادهم، وهو الظفر بالمسلمين، أو لم ينالوا خيراً أي خير، بل رجعوا خاسرين لم يربحوا إلا عناء السفر وغرم النفقة "وكفى الله المؤمنين القتال" بما أرسله من الريح والجنود من الملائكة "وكان الله قوياً عزيزاً" على كل ما يريده إذا قال له كن كان، عزيزاً غالباً قاهراً لا يغالبه أحد من خلقه ولا يعارضه معارض في سلطانه وجبروته. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم في قوله: "سلقوكم" قال: استقبلوكم. وأخرج ابن أبي حاتم عنه "وكان ذلك على الله يسيراً" قال: هيناً. وأخرج ابن مردويه والخطيب وابن عساكر وابن النجار عن عمر في قوله: "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة" قال: في جوع رسول الله، وقد استدل بهذه الآية جماعة من الصحابة في مسائل كثيرة اشتملت عليها كتب السنة، وهي خارجة عما نحن بصدده. وأخرج ابن جرير وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس في قوله:"ولما رأى المؤمنون الأحزاب" إلى آخر الآية قال: إن الله قال لهم في سورة البقرة " أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء " فلما مسهم البلاء حيث رابطوا الأحزاب في الخندق " قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله " فتأول المسلمون ذلك فلم يزدهم "إلا إيماناً وتسليماً". وأخرج البخاري وغيره عن أنس قال: نرى هذه الآية نزلت في أنس بن النضر "من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه". وأخرج ابن سعد وأحمد ومسلم والترمذي والنسائي والبغوي في معجمه وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي عن أنس قال: غاب عمي أنس بن النضر عن بدر فشق عليه وقال: أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم غبت عنه لئن أراني الله مشهداً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بعد ليرين اله ما أصنع، فشهد يوم أحد، فاستقبله سعد بن معاذ فقال: يا أبا عمرو وأين؟ قال: واهاً لريح الجنة أجدها دون أحد، فقاتل حتى قتل، فوجد في جسده بضع وثمانون ما بين ضربة وطعنة ورمية، ونزلت هذه الآية "رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه" وكانوا يرون أنها نزلت فيه وفي أصحابه. وقد روي عنه نحوه من طريق أخرى عند الترمذي وصححه والنسائي وغيرهما. وأخرج الحاكم وصححه والبيهقي في الدلائل عن أبي هريرة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انصرف من أحد مر على مصعب بن عمير وهو مقتول فوقف عليه ودعا له، ثم قرأ "من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه" الآية، ثم قال: أشهد أن هؤلاء شهداء عند الله فأتوهم وزوروهم، والذي نفسي بيده لا يسلم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلا ردوا عليه". وقد تعقب الحاكم في تصحيحه الذهبي كما ذكر ذلك السيوطي، ولكنه قد أخرج الحاكم حديثاً آخر وصححه. وأخرجه أيضاً البيهقي في الدلائل عن أبي ذر قال: "لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد مر على مصعب بن عمير مقتولاً على طريقه، فقرأ "من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه" الآية". وأخرج ابن مردويه من حديث خباب مثله، وهما يشهدان لحديث أبي هريرة. وأخرج الترمذي وحسنه وأبو يعلى وابن جرير والطبراني وابن مردويه عن طلحة "أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا لأعرابي جاهل: سله عمن قضى نحبه من هو؟ وكانوا لا يجترئون على مسألته يوقرونه ويهابونه، فسأله الأعرابي فأعرض عنه، ثم سأله فأعرض عنه، ثم أني اطلعت من باب المسجد فقال: أين السائل عمن قضى نحبه؟ قال الأعرابي: أنا، قال: هذا ممن قضى نحبه". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه من حديثه نحوه. وأخرج الترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن معاوية قال:" سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: طلحة ممن قضى نحبه". وأخرج سعيد بن منصور وأبو يعلى وأبو نعيم وابن المنذر وابن مردويه عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من سره أن ينظر إلى رجل يمشي على الأرض قد قضى نحبه فلينظر إلى طلحة". وأخرج أبو الشيخ وابن عساكر عن علي أن هذه الآية نزلت في طلحة. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس "فمنهم من قضى نحبه" قال: الموت على ما عاهدوا الله عليه، ومنهم من ينتظر الموت على ذلك. وأخرج أحمد والبخاري وابن مردويه عن سليمان بن صرد قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: الآن نغزوهم ولا يغزونا". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عمر في قوله: "فمنهم من قضى نحبه" قال: مات على ما هو عليه من التصديق والإيمان "ومنهم من ينتظر" ذلك "وما بدلوا تبديلاً" لم يغيروا كما غير المنافقون.

وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا

قوله: 26- "وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب" أي عاضدوهم وعازنوهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم بنو قريظة، فإنهم عاونوا الأحزاب ونقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاروا يداً واحدة مع الأحزاب. والصياصي جمع صيصية: وهي الحصون، وكل شيء ستحصن به يقال له صيصية، ومنه صيصية الديك، وهي الشوكة التي في رجله، وصياصي البقر قرونها لأنها تمتنع بها، ويقال لشوكة الحائك التي يسوي بها السداة واللحمة صيصية، ومنه قول دريد بن الصمة: فجئت إليه والرماح تنوشه كوقع الصياصي في النسيج المدد ومن إطلاقها على الحصون قول الشاعر: فأصبحت الثيران صرعى وأصبحت نساء تميم يبتدرن الصياصيا‌ "وقذف في قلوبهم الرعب" أي الخوف الشديد حتى سلموا أنفسهم للقتل وأولادهم ونساءهم للسبي وهي معنى قوله: "فريقاً تقتلون وتأسرون فريقاً" فالفريق الأول هم الرجال، والفريق الثاني هم النساء والذرية، وهذه الجملة مبينة ومقررة لقذف الرعب في قلوبهم. قرأ الجمهور "تقتلون" بالفوقية على الخطاب، وكذلك قرأوا "تأسرون" وقرأ ابن ذكوان في رواية عنه بالتحتية فيهما، وقرأ اليماني بالفوقية في الأول والتحتية في الثاني، وقرأ أبو حيوة تأسرون بضم السين. وقد حكى الفراء حكسر السين وضمها فهما لغتان، ووجه تقديم مفعول الفعل الأول وتأخير مفعول الفعل الثاني أن الرجال لما كانوا أهل الشوكة، وكان الوارد عليهم أشد الأمرين وهو القتل، كان الاهتمام بتقديم ذكرهم أنسب بالمقام. وقد اختلف في عدد المقتولين والمأسورين، فقيل كان المقتولون من ستمائة إلى سبعمائة. وقيل ستمائة، وقيل سبعمائة، وقيل ثمانمائة، وقيل تسعمائة، وكان المأسرون سبعمائة، وقيل سبعمائة وخمسين، وقيل تسعمائة.

وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا

27- "وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم" المراد بالأرض العقار والنخيل، وبالديار المنازل والحصون، وبالأموال الحلي والأثاث والمواشي والسلاح والدراهم والدنانير " وأرضا لم تطئوها " أي وأورثكم أرضاً لم تطأوها، وجملة لم تطأوها صفة لأرضاً. قرأ الجمهور لم تطأوها بهمزة مضمومة ثم واو ساكنة، وقرأ زيد بن علي تطوها بفتح الطاء وواو ساكنة. واختلف المفسرون في تعيين هذه الأرض المذكورة فقال يزيد بن رومان وابن زيد ومقاتل: إنها خيبر ولم يكونوا إذ ذاك قد نالوها، فعدهم الله بها. وقال قتادة: كنا نتحدث أنها مكة. وقال الحسن: فارس والروم. وقال عكرمة: كل أرض تفتح إلى يوم القيامة "وكان الله على كل شيء قديراً" أي هو سبحانه قدير على كل ما أراده من خير وشر ونعمة ونقمة، وعلى إنجاز ما وعد به من الفتح للمسلمين. وقد أخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "من صياصيهم" قال: حصونهم. وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وابن مردويه عن عائشة قالت " خرجت يوم الخندق أقفو للناس، فإذا أنا بسعد بن معاذ ورماه رجل من قريش يقال له ابن الفرقدة بسهم فأصاب أكحله فقطعه، فدعا الله سعداً فقال: اللهم لا تمتني حتى تقر عيني من قريظة، فبعث الله الريح على المشركين "وكفى الله المؤمنين القتال" ولحق أبو سفيان ومن معه بتهامة، ولحق عيينة بن بدر ومن معه بنجد، ورجعت بنو قريظة فتحصنوا في صياصيهم، ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وأمر بقبة من أدم، فضربت على سعد في المسجد، قالت: فجاء جبريل، وإن على ثناياه لوقع الغبار، فقال: أوقد وضعت السلاح؟ لا والله ما وضعت الملائكة بعد السلاح: اخرج إلى بني قريظة فقاتلهم، فلبس رسول الله صلى الله عليه وسلم لامته، وأذن في الناس بالرحيل أن يخرجوا فحاصرهم خمساً وعشرين ليلة، فلما اشتد حصرهم واشتد البلاء عليهم، قيل لهم انزلوا على حكم رسول الله، قالوا ننزل على حكم سعد بن معاذ، فنزلوا وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد بن معاذ فأتي به على حمار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: احكم فيهم، قال: فإني أحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم وتقسم أموالهم، فقال: لقد حكمت فيهم بحكم الله وحكم رسوله".

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا

قوله: 28- "يا أيها النبي قل لأزواجك" قيل هذه الآية متصلة بمعنى ما تقدمها من المنع من إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قد تأذى ببعض الزوجات. قال الواحدي: قال المفسرون: إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم سألنه شيئاً من عرض الدنيا وطلبن منه الزيادة في النفقة وآذينه بغيرة بعضهن على بعض، فآلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منهن شهراً، وأنزل الله آية التخيير هذه، وكن يومئذ تسعاً: عائشة وحفصة وأم سلمة وأم حبيبة وسودة هؤلاء من نساء قريش وصفية الخيبرية وميمونة الهلالية، وزينب بنت جحش الأسدية، وجويرية بنت الحارث المصطلقية. ومعنى "الحياة الدنيا وزينتها" سعتها ونضارتها ورفاهيتها والتنعم فيها "فتعالين" أي أقبلن إلي "أمتعكن" بالجزم جواباً للأمر: أي أعطن المتعة "و" كذا "أسرحكن" بالجزم: أي اطلقكن وبالجزم في الفعلين قرأ الجمهور، وقرأ حميد الخراز بالرفع في الفعلين على الاستئناف، والمراد بالسراح الجميل: هو الواقع من غير ضرار على مقتضى السنة. وقيل إن جزم الفعلين على أنهما جواب الشرط، وعلى هذا يقول قوله فتعالين اعتراضاً بين الشرط والجزاء.

وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآَخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا

29- "وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة" أي الجنة ونعيمها "فإن الله أعد للمحسنات منكن" أي اللائي عملن عملاً صالحاً "أجراً عظيماً" لا يمكن وصفه، ولا يقادر قدره وذلك بسبب إحسانهن، وبمقابلة صالح عملهن. وقد اختلف العلماء في كيفية تخيير النبي صلى الله عليه وسلم أزواجه على قولين: القول الأول أنه خيرهن بإذن الله في البقاء على الزوجين أو الطلاق فاخترن البقاء، وبهذا قالت عائشة ومجاهد وعكرمة والشعبي والزهري وربيعة. والقول الثاني أنه إنما خيرهن بين الدنيا فيفارقهن، وبين الآخرة فيمسكهن ولم يخيرهن في الطلاق، وبهذا قال علي والحسن وقتادة، والراجح الأول. واختلفوا أيضاً في المخيرة إذا اختارت زوجها هل يحسب مجرد ذلك التخيير على الزوج طلقة أم لا؟ فذهب الجمهور من السلف والخلف إلى أنه لايكون مع اختيار المرأة لزوجها طلاقاً لا واحدة ولا أكثر. وقال علي وزيد بن ثابت: إن اختارت زوجها فواحدة بائنة، وبه قال الحسن والليث: وحكاه الخطابي والنقاش عن مالك. والراجح الأول لحديث عائشة الثابت في الصحيحين قالت خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخترناه فلم يعده طلاقاًـأأـ ولا وجه لجعل مجرد التخيير طلاقاً، ودعوى أنه كناية من كنايات الطلاق مدفوعة بأن المخير لم يرد الفرقة لمجرد التخيير، بل أراد تفويض المرأة وجعل أمرها بيدها، فإن اختارت البقاء بقيت على ما كانت عليه من الزوجية، وإن اختارت الفرقة صارت مطلقة. واختلفوا في اختيارها لنفسها هل يكون ذلك طلقة رجعية أو بائنة. فقال بالأول عمر وابن مسعود وابن عباس وابن أبي ليلى والثوري والشافعي، وقال بالثاني علي وأبو حنيفة وأصحابه، وروي عن مالك. والراجح الأول، لأنه يبعد كل البعد أن يطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه على خلاف ما أمره الله به، وقد أمره بقوله: "إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن" وروي عن زيد بن ثابت أنها إذا اختارت نفسها فثلاث طلقات، وليس لهذا القول وجه. وقد روي عن علي أنها إذا اختارت نفسها فليس بشيء، وإذا اختارت زوجها فواحدة رجعية.

يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا

ثم لما اختار نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم رسول الله أنزل فيهن هذه الآيات تكرمة لهن وتعظيماً لحقهن فقال: 30- "يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة" أي ظاهرة القبح واضحة الفحش، وقد عصمهن الله عن ذلك وبرأهن وطهرهن "يضاعف لها العذاب ضعفين" أي يعذبهن مثلي عذاب غيرهن من النساء إذا أتين بمثل تلك الفاحشة، وذلك لشرفهن وعلو درجتهن وارتفاع منزلتهن. وقد ثبت في هذه الشريعة في غير موضع أن تضاعف الشرف وارتفاع الدرجات يوجب لصاحبه إذا عصى تضاعف العقوبات. وقرأ أبو عمرو يضعف على البناء للمفعول، وفرق هو وأبو عبيد بين يضاعف فقالا: يكون يضاعف ثلاثة عذابات ويضعف عذابين. قال النحاس: هذه التفرقة التي جاء بها لا يعرفها أحد من أهل اللغة، والمعنى في يضاعف ويضعف واحد: أي يجعل ضعفينن وهكذا ضعف ما قالاه ابن جرير "وكان ذلك على الله يسيراً" لا يتعاظمه ولا يصعب عليه.

وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا

31- "ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحاً" قرأ الجمهور "يقنت" بالتحتية، وكذا قرأوا: يأت منكن حملاً على لفظ من في الموضعين، وقرأ الجحدري ويعقوب وابن عامر في رواية وأبو جعفر بالفوقية حملاً على المعنى، ومعنى من يقنت من يطع، وكذا اختلف القراء في مبينة، فمنهم من قرأها بالكسر ومنهم من قرأها بفتح الياء كما تقدم في النساء. وقرأ ابن كثير وابن عامر " يضاعف " بالنون ونصب "العذاب" وقرئ " يضاعف " بكسر العين على البناء للفاعل "نؤتها أجرها مرتين" قرأ حمزة والكسائي بالتحتية، وكذا قرأ يعمل بالتحتية، وقرأ الباقون تعمل بالفوقية، و نؤت بالنون، ومعنى إتيانهن الأجر مرتين أنه يكون لهن من الأجر على الطاعة مثلا ما يستحقه غيرهن من النساء إذا فعلن تلك الطاعة. وفي هذا دليل قوي على أن معنى يضاعف لها العذاب ضعفين أنه يكون العذاب مرتين لا ثلاثاً، لأن المراد إظهار شرفهن مومزيتهن في الطاعة والمعصية بكون حسنتهن كحسنتين، وسيئتهن كسيئتين، ولو كانت سيئتهن كثلاث سيئات لم يناسب ذلك كون حسنتهن كحسنتين، فإن الله أعدل من أن يضاعف العقوبة عليهن مضاعفة تزيد على مضاعفة أجرهن "وأعتدنا لها" زيادة على الأجر مرتين "رزقاً كريماً". قال المفسرون: الرزق الكريم هو نعيم الجنة، حكى ذلك عنهم النحاس.

يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا

ثم أظهر سبحانه فضيلتهن على سائر النساء تصريحاً. فقال: 32- "يا نساء النبي لستن كأحد من النساء" قال الزجاج: لم يقل كواحدة من النسا، لأن أحد نفي عام للمذكر والمؤنث والواحد والجماعة. وقد يقال على ما ليس بآدمي كما يقال: ليس فيها أحد لا شاة ولا بعير. والمعنى: لستن كجماعة واحدة من جماعات النساء في الفضل والشرف. ثم قيد هذا الشرف العظيم بقيد فقال: "إن اتقيتن" فبين سبحانه أن هذه الفضيلة لهن إنما تكون بملازمتهن للتقوى، لا لمجرد اتصالهن بالنبي صلى الله عليه وسلم. وقد وقعت منهن ولله الحمد التقوى البينة، والإيمان الخالص، والمشي على طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد مماته. وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه: أي إن اتقيتن فلستن كأحد من النساء. وقيل إن جوابه "فلا تخضعن" والأول أولى. ومعنى "فلا تخضعن بالقول" لا تلن القول عند مخاطبة الناس كما تفعله المريبات من النساء، فإنه يتسبب عن ذلك مفسدة عظيمة، وهي قوله: "فيطمع الذي في قلبه مرض" أي فجور وشك ونفاق، وانتصاب يطمع لكونه جواب النهي. كذا قرأ الجمهور. وحكى أبو حاتم أن الأعرج قرأ فيطمع بفتح الياء وكسر الميم. قال النحاس: أحسب هذا غلطاً، ورويت هذه القراءة عن أبي السمأل وعيسى بن عمر وابن محيصن، وروي عنهم أنهم قرأو بالجزم عطفاً على محل فعل النهي "وقلن قولاً معروفاً" عند الناس بعيداً من الريبة على سنن الشرع، لا ينكر منه سامعه شيئاً، ولا يطمع فيهن أهل الفسق والفجور بسببه.

وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآَتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا

33- "وقرن في بيوتكن" قرأ الجمهور "وقرن" بكسر القاف من وقر يقر وقاراً: أي سكن، والأمر منه قر بكسر القاف، وللنساء قرن مثل عدن وزن. وقال المبرد: هو من القرار، لا من الوقار، تقول قررت بالمكان بفتح الراء، والأصل اقررن بكسر الراء، فحذفت الراء الأولى تخفيفاً كما قالوا في ظللت ظلت، ونقولا حركتها إلى القاف، واستغني عن ألف الوصل بتحريك القال. وقال أبو علي الفارسي: أبدلت منه، والتقدير اقيرن، ثم تلقى حركة الياء على القاف كراهة تحريك الياء بالكسر فتسقط الياء لاجتماع الساكنين، وتسقط همزة الوصل لتحريك ما بعدها فيصير قرن. وقرأ نافع وعاصم بفتح القاف وأصله قررت بالمكان: إذا أقمت فيه بكسر الراء، أقر بفتح القاف كحمد يحمد، وهي لغة أهل الحجاز، ذكر ذلك أبو عبيد عن الكسائي، وذكرها الزجاج وغيره. قال الفراء: هو كما تقول هل حست صاحبك: أي هل أحسسته؟ قال أبو عبيد: كان أشياخنا من أهل العربية ينكرون القراءة بالفتح للقاف، وذلك لأن قررت بالمكان أقر لا يجوزه كثير من أهل العربية. والصحيح قررت أقر بالكسر، ومعناه: الأمر لهن بالتوقر والسكون في بيوتهن وأن لا يخرجن، وهذا يخالف ما ذكرناه هنا عنه عن الكسائي وهو من أجل مشايخه. وقد وافقه على الإنكار لهذه القراءة أبو حاتم فقال: إن قرن بفتح القاف لا مذهب له في كلام العرب. قال النحاس: قد خولف أبو حاتم في قوله إنه مذهب له في كلام العرب بل فيه مذهبان: أحدهما حكاه الكسائي، والآخر عن علي بن سليمان فأما المذهب الذي حكاه الكسائي فهو ما قدمناه من رواية أبي عبيد عنه، وأما المذهب الذي حكاه علي بن سليمانن فقال: إنه من قررت به عيناً أقر. والمعنى: واقررن به عيناً في بيوتكن. قال النحاس: وهو وجه حسن. وأقول: ليس بحسن ولا هو معنى الآية، فإن المراد بها أمرهن بالسكون والاستقرار في بيوتهن، وليس من قرة العين. وقرأ ابن أبي عبلة واقررن بألف وصل وراءين، والأولى مكسورة على الأصل "ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى" التبرج: أن تبدي المرأة من زينتها ومحاسنها ما يجب عليها ستره مما تستدعي به شهوة الرجل. وقد تقدم معنى التبرج في سورة النور. قال المبرد: هو مأخوذ من السعة، يقال في أسنانه برج: إذا كانت متفرقة. وقيل التبرج هو التبختر في المشي، وهذا ضعيف جداً. وقد اختلف في المراد بالجاهلية الأولى، فقيل ما بين آدم ونوح، وقيل ما بين نوح وإدريس، وقيل ما بين نوح وإبراهيمن وقيل ما بين موسى وعيسى، وقيل ما بين عيسى ومحمد. وقال المبرد: الجاهلية الأولى كما تقول الجاهلية الجهلاء. قال: وكان نساء الجاهلية تظهر ما يقبح إظهاره، حتى كانت المرأة تجلس مع زوجها وخليلها، فينفرد خليلها بما فوق الإزار إلى أعلى، وينفرد زوجها بما دون الإزار إلى أسفل، وربما سأل أحدهما صاحبه البدل. قال ابن عطية: والذي يظهر لي أنه أشار إلى الجاهلية التي لحقنها فأمرن بالنقلة عن سيرتهن فيها، وهي ما كان قبل الشرع من سيرة الكفرة، لأنهم كانوا لا غيرة عندهم، وليس المعنى أن ثم جاهلية أخرى كذا قال، وهو قول حسن. ويمكن أن يراد بالجاهلية الأخرى ما يقع في الإسلام من التشبه بأهل الجاهلية بقول أو فعل، فيكون المعنى: ولا تبرجن أيها المسلمات بعد إسلامكن تبرجاً مثل تبرج الجاهلية التي كنتن عليها، وكان عليها من قبلكن: أي لا تحدثن بأفعالكن وأقوالكن جاهلية تشابه الجاهلية التي كانت من قبل "وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله" خص الصلاة والزكاة لأنهما أصل الطاعات البدنية والمالية. ثم عمم فأمرهن بالطاعة لله ولرسوله في كل ما هو شرع "إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت" أي إنما أوصاكن الله بما أوصاكن من التقوى، وأن لا تخضعن بالقول، ومن قول المعروف، والسكون في البيوت وعدم التبرج، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والطاعة ليذهب عنكم الرجس أهل البيت، والمراد بالرجس الإثم والذنب المدنسان للأعراض الحاصلان بسبب ترك ما أمر الله به، وفعل ما نهى عنه، فيدخل تحت ذلك كل ما ليس فيه لله رضا، وانتصاب أهل البيت على المدح كما قال الزجاج، قال: وإن شئت على البدل. قال: ويجوز الرفع والخفض. قال النحاس: إن خفض فعلى أنه بدل من الكاف والميم، واعترضه المبرد بأنه لا يجوز البدل من المخاطب، ويجوز أن يكون نصبه على النداء "ويطهركم تطهيراً" أي يطهركم من الأرجاس والأدران تطهيراً كاملاً. وفي استعارة الرجس للمعصية والترشيح لها بالتطهير تنفير عنها بليغ، وزجر لفاعلها شديد. وقد اختلف أهل العلم في أهل البيت المذكورين في الآية، فقال ابن عباس وعكرمة وعطاء والكلبي ومقاتل وسعيد بن جبير: إن أهل البيت المذكورين في الآية هن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم خاصة.

وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا

قالوا: والمراد بالبيت بيت النبي صلى الله عليه وسلم ومساكن زوجاته لقوله: 34- "واذكرن ما يتلى في بيوتكن". وأيضاً السياق في الزوجات من قوله: "يا أيها النبي قل لأزواجك" إلى قوله: "واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة إن الله كان لطيفاً خبيراً". وقال أبو سعيد الخدري ومجاهد وقتادة، وروي عن الكلبي أن أهل البيت المذكورين في الآية هم علي وفاطمة والحسن والحسين خاصة، ومن حججهم الخطاب في الآية بما يصلح للذكور لا للإناث، وهو قوله: عنكم وليطهركم، ولو كان للنساء خاصة لقال عنكن ويطهركن. وأجاب الأولون عن هذا أن التذكير باعتبار لفظ الأهل كما قال سبحانه: "أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت" وكما يقول الرجل لصاحبه: كيف أهلك؟ يريد زوجته أو زوجاته، فيقول: هم بخير. ولنذكر ههنا ما تمسك به كل فريق: أما الأولون فتمسكوا بالسياق، فإنه في الزوجات كما ذكرنا، وبما أخرجه ابن أبي حاتم وابن عساكر من طريق عكرمة عن ابن عباس في قوله: "إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت" قال: نزلت في نساء النبي صلى الله عليه وسلم خاصة. وقال عكرمة: من شاء باهلته أنها نزلت في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرج نحوه ابن مردويه من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن عكرمة نحوه. وأخرج ابن سعد عن عروة نحوه. وأما ما تمسك به الآخرون، فأخرج الترمذي وصححه وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في سننه من طرق "عن ام سلمة قالت: في بيتي نزلت "إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت" وفي البيت فاطمة وعلي والحسن والحسين، فجللهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بكساء كان عليه، ثم قال: هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه "عن أم سلمة أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في بيتها على منامه له عليه كساء خيبري، فجاءت فاطمة ببرمة فيها خزيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ادعي زوجك وابنيك حسناً وحسيناً فدعتهم، فبينما هم يأكلون إذ نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم: " إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا " فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بفضلة كسائه فغشاهم إياها، ثم أخرج يده من الكساء وألوى بها إلى السماء، ثم قال: اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، قالها ثلاث مرات. قالت أم سلمة: فأدخلت رأسي في الستر فقلت: يا رسول الله وأنا معكم؟ فقال: إنك إلى خير مرتين" وأخرجه أيضاً أحمد من حديثها قال: حدثنا عبد الله بن نمير. حدثنا عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء بن أبي رياح، حدثني من سمع أم سلمة تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره. وفي إسناده مجهول وهو شيخ عطاء، وبقية رجاله ثقات. وقد أخرجه الطبراني عنها من طريقين بنحوه. وقد ذكر ابن كثير في تفسيره لحديث أم سلمة طرقاً كثيرة في مسند أحمد وغيره. وأخرج ابن مردويه والخطيب من حديث أبي سعيد الخدري نحوه. وأخرج الترمذي وابن مردويه والطبراني وابن مردويه عن عمر بن أبي سلمة ربيب النبي صلى الله عليه وسلم قال: لما نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم "إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت" وذكر نحو حديث أم سلمة. وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد ومسلم وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم عن عائشة قالت: خرج النبي صلى الله عليه وسلم غداة وعليه مرط مرجل من شعر أسود، فجاءه الحسن والحسين فأدخلهما معه، ثم جاءت فاطمة فأدخلها معه، ثم جاء علي فأدخله معه، ثم قال: "إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً". وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن واثلة بن الأسقع قال " جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فاطمة ومعه علي وحسن وحسين حتى دخل، فأدنى علياً وفاطمة وأجلسهما بين يديه، وأجلس حسناً وحسيناً كل واحد منهما على فخذه، ثم لف عليهم ثوبه وأنا مستدبرهم ثم تلا هذه الآية " إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت " وقال: اللهم هؤلاء أهل بيتي، اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، قلت: يا رسول الله وأنا من أهلك؟ قال: وأنت من أهلي". قال واثلة: إنه لأرجى ما أرجوه. وله من طرق في مسند أحمد. وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والترمذي وحسنه وابن جرير وابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه عن أنس "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمر بباب فاطمة إذا خرج إلى صلاة الفجر يقول: الصلاة يا أهل البيت الصلاة "إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً"". وأخرج مسلم عن زيد بن أرقم "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أذكركم الله في أهل بيتي فقيل لزيد: ومن أهل بيته؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: نساؤه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده: آل علي وآل عقيل وآل جعفر، وآل العباس". وأخرج الحكيم الترمذي والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله قسم الخلق قسمين، فجعلني في خيرهما قسماً، فذلك قوله: "وأصحاب اليمين" "وأصحاب الشمال" فأنا من أصحاب اليمين، وأنا خير أصحاب اليمين. ثم جعل القسمين أثلاثاً، فجعلني في خيرها ثلاثاً، فذلك قوله: "فأصحاب الميمنة" "وأصحاب المشأمة" "والسابقون السابقون" فأنا من السابقين، وأنا خير السابقين. ثم جعل الأثلاث قبائل، فجعلني في خيرها قبيلة، وذلك قوله: "وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم" وأنا أتقى ولد آدم وأكرمهم على الله ولا فخر. ثم جعل القبائل بيوتاً، فجعلني في خيرها بيتاً، فذلك قوله: " إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا " فأنا وأهل بيتي مطهرون من الذنوب". وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن أبي الحمراء قال: رابطت المدينة سبعة أشهر على عهد رسول الله، قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا طلع الفجر جاء إلى باب علي وفاطمة فقال: الصلاة الصلاة "إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً"". وفي إسناده أبو داود الأعمى، وهو وضاع كذاب. وفي الباب أحاديث وآثار، وقد ذكرنا ههنا ما يصلح للتمسك به دون ما يصلح. وقد توسط طائفة ثالثة بين الطائفتين، فجعلت هذه الآية شاملة للزوجات ولعلي وفاطمة والحسن والحسين، أما الزوجات فلكونهن المرادات في سياق هذه الآيات كما قدمنا، ولكونهن الساكنات في بيوته صلى الله عليه وسلم النازلات في منازله، ويعضد ذلك ما تقدم عن ابن عباس وغيره. وأما دخول علي وفاطمة والحسن والحسين فلكونهم قرابته وأهل بيته في النسب، ويؤيد ذلك ما ذكرناه من الأحاديث المصرحة بأنهم سبب النزول، فمن جعل الآية خاصة بأحد الفريأيت قين فقد أعمل بعض ما يجب إعماله وأهمل ما لا يجوز إهماله. وقد رجح هذا القول جماعة من المحققين منهم القرطبي وابن كثير وغيرهما. وقال جماعة: هم بنو هاشم، واستدلوا بما تقدم من حديث ابن عباس وبقول زيد بن أرقم المتقدم حيث قال: ولكن آله من حرم الصدقة بعده: آل علي، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل العباس، فهؤلاء ذهبوا إلى أن المراد بالبيت بيت النسب. قوله: "واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة" أي اذكرن موضع النعمة إذ صيركن الله في بيوت يتلى فيها آيات الله والحكمة اذكرنها وتفكرن فيها لتتعظن بمواعظ الله، أو اذكرنها للناس ليتعظوا بها ويهتدوا بهداها، أو اذكرنها بالتلاوة لها لتحفظنها ولا تتركن الاستكثار من التلاوة. قال القرطبي: قال أهل التأويل وآيات الله هي القرآن، والحكمة السنة. وقال مقاتل المراد بالآيات والحكمة أمره ونهيه في القرآن. وقيل إن القرآن جامع بين كونه آيات بينات دالة على التوحيد وصدق النبوة وبين كونه حكمة مشتملة على فنون من العلوم والشرائع "إن الله كان لطيفاً خبيراً" أي لطيفاً بأوليائه خبيراً بجميع خلقه وجميع ما يصدر منهم من خير وشر وطاعة ومعصية، فهو يجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته. وقد أخرج أحمد ومسلم والنسائي وابن مردويه من طريق أبي الزبير عن جابر قال أقبل أبو بكر يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس ببابه جلوس والنبي صلى الله عليه وسلم جالس فلم يؤذن له، ثم أقبل عمر فاستأذن فلم يؤذن له، ثم أذن لأبي بكر وعمر فدخلا والنبي صلى الله عليه وسلم جالس وحوله نساؤه وهو ساكت، فقال عمر: لأكملن النبي صلى الله عليه وسلم لعله يضحك، فقال عمر: يا رسول الله لو رأيت ابنة زيد امرأة عمر سألت النفقة آنفاً فوجأت في عنقها، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه وقال: هن حولي يسألنني النفقة، فقام أبو بكر إلى عائشة ليضربها، وقام عمر إلى حفصة، كلاهما يقولان: تسألان رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده، فنهاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلن نساؤه: والله لا نسأل رسول الله بعد هذا المجلس ما ليس عنده، وأنزل الله الخيار، فنادى بعائشة فقال: إني ذاكر لك أمراً ما أحب أن تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك، قالت: ما هو؟ فتلا عليها "يا أيها النبي قل لأزواجك" الآية، قالت عائشة: أفيك أستأمر أبوي، بل أختار الله رسوله، وأسألك أن لا تذكر لنسائك ما اخترت فقال: إن الله [لم] يبعثني متعنتاً ولكن بعثني معلماً مبشراً، لا تسألني امرأة منهن عما اخترت إلا أخبرتها. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما "عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءها حين أمره الله أن يخير أزواجه قالت: فبدأ بي فقال: إني ذاكر لك أمراً فلا عليك أن لا تستعجلي حتى تستأمري أبويك، وقد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه، فقال: إن الله قال: "يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا" إلى تمام الآية، فقلت له: ففي أي هذا أستأمر أبوي، فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة، وفعل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مثل ما فعلت". وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحاً" قال يقول: من يطع الله منكن وتعمل منكن لله ورسوله بطاعته. وأخرج ابن المنذر عنه في قوله: "فلا تخضعن بالقول" قال: يقول لا ترخصن بالقول ولا تخضعن بالكلام. وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً في قوله: "فلا تخضعن بالقول" قال: مقارنة الرجال في القول حتى يطمع الذي في قلبه مرض. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن محمد بن سيرين قال: نبئت أنه قيل لسودة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: مالك لا تحجين ولا تعتمرين كما يفعل أخواتك؟ فقالت: قد حججت واعتمرت وأمرني الله أن أقر في بيتي، فوالله لا أخرج من بيتي حتى أموت، قال: فوالله ما خرجت من باب حجرتها حتى أخرجت بجنازتها. وأخرج ابن أبي شيبة وابن سعد وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن المنذر عن مسروق قال: كانت عائشة إذا قرأت "وقرن في بيوتكن" بكت حتى تبل خمارها.وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وابن مردويه والبيهقي في الشعب قال: كانت الجاهلية الأولى فيما بين نوح وإدريس وكانت ألف سنة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب سأله فقال: أرأيت قول الله لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم "ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى" هل كانت جاهلية غير واحدة، فقال ابن عباس: ما سمعت بأولى إلا ولها آخرة، فقال له عمر: فأتني من كتاب الله ما يصدق ذلك، فقال: إن الله يقول: وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم أول مرة فقال عمر: من أمرنا أن نجاهد؟ قال: مخزوم وعبد شمس. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: الجاهلية الأولى ما بين عيسى ومحمد. وقد قدمنا ذكر الآثار الواردة في سبب نزول قوله: "إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت". وأخرج عبد الرزاق وابن سعد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة" قال: القرآن والسنة يمتن بذلك عليهن. وأخرج ابن سعد عن أبي أمامة عن سهل في قوله: "واذكرن ما يتلى في بيوتكن" الآية قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في بيوت أزواجه النوافل بالليل والنهار.

إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ

قوله: 35- "إن المسلمين" بدأ سبحانه بذكر الإسلام الذثي هو مجرد الدخول في الدين والانقياد له مع العمل، كما ثبت في الحديث الصحيح "أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله جبريل عن الإسلام قال: هو أن تشهد أن لا إله إلا الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتحج البيت، وتصوم رمضان". ثم عطف على المسلمين "المسلمات" تشريفاً لهن بالذكر.وهكذا فيما بعد وإن كن داخلات في لفظ المسلمين والمؤمنين ونحو ذلك، والتذكير إنما هو لتغليب الذكور على الإناث كما في جميع ما ورد في الكتاب العزيز من ذلك، ثم ذكر "المؤمنين والمؤمنات" وهم من يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والقدر خيره وشره كما ثبت ذلك في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقانت العابد المطيع، وكذا القانتة، وقيل المداومين على العبادة والطاعة، والصادق والصادقة هما من يتكلم بالصدق ويتجنب الكذب ويفي بما عوهد عليه، والصابر والصابرة هما من يصبر عن الشهوات وعلى مشاق التكليف، والخاشع والخاشعة هما المتواضعان لله الخائفان منه الخاضعان في عبادتهم لله، والمتصدق والمتصدقة هما من تصدق من ماله بما أوجبه الله عليه. وقيل ذلك أعم من صدقة الفرض والنفل، وكذلك الصائم والصائمة، قيل ذلك مختص بالفرض، وقيل هو أعم، والحافظ والحافظة لفرجيهما عن الحرام بالتعفف والتنزه والاقتصار على الحلال، والذاكر والذاكرة هما من يذكر الله على أحواله، وفي ذكر الكثرة دليل على مشروعية الاستكثار من ذكر الله سبحانه بالقلب واللسان، واكتفى في الحافظات بما تقدم في الحافظين من ذكر الفروج والتقدير: والحافظين فروجهم والحافظات فروجهن، وكذا في الذاكرات والتقدير: والذاكرين الله كثيراً والذاكرات الله كثيراً، والخبر لجميع ما تقدم هو قوله: "أعد الله لهم مغفرة وأجراً عظيماً" أي مغفرة لذنوبهم التي أذنبوها وأجراً عظيماً على طاعاتهم التي فعلوها من الإسلام والإيمان والقنوت والصدق والصبر والخشوع والتصدق والصوم والعفاف والذكر، ووصف الأجر بالعظم للدلالة على أنه بالغ غاية المبالغ ولا شيء أعظم من أجر هو الجنة ونعيمها الدائم الذي لا ينقطع ولا ينفد، اللهم اغفر ذنوبنا وأعظم أجورنا.

وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا

36- "وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم" أي ما صح ولا استقام لرجل ولا امرأة من المؤمنين، ولفظ ما كان وما ينبغي ونحوهما معناها المنع والحظر من الشيء والإخبار بأنه لا يحل أن يكون شرعاً، وقد يكون لما يمتنع عقلاً كقوله: "ما كان لكم أن تنبتوا شجرها" ومعنى الآية: أنه لا يحل لمن يؤمن بالله إذا قضى الله أمراً أن يختار من أمر نفسه ما شاء، بل يجب عليه أن يذعن للقضاء ويوقف نفسه تحت ما قضاه الله واختاره له، وجمع الضميرين في قوله: لهم و من أمرهم لأن مؤمن ومؤمنة وقعا في سياق النفي فهما يعمان كل مؤمن ومؤمنة. قرأ الكوفيون "أن يكون" بالتحتية، واختار هذه القراءة أبو عبيد لأنه قد فرق بين الفعل وفاعله المؤنث بقوله لهم مع كون التأنيث غير حقيقي، وقرأ الباقون بالفوقية لكونه مسنداً إلى الخيرة وهي مؤنثة لفظاً، والخيرة مصدر بمعنى الاختيار. وقرأ ابن السميفع الخيرة بسكون التحتية، والباقون بتحريكها، ثم توعد سبحانه من لم يذعن لقضاء الله وقدره فقال: " ومن يعص الله ورسوله " في أمر من الأمور، ومن ذلك عدم الرضا بالقضاء "فقد ضل ضلالاً مبيناً" أ] ضل عن طريق الحق ضلالاً ظاهراً واضحاً لا يخفى. وقد أخرج أحمد والنسائي وابن جرير وابن المنذر والطبراني وابن مردويه عن أم سلمة قالت: قلت يارسول الله ما لنا لا نذكر في القرآن كما يذكر الرجال فلم يرعني منه ذات يوم إلا نداؤه على المنبر وهو يقول: إن الله يقول "إن المسلمين والمسلمات" إلى آخر الآية. وروي نحو هذا عنها من طريق أخرى أخرجها الفريابي وابن سعد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه. وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد والترمذي وحسنه، والطبراني وابن مردويه عن أم عمارة الأنصارية أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما أرى كل شيء إلا للرجال، وما أرى النساء يذكرن بشيء؟ فنزلت هذه الآية "إن المسلمين والمسلمات". وأخرج ابن جرير والطبراني وابن مردويه بإسناد. قال السيوطي: حسن، عن ابن عباس قال: قالت النساء يا رسول الله ما باله يذكر المؤمنين ولا يذكر المؤمنات؟ فنزلت "إن المسلمين والمسلمات" الآية. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق ليخطب على فتاة زيد بن حارثة، فدخل على زينب بنت جحش الأسدية فخطبها، قالت: لست بنكاحته، قال: بلى فانكحيه، قالت: يا رسول الله أؤامر نفسي، فبينما هما يتحدثان أنزل الله هذه الآية على رسوله "وما كان لمؤمن ولا مؤمنة" الآية، قالت: قد رضيته لي يا رسول الله منكحاً، قال نعم، قالت: إذن لا أعصى رسول الله قد أنكحته نفسي. وأخرج نحوه عنه ابن جرير من طريق أخرى. وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزينب: إني أريد أن أزوجك زيد بن حارثة فإني قد رضيته لك، قالت يا رسول الله لكني لا أرضاه لنفسي وأنا ايم قومي وبنت عمتك فلم أكن لأفعل، فنزلت هذه الآية: "وما كان لمؤمن" يعني زيداً "ولا مؤمنة" يعني زينب "إذا قضى الله ورسوله أمراً" يعني النكاح في هذا الموضع "أن يكون لهم الخيرة من أمرهم" يقول: ليس لهم الخيرة من أمرهم خلاف ما أمر الله به "ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً" قالت: قد أطعتك فاصنع ما شئت، فزوجها زيداً ودخل عليها". وأخرج ابن أبي حاتم عن زيد قال: نزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وكانت أول امرأة هاجرت فوهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم فزوجها زيد بن حارثة فسخطت هي وأخوها وقالا: إنما أردنا رسول الله فزوجنا عبده.

وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوّ

لما زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة بزينب بنت جحش كما مر في تفسير الآية التي قبل هذه أنزل الله سبحانه 37- "وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه" أي واذكر إذ تقول للذي أنعم الله عليه وهو زيد بن حارثة، أنعم الله عليه بالإسلام، وأنعم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن أعتقه من الرق، وكان من سبي الجاهلية اشتراه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية وأعتقه وتبناه، وسيأتي في بيان سبب نزول الآية في آخر البحث ما يوضح المراد منها. قال القرطبي: وقد اختلف في تأويل هذه الآية، فذهب قتادة وابن زيد وجماعة من المفسرين منهم ابن جرير الطبري وغيره إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم وقع منه استحسان لزينب بنت جحش وهي في عصمة زيد، وكان حريصاً على أن يطلقها زيد فيتزوجها هو، ثم إن زيداً لما أخبره بأنه يريد فراقها ويشكو منها غلظة قول وعصيان أمر وأذى باللسان وتعظماً بالشرف قال له: اتق الله فيما تقول عنها وأمسك عليك زوجك، وهو يخفي الحرص على طلاق زيد إياها، وهذا الذي كان يخفي في نفسه ولكنه لزم ما يجب من الأمر بالمعروف انتهى "أمسك عليك زوجك" يعني زينب "واتق الله" في أمرها ولا تعجل بطلاقها "وتخفي في نفسك ما الله مبديه" وهو نكاحها إن طلقها زيد، وقيل حبها "وتخشى الناس" أي تستحييهم، أو تخاف من تعييرهم بأن يقولوا أمر مولاه بطلاق امرأته ثم تزوجها "والله أحق أن تخشاه" في كل حال وتخاف منه وتستحييه والواو للحال: أي تخفي في نفسك ذلك الأمر مخافة من الناس "فلما قضى زيد منها وطراً" قضاء الوطر في اللغة: بلوغ منتهى ما في النفسمن الشيء، يقال قضى وطراً منه: إذا بلغ ما أراد من حاجته فيه، ومنه قول عمر بن أبي ربيعة: أيها الرائح المجد ابتكارا قد قضى من تهامة الأوطارا أي فرغ من أعمال الحج وبلغ ما أراد منه، والمراد هنا أنه قضى وطره منها بنكاحه والدخول بها بحيث لم يبق له فيها حاجة، وقيل المراد به الطلاق، وأن الرجل إنما يطلق امرأته إذا لم يبق له فيها حاجة وقال المبرد: الوطر الشهوة والمحبة وأنشد: وكيف ثوائي بالمدينة بعد ما قضى وطراً منها جميل بن معمر وقال أبو عبيدة: الوطر: الأرب والحاجة، وأنشد قول الفزاري: ودعنا قبل أن نودعه لما قضى من شبابنا وطرا قرأ الجمهور "زوجناكها" وقرأ علي وابناه الحسن والحسين زوجتكها فلما أعلمه الله بذلك دخل عليها بغير إذن ولا عقد ولا تقدير صداق ولا شيء مما هو معتبر في النكاح في حق أمته. وقيل المراد به الأمر له بأن يتزوجها. والأول أولى، وبه جاءت الأخبار الصحيحة. ثم علل سبحانه ذلك بقوله: " لكي لا يكون على المؤمنين حرج " أي ضيق ومشقة "في أزواج أدعيائهم" أي في التزوج بأزواج من يجعلونه ابناً كما كانت تفعله العرب فإنهم كانوا يتبنون من يريدون، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد تبنى زيد بن حارثة، فكان يقال زيد بن محمد حتى نزل قوله سبحانه: "ادعوهم لآبائهم" وكانت العرب تعتقد أنه يحرم عليه نساء من تبنوه كما تحرم عليه نساء أبنائهم حقيقة. والأدعياء حلال لهم "إذا قضوا منهن وطراً" بخلاف ابن الصلب فإن امرأته تحرم عليه أبيه بنفس العقد عليها "وكان أمر الله مفعولاً" أي كان قضاء الله في زينب أن يتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم قضاءً ماضياً مفعولاً لا محالة.

مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا

ثم بين سبحانه أنه لم يكن على رسول الله صلى الله عليه وسلم حرج في هذا النكاح فقال: 38- "ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له" أي فيما أحل الله له وقدره وقضاه، يقال فرض له كذا: أي قدر له "سنة الله في الذين خلوا من قبل" أي إن هذا هو السنن الأقدم في الأنبياء والأمم الماضية أن ينالوا ما أحله الله لهم من أمر النكاح وغيره "وكان أمر الله قدراً مقدوراً" أي قضاءً مقضياً. قال مقاتل: أخبر الله أن أمر زينب كان من حكم الله وقدره، وانتصاب سنة على المصدر: أي سنة الله سنة الله، أو اسم وضع موضع المصدر أو منصوب بجعل أو بالإغراء. ورده أبو حبان بأن عامل الإغراء لا يحذف.

الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا

ثم ذكر سبحانه الأنبياء الماضين وأثنى عليهم فقال: 39- "الذين يبلغون رسالات الله" والموصول في محل جر صفة للذين خلوا أو منصوب على المدح، مدحهم سبحانه بتبليغ ما أرسلهم به إلى عباده وخشيته في كل فعل وقول ولا يخشون سواه ولا يبالون بقول الناس ولا بتعبيرهم، بل خشيتهم مقصورة على الله سبحانه "وكفى بالله حسيباً" حاضراً في كل مكان يكفي عباده كل ما يخافونه، أو محاسباً لهم في كل شيء، ولما تزوج صلى الله عليه وسلم زينب قال الناس: تزوج امرأة ابنه.

مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا

فأنزل الله 40- "ما كان محمد أبا أحد من رجالكم" أي ليس بأب لزيد بن حارثة على الحقيقة حتى تحرم عليه زوجته، ولا هو أب لأحد لم يلده. قال الواحدي: قال المفسرون: لم يكن أبا أحد لم يلده، وقد ولد له من الذكور إبراهيم والقاسم والطيب والمطهر. قال القرطبي: ولكن لم يعش له ابن حتى يصير رجلاً: قال: وأما الحسن والحسين فكانا طفلين ولم يكونا رجلين معاصرين له "ولكن رسول الله" قال الأخفش والفراء: ولكن كان رسول الله وأجازا الرفع. وكذا قرأ ابن أبي عبلة بالرفع في رسول وفي خاتم على معنى: ولكن هو رسول الله وخاتم النبيين وقرأ الجمهور بتخفيف لكن، ونصب رسول و خاتم، ووجه النصب على خبرية كان المقدرة كما تقدم، ويجوز أن يكون بالعطف على أبا أحد. وقرأ أبو عمرو في رواية عنه بتشديد لكن ونصب رسول على أنه اسمها وخبرها محذوف: أي ولكن رسول الله هو. وقرأ الجمهور "خاتم" بكسر التاء. وقرأ عاصم بفتحها. ومعنى القراءة الأولى: أنه ختمهم: أي جاء آخرهم. ومعنى القراءة الثانية: أنه صار كالخاتم لهم الذي يتختمون به ويتزينون بكونه منهم. وقيل كسر التاء وفتحها لغتان. قال أبو عبيد: الوجه الكسر لأن التأويل أنه ختمهم فهو خاتمهم، وأنه قال: "أنا خاتم النبيين" وخاتم الشيء آخره ومنه قولهم: خاتمه المسك. وقال الحسن: الخاتم هو الذي ختم به "وكان الله بكل شيء عليماً" قد أحاط علمه بكل شيء، ومن جملة معلوماته هذه الأحكام المذكورة هنا. وقد أخرج أحمد والبخاري والترمذي وغيرهم عن أنس قال: "جاء زيد بن حارثة يشكو زينب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اتق الله وأمسك عليك زوجك، فنزلت "وتخفي في نفسك ما الله مبديه"". قال أنس: فلو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً لكتم هذه الآية، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم فما أولم على امرأة من نسائه ما أولم عليها، ذبح شاة "فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها" فكانت تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: زوجكن أهاليكن وزوجني الله من فوق سبع سموات. وأخرج أحمد ومسلم والنسائي وغيرهم عن أنس قال: " لما انقضت عدة زينب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد: اذهب فاذكرها علي، فانطلق، قال: فلما أيتها عظمت في صدري، فقلت: يا زينب أبشري أرسلني رسول الله يذكرك، قالت ما أنا بصانعة شيئاً حتى أؤامر ربي، فقامت إلى مسجدها ونزل القرآن، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل عليها بغير إذن، ولقد رأيتنا حين دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أطعمنا عليها الخبز واللحم، فخرج الناس وبقي رجال يتحدثون في البيت بعد الطعام، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم واتبعته، فجعل يتتبع حجر نسائه يسلم عليهن ويقولون: يا رسول الله كيف وجدت أهلك؟ فما أدري أنا أخبرته أن القوم قد خرجوا أو أخبر، فانطلق حتى دخل البيت، فذهبت أدخل معه، فألقى الستر بيني وبينه ونزل الحجاب ووعظ القوم بما وعظوا به "لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم" الآية". وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد والترمذي وصححه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن عائشة قالت لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً من الوحي لكتم هذه الآية "وإذ تقول للذي أنعم الله عليه" يعني بالإسلام "وأنعمت عليه" يعني بالعتق "أمسك عليك زوجك" إلى قوله: "وكان أمر الله مفعولاً" وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تزوجها قالوا تزوج حليلة ابنه، فأنزل الله " ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين " وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم تبناه وهو صغير، فلبث حتى صار رجلاً يقال له زيد بن محمد، فأنزل الله "ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله" يعني أعدل عند الله. وأخرج ابن سعد عن محمد بن كعب القرظي في قوله: "سنة الله في الذين خلوا من قبل" قال: يعني يتزوج من النساء ما شاء هذا فريضة، وكان من قبل من الأنبياء هذا سنتهم، قد كان لسليمان بن داود ألف امرأة، وكان لداود مائة امرأة. وأخرج ابن المنذر والطبراني عن ابن جريج في قوله: "سنة الله في الذين خلوا من قبل" قال داود: والمرأة اليت نكح وزوجها اسمها اليسية، فذلك سنة في محمد وزينب "وكان أمر الله قدراً مقدوراً" كذلك في سنته في داود والمرأة والنبي وزينب. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: "ما كان محمد أبا أحد من رجالكم" قال: نزلت في زيد بن حارثة. وأخرج أحمد ومسلم عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثلي ومثل النبيين كمثل رجل بنى داراً، فانتهى إلا لبنة واحدة، فجئت أنا فأتممت تلك اللبنة". وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل ابتنى داراً فأكملها وأحسنها إلا موضع لبنة، فكان من دخلها فنظر إليها قال ما أحسنها إلا موضع اللبنة، فأنا موضع اللبنة حتى ختم بي الأنبياء". وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة نحوه. وأخرج أحمد والترمذي وصححه من حديث أبي بن كعب نحوه أيضاً.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا

قوله: 41- "يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً" أمر سبحانه عباده بأن يستكثروا من ذكره بالتهليل والتحميد والتسبيح والتكبير وكل ما هو ذكر لله تعالى. قال مجاهد: هو أن لا ينساه أبداً، وقال الكلبي: ويقال ذكراً كثيراً بالصلوات الخمس، وقال مقاتل: هو التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير على كل حال.

وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا

42- "وسبحوه بكرةً وأصيلاً" أي نزهوه عما لا يليق به في وقت البكرة ووقت الأصيل، وهم أول النهار وآخره، وتخصيصهما بالذكر لمزيد ثواب التسبيح فيهما، وخص التسبيح بالذكر بعذ دخوله تحت عموم قوله: "اذكروا الله" تنبيهاً على مزيد شرفه، وإنافة ثوابه على غيره من الأذكار. وقيل المراد بالتسبيح بكرة صلاة الفجر، وبالتسبيح أصيلاً صلاة المغرب. وقال قتادة وابن جرير: المراد صلاة الغداة وصلاة العصر. وقال الكلبي: أما بكرة فصلاة الفجر، وأما أصيلا فصلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء. قال المبرد: والأصيل العشي وجمعه أصائل.

هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا

43- "هو الذي يصلي عليكم وملائكته" والصلاة من الله على العباد رحمته لهم وبركته عليهم، ومن الملائكة الدعاء لهم والاستغفار كما قال "ويستغفرون للذين آمنوا" قال مقاتل بن سليمان ومقاتل بن حيان: المعنى ويأمر ملائكته بالاستغفار لكم، والجملة مستأنفة كالتعليل لما قبلها من الأمر بالذكر والتسبيح. وقيل الصلاة من الله على العبد هي إشاعة الذكر الجميل له في عباده، وقيل الثناء عليه، وعطف ملائكته على الضمير المستكن في يصلي لوقوع الفصل بقوله عليكم فأغنى ذلك عن التأكيد بالضمير بمعنى الدعاء لئلا يجمع بين حقيقة ومجاز في كلمة واحدة، واللام في "ليخرجكم من الظلمات إلى النور" متعلق بيصلي: أي يعتني بأموركم هو و ملائكته ليخرجكم من ظلمات الهداية ودوامهم عليها لأنهم كانوا وقت الخطاب على الهداية. ثم أخبر سبحانه برحمته للمؤمنين تأنيساً لهم وتثبيتاً فقال: "وكان بالمؤمنين رحيماً" وفي هذه الجملة تقرير لمضمون ما تقدمها.

تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا

ثم بين سبحانه أن هذه الرحمة منه لا تخص السامعين وقت الخطاب بل هي عامة لهم ولمن بعدهم وفي الدار الآخرة فقال: 44- "تحيتهم يوم يلقونه سلام" أي تحية المؤمنين من الله سبحانه يوم لقائهم له عند الموت أو عند البعث أو عند دخول الجنة هي التسليم عليهم منه عز وجل. وقيل المراد تحية بعضهم لبعض يوم يلقون ربهم سلام، وذلك لأنه كان بالمؤمنين رحيماً فلما شملتهم رحمته ,امنوا من عقابه حيا بعضهم بعضاً سروراً واستبشاراً. والمعنى: سلامة لنا من عذاب النار. قال الزجاج: المعنى فيسلمهم الله من الآفات ويبشرهم بالأمن من المخافات يوم يلقونه. وقيل الضمير في يلقونه راجع إلى ملك الموت، وهو الذي يحييهم كما ورد أنه لا يقبض روح مؤمن إلاسلم عليه. وقال مقاتل: هو تسليم الملائكة عليهم يوم يلقون الرب كما في قوله: " والملائكة يدخلون عليهم من كل باب * سلام عليكم " "وأعد لهم أجراً كريماً" أي أعد لهم في الجنة رزقاً حسناً ما تشتهيه أنفسهم وتلذه أعينهم.

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا

ثم ذكر سبحانه صفات رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أرسله لها فقال: 45- "يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً" أي على أمته يشهد لمن صدقه وآمن به، وعلى من كذبه وكفر به: قال مجاهد: شاهداً على أمته بالتبليغ إليهم وعلى سائر الأمم بتبليغ أنبيائهم إليهم "ومبشراً" للمؤمنين برحمة الله وبما أعده لهم من جزيل الثواب وعظيم الأجر" ونذيرا " للكافرين والعصاة بالنار ، وبما أعده الله لهم من عظيم العقاب .

وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا

46- "وداعياً إلى الله" يدعو عباد الله إلى التوحيد والإيمان بما جاء به، والعمل بما شرعه لهم، ومعنى "بإذنه" بأمره له بذلك وتقديره، وقيل بتبشيره "وسراجاً منيراً" أي يستضاء به في ظلم الضلالة كما يستضاء بالمصباح في الظلمة. قال الزجاج: "وسراجاً" أي ذا سرج منير أي كتاب نير، وانتصاب شاهداً وما بعده على الحال.

وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا

47- "وبشر المؤمنين" عطف على مقدر يقتضيه المقام كأنه قال فاشهد وبشر، أو فدبر أحوال الناس "وبشر المؤمنين" أو هو من عطف جملة على جملة، وهي المذكورة سابقاً، ولا يمنع من ذلك الاختلاف بين الجملتين بالإخبار والإنشاء. أمره سبحانه بأن يبشرهم بأن لهم من الله فضلاً كبيراً على سائر الأمم، وقد بين ذلك سبحانه بقوله: " والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات لهم ما يشاؤون عند ربهم ذلك هو الفضل الكبير ".

وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا

ثم نهاه سبحانه عن طاعة أعداء الدين فقال: 48- "ولا تطع الكافرين والمنافقين" أي لا تطعهم فيما يشيرون عليك به من المداهنة في الدين، وفي الآية تعريض لغيره من أمته لأنه صلى الله عليه وسلم معصوم عن طاعتهم في شيء مما يريدونه ويشيرون به عليه، وقد تقدم تفسير هذه الآية في أول السورة "ودع أذاهم" أي لا تبال بما يصدر منهم إليك من الأذى بسبب يصيبك في دين الله وشدتك على أعدائه، أو دع أن تؤذيهم مجازاة لهم على ما يفعلونه من الأذى لك، فالمصدر على الأول مضاف إلى الفاعل. وعلى الثاني مضاف إلى المفعول، وهي منسوخة بآية السيف "وتوكل على الله" في كل شؤونك "وكفى بالله وكيلاً" توكل إليه الأمور وتفوض إليه الشؤون، فمن فوض إليه أموره كفاه، ومن وكل إليه أحواله لم يحتج فيها إلى سواه. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "اذكروا الله ذكراً كثيراً" يوقل: لا يفرض على عباده فريضة إلا جعل لها أجلاً معلوماً، ثم عذر أهلها في حال العضر غير الذكر، فإن الله لم يجعل له حداً ينتهي إليه ولم يعذر أحد في تركه إلا مغلوباً على عقله، فقال: اذكروا الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبكم، بالليل والنهار، في البر والبحر، في السفر والحضر، في الغنى والفقر، وفي الصحة والسقم، في السر والعلانية وعلى كل حال، وقال: "وسبحوه بكرةً وأصيلاً" إذا فعلتم ذلك صلى عليكم هو وملائكته قال الله: "هو الذي يصلي عليكم وملائكته". وقد ورد في فضل الذكر والاستكثار منه أحاديث كثيرة وقد صنف في الأذكار المتعلقة بالليل والنهار جماعة من الأئمة كالنسائي والنووي والجزري وغيرهم، وقد نطقت الآيات القرآنية بفضل الذاكرين وفضيلة الذكر "ولذكر الله أكبر" وقد ورد أنه أفضل من الجهاد كما في حديث أبي سعيد الخدري عند أحمد والترمذي والبيهقي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: أي العباد أفضل درجة عند الله يوم القيامة؟ قال: الذاكرون الله كثيراً، قلت: يا رسول الله ومن الغازي في سبيل الله؟ قال: لو ضرب بسيفه في الكفار والمشركين حتى ينكسر ويختضب دماً لكان الذاكرون أفضل منه درجة". وأخرج أحمد عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعا في درجاتكم وخير لكم من إعطاء الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا أعداءكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: وما هو يا رسول الله؟ قال: ذكر الله عز وجل". وأخرجه أيضاً الترمذي وابن ماجه. وفي صحيح مسلم وغيره من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سبق المفردون، قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: الذاكرون الله كثيراً". وأخرج أحمد وأبو يعلى وابن حبان والحاكم وصححه والبيهقي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أكثروا ذكر الله حتى يقولوا مجنون". وأخرج الطبراني عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اذكروا الله حتى يقول المنافقون إنكم مراؤون". وورد في فضل التسبيح بخصوصه أحاديث ثابته في الصحيحين وغيرهما، فمن ذلك حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قال في يوم مائة مرة سبحان الله وبحمده حطت خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر". وأخرج أحمد ومسلم والترمذي وغيرهم عن سعد بن أبي وقاص قال "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أيعجز أحدكم أن يكتسب في اليوم ألف حسنة؟ فقال رجل: كيف يكتسب أحدنا ألف حسنة؟ قال: يسبح الله مائة تسبيحة فيكتب له ألف حسنة ويحط عنه ألف خطيئة". وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا في ذكر الموت وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن البراء بن عازب في قوله: "تحيتهم يوم يلقونه سلام" قال: يوم يلقون ملك الموت ليس من مؤمن يقبض روحه إلا سلم عليه. وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه والخطيب وابن عساكر عن ابن عباس قال:" لما نزلت "يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً". وقد كان أمر علياً ومعاذاً أن يسيرا إلى اليمن، فقال: انطلقا فبشرا ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا، فإنها قد أنزلت علي " يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا " قال: شاهداً على أمتك، ومبشراً بالجنة، ونذيراً من النار، وداعياً إلى شهادة أن لا إله إلا الله "بإذنه وسراجاً منيراً" بالقرآن". وأخرج أحمد والبخاري وغيرهما عن عطاء بن يسار قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص فقلت أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة فقال: أجل والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفاته في القرآن يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً، وحرزاً للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق، ولا تجزي بالسيئة السيئة، ولكن تعفو وتصفح زاد أحمد ولن يقبضه الله حتى يقيم الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله، فيفتح بها أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً. وقد ذكر البخاري في صحيحه في البيوع هذا الحديث فقال: وقال سعيد عن هلال عن عطاء عن عبد الله بن سلام، ولم يقل عبد الله بن عمرو، وهذا أولى، فعبد الله بن سلام هو الذي كان يسأل عن التوراة فيخبر بما فيها.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا

لما ذكر سبحانه قصة زيد وطلاقه لزينب، وكان قد دخل بها وخطبها النبي صلى الله عليه وسلم بعد انقضاء عدتها كما تقدم خاطب المؤمنين مبيناً لهم حكم الزوجة إذا طلقها زوجها قبل الدخول فقال: 49- "يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات" أي عقدتم بهن عقد النكاح، ولم يرد لفظ النكاح في كتاب الله إلا في معنى العقد كما قاله صاحب الكشاف والقرطبي وغيرهما. وقد اختلف في لفظ النكاح هل هو حقيقة في الوطء، أو في العقد، أو فيهما على طريقة الاشتراك، وكلام صاحب الكشاف في هذا الموضع يشعر بأنه حقيقة في الوطء، فإه قال النكاح الوطء، وتسمية العقد نكاحاً لملابسته له من حيث أنه طريق إليه، ونظيره تسمية الخمر إثماً لأنها سبب في اقتراف الإثم. "من قبل أن تمسوهن" من قبل أن تجامعوهن، فكنى عن ذلك بلفظ المس "فما لكم عليهن من عدة تعتدونها" وهذا مجمع عليه كما حكى ذلك القرطبي وابن كثير، ومعنى تعتدونها: تستوفون عددها، من عددت الدراهم فأنا أعتدها. وإسناد ذلك إلى الرجال للدلالة على أن العدة حق لهم كما يفيده "فما لكم عليهن من عدة" قرأ الجمهور "تعتدونها" بتشديد الدال، وقرأ ابن كثير في رواية عنه وأهل مكة بتخفيفها. وفي هذه القراءة وجهان: أحدهما أن تكون بمعنى الأولى، مأخوذ من الاعتداد: أي تستوفون عددها ولكنهم تركوا التضيف لقصد التخفيف. قال الرازي: ولو كان من الاعتداء الذي هو الظلم لضعف، لأن الاعتداء يتعدى بعلى. وقيل يجوز أن يكون من الاعتداد بحذف حرف الجر: أي تعتدون عليها: أي على العدة مجازاً، ومثله قوله: تحن فتبدي ما بها من صبابة وأخفي الذي لولا الأسى لقضاني أي لقضى علي. والوجه الثاني أن يكون المعنى تعتدون فيها، والمراد بالاعتداء هذا هو ما فيه قوله: "ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدواً" فيكون معنى الآية على القراءة الآخرة: فلما لكم عليهن من عدة تعتدون عليهن فيها بالمضارة. وقد أنكر ابن عطية صحة هذه القراءة عن ابن كثير وقال: إن البزي غلط عليه، وهذه الآية مخصصة لعموم قوله تعالى: "والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء" وبقوله: "واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر" والمتعة المذكورة هنا قد تقدم الكلام فيها في البقرة. وقال سعيد بن جبير: هذه المتعة المذكورة هنا منسوخة بالآية التي في سورة البقرة وهي قوله: "وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم" وقيل المتعة هنا هي أعم من أن تكون نصف الصداق، أو المتعة خاصة إن لم يكن قد سمي لها، فمع التسمية للصداق تستحق نصف المسمى عملاً بقوله: " فنصف ما فرضتم "، ومع عدم التسمية تستحق المتعة عملاً بهذه الآية، ويؤيد ذلك قوله تعالى: "لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره" وهذا الجمع لا بد منه، وهو مقدم على الترجيح وعلى دعوى النسخ، وتخصص من هذه الآية المتوفى عنها زوجها، فإنه إذا مات بعد العقد عليها وقبل الدخول بها كان الموت كالدخول فتعتد أربعة أشهر وعشراً. قال ابن كثير بالإجماع، فيكون المخصص هو الإجماع، وقد استدل بهذه الآية القائلو ن بأنه لا طلاق قبل النكاح، وهم الجمهورن وذهب مالك وأبو حنيفة إلى صحة الطلاق قبل النكاح إذا قال: إن تزوجت فلانه فهي طالق، فتطلق إذا تزوجها. ووجه الاستدلال بالآية لما قاله الجمهور أنه قال: "إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن" فعقب الطلاق بالنكاح بلفظ ثم المشعرة بالترتيب والمهملة "وسرحوهن سراحاً جميلاً" أي أخرجوهن من منازلكم: إذ ليس لكم عليهن عدة، والسراح الجميل هنا كناية عن الطلاق، وهو بعيد لأنه قد تقدم ذكر الطلاق ورتب عليه التمتيع وعطف عليه السراح الجميل، فلا بد أن يراد به معنى غير الطلاق.

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آَتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ و

50- "يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن" ذكر سبحانه في هذه الآية أنواع الأنكحة التي أحلها لرسوله، وبدأ بأزواجه اللاتي قد أعطاهن أجورهن: أي مهورهن، فإن المهور أجور الإبضاع، وإيتاؤها: إما تسليمها معجلة أو تسميتها في العقد. واختلف في معنى قوله: "أحللنا لك أزواجك" فقال: ابن زيد والضحاك: إن الله أحل له أن يتزوج كل امرأة يؤتيها مهرها، فتكون الآية مبيحة لجميع النساء ما عدا ذوات المحارم. وقال الجمهور: المراد أحللنا لك أزواجك الكائنات عندك لأنهن قد اخترنك على الدنيا وزينتها، وهذا هو الظاهر، لأن قوله أحللنا وأتيت ماضيان، وتقييد الإحلال بإيتاء الأجور ليس لتوقف الحل عليه، لأنه يصح العقد بلا تسمية، ويجب مهر المثل مع الوطء والمتعة مع عدمه، فكأنه لقصد الإرشاد إلى ما هو أفضل "وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك" أي السراري اللاتي دخلن في ملكه بالغنيمة. ومعنى "مما أفاء الله عليك" مما رده الله عليك من الكفار بالغنيمة لنسائهم المأخوذات على وجه القهر والغلبة، وليس المراد بهذا القيد أخراج ما ملكه بغير الغنيمة، فإنها تحل له السرية المشتراة والموهوبة ونحوهما، ولكنه إشارة إلى ما هو أفضل كالقيد الأول المصرح بإيتاء الأجور، وهكذا قيد المهاجرة في قوله: " وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك " فإنه للإشارة إلى ما هو أفضل، وللإيذان بشرف الهجرة وشرف من هاجر والمراد بالمعية هنا الاشتراك في الهجرة لا في الصحبة فيها. وقيل إن هذا القيد: أعني المهاجرة معتبر وأنها لا تحل له من لم تهاجر من هؤلاء كما في قوله: "والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا" ويؤيد هذا حديث أم هانيء، وسيأتي آخر البحث هذا إن شاء الله تعالى ووجه إفراد العم والخال وجمع العمة والخالة ما ذكره القرطبي أن العم والخال في الإطلاق اسم جنس الشاعر والراجز، وليس كذلك العمة والخالة. قال: وهذا عرف لغوي، فجاء الكلام عليه بغاية البيان. وحكاه عن ابن العربي. وقال ابن كثير: إنه وحد لفظ الذكر لشرفه، وجمع الأنثى كقوله: "عن اليمين والشمائل" وقوله: "يخرجهم من الظلمات إلى النور" و "جعل الظلمات والنور" وله نظائر كثيرة انتهى. وقال النيسابوري. وإنما لم يجمع العم والخال اكتفاءً بجنسيتهما مع أن لجمع البنات دلالة على ذلك لامتناع أختين تحت واحد، ولم يحسن هذا الاختصار في العمة والخالة لإمكان سبق الوهم إلى أن التاء فيهما للوحدة انتهى. وكل وجه من هذه الوجوه يحتمل المناقشة بالنقض والمعارضة، وأحسنها تعليل جمع العمة والخالة بسبق الوهم إلى أن التاء للوحدة، وليس في العم والخال ما يسبق الوهم إليه بأنه أريد به الوحدة إلا مجرد سيغة الإفراد وهي لا تقتضي ذلك بعد إضافتها لما تقرر من عموم أسماء الأجناس المضافة، على أن هذا الوجه الأحسن لا يصفو عن شوب المناقشة "وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي" هو معطوف على مفعول أحللنا: أي وأحللنا لك امرأة مصدقة بالتوحيد إن وهبت نفسها منك بغير صداق. وأما من لم تكن مؤمنة فلا تحل لك بمجرد هبتها ولهذا قال: "إن أراد النبي أن يستنكحها" أي يصيرها منكوحة له ويتملك بضعها بتلك الهبة بلا مهر. وقد قيل إنه لم ينكح النبي صلى الله عليه وسلم من الواهبات أنفسهن أحداً ولم يكن عنده منهن شيء. وقيل كان عنده منهن خولة بنت حكيم كما في صحيح البخاري عن عائشة. وقال قتادة: هي ميمونة بنت الحارث. وقال الشعبي: هي زينب بنت خزيمة الأنصارية أم المساكين. وقال علي بن الحسين والضحاك ومقاتل: هي أم شريك بنت جابر الأسدية. وقال عروة بن الزبير: هي أم حكيم بنت الأوقص السلمية. ثم بين سبحانه أن هذا النوع من النكاح خاص برسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحل لغيره من أمته فقال: "خالصة لك من دون المؤمنين" أي هذا الإحلال الخالص هو خاص بك دون غيرك من المؤمنين. ولفظ خالصة إما حال من امرأة، قاله الزجاج. أو مصدر مؤكد كوعد الله. أي خالص لك خلوصاً. قرأ الجمهور "وامرأة" بالنصب. وقرأ أبو حيوة بالرفع على الابتداء. وقرأ الجمهور "إن وهبت" بكسر إن. وقرأ أبي والحسن وعيسى بن عمر بفتحها على الابتداء. وقرأ الجمهور "خالصة" بالنصب، وقرئ بالرفع على أنها صفة لامرأة على قراءة من قرأ امرأة بالرفع، وقد أجمع العلماء على أن هذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأنه لا يجوز لغيره ولا نيعقد النكاح بهبة المرأة نفسها إلا ما روي عن أبي حنيفة في أن ذلك خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال: "قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم" أي ما فرضه الله سبحانه على المؤمنين في حق أزواجهم من شرائط العقد وحقوقه، فإن ذلك حق عليهم مفروض لا يحل لهم الإخلال به، ولا الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم فيما خصه الله به توسعة عليه وتكريماً له، فلا يتزوجوا إلا أربعاً بمهر وبينة وولي "وما ملكت أيمانكم" أي وعلمنا ما فرضنا عليهم فيما ملكت أيمانهم من كونهن مما يجوز سبيه وحريه، لا من كان لا يجوز سبيه أو كان له عهد من المسلمين "لكيلا يكون عليك حرج". قال المفسرون: هذا يرجع إلى أول الآية: أي أحللنا لك أزواجك وما ملكت يمينك والموهوبة لكيلا يكون عليك حرج، فتكون اللام متعلقة بأحللنا، وقيل هي متعلقة بخالصة، والأول أولى والحرج الضيق: أي وسعنا عليك في التحليل لك لئلا يضيق صدرك، فتظن أنك قد أثمت في بعض المنكوحات " وكان الله غفورا رحيما " يغفر الذنوب ويرحم العباد، ولذلك وسع الأمر ولم يضيقه.

تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آَتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُ

51- "ترجي من تشاء منهن" قرئ " ترجي " مهموزاً وغير مهموز، وهما لغتان، والإرجاء التأخير، يقال: أرجأت الأمر وأرجيته: إذا أخرته "وتؤوي إليك من تشاء" أي تضم إليك، يقال آواه إليه بالمد: ضمه إليه، وأوى مقصوراً: أي ضم إليه، والمعنى: أن الله وسع على رسوله وجعل الخيار إليه في نسائه، فيؤخر من شاء منهن ويؤخر نوبتها ويتركها ولا يأتيها من غير طلاق، ويضم إليه من شاء منهن ويضاجعها ويبيت عندها، وقد كان القسم واجباً عليه حتى نزلت هذه الآية، فارتفع الوجوب وصار الخيار إليه، وكان ممن أوى إليه عائشة وحفصة وأم سلمة وزينب، وممن أرجأه سودة وجويرية وأم حبيبة وميمونة وصفية، فكان صلى الله عليه وسلم يسوي بين من آواه في القسم، وكان يقسم لمن أرجأه ما شاء. هذا قول جمهور المفسرين في معنى الآية، وهو الذي دلت عليه الأدلة الثابتة في الصحيح وغيره. وقيل هذه الآية في الواهبات أنفسهن، لا في غيرهن من الزوجات. قاله الشعبي وغيره. وقيل معنى الآية في الطلاق: أي تطلق من تشاء منهن وتمسك من تشاء. وقال الحسن: أن المعنى: تنكح من شئت من نساء أمتك وتترك نكاح من شئت منهن. وقد قيل إن هذه الآية ناسخة لقوله: "لا يحل لك النساء من بعد" وسيأتي بيان ذلك "ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك" الابتغاء الطلب، والعزل الإزالة، والمعنى: أنه إن أراد أن يؤوي إلأيه امرأة ممن قد عزلهن من القسمة ويضمها إليه فلا حرج عليه في ذلك. والحاصل أن الله سبحانه فوض الأمر إلى رسوله يصنع في زوجاته ما شاء من تقديم وتأخير، وعزل وإمساك، وضم من أرجأ، وإرجاء من ضم إليه، وما شاء في أمرهن فعل توسعة عليه ونفياً للحرج عنه. وأصله الجناح الميل، يقال جنحت السفينة: إذا مالت. والمعنى: لا ميل عليك بلوم ولا عتب فيما فعلت، والإشارة بقوله: "ذلك" إلى ما تقدم من التفويض إلى مشيئته، وهو مبتدأ وخبره "أن تقر أعينهن" أي ذلك التفويض الذي فوضناك أقرب إلى رضاهن لأنه حكم الله سبحانه. قال قتادة: أي ذلك التخيير الذي خيرناك في صحبتهن أدنى إلى رضاهن إذ كان من عندنا، لأنهن إذا علمن أنه من الله قرت أعينهن. قرأ الجمهور تقر على البناء للفاعل مسندأ إلى أعينهن، وقرأ ابن محيصن تقر بضم التاء من أقرر وفاعله ضمير المخاطب ونصب أعينهن على المفعولية، وقرئ على البناء للمفعول. وقد تقدم بيان معنى قرة العين في سورة مريم، "و" معنى "لا يحزن" لا يحصل معهن حزن بتأثيرك بعضهن دون بعض "ويرضين بما آتيتهن كلهن" أي يرضين جميعاً بما أعطيتهن من تقريب وإرجاء وعزل وإيواء. قرأ الجمهور "كلهن" بالرفع تأكيداً لفاعل يرضين. وقرأ أبو إياس بالنصب تأكيداً لضمير المفعول في آتيتهن "والله يعلم ما في قلوبكم" من كل ما تضمرونه، ومن ذلك ما تضمرونه من أمور النساء "وكان الله عليماً" بكل شيء لا تخفى عليه خافية "حليماً" لا يعاجل العصاة بالعقوبة.

لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا

52- "لا يحل لك النساء من بعد" قرأ الجمهور "لا يحل" بالتحتية للفصل بين الفعل وفاعله المؤنث، وقرأ ابن كثير بالفوقية. وقد اختلف أهل العلم في تفسير هذه الآية على أقوال: الأول أنها محكمة، وأنه حرم على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوج على نسائه مكافأة لهن بما فعلن من اختيار الله ورسوله والدار الآخرة لما خيرهن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر الله له بذلك، وهذا قول ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة والحسن وابن سيرين وأبي بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وابن زيد وابن جرير. وقال أبو أمامة بن سهل بن حنيف: لما حرم الله عليهن أن يتزوجن من بعده حرم عليه أن يتزوج غيرهن. وقال أبي بن كعب وعكرمة وأبو رزين: إن المعنى: لا يحل لك النساء من بعد الأصناف التي سماها الله. قال القرطبي: وهو اختيار ابن جرير. وقيل لا يحل لك اليهوديات ولا النصرانيات لأنهن لا يصح أن يتصفن بأنهن أمهات المؤمنين. وهذا القول فيه بعد لأنه يكون التقدير: لا يحل لك النساء من بعد المسلمات. ولم يجز للمسلمات ذكر. وقيل هذه الآية منسوخة بالسنة وبقوله سبحانه: "ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء" وبهذا قالت عائشة وأم سلمة وعلي بن أبي طالب وعلي بن الحسين وغيرهم، وهذا هو الراجح، وسيأتي في آخر البحث ما يدل عليه من الأدلة "ولا أن تبدل بهن من أزواج" أي تتبدل فحذفت إحدى التاءين: أي ليس لك أن تطلق واحدة منهن أو أكثر وتتزوج بدل من طلقت منهن، و من في قوله: "من أزواج" مزيدة للتأكيد. وقال ابن زيد: هذا شيء كانت العرب تفعله يقول: خذ زوجتي وأعطني زوجتك، وقد أنكر النحاس وابن جرير ما ذكره ابن زيد. قال ابن جرير: ما فعلت العرب هذا قط. ويدفع هذا الإنكار منهما ما أخرجه الدارقطني عن أبي هريرة قال: كان البدل في الجاهلية أن يقول الرجل للرجل: تنزل لي عن امرأتك وأنزل لك عن امرأتي، فأنزل الله عز وجل "ولا أن تبدل بهن". وأخرجه أيضاً عنه البزار وابن مردويه، وجملة "ولو أعجبك حسنهن" في محل نصب على الحال من فاعل تبدل، والمعنى: أنه لا يحل التبدل بأزواجك ولو أعجبك حسن غيرهن ممن أردت أن تجعلها بدلاً من إحداهن، وهذا التبدل أيضاً من جملة ما نسخه الله في حق رسوله على القول الراجح، وقوله: "إلا ما ملكت يمينك" استثناء من النساء لأنه يتناول الحرائر والإماء. وقد اختلف العلماء في تحليل الأمة الكافرة. القول الأول: أنها تحل للنبي صلى الله عليه وسلم لعموم هذه الآية، وبه قال مجاهد وسعيد بن جبير وعطاء والحكم. القول الثاني: أنها لا تحل له تنزيهاً لقدره عن مباشرة الكافرة. ويترجح القول الأول بعموم هذه الآية، وتعليل المنع بالتنزه ضعيف فلا تنزه عما أحله الله سبحانه، فإن ما أحله فهو طيب لا خبيث باعتبار ما يتعلق بأمور النكاح، لا باعتبار غير ذلك، فالمشركون نجس بنص القرآن. ويمكن ترجيح القول الثاني بقوله سبحانه: "ولا تمسكوا بعصم الكوافر" فإنه نهي عام "وكان الله على كل شيء رقيباً" أي أمراقباً حافظاً مهيمناً لا يخفى عليه شيء ولا يفوته شيء. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "إذا نكحتم المؤمنات" قال: هذا في الرجل يتزوج المرأة، ثم يطلقها من قبل أن يمسها، فإذا طلقها واحدة بانت منه ولا عدة عليها تتزوج من شاءت، ثم قال: "فمتعوهن وسرحوهن سراحاً جميلاً" يقول: إن كان سمى لها صداقاً فليس لها إلا النصف، وإن لم يكن سمى لها صداقاً متعها على قدر عسره ويسره، وهو السراح الجميل. وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر قال: "إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن" منسوخة نسختها التي في البقرة "فنصف ما فرضتم". وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن سعيد بن المسيب نحوه. وأخرج عبد الرزاق عن ابن جريج قال: بلغ ابن عباس أن ابن مسعود يقول: إن طلق ما لم ينكح فهو جائز، فقال ابن عباس أخطأ في هذا، إن الله يقول: "إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن" ولم يقل: إذا طلقتم المؤمنات ثم نكحتموهن. وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن عباس أنه تلا هذه الآية وقال: لا يكون طلاق حتى يكون نكاح. وقد وردت أحاديث منها أنه لا طلاق إلا بعد نكاح وهي معروفة. وأخرج ابن سعد وابن راهويه وعبد بن حميد والترمذي وحسنه وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي عن أم هانئ بنت أبي طالب. قالت: خطبني رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتذرت إليه فعذرني. فأنزل الله "يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك" إلى قوله: "هاجرن معك" قالت: فلم أكن أحل له لأني لم أهاجر معه، كنت من الطلقاء. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه من وجه آخر عنها قالت: نزلت في هذه الآية " وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك " أراد النبي أن يتزوجني فنهي عني إذ لم أهاجر. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "إنا أحللنا لك أزواجك" إلى قوله: "خالصة لك" قال فحرم الله عليه سوى ذلك من النساء، وكان قبل ذلك ينكح في أي النساء شاء لم يحرم ذلك عليه، وكان نساؤه يجدن من ذلك وجداً شديداً أن ينكح في أي النساء أحب، فلما أنزل إني حرمت عليك من النساء سوى ما قصصت عليك أعجب ذلك نساءه. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في السنن من عائشة قالت: التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم خولة بنت حكيم. وأخرج عبد الرزاق وابن سعد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد والبخاري وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي وابن مردويه عن عروة: أن خولة بنت حكيم كانت من اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم عن محمد بن كعب وعمر بن الحكم وعبد الله بن عبيدة قالوا: تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة امرأة: ست من قريش: وامرأتين من بني هلال بن عامر: ميمونة بنت الحارث، وهي التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم، وزينب أم المساكين، والعامرية وهي التي اختارت الدنيا، وامرأة من بني الجون وهي التي استعاذت منه، وزينب بنت جحش الأسدية، والسبيتين: صفية بنت حيي، وجويرية بنت الحارث الخزاعية. وأخرج البخاري وابن مردويه عن أنس قال: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا نبي الله هل لك في حاجة؟ فقالت ابنة أنس: ما كان أقل حياءها، فقال. هي خير منك رغبت في النبي صلى الله عليه وسلم فعرضت نفسها عليه. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن سهل بن سعد الساعدي أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوهبت نفسها له فصمتن الحديث بطوله. وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر في قوله: "قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم" قال: فرض الله عليهم أنه لا نكاح إلا بولي وشاهدين. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس مثله وزاد ومهر. وأخرج ابن أبي شيبة عن علي قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن توطأ الحامل حتى تضع، والحائل حتى تستبرأ بحيضة. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس "ترجي من تشاء منهن" قال: تؤخر. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عنه في قول: "ترجي من تشاء منهن" يقول: من شئت خليت سبيله منهن، ومن أحببت أمسكت منهن. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة قالت: كنت أغار من اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأقول تهب المرأة نفسها، فلما أنزل الله "ترجي من تشاء منهن" الآية قلت: ما أرى ربك إلا يسارع في هواك. وأخرج ابن سعد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي رزين قال: هم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطلق من نسائهن فلما رأين ذلك أتينه فقلن: لا يخل سبيلنا وأنت في حل فيما بيننا وبينك، افرض لنا من نفسك ومالك ما شئت، فأنزل الله "ترجي من تشاء منهن" يقول: تعزل من تشاء فأرجأ منهن نسوى وآوى نسوة. وكان ممن أرجى ميمونة وجويرية وأم حبيبة وصفية وسودة، وكان يقسم بينهن من نفسه وماله ما شاء، وكان ممن آوى عائشة وحفصة وأم سلمة وزينب، فكانت قسمته من نفسه وماله بينهن سواء. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستأذن في يوم المرأة منا بعد أن أنزلت هذه الآية "ترجي من تشاء منهن" فقلت لها: ما كنت تقولين؟ قالت: كنت أقول: إن كان ذلك إلي فإني لا أريد أن أؤثر عليك أحداً. وأخرج الروياني والدارمي وابن سعد وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والضياء في المختارة عن زياد رجل من الأنصار قال: قلت لأبي بن كعب: أرأيت لو أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم متن أما كان يحل له أن يتزوج؟ قال: وما يمنعه من ذلك؟ قلت: قوله: "لا يحل لك النساء من بعد" قال: إنما أحل له ضرباً من النساء ووصف له صحته فقال: "يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك" إلى قوله: "وامرأة مؤمنة" ثم قال: لا يحل لك النساء من بعد هذه الصفة. وأخرج عبد بن حميد والترمذي وحسنه وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال: نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصناف النساء إلا ما كان من المؤمنات المهاجرات قال: "لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينك" فأحل له الفتيات المؤمنات" وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي" وحرم كل ذات دين غير الإسلام، وقال: "يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك" إلى قوله: "خالصة لك من دون المؤمنين" وحرم ما سوى ذلك من أصناف النساء. وأخرج ابن مردويه عنه قال نيه النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوج بعد نسائه الأول شيئاً. وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً في الآية قال: حبسه الله عليهن كما حبسهن عليه. وأخرج أبو داود في ناسخه وابن مردويه والبيهقي في سننه عن أنس قال: لما خيرهن فاخترن الله ورسوله قصره عليهن فقال: "لا يحل لك النساء من بعد". وأخرج ابن سعد وابن أبي حاتم عن أم سلمة قالت: لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل الله له أن يتزوج من النسا ما شاء إلا ذات محرم، وذلك قول الله "ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء". وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن سعد وأحمد وعبد بن حميد وأبو داود في ناسخه والترمذي وصححه والنسائي وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي من طريق عطاء عن عائشة قالت: لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل الله له أن يتزوج من النساء ما شاء إلا ذات محرم لقوله: "ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء". وأخرج ابن سعد عن ابن عباس مثله. وأخرج سعيد بن منصور وابن سعد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي رزين "لا يحل لك النساء من بعد" قال: من الشركات إلا ما سبيت فملكت يمينك. وأخرج البزار وابن مردويه عن أبي هريرة قال: كان البدل في الجاهلية أن يقول الرجل للرجل: بادلني امرأتك وأبادلك امرأتي: أي تنزل لي عن امرأتك وأنزل لك عن امرأتي، فأنزل الله "ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن" قال: "فدخل عيينة بن حصن الفزاري إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعنده عائشة، وفدخل بغير إذن، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين الاستئذان؟ قال: يا رسول الله ما استأذنت على رجل من الأنصار منذ أدركت، ثم قال: من هذه الحميراء إلى جنبك؟ فقال رسول الله: هذه عائشة أم المؤمنين، قال: أفلا أنزل لك عن أحسن خلق الله؟ قال: يا عيينة إن الله حرم ذلك، فلما أن خرج قالت عائشة: من هذا؟ قال: أحمق مطاع، وإنه على ما ترين لسيد قومه".

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَان

قوله: 53- "يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي" هذا نهي عام لكل مؤمن أن يدخل بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بإذن منه. سبب الزول ما وقع من بعض الصحابة في وليمة زينب، وسيأتي بيان ذلك آخر البحث إن شاء الله. وقوله: "إلا أن يؤذن لكم" استثناء مفرغ من أعم الأحوال: أي لا تدخلوها في حال من الأحوال إلا في حال كونكم مأذوناً لكم، وهو في موضع نصب على الحال: أي إلا مصحوبين بالإذن أو بنزع الخافض: أي إلا بأن يؤذن لكم، أو منصوب على الظرفية: أي إلا وقت أن يؤذن لكم، وقوله: "إلى طعام" متعلق بيؤذن على تضمينه معنى الدعاء: أي ادخلوا غير ناظرين، ومعنى ناظرين: منتظرين، و "إناه": نضجه وإدراكه، يقال أنى يأنى أنى: إذا حان وأدرك. قرأ الجمهور "غير ناظرين" بالنصب. وقرأ ابن أبي عبلة غير بالجر صفة لطعام، وضعف النحاة هذه القراءة لعدم بروز الضمير لكونه جارياً على غير من هو له، فكان حقه أن يقال غير ناظرين إناه أنتم ثم بين لهم سبحانه ما ينبغي في ذلك فقال: "ولكن إذا دعيتم فادخلوا" وفيه تأكيد للمنع، وبيان الوقت الذي يكون فيه الدخول، وهو عند الإذن. قال ابن الأعرابي: وتقدير الكلام: ولكن إذا دعيتم وأذن لكم فادخلوا، وإلا فنفس الدعوة لا تكون إذناً كافياً في الدخول، وقيل إن فيه دلالة بينة على أن المراد بالإذن إلى الطعام هو الدعوة إليه "فإذا طعمتم فانتشروا" أمرهم سبحانه بالانتشار بعد الطعام، وهو التفرق، والمراد الإلزام بالخروج من المنزل الذي وقعت الدعوة إليه عند انقضاء المقصود من الأكل "ولا مستأنسين لحديث" عطف على قوله غير ناظرين، أو على مقدر: أي ولا تدخلوا ولا تمكثوا مستأنسين. والمعنى: النيه لهم عن أن يجلسوا بعد الطعام يتحدثون مستأنسين بالحديث. قال الرازي في قوله: "إلا أن يؤذن لكم إلى طعام" إما أن يكون فيه تقديم وتأخير فيكون معناه: ولا تدخلوا إلا أن يؤذن لكم إلى طعام، فيكون الإذن مشروطاً بكونه إلى طعام، فإن لم يؤذن إلى طعام فلا يجوز الدخول، فلو أذن لواحد في الدخول لاستماع كلام لا لأكل طعام فلا يجوز، فنقول المراد هو الثاني ليعم النهي عن الدخول. وأما كونه لا يجوز إلا بإذن إلى طعام فلما هو مذكور في سبب النزول أن الخطاب مع قوم كانوا يتحينون حين الطعام ويدخلون من غير إذن، فمنعوا من الدخول في وقتهم بغير إذن. وقال ابن عادل: الأولى أن يقال المراد هو الثاني، لأن التقديم والتأخير خلاف الأصل، وقوله: "إلى طعام" من باب التخصيص بالذكر، فلا يدل على نفي ما عداه، لا سيما إذا علم مثله، فإن من جاز دخوله بإذنه إلى غير الطعام انتهى. والأولى في التعبير عن هذا المعنى الذي أراده أن يقال: قد دلت الأدلة على جواز دخول بيوته صلى الله عليه وسلم بإذنه لغير الطعام، وذلك معلوم لا شك فيه، فقد كان الصحابة وغيرهم يستأذنون عليه لغير الطعام فيأذن لهم، وذلك معلوم لا شك فيه، فقد كان الصحابة وغيرهم يستأذنون عليه لغير الطعام فيأذن لهم، وذلك يوجب قصر هذه الآية على السبب الذن نزلت فيه، وهو القوم الذين كانوا يتحينون طعام النبي صلى الله عليه وسلم فيدخلون ويقعدون منتظرين لإدراكه وأمثالهم، فلا تدل على المنع من الدخول مع الإذن لغير ذلك، وإلا لما جاز لأحد أن يدخل بيوته بإذنه لغير الطعام، واللازم باطل فالملزوم مثله. قال ابن عطية: وكانت سيرة القوم إذا كان لهم طعام وليمة أو نحوه أن يبكر من شاء إلى الدعوة ينتظرون طبخ الطعام ونضجه، وكذلك إذا فرغوا منه جلسوا كذلك، فنهى الله المؤمنين عن ذلك في بيت النبي صلى الله عليه وسلم، ودخل في النيه سائر المؤمنين، والتزم الناس أدب الله لهم في ذلك، فمنعهم من الدخول إلا بإذن عند الأكل لا قبله لانتظار نضج الطعام، والإشارة بقوله: "إن ذلكم" إلى الانتظار والاستئناس للحديث، وأشير إليهما بما يشار به إلى الواحد بتأويلهما بالمذكور كما في قوله: "عوان بين ذلك" أي إن ذلك المذكور من الأمرين"كان يؤذي النبي" لأنهم كانوا يضيقون المنزل عليه وعلى أهله ويتحدثون بما لا يريده. قال الزجاج: كان النبي صلى الله عليه وسلم يحتمل إطالتهم كرماً منه فيصبر على الأذى في ذلك، فعلم الله من يحضره الأدب، صار أدباً لهم ولمن بعدهم "فيستحيي منكم" أي يستحيي أن يقول لكم قوموا أو اخرجوا "والله لا يستحيي من الحق" أي لا يترك أن يبين لكم ما هو الحق ولا يمتنع من بيانه وإظهاره والتعبير عنه بعدم الاستحياء للمشاكلة. وقرأ الجمهور يستحيي بياءين، وروي عن ابن كثير أنه قرأ بياء واحدة، وهي لغة تميم يقولون استحى يستحي مثل استقى يستقي، ثم ذكر سبحانه أجباً آخر متعلقاً بنساء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "وإذا سألتموهن متاعاً" أي شيئاً يتمتع به، من الماعون وغيره "فاسألوهن من وراء حجاب" أي من وراء ستل بينكم وبينهن. والمتاع يطلق على كل ما يتمتع به، فلا وجه لما قيل من أن المراد به العارية أو الفتوى أو المصحف، والإشارة بقوله: "ذلكم" إلى سؤال المتاع من وراء حجاب، وقيل الإشارة إلى جميع ما ذكر من عدم الدخول بغير إذن، وعدم الاستئناس للحديث عند الدخول وسؤال المتاع، والأول أولى، واسم الإشارة مبتدأ وخبره "أطهر لقلوبكم وقلوبهن" أي أكثر تطهيراً لها من الريبة، وخواطر السوء التي تعرض للرجال في أمر النساء، واللنساء في أمر الرجال. وفي هذا أدب لكل مؤمن وتحذير له من أن يثق بنفسه من الخلوة مع من لا تحل له والمكالمة من جون حجاب لمن تحرم عليه "وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله" أي ما صح لكم ولا استقام أن تؤذوه بشيء من الأشياء كائناً ما كان، ومن جملة ذلك دخول بيوته بغير إذن منه، واللبث فيها على غير الوجه الذي يريده، وتكليم نسائه من دون حجاب "ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبداً" أي ولا كان لكم ذلك بعد وفاته لأنهن أمهات المؤمنين، ولا يحل للأولاد نكاح الأمهات، والإشارة بقوله: "إن ذلكم" إلى نكاح أزواجه من بعده "كان عند الله عظيماً" أي ذنباً عظيماً وخطباً هائلاً شديداً. وكان سبب نزول الآية أنه قال قائل: لو قد مات محمد لتزوجنا نساءه، وسيأتي بيان ذلك.

إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا

54- "إن تبدوا شيئاً أو تخفوه فإن الله كان بكل شيء عليماً" يعلم كل شيء من الأشياء، ومن جملة ذلك ما تظهرونه في شأن أزواج رسوله، وما تكتمونه في صدوركم. وفي هذا وعيد شديد، لأن إحاطته بالمعلومات تستلزم المجازاة على خيرها وشرها.

لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آَبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْء

ثم بين سبحانه من لا يلزم الحجاب منه فقال: 55- "لا جناح عليهن في آبائهن ولا أبنائهن ولا إخوانهن ولا أبناء إخوانهن ولا أبناء أخواتهن" فهؤلاء لا يجب على نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا غيرهن من النساء الاحتجاب منهم، ولم يذكر العم والخال لأنهما يجريان مجرى الوالدين. وقال الزجاج: العم والخال ربما يصفان المرأة لولديهما، فإن المرأة تحل لابن العم وابن الخال فكره لهما الرؤية، وهذا ضعيف جداً، فإن تجويز وصف المرأة لمن تحل له ممكن من غيرهما ممن يجوز له النظر إليها، لا سيما أبناء الإخوة وأبناء الأخوات، واللازم باطل فالملزوم مثله، وهكذا يستلزم أن لا يجوز للنساء الأجنبيات أن ينظرن إليها لأنهن يصفنها، واللازم باطل فالملزوم مثله، وهكذا لا وجه لما قاله الشعبي وعكرمة من أنه يكره للمرأة أن تضع خمارها عند عمها أو خالها، والأولى أن يقال أنه سبحانه اقتصر ههنا على بعض ما ذكره من المحارم في سورة النور اكتفاء بما تقدم "ولا نسائهن" هذه الإضافة تقتضي أن يكون المراد بالنساء المؤمنات، لأن الكافرات غير مأمونات على العورات، والنساء كلهن عورة "ولا ما ملكت أيمانهن" من العبيد والإماء، وقيل الإماء خاصة، ومن لم يبلغ من العبيد، والخلاف في ذلك معروف. وقد تقدم في سورة النور ما فيه كفاية. ثم أمرهن سبحانه بالتقوى التي هي ملاك الأمر كله، "و" المعنى "اتقين" الله في كل الأمور التي من جملتها ما هو مذكور هنا "إن الله كان على كل شيء شهيداً" لم يغب عنه شيء من الأشياء كائناً ما كان، فهو مجاز للمحسن بإحسانه وللمسيء بإساءته. وقد أخرج البخاري ومسلم عن أنس قال: قال عمر بن الخطاب: يا رسول الله إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر فلو حجبتهن، فأنزل الله الحجاب. وفي لفظ أنه قال عمر: يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب، فأنزل الله آية الحجاب. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس قال لما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش دعا القوم فطعموا، ثم جلسوا يتحدثون وإذا هو كأنه يتهيأ للقيام فلم يقوموا، فلما رأى ذلك قام، فلما قام من قام وقعد ثلاثة نفر، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليدخل فإذا القوم جلوس، ثم إنهم قاموا فانطلقت فجئت فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قد انطلقوا، فجاء حتى دخل، فذهبت أدخل فألقى الحجاب بيني وبينه، فأنز الله "يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي" الآية. وأخرج ابن جرير عن عائشة أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كن يخرجن بالليل إذا تبرزن إلى المناصع، وهو صعيد أفيح، وكان عمر بن الخطاب يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم احجب نساءك، فلم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل، فخرجت سودة بنت زمعة ليلة من الليالي عشاء، وكانت امرأة طويلة، فناداها عمر بصوته الأعلى: قد عرفناك يا سودة حرصاً على أن ينزل الحجاب، فأنزل الله الحجاب، قال: "يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي" الآية. وأخرج ابن سعد عن أنس قال: نزلت الحجاب مبتنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش، وذلك سنة خمس من الهجرة، وحجب نساءه من يومئذ وأنا ابن خمس عشرة سنة. وكذا أخرج ابن سعد عن صالح بن كيسان، وقال: نزل الحجاب على نسائه في ذي القعدة سنة خمس من الهجرة، وبه قال قتادة والواقدي. وزعم أبو عبيدة وخليفة بن خياط أن ذلك كان في سنة ثلاث. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله" قال: نزلت في رجل هم أن يتزوج بعض نساء النبي صلى الله عليه وسلم بعده. قال سفيان: وذكروا أنها عائشة. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال: بلغنا أن طلحة بن عبيد الله قال: أيحدبنا محمد عن بنات عمنا. ويتزوج نساءنا من بعدنا؟ لئن حدث به حدث لنتزوج نساءه من بعده، فنزلت هذه الآية. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن عيد وابن المنذر عن قتادة قال: قال طلحة بن عبيد الله: لو قبض النبي صلى الله عليه وسلم لتزوجت عائشة. فنزلت. وأخرج ابن سعد عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال: نزلت في طلحة لأنه قال: إذا توفي النبي صلى الله عليه وسلم تزوجت عائشة. قال ابن عطية: وهذا عندي لا يصح على طلحة بن عبيد الله. قال القرطبي: قال شيخنا الإمام أبو العباس: وقد حكي هذا القول عن بعض فضلاء الصحابة وحاشاهم عن مثله، وإنما الكذب في نقله، وإنما يليق مثل هذا القول بالمنافقين الجهال. وأخرج البيهقي في السنن عن ابن عباس قال: قال رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: لو قد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجت عائشة أو أم سلمة، فأنزل الله "وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله" الآية. وأخرج ابن جرير عنه "أن رجلاً أتى بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فكلمها وهو ابن عمها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تقومن هذا المقام بعد يومك هذا، فقال: يا رسول الله إنها ابنة عمي، والله ما قلت لها منكراً ولا قالت لي، قال النبي صلى الله عليه وسلم: قد عرفت ذلك إنه ليس أحد أغير من الله، وإنه ليس أحد أغير مني، فمضى ثم قال: يمنعني من كلام ابنة عمي لأتزوجها من بعده، فأنزل الله هذه الآية، فأعتق ذلك الرج رقبة وحمل على عشرة أبعرة في سبيل الله، وحج ماشياً توبة من كلمته". وأخرج ابن مردويه "عن أسماء بنت عميس قالت: خطبني علي فبلغ ذلك فاطمة، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أسماء متزوجة علياً، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم. ما كان لها أن تؤذي الله ورسوله". وأخرج ابن سعد عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف في قوله: "إن تبدوا شيئاً أو تخفوه" قال: إن تكلموا به فتقولون تتزوج فلانة لبعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، أو تخفوا ذلك في أنفسكم فلا تنطقوا به يعلمه الله. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "لا جناح عليهن" إلى آخر الآية قال: أنزلت هذه في نساء النبي صلى الله عليه وسلم: "نساء النبي" يعني نساء المسلمات " وما ملكت أيمانهم " من المماليك والإماء ورخص لهن أن يروهن بعد ما ضرب الحجاب عليهن.

إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا

قرأ الجمهور 56- "وملائكته" بنصب الملائكة عطفاً على لفظ اسم أن. وقرأ ابن عباس "وملائكته" بالرفع عطفاً على محل اسم إن، والضمير في قوله: "يصلون" راجع إلى الله وإلى الملائكة. وفيه تشريف للملائكة عظيم حيث جعل الضمير لهم ولله سبحانه واحداً، فلا يرد الاعتراض بما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم" لما سمع قول الخطيب يقول: من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى، فقال: بئس خطيب القوم أنت. قل ومن يعص الله ورسوله"، ووجه ذلك أنه ليس لأحج أن يجمع ذكر الله سبحانه مع غيره في ضمير واحد. وهذا الحديث ثابت في الصحيح. وثبت أيضاً في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر منادياً ينادي يوم خيبر: إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية. ولأهل العلم أبحاث في الجمع بين الحديثين ليس هذا موضع ذكرها، والآية مؤيدة للجواز لجعل الضمير فيها لله ولملائكته واحداً، والتعليل بالتشريف للملائكة يقال مثله في رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحمل الذم لذلك الخطيب الجامع بينهما على أنه صلى الله عيهل وسلم فهم منه إرادة التسوية بين الله سبحانه وبين رسوله، فيختص المنع بمثل ذلك، وهذا أحسن ما قيل في الجمع. وقالت طائفة: في هذه حذف، والتقدير: إن الله يصلي وملائكته يصلون. وعلى هذا القول فلا تكون الآية مما جمع فيه بين ذكر الله وذكر غيره في ضمير واحد، ولا يرد أيضاً ما قيل إن الصلاة من الله الرحمة ومن ملائكته الدعاء فكيف يجمع بين هذهين المعنيين المختلفين في لفظ يصلون، ويقال على القول الأول أنه أريد بيصلون معنى مجازي يعم المعنيين، وذلك بأن يراد بقوله يصلون يهتمون بإظهار شرفه، أو يعظمون شأنه، أو يعتنون بأمره. وحكى البخاري عن أبي العالية أن صلاة الله سبحانه ثناؤه عليه عند ملائكته وصلاة الملائكة الدعاء. وروى الترمذي في سننه عن سفيان الثوري وغير واحد من أهل العلم أنهم قالوا: صلاة الرب الرحمة، وصلاة الملائكة الاستغفار. وحكى الواحدي عن مقاتل أنه قال: أما صلاة الرب فالمغفرة، وأما صلاة الملائكة فالاستغفار. وقال عطاء بن أبي رباح: صلاته تبارك وتعالى سبوح وقدوس سبقت رحمتي غضبي. والمقصود من هذه الآية أن الله سبحانه أخبر عباده بمنزلة نبيه عنده في الملأ الأعلى بأنه يثني عليه عند ملائكته وأن الملائكة تصلي عليه، وأمر عباده بأن يقتدوا بذلك ويصلوا عليه. وقد اختلف أهل العلم في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم هل هي واجبة أم مستحبة؟ بعد اتفاقهم على أن الصلاة عليه فرض في العمر مرة. وقد حكى هذا الإجماع القرطبي في تفسيره، فقال قوم من أهل العلم: إنها واجبة عند ذكره، وقال قوم: تجب في كل مجلس مرة. وقد وردت أحاديث مصرحة بذم من سمع ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فلم يصل عليه. واختلف العلماء في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في تشهد الصلاة المفترضة هل هي واجبة أم لا؟ فذهب الجمهور إلى أنها فيها سنة مؤكدة غير واجبة. قال ابن المنذر: يستحب أن لا يصلي أحد صلاة إلا صلى فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن ترك ذلك تارك فصلاته مجزئة في مذهب مالك وأهل المدينة وسفيان الثوري وأهل الكوفة من أصحاب الرأي وغيرهم، وهو قول الجمهور أهل العلم. قال: وشذ الشافعي فأوجب على تاركها الإعادة مع تعمد تركها دون النسيان، وهذا القول عن الشافعي لم يروه عنه إلا حرملة بن يحيى ولا يوجد عن الشافعي إلا من روايته. قال الطحاوي: لم يقل به أحد من أهل العلم غير الشافعي. وقال الخطابي، وهو من الشافعية: أنها ليست بواجبة في الصلاة. قال: وهو قول جماعة الفقهاء إلا الشافعي ولا أعلم له في ذلك قدوة انتهى. وقد قال بقول الشافعي جماعة من أهل العلم منهم الشعبي والباقر ومقاتل بن حيان، وإليه ذهب أحمد بن حنبل أخيراً، كما حكاه أبو زرعة الدمشقي، وبه قال ابن راهويه وابن المواز من المالكية. وقد جمعت في هذه المسألة رسالة مستقلة ذكرت فيها ما احتج به الموجبون لها وما أجاب به الجمهور، وأشف ما يستدل به على الوجوب الحديث الثابت بلفظ "أن الله أمرنا أن نصلي عليك، فكيف نصلي عليك في صلاتنا، فقال: قولوا..." الحديث. فإن هذا الأمر يصلح للاستدلال به على الوجوب. وأما على بطلان الصلاة بالترك ووجوب الإعادة لها فلا، لأن الواجبات لا يستلزم عدمها العدم كما يستلزم ذلك الشروط والأركان. واعلم أنه قد ورد فضل الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة لو جمعت لجاءت في مصنف مستقل ولو لم يكن منها إلا الأحاديث الثابتة في الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم: "من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً". فناهيك بهذه الفضيلة الجليلة والمكرمة النبيلة. وأما صفة الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم فقد وردت فيها صفات كثيرة بأحاديث ثابتة في الصحيحين وغيرهما، منها ما هو مقيد بصفة الصلاة عليه في الصلاة، ومنها ما هو مطلق، وهي معروفة في كتب الحديث فلا نطيل بذكرها. والذي يحصل به الامتثال لمطلق الأمر في هذه الآية هو أن يقول القائل: اللهم صل وسلم على رسولك، أو على محمد أو على النبي، أو اللهم صل على محمد وسلم. ومن أراد أن يصلي عليه ويسلم عليه بصفة من الصفات التي ورد التعليم بها والإرشاد إلأيها فذلك أكمل، وهي صفات كثيرة قد اشتملت عليها كتب السنة المطهرة، وسيأتي بعضها آخر البحث، وسيأتي الكلام في الصلاة على الآل. وكان ظاهر هذا الأمر بالصلاة والتسليم في البحث، وسيأتي الكلام في الصلاة على الآل. وكان ظاهر هذا الأمر بالصلاة والتسليم في الآية أن يقول القائل: صليت عليه وسلمت عليه، أو الصالة عليه والسلام عليه، أو عليه الصلاة والتسليم، لأن الله سبحانه أمرنا بإيقاع الصلاة عليه والتسليم منا، فالامتثال هو أن يكون ذلك على ما ذكرنا، فكيف كان الامتثال لأمر الله لنا بذلك أن نقول: اللهم صل عليه وسلم بمقابلة أمر الله لنا بأمرنا له بأن نصلي عليه ويسلم عليه. وقد أجيب عن هذا بأن هذه الصلاة والتسليم لما كانتا شعاراً عظيماً للنبي صلى الله عليه وسلم وتشريفاً كريماً وكلنا ذلك إلى الله عز وجل وأرجعناه إليه، وهذا الجواب ضعيف جداً. وأحسن ما يجاب به أن يقال: إن الصلاة والتسليم المأمور بهما في الآية هما أن نقول: اللهم صل عليه وسلم، أو نحو ذلك مما يؤدي عناه كما بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا، فاقتضى ذلك البيان في الأحاديث الكثيرة أن هذه هي الصلاة الشرعية. واعلم أن هذه الصلاة من الله على رسوله وأن كان معناها الرحمة فقد صارت شعاراً له يختص به دون غيره، فلا يجوز لنا أن نصلي على غيره من أمته كما يجوز لنا أن نقول: اللهم ارحم فلاناً أو رحم الله فلاناً، وبهذا قال جمهور العلماء مع اختلافهم هل هو محرم، أو مكروه كراهة شديدة، أو مكروه كراهة تنزيه على ثلاثة أقوال. وقد قال ابن عباس كما رواه عنه ابن أبي شيبةlلأ والبيهقي في الشعب لا تصلح الصلاة على أحد إلا على النبي صلى الله عليه وسلم ولكن يدعى للمسلمين والمسلمات بالاستغفار. وقال قوم: إن ذلك جائز لقوله تعالى: "وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم" ولقوله: "أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة" ولقوله: "هو الذي يصلي عليكم وملائكته" ولحديث عبد الله بن أبي أوفى الثابت في الصحيحين وغيرهما قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: اللهم صل عليهم، فأتاه أبي بصدقته فقال: اللهم صل على آل أبي أوفى". ويجاب عن هذا بأن هذا الشعار الثابت لرسول الله صلى الله عليه وسلم له أن يخص به من شاء، وليس لنا أن نطلقه على غيره. وأما قوله تعالى: "هو الذي يصلي عليكم وملائكته" وقوله: "أولئك عليهم صلوات من ربهم" فهذا ليس فيه إلا أن الله سبحانه يصلي على طوائف من عباده كما يصلي على من صلى على رسوله مرة واحدة عشر صلوات، وليس في ذلك أمر لنا ولا شرعه الله في حقنا، بل لم يشرع لنا إلا الصلاة والتسليم على رسوله. وكما أن لفظ الصلاة على رسول الله شعار له، فكذا لفظ السلام عليه. وقد جرت عادة جمهور هذه الأمة والسواد الأعظم من سلفها وخلفها على الترضي عن الصحابة والترحم على من بعدهم والدعاء لهم بمغفرة الله وعفوه كما أرشدنا إلى ذلك بقوله سبحانه: " والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ".

إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا

ثم لما ذكر سبحانه ما يجب لرسوله من التعظيم ذكر الوعيد الشديد للذين يؤذونه فقال: 57- "إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة" قيل والمراد بالأذى هنا هو فعل ما يكرهانه من المعاصي لاستحالة التأذي منه سبحانه. قال الواحدي: قال المفسرون هم المشركون واليهود والنصارى وصفوا الله بالولد فقالوا: عزيز ابن الله، والمسيح ابن الله، والملائكة بنات الله، وكذبوا رسول الله، وشجوا وجهه وكسروا رباعيته وقالوا: مجنون شاعر كذاب ساحر. قال القرطبي: وبهذا قال جمهور العلماء. وقال عكرمة: الأذية لله سبحانه بالتصوير والتعرض لفعل ما لا يفعله إلا الله بنحت الصور وغيرها. وقال جماعة: إن الآية على حذف مضاف، والتقديرك إن الذين يؤذون أولياء الله، وأما أذية رسوله فهي كل ما يؤذيه من الأقوال والأفعال، ومعنى اللعنة: الطرد والإبعاد من رحمته، وجعل ذلك في الدنيا والآخرة لتشملهم اللعنة فيهما بحيث لا يبقى وقت من أوقات محياهم ومماتهم إلا واللعنة واقعة عليهم ومصاحبة لهم "وأعد لهم" مع ذلك اللعن "عذاباً مهيناً" يصيرون به في الإهانة في الدار الآخرة لما يفيده معنى الإعداد من كونه في الدار الآخرة.

وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا

ثم لما فرغ من الذم لمن آذى الله ورسوله ذكر الأذية لصالحي عباده فقال: 58- "والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات" بوجه من وجوه الأذى من قول أو فعل، ومعنى "بغير ما اكتسبوا" أنه لم يكن ذلك لسبب فعلوه يوجب عليهم الأذية ويستحقونها به، فأما الأذية للمؤمن والمؤمنة بما كسبه مما يوجب عليه حداً أو تعزيراً أو نحوهما، فذلك حق أثبته الشرع وأمر أمرنا الله به وندبنا إليه، وهكذا إذا وقع من المؤمنين والمؤمنات الابتداء بشتم لمؤمن أو مؤمنة أو ضر، فإن القصاص من الفاعل ليس من الأذية المحرمة على أي وجه كان ما لم يجاوز ما شرعه الله. ثم أخبر عما لهؤلاء الذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقال: "فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً" أي ظاهراً واضحاً لا شك في كونه من البهتان والإثم، وقد تقدم بيان حقيقة البهتان وحقيقة الإثم. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس "يصلون على النبي" يبركون. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ في الظمة وابن مردويه عن ابن عباس أن بني إسرائيل قالوا لموسى: هل يصلي ربك؟ فناداه ربه: يا موسى سألوك هل يصلي ربك؟ فقل نعم أنا أصلي وملائكتي عن أنبيائي ورسلي، فأنزل الله على نبيه "إن الله وملائكته يصلون على النبي" الآية. وأخرج ابن مردويه عنه قال: إن صلاة الله على النبي هي المغفرة، إن الله لا يصلي ولكن يغفر، وأما صلاة الناس على النبي فهي الاستغفار له. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أنه قرأ صلوا عليه كما صلى الله عليه وسلموا تسليما. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن مردويه عن كعب بن عجرة قال:" لما نزلت "إن الله وملائكته يصلون على النبي" الآية، قلنا: يا رسول الله قد علمنا السلام عليك فكيف الصلاة عليك؟ قال: قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد". وأخرجه البخاري ومسلم وغيرهما من حديثه بلفظ: "قال رجل يا رسول الله: أما السلام عليك فقد علمناه فكيف الصلاة عليك قال: قل اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد". وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وأحمد والنسائي من حديث طلحة بن عبيد الله قال: "قلت يا رسول الله كيف الصلاة عليك؟ قال: قل اللهم صل على محمدوعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم و آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد". وفي الأحاديث اختلاف، ففي بعضها على إبراهيم فقط، وفي بعضها على آل إبراهيم فقط، وفي بعضها بالجمع بينهما كحديث طلحة هذا. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي حميد الساعدي "أنهم قالوا يا رسول الله كيف نصلي عليك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قولوا اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد". والأحاديث في هذا الباب كيرة جداً، وفي بعضها التقييد بالصلاة كما في حديث أبي مسعود عند ابن خزيمة والحاكم وصححه والبيهقي في سننه: أن رجلاً قال: يا رسول الله أما السلام عليك فقد عرفناه فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا؟ الحديث. وأخرج الشافعي في مسنده من حديث أبي هريرة مثله. وجميع التعليمات الواردة عنه صلى الله عليه وسلم في الصلاة عليه مشتملة على الصلاة على آله معه إلا النادر اليسير من الأحاديث، فينبغي للمصلي عليه أن يضم آله إليه في صلاته عليه، وقد قال بذلك جماعة، ونقله إمام الحرمين والغزالي قولاً عن الشافعي كما رواه عنهما ابن كثير في تفسيره، ولا حاجة إلى التمسك بقول قائل في مثل هذا مع تصريح الأحاديث الصحيحة به، ولا وجه لقول من قال إن هذه التعليمات الواردة عنه صلى الله عليه وسلم في صفة الصلاة عليه مقيدة بالصلاة في الصلاة حملاً لمطلق الأحاديث على المقيد منها بذلك القيد، لما في حديث كعب بن عجرة وغيره أن ذلك السؤال لرسول الله صلى الله عليه وسلم كان عند نزول الآية. وأخرج عبد الرزاق وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صلوا على أنبياء الله ورسله، فإن الله بعثهم كما بعثني". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "إن الذين يؤذون الله ورسوله" الآية قال: نزلت في الذين طعنوا على النبي صلى الله عليه وسلم حين اتخذ صفية بنت حيي وروي عنه أنها نزلت في الذين قذفوا عائشة.

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا

لما فرغ سبحانه من الزجر لمن يؤذي رسوله والمؤمنين والمؤمنات من عباده أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يأمر بعض من ناله الأذى ببعض ما يدفع ما يقع عليه منه فقال: 59- "يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن" من للتبعيض، والجلابيب جمع جلباب، وهو ثوب أكبر من الخمار. قال الجوهري الجلباب الملحفة، وقيل القناع، وقيل هو ثوب يستر جميع بدن المرأة، كما ثبت في الصحيح من حديث أم عطية "أنها قالت: يا رسول الله إحدانا لا يكون لها جلباب، فقال: لتلبسها أختها من جلبابها"، قال الواحدي: قال المفسرون يغطين وجوههن ورؤوسهن إلا عيناً واحدة، فيعلم أهن حرائر فلا يعرض لهن بأذى. وقال الحسن: تغطي نصف وجهها. وقال قتادة: تلويه فوق الجبين وتشده ثم تعطفه على الأنف وإن ظهرت عيناها لكنه يستر الصدر ومعظم الوجه، والإشارة بقوله: "ذلك" إلى إدناء الجلابيب، وهو مبتدأ وخبره "أدنى أن يعرفن" أي أقرب أن يعرفن فيتميزن عن الإماء ويظهر للناس أنهن حرائر "فلا يؤذين" من جهة أهل الريبة بالتعرض لهن مراقبة لهن ولأهلهن، وليس المراد بقوله: "ذلك أدنى أن يعرفن" أن تعرف الواحدة منهن من هي، بل المراد أن يعرفن أنهن حرائر لا إماء لأنهن قد لبسن لبسة تختص بالحرائر "وكان الله غفوراً" لما سلف منهن من ترك إدناء الجلابيب "رحيماً" بهن أو غفوراً لذنوب المذنبين رحيماً بهم فيدخلن في ذلك دخولاً أولياً.

لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا

ثم توعد سبحانه أهل النفاق والإرجاف فقال: 60- "لئن لم ينته المنافقون" عما هم عليه من النفاق "والذين في قلوبهم مرض" أي شك وريبة عما هم عليه من الاضطراب "والمرجفون في المدينة" عما يصدر منهم من الإرجاف بذكر الأخبار الكاذبة المتضمنة لتوهين جانب المسلمين وظهور المشركين عليهم. قال القرطبي: أهل التفسير على أن الأوصاف الثلاثة لشيء واحد، والمعنى: أن المنافقين قد جمعوا بين النفاق ومرض القلوب والإرجاف على المسلمين، فهو على هذا من باب قوله: إلى الملك القروم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم أي إلى الملك القرم بن الهمام ليث الكتيبة. وقال عكرمة وشهر بن حوشب: الذين في قلوبهم مرض هم الزناة. والإرجاف في اللغة: إشاعة الكذب والباطل، يقال أرجف بكذا: إذا أخبر به على غير حقيقة لكونه خبراً متزلزلاً غير ثابت، من الرجفة وهي الزلزلة. يقال رجفت الأرض: أي تحركت وتزلزلت ترجف رجفاً، والرجفان: الاضطراب الشديد، وسمي البحر رجافاً لاضطرابه، ومنه قول الشاعر: المطعمون اللحم كل عشية حتى تغيب الشمس في الرجاف والإرجاف واحد الأراجيف، وأرجفوا في الشيء خاضوا فيه، ومنه قول شاعر: فإنا وإن عيرتمونا بقلة وأرجف بالإسلام باغ وحاسد وقول الآخر: أبالأراجيف يابن اللوم توعدني وفي الأراجيف خلت اللؤم والخور وذلك بأن هؤلاء المرجفين كانوا يخبرون عن سرايا المسلمين بأنهم هزموا، وتارة بأنهم قتلوا، وتارة بأنهم غلبوا ونحو ذلك مما تنكسر له قلوب المسلمين من الأخبار، فتوعدهم الله سبحانه بقوله: "لنغرينك بهم" أي لنسلطنك عليهم بالقتل والتشريد بأمرنا لك بذلك. قال المبرد: قد أغراه الله بهم في قوله بعد هذه الآية.

مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا

61- "ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلاً" فهذا فيه معنى الأمر بقتلهم وأخذهم: أي هذا حكمهم إذا كانوا مقيمين على النفاق والإرجاف. قال النحاس: وهذا من أحسن ما قيل في الآية. وأقول ليس هذا بحسن ولا أحسن، فإن قوله ملعونين إلخ، إنما هو لمجرد الدعاء عليهم لا أنه أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بقتالهم ولا تسليط له عليهم، وقد قيل إنهم انتهوا بعد نزول هذه الآية عن الإرجاف فلم يغره الله بهم، وجملة " لنغرينك بهم " جواب القسم، وجملة "ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلاً" معطوفة على جملة جواب القسم: أي لا يجاورونك فيها إلا جواراً قليلاً حتى يهلكوا، وانتصاب "ملعونين" على الحال كما قال المبرد وغيره، والمعنى مطرودين "أينما" وجدوا وأدركوا "أخذوا وقتلوا" دعاء عليهم بأن يؤخذوا ويقتلوا "تقتيلاً" وقيل إن هذا هو الحكم فيهم وليس بدعاء عليهم، والأول أولى. وقيل معنى الآية: أنهم أصروا على النفاق لم يكن لهم مقام بالمدينة إلا وهم مطرودون.

سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا

62- "سنة الله في الذين خلوا من قبل" أي سن الله ذلك في الأمم الماضية، وهو لعن المنافقين وأخذهم وتقتيلهم، وكذا حكم المرجفين، وهو منتصب على المصدر. قال الزجاج: بين الله في الذين ينافقون الأنبياء ويرجفون بهم أن يقتلوا حيثما ثقفوا "ولن تجد لسنة الله تبديلاً" أي تحويلاً وتغييراً، بل هي ثابتة دائمة في أمثال هؤلاء في الخلف والسلف.

يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا

63- "يسألك الناس عن الساعة" أي عن وقت قيامها وحصولها، قيل السائلون عن الساعة هم أولئك المنافقون والمرجفون لما توعدوا بالعذاب سألوا عن الساعة استبعاداً وتكذيباً "وما يدريك" يا محمد: أي ما يعلمك ويخبرك "لعل الساعة تكون قريباً" أي في زمان قريب، وانتصاب قريباً على الظرفية، والتذكير لكون الساعة في معنى اليوم أو الوقت مع كون تأنيث الساعة ليس بحقيقي، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم لبيان أنها إذا كانت محجوبة عنه لا يعلم وقتها، وهو رسول الله، فكيف بغيره من الناس؟ وفي هذا تهديد لهم عظيم.

إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا

64- "إن الله لعن الكافرين" أي طردهم وأبعدهم من رحمته "وأعد لهم" في الآخرة مع ذكل اللعن منه لهم في الدنيا "سعيراً" أي ناراً شديدة التسعر.

خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا

65- "خالدين فيها أبداً" بلا انقطاع "لا يجدون ولياً" يواليهم ويحفظهم من عذابها "ولا نصيراً" ينصرهم ويخلصهم منها.

يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا

ويوم في قوله: 66- "يوم تقلب وجوههم في النار" ظرف لقوله لا يجدون، وقيل لخالدين، وقيل لنصيراً، وقيل لفعل مقدر، وهو أذكر. قرأ الجمهور تقلب بضم التاء وفتح اللم على البناء للمفعول. وقرأ عيسى الهمداني وابن أبي إسحاق نقلب بالنون وكسر اللام على البناء للفاعلن وهو الله سبحانه. وقرأ عيسى أيضاً بضم التاء وكسر اللام على معنى تقلب السعير وجوههم. وقرأ أبو حيوة وأبو جعفر وشيبة بفتح التاء واللام على معنى تتقلب، ومعنى هذا التقلب المذكور في الآية: هو تقلبها تارة على جهة منها، وتارة على جهة أخرى ظهراً لبطن، أو تغير ألوانهم بلفح النار فتسود تارة وتحضر أخرى، أو تبديل جلودهم بجلود أخرى، فحينئذ "يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا" والجملة مستأنفة كأنه قيل فما حالهم؟ فقيل يقولون، ويجوز أن يكون المعنى يقولون يوم تقلب وجوههم في النار يا ليتنا إلخ. تمنوا أنهم أطاعوا الله والرسول وآمنوا بما جاء به لينجوا مما هم فيه من العذاب كما نجا المؤمنون. وهذه الألف في الرسولا، والألف التي ستأتي في السبيلا هي الألف التي تقع في الفواصل ويسميها النحاة ألف الإطلاع، وقد سبق بيان هذا في أول هذه السورة.

وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا

67- "وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا" هذه الجملة معطوفة على الجملة الأولى، والمراد بالسادة والكبراء هم الرؤساء والقادة الذين كانوا يمتثلون أمرهم في الدنيا ويقتدون بهم، وفي هذا زجر عن التقليد شديد وكم في الكتاب العزيز من التنبيه على هذا والتحذير منه والتنفير عنه، ولكن لمن يفهم معنى كلام الله ويقتدي به وينصف من نفسه، لا لمن هو من جنس الأنعام، في سوء الفهم ومزيد البلادة وشدة التعصب. وقرأ الحسن وابن عامر " سادتنا " بكسر التاء جمع سادة فهو جمع الجمع. وقال مقاتل: هم المطعمون في غزوة بدر، والأول أولى، ولا وجه للتخصيص بطائفة معينة "فأضلونا السبيلا" أي عن السبيل بما زينوا لنا من الكفر بالله ورسولهن والسبيل هو التوحيد.

رَبَّنَا آَتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا

ثم دعوا عليهم في ذلك الموقف فقالوا: 68- "ربنا آتهم ضعفين من العذاب" أي مثل عذابنا مرتين. وقال قتادة: عذاب الدنيا والآخرة، وقيل عذاب الكفر وعذاب الإضلال "والعنهم لعناً كبيرا" قرأ الجمهور "كثيراً" بالمثلثة: أي لعناً كثير العدد عظيم القدر شديد الموقع، واختار هذه القراءة أبو حاتم وأبو عبيد والنحاس، وقرأ ابن مسعود وأصحابه ويحيى بن وثاب وعاصم بالباء الموحدة: أي كبيراً في نفسه شديداً عليهم ثقيل الموقع. وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة قال: " خرجت سودة بعد ما ضرب الحجاب لحاجتها، وكانت امرأة جسيمة لا تخفى على من يعرفها، فرآها عمر فقال: يا سودة أما والله ما تخفين علينا فانظري كيف تخرجين؟ قال: فانكفأت راجعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي وإنه ليتعشى وفي يده عرق، فدخلت وقالت: يا رسول الله إني خرجت لبعض حاجتي فقال لي عمر كذا وكذا، فأوحى إليه ثم رفع عنه، وإن العرق في يده ما وضعه فقال: إنه قد أذن لكن أن تخرجن لحاجتكن". وأخرج سعيد بن منصور وابن سعد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي مالك قال: كان نسا النبي صلى الله عليه وسلم يخرجن لحاجتهن، وكان ناس من المنافقين يتعرضون لهن فيؤذين، فقيل ذلك للمنافقين، فقالوا: إنما نفعله بالإماء، فنزلت هذه "يا أيها النبي قل لأزواجك" الآية. وأخرج ابن سعد عن محمد بن كعب القرظي قال: كان رجل من المنافقين يتعرض لنساء المؤمنين ويؤذيهن، فإذا قيل له قال كنت أحسبها أمة، فأمرهن الله أن يخالفن زي الإماء ويدنين عليهن من جلابيبهن تخمر وجهها إلا أحدى عينيها "ذلك أدنى أن يعرفن" يقول: ذلك أحرى أن يعرفن. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في هذه الآية قال: أمر الله نساء المؤمنات إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب ويبدين عيناً واحدة . وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وأبو داود وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أم سلمة قالت: لما نزلت هذه الآية "يدنين عليهن من جلابيبهن" خرج نساء الأنصار كأن رؤوسهن الغربان من السكينة وعليهن أكسية سود يلبسنها، هكذا في الزوائد بلفظ من السكينة، وليس لها معنى، فإن المراد تشبيه الأكسية السود بالغربان، لا أن المراد وصفهن بالسكينة كما يقال: كأن على رؤوسهم الطير. وأخرج ابن مردويه وعن عائشة قالت: رحم الله نساء الأنصار لما نزلت "يا أيها النبي قل لأزواجك" الآية شققن مروطهن، فاعجرن بها وصلين خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما على رؤوسهن الغربان. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال: كانت الحرة تلبس لباس الأمة فأمر الله نساء المؤمنين أن يدنين عليهن من جلابيبهن، وإدناء الجلباب أن تقنع وتشده على جبينها. وأخرج ابن سعد عن محمد بن كعب في قوله: "لئن لم ينته المنافقون" يعني المنافقين بأعيانهم "والذين في قلوبهم مرض" شك: يعني المنافقين أيضاً. وأخرج ابن سعد أيضاً عن عبيد بن جبير قال: "الذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة" هم المنافقون جميعاً. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "لنغرينك بهم" قال: لنسلطنك عليهم.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آَذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا

قوله: 69- "لا تكونوا كالذين آذوا موسى" هو قولهم: إن به أدرة أو برصاً أو عيباً، وسيأتي بيان ذلك آخر البحث، وفيه تأديب للمؤمنين وزجر لهم عن أن يدخلوا في شيء من الأمور التي تؤذي رسول الله قال مقاتل: وعظ الله المؤمنين أن لا يؤذوا محمداً صلى الله عليه وسلم كما آذى بنو إسرائيل موسى. وقد وقع الخلاف فيما أوذي به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم حتى نزلت هذه الآيةن فحكى النقاش أن أذيتهم محمداً قولهم زيد بن محمد. وقال أبو وائل: إنه صلى الله عليه وسلم قسم قسماً، فقال رجل من الأنصار: إن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله، وقيل نزلت في قصة زيد بن حارثة وزينب بنت جحش وما سمع فيها من قالة الناس، ومعنى "وكان عند الله وجيهاً" وكان عند الله عظيماً ذا وجاهة، والوجيه عند الله العظيم القدر الرفيع المنزلة، وقيل في تفسير الوجاهة إنه كلمه تكليماً. قرأ لاجمهور "وكان عند الله" بالنون على الظرفية المجازية، وقرأ ابن مسعود والأعمش وأبو حيوة عبد الله بالباء الموحدة من العبودية، وما في قوله: "فبرأه الله مما قالوا" هي الموصولة أو المصدرية: أي من الذي قالوه.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا

أو من قوله: 70- "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله" أي في كل أمر من الأمور "وقولوا قولاً سديداً" أي قولاً صواباً وحقاً. قال قتادة ومقاتل: يعني قولوا قولاً سديداً في شأن زيد وزينب، ولا تنسبوا النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما لا يحل. وقال عكرمة: إن القول السديد لا إله إلا الله. وقيل هو الذي يوافق ظاهره باطنه، وقيل هو ما أريد به وجه الله دون غيره، وقيل هو الإصلاح بين الناس. والسديد مأخوذ من تسديد السهم ليصاب به الغرض، والظاهر من الآية أنه أمرهم بأن يقولوا قولاً سديداً في جميع ما يأتونه ويذرونه فال يخص ذلك نوعاً دون نوع، وإن لم يكن في اللفظ ما يقتضي العموم فالمقام يفيد هذا المعنى، لأنه أرشد سبحانه عباده إلى أن يقولوا قولاً يخالرف قول أهل الأذى.

يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا

ثم ذكر ما لهؤلاء الذين امتثلوا الأمر بالتقوى والقول السديد من الأجر فقال: 71- "يصلح لكم أعمالكم" أي يجعلها صالحة لا فاسدة بما يهديهم إليه ويفقهم فيه "ويغفر لكم ذنوبكم" أي يجعلها مكفرة مغفورة "ومن يطع الله ورسوله" في فعل ما هو طاعة واجتناب ما هو معصية "فقد فاز فوزاً عظيماً" أي ظفر بالخير ظفراً عظيماً، ونال خير الدنيا والآخرة، وهذه الجملة مستأنفة مقررة لما سبقها.

إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا

ثم لما فرغ سبحانه من بيان ما لأهل الطاعة من الخير بعد بيان ما لأهل المعصية من العذاب بين عظم شأن التكاليف الشرعية وصعوبة أمرها فقال: 72- "إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها". واختلف في تفسير هذه الأمانة المذكورة هنا، فقال الواحدي: معنى الأمانة ههنا في قوله جميع المفسرين الطاعة والفرائض التي يتعلق بأدائها الثواب وبتضييعها العقاب. قال القرطبي: والأمانة تعم الجميع وصائف الدين على الصحيح من الأقوال، وهو قول الجمهور. وقد اختلف في تفاصيل بعضها، فقال ابن مسعود: هي في أمانة الأموال كالودائع وغيرها، وروي عنه أنها في كل الفرائض، وأشدها أمانة المال. وقال أبي بن كعب: من الأمانة أن ائتمنت المرأة على فرجها. وقال أبو الدرداء: غسر الجنابة أمانة، وإن الله لم يأمن ابن آدم على شيء من دينه غيرها. وقال ابن عمر: أول ما خلق الله من الإنسان فرجه وقال: هذه أمانة استودعكها فلا تلبسها إلا بحق، فإن حفظتها حفظتك. فالفرج أمانة والأذن أمانة والعين أمانة واللسان أمانة والبطن أمانة واليد أمانة والرجل أمانة، ولا إيمان لمن لا أمانة له. وقال السدي: هي ائتمان آدم ابنه قابيل على ولده هابيل وخيانته إياه في قتله. وما أبعد هذا القول، وليت شعري ما هو الذي سوغ للسدي تفسير هذه الآية بهذا، فإن كان ذلك لدليل دله على ذلكح فلا دليل، وليست هذه الآية حكاية عن الماضين من العباد حتى يكون له في ذلك متمسك أبعد من كل بعيد وأوهن من بيوت العنكبوت، وإن كان تفسير هذا عملاً بما تقتضيه اللغة العربية، فليس في لغة العرب ما يقتضي هذا ويوجب حمل هذه الأمانة المطلقة على شيء كان في أول هذا العالم، وإن كان هذا تفسيراً منه بمحض الرأين فليس الكتاب العزيز عرضه لتلاعب آراء الرجال به، ولهذا ورد الوعيد على من فسر القرآن برأيه، فاحذر أيها الطالب للحق عن قبول مثل هذه التفاسير واشدد يديك في تفسير كتاب الله على ما تقتضيه اللغة العربية، فهو قرآن عربي كما وصفه الله، فإن جاءك التفسير عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تلتفت إلى غيره، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل، وكذلك ما جاء عنه الصحابة رضي الله عنهم فإنهم من جملة العرب ومن أهل اللغة وممن جمع إلى اللغة العربية فعليك أن تضم إلى ما ذكره الصحابي ما تقتضيه لغة العرب وأسرارها، فخذ هذه كلية تنتفع بها، وقد ذكرنا في خطبة هذا التفسير ما يرشدك إلى هذا. قال الحسن: إن الأمانة عرضت على السموات والأرض والجبال فقالت: وما فيها؟ فقال لها: إن أحسنت آجرتك وإن أسأت عذبتك، فقالت لا. قال مجاهد: فلما خلق الله آدم عرضها عليه، وقيل له ذلك فقال: قد تحملتها. وروي نحو هذا عن غير حسن ومجاهد. قال النحاس: وهذا القول هو الذي عليه أهل التفسير. وقيل هذه الأمانة هي ما أودعه الله في السموات والأرض والجبال وسائر المخلوقات من الدلائل على ربوبيته أن يظهروها فأظهروها، إلا الإنسان فإنه كتمها وجحدها. كذا قال بعض المتكلمين مفسراً للقرآن برأيه الزائف، فيكون على هذا معنى عرضنا أظهرنا. قال جماعة من العلماء: ومن المعلوم أن الجماد لا يفهم ولا يجيب، فلا بد من تقدير الحياة فيها، وهذا العرض في الآية هو عرض تخيير لا عرض إلزام. وقال القفال وغيره: العرض في هذه الآية ضرب مثل: أي إن السموات والأرض والجبال على كبر أجرامها لو انت بحيث يجوز تكليفها لثقل عليها تقلد الشرائع لما فيها من الثواب والعقاب: أي أن التكليف أمر عظيم حقه أن تعجز عنه السموات والأرض والجبال، وقد كلفه الإنسان وهو ظلوم جهول لو عقل، وهذا كقوله: "لو أنزلنا هذا القرآن على جبل" وقيل إن عرضنا بمعنى عارضنا: أي عارضنا الأمانة بالسموات والأرض والجبال، فضعفت هذه الأشياء عن الأمانة ورجحت الأمانة بثقلها عليها. وقيل إن عرض الأمانة على السموات والأرض والجبال إنما كان من آدم عليه السلام، وأن الله أمره أن يعرض ذلك عليها، وهذا أيضاً تحريف لا تفسير، ومعنى "وحملها الإنسان" أي التزم بحقها، وهو في ذلك ظلوم لنفسه جهول لما يلزمه، أو جهول لقدر ما دخل فيه كما قال سعيد بن جبيرن أو جهول بربه كما قال الحسن. وقال الزجاج: معنى حملها خان فيها، وجعل الآية في الكفار والفساق والعصاة، وقيل معنى حملها: كلفها وألزمها، أو صار مستعداً لها بالفطرة، أو حملها عند عرضها عليه في عالم الذر عند خروج ذرية آدم من ظهره وأخذ الميثاق عليهم.

لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا

واللام في 73- "ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات" متعلق بحملها أي حملها الإنسان ليعذب الله العاصي ويثيب المطيع. وعلى هذا فجملة " إنه كان ظلوما جهولا " معترضة بين الجملة وغايتها للإيذان بعدم وفائه بما تحمله. قال مقاتل بن سليمان ومقاتل بن حبان: ليعذبهم بما خانوا من الأمانة وكذبوا من الرسل ونقضوا من الميثاق الذي أقروا به حين أخرجوا من ظهر آدم. وقال الحسن وقتادة: هؤلاء المعذبون هم الذين خانوها، وهؤلاء الذين يتوب الله عليهم هم الذين أدوها. وقال ابن قتيبة: أي عرضنا ذلك ليظهر نفاق المنافق وشرك المشرك فيعذبهما الله ويظهر إيمان المؤمن فيتوب الله عليه: أي يعود عليه بالمغفرة والرحمة إن حصل منه تقصير في بعض الطاعات، ولذلك ذكر بلفظ التوبة، فدل على أن المؤمن العاصي خارج من العذاب "وكان الله غفوراً رحيماً" أي كثرة المغفرة والرحمة للمؤمنين من عباده إذا قصروا في شيء مما يجب عليهم. وقد قيل إن المراد بالأمانة العقل، والراجح ما قدمنا عن الجمهور، وما عداه فلا يخلو عن ضعف لعدم وروده على المعنى العربي ولا انطباقه على ما يقتضيه الشرع ولا موافقته لما يقتضيه تعريف الأمانة. وقد أخرج البخاري وغيره من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن موسى كان رجلاً حيياً ستيراً لا يرى من جلده شيء استحياءً منه، فأذاه من أذاه من بني إسرائيل، فقالوا ما تستر هذا الستر إلا من عيب بجلده، إما برص، وإما أدرة، وإما آفة، وإن الله عز وجل أراد أن يبرئ موسى مما قالوا، فخلا يوماً وحده فخلع ثيابه على الحجر ثم اغتسل، فلما فرغ أقبل على ثيابه ليأخذها وإن الحجر عدا بثوبه، فأخذ موسى عصاه فطلب الحجر فجعل يقول: ثوبي حجر ثوبي حجر، حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل فرأوه عرياناً أحسن ما خلق الله وأبرأه مما يقولون، وقام الحجر فأخذ ثوبه فلبسه وطفق بالحجر ضرباً بعصاه، فوالله إن بالحجر لندباً من أثر ضربه ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً". وأخرج نحوه البزار وابن الأنباري وابن مردويه من حديث أنس. وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "لا تكونوا كالذين آذوا موسى" قال: ثقال له قومه إنه آدر، فخرج ذات يوم ليغتسل فوضع ثيابه على حجر فخرجت الصخرة تشتد بثيابه، فخرج موسى يتبعها عرياناً حتى انتهت به إلى مجالس بني إسرائيل فرأوه وليس بآدر فذلك قوله: "فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيهاً". وأخرج الحاكم وصححه من طريق السدي عن أبي مالك عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وناس من الصحابة: أن الله أوحى إلى موسى إني متوف هارون فأت به جبل كذا وكذا، فانطلقا نحو الجبل فإذا هم بشجرة وبيت فيه سرير عليه فرش وريح طيب، فلما نظر هارون إلى ذلك الجبل والبيت وما فيه أعجبه قال: يا موسى إني أحب أن أنام على هذا السرير، قال نم عليه، قال نم معي، فلما ناما أخذ هارون الموت، فلما قبض رفع ذلك البيت وذهبت الشجرة ورفع السرير إلى السماء، فلما رجع موسى إلى بني إسرائيل قالوا قتل هارون وحسده حب بني إسرائيل له، وكان هارون أءلف بهم وألين، وكان في موسى بعض الغلظة عليهم، فلما بلغه ذلك قال: ويحكم إنه كان أخي أفتروني أقتله؟ فلما أكثروا عليه قام فصلى ركعتين ثم دعا الله، فنزل بالسرير حتى نظروا إليه بين السماء والأرض فصدقوه. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود قال: قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم قسماً، فقال رجل: إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فاحمر وجهه ثم قال: رحمة الله على موسى لقد أوذي أكثر من هذا فصبر. وأخرج أحمد وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن أبي موسى الأشعري قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الظهر ثم قال: على مكانكم اثبتوا، ثم أتى الرجال فقال: إن الله أمرني أن آمركم أن تتقوا الله وأن تقولوا قولاً سديداً، ثم أتى النساء فقال: إن الله أمرني أن آمركن أن تتقين الله وأن تقلن قولاً سديداً. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري في كتاب الأضداد عن ابن عباس في قوله: "إنا عرضنا الأمانة" الآية قال: الأمانة الفرائض عرضها الله على السموات والأرض والجبال إن أدوها أثابهم وإن ضيعوها عذبهم، فكرهوا ذلك وأشفقوا من غير معصية، ولكن تعظيماً لدين الله أن لا يقوموا بها، ثم عرضها على آدم فقبلها بما فيها، وهو قوله: "وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً" يعني غراً بأمر الله. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري في كتبا الأضداد والحاكم وصححه عنه في الآية قال: عرضت على آدم، فقيل خذها بما فيها فإن أطعت غفرت لك وإن عصيت عذبتك، قال: قبلتها بما فيها، فما كان إلا ما بين العصر إلى الليل من ذلك يوم حتى أصاب الذنب. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عنه أيضاً من طريق أخرى نحوه.


1-الفاتحة 2-البقرة 3-آل-عمران 4-النساء 5-المائدة 6-الأنعام 7-الأعراف 8-الأنفال 9-التوبة 10-يونس 11-هود 12-يوسف 13-الرعد 14-إبراهيم 15-الحجر 16-النحل 17-الإسراء 18-الكهف 19-مريم 20-طه 21-الأنبياء 22-الحج 23-المؤمنون 24-النور 25-الفرقان 26-الشعراء 27-النمل 28-القصص 29-العنكبوت 30-الروم 31-لقمان 32-السجدة 33-الأحزاب 34-سبأ 35-فاطر 36-يس 37-الصافات 38-ص 39-الزمر 40-غافر 41-فصلت 42-الشورى 43-الزخرف 44-الدخان 45-الجاثية 46-الأحقاف 47-محمد 48-الفتح 49-الحجرات 50-ق 51-الذاريات 52-الطور 53-النجم 54-القمر 55-الرحمن 56-الواقعة 57-الحديد 58-المجادلة 59-الحشر 60-الممتحنة 61-الصف 62-الجمعة 63-المنافقون 64-التغابن 65-الطلاق 66-التحريم 67-الملك 68-القلم 69-الحاقة 70-المعارج 71-نوح 72-الجن 73-المزمل 74-المدثر 75-القيامة 76-الإنسان 77-المرسلات 78-النبأ 79-النازعات 80-عبس 81-التكوير 82-الانفطار 83-المطففين 84-الانشقاق 85-البروج 86-الطارق 87-الأعلى 88-الغاشية 89-الفجر 90-البلد 91-الشمس 92-الليل 93-الضحى 94-الشرح 95-التين 96-العلق 97-القدر 98-البينة 99-الزلزلة 100-العاديات 101-القارعة 102-التكاثر 103-العصر 104-الهمزة 105-الفيل 106-قريش 107-الماعون 108-الكوثر 109-الكافرون 110-النصر 111-المسد 112-الإخلاص 113-الفلق 114-الناس