islamkingdomfaceBook islamkingdomtwitter islamkingdominstagram islamkingdomyoutube islamkingdomnew

فتح القدير
16123

35-فاطر

الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ

هي خمس وأربعون آية وهي مكية. قال القرطبي: في قول الجميع. وأخرج البخاري وابن الضريس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: أنزلت سورة فاطر بمكة. الفطر: الشق عن الشيء، يقال فطرته فانفطر، ومنه فطر ناب البعير إذا طلع فهو بعير فاطر، وتفطر الشيء تشقق، والفطر الابتداء والاختراع، وهو المراد هنا، والمعنى 1- "الحمد لله" مبدع "السموات والأرض" ومخترعهما، والمقصود من هذا أن من قدر على ابتداء هذا الخلق العظيم فهو قادر عل الإعادة. قرأ الجمهور فاطر على صيغة اسم الفاعل، وقرأ الزهري والضحاك فطر على صيغة الفعل الماضي، فعلى القراءة الأولى هو نعت لله لأن إضافته مخضة لكونه بمعنى الماضي، وإن كانت غير محضة كان بدلاً، ومثله "جاعل الملائكة رسلاً" يجوز فيه الوجهان، وانتصاب رسلاً بفعل مضمر على الوجه الأول، لأن اسم الفاعل إذا كان بمعنى الماضي لا يعمل، وجوز الكسائي عمله. وأما على الوجه الثاني فهو منصوب بجاعل، والرسل من الملائكة هم جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل. وقرأ الحسن جاعل بالرفع، وقرأ خليل بن نشيط ويحيى بن يعمر جعل على صيغة الماضي. وقرأ الحسن وحميد رسلاًبسكون السين ، وهي لغة تميم " أولي أجنحة " صفة لرسلا ، والأجنحة جمع جناح " مثنى وثلاث ورباع " صفة لأجنحة، وقد تقدم الكلام في مثنى وثلاث ورباع في النساء. قال قتادة: بعضهم له جناحان. وبعضهم ثلاثة، وبعضهم أربعة ينزلون بها من السماء إلى الأرض ويعرجون بها من الأرض إلى السماء. قال يحيى بن سلام: يرسلهم الله إلى الأنبياء. وقال السدي: إلى العباد بنعمه أو نقمه، وجملة "يزيد في الخلق ما يشاء" مستأنفة مقررة لما قبلها من تفاوت أحوال الملائكة، والمعنى: أنه يزيد في خلق الملائكة ما يشاء، وهو قول أكثر المفسرين، واختاره الفراء والزجاج: وقيل إن هذه الزيادة في الخلق غير خاصة بالملائكة فقال الزهري وابن جريج: إنها حسن الصوت. وقال قتادة: الملاحة في العينين والحسن في الأنف والحلاوة في الفم، وقيل الوجه الحسن، وقيل الخط الحسن، وقيل الشعر الجعد، وقيل العقل والتمييز، وقيل العلوم والصنائع ولا وجه لقصر ذلك على نوع خاص بل يتناول كل زيادة، وجملة "إن الله على كل شيء قدير" تعليل لما قبلها من أنه يزيد في الخلق ما يشاء.

مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ

2- "ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها" أي ما يأتيهم الله به من مطر ورزق لا يقدر أحد أن يمسكه "وما يمسك" من ذلك لا يقدر أحد أن يرسله من بعد إمساكه، وقيل المعنى: إن الرسل بعثوا رحمة للناس فلا يقدر على إرسالهم غير الله، وقيل هو الدعاء، وقيل التوبة، وقيل التوفيق والهداية. ولا وجه لهذا التخصيص بل المعنى: كل ما يفتحه الله للناس من خزائن رحمته فيشمل كل نعمة ينعم الله بها على خلقه، وهكذا الإمساك يتناول كل شيء يمنعه الله من نعمه، فهو سبحانه المعطي المانع القابض الباسط لا معطي سواه ولا منعم غيره. ثم أمر الله سبحانه عباده أن يتذكروا نعمه الفائضة عليهم التي لا تعد ولا تحصى "وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها" ومعنى هذا الأمر لهم بالذكر هو إرشادهم إلى الشكر لاستدامتها وطلب المزيد منها.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ

3- "هل من خالق غير الله" من زائدة وخالق مبتدأ وغير الله صفة له. قال الزجاج: ورفع غير على معنى هل خالق غير الله لأن من زيادة مؤكدة، ومن خفض غير جعلها صفة على اللفظ. قرأ الجمهور برفع "غير" وقرأ حمزة والكسائي بخفضها، وقرأ الفضل بن إبراهيم بنصبها على الاستثناء، وجملة "يرزقكم من السماء والأرض" خبر المبتدأ، أو جملة مستأنفة أو صفة أخرى لخالق، وخبره محذوف، والرزق من السماء بالمطر، ومن الأرض بالنبات وغير ذلك، وجملة "لا إله إلا هو" مستأنفة لتقرر النفي المستفاد من الاستفهام "فأنى تؤفكون" من الأفك بالفتح وهو الصرف، يقال ما أفكك عن كذا: أي ما صرفك: أي فكيف تصرفون، وقيل هو مأخوذ من الإفك بالكسر، وهو الكذب لأنه مصروف عن الصدق. قال الزجاج: أي من أين يقع لكم الإفك والتكذيب بتوحيد الله والبعث وأنتم مقرون بأن الله خلقكم ورزقكم.

وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ

ثم عزى الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم فقال: 4- "وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك" ليتأسى بمن قبله من الأنبياء ويتسلى عن تكذيب كفار العرب له "وإلى الله ترجع الأمور" لا إلى غيره فيجازي كلاً بما يستحقه. قرأ الحسن والأعرج ويعقوب وابن عامر وأبو حيوة وابن محيصن وحميد والأعمش ويحيى بن وثاب وحمزة والكسائي وخلف "ترجع" بفتح الفوقية على البناء للفاعل، وقرأ الباقون بضمها على البناء للمفعول.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ

3- "يا أيها الناس إن وعد الله حق" أي وعده بالبعث والنشور والحساب والعقاب والجنة والنار، كما أشير إليه بقوله: "وإلى الله ترجع الأمور، "فلا تغرنكم الحياة الدنيابزخرفها ونعيمها* قال سعيد بن جبير غرور الحياة الدنيا أن يشتغل الإنسان بنعيمها ولذاتها عن عمل الآخرة حتى يقوليا ليتني قدمت لحياتي "ولا يغرنكم بالله الغرور" قرأ الجمهور بفتح الغين: أي المبالغ في الغرور، وهو الشيطان. قال ابن السكيت وأبو حاتم: الغرور الشيطان ويجوز أن يكون مصدراً، واستبعده الزجاج، لأن غرر به متعدى ومصدر المتعدي إنما هو على فعل نحو ضربه ضرباً، إلا في أشياء يسيرة معروفة لا يقاس عليها، ومعنى الآية: لا يغرنكم الشيطان بالله فيقول لكم: إن الله يتجاوز عنكم ويغفر لكم لفضلكم أو لسعة رحمته لكم. وقرأ أبو حيوة وأبو السماك ومحمد بن السميفع بضم الغين، وهو الباطل. قال ابن السكيت: والغرور بالضم ما يغر من متاع الدنيا. وقال الزجاج: يجوز أن يكون الغرور جمع غار، مثل قاعد وقعود، قيل ويجوز أن يكون مصدر غره كاللزوم والنهوك، وفيه ما تقدم عن الزجاج من الاستبعاد.

إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ

ثم حذر سبحانه عباده من الشيطان فقال: 4- "إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً" أي فعادوه بطاعة الله ولا تطيعوه في معاصي الله. ثم بين لعباده كيفية عداوة الشيطان لهم فقال: "إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير" أي إنما يدعو أشياعه وأتباعه والمطيعين له إلى معاصي الله سبحانه لأجل أن يكونوا من أهل النار.

الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ

ومحل الموصول في قوله: 5- "الذين كفروا لهم عذاب شديد" الرفع على الابتداء، ولهم عذاب شديد خبره، أو الرفع على البدل من فاعل يكونوا، أو النصب علىالبدل من حزبه، أو النعت له، أو إضمار فعل يدل على الذم، لأنه سبحانه بعد ذكر عداوة الشيطان ودعائه لحزبه ذكر حال الفريقين من المطيعين له والعاصين عليه فالفريق الأول قال "لهم عذاب شديد" والفريق الآخر قال فيه "والذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر كبير" أي يغفر الله لهم بسبب الإيمان والعمل الصالح، ويعطيهم أجراً كبيراً وهو الجنة.

أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ

6- "أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً" هذه الجملة مستأنفة لتقرير ما سبق من ذكر التفاوت بين الفريقين، و من في موضع رفع بالابتداء وخبره محذوف. قال الكسائي: والتقدير ذهبت نفسك عليهم حسرات. قال: ويدل عليه قوله: "فلا تذهب نفسك عليهم حسرات" قال: وهذا كلام عربي ظريف لا يعرفه إلا القليل. وقال الزجاج: تقديره كمن هداه، وقدره غيرهما كمن لم يزين له، وهذا أولى لموافقته لفظاً ومعنى، وقد وهم صاحب الكشاف، فحكى عن الزجاج ما قاله الكسائي. قال النحاس: والذي قاله الكسائي أحسن ما قيل في الآية لما ذكره من الدلالة على المحذوف، والمعنى: أن الله عز وجل نهى نبيه صلى الله عليه وسلم عن شدة الاغتنام بهم والحزن عليهم كما قال: "فلعلك باخع نفسك" وجملة "فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء" مقررة لما قبلها: أي يضل من يشاء أن يضله ويهدي من يشاء أن يهديه "فلا تذهب نفسك عليهم حسرات" قرأ الجمهور بفتح الفوقية والهاء مسنداً إلى النفس، فتكون من باب: لا أرينك ها هنا. وقرأ أبو جعفر وشيبة وابن محيصن والأشهب بضم التاء وكسر الهاء، ونصب "نفسك" وانتصاب "حسرات" على أنه علة: أي للحسرات، ويجوز أن ينتصب على الحال كأنها صارت كلها حسرات لفرط التحسر كما روي عن سيبويه. وقال المبرد: إنا تمييز. والحسرة شدة الحزن على ما فات من الأمر "إن الله عليم بما يصنعون" لا يخفى عليه من أفعالهم وأقوالهم خافية، والجملة تعليل لما قبلها مع ما تضمنته من الوعيد الشديد. وقد أخرج أبو عبيد في فضائله وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس قال: كنت لا أدري ما فاطر السموات والأرض حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما، أنا فطرتها، يقول: ابتدأتها. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أنه قال: "فاطر السموات" بديع السموات. وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً في قوله: "يزيد في الخلق ما يشاء" قال: الصوت الحسن. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: "ما يفتح الله للناس من رحمة" الآية قال: ما يفتح الله للناس من باب توبة "فلا ممسك لها" هم يتوبون إن شاءوا أو إن أبوا، وما أمسك من باب توبة "فلا مرسل له من بعده" وهم لا يتوبون. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم في الآية قال: يقول ليس لك من الأمر شيء. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله: "لهم مغفرة وأجر كبير" قال: كل شيء في القرآن لهم مغفرة وأجر كبير، ورزق كريم فهو الجنة. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة والحسن في قوله: "أفمن زين له سوء عمله" قال: الشيطان زين لهم هي والله الضلالات "فلا تذهب نفسك عليهم حسرات" أي لا تحزن عليهم.

وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ

ثم أخبر سبحانه عن نوع من أنواع بديع صنعه وعظيم قدرته، ليتفكروا في ذلك وليعتبروا به، فقال: 9- "والله الذي أرسل الرياح" قرأ الجمهور: "الرياح"، وقرأ ابن كثير وابن محيصن والأعمش ويحيى بن وثاب وحمزة والكسائي "الريح" بالإفراد "فتثير سحاباً" جاء بالمضارع بعد الماضي استحضاراً للصورة، لأن ذلك أدخل في اعتبار المعتبرين، ومعنى كونها: تثير السحاب أنها تزعجه من حيث هو "فسقناه إلى بلد ميت" قال أبو عبيدة: سبيله فتسوقه، لأنه قال: فتثير سحاباً. قيل النكتة في التعبير بالماضيين بعد المضارع: الدلالة على التحقق. قال المبرد ميت وميت واحد، وقال هذا قول البصريين، وأنشد: ليس من مات فاستراح بميت إنما الميت ميت الأحياء "فأحيينا به الأرض" أي أحيينا بالمطر الأرض بإنبات ما ينبت فيها، وإن لم يتقدم ذكر المطر فالسحاب يدل عليه، أو أحيينا بالسحاب، لأنه سبب المطر "بعد موتها" أي بعد يبسها، استعار الإحياء للنبات والموت لليبس "كذلك النشور" أي كذلك يحيي الله العباد بعد موتهم كما أحيا الأرض بعد موتها، والنشور: البعث، من نشر الإنسان نشوراً، والكاف في محل رفع على الخبرية: أي مثل إحياء موات الأرض إحياء الأموات، فكيف تنكرونه وقد شاهدتم غر مرة ما هو مثله وشبيهه به.

مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ

10- "من كان يريد العزة" قال الفراء معناه من كان علم العزة لمن هي؟ فإنها لله جميعاً. وقال قتادة: من كان يريد العزة فليتعزز بطاعة الله، فجعل معنى فلله العزة: الدعاء إلى طاعة من له العزة، كما يقال من أراد المال فالمال لفلان: أي فليطلبه من عنده. وقال الزجاج: تقديره من كان يريد بعبادة الله العزة، والعزة له سبحانه، فإن الله عز وجل يعزه في الدنيا والآخرة. وقيل المراد بقوله: "من كان يريد العزة" المشركون، فإنهم كانوا يتعززون بعبادة الأصنام: كقوله: "واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزاً" وقيل المراد: الذين كانوا يتعززون بهم من الذين آمنوا بألسنتهم "الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة" الآية "فلله العزة جميعاً" أي فليطلبها منه لا من غيره، والظاهر في معنى الآية: أن من كان يريد العزة ويطلبها فليطلبها من الله عز وجل: فلله العزة جميعاً، ليس لغيره منها شيء، فتشمل الآية كل من طلب العزة، ويكون المقصود بها التنبيه لذوي الأقدار والهمم من أين تنال العزة، ومن أي جهة تطلب؟ "إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه" أي إلى الله يصعد لا إلى غيره، ومعنى صعوده إليه قبوله له، أو صعود الكتبة من الملائكة بما يكتبونه من الصحف، وخص الكلم الطيب بالذكر لبيان الثواب عليه، وهو يتناول كل كلام يتصف بكونه طيباً من ذكر لله، وأمر بمعروف، ونهي عن منكر، وتلاوة وغير ذلك، فلا وجه لتخصيصه بكلمة التوحيد، أو بالتحميد والتمجيد. وقيل المراد بصعوده صعوده إلى سماء الدنيا. وقيل المراد بصعوده علم الله به، ومعنى "والعمل الصالح يرفعه" أن العمل الصالح يرفع الكلم الطيب، كما قال الحسن وشهر بن حوشب وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة وأبو العالية والضحاك، ووجه أنه لا يقبل الكلم الطيب إلا مع العمل الصالح. وقيل إن فاعل يرفعه هو الكلم الطيب، ومفعوله العمل الصالح، ووجهه أن العمل الصالح لا يقبل إلا مع التوحيد والإيمان. وقيل إن فاعل يرفعه ضمير يعود إلى الله عز وجل. والمعنى: أن الله يرفع العمل الصالح على الكلم الطيب، لأن العمل يحقق الكلام. وقيل والعمل الصالح يرفع صاحبه، وهو الذي أراد العزة. وقال قتادة: المعنى أن الله يرفع العمل الصالح لصاحبه: أي يقبله، فيكون قوله: "والعمل الصالح" على هذا مبتدأ خبره يرفعه، وكذا على قول من قال يرفع صاحبه. قرأ الجمهور "يصعد" من صعد الثلاثي. و "الكلم الطيب" بالرفع على الفاعلية. وقرأ علي وابن مسعود يصعد بضم حرف المضارعة من أصعد، والكلم الطيب بالنصب على المفعولية وقرأ الضحاك على البناء للمفعول وقرأ الجمهور "الكلم" وقرأ أبو عبد الرحمن الكلام وقرأ الجمهور "والعمل الصالح" بالرفع على العطف أو على الابتداء. وقرأ ابن أبي عبلة وعيسى بن عمر بالنصب على الاشتغال "والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد" انتصاب السيئات على أنها صفة لمصدر محذوف: أي يمكرون المكرات السيئات وذلك لأن مكر لازم، ويجوز أن يضمن يمكرون معنى يكسبون، فتكون السيئات مفعولاً به. قال مجاهد وقتادة: هم أهل الرياء. وقال أبو العالية: هم الذين مكروا بالنبي صلى الله عليه وسلم لما اجتمعوا في دار الندوة. وقال الكلبي: هم الذين يعملون السيئات في الدنيا. وقال مقاتل: هم المشركون، ومعنى "لهم عذاب شديد" لهم عذاب بالغ الغاية في الشدة "ومكر أولئك هو يبور" أي يبطل ويهلك، ومنه "وكنتم قوماً بوراً" والمكر في الأصل: الخديعة والاحتيال، والإشارة بقوله: "أولئك" إلى الذين مكروا السيئات على اختلاف الأقوال في تفسير مكرهم، وجملة "هو يبور" خبر مكر أولئك.

وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ

ثم ذكر سبحانه دليلاً آخر على البعث والنشور فقال: 11- "والله خلقكم من تراب" أي خلقكم ابتداءً في ضمن خلق أبيكم آدم من تراب. وقال قتادة: يعني آدم، والتقدير على هذا: خالق أباكم الأول، وأصلكم الذي ترجعون إليه من تراب "ثم من نطفة" أخرجها من ظهر آبائكم "ثم جعلكم أزواجاً" أي زوج بعضكم ببعض، فالذكر زوج الأنثى، أو جعلكم أصنافاً ذكراناً وإناثاً "وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه" أي لا يكون حمل ولا وضع إلا والله عالم به، فلا يخرج شيء عن علمه وتدبيره "وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب" أي ما يطول عمر أحد، ولا ينقص من عمره إلا في كتاب: أي في اللوح المحفوظ قال الفراء: يريد آخر غير الأول، فكنى عنه بالضمير كأنه الأول لأن لفظ الثاني لو ظهر كان كالأول كأنه قال: ولا ينقص من عمر معمر، فالكناية في عمره ترجع إلى آخر غير الأول، ومثله قولك عندي درهم ونصفه: أي نصف آخر. قيل إنما سمي معمراً باعتبار مصيره إليه. والمعنى: وما يمد في عمر أحد ولا ينقص من عمر أحد، لكن لا على معنى لا ينقص من عمره بعد كونه زائداً، بل على معنى أنه لا يجعل من الابتداء ناقصاً إلا وهو في كتاب. قال سعيد بن جبير: وما يعمر من معمر إلا كتب عمره: كم هو سنة، كم هو شهراً، كم هو يوماً، كم هو ساعة، ثم يكتب في كتاب آخر نقص من عمره ساعة، نقص من عمره يوم، نقص من عمره شهر، نقص من عمره سنة حتى يستوفي أجله، فما مضى من أجله فهو النقصان، وما يستقبل، فهو الذي يعمره. وقال قتادة: المعمر من بلغ ستين سنة، والمنقوص من عمره من يموت قبل ستين سنة. وقيل المعنى: إن الله كتب عمر الإنسان كذا إن أطاع، ودونه إن عصى فأيهما بلغ فهو في كتاب، والضمير على هذا يرجع إلى معمر. وقيل المعنى: وما يعمر من معمر إلى الهرم، ولا ينقص آخر من عمر الهرم إلا في كتاب: أي بقضاء الله، قاله الضحاك، واختاره النحاس. قال: وهو أشبهها بظاهر التنزيل، والأولى أن يقال الظاهر النظم القرآني أن تطويل العمر وتقصيره: هما بقضاء الله وقدره لأسباب تقتضي التطويل، وأسباب تقتضي التقصير. فمن أسباب التطويل: ما ورد في صلة الرحم عن النبي صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك. ومن أسباب التقصير الاستكثار من معاصي الله عز وجل، فإذا كان العمر المضروب للرجل مثلاً سبعين سنة، فقد يزيد الله له عليها إذا فعل أسباب الزيادة، وقد ينقصه منها إذا فعل أسباب النقصان، والكل في كتاب مبين فلا تخالف بين هذه الآية، وبين قوله سبحانه: "فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون" ويؤيد هذا قوله سبحانه: "يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب" وقد قدمنا في تفسيرها ما يزيد ما ذكرنا هنا وضوحاً وبياناً. قرأ الجمهور "ينقص" مبنياً للمفعول. وقرأ يعقوب وسلام وروي عن أبي عمرو "ينقص" مبنياً للفاعل. وقرأ الجمهور "من عمره" بضم الميم. وقرأ الحسن والأعرج والزهري بسكونها، والإشارة بقوله: "إن ذلك" إلى ما سبق من الخلق وما بعده "على الله يسير" لا يصعب عليه من شيء، ولا يعزب عنه كثير ولا قليل، ولا كبير ولا صغير.

وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْك

ثم ذكر سبحانه نوعاً آخر من بديع صنع، وعجيب قدرته فقال: 12- "وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج" فالمراد بالبحران العذب والمالح، فالعذب الفرات الحلو، والأجاج المر، والمراد ب"سائغ شرابه" الذي يسهل انحداره في الحلق لعذوبته. وقرأ عيسى بن عمر سيغ بتشديد الياء، وروي تسكينها عنه. وقرأ طلحة وأبو نهيك ملح بفتح الميم "ومن كل" منهما "تأكلون لحماً طرياً" وهو ما يصاد منهما من حيواناتهما التي تؤكل "وتستخرجون حلية تلبسونها" الظاهر أن المعنى: وتستخرجون منها حلية تلبسونها. وقال المبرد: إنما تستخرج الحيلة من المالح، وروي عن الزجاج أنه قال: إنما تستخرج الحلية منهما إذا اختلطا، لا من كل واحد منهما على انفراده، ورجح النحاس قول المبرد. ومعنى "تلبسونها" تلبسون كل شيء منها بحسبه، كالخاتم في الأصبع، والسوار في الذراع، والقلادة في العنق، والخلخال في الرجل، ومما يلبس حلية السلاح الذي يحمل كالسيف والدرع ونحوهما "وترى الفلك فيه" أي في كل واحد من البحرين. وقال النحاس: الضمير يعود إلى الماء المالح خاصة، ولوا ذلك لقال: فيهما "مواخر" يقال مخرت السفينة تمخر: إذا شقت الماء. فالمعنى: وترى السفن في البحرين سواق للماء بعضها مقبلة، وبعضها مدبرة بريح واحدة، وقد تقدم الكلام على هذا في سورة النحل، واللام في "لتبتغوا من فضله" متعلقة بما يدل عليه الكلام السابق: أي فعل ذلك لتبتغوا أو بمواخر. قال مجاهد: ابتغاء الفضل هو التجارة في البحر إلى البلدان البعيدة في مدة قريبة كما تقدم في البقرة "ولعلكم تشكرون" الله على ما أنعم عليكم به من ذلك. قال أكثر المفسرين: إن المراد من الآية ضرب المثل في حق المؤمن والكافر، والكفر والإيمان، فكما لا يستوي البحران كذلك لا يستوي المؤمن والكافر، ولا الكفر والإيمان.

يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ

13- "يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل" أي يضيف بعض أجزائهما إلى بعض، فيزيد في أحدهما بالنقص في الآخر، وقد تقدم تفسيره في آل عمران، وفي مواضع من الكتاب العزيز "وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى" قدره الله لجريانهما، وهو يوم القيامة. وقيل هو المدة التي يقطعان في مثلها الفلك، وهو سنة للشمس، وشهر للقمر. وقيل المراد به جري الشمس في اليوم، والقمر في الليلة. وقد تقدم تفسير هذا مستوفى في سورة لقمان، والإشارة بقوله: "ذلكم" إلى الفاعل لهذه الأفعال وهو سبحانه، واسم الإشارة مبتدأ وخبره "الله ربكم له الملك" أي هذا الذي من صنعته ما تقدم: هو الخالق المقدر والقادر المقتدر المالك للعالم، والمتصرف فيه، ويجوز أن يكون قوله: له الملك جملة مستقلة في مقابلة قوله: "والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير" أي لا يقدرون عليه ولا على خلقه، والقطمير: القشرة الرقيقة التي تكون بين التمرة والنواة وتصير على النواة كاللفافة لها. وقال المبرد: هو شق النواة. وقال قتادة: هو القمع الذي على رأس النواة. قال الجوهري: ويقال هي النكتة البيضاء التي في ظهر النواة تنبت منها النخلة.

إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ

ثم بين سبحانه حال هؤلاء الذين يدعونهم من دون الله بأنهم لا ينفعون ولا يضرون فقال: 14- "إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم" أي إن تستغيثوا بهم في النوائب لا يسمعوا دعاءكم، لكونها جمادات لا تدرك شيئاً من المدركات "ولو سمعوا" على طريقة الفرض، والتقدير "ما استجابوا لكم" لعجزهم عن ذلك. قال قتادة: المعنى ولو سمعوا لم ينفعوكم. وقيل المعنى: لو جلعنا لهم سماعاً وحياة فسمعوا دعاءكم لكانوا أطوع لله منكم ولم يستجيبوا لكم إلى ما دعوتموهم إليه من الكفر "ويوم القيامة يكفرون بشرككم" أي يتبرأون من عبادتكم هم، ويقولون: "ما كنتم إيانا تعبدون" ويجوز أن يرجع "والذين تدعون من دونه" وما بعده إلى من يعقل ممن عبدهم الكفار، وهم الملائكة والجن والشياطين. والمعنى: أنهم يجحدون أن يكون ما فعلتموه حقاً، وينكرون أنهم أمروكم بعبادتهم "ولا ينبئك مثل خبير" أي لا يخبرك مثل من هو خبير بالأشياء عالم بها، وهو الله سبحانه فإنه لا أحد أخبر بخلقه وأقوالهم وأفعالهم منه سبحانه، وهو الخبير بكنه الأمور وحقائقها. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال: يقوم ملك بالصور بين السماء والأرض فينفخ فيه، فلا يبقى خلق لله في السموات والأرض إلا من شاء الله إلا مات، ثم يرسل الله من تحت العرش منياً كمني الرجال، فتنبت أجسامهم ولحومهم من ذلك الماء كما تنبت الأرض من الثرى، ثم قرأ عبد الله "الله الذي أرسل الرياح" الآية. وأخرج أبو داود والطيالسي وأحمد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي رزين العقيلي قال "قلت يا رسول الله كيف يحيى الله الموتى؟ قال: أما مررت بأرض مجدبة ثم مررت بها مخصبة تهتز خضراء؟ قلت: بلى. قال: كذلك يحيي الله الموتى، وكذلك النشور". وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن مسعود قال: إذا حدثناكم بحديث أتيناكم بتصديق ذلك من كتاب الله، إن العبد المسلم إذا قال: سبحان الله وبحمده والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر وتبارك الله، قبض عليهن ملك يضمهن تحت جناحه، ثم يصعد بهن إلى السماء، فلا يمر بهن على جمع من الملائكة إلا استغفر لقائلهن حتى يجيء بهن وجه الرحمن، ثم قرأ "إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه" قال: أداء الفرائض، فمن ذكر الله في أداء فرائضه حمل عمله أولى به. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وما يعمر من معمر" الآية قال: يقول ليس أحد قضيت له طول العمر والحياة إلا وهو بالغ ما قدرت له من العمر وقد قضيت له ذلك، فإنما ينتهي إلى الكتاب الذي كتب له، فذلك قوله: "ولا ينقص من عمره إلا في كتاب" يقول: كل ذلك في كتاب عنده. وأخرج أحمد ومسلم وأبو عوانة وابن حبان والطبراني وابن المنذر وابن أبي حاتم عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يدخل الملك على النطفة بعدما تستقر في الرحم بأربعين أو بخمسة وأربعين ليلة، فيقول أي رب أشقي أم سعيد؟ أذكر أم أنثى؟ فيقول الله ويكتبان، ثم يكتب عمله ورزقه وأجله وأثره ومصيبته، ثم تطوى الصحيفة فلا يزاد فيها ولا ينقص". وأخرج ابن أبي شيبة ومسلم والنسائي وأبو الشيخ عن عبد الله بن مسعود قال: قالت أم حبيبة: الله مأمتعني بزوجي النبي، وبأبي أبي سفيان، وبأخي معاوية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنك سألت الله لآجال مضروبة، وأيام معدودة، وأرزاق مقسومة، ولن يعجل الله شيئاً قبل حله أو يؤخر شيئاً، ولو كنت سألت الله أن يعيذك من عذاب في النار، أو عذاب في القبر كان خيراً وأفضل". وهذه الأحاديث مخصصة بما ورد من قبول الدعاء، وأنه يعتلج هو والقضاء، وبما ورد في صلة الرحم أنها تزيد في العمر، فلا معارضة بين الأدلة كما قدمنا. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ما يملكون من قطمير" قال: القطمير القشر، وفي لفظ: الجلد الذي يكون على ظهر النواة.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ

ثم ذكر سبحانه افتقار خلقه إليه، ومزيد حاجتهم إلى فضله، فقال: 15- "يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله" أي المحتاجون إليه في جميع أمور الدين والدنيا، فهم الفقراء إليه على الإطلاق و "هو الغني" على الإطلاق "الحميد" أي المستحق للحمد من عباده بإحسانه إليهم.

إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ

ثم ذكر سبحانه نوعاً من الأنواع التي يتحقق عندها افتقارهم إلأيه واستغناؤه عنهم فقال: 16- "إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد" أي إن يشأ يفنكم ويأت بدلكم بخلق جديد يطيعونه ولا يعصونه، أو يأت بنوع من أنواع الخلق وعالم من العالم غير ما تعرفون.

وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ

17- "وما ذلك" إلا ذهاب لكم والإتيان بآخرين "على الله بعزيز" أي بممتنع ولا متعسر، وقد مضى تفسير هذا في سورة إبراهيم .

وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِ

18- " ولا تزر وازرة وزر أخرى " أي نفس وازرة فحذف الموصوف للعلم به، ومعنى تزر: تحمل. والمعنى: لا تحمل نفس حمل نفس أخرى: أي إثمها بل كل نفس تحمل وزرها، ولا تخالف هذه الآية قوله: "وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم" لأنهم إنما حملوا أثقال إضلالهم مع أثقال ضلالهم، والكل من أوزارهم، لا من أوزار غيرهم، ومثل هذا حديث "من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة" فإن الذي سن السنة الشيئة إنما حمل وزر سنته السيئة، وقد تقدم الكلام على هذه الآية مستوفى "وإن تدع مثقلة إلى حملها" قال الفراء: أي نفس مثقلة، قال: وهذا يقع للمذكر والمؤنث. قال الأخفش: أي وإن تدع مثقلة إنساناً إلى حملها، وهو ذنوبها "لا يحمل منه" أي من حملها "شيء ولو كان ذا قربى" أي ولو كان الذي تدعوه ذا قرابة لها، لم يحمل من حملها شيئاً. ومعنى الآية: وإن تدع نفس مثقلة بالذنوب نفساً أخرى إلى حمل شيء من ذنوبها معها لم تحمل تلك المدعوة من تلك الذنوب شيئاً، ولو كانت قريبة لها في النسب، فكيف بغيرها مما لا قرابة بينها وبين الداعية لها؟ وقرئ ذو قربى على أن كان تامة، كقوله: "وإن كان ذو عسرة" وجملة "إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب" مستأنفة مسوقة لبيان من يتعظ بالإنذار، ومعنى "يخشون ربهم بالغيب" أنه يخشونه حال كونهم غائبين عن عذابه أو يخشون عذابه وهو غائب عنهم، أو يخشونه في الخلوات عن الناس. قال الزجاج: تأويله أن إنذارك إنما ينفع الذين يخشون ربهم، فكأنك تنذرهم دون غيرهم ممن لا ينفعهم الإنذار، كقوله: "إنما أنت منذر من يخشاها" وقوله: "إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب" ومعنى "وأقاموا الصلاة" أنهم اختفلوا بأمرها، ولم يشتغلوا عنها بشيء مما يلهيهم "ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه" التزكي: التطهر من أدناس الشرك والفواحش، والمعنى: أن من تطهر بترك المعاصي واستكثر من العمل الصالح فإنما يتطهر لنفسه، لأن نفع ذلك مختص به كما أن وزر من تدنس لا يكون إلا عليه لا على غيره. قرأ الجمهور "ومن تزكى فإنما يتزكى" وقرأ أبو عمرو " يزكى " بإدغام التاء في الزاي وقرأ ابن مسعود وطلحة ومن أزكى فإنما يزكى "وإلى الله المصير" لا إلى غيره، ذكر سبحانه أولاً أنه لا يحمل أحد شيء من ذنوبه لا يحمله، ثم ذكر ثالثاً أن ثواب الطاعة مختص بفاعلها ليس لغيره منه شيء.

وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ

ثم ضرب مثلاً للمؤمن والكافر فقال: 19- "وما يستوي الأعمى" أي المسلوب حاسة البصر "والبصير" الذي له ملكة البصر، فشبه الكافر بالأعمى، وشبه المؤمن بالبصير.

وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ

20- "ولا الظلمات ولا النور" أي ولا تستوي الظلمات ولا النور، فشبه الباطل بالظلمات، وشبه الحق بالنور. قال الأخفش: ولا في قوله "ولا النور".

وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ

21- "ولا الحرور" زائدة، والتقدير وما يستوي الظلمات والنور ولا الظل والحرور، والحرور شدة حر الشمس. قال الأخفش: والحرور لا يكون إلا مع شمس النهار، والسموم يكون بالليل، وقيل عكسه. وقال رؤبة بن العجاج: الحرور يكون بالليل خاصة، والسموم يكون بالنهار خاصة. وقال الفراء: السموم لا يكون إلا بالنهار، والحرور يكون فيهما. قال النحاس: وهذا أصح. وقال قطرب: الحرور الحر، والظر البرد، والمعنى: أنه لا يستوي الظل الذي لا حر فيه ولا أذى، والحر الذي يؤذي. قيل أراد الثواب والعقاب، وسمي الحر حروراً مبالغة في شدة الحر، لأن زيادة البناء تدل على زيادة المعنى. وقال الكلبي: أراد بالظل الجنة، وبالحرور النار. وقال عطاء: يعني ظل الليل وشمس النهار. قيل وإنما جمع الظلمات وأفرد النور لتعدد فنون الباطل واتحاد الحق.

وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ

ثم ذكر سبحانه تمثيلاً آخر للمؤمن والكافر فقال: 22- "وما يستوي الأحياء ولا الأموات" فشبه المؤمنين بالأحياء، وشبه الكافرين بالأموات، وقيل أراد تمثيل العلماء والجهلة. وقال ابن قتيبة: الأحياء العقلاء، والأموات الجهال. قال قتادة: هذه كلها أمثال: أي كما لا تستوي هذه الأشياء كذلك لا يستوي الكافر والمؤمن "إن الله يسمع من يشاء" أن يسمعه من أولياءه الذي خلقهم لجنته ووفقهم لطاعته "وما أنت بمسمع من في القبور" يعني الكفار الذين أمات الكفر قلوبهم: أي كما لا تسمع من مات كذلك لا تسمع من مات قبله، قرأ الجمهور بتنوين "مسمع" وقطعه عن الإضافة.

إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ

وقرأ الحسن وعيسىالثقفي وعمرو بن ميمون بإضافته "إن أنت إلا نذير" أي ما أنت إلا رسول منذر ليس عليك إلا الإنذار والتبليغ، والهدى والضلالة بيد الله عز وجل.

إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ

23- "إنا أرسلناك بالحق" يحوز أن يكون بالحق في محل نصب على الحال من الفاعل: أي محقين، أو من المفعول: أي محقاً، أو نعت لمصدر محذوف: أي إرسالاً ملتبساً بالحق، أو هو متعلق ببشيراً: أي بشيراً بالوعد الحق ونذيراً بالوعد الحق، والأولى أن يكون نعتاً للمصدر المحذوف، ويكون معنى بشيراً: بشيراً لأهل الطاعة ونذيراً لأهل المعصية "وإن من أمة إلا خلا فيها نذير" أي ما من أمة من الأمم الماضية إلا مضى فيها نذير من الأنبياء ينذرها، واقتصر على ذكر النذير دون البشير، لأنه ألصق بالمقام.

وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ

ثم سلى نبيه صلى الله علي وسلم وعزاه، فقال: 24- "وإن يكذبوك فقد كذب الذين من قبلهم" أي كذب من قبلهم من الأمم الماضية أنبيائهم "جاءتهم رسلهم بالبينات" أي بالمعجزات الواضحة والدلالات الظاهرة "وبالزبر" أي الكتب المكتوبة كصحف إبراهيم "وبالكتاب المنير" كالتوراة والإنجيل، قيل الكتاب المنير داخل تحت الزبر وتحت البينات والعطف لتغاير المفهومات، وإن كانت متحدة في الصدق، والأولى تخصيص البينات بالمعجزات، والزبر بالكتب التي فيها مواعظ، والكتاب بما فيه شرائع وأحكام.

ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ

25- "ثم أخذت الذين كفروا" وضع الظاهر موضع الضمير يفيد التصريح بذمهم بما في حيز الصلة، ويشعر بعلة الأخذ "فكيف كان نكير" أي فكيف كان نكيري عليهم وعقوبتي لهم، وقرأ ورش عن نافع وشيبة بإثبات الياء في " تذكيري " وصلاً لا وقفاً، وقد قضى بيان معنى هذا قريباً. وقد أخرج أحمد والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجه عن عمرو بن الأحوص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع: "ألا لا يجني جان إلا على نفسه، لا يجني والد على ولده ولا مولود على والده". وأخرج سعيد بن منصور وأبو داود والترمذي والنسائي وابن مردويه والبيهقي في سننه "عن أبي رمثة قال: انطلقت مع أبي نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأيته قال لأبي: ابنك هذا؟ قال: إي ورب الكعبة، قال: أما أنه لا يجني عليك ولا تجني عليه، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم "ولا تزر وازرة وزر أخرى"". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء" قال: يكون عليه وزر لا يجد أحداً يحمل عنه من وزره شيئاً.

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ

ثم ذكر سبحانه نوعاً من أنواع قدرته الباهرة وخلقاً من مخلوقاته البديعة فقال: 27- "ألم تر" والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل من يصلح له "أن الله أنزل من السماء ماء" وهذه الرؤية هي القلبية: أي ألم تعلم، وأن واسمها وخبرها سدت مسد المفعولين "فأخرجنا به" أي بالماء، والنكتة في هذا الالتفات إظهار كمال العناية بالفعل لما فيه من الصنع البديع، وانتصاب "مختلفاً ألوانها" على الوصف لثمرات، والمراد بالألوان الأجناس والأصناف: أي بعضها أبيض، وبعضها أحمر، وبعضها أصفر، وبعضها أخضر، وبعضها أسود "ومن الجبال جدد" الجدد جمع جدة، وهي الطريق. قال الأخفش: ولو كان جمع جديد لقال جدد بضم الجيم والدال، نحو سرير وسرر. قال زهير: كأنه أسفع الخدين ذو جدد طار ويرتع بعد الصيف أحيانا وقيل الجدد القطع، مأخوذ من جددت الشيء إذا قطعته، حكاه ابن بحر. قال الجوهري: الجدة: الخطة التي في ظهر الحمار تخالف لونه، والجدة الطريقة، والجمع جدد وجدائد، ومن ذلك قول أبي ذؤيب: جون السراة له جدائد أربع قال المبرد: جدد: طرائق وخطوط. قال الواحدي: ونحو هذا قال المفسرون في تفسير الجدد. وقال الفراء: هي الطرق تكون في الجبال كالعروق بيض وسود وحمر واحدها جدة. والمعنى: أن الله سبحانه أخبر عن جدد الجبال، وهي طرائقها، أو الخطوط التي فيها بأن لون بعضها البياض ولون بعضها الحمرة، وهو معنى قوله: "بيض وحمر مختلف ألوانها" قرأ الجمهور " جدد " بضم الجيم وفتح الدال. وقرأ الزهري بضمهما جمع جديدة وروي عنه أنه قرأ بفتحهما وردها أبو حاتم وصححها غيره وقال: الجدد الطريق الواضح البين "وغرابيب سود" الغربيب الشديد السواد الذي يشبه لونه لون الغراب. قال الجوهري: تقول هذا أسود غربيب: أي شديد السواد، وإذا قلت غرابيب سود جعلت السود بدلاً من غرابيب. قال الفراء: في الكلام تقديم وتأخير تقديره وسود غرابيب، لأنه يقال أسود غربيب، وقل ما يقال غربيب أسود، وقوله: "مختلف ألوانها" صفة لجدد، وقوله: "وغرابيب" معطوف على جدد على معنى: ومن الجبال جدد بيض وحمر، ومن الجبال غرابيب على لون واحد، وهو السواد، أو على حمر على معنى، ومن الجبال جدد بيض وحمر وسود. وقيل معطوف على بيض، ولا بد من تقدير مضاف محذوف قبل جدد: أي ومن الجبال ذو جدد، لأن الجدد إنما هي في ألوان بعضها.

وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ

28- "ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه" قوله مختلف صفة لموصوف محذوف: أي ومنهم صنف، أو نوع أو بعض مختلف ألوانه بالحمرة والسواد والبياض والخضرة والصفرة. قال الفراء: أي خلق مختلف ألوانه كاختلاف الثمرات والجبال، وإنما ذكر سبحانه اختلاف الألوان في هذه الأشياء، لأن هذا الاختلاف من أعظم الأدلة على قدرة الله وبديع صنعه، ومعنى "كذلك" أي مختلفاً مثل ذلك الاختلاف، وهو صفة لمصدر محذوف، والتقدير مختلف ألوانه اختلافاً كائناً كذلك: أي كاختلاف الجبال والثمار. وقرأ الزهري والدواب بتخفيف الباء. وقرأ ابن السميفع ألوانها. وقيل إن قوله كذلك متعلق بما بعده: أي مثل ذلك المطر والاعتبار في مخلوقات الله واختلاف ألوانها يخشى الله من عباده العلماء، وهذا اختاره ابن عطية، وهو مردود بأن ما بعد إنما لا يعمل فيما قبلها. والراجح الوجه الأول، والوقف على كذلك تام. ثم استؤنف الكلام وأخبر سبحانه بقوله: "إنما يخشى الله من عباده العلماء" أو هو من تتمة قوله: "إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب" على معنى إنما يخشاه سبحانه بالغيب العالمون به، وبما يليق به من صفاته الجليلة وأفعاله الجميلة، وعلى كل تقدير فهو سبحانه قد عين في هذه الآية أهل خشيته وهم العلماء به وتعظيم قدرته. قال مجاهد: إنما العالم من خشي الله عز وجل وقال مسروق: كفى بخشية الله علماً وكفى بالاغترار جهلاً، فمن كان أعلم بالله كان أخشاهم له. قال الربيع بن أنس: من لم يخش الله فليس بعالم. وقال الشعبي: العالم من خاف الله، ووجه تقديم المفعول أن المقام مقام حصر الفاعلية ولو أخر انعكس الأمر. وقرأ عمر بن عبد العزيز برفع الاسم الشريف ونصب العلماء، ورويت هذه القراءة عن أبي حنيفة قال في الكشاف: الخشية في هذه القراءة استعارة، والمعنى: أنه يجلهم ويعظمهم كما يجل المهيب المخشي من الرجال بين الناس، وجملة "إن الله عزيز غفور" تعليل لوجوب الخشية لدلالته على أنه معاقب على معصيته غافر لمن تاب من عباده.

إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ

29- "إن الذين يتلون كتاب الله" أي يستمرون على تلاوته ويداومونها. والكتاب هو القرآن الكريم، ولا وجه لما قيل إن المراد به جنس كتب الله "وأقاموا الصلاة" أي فعلوها في أوقاتها مع كمال أركانها وأذكارها "وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية" فيه حث على الإنفاق كيف ما تهيأ، فإن تهيأ سراً فهو أفضل وإلا فعلانية، ولا يمنعه ظنه أن يكون رياء، ويمكن أن يراد بالسر صدقة النفل، وبالعلانية صدقة الفرض وجملة "يرجون تجارة لن تبور" في محل رفع على خبرية إن كما قال ثعلب وغيره، والمراد بالتجارة ثواب الطاعة ومعنى "لن تبور" لن تكسد ولن تهلك، وهي صفة للتجارة والإخبار برجائهم لثواب ما عملوا بمنزلة الوعد بحصول مرجوهم.

لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ

واللام في 30- "ليوفيهم أجورهم" متعلق بلن تبور، على معنى: أنها لن تكسد لأجل أن يوفيهم أجور أعمالهم الصالحة، ومثل هذه الآية قوله سبحانه: "فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله" وقيل إن اللام تمتعلقة بمحذوف دل عليه السياق: أي فعلوا ذلك ليوفيهم، ومعنى "ويزيدهم من فضله" أنه يتفضل عليهم بزيادة على أجورهم التي هي جزاء أعمالهم، وجملة "إنه غفور شكور" تعليل لما ذكر من التوفية والزيادة: أي غفور لذنوبهم شكور لطاعتهم، وقيل إن هذه الجملة هي خبر إن، وتكون جملة يرجون في محل نصقب على الحال، والأول أولى.

وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ

31- "والذي أوحينا إليك من الكتاب" يعني القرآن، وقيل اللوح المحفوظ على أن من تبعيضية أو ابتدائية، وجملة "هو الحق" خبر الموصول "ومصدقاً لما بين يديه" منتصب على الحال: أي موافقاً لما تقدمه من الكتب "إن الله بعباده لخبير بصير" أي محيط بجميع أمورهم.

ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ

32- "ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا" المفعول الأول لأورثنا الموصول، والمفعول الثاني الكتاب، وإنما قدم المفعول الثاني لقصد التشريف والتعظيم للكتاب، والمعنى: ثم أورثنا الذين اصطفيناهم من عبادنا الكتاب، وهو القرآن: أي قضينا وقدرنا بأن نورث العلماء من أمتك يا محمد هذا الكتاب الذي أنزلناه عليك، ومعنى اصطفائهم اختيارهم واستخلاصهم، ولا شك أن علماء هذه الأمة من الصحابة فمن بعدهم قد شرفهم الله على سائر العباد وجعلهم أمة وسطاً ليكونوا شهداء على الناس، وأكرمهم بكونهم أمة خير الأنبياء وسيد ولد آدم. قال مقاتل: يعني قرآن محمد جعلناه ينتهي إلى الذي اصطفينا من عبادنا. وقيل إن المعنى: أورثناه من الأمم السالفة: أي أخرناه عنهم وأعطيناه الذين اصطفينا، والأول أولى. ثم قسم سبحانه هؤلاء الذي أورثهم كتابه واصطفاهم من عباده إلى ثلاثة أقسام فقال: "فمنهم ظالم لنفسه" قد استشكل كثير من أهل العلم معنى هذه الآية، لأنه سبحانه جعل هذا القسم الظالم لنفسه من ذلك المقسم، وهو من اصطفاهم من العباد، فكيف يكون من اصطفاه الله ظالماً لنفسه؟ فقيل إن التقسيم هو راجع إلى العباد: أي فمن عبادنا ظالم لنفسه، وهو الكافر، ويكون ضمير يدخلونها عائداً إلى المقتصد والسابق. وقيل المراد بالظالم لنفسه هو المقصر في العمل به، وهو المرجأ لأمر الله، وليس من ضرورة ورثة الكتاب مراعاته حق رعايته، لقوله: "فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب" وهذا فيه نظر، لأن ظلم النفس لا يناسب الاصطفاء. وقيل الظالم لنفسه: هو الذي عمل الصغائر، وقدروي هذا القول عن عمر وعثمان وابن مسعود وأبي الدرداء وعائشة، وهذا هو الراجح، لأن عمل الصغائر لا ينافي الاصطفاء ولا يمنع من دخول صاحبه مع الذين يدخلون الجنة يحلون فيها من أساور من ذهب إلى آخر ما سيأتي. ووجه كونه ظالماً لنفسه أنه نقصها من الثواب بما فعل من الصغائر المغفورة له، فإنه لو عمل مكان تلك الصغائر طاعات لكان لنفسه فيها من الثواب حظاً عظيماً، وقيل الظالم لنفسه هو صاحب الكبائر. وقد اختلف السلف في تفسير السابق والمقتصد، فقال عكرمة وقتادة والضحاك: إن المقتصد المؤمن العاصي، والسابق التقي على الإطلاق، وبه قال الفراء، وقال مجاهد في تفسير الآية: فمنهم ظالم لنفسه أصحاب المشأمة "ومنهم مقتصد" أصحاب الميمنة "ومنهم سابق بالخيرات" السابقون من الناس كلهم. وقال المبرد: إن المقتصد هو الذي يعطي الدنيا حقها والآخرة حقها. وقال الحسن: الظالم الذي ترجح سيئاته على حسناته، والمقتصد الذي استوت حسناته وسيئاته، والسابق من رجحت حسناته على سيئاته. وقال مقاتل: الظالم لنفسه أصحاب الكبائر من أهل التوحيد، والمقتصد الذي لم يصب كبيرة، والسابق الذي سبق إلى الأعمال الصالحة. وحكى النحاس أن الظالم صاحب الكبائر، والمقتصد الذي لم يستحق الجنة بزيادة حسناته على سيئاته، فتكون جنات عدن يدخلونها للذين سبقوا بالخيرات لا غير، قال: وهذا قول جماعة من أهل النظر، لأن الضمير في حقيقة النظر لما يليه أولى. وقال الضحاك. فيهم ظالم لنفسه: أي من ذريتهم ظالم لنفسه. وقال سهل بن عبدالله: السابق العالم، والمقتصد المتعلم والظالم لنفسه الجاهل. وقال ذو النون المصري: الظالم لنفسه الذاكر لله بلسانه فقط، والمقتصد الذاكر بقلبه، والسابق الذي لا ينساه. وقال الأنطاكي: الظالم صاحب الأقوال، والمقتصد صاحب الأفعال، والسابق صاحب الأحوال. وقال ابن عطاء: الظالم الذي يحب الله من أجل الدنيا، والمقتصد الذي يحب الله من أجل العقبى، والسابق الذي أسقط مراده بمراد الحق. وقيل الظالم الذي يعبد الله خوفاً من النار، والمقتصد الذي يعبده طمعاً في الجنة، والسابق الذي يعبده لا لسبب. وقيل الظالم الذي يحب نفسه، والمقتصد الذي يحب دينه، والسابق الذي يحب ربه. وقيل الظالم الذي ينتصف ولا ينصف، والمقتصد الذي ينتصف وينصف، والسابق الذي ينصف ولا ينتصف. وقد ذكر الثعلبي وغيره أقوالاً كثيرة، ولا شك أن المعاني اللغوية للظالم والمقتصد والسابق معروفة، وهو يصدق على الظلم للنفس بمجرد إحرامها للحظ وتفويت ما هو خير هلا، فتارك الاستكثار من الطاعات قد ظلم نفسه باعتبار ما فوتها من الثواب، وإن كان قائماً بما أوجب الله عليه تاركاً لما نهاه الله عنه، فهو من هذه الحيثية ممن اصطفاه الله ومن أهل الجنة فلا إشكال في الآية، ومن هذا قول آدم "ربنا ظلمنا أنفسنا" وقول يونس "إني كنت من الظالمين" ومعنى المقتصد هو من يتوسط في أمر الدين ولا يميل إلى جانب الإفراط ولا إلى جانب التفريط وهذا من أهل الجنة، وأما السابق فهو الذي سبق غيره في أمور الدين، وهو خير الثلاثة. وقد استشكل تقديم الظالم على المقتصد وتقديمهما على السابق مع كون المقتصد أفضل من الظالم لنفسه والسابق أفضل منهم، فقيل إن التقديم لا يقتضي التشريف كما في قوله: "لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة" ونحوها من الآيات القرآنية التي فيها تقديم أهل الشر على أهل الخير وتقديم المفضولين علىالفاضلين. وقيل وجه التقديم هنا أن المقتصدين بالنسبة إلى أهل العاصي قليل والسابقين بالنسبة إلى الفريقين أقل قليل، فقدم الأكثر على الأقل، والأول أولى فإن الكثرة يمجردها لا تقتضي تقديم الذكر، وقد قيل في وجه التقديم غير ما ذكرنا مما لا حاجة إلى التطويل به، والإشارة بقوله: "ذلك" إلى توريث الكتاب والاصطفاء، وقيل إلى السبق بالخيرات، والأول أولى، وهو مبتدأ وخبره "هو الفضل الكبير" أي الفضل الذي لا يقادر قدره.

جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ

وارتفاع 33- "جنات عدن" على أنها مبتدأ وما عبدها خبرها، أو على البدل من الفضل لأنه لما كان هو السبب في نيل الثواب نزل منزلة المسبب، وعلى هذا فتكون جملة "يدخلونها" مستأنفة وقد قدمنا أن الضمير في يدخلونها يعود إلى الأصناف الثلاثة، فلا وجه لقصره على الصنف الأخير، وقرأ زر بن حبيش والترمذي جنة بالإفراد، وقرأ الجحدري جنات بالنصب على الاشتغال، وجوز أبو البقاء أن تكون جنات خبراً ثانياً لاسم الإشارة، وقرأ أبو عمرو "يدخلونها" على البناء للمفعول، وقوله: "يحلون" خبر ثان لجنات عدن، أو حال مقدرة، وهو من حليت المرأة فهي حال، وفيه إشارة إلى سرعة الدخول، فإن في تحليتهم خارج الجنة تأخيراً للدخول، فلما قال "يحلون فيها" أشار أن دخولهم على وجه السرعة "من أساور من ذهب" من الأولى تبعيضية، والثانية بيانية: أي يحلون بعض أساور كائنة من ذهب، والأساور جمع أسورة جمع سوار، وانتصاب "لؤلؤاً" بالعطف على محل "من أساور" وقرئ بالجر عطفاً على ذهب "ولباسهم فيها حرير" قد تقدم تفسير الآية مستوفى في سورة الحج.

وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ

34- "وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن" قرأ الجمهور "الحزن" بفتحتين. وقرأ جناح بن حبيش بضم الحاء وسكون الزاي. والمعنى: أنهم يقولون هذه المقالة إذا دخلوا الجنة. قال قتادة: حزن الموت. وقال عكرمة: حزن السيئات والذنوب وخوف رد الطاعات. وقال القاسم: حزن زوال النعم وخوف العاقبة. وقيل حزن أهوال يوم القيامة. وقال الكلبي: ما كان يحزنهم في الدنيا من أمر يوم القيامة. وقال سعيد بن جبير: هم الخبز في الدنيا، وقيل هم المعيشة. وقال الزجاج: أذهب الله عن أهل الجنة كل الأحزان ما كان منها لمعاش أو معاد. وهذا أرجح الأقوال، فإن الدنيا وإن بلغ نعيمها أي بلغ لا تخلو من شوائب ونوائب تكثر لأجلها الأحزان، وخصوصاً أهل الإيمان، فإنهم لا يزالون وجلين من عذاب الله خائفين من عقابه، مضطربي القلوب في كل حين، هل تقبل أعمالهم أو ترد؟ حذرين من عاقبة السوء وخاتمة الشر، ثم لا تزال همومهم وأحزانهم حتى يدخلوا الجنة. وأما أهل العصيان: فهم وإن نفس عن خناقهم قليلاً في حياة الدنيا التي هي دار الغرور، وتناسوا دار القرار يوماً من دهرهم فلا بد أن يشتد وجلهم وتعظم مصيبتهم، وتغلي مراجل أحزانهم إذا شارفوا الموت وقربوا من منازل الآخرة، ثم إذا قبضت أرواحهم ولاح لهم ما يسوؤهم من جزاء أعمالهم ازدادوا غماً وحزناً، فإن تفضل الله عليهم بالمغفرة وأدخلهم الجنة فقد أذهب عنهم أحزانهم وأزال غمومهم وهمومهم "إن ربنا لغفور شكور" أي غفور لمن عصاه. شكور لمن أطاعه.

الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ

35- "الذي أحلنا دار المقامة من فضله" أي دار الإقامة التي يقام فيها أبداً ولا ينتقل عنها تفضلاً منه ورحمة "لا يمسنا فيها نصب" أي لا يصيبنا في الجنة عناء ولا تعب ولا مشقة "ولا يمسنا فيها لغوب" وهو الإعياء من التعب، والكلال من النصب. وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ثمرات مختلفاً ألوانها" قال: الأبيض والأحمر والأسود، وفي قوله: "ومن الجبال جدد" قال: طرائق "بيض" يعني الألوان. وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال: الغربيب الأسود الشديد السواد. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي مالك في قوله: "ومن الجبال جدد" قال: طرائق تكون في الجبل بيض "وحمر" فتلك الجدد "وغرابيب سود" قال: جبال سود "ومن الناس والدواب والأنعام" قال: "كذلك" اختلاف الناس والدواب والأنعام كاختلاف الجبال، ثم قال: "إنما يخشى الله من عباده العلماء" قال: فصل لما قبلها. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "إنما يخشى الله من عباده العلماء" قال: العلماء بالله الذين يخافونه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في الآية قال: الذين يعلمون أن الله على كل شيء قدير. وأخرج ابن أبي حاتم وابن عدي عن ابن مسعود قال: ليس العلم من كثرة الحديث، ولكن العلم من الخشية. وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد في الزهد وعبد بن حميد والطبراني عنه قال: كفى بخشية الله علماً، وكفى باغترار بالله جهلاً. وأخرج أحمد في الزهد عنه أيضاً قال: ليس العلم بكثرة الرواية ولكن العلم الخشية. وأخرج ابن أبي شيبة عن حذيفة قال: بحسب المؤمن من العلم أن يخشى الله. وأخرج عبد الغني بن سعيد الثقفي في تفسيره عن ابن عباس أن حصين بن الحارث بن عبد المطلب بن عبد مناف نزلت فيه "إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة" الآية. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في البعث عن ابن عباس في قوله: "ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا" قال: هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم ورثهم الله كل كتاب أنزل، فظالمهم مغفور له، ومقتصدهم يحاسب حساباً يسيراً، وسابقهم يدخل الجنة بغير حساب. وأخرج الطيالسي وأحمد وعبد بن حميد والترمذي وحسنه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في البعث عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه قال في هذه الآية " ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات " قال: هؤلاء كلهم بمنزلة واحدة، وكلهم يدخلون الجنة". وفي إسناده رجلان مجهولان. قال الإمام أحمد في مسنده قال: حدثنا شعبة عن الوليد بن العيزار، أنه سمع رجلاً من ثقيف يحدث عن رجل من كنانة عن أبي سعيد. وأخرج الفريابي وأحمد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وابن مردويه والبيهقي في البعث عن أبي الدرداء قال:" سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله "ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله" فأما الذين سبقوا فأولئك الذي يدخلون الجنة بغير حساب. وأما الذين اقتصدوا فأولئك يحاسبون حساباً يسيراً. وأما الذين ظلموا أنفسهم، فأولئك يحبسون في طلول المحشر، ثم هم الذين تلافاهم الله برحمته، فهم الذين يقولون " الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور " إلى آخر الآية". قال البيهقي: إذا كثرت روايات في حديث ظهر أن للحديث أصلاً اهـ، وفي إسناد أحمد محمد بن إسحاق، وفي إسناد ابن أبي حاتم رجل مجهول، لأنه رواه من طريق الأعمش عن رجل عن أبي ثابت عن أبي الدرداء، ورواه ابن جرير عن الأعمش قال: ذكر أبو ثابت. وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني عن عوف بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أمتي ثلاثة أثلاث: فثلث يدخلون الجنة بغير حساب، وثلث يحاسبون حساباً يسيراً ثم يدخلون الجنة، وثلث يمحصون ويكشفون ثم تأتي الملائكة فيقولون وجدناهم يقولون: لا إله إلا الله وحده، فيقول الله: أدخلوهم الجنة بقولهم لا إله إلا الله وحده واحملوا خطاياهم على أهل التكذيب، وهي التي قال الله: "وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم" وتصديقاً في التي ذكر في الملائكة. قال الله تعالى: "ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا" فجعلهم ثلاثة أفواج. فمنهم ظالم لنفسه، فهذا الذي يكشف ويمحص، ومنهم مقتصد، وهو الذي يحاسب حساباً يسيراً. ومنهم سابق بالخيرات، فهو الذي يلج الجنة بغير حساب ولا عذاب بإذن الله يدخلونها جميعاً". قال ابن كثير بعد ذكر هذا الحديث: غريب جداً اهـ. وهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضاً ويجب المصير إليها، ويدفع بها قول من حمل الظالم لنفسه على الكافر، ويؤيدها ما أخرجه الطبراني وابن مردويه والبيهقي في البعث عن أسامة بن زيد: "فمنهم ظالم لنفسه" الآية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلهم من هذه الأمة، وكلهم في الجنة" وما أخرجه الطيالسي وعبد بن حميد وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط والحاكم وابن مردويه عن عقبة بن صهبان قال: قلت لعائشة أرأيت قول الله "ثم أورثنا الكتاب" الآية، قالت: أما السابق، فمن مضى في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهد له بالجنة. وأما المقتصد فمن تبع آثارهم، فعمل بمثل عملهم حتى لحق بهم. وأما الظالم لنفسه، فمثلي ومثلك ومن اتبعنا، وكل في الجنة. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود قال: هذه الأمة ثلاثة أثلاث يوم القيامة: ثلث يدخلون الجنة بغير حساب، وثلث يحاسبون حساباً يسيراً، وثلث يجيئون بذنوب عظام إلا أنهم لا يشركوا، فيقول الرب: أدخلوا هؤلاء في سعة رحمتي، ثم قرأ "ثم أورثنا الكتاب" الآية. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر والبيهقي في البعث عن عمر بن الخطاب أنه كان إذا نزع بهذه الآية "ثم أورثنا الكتاب" قال: ألا إن سابقنا سابق، ومقتصدنا ناج وظالمنا مغفور له. وأخرجه العقيلي وابن مردويه والبيقهي في البعث من وجه آخر عنه مرفوعاً. وأخرجه ابن النجار من حديث أنس مرفوعاً. وأخرج الطبراني عن ابن عباس قال: السابق بالخيرات يدخل الجنة بغير حساب، والمقتصد يدخل الجنة برحمة الله، والظالم لنفسه وأصحاب الأعراف يدخلون الجنة بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن عثمان بن عفان أنه نزع بهذه الآية، ثم قال: ألا إن سابقنا أهل جهدنا ، ألا وإن مقتصدنا أهل حضرنا، ألا وإن ظلمنا أهل بدونا. وأخرج سعيد بن منصور والبيهقي في البعث عن البراء بن عازب في قوله: "فمنهم ظالم لنفسه" الآية قال: أشهد على الله أنه يدخلهم جميعاً الجنة. وأخرج الفريابيوابن جرير وابن مردويه عنه قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية " ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا " قال : كلهم ناج وهي هذه الأمة . وأخرج الفريابي وعبد بن حميد عن ابن عباس في الآية قال: هي مثل التي في الواقعة أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة. والسابقون: صنفان ناجيان، وصنف هالك. وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن أبي حاتم والبيهقي عنه في قوله: "فمنهم ظالم لنفسه" قال: هو الكافر، والمقتصد أصحاب اليمين. وهذا المروي عنه رضي الله عنه لا يطابق ما هو الظاهر من النظم القرآني، ولا يوافق ما قدمنا من الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن جماعة من الصحابة. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن عبد الله بن الحرث أن ابن عباس سأكل كعباً عن هذه الآية، فقال نجوا كلهم، ثم قال: تحاكت مناكبهم ورب الكعبة، ثم أعطوا الفضل بأعمالهم، وقد قدمنا عن ابن عباس ما يفيد أن الظالم لنفسه من الناجين، فتعارضت الأقوال عنه. وأخرج الترمذي والحاكم وصححه والبيهقي في البعث عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله: "جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤاً" فقال: إن عليهم التيجان، إن أدنى لؤلؤة منها لتضيء ما بين المشرق والمغرب. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وقالوا الحمد لله" الآية قال: هم قوم في الدنيا يخافون الله ويجتهدون له في العبادة سراً وعلانية، وفي قلوبهم حزن من ذنوب قد سلفت منهم، فهم خائفون أن لا يتقبل منهم هذا الاجتهاد من الذنوب التي سلفت، فعندها " قالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور " غفر لنا العظيم، وشكر لنا القليل من أعمالنا. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عنه في الآية قال: حزن النار.

وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ

ثم لما فرغ سبحانه من ذكر جزاء عباده الصالحين، ذكر جزاء عباده الصالحين فقال: 36- "والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا" أي لا يقضى عليهم بالموت فيموتوا ويستريحوا من العذاب "ولا يخفف عنهم من عذابها" بل " كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب " وهذه الآية هي مثل قوله سبحانه "لا يموت فيها ولا يحيا" قرأ الجمهور فيموتوا بالنصب جواباً للنفي، وقرأ عيسى بن عمر والحسن بإثبات النون. قال المازني: على العطف على يقضى. وقال ابن عطية: هي قراءة ضعيفة ولا وجه لهذا التضعيف بل هي كقوله: "ولا يؤذن لهم فيعتذرون"، "كذلك نجزي كل كفور" أي مثل ذلك الجزاء الفظيع نجزي كل من هو مبالغ في الكفر، وقرأ أبو عمرو "يجزى" على البناء للمفعول.

وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ

37- "وهم يصطرخون فيها" من الصراخ وهو الصياح أي وهم يستغيثون في النار رافعين أصواتهم، والصارخ: المستغيث، ومنه قول الشاعر: كنا إذا ما أتانا صارخ فزع كان الصراخ له قرع الطنابيب "ربنا أخرجنا نعمل صالحاً غير الذي كنا نعمل" أي وهم فيها يصطرخون يقولون: ربنا إلخ. قال مقاتل: هو أنهم ينادون: ربنا أخرجنا نعمل صالحاً غير الذي كنا نعمل، من الشرك والمعاصي، فنجعل الإيمان منا بدل ما كنا عليه من الكفر، والطاعة بدل المعصية، وانتصاب صالحاً على ا،ه صفة لمصدر محذوف: أي عملاً صالحاً، أو صفة لموصوف محذوف: أي نعمل شيئاً صالحا. قيل وزيادة قوله: "غير الذي كنا نعمل" للتحسر على ما عملوه من غير الأعمال الصالحة مع الاعتراف منهم بأن أعمالهم في الدنيا كانت غير صالحه، فأجاب الله سبحانه عليهم بقوله: " أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر " والاستفهام للتقريع والتوبيخ، والواو للعطف على مقدر كما في نظائره، وما نكرة موصوفة: أي أو لم نعمركم عمراً يتمكن من التذكر فيه من تذكر. فقيل هو ستون سنة، وقيل أربعون، وقيل ثماني عشرة سنة. قال بالأول جماعة من الصحابة، وبالثاني الحسن ومسروق وغيرهما. وبالثالث عطاء وقتادة. وقرأ الأعمش ما يذكر بالإدغام "وجاءكم النذير" قال الواحدي: قال جمهور المفسرين: هو النبي صلى الله عليه وسلم. وقال عكرمة وسفيان بن عيينة ووكيع والحسن بن الفضل والفراء وابن جرير: هو الشيب، ويكون معناه على هذا القول: أو لم نعمركم حتى شبتم، وقيل هو القرآن، وقيل الحمى. قال الأزهري: معناه: أن الحمى رسول الموت: أي كأنها تشعر بقدومه وتنذر بمجيئه، والشيب نذير أيضاً، لأنه يأتي في سن الاكتهال، وهو علامة لمفارقة سن الصبا الذي هو سن اللهو واللعب، وقيل هو موت الأهل والأقارب، وقيل هو علامة لمفارقة سن الصبا الذي هو سن اللهو واللعب، وقيل هو موت الأهل والأقارب، وقيل هو كمال العقل، وقيل البلوغ "فذوقوا فما للظالمين من نصير" أي فذوقوا عذاب جهنم، لأنكم لم تعتبروا ولم تتعظوا، فما لكم ناصر يمنعكم من عذاب الله، ويحول بينكم وبينه. وقال مقاتل: فذوقوا العذاب، فما للمشركين من مانع يمنعهم.

إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ

38- "إن الله عالم غيب السموات والأرض" قرأ الجمهور بإضافة عالم إلى غيب، وقرأ جناح بن حبيش بالتنوين ونصب غيب. والمعنى: أنه عالم بكل شيء ومن ذلك أعمال لا تخفى عليه منها خافية، فلو ردكم إلى الدنيا لم تعملوا صالحاً كما قال سبحانه: "ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه" "إنه عليم بذات الصدور" تعليل لما قبله، لأنه إذا علم مضمرات الصدور وهي أخفى من كل شيء علم ما فوقها بالأولى، وقيل هذه الجملة مفسرة للجملة الأولى.

هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا

39- "هو الذي جعلكم خلائف في الأرض" أي جعلكم أمة خالفة لمن قبلها. قال قتادة: خلفاً بعد خلف وقرناً بعد قرن، والخلف: هو التالي للمتقدم، وقيل جعلكم خلفاءه في أرضه "فمن كفر" منكم هذه النعمة "فعليه كفره" أي عليه ضرر كفره، لا يتعداه إلى غيره "ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتاً" أي غضباً وبغضاً "ولا يزيد الكافرين كفرهم إلا خساراً" أي نقصاً وهلاكاً، والمعنى: أن الكفر لا ينفع عند الله حيث لا يزيدهم إلا المقت، ولا ينفعهم في أنفسهم حيث لا يزيدهم إلا الخسار.

قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آَتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا

ثم أمره سبحانه أن يوبخهم ويبكتهم فقال: 40- "قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله" أي أخبروني عن الشركاء الذين اتخذتموهم آلهة وعبدتموهم من دون الله، وجملة "أروني ماذا خلقوا من الأرض" بدل اشتمال من أرأيتم، والمعنى: أخبروني عن شركائكم، أروني أي شيء خلقوا من الأرض؟ وقيل إن الفعلان، وهما أرأيتم و أروني من باب التنازع. وقد أعمل الثاني على ما هو اختيار البصريين، "أم لهم شرك في السموات" أي أم لهم شركة مع الله في خلقها أو ملكها أو التصرف فيها حتى يستحقوا بذلك الشركة في الإلهية "أم آتيناهم كتاباً" أي أم أنزلنا عليهم كتاباً بالشركة " فهم على بينة منه " أي على حجة ظاهرة واضحة من ذلك الكتاب. قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وحفص عن عاصم "بينة" بالتوحيد، وقرأ الباقون بالجمع. قال مقاتل: يقول هل أعطينا كفار مكة كتاباً، فهم على بيان منه بأن مع الله شريكاً. ثم أضرب سبحانه عن هذا إلى غيره فقال: "بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضاً إلا غروراً" أي ما يعد الظالمون بعضهم بعضاً كما يفعله الرؤساء والقادة من المواعيد لأتباعهم إلا غروراً يغرونهم به ويزينونه لهم، وهو الأباطيل التي تغر ولا حقيقة لها، وذلك قولهم: إن هذه الآلهة تنفعهم وتقربهم إلى الله، وتشفه لهم عنده. وقيل إن الشياطين تعد المشركين بذلك، وقيل المراد بالوعد الذي يعد بعضهم بعضاً هو أنهم ينصرون على المسلمين ويغلبونهم.

إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا

وجملة 41- "إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا" مستأنفة لبيان قدرة الله سبحانه، وبديع صنعه بعد بيان ضعف الأصنام وعدم قدرتها على شيء، وقيل المعنى: إن شركهم يقتضي زوال السموات والأرض كقوله: " تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا * أن دعوا للرحمن ولدا " "ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده" أي ما أمسكهما من أحد من بعد إمساكه، أو من بعد زوالهما، والجملة سادة مسد جواب القسم والشرط، ومعنى "أن تزولا" لئلا تزولا، أو كراهة أن تزولا. قال الزجاج: المعنى أن الله يمنع السموات والأرض من أن تزولا، فلا حاجة إلى التقدير. قال الفراء: أي ولو زالتا ما أمسكهما من أحد، قال: وهو مثل قوله: "ولئن أرسلنا ريحاً فرأوه مصفراً لظلوا من بعده يكفرون" وقيل المراد زوالهما يوم القيامة، وجملة "إنه كان حليماً غفوراً" تعليل لما قبلها من إمساكه تعالى للسموات والأرض.

وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا

42- "وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم" المراد قريش، أقسموا قبل أن يبعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم بهذا القسم حين أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم، ومعنى "من إحدى الأمم" يعني المكذبة للرسل، والنذير: النبي، والهدى: الاستقامة، وكانت العرب تتمنى أن يكون منهم رسول كما كان الرسل في بني إسرائيل "فلما جاءهم" ما تمنوه، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو أشرف "نذير" وأكرم مرسل وكان من أنفسهم "ما زادهم" مجيئه "إلا نفوراً" منهم عنه، وتباعداً عن إجابته.

اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا

43- "استكباراً في الأرض" أي لأجل الاستكبار والعتو "و" لأجل " ومكر السيئ " أي مكر العمل السيء، أو مكروا المكر السيء، والمكر هو الحيلة والخداع والعمل القبيح، وأضيف إلى صفته كقوله: مسجد الجامع، وصلاة الأولى وأنث إحدى لكون أمة مؤنة كما قال الأخفش. وقيل المعنى: من إحدى الأمم على العموم، وقيل من الأمم التي يقال لها إحدى الأمم تفضيلاً لها. قرأ الجمهور " ومكر السيئ " بخفض همزة السيء، وقرأ الأعمش وحمزة بسكونها وصلاً. وقد غلط كثير من النحاة هذه القراءة، ونزهوا الأعمش على جلالته أن يقرأ بها، قالوا: وإنما كان يقف بالسكون، فغلط من روى عنه أنه كان يقرأ بالسكون وصلاً، وتوجيه هذه القراءة ممكن، بأن من قرأ بها أجرى الوصل مجرى الوقف كما في قول الشاعر: فاليوم أشرب غير مستحقب إثماً من الله ولا واغل بسكون الباء من أشرب، ومثله قراءة من قرأ "وما يشعركم" بسكون الراء، ومثل ذلك قراءة أبي عمرو "إلى بارئكم" بسكون الهمزة، وغير ذلك كثير. قال أبو علي الفارسي: هذا على إجراء الوصل مجرى الوقف، وقرأ ابن مسعود ومكراً سيئاً " ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله " أي لا تنزل عاقبة السوء إلا بمن أساء. قال الكلبي: يحيق بمعنى يحيط، والحوق الإحاطة، يقال حاق به كذا إذا أحاط به وهذا هو الظاهر من معنى يحيق في لغة العرب، ولكن قطرب فسره هنا بينزل، وأنشد: وقد رفعوا المنية فاستقلت ذراعاً بعد ما كانت تحيق أي تنزل "فهل ينظرون إلا سنة الأولين" أي فهل ينتظرون إلا سنة الأولين: أي سنة الله فيهم بأن ينزل بهؤلاء العذاب كما نزل بأولئك "فلن تجد لسنة الله تبديلاً" أي لا يقدر أحد أن يبدل سنة الله التي سنها بالأمم المكذبة من إنزال عذابه بهم بأن يضع موضعه غيره بدلاً عنه "ولن تجد لسنة الله تحويلاً" بأن يحول ما جرت به سنة الله من العذاب فيدفعه عنهم ويضعه على غيرهم، ونفي وجدان التبديل والتحويل عبارة عن نفي وجودهما.

أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا

44- " أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم " هذه الجملة مسوقة لتقرير معنى ما قبلها وتأكيده: أي ألم يسيروا في الأرض فينظروا ما أنزلنا بعاد وثماد ومدين وأمثالهم من العذاب لما كذبوا الرسل، فإن ذلك هو من سنة الله في المكذبين التي لا تبدل ولا تحول، وآثار عذابهم وما أنزل الله بهم موجودة في مساكنهم ظاهرة في منازلهم "و" الحال أن أولئك "كانوا أشد منهم قوة" وأطول أعماراً وأكثر أموالاً وأقوى أبداناً "وما كان الله ليعجزه من شيء في السموات ولا في الأرض" أي ما كان ليسبقه ويفوته من شيء من الأشياء كائناً ما كان فيهما "إنه كان عليماً قديراً" أي كثير العلم وكثير القدرة لا يخفى عليه شيء ولا يصعب عليه أمر.

وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا

45- "ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا" من الذنوب وعملوا من الخطايا "ما ترك على ظهرها" أي الأرض "من دابة" من الدواب التي تدب كائنة ما كانت، أما بنو آدم فلذنوبهم، وأما غيرهم فلشؤم معاصي بني آدم. وقيل المراد ما ترك على ظهر الأرض من دابة تدب من بني آدم والجن، وقد قال بالأول ابن مسعود وقتادة، وقال بالثاني الكلبي. وقال ابن جريج والأخفش والحسين بن الفضل: أراد بالدابة هنا الناس وحدهم دون غيرهم "ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى" وهو يوم القيامة " فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا " أي بمن يستحق منهم الثواب ومن يستحق منهم العقاب، والعامل في إذا، هو: جاء إلى بصيراً، وفي هذا تسلية للمؤمنين ووعيد للكافرين. وقد أخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في السنن عن ابن عباس في قوله: " أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر " قال: ستين سنة. وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الشعب عنه أن النبي صلى الله علهي وسلم قال: "إذا كان يوم القيامة قيل أين أبناء الستين؟ وهو العمر الذي قال الله: أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر" وفي إسناده إبراهيم بن الفضل المخزومي، وفيه مقال. وأخرج أحمد وعبد بن حميد والبخاري والنسائي والبزار وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وابن مردويه والبيهقي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعذر الله إلى امرئ أخر عمره حتى بلغ ستين سنة". وأخرج عبد بن حميد والطبراني والحاكم وابن مردويه عن سهل بن سعد مرفوعاً نحوه. وأخرج ابن جرير عن علي بن أبي طالب قال: العمر الذي عيرهم الله به ستون سنة. وأخرج الترمذي وابن ماجه والحاكم وابن المنذر والبيهقي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين وأقلهم من يجوز ذلك". قال الترمذي بعد إخراجه: حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، ثم أخرجه في موضع آخر من كتاب الزهد وقال: هذا حديث حسن غريب من حديث أبي صالح عن أبي هريرة، وقد روي من غير وجه عنه. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس في هذه الآية قال: هو ست وأربعون سنة. وأخرج ابن جرير عنه أيضاً قال: العمر الذي أعذر الله إلى ابن آدم فيه بقوله: " أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر " أربعون سنة. وأخرج أبو يعلى وابن جرير وابن أبي حاتم والدارقطني في الإفراد وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات والخطيب في تاريخه عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر: "قال وقع في نفس موسى هل ينام الله عز وجل؟ فأرسل الله إليه ملكاً فأرقه ثلاثاً وأعطاه قارورتين في كل يد قارورة، وأمره أن يحتفظ بهما، فجعل ينام وتكاد يداه تلتقيان ثم يستيقظ فيحبس إحداهما على الأخرى حتى نام نومة فاصفقت يداه وانكسرت القارورتان. قال: ضرب الله له مثلاً إن الله تبارك وتعالى لو كان ينام لم تستمسك السماء والأرض". وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عبد الله بن سلام أن موسى قال: يا جبريل هل ينام ربك؟ فذكر نحوه. وأخرج أبو الشيخ في العظمة والبيهقي عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه أن موسى فذكره نحوه. وأخرج الفريابي وابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال: إنه كاد الجعل ليعذب في جحره بذنب ابن آدم ثم قرأ "ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم" الآية.


1-الفاتحة 2-البقرة 3-آل-عمران 4-النساء 5-المائدة 6-الأنعام 7-الأعراف 8-الأنفال 9-التوبة 10-يونس 11-هود 12-يوسف 13-الرعد 14-إبراهيم 15-الحجر 16-النحل 17-الإسراء 18-الكهف 19-مريم 20-طه 21-الأنبياء 22-الحج 23-المؤمنون 24-النور 25-الفرقان 26-الشعراء 27-النمل 28-القصص 29-العنكبوت 30-الروم 31-لقمان 32-السجدة 33-الأحزاب 34-سبأ 35-فاطر 36-يس 37-الصافات 38-ص 39-الزمر 40-غافر 41-فصلت 42-الشورى 43-الزخرف 44-الدخان 45-الجاثية 46-الأحقاف 47-محمد 48-الفتح 49-الحجرات 50-ق 51-الذاريات 52-الطور 53-النجم 54-القمر 55-الرحمن 56-الواقعة 57-الحديد 58-المجادلة 59-الحشر 60-الممتحنة 61-الصف 62-الجمعة 63-المنافقون 64-التغابن 65-الطلاق 66-التحريم 67-الملك 68-القلم 69-الحاقة 70-المعارج 71-نوح 72-الجن 73-المزمل 74-المدثر 75-القيامة 76-الإنسان 77-المرسلات 78-النبأ 79-النازعات 80-عبس 81-التكوير 82-الانفطار 83-المطففين 84-الانشقاق 85-البروج 86-الطارق 87-الأعلى 88-الغاشية 89-الفجر 90-البلد 91-الشمس 92-الليل 93-الضحى 94-الشرح 95-التين 96-العلق 97-القدر 98-البينة 99-الزلزلة 100-العاديات 101-القارعة 102-التكاثر 103-العصر 104-الهمزة 105-الفيل 106-قريش 107-الماعون 108-الكوثر 109-الكافرون 110-النصر 111-المسد 112-الإخلاص 113-الفلق 114-الناس