هي مكية وآياتها مائة وخمس وثلاثون آية. قال القرطبي: مكية في قول الجميع. وأخرج النحاس وابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت سورة طه بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. وأخرج الدارمي وابن خزيمة في التوحيد، والعقيلي في الضعفاء، والطبراني في الأوسط، وابن عدي وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تبارك وتعالى قرأ طه ويس قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي عام، فلما سمعت الملائكة القرآن قالت: طوبى لأمة ينزل عليها هذا، وطوبى لأجواف تحمل هذا، وطوبى لألسنة تكلمت بهذا". قال ابن خزيمة بعد إخراجه: حديث غريب، وفيه نكارة، وإبراهيم بن مهاجر وشيخه تكلم فيهما، يعني إبراهيم بن مهاجر بن سمار وشيخه عمر بن حفص بن ذكوان وهما من رجال إسناده. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أعطيب السورة التي ذكرت فيها الأنعام من الذكر الأول، وأعطيت سورة طه والطواسين من ألواح موسى، وأعطيت فواتح القرآن وخواتيم البقرة من تحت العرش، وأعطيت المفصل نافلة". وأخرج ابن مردويه عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل قرآن يوضع عن أهل الجنة فلا يقرأون منه شيئاً إلا سورة طه ويس، فإنهم يقرأون بهما في الجنة". وأخرج الدارقطني في سننه عن أنس بن مالك، فذكر قصة عمر بن الخطاب مع أخته وخباب وقراءتهما طه، وكان ذلك بسبب إسلام عمر، والقصة مشهورة في كتب السير. قوله: 1- "طه" قرأ بإمالة الهاء وفتح الطاء أبو عمرو وابن أبي إسحاق، وأمالهما جميعاً أبو بكر وحمزة والكسائي والأعمش. وقرأهما أبو جعفر وشيبة ونافع بين اللفظين، واختار هذه القراءة أبو عبيد. وقرأ الباقون بالتفخيم. قال الثعلبي: وهي كلها لغات صحيحة فصيحة. وقال النحاس: لا وجه للإمالة عند أكثر أهل العربية لعلتين: الأولى أنه ليس ها هنا ياء ولا كسرة حتى تكون الإمالة، والعلة الثانية أن الطاء من موانع الإمالة. وقد اختلف أهل العلم في معنى هذه الكلمة على أقوال: الأول أنها من المتشابه الذي لا يفهم المراد به، والثاني أنها بمعنى يا رجل في لغة عكل، وفي لغة عك. قال الكلبي: لو قلت لرجل من عك يا رجل لم يجب حتى تقول طه، وأنشد ابن جرير في ذلك: دعوت بطه في القتال فلم يجب فخفت عليه أن يكون موائلاً ويروى مزايلاً، وقيل إنها في لغة عك بمعنى يا حبيبي. وقال قطرب: هي كذلك في لغة طي: أي بمعنى يا رجل، وكذلك قال الحسن وعكرمة. وقيل هي كذلك في اللغة السريانية، حكاه المهدوي. وحكى ابن جرير أنها كذلك في اللغة النبطية، وبه قال السدي وسعيد بن حبين. وحكى الثعلبي عن عكرمة أنها كذلك في لغة الحبشة، ورواه عن عكرمة، ولا مانع من أن تكون هذه الكلمة موضوعة لذلك المعنى في تلك اللغات كلها إذا صح النقل. القول الثالث: أنها اسم من أسماء الله سبحانه. والقول الرابع أنها اسم للنبي صلى الله عليه وسلم. القول الخامس أنها اسم للسورة. القول السادس أنها حروف مقطعة يدل كل واحد منها على معنى. ثم اختلفوا في هذه المعاني التي تدل عليها هذه الحروف على أقوال كلها متكلفة متعسفة. القول السابع أن معناها طوبى لمن اهتدى. القول الثامن أن معناها: طإ الأرض يا محمد. قال ابن الأنباري: وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتحمل مشقة الصلاة حتى كادت قدماه تتورم ويحتاج إلى التروح، فقيل له طإ الأرض: أي لا تتعب حتى تحتاج إلى التروح. وحكى القاضي عياض في الشفاء عن الربيع بن أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى قام على رجل ورفع الأخرى، فأنزل الله "طه" يعني طإ الأرض يا محمد، وحكي عن الحسن البصري أنه قرأ طه على وزن دع أمر بالوطء، والأصل طأ فقلبت الهمزة هاء. وقد حكي الواحدى عن أكثر المفسرين أن هذه الكلمة معناها: يا رجل، يريد النبي صلى الله عليه وسلم قال: وهو قول الحسن وعكرمة وسعيد بن جبير والضحاك وقتادة ومجاهد وابن عباس في رواية عطاء والكلبي غير أن بعضهم يقول: هي بلسان الحبشة والنبطية والسريانية، ويقول الكلبي: هي بلغة عك. قال ابن الأنباري: ولغة قريش وافقت تلك اللغة في هذا المعنى، لأن الله سبحانه لم يخاطب نبيه بلسان غير قريش انتهى. وإذا تقرر أنها لهذا المعنى في لغة من لغات العرب كانت ظاهرة المعنى واضحة الدلالة خارجة عن فواتح السور التي قدمنا بيان كونها من المتشابه في فاتحة سورة البقرة، وهكذا إذا كانت لهذا المعنى في لغة من لغات العجم واستعملها العرب في كلامها في ذلك المعنى كسائر الكلمات العجمية التي استعملتها العرب الموجودة في الكتاب العزيز، فإنها صارت بذلك الاستعمال من لغة العرب.
وجملة 2- "ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى" مستأنفة مسوقة لتسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم عما كان يعتريه من جهة المشركين من التعب، والشقاء يجيء في معنى التعب. قال ابن كيسان: وأصل الشقاء في اللغة العناء والتعب، ومنه قول الشاعر: ذو العقل يشقى في النعيم بعقله وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم والمعنى: ما أنزلنا عليك القرآن لتتعب بفرط تأسفك عليهم وعلى كفرهم، وتحسرك على أن يؤمنوا، فهو كقوله سبحانه: "فلعلك باخع نفسك" قال النحاس: بعض النحويين يقول: هذه اللام في "لتشقى" لام النفي، وبعضهم يقول لام الجحود. وقال ابن كيسان: هي لام الخفض، وهذا التفسير للآية هو على قول من قال إن طه كسائر فواتح السور التي ذكرت تعديداً لأسماء الحروف، وإن جعلت إسماً للسورة كان قوله: "ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى" خبراً عنها، وهي في موضع المبتدإ، وأما على قول من قال: إن معناها يا رجل، أو بمعنى الأمر بوطء الأرض فتكون الجملة مستأنفة لصرفه صلى الله عليه وسلم عما كان عليه من المبالغة في العبادة.
وانتصاب 3- "إلا تذكرة" على أنه مفعول له لـ "أنزلنا" كقولك: ما ضربتك للتأديب إلا إشفاقاً عليك. وقال الزجاج: هو بدل من لتشقى: أي ما أنزلناه إلا تذكرة. وأنكره أبو علي الفارسي من جهة أن التذكرة ليست بشقاء، قال: وإنما هو منصوب على المصدرية: أي أنزلناه لتذكر به تذكرة، أو على المفعول من أجله: أي ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى به، ما أنزلناه إلا للتذكرة.
وانتصاب 4- "تنزيلاً ممن خلق الأرض والسموات العلى" على المصدرية: أي أنزلناه تنزيلاً، وقيل بدل من قوله تذكرة، وقيل هو منصوب على المدح، وقيل منصوب ب"يخشى": أي يخشى تنزيلاً من الله على أنه مفعول به، وقيل منصوب على الحال بتأوله باسم الفاعل. وقرأ أبو حيوة الشامي تنزيل بالرفع على معنى هذا تنزيل، وممن خلق متعلق بتنزيلاً، أو بمحذوف هو صفة له، وتخصيص خلق الأرض والسموات لكونهما أعظم ما يشاهده العباد من مخلوقاته عز وجل، والعلى: جمع العليا: أي المرتفعة كجمع كبرى وصغرى على كبر وصغر. ومعنى الآية إخبار العباد عن كمال عظمته سبحانه وعظيم جلاله.
وارتفاع 5- "الرحمن" على أنه خبر مبتدأ محذوف كما قال الأخفش، ويجوز أن يكون مرتفعاً على المدح أو على الابتداء. وقرئ بالجر، قال الزجاج على البدل ممن، وجوز النحاس أن يكون مرتفعاً على البدل من المضمر في خلق، وجملة "على العرش استوى" في محل رفع على أنها خبر لمبتدإ محذوف، أو على أنها خبر الرحمن عند من جعله مبتدأ. قال أحمد بن يحيى: قال ثعلب: الاستواء الإقبال على الشيء، وكذا قال الزجاج والفراء. وقيل هو كناية عن الملك والسلطان، والبحث في تحقيق هذا يطول، وقد تقدم البحث عنه في الأعراف. والذي ذهب إليه أبو الحسن الأشعري أنه سبحانه مستو على عرشه بغير حد ولا كيف، وإلى هذا القول سبقه الجماهير من السلف الصالح الذي يروون الصفات كما وردت من دون تحريف ولا تأويل.
6- "له ما في السموات وما في الأرض" أي أنه مالك كل شيء ومدبره "وما بينهما" من الموجودات "وما تحت الثرى" الثرى في اللغة التراب الندي: أي ما تحت التراب من شيء. قال الواحدي: والمفسرون يقولون إنه سبحانه أراد الثرى الذي تحت الصخرة التي عليها الثور الذي تحت الأرض ولا يعلم ما تحت الثرى إلا الله سبحانه.
7- "وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى" الجهر بالقول هو رفع الصوت به والسر ما حدث به الإنسان غيره وأسره إليه، والأخفى من السر هو ما حدث به الإنسان نفسه وأخطره بباله. والمعنى: إن تجهر بذكر الله ودعائه فاعلم أنه غني عن ذلك، فإنه يعلم السر وما هو أخفى من السر، فلا حاجة لك إلى الجهر بالقول، وفي هذا معنى النهي عن الجهر كقوله سبحانه: "واذكر ربك في نفسك تضرعاً وخيفة" وقيل السر ما أسر الإنسان في نفسه، والأخفى منه هو ما خفي على ابن آدم مما هو فاعله وهو لا يعلمه، وقيل السر ما أضمره الإنسان في نفسه، والأخفى منه ما لم يكن ولا أضمره أحد، وقيل السر سر الخلائق، والأخفى منه سر الله عز وجل، وأنكر ذلك ابن جرير وقال: إن الأخفى ما ليس في سر الإنسان وسيكون في نفسه.
ثم ذكر ان الموصوف بالعبادة على الوجه المذكور هو الله سبحانه المنزه عن الشريك المستحق لتسميته بالأسماء الحسنى فقال: 8- "الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى" فالله خبر مبتدإ محذوف: أي الموصوف بهذه الصفات الكمالية الله، وجملة لا إله إلا هو مستأنفة لبيان اختصاص الإلهية به سبحانه: أي لا إله في الوجود إلا هو، وهكذا جملة له الأسماء الحسنى مبينة لاستحقاقه تعالى للأسماء الحسنى، وهي التسعة والتسعى التى ورد بها الحديث الصحيح. وقد تقدم بيانها في قوله سبحانه: "ولله الأسماء الحسنى" من سورة الأعراف، والحسنى تأنيث الأحسن، والأسماء مبتدأ وخبرها الحسنى، ويجوز أن يكون الله مبتدأ وخبره الجملة التي بعده، ويجوز أن يكون بدلاً من الضمير في يعلم.
ثم قرر سبحانه أمر التوحيد بذكر قصة موسى المشتملة على القدرة الباهرة، والخبر الغريب، فقال: 9- "وهل أتاك حديث موسى" الاستفهام للتقرير، ومعناه: أليس قد أتاك حديث موسى، وقيل معناه: قد أتاك حديث موسى، وقال الكلبي: لم يكن قد أتاه حديث موسى إذ ذاك. وفي سياق هذه القصة تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم لما يلاقيه من مشاق أحكام النبوة، وتحمل أثقالها ومقاساة خطوبها، وأن ذلك شأن الأنبياء قبله. والمراد بالحديث القصة الواقعة لموسى.
و 10- "إذ رأى ناراً" ظرف للحديث، وقيل العامل فيه مقدر: أي اذكر، وقيل يقدر مؤخراً: أي حين رأى ناراً كان كيت وكيت، وكانت رؤيته للنار في ليلة مظلمة لما خرج مسافراً إلى أمه بعد استئذانه لشعيب فـ لما رآه "قال لأهله امكثوا" والمراد بالأهل هنا امرأته، والجمع لظاهر لفظ الأهل أو للتفخيم، وقيل المراد بهم المرأة والولد والخادم، ومعنى امكثوا أقيموا مكانكم، وعبر بالمكث دون الإقامة، لأن الإقامة تقتضي الدوام، والمكث ليس كذلك. وقرأ حمزة "لأهله" بضم الهاء، وكذا في القصص. قال النحاس وهذا على لغة من قال: مررت بهو يا رجل فجاء به على الأصل وهو جائز إلا أن حمزة خالف أصله في هذه الموضعين خاصة "إني آنست ناراً" أي أبصرت، يقال آنست الصوت سمعته، وآنست الرجل أبصرته. وقيل الإيناس الإبصار البين، وقيل الإيناس مختص بإبصار ما يؤنس، والجملة تعليل للأمر بالمكث، ولما كان الإتيان بالقبس، ووجود الهدى متوقعين بين الأمر على الرجاء فقال: "لعلي آتيكم منها بقبس" أي أجيئكم من النار بقبس، والقبس شعلة من النار، وكذا المقباس، يقال قبست منه ناراً أقبس قبساً فأقبسني: أي أعطاني وكذا اقتبست. قال اليزيدي: أقبست الرجل علماً وقبسته ناراً، فإن كنت طلبتها له قلت أقبسته. وقال الكسائي: أقبسته ناراً وعلماً سواء، قال: وقبسته أيضاً فيهما "أو أجد على النار هدىً" أي هادياً يهديني إلى الطريق ويدلني عليها. قال الفراء: أزاد هادياً، فذكره بلفظ المصدر، أو عبر بالمصدر لقصد المبالغة على حذف المضاف: أي ذا هدى، وكلمة: أو في الموضعين لمنع الخلو دون الجمع، وحرف الاستعلاء للدلالة على أن أهل النار مستعلون على أقرب مكان إليها.
11- "فلما أتاها نودي" أي فلما أتى النار التي آنسها "نودي" من الشجرة، كما هو مصرح بذلك في سورة القصص: أي من جهتها.
ومن ناحيتها 12- " يا موسى * إني أنا ربك " أي نودي فقيل يا موسى. وقرأ أبو عمرو وابن كثير وأبو جعفر وابن محيصن وحميد واليزيدي "أني" بفتح الهمزة. وقرأ الباقون بكسرها: أي بأني "فاخلع نعليك" أمره الله سبحانه بخلع نعليه، لأن ذلك أبلغ في التواضع، وأقرب إلى التشريف والتكريم وحسن التأدب. وقيل إنهما كانا من جلد حمار غير مدبوغ، وقيل معنى الخلع للنعلين: تفريغ القلب من الأهل والمال، وهو من بدع التفاسير. ثم علل سبحانه الأمر بالخلع فقال: "إنك بالواد المقدس طوى" المقدس المطهر، والقدس الطهارة، والأرض المقدسة المطهرة، سميت بذلك لأن الله أخرج منها الكافرين وعمرها بالمؤمنين، وطوى اسم للوادي. قال الجوهري: وطوى اسم موضع بالشام بكسر طاؤه ويضم، ويصرف ولا يصرف، فمن صرفه جعله اسم واد ومكان وجعله نكرة ومن لم يصرفه جعله بلدة، وبقعة وجعله معرفة، وقرأ عكرمة طوى بكسر الطاء، وقرأ الباقون بضمها. وقيل إن طوى كثنى من الطي مصدر لنودي، أو للمقدس: أي نودي نداءين، أو قدس مرة بعد أخرى.
13- "وأنا اخترتك" قرأ أهل المدينة، وأهل مكة وأبو عمرو وابن عامر وعاصم والكسائي "وأنا اخترتك" بالإفراد. وقرأ حمزة " وأنا اخترتك " بالجمع. قال النحاس: والقراءة الأولى أولى من جهتين: إحداهما أنها أشبه بالخط، والثانية أنها أولى بنسق الكلام لقوله: " يا موسى * إني أنا ربك "، ومعنى اخترتك اصطفيتك للنبوة والرسالة، والفاء في قوله: "فاستمع لما يوحى" لترتيب ما بعدها على ما قبلها وما موصولة أو مصدرية أي فاستمع للذي يوحى إليك، أو للوحي.
وجملة 14- "إنني أنا الله" بدل من ما في لما يوحى. ثم أمره سبحانه بالعبادة فقال: " فاعبدني " والفاء هنا كالفاء التي قبلها لأن اختصاص الإلهية به سبحانه موجب لتخصيصه بالعبادة "وأقم الصلاة لذكري" خص الصلاة بالذكر مع كونها داخلة تحت الأمر بالعبادة، لكونها أشرف طاعة وأفضل عبادة، وعلل الأمر بإقامة الصلاة بقوله "لذكري": أي لتذكرني فإن الذكر الكامل لا يتحقق إلا في ضمن العبادة والصلاة، أو المعنى لتذكرني فيهما لاشتمالهما على الأذكار، أو المعنى: أقم الصلاة متى ذكرت أن عليك صلاة. وقيل المعنى: لأذكرك بالمدح في عليين، فالمصدر على هذا يحتمل الإضافة إلى الفاعل أو إلى المفعول.
وجملة 15- "إن الساعة آتية" تعليل لما قبلها من الأمر: أي إن الساعة التي هي وقت الحساب والعقاب آتية، فاعمل الخير من عبادة الله والصلاة. ومعنى "أكاد أخفيها" مختلف فيه. قال الواحدي: قال أكثر المفسرين: أخفيها من نفسي، وهو قول سعيد بن جبير ومجاهد وقتادة. وقال المبرد وقطرب: هذا على عادة مخاطبة العرب يقولون إذاً بالغوا في كتمان الشيء كتمته حتى من نفسي: أي لم أطلع عليه أحداً، ومعنى الآية أن الله بالغ في إخفاء الساعة، فذكره بأبلغ ما تعرفه العرب. وقد روي سعيد بن جبير أنه قرأ أخفيها بفتح الهمزة ومعناه أظهرها، وكذا روى أبو عبيدة عن الكسائي عن محمد بن سهل عن وفاء بن إياس عن سعيد بن جبير. قال النحاس: وليس لهذه الرواية طريق غير هذا. قال القرطبي: وكذا رواه ابن الأنباري في كتاب الرد قال: حدثني أبي حدثنا محمد بن الجهم، حدثنا الفراء حدثنا الكسائي فذكره. قال النحاس: وأجود من هذا الإسناد ما رواه يحيى القطان عن الثوري عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير أنه قرأ أخفيها بضم الهمزة. قال ابن الأنباري: قال الفراء: ومعنى قراءة الفتح أكاد أظهرها، من خفيت الشيء إذا أظهرته أخفيه. قال القرطبي: وقد قال بعض اللغويين: يجوز أن يكون أخفيها بضم الألف معناه أظهرها، لأنه يقال خفيت الشيء وأخفيته من حروف الأضداد يقل على الستر والإظهار. قال أبو عبيدة: خفيت وأخفيت بمعنى واحد. قال النحاس: وهذا حسن، وقد أنشد الفراء وسيبويه ما يدل على أن معنى أخفاه أظهر، وذلك قول امريء القيس: فإن تكتموا الداء لا نخفه وإن تبعثوا الحرب لا نقعد أي: وإن تكتموا الداء لا نظهره. وقد حكى أبو عبيدة عن أبي الخطاب أنه بضم النون من نخفه، وقال: امرؤ القيس: خفاهن من أنفاقهن كأنما خطاهن ودق من غشي مخلب أي: أظهرهن. وقد زيف النحاس هذا القول وقال: ليس المعنى على أظهرها، ولا سيما وأخفيها قراءة شاذة، فكيف ترد القراءة الصحيحة الشائعة. وقال ابن الأنباري: في الآية تفسير آخر، وهو أن الكلام ينقطع على أكاد، ويعده مضمر: أي أكاد آتي بها، ووقع الابتداء بأخفيها " لتجزى كل نفس بما تسعى"، ومثله قول عمير ابن ضابيء البرجمي: هممت ولم أفعل وكدت وليتني تركت على عثمان تبكي حلائله أي وكدت أفعل، واختار هذا النحاس. وقال أبو علي الفارسي: هو من باب السلب وليس الأضداد، ومعنى أخفيها: أزيل عنها خفاءها، وهو سترها، ومن هذا قولهم أشكيته: أي أزلت شكواه. وحكى أبو حاتم عن الأخفش أن أكاد زائدة للتأكيد، قال: ومثله- إذا أخرج يده لم يكد يراها- ومثله قول الشاعر: سريع إلى الهيجاء شاك سلاحه فما أن يكاد قرنه يتنفس قال: والمعنى أكاد أخفيها: أي أقارب ذلك، لأنك إذا قلت: كاد زيد يقوم جاز أن يكون قام وأن يكون لم يقم، ودل على أنه أخفاها بدلالة غير هذه الآية على هذا، وقوله: "لتجزى كل نفس بما تسعى" متعلق بآتية، أو بأخفيها، وما مصدرية: أي لتجزئ كل نفس بسعيها، والسعي وإن كان ظاهراً في الأفعال، فهو هنا يعم الأفعال والتروك، للقطع بأن تارك ما يجب عليه معاقب بتركه مأخوذ به.
16- "فلا يصدنك عنها" أي لا يصرفنك عن الإيمان بالساعة، والتصديق بها، أو عن ذكرها ومراقبتها "من لا يؤمن بها" من الكفرة، وهذا النهي وإن كان للكافر بحسب الظاهر، فهو في الحقيقة نهي له صلى الله عليه وسلم عن الانصداد، أو عن إظهار اللين للكافرين فهو من باب: لا أرينك ها هنا، كما هو معروف. وقيل الضمير في عنها للصلاة وهو بعيد، وقوله: "واتبع هواه" معطوف على ما قبله: أي من لا يؤمن، ومن اتبع هواه: أي هوى نفسه بالانهاك في اللذات الحسية الفانية "فتردى" أي فتهلك لأن انصدادك عنها بصد الكفارين لك مستلزم للهلاك ومستتبع له. وقد أخرج ابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في الشعب وابن عساكر عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم "وأول ما نزل عليه الوحي كان يقوم على صدر قدميه إذا صلى، فأنزل الله " طه * ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى "". وأخرج ابن جرير وابن مردويه عنه قال: قالوا لقد شقي هذا الرجل بربه، فأنزل الله هذه الآية. وأخرج ابن عساكر عنه أيضاً قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يربط نفسه بحبل لئلا ينام، فأنزل الله هذه الآية. وأخرج البزار عن علي قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يراوح بين قدميه يقوم على كل رجل حتى نزلت: "ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى" وحسن السيوطي إسناده. وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً بأطول منه. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ربما قرأ القرآن إذا صلى، فقام على رجل واحدة، فأنزل الله "طه" برجليك فما أنزلنا عليك القرآن لتشقى. وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عنه في قوله: "طه" قال: يا رجل. وأخرج الحارث بن أبي أسامة وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: "طه" بالنبطية. أي طأ يا رجل. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه أيضاً قال: هو كقولك اقعد. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عنه قال: "طه" بالنبطية يا رجل. وأخرج ابن جرير عنه قال "طه" يا رجل بالسريانية. وأخرج الحاكم عنه أيضاً قال: "طه" هو كقولك يا محمد بلسان الحبش. وفي هذه الروايات عن ابن عباس اختلاف وتدافع. وأخرج ابن مردويه عن أبي الطفيل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لي عند ربي عشرة أسماء، قال أبو طفيل: حفظت منها ثمانية: محمد، وأحمد، وأبو القاسم، والفاتح، والخاتم، والماحي، والعاقب، والحاشر" وزعم سيف أن أبا جعفر قال له: الاسمان الباقيان طه ويس. وأخرج البيهقي في الدلائل عن ابن عباس في قوله: " طه * ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى " قال: يا رجل ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى، وكان يقوم اللليل على رجليه فهي لغة لعك إن قلت لعكي يا رجل لم يلتفت، وإذا قلت طه التفت إليك. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال: "طه" قسم أقسم الله به، وهو من أسمائه. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "وما تحت الثرى" قال: الثرى كل شيء مبتل. وأخرج أبو يعلى عن جابر "أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل ما تحت هذه الأرض؟ قال: الماء، قيل: فما تحت الماء؟ قال: ظلمة، قيل: فما تحت الظلمة؟ قال: الهواء قيل: فما تحت الهواء؟ قال: الثرى، قيل: فما تحت الثرى؟ قال: انقطع علم المخلوقين عند علم الخالق". وأخرج ابن مردويه عنه نحوه بأطول منه. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله: " يعلم السر وأخفى " قال: السر ما أسره ابن آدم في نفسه وأخفى ما خفي عن ابن آدم مما هو فاعله قبل أن يعلمه، فإنه يعلم ذلك كله فيما مضى من ذلك وما بقي علم واحد وجميع الخلائق عنده في ذلك كنفس واحدة وهو كقوله: " ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة " وأخرج الحاكم وصححه عنه في الآية قال: السر ما علمته أنت، وأخفى ما قذف الله في قلبك مما لم تعلمه. وأخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وأبو الشيخ في العظمة والبيهقي بلفظ يعلم ما تسر في نفسك ويعلم ما تعمل غداً. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "أو أجد على النار هدى" يقول: من يدل على الطريق. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن علي في قوله: "فاخلع نعليك" قال: كانتا من جلد حمار ميت فقيل له اخلعهما. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس "إنك بالواد المقدس طوى" قال المبارك، طوى قال اسم الوادي. وأخرج ابن أبي حاتم عنه "بالواد المقدس طوى" يعني الأرض المقدسة، وذلك أنه مر بواديها ليلاً فطوى: يقال طويت وادي كذا وكذا. وأخرج ابن جرير عنه أيضاً في قوله: "طوى" قال: طإ الوادي. وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها فليصلها إذا ذكرها، فإن الله قال: "أقم الصلاة لذكري"". وأخرج الترمذي وابن ماجه وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان وابن مردويه من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها، فإن الله قال "أقم الصلاة لذكري"". وكان ابن شهاب يقرأها للذكرى. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "أكاد أخفيها" قال: لا أظهر عليها أحداً غيري. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: "أكاد أخفيها" من نفسي.
قوله: 17- "وما تلك بيمينك يا موسى" قال الزجاج والفراء: إن تلك اسم ناقص وصلت بيمينك: أي ما التي بيمينك؟ وروي عن الفراء أنه قال: تلك بمعنى هذه، ولو قال ما ذلك لجاز: أي ما ذلك الشيء؟ وبالأول قال الكوفيون. قال الزجاج: ومعنى سؤال موسى عما في يده من العصا التنبيه له عليها لتقع المعجزة بها بعد التثبيت فيها والتأمل لها. قال الفراء: ومقصود السؤال تقرير الأمر حتى يقول موسى هي عصاي لتثبيت الحجة عليه بعد ما اعترف، وإلا فقد علم الله ما هي في الأزل، ومحل ما الرفع على الابتداء، وتلك خبره، وبيمينك في محل نصب على الحال إن كانت تلك اسم إشارة على ما هو ظاهر اللفظ، وإن كانت إسماً موصولاً كان بيمينك صلة للموصول.
18- "قال هي عصاي" قرأ ابن أبي إسحاق عصي على لغة هذيل. وقرأ الحسن عصاي بكسر الياء لالتقاء الساكنين "أتوكأ عليها" أي أتحامل عليها في المشي وأعتمدها عند الإعياء والوقوف ومنه الاتكاء "وأهش بها على غنمي" هش بالعصا يهش هشاً: إذا خبط بها الشجر ليسقط منه الورق. قال الشاعر: أهش بالعصا على أغنامي من ناعم الأوراك والسنام وقرأ النخعي أهس بالسين المهملة، وهو زجر الغنم، وكذا قرأ عكرمة، وقيل هما لغتان لمعنى واحد "ولي فيها مآرب أخرى" أي حوائج واحدها مأربة ومأربة ومأربة مثلث الراء، كذا قال ابن الأعرابي وقطرب، ذكر تفصيل منافع العصا، ثم عقبه بالإجمال. وقد تعرض قوم لتعداد منافع العصا فذكروا من ذلك أشياء: منها قول بعض العرب: عصاي أركزها لصلاتي، وأعدها لعداتي، وأسوق بها دابتي، وأقوى بها على سفري، وأعتمد بها في مشيتي، ليتسع خطوي، وأثب بها النهر، وتؤمنني العثر، وألقي عليها كسائي، فتقيني الحر، وتدفيني من القر، وتدني إلي ما بعد مني وهي تحمل سفرتي، وعلاقة إداوتي، أعصي بها عند الضراب، وأقرع بها الأبواب، وأقي بها عقور الكلاب، وتنوب عن الرمح في الطعان، وعن السيف عند منازلة الأقران، ورثتها عن أبي وأورثها بعدي بني انتهى. وقد وقفت على مصنف في مجلد لطيف في منافع العصا لبعض المتأخرين، وذكر فيه أخباراً وأشعاراً وفوائد لطيفة ونكتاً رشيقة. وقد جمع الله سبحانه لموسى في عصاه من البراهين العظام والآيات الجسام ما أمن به مون كيد السحرة ومعرة المعاندين، واتخذها سليمان لخطبته وموعظته وطول صلاته، وكان ابن مسعود صاحب عصا النبي صلى الله عليه وسلم وعنزته وكان يخطب بالقضيب وكذلك الخلفاء من بعده، وكان عادة العرب العرباء أخذ العصا والاعتماد عليها عند الكلام، وفي المحافل والخطب.
19- "قال ألقها يا موسى" هذه جملة مستأنفة جواب سؤال مقدر، أمره سبحانه بإلقائها ليريه ما جعل له فيها من المعجزة الظاهرة.
20- "فألقاها" موسى على الأرض "فإذا هي حية تسعى" وذلك بقلب الله سبحانه لأوصافها وأعراضها حتى صارت حية تسعى: أي تمشي بسرعة وخفة، قيل كانت عصا ذات شعبتين فصار الشعبتان فما وباقيها جسم حية تنقل من مكان إلى مكان وتلتقم الحجارة مع عظم جرمها وفظاعة منظرها، فلما رآها كذلك خاف وفزع وولى مدبراً ولم يعقب.
فعند ذلك 21- "قال" سبحانه "خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى" قال الأخفش والزجاج: التقدير إلى سيرتها، مثل: "واختار موسى قومه" قال: ويجوز أن يكون مصدراً، لأن معنى سنعيدها سنسيرها، ويجوز أن يكون المصدر بمعنى اسم الفاعل: أي سائرة، أو بمعنى اسم المفعول: أي مسيرة. والمعنى: سنعيدها بعد أخذك لها إلى حالتها الأولى التي هي العصوبة. قيل إنه لما قيل له لا تخف بلغ من عدم الخوف إلى أن كان يدخل يده في فمها ويأخذ بلحيتها.
22- "واضمم يدك إلى جناحك" قال الفراء والزجاج: جناح الإنسان عضده، وقال قطرب: جناح الإنسان جنبه، وعبر عن الجنب بالجناح لأنه في محل الجناح، وقيل إلى بمعنى مع. أي مع جناحك، وجواب الأمر "تخرج بيضاء" أي تخرج يدك حال كونها بيضاء، ومحل "من غير سوء" النصب على الحال: أي كائنة من غير سوء، والسوء العيب، كنى به عن البرص: أي تخرج بيضاء ساطعاً نورها تضيء بالليل والنهار كضوء الشمس من غير برص، وانتصاب "آية أخرى" على الحال أيضاً: أي معجزة أخرى غير العصا. وقال الأخفش: إن آية منتصبة على أنها بدل من بيضاء. قال النحاس وهو قول حسن. وقال الزجاج: المعنى آتيناك أو نؤتيك آية أخرى لأنه لما قال "تخرج بيضاء" دل على أنه قد آتاه آية أخرى.
ثم علل سبحانه ذلك بقوله: 23- "لنريك من آياتنا الكبرى" قيل والتقدير: فعلنا ذلك لنريك، ومن آياتنا متعلق بمحذوف وقع حالاً، والكبرى معناها العظمى، وهو صفة لموصوف محذوف، والتقدير: لنريك من آياتنا الكبرى: أي لنريك بهاتين الآيتين يعني اليد والعصا بعض آياتنا الكبرى، فلا يلزم أن تكون اليد هي الآية الكبرى وحدها حتى تكون أعظم من العصا، فيرد على ذلك أنه لم يكن في اليد إلا تغير اللون فقط بخلاف العصا، فإن فيها مع تغير اللون الزيادة في الحجم وخلق الحياة والقدرة على الأمور الخارقة.
ثم صرح سبحانه بالغرض المقصود من هذه المعجزات فقال: 24- "اذهب إلى فرعون" وخصه بالذكر لأن قومع تبع له، ثم علل ذلك بقوله: "إنه طغى" أي عصى وتكبر وكفر وتجبر وتجاوز الحد.
وجملة 25- "قال رب اشرح لي صدري" مستأنفة جواب سؤال مقدر كأنه قيل فماذا قال؟ ومعنى شرح الصدر توسيعه، تضرع عليه السلام إلى ربه وأظهر عجزه بقوله: " ويضيق صدري ولا ينطلق لساني ".
26- "ويسر لي أمري" ومعنى تيسير الأمر تسهيله.
27- "واحلل عقدة من لساني" يعني العجمة التي كانت فيه من الجمرة التي ألقاها في فيه وهو طفل: أي أطلق عن لساني العقدة التي فيه، قيل أذهب الله سبحانه تلك العقدة جميعها بدليل قوله: " قد أوتيت سؤلك يا موسى " وقيل لم تذهب كلها لأنه لم يسأل حل عقدة لسانه بالكلية، بل سأل حل عقدة تمنع الإفهام بدليل قوله: "من لساني" أي كائنة من عقد لساني، ويؤيد ذلك قوله: "هو أفصح مني لساناً"، وقوله حكاية عن فرعون" ولا يكاد يبين".
وجواب الأمر قوله: 28- "يفقهوا قولي" أي يفهموا كلامي، والفقه في كلام العرب الفهم، ثم خص به علم الشريعة والعالم به فقيه، قاله الجوهري.
29- "واجعل لي وزيراً من أهلي".
29- " واجعل لي وزيرا من أهلي * هارون أخي " الوزير الموازر كالأكيل المواكل لأنه يحمل عن السلطان وزره: أي ثقله: قال الزجاج: واشتقاقه في اللغة من الوزر، وهو الجبل الذي يعتصم به لينجى من الهلكة، والوزير الذي يعتمد الملك على رأيه في الأمور ويلتجئ إليه. وقال الأصمعي: هو مشتق من الموازرة، وهي المعاونة، وانتصاب وزيراً وهارون على أنهما مفعولا اجعل، وقيل مفعولاه: لي وزيراً، ويكون هارون عطف بيان للوزير، والأول أظهر، ويكون لي متعلقاً بمحذوف: أي كائناً لي، ومن أهلي صفة لوزيراً، وأخي بدل من هارون.
قرأ الجمهور 31- "اشدد" بهمزة وصل.
و32- "أشركه" بهمزة قطع كلاهما على صيغة الدعاء: أي يا رب أحكم به قوتي واجعله شريكي في أمر الرسالة، والأزر القوة، يقال آزره: أي قواه، وقيل الظهر: أي اشدد به ظهري. وقرأ ابن عامر ويحيى بن الحارث وأبو حيوة والحسن وعبد الله بن أبي إسحاق " اشدد " بهمزة قطع "وأشركه" بضم الهمزة أي أشدد أنا به أزري وأشركه أنا في أمري. قال النحاس: جعلوا الفعلين في موضع جزم جواباً لقوله اجعل لي وزيراً، وقرأ بفتح الياء من "أخي" ابن كثير وأبو عمرو.lv hg
33- "كي نسبحك كثيراً".
34- " كي نسبحك كثيرا * ونذكرك كثيرا " هذا التسبيح والذكر هما الغاية من الدعاء المتقدم، والمراد التسبيح هنا باللسان، وقيل المراد به الصلاة، وانتصاب كثيراً في الموضعين على أنه نعت مصدر محذوف، أو لزمان محذوف.
35- "إنك كنت بنا بصيراً" البصير المبصر والبصير العالم بخفيات الأمور، وهو المراد هنا: أي إنك كنت بنا عالماً في صغرنا فأحسنت إلينا فأحسن إلينا أيضاً كذلك الآن. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في عصا موسى قال: أعطاه إياها ملك من الملائكة إذ توجه إلى مدين فكانت تضيء له بالليل، ويضرب بها الأرض فتخرج له النبات، ويهش بها على غنمه ورق الشجر. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله: "وأهش بها على غنمي" قال: أضرب بها الشجر فيتساقط منه الورق على غنمي، وقد روي نحو هذا عن جماعة من السلف. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم في قوله : " ولي فيها مآرب " قال : حوائج. وأخرج ابن أبي شيبه وعبد بن حميد وابن المنذر و ابن أبي حاتم عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي نحوه. وأخرج أيضاً عن قتادة قال: كانت تضيء له بالليل، وكانت عصا آدم عليه السلام. وأخرج أيضاً عن ابن عباس في قوله: "فألقاها فإذا هي حية تسعى" قال: ولم تكن قبل ذلك حية فمرت بشجرة فأكلتها، ومرت بصخرة فابتلعتها، فجعل موسى يسمع وقع الصخرة في جوفها فولى مدبراً فنودي أن يا موسى خذها، فلم يأخذها، ثم نودي الثانية أن خذها ولا تخف، فقيل له في الثالثة: إنك من الآمنين فأخذها. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه "سنعيدها سيرتها الأولى" قال: حالتها الأولى. وأخرجا عنه أيضاً "من غير سوء" قال من غير برص. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: " واجعل لي وزيرا من أهلي * هارون أخي " قال: كان أكبر من موسى. وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله: "وأشركه في أمري" قال نبئ هارون ساعتئذ حين نبئ موسى.
لما سأل موسى ربه سبحانه أن يشرح له صدره وييسر له أمره ويحلل عقدة من لسانه ويجعل له وزيراً من أهله أخبره الله سبحانه بأنه قد أجاب ذلك الدعاء، فقال: 36- "قد أوتيت سؤلك يا موسى" أي أعطيت ما سألته، والسؤال المسؤول: أي المطلوب كقولك: خبر بمعنى مخبور، وزيادة قوله "يا موسى" لتشريفه بالخطاب مع رعاية الفواصل.
وجملة 37- "ولقد مننا عليك مرة أخرى" كلام مستأنف لتقوية قلب موسى بتذكيره نعم الله عليه، والمن الإحسان والإفضال. والمعنى: ولقد أحسنا إليك مرة أخرى قبل هذه المرة، وهي حفظ الله سبحانه له من شر الأعداء كما بينه سبحانه ها هنا، وأخرى تأنيث آخر بمعنى غير.
38- "إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى" أي مننا ذلك الوقت وهو وقت الإيحاء فإذا ظرف للإيحاء، والمراد بالإيحاء إليها إما مجرد الإلهام لها أو في النوم بأن أراها ذلك أو على لسان نبي أو على لسان ملك، لا على طريق النبوة كالوحي إلى مريم أو بإخبار الأنبياء المتقدمين بذلك وانتهى الخبر إليها، والمراد بـ "ما يوحى" ما سيأتي من الأمر لها، أبهمه أولاً وفسره ثانياً تفخيماً لشأنه.
وجملة 39- "أن اقذفيه في التابوت" مفسرة لأن الوحي فيه معنى القول، أو مصدرية على تقدير بأن اقذفيه، والقذف ها هنا الطرح: أي اطرحيه في التابوت، وقد مر تفسير التابوت في البقرة في قصة طالوت "فاقذفيه في اليم" أي اطرحيه في البحر، واليم: البحر أو النهر الكبير. قال الفراء: هذا أمر وفيه المجازاة: أي اقذفيه يلقه باليم بالساحل والأمر للبحر مبني على تنزيله منزلة من يفهم ويميز، لما كان إلقاؤه إياه بالساحل أمراً واجب الوقوع، والساحل هو شط البحر، سمي ساحلاً لأن الماء سحله قاله ابن دريد، والمراد هنا ما يلي الساحل من البحر لا نفس الساحل، والضمائر هذه كلها لموسى لا للتابوت، وإن كان قد ألقي معه لكن المقصود هو موسى مع كون الضمائر قبل هذا وبعده له، وجملة "يأخذه عدو لي وعدو له" جواب الأمر بالالقاء، والمراد بالعدو فرعون، فإن أم موسى لما ألقته في البحر وهو النيل المعروف، وكان يخرج منه نهر إلى دار فرعون فساقه الله في ذلك النهر إلى داره، فأخذ التابوت فوجد موسى فيه، وقيل إن البحر ألقاه بالساحل فنظره فرعون فأمر من يأخذه، وقيل وجدته ابنة فرعون، والأول أولى "وألقيت عليك محبة مني" أي ألقى الله على موسى محبة كائنة منه تعالى في قلوب عباده لا يراه أحد إلا أحبه، وقيل جعل عليه مسحة من جمال لا يراه أحد من الناس إلا أحبه. وقال ابن جرير: المعنى وألقيت عليك رحمتي: وقيل كلمة من متعلقة بألقيت، فيكون المعنى: ألقيت مني عليك محبة: أي أحببتك، ومن أحبه الله أحبه الناس "ولتصنع على عيني" أي ولتربى وتغذى بمرأى مني، يقال صنع الرجل جاريته: إذا رباها، وصنع فرسه: إذا داوم على علفه والقيام عليه، وتفسير على عيني بمرأى مني صحيح. قال النحاس: وذلك معروف في اللغة، ولكن لا يكون في هذا تخصيص لموسى، فإن جميع الأشياء بمرأى من الله. وقال أبو عبيدة وابن الأخباري: إن المعنى لتغذى على محبتي وإرادتي، تقول: أتخذ الأشياء على عيني: أي على محبتي. قال ابن الأنباري: العين في هذه الآية يقصد بها قصد الإرادة والاختيار، من قول العرب: غدا فلان على عيني: أي على المحبة مني. قيل واللام متعلقة بمحذوف: أي فعلت ذلك لتصنع، وقيل متعلقة بألقيت، وقيل متعلقة بما بعده: أي ولتصنع على عيني قدرنا مشي أختك. وقرأ ابن القعقاع ولتصنع بإسكان اللام على الأمر، وقرأ أبو نهيك بفتح التاء. والمعنى: ولتكون حركتك وتصرفك بمشيئتي، وعلى عين مني.
40- "إذ تمشي أختك" ظرف لألقيت، أو لتصنع، ويجوز أن يكون بدلاً من "إذ أوحينا" وأخته اسمها مريم "فتقول هل أدلكم على من يكفله" وذلك أنها خرجت متعرفة لخبره فوجدت فرعون وامرأته آسية يطلبان له مرضعة، فقالت لهما هذا القول: أي هل أدلكم على من يضمه إلى نفسه ويربيه، فقالا لها ومن هو؟ قالت أمي، فقالا هل لها لبن؟ قالت نعم لبن أخي هارون، وكان هارون أكبر من موسى بسنة، وقيل بأكثر، فجاءت الأم فقبل ثديها، وكان لا يقبل ثدي مرضعة غيرها، وهذا هو معنى "فرجعناك إلى أمك" وفي مصحف أبي فرددناك، والفاء فصيحة " كي تقر عينها " قرأ ابن عامر في رواية عبد الحميد عنه "كي تقر" بكسر القاف، وقرأ الباقون بفتحها. قال الجوهري: قررت به عيناً قرة وقروراً، ورجل قرير العين، وقد قرت عينه تقر وتقر. نقيض سخنت، والمراد بقرة العين: السرور برجوع ولدها إليها بعد أن طرحته في البحر وعظم عليها فراقه "ولا تحزن" أي لا يحصل لها ما يكدر ذلك السرور من الحزن بسبب من الأسباب، ولو أراد الحزن بالسبب الذي قرت عينها بزواله لقدم نفي الحزن على قرة العين، فيحمل هذا النفي للحزن على ما يحصل بسبب يطرأ بعد ذلك، ويمكن أن يقال إن الواو لما كانت لمطلق الجمع كان هذا الحمل غير متعين، وقيل المعنى: ولا تحزن أنت يا موسى بفقد إشفاقها، وهو تعسف "وقتلت نفساً" المراد بالنفس هنا: نفس القبطي الذي وكزه موسى فقضى عليه، وكان قتله خطأ "فنجيناك من الغم" أي الغم الحاصل معك من قتله خوفاً من العقوبة الأخروية أو الدنيوية أو منهما جميعاً، وقيل الغم هو القتل بلغة قريش، وما أبعد هذا "وفتناك فتوناً" الفتنة تكون بمعنى المحنة، وبمعنى الأمر الشاق، وكل ما يبتلى به الإنسان، والفتون يجوز أن يكون مصدراً كالثبور والشكور والكفور: أي ابتليناك ابتلاءً، واختبرناك اختباراً، ويجوز أن يكون جمع فتنة على ترك الاعتداد بتاء التأنيث كحجور في حجرة ويدور في بدرة: أي خلصناك مرة بعد مرة مما وقعت فيه من المحن التي سبق ذكرها قبل أن يصطفيه الله لرسالته، ولعل المقصود بذكر تنجيته من الغم الحاصل له بذلك السبب وتنجيته من المحن هو الامتنان عليه بصنع الله سبحانه له وتقوية قلبه عند ملاقاة ما سيقع له من ذلك مع فرعون وبني إسرائيل "فلبثت سنين في أهل مدين" قال الفراء: تقدير الكلام وفتناك فتوناً، فخرجت إلى أهل مدين فلبث سنين ومثل هذا الحذف كثير في التنزيل، وكذا في كلام العرب فإنهم يحذفون كثيراً من الكلام إذا كان المعنى معروفاً، ومدين هي بلد شعيب، وكانت على ثماني مراحل من مصر، هرب إليها موسى فأقام بها عشر سنين، وهي أتم الأجلين، وقيل أقام عند شعيب ثمان وعشرين سنة منها عشر مهر امرأته ابنة شعيب، ومنها ثماني عشرة بسنة بقي فيها عنده حتى ولد له، والفاء "فلبثت" تدل على أن المراد بالمحن المذكورة هي ما كان قبل لبثه في أهل مدين "ثم جئت على قدر يا موسى" أي في وقت سبق في قضائي وقدري أن أكلمك وأجعلك نبياً، أو على مقدار من الزمان يوحى فيه إلى الأنبياء، وهو رأس أربعين سنة، أو على موعد قد عرفته بإخبار شعيب لك به. قال الشاعر: نال الخلافة إذ كانت له قدراً كما أتى ربه موسى على قدر وكلمة ثم المفيدة للتراخي للدلالة على أن مجيئه عليه السلام كان بعد مدة، وذلك بسبب ما وقع له من ضلال الطريق وتفرق غنمه ونحو ذلك.
41- "واصطنعتك لنفسي" الاصطناع: اتخاذ الصنعة، وهي الخير تسديه إلى إنسان، والمعنى: اصطنعتك لوحيي ورسالتي لتتصرف على أرادتي. قال الزجاج: تأويله اخترتك لإقامة حجتي، وجعلتك بيني وبين خفي، وصرت بالتبليغ عني بالمنزلة التي أكون أنا بها لو خاطبتهم واحتججت عليهم. قيل وهو تمثيل لما خوله الله سبحانه من الكرامة العظمى بتقريب الملك لبعض خواصه.
42- "اذهب أنت وأخوك" أي وليذهب أخوك، وهو كلام مستأنف مسوق لبيان ما هو المقصود من الاصطناع ومعنى "بآياتي" بمعجزاتي التي جعلتها لك آية، وهي التسع الآيات "ولا تنيا في ذكري" أي لا تضعفا ولا تفترا، يقال ونى يني ونياً: إذا ضعف. قال الشاعر: فما ونى محمد مذ أن غفر له الإله ما مضى وما غير وقال امرؤ القيس: يسيح إذا ما السابحات على الونى أثرن غباراً بالكديد الموكل قال الفراء: في ذكري وعن ذكري سواء، والمعنى: لا تقصرا عن ذكري بالإحسان إليكما، والإنعام عليكما وذكر النعمة شكرها. وقيل معنى لا تنيا لا تبطئا في تبليغ الرسالة، وفي قراءة ابن مسعود لا تهنا في ذكري.
43- "اذهبا إلى فرعون إنه طغى" هذا أمر لهما جميعاً بالذهاب، وموسى حاضر وهارون غائب تغليباً لموسى، لأنه الأصل في أداء الرسالة، وعلل الأمر بالذهاب لقوله: "إنه طغى" أي جاوز الحد في الكفر والتمرد، وخص موسى وحده بالأمر بالذهاب فيما تقدم، وجمعهما هنا تشريفاً لموسى بإفراده، وتأكيداً للأمر بالذهاب بالتكرير. وقيل إن في هذا دليلاً على أنه لا يكفي ذهاب أحدهما. وقيل الأول أمر لموسى بالذهاب إلى كل الناس، والثاني أمر لهما بالذهاب إلى فرعون.
ثم أمرهما سبحانه بإلانة القول له لما في ذلك من التأثير في الإجابة، فإن التخشين بادئ بدء يكون من أعظم أسباب النفور والتصلب في الكفر، والقول اللين هو الذي لا خشونة فيه، يقال: لا الشيء يلين ليناً، والمراد تركهما للتعنيف كقولهما "هل لك إلى أن تزكى" وقيل القول اللين هو الكنية له، وقيل أن يعداه بنعيم الدنيا إن أجاب، ثم علل الأمر بإلانة القول له بقوله: 44- "لعله يتذكر أو يخشى" أن باشرا ذلك مباشرة من يرجو ويطمع، فالرجاء راجع إليهما كما قاله جماعة من النحويين: سيبويه وغيره. وقد تقدم تحقيقه في غير موضع قال الزجاج: لعل لفظة طمع وترج، فخاطبهم بما يعقلون، وقيل لعل ها هنا بمعنى الاستفهام. والمعنى: فانظروا هل يتذكر أو يخشى، وقيل بمعنى كي. والتذكر: النظر فيما بلغاه من الذكر وإمعان الفكر فيه حتى يكون ذلك سبباً في الإجابة، والخشية هي خشية عقاب الله الموعود به على لسانهما، وكلمة أو لمنع الخلو دون الجمع. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله: "فاقذفيه في اليم" قال: هو النيل. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وألقيت عليك محبة مني" قال: كان كل من رآه ألقيت عليه منه محبته. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن سلمة بن كهيل قال: حببتك إلى عبادي. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي عمران الجوني في قوله: "ولتصنع على عيني" قال: تربى بعين الله. وأخرج عبد الرزاق ابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال: لتغذى على عيني. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في الآية قال: يقول أنت بعيني إذ جعلتك أمك في التابوت، ثم في البحر، وإذ تمشي أختك. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والخطيب عن ابن عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنما قتل موسى الذي قتل من آل فرعون خطأ يقول الله سبحانه: "وقتلت نفساً فنجيناك من الغم" قال: من قتل النفس "وفتناك فتوناً" قال: أخلصناك إخلاصاً". وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وفتناك فتوناً" قال: ابتليناك ابتلاءً. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال: اختبرناك اختباراً. وقد أخرج عبد بن حميد والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس أثراً طويلاً في تفسير الآية، فمن أحب استيفاء ذلك فلينظره في كتاب التفسير من سنن النسائي. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: "ثم جئت على قدر" قال: لميقات. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد وقتادة "على قدر" قال: موعد. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس "ولا تنيا" قال: لا تبطئا. وأخرج ابن أبي حاتم عن علي في قوله: "قولاً ليناً" قال: كنه. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عباس قال: كنياه. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله: "لعله يتذكر أو يخشى" قال: هل يتذكر.
قرأ الجمهور 45- "أن يفرط" بفتح الياء وضم الراء، ومعنى ذلك: أننا نخاف أن يجعل ويبادر بقعوبتنا، يقال فرط منه أمر: أي بدر، ومنه الفارط، وهو الذي يتقدم القوم إلى الماء: أي يعذبنا عذاب الفارط في الذنب، وهو المتقدم فيه، كذا قال المبرد. وقال أيضاً: فرد منه أمر وأفرط: أسرف، وفرط: ترك. وقرأ ابن محيصن يفرط بضم الياء وفتح الراء: أي يحمله حامل على التسرع إلينا، وقرأت طائفة بضم الياء وكسر الراء، ومنهم ابن عباس مجاهد وعكرمة من الإفراط: أي يشتط في أذيتنا. قال الراجز: قد أفرط العلج علينا وعجل ومعنى "أو أن يطغى" قد تقدم قريباً.
وجملة 46- "قال لا تخافا" مستأنفة جواب سؤال مقدر، نهي لهما عن الخوف الذي حصل معهما من فرعون، ثم علل ذلك بقوله: "إنني معكما" أي بالنصر لهما، والمعونة على فرعون، ومعنى "أسمع وأرى" إدراك ما يجري بينهما وبينه بحيث لا يخفى عليه سبحانه منه خافية، وليس بغافل عنهما.
ثم أمرهما بإتيانه الذي هو عبارة عن الوصول إليه بعد أمرهما بالذهاب إليه فلا تكرار 47- "فقولا إنا رسولا ربك" أرسلنا إليك "فأرسل معنا بني إسرائيل" أي خل عنهم وأطلقهم من الأسر "ولا تعذبهم" بالبقاء على ما كانوا عليه، وقد كانوا عند فرعون في عذاب شديد: يذبح أبناءهم، ويستحيي نساءهم، ويكلفهم من العمل ما لا يطيقونه، ثم أمرهما سبحانه أن يقولا لفرعون "قد جئناك بآية من ربك" قيل هي العصا واليد، وقيل إن فرعون قال لهما: وما هي؟ فأدخل موسى يده في جيب قميصه، ثم أخرجها لها شعاع كشعاع الشمس، فعجب فرعون من ذلك، ولم يره موسى العصا إلا يوم الزينة "والسلام على من اتبع الهدى" أي السلامة. قال الزجاج: أي من اتبع الهدى سلم من سخط الله عز وجل من عذابه، وليس بتحية. قال: والدليل على ذلك أنه ليس بابتداء لقاء ولا خطاب. قال الفراء: السلام على من اتبع الهدى، ولمن اتبع الهدى سواء.
48- "إنا قد أوحي إلينا" من جهة الله سبحانه "أن العذاب على من كذب وتولى" المراد بالعذاب: الهلاك والدمار في الدنيا والخلود في النار، والمراد بالتكذيب: التكذيب بآيات الله وبرسله، والتولي: الإعراض عن قبولها والإيمان بها.
49- "قال فمن ربكما يا موسى" أي قال فرعون لهما: فمن ربكما؟ فأضاف الرب إليهما ولم يضفه إلى نفسه لعدم تصديقه لهما ولجحده للربوبية، وخص موسى بالنداء لكونه الأصل في الرسالة، وقيل لمطابقة رؤوس الآي.
50- "قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه" أي قال موسى مجيباً له، وربنا مبتدأ، وخبره الذي أعطى كل شيء خلقه، ويجوز أن يكون ربنا خبر مبتدأ محذوف، وما بعده صفته، قرأ الجمهور "خلقه" بسكون اللام، وروى زائدة عن الأعمش أنه قرأ خلقه بفتح اللام على أنه فعل، وهي قراءة ابن أبي إسحاق، ورواها نصير عن الكسائي. فعلى القراءة الأولى يكون خلقه ثاني مفعولي أعطى. والمعنى: أعطى كل شيء صورته وشكله الذي يطابق المنفعة المنوطة به المطابقة له كاليد للبطش، والرجل للمشي واللسان للنطق، والعين للنظر، والأذن للسمع، كذا قال الضحاك وغيره. وقال الحسن وقتادة: أعطى كل شيء صلاحه وهداه لما يصلحه. وقال مجاهد: المعنى لم يخلق خلق الإنسان في خلق البهائم، ولا خلق البهائم في خلق الإنسان، ولكن خلق كل شيء فقدره تقديراً، ومنه قول الشاعر: وله في كل شيء خلقه وكذاك الله ما شاء فعل وقال الفراء: المعنى خلق للرجل والمرأة، ولكل ذكر ما يوافقه من الإناث، ويجوز أن يكون خلقه على القراءة الأولى هو المفعول الأول لأعطى: أي أعطى خلقه كل شيء يحتاجون إليه، ويرتفقون به، ومعنى "ثم هدى" أنه سبحانه هداهم إلى طرق الانتفاع بما أعطاهم فانتفعوا بكل شيء فيما خلق له، وأما على القراءة الآخرة، فيكون الفعل صفة للمضاف أو للمضاف إليه: أي أعطى كل شيء خلقه الله سبحانه ولم يخله من عطائه، وعلى هذه القراءة يكون المفعول الثاني محذوفاً: أي أعطى كل شيء خلقه ما يحتاج إليه، فيوافق معناها معنى القراءة الأولى.
51- "قال فما بال القرون الأولى" لما سمع فرعون ما احتج به موسى في ضمن هذا الكلام على إثبات الربوبية كما لا يخفى من أن الخلق والهداية ثابتان بلا خلاف، ولا بد لهما من خالق وهاد، وذلك الخالق والهادي هو الله سبحانه لا رب غيره. قال فرعون: فما بال القرون الأولى فإنها لم تقر بالرب الذي تدعو إليه يا موسى بل عبدت الأوثان ونحوهما من المخلوقات، ومعنى البال الحال والشأن: أي ما حالهم وما شأنهم؟ وقيل إن سؤال فرعون عن القرون الأولى فإنها لم تقر بالرب الذي تدعو إليه يا موسى بل عبدت الأوثان ونحوها من المخلوقات، ومعنى البال الحال والشأن: أي ما حالهم وما شأنهم؟ وقيل إن سؤال فرعون عن القرون الأولى مغالطة لموسى لما خاف أن يظهر لقومه أنه قد قهره بالحجة: أي ما حال القرون الماضية، وماذا جرى عليهم من الحوادث؟.
فأجابه موسى، فـ 52- "قال علمها عند ربي" أن إن هذا الذي سألت عنه ليس مما نحن بصدده، بل هو من علم الغيب الذي استأثر الله به لا تعلمه أنت ولا أنا. وعلى التفسير الأول يكون معنى "علمها عند ربي" أن علم هؤلاء الذين عبدوا الأوثان ونحوها محفوظ عند الله في كتابه سيجازيهم عليها، ومعنى كونها في كتاب أنها مثبته في اللوح المحفوظ. قال الزجاج: المعنى أن أعمالهم محفوطة عند الله يجازي بها، والتقدير: علم أعمالها عند ربي في كتاب. وقد اختلف في معنى "لا يضل ربي ولا ينسى" على أقوال: الأول أنه ابتداء كلام تنزيه لله تعالى عن هاتين الصفتين. وقد تم الكلام عند قوله "في كتاب" كذا قال الزجاج. قال ومعنى "لا يضل" لا يهلك من قوله " أإذا ضللنا في الأرض " "ولا ينسى" شيئاً من الأشياء، فقد نزهه عن الهلاك والنسيان. القول الثاني أن معنى لا يضل لا يخطئ. القول الثالث أن معناه لا يغيب. قال ابن الأعرابي: أصل الضلال الغيبوبة. القول الرابع أن المعنى لا يحتاج إلى كتاب، ولا يضل عنه علم شيء من الأشياء، ولا ينسى ما علمه منها، حكي هذا عن الزجاج أيضاً. قال النحاس: وهو أشبهها بالمعنى. ولا يخفى أنه كقول ابن الأعرابي. القول الخامس أن هاتين الجملتين صفة لكتاب، والمعنى: أن الكاتب غير ذاهب عن الله ولا ناس له.
53- " الذي جعل لكم الأرض مهدا " الموصول في محل رفع على أنه صفة لربي متضمنة لزيادة البيان، ويجوز أن يكون خبر لمبتدإ محذوف، أو في محل النصب على المدح. قرأ الكوفيون "مهداً" على أنه مصدر لفعل مقدر: أي مهدها مهداً، أو على تقدير مضاف محذوف: أي ذات مهد، وهو اسم لما يمهد كالفراش لما يفرش. وقرأ الباقون "مهاداً" واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم قال لاتفاقهم على قراءة: "ألم نجعل الأرض مهاداً" قال النحاس: والجمع أولى من المصدر، لأن هذا الموضع ليس موضع المصدر إلا على حذف المضاف. قيل يجوز أن يكون مهاداً مفرداً كالفراش، ويجوز أن يكون جمعاً، ومعنى المهاد: الفراش فالمهاد جمع المهد: أي جعل كل موضع منها مهداً لكل واحد منكم " وسلك لكم فيها سبلا " السلك: إدخال الشيء في الشيء. والمعنى: أدخل في الأرض لأجلكم طرقاً تسلكونها وسهلها لكم. وفي الآية الأخرى " الذي جعل لكم الأرض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون " ثم قال سبحانه ممتناً على عباده "وأنزل من السماء ماء" هو ماء المطر، قيل إلى هنا انتهى كلام موسى، وما بعده هو "فأخرجنا به أزواجاً من نبات شتى" من كلام الله سبحانه، وقيل هو من الكلام المحكي عن موسى معطوف على أنزل، وإنما التفت إلى التكلم للتنبيه على ظهور ما فيه من الدلالة على كمال القدرة. ونوقش بأن هذا خلاف الظاهر مع استلزامه فوت الالتفات لعدم اتحاد المتكلم، ويجاب عنه بأن الكلام كله محكي عن واحد هو موسى، والحاكي للجميع هو الله سبحانه. والمعنى: فأخرجنا بذلك الماء بسبب الحرث والمعالجة أزواجاً: أي ضروباً وأشباهاً من أصناف النبات المختلفة. وقوله من نبات صفة لأزواجاً، أو بيان له، وكذا شتى صفة أخرى له، أي متفرقة جمع شتيت. وقال الأخفش: التقدير أزواجاً شتى من نبات. قال: وقد يكون النبات شتى، فيجوز أن يكون شتى نعتاً لـ أزواجاً ويجوز أن يكون نعتاً للنبات، يقال أمر شت: أي متفرق، وشت الأمر شتاً وشتاتاً تفرق واشتت مثله، والتشتيت المتفرق. قال رؤبة: جاءت معاً وأطرقت شتيتاً
وجملة 54- "كلوا وارعوا" في محل نصب على الحال بتقدير القول: أي قائلين لهم ذلك، والأمر للإباحة: يقال رعت الماشية الكلأ ورعاها صاحبها رعاية: أي أسامها وسرحها يجيء لازماً ومتعدياً، والإشارة بقوله: " إن في ذلك لآيات لأولي النهى " إلى ما تقدم ذكره في هذه الآيات، والنهي العقول جمع نهية، وخص ذوي النهي لأنهم الذين ينتهون إلى رأيهم، وقيل لأنهم ينهون النفس عن القبائح، وهذا كله من موسى احتجاج على فرعون في إثبات الصانع جواباً لقوله: "فمن ربكما يا موسى".
والضمير في 55- "منها خلقناكم" وما بعده راجع إلى الأرض المذكورة سابقاً. قال الزجاج وغيره: يعني أن آدم خلق من الأرض وأولاده منه. وقيل المعنى: أن كل نطفة مخلوقة من التراب في ضمن خلق آدم، لأن كل فرد من أفراد البشر له حظ من خلقه "وفيها" أي في الأرض "نعيدكم" بعد الموت فتدفنون فيها وتتفرق أجزاؤكم حتى تصبر من جنس الأرض، وجاء بفي دون إلى للدلالة على الاستقرار "ومنها" أي من الأرض "نخرجكم تارة أخرى" أي بالبعث والنشور وتأليف الأجسام ورد الأرواح إليها على ما كانت عليه قبل الموت، والتارة كالمرة.
56- "ولقد أريناه آياتنا كلها" أي أرينا فرعون وعرفناه آياتنا كلها، والمراد بالآيات هي الآيات التسع المذكورة في قوله: "ولقد آتينا موسى تسع آيات" على أن الإضافة للعهد. وقيل المراد جميع الآيات التي جاء بها موسى، والتي جاء بها غيره من الأنبياء، وأن موسى قد كان عرفه جميع معجزاته ومعجزات سائر الأنبياء، والأول أولى. وقيل المراد بالآيات حجج الله سبحانه الدالة على توحيده "فكذب وأبى" أي كذب فرعون موسى وأبى عليه أن يجيبه إلى الإيمان، وهذا يدل على أن كفر فرعون كفر عناد لأنه رأى الآيات وكذب بها كما في قوله: "وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً".
وجملة 57- "قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى" مستأنفة جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: فماذا قال فرعون بعد هذا؟ والهمزة للإنكار لما جاء به موسى من الآيات: أي جئت يا موسى لتوهم الناس بأنك نبي يجب عليهم اتباعك، والإيمان بما جئت به، حتى تتوصل بذلك الإيهام الذي هو شعبة من السحر إلى أن تغلب على أرضنا وتخرجنا منها. وإنما ذكر الملعون الإخراج من الأرض لتنفير قومه عن إجابة موسى، فإنه إذا وقع في أذهانهم وتقرر في أفهامهم أن عاقبة إجابتهم لموسى الخروج من ديارهم وأوطانهم كانوا غير قابلين لكلامه ولا ناظرين في معجزاته ولا ملتفتين إلى ما يدعو إليه من الخير.
58- "فلنأتينك بسحر مثله" الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها واللام هي الموطئة للقسم: أي والله لنعارضنك بمثل ما جئت به من السحر، حتى يتبين للناس أن الذي جئت به سحر يقدر على مثله الساحر "فاجعل بيننا وبينك موعداً" هو مصدر: أي وعداً، وقيل اسم مكان: أي اجعل لنا يوماً معلوماً، أو مكاناً معلوماً لا نخلفه. قال القشيري: والأظهر أنه مصدر، ولهذا قال: "لا نخلفه" أي لا نخلف ذلك الوعد، والإخلاف أن تعد شيئاً ولا تنجزه. قال الجوهري: الميعاد المواعدة والوقت الموضع، وكذلك الموعد. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وشيبة والأعرج "لا نخلفه" بالجزم على أنه جواب لقوله اجعل. وقرأ الباقون بالرفع على أنه صفة لموعداً: أي لا نخلف ذلك الوعد "نحن ولا أنت" وفوض تعيين الموعد إلى موسى إظهاراً لكمال اقتداره على الإتيان بمثل ما أتى به موسى، وانتصاب "مكاناً سوى" بفعل مقدر يدل عليه المصدر، أو على أنه بدل من موعد. قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة "سوى" بضم السين، وقرأ الباقون بكسرها وهما لغتان. واختار أبو عبيد وأبو حاتم كسر السير لأنها اللغة العالية الفصيحة، والمراد مكاناً مستوياً، وقيل مكاناً منصفاً عدلاً بيننا وبينك. قال سيبويه: يقال سوى وسوى: أي عدل، يعني عدلاً بين المكانين. قال زهير: أرونا خطة لا ضيم فيها يسوى بيننا فيها السواء قال أبو عبيدة والقتيبي: معناه مكاناً وسطاً بين الفريقين، وأنشد أبو عبيدة لموسى بن جابر الحنفي: وإن أبانا كان حل ببلدة سوى بين قيس قيس غيلان والفزر والفزر سعد بن زيد مناة.
ثم واعده موسى بوقت معلوم فـ "قال موعدكم يوم الزينة" قال مجاهد وقتادة ومقاتل والسدي: كان ذلك يوم عيد يتزينون فيه، وقال سعيد بن جبير: كان ذلك يوم عاشوراء، وقال الضحاك: يوم السبت، وقيل يوم النيروز، وقيل يوم كسر الخليج. وقرأ الحسن والأعمش وعيسى الثقفي والسلمي وهبيرة عن حفص يوم الزينة بالنصب، ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو: أي في يوم الزينة إنجاز موعدنا. وقرأ الباقون بالرفع على أنه خبر موعدكم، وإنما جعل الميعاد زماناً بعد أن طلب منه فرعون أن يكون مكاناً سوى، لأن يوم الزينة يدل على مكان مشهور يجتمع فيه الناس ذلك اليوم، أو على تقدير مضاف محذوف: أي موعدكم مكان يوم الزينة "وأن يحشر الناس ضحى" معطوف على يوم الزينة فيكون في محل رفع، أو على الزينة فيكون في محل جر، يعني ضحى ذلك اليوم، والمراد بالناس أهل مصر. والمعنى: يحشرون إلى العيد وقت الضحى، وينظرون في أمر موسى وفرعون. قال الفراء: المعنى إذا رأيت الناس يحشرون من كل ناحية ضحى فذلك الموعد. قال: وجرت عادتهم بحشر الناس في ذلك اليوم. والضحى قال الجوهري: ضحوة النهار بعد طلوع الشمس ثم بعده الضحى، وهو حين تشرق الشمس، وخص الضحى لأنه أول النهار، فإذا امتد الأمر بينهما كان في النهار متسع. وقرأ ابن مسعود والجحدري وأن يحشر على البناء للفاعل: أي وأن يحشر الله الناس ضحى. وروي عن الجحدري أنه قرأ وأن نحشر بالنون وقرأ بعض القراء بالتاء الفوقية: أي وأن تحشر أنت يا فرعون، وقرأ الباقون بالتحتية على البناء المفعول. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "إننا نخاف أن يفرط علينا" قال: يعجل "أو أن يطغى" قال: يعتدي. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله: "أسمع وأرى" قال: أسمع ما يقول وأرى ما يجاوبكما به، فأوحي إليكما فتجاوبانه. وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال: لما بعث الله موسى إلى فرعون قال: رب أي شيء أقول؟ قال: قل أهيا شراهيا. قال الأعشى: تفسير ذلك الحي قبل كل شيء، والحي بعد كل شيء. وجود السيوطي إسناده، وسبقه إلى تجويد إسناده ابن كثير في تفسيره. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "على من كذب وتولى" قال: كذب بكتاب الله وتولى عن طاعة الله. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله: "أعطى كل شيء خلقه" قال: خلق لكل شيء زوجه "ثم هدى" قال: هداه لمنكحه ومطعمه ومشربه ومسكنه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "لا يضل ربي" قال: لا يخطئ. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "من نبات شتى" قال: مختلف. وفي قوله: " لأولي النهى " قال: لأولي التقى. وأخرج ابن المنذر عنه " لأولي النهى " قال: لأولي الحجا والعقل. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عطاء الخراساني قال: إن الملك ينطلق فيأخذ من تراب المكان الذي يدفن فيه فيذره على النطفة، فيخلق من التراب ومن النطفة، وذلك قوله: "منها خلقناكم وفيها نعيدكم". وأخرج أحمد والحاكم عن أبي أمامة قال: " لما وضعت أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى"، بسم الله وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله" وفي حديث في السنن "أنه أخذ قبضة من التراب فألقاها في القبر وقال: "منها خلقناكم"، ثم أخرى وقال: "وفيها نعيدكم"، ثم أخرى وقال: "ومنها نخرجكم تارة أخرى"". وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "موعدكم يوم الزينة" قال: يوم عاشوراء. وأخرج ابن المنذر عن ابن عمرو نحوه.
قوله: 60- "فتولى فرعون" أي انصرف من ذلك المقام ليهيء ما يحتاج إليه مما تواعدا عليه، وقيل معنى أعرض عن الحق، والأول أولى "فجمع كيده" أي جمع ما يكيد به من سحره وحيلته، والمراد أنه جمع السحرة، قيل كانوا اثنين وسبعين، وقيل أربعمائة، وقيل إثنا عشر ألفاً، وقيل أربعة عشر ألفاً، وقال ابن المنذر: كانوا ثمانين ألفاً "ثم أتى" أي أتى الموعد الذي تواعدا إليه مع جمعه الذي جمعه.
وجملة 61- "قال لهم موسى" مستأنفة جواب سؤال مقدر "ويلكم لا تفتروا على الله كذباً" دعا عليهم بالويل، ونهاهم عن افتراء الكذب. قال الزجاج: هو منصوب بمحذوف، والتقدير ألزمهم الله ويلاً. قال: ويجوز أن يكون نداء كقوله: "يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا" "فيسحتكم بعذاب" السحت الاستئصال، يقال سحت وأسحت بمعنى، وأصله استقصاء الشعر. وقرأ الكوفيون إلا شعبة "فيسحتكم" بضم حرف المضارعة من أسحت، وهي لغة بني تميم، وقرأ الباقون بفتحه من سحت، وهي لغة الحجاز وانتصابه على أنه جواب للنهي "وقد خاب من افترى" أي خسر وهلك، والمعنى: قد خسر من افترى على الله أي كذب كان.
62- "فتنازعوا أمرهم بينهم" أي السحرة لما سمعوا كلام موسى تناظروا وتشاوروا وتجاذبوا أطراف الكلام في ذلك "وأسروا النجوى" أي من موسى.وكانت نجواهم هي قولهم.
63- "إن هذان لساحران" وقيل إنهم تناجوا فيما بينهم فقالوا: إن كان ما جاء به موسى سحراً فسنغلبه، وإن كان من عند الله فسيكون له أمر، وقيل الذي أسروه أنه إذا غلبهم اتبعوه قاله الفراء والزجاج، وقيل الذي أسروه أنهم لما سمعوا قول موسى ويلكم لا تفتروا على الله، قالوا: ما هذا بقول ساحر. والنجوى المناجاة يكون اسماً ومصدراً. قرأ أبو عمرو " إن هذان لساحران " بتشديد الحرف الداخل على الجملة وبالياء في اسم الإشارة على إعمال إن عملها المعروف، وهو نصب الاسم ورفع الخبر، ورويت هذه القراءة عن عثمان وعائشة وغيرهما من الصحابة، وبها قرأ الحسن وسعيد بن جبير والنخعي وغيرهم من التابعين، وبها قرأ عاصم الجحدري وعيسى بن عمر كما حكاه النحاس، وهذه القراءة موافقة للإعراب الظاهر مخالفة لرسم المصحف فإنه مكتوب بالألف. وقرأ الزهري والخليل بن أحمد والمفضل وأبان وابن محيصن وابن كثير وعاصم في رواية حفص عنه إن هذان بتخفيف إن على أنها نافية، وهذه القراءة موافقة لرسم المصحف وللإعراب، وقرأ ابن كثير مثل قراءتهم إلا أنه يشدد النون من هذان. وقرأ المدنيون والكوفيون وابن عامر "إن هذان" بتشديد إن وبالألف، فوافقوا الرسم وخالفوا الإعراب الظاهر. وقد تكلم جماعة من أهل العلم في توجيه قراءة المدنيين والكوفيين وابن عامر، وقد استوفى ذكر ذلك ابن الأنباري والنحاس، فقيل إنها لغة بني الحارث بن كعب، وخثعم وكنانة يجعلون رفع المثنى ونصبه وجره بالألف ومنه قول الشاعر: فأطرق إطراق الشجاع ولويرى مساغاً لنا باه الشجاع لصمما وقول الآخر: تزود منا بين أذناه ضربة وقول الآخر: إن آباها وأبا أباها قد بلغا في المجد غايتاها ومما يؤيد هذا تصريح سيبويه والأخفش وأبي زيد والكسائي والفراء إن هذه القراءة على لغة بني الحارث بن كعب، وحكى أبو عبيدة عن أبي الخطاب أنها لغة بني كنانة، وحكى غيره أنها لغة خثعم، وقيل إن أن بمعنى نعم ها هنا كما حكاه الكسائي عن عاصم، وكذا حكاه سيبويه. قال النحاس: رأيت الزجاج والأخفش يذهبان إليه، فيكون التقدير: نعم هذان لساحران، ومنه قول الشاعر: ليت شعري هل للمحب شفاء من جوى حبهن إن اللقاء أي نعم اللقاء. قال الزجاج: والمعنى في الآية: أن هذا لهما ساحران، ثم حذف المبتدأ وهو هما. وأنكره أبو علي الفارسي وأبو الفتح بن جني، وقيل إن الألف في هذا مشبهة بالألف في يفعلان فلم تغير، وقيل إن الهاء مقدرة: أي إنه هذان لساحران حكاه الزجاج عن قدماء النحويين، وكذا حكاه ابن الأنباري. وقال ابن كيسان: إنه لما كان يقال هذا بالألف في الرفع والنصب والجر على حال واحدة، وكانت التثنية لا تغير الواحد أجريت التثنية مجرى الواحد فثبت الألف في الرفع والنصب والجر، فهذه أقوال تتضمن توجيه هذه القراءة توجه تصح به، وتخرج به عن الخطأ، وبذلك يندفع ما روي عن عثمان وعائشة أنه غلط من الكاتب للمصحف "يريدان أن يخرجاكم من أرضكم" وهي أرض مصر "بسحرهما" الذي أظهراه "ويذهبا بطريقتكم المثلى" قال الكسائي: بطريقتكم بسنتكم، والمثلى نعت كقولك: امرأة كبرى، تقول العرب فلان على الطريقة المثلى يعنون على الهدى المستقيم. قال الفراء: العرب تقول هؤلاء طريقة قومهم وطرائق قومهم لأشرافهم، والمثلى تأنيث الأمثل، وهو الأفضل، يقال فلان أمثل قومه: أي أفضلهم، وهم الأماثل. والمعنى: أنهما إن يغلبا بسحرهما مال إليهما السادة والأشراف منكم، أو يذهبا بمذهبكم الذي هو أمثل المذاهب.
64- "فأجمعوا كيدكم" الإجماع الإحكام، والعزم على الشيء قاله الفراء. تقول أجمعت على الخروج مثل أزمعت. وقال الزجاج: معناه ليكن عزمكم كلكم كالكيد مجمعاً عليه، وقد اتفق القراء على قطع الهمزة في أجمعوا إلا أبا عمرو، فإنه قرأ بوصلها وفتح الميم من الجمع. قال النحاس: وفيما حكى لي عن محمد بن يزيد المبرد أنه قال: يجب على أبي عمرو أن يقرأ بخلاف هذه القراءة، وهي القراءة التي عليها أكثر الناس "ثم ائتوا صفاً" أي مصطفين مجتمعين ليكون أنظم لأمورهم وأشد لهيبتهم، وهذا قول جمهور المفسرين. وقال أبو عبيدة: الصف موضع المجمع ويسمى المصلى الصف. قال الزجاج: وعلى هذا معناه: ثم ائتوا الموضع الذي تجتمعون فيه لعيدكم وصلاتكم، يقال: أتيت الصف بمعنى أتيت المصلى، فعلى التفسير الأول يكون انتصاب صفاً على الحال، وعلى تفسير أبي عبيدة يكون انتصابه على المفعولية. قال الزجاج: يجوز أن يكون المعنى ثم ائتوا الناس مصطفون، فيكون على هذا مصدراً في موضع الحال، ولذلك لم يجمع، وقرئ بكسر الهمزة بعدها ياء، ومن ترك الهمزة أبدل منها ألفاً "وقد أفلح اليوم من استعلى" أي من غلب، يقال استعلى عليه إذا غلبه، وهذا كله من قول السحرة بعضهم لبعض، وقيل من قول فرعون لهم.
وجملة 65- "قالوا يا موسى إما أن تلقي" مستأنفة جواباً لسؤال مقدر، كأنه قيل: فماذا فعلوا بعدما قالوا فيما بينهم ما قالوا؟ فقيل: "قالوا يا موسى إما أن تلقي"، وإن مع ما في حيزها في محل نصب بفعل مضمر: أي اختر إلقاءك أولاً أو إلقاءنا، ويجوز أن تكون في محل رفع على أنها وما بعدها خبر مبتدأ محذوف، أي الأمر إلقاؤك، أو إلقاءنا، ويجوز أن تكون في محل رفع على أنها وما بعدها خبر مبتدأ محذوف، أي الأمر إلقاؤك، أو إلقاءنا، ويجوز أن تكون في محل رفع على أنها وما بعدها خبر مبتدأ محذوف، أي الأمر إلقاؤك، أو إلقاؤنا، ومفعول تلقي محذوف، والتقدير: إما أن تلقي ما تلقيه أولاً "وإما أن نكون" نحن "أول من ألقى" ما يلقيه، أو أول من يفعل الإلقاء، والمراد إلقاء العصي على الأرض، وكانت السحرة معهم عصي، وكان موسى قد ألقى عصاه يوم دخل على فرعون، فلما أراد السحرة معارضته قالوا له هذا القول.
فـ 66- "قال" لهم موسى "بل ألقوا" أمرهم بالإلقاء أولاً لتكون معجزته أظهر إذا ألقوا هم ما معهم ثم يلقي هو عصاه فتبتلع ذلك، وإظهاراً لعدم المبالاة بسحرهم "فإذا حبالهم وعصيهم" في الكلام حذف، والتقدير: فألقوا فإذا حبالهم، والفاء فصيحة، وإذا للمفاجأة أو ظرفية. والمعنى: فألقوا ففاجأ موسى وقت أن "يخيل إليه" سعي حبالهم وعصيهم، وقرأ الحسن عصيهم بضم العين وهي لغة بني تميم، وقرأ الباقون بكسرها اتباعاً لكسرة الصاد، وقرأ ابن عباس وابن ذكوان وروح عن يعقوب تخيل بالمثناة، لأن العصي والحبال مؤنثة، وذلك أنهم لطخوها بالزئبق، فلما أصابها حر الشمس ارتعشت واهتزت، وقرئ نخيل بالنون على أن الله سبحانه هو المخيل لذلك، وقرئ يخيل بالياء التحتية مبنياً للفاعل على أن المخيل هو الكيد، وقيل المخيل هو أنها تسعى، فإن في موضع رفع: أي يخيل إليه سعيها، ذكر معناه الزجاج. وقال الفراء: إنها في موضع نصب: أي بأنها ثم حذف الباء. قال الزجاج: ومن قرأ بالتاء: يعني الفوقية جعل أن في موضع نصب: أي تخل إليه ذات سعي. قال: ويجوز أن يكون في موضع رفع بدلاً من الضمير في تخيل، وهو عائد على الحبال والعصي، والبدل فيه اشتمال، يقال خيل إليه إذا شبه له وأدخل عليه البهمة والشبة.
67- "فأوجس في نفسه خيفة موسى" أي أحس، وقيل وجد، وقيل أضمر، وقيل خاف، وذلك لما يعرض من الطباع البشرية عند مشاهدة ما يخشى منه، وقيل خاف أن يفتتن الناس قبل أن يلقي عصاه، وقيل إن سبب خوفه هو أن سحرهم كان من جنس ما أراهم في العصا، فخاف أن يلتبس أمره على الناس فلا يؤمنوا.
فأذهب الله سبحانه ما حصل معه من الخوف بما بشره به بقوله: 68- "قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى" أي المستعلي عليهم بالظفر والغلبة، والجملة تعليل للنهي عن الخوف.
69- "وألق ما في يمينك" يعني العصا، وإنما أبهمها تعظيماً وتفخيماً، وجزم "تلقف ما صنعوا" على أنه جواب الأمر قرئ بتشديد القاف، والأصل تتلقف فحذف إحدى التاءين، وقرئ تلقف بكسر اللام من لقفه إذا ابتلعه بسرعة، وقرئ تلقف بالرفع على تقدير فإنها تتلقف، ومعنى "ما صنعوا" الذي صنعوه من الحبال والعصي. قال الزجاج: القراءة بالجزم جواب الأمر، ويجوز الرفع على معنى الحال، كأنه قال: ألقها متلقفة، وجملة "إنما صنعوا كيد ساحر" تعليل لقوله تلقف، وارتفاع كيد على أنه خبر لإن، وهي قراءة الكوفيين إلا عاصماً. وقرأ هؤلاء "سحر" بكسر السين وسكون الحاء، وأضافة الكيد أي السحر على الاتساع من غير تقدير، أو بتقدير ذي سحر. وقرأ الباقون "كيد ساحر" "ولا يفلح الساحر حيث أتى" أي لا يفلح جنس الساحر حيث أتى وأين توجه، وهذا من تمام التعليل.
70- "فألقي السحرة سجداً" أي فألقى ذلك الأمر الذي شاهدوه من موسى والعصا والعصا السحرة سجداً لله تعالى، وقد مر تحقيق هذا في سورة الأعراف "قالوا آمنا برب هارون وموسى" إنما قدم هارون على موسى في حكاية كلامهم رعاية لفواصل الآي وعناية بتوافق رؤوسها. وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "فيسحتكم بعذاب" قال: يهلككم. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة "فيسحتكم" قال: يستأصلكم. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن أبي صالح قال: فيذبحكم. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن علي "ويذهبا بطريقتكم المثلى" قال: يصرفا وجوه الناس إليهما. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال: يقول أمثلكم، وهم بنو إسرائيل. وأخرج عبد بن حميد وعبد الرزاق في قوله: "تلقف ما صنعوا" ما يأفكون، عن قتادة قال: ألقاها موسى فتحولت حية تأكل حبالهم وما صنعوا. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة أن سحرة فرعون كانوا تسعمائة، فقالوا لفرعون: إن يكن هذان ساحران فإنا نغلبهما فإنه لا أسحر منا، وإن كانا من رب العالمين فإنه لا طاقة لنا برب العالمين، فلما كان من أمرهم أن خروا سجداً أراهم الله في سجودهم منازلهم التي إليها يصيرون فعندها "قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات" إلى قوله: "والله خير وأبقى".
قوله: 71- "قال آمنتم له" يقال آمن له وآمن به، فمن الأول قوله: "فآمن له لوط"، ومن الثاني، قوله في الأعراف: "آمنتم به قبل أن آذن لكم" وقيل إن الفعل هنا متضمن معنى الاتباع، وقرئ على الاستفهام التوبيخي: أي كيف آمنتم به من غير إذن مني لكم بذلك "إنه لكبيركم الذي علمكم السحر" أي إن موسى لكبيركم: أي أسحركم وأعلاكم درجة في صناعة السحر، أو معلمكم وأستاذكم كما يدل عليه قوله: "الذي علمكم السحر" قال الكسائي: الصبي بالحجاز إذا جاء من عند معلمه قال: جئت من عند كبيري. وقال محمد بن إسحاق: إنه لغظيم السحر. قال الواحدي: والكبير في اللغة الرئيس، ولهذا يقال للمعلم الكبير. أراد فرعون بهذا القول أن يدخل الشبهة على الناس حتى لا يؤمنوا، وإلا فقد علم أنهم لم يتعلموا من موسى، ولا كان رئيساً لهم، ولا بينه وبينهم مواصلة "فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف" أي والله لأفعلن بكم ذلك، والتقطيع للأيدي والأرجل من خلاف هو قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى، ومن للابتداء "ولأصلبنكم في جذوع النخل" أي على جذوعها كقوله: "أم لهم سلم يستمعون فيه" أي عليه، ومنه قول سويد بن أبي كاهل: هم صلبوا العبدي في جذع نخلة فلا عطست شيبان إلا بأجدعا وإنما آثر كلمة في للدلالة على استقرارهم عليها كاستقرار المظروف في الظرف "ولتعلمن أينا أشد عذاباً وأبقى" أراد لتعلمن هل أنا أشد عذاباً لكم أم موسى؟ ومعنى أبقى أدوم، وهو يريد بكلامه هذا الاستهزاء بموسى، لأن موسى لم يكن من التعذيب في شيء، ويمكن أن يريد العذاب الذي توعدهم به موسى إن لم يؤمنوا، وقيل أراد بموسى رب موسى على حذف المضاف.
72- "قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات" أي لن نختارك على ما جاءنا به موسى من البينات الواضحة من عند الله سبحانه كاليد والعصا، وقيل إنهم أرادوا بالبينات ما رأوه في سجودهم من المنازل المعدة لهم في الجنة "والذي فطرنا" معطوف على ما جاءنا أي لن نختارك على ما جاءنا به موسى من البينات وعلى الذي فطرنا: أي خلقنا، وقيل هو قسم: أي والله الذي فطرنا لن نؤثرك، أو لا نؤثرك، وهذان الوجهان في تفسير الآية ذكرهما الفراء والزجاج " فاقض ما أنت قاض " هذا جواب منهم لفرعون لما قال لهم لأقطعن إلخ، والمعنى: فاصنع ما أنت صانع، واحكم ما أنت حاكم، والتقدير: ما أنت صانعه "إنما تقضي هذه الحياة الدنيا" أي إنما سلطانك علينا ونفوذ أمرك فينا في هذه الدنيا ولا سبيل لك علينا فيما بعدها، فاسم الإشارة في محل نصب على الظرفية أو على المفعولية وما كافة، وأجاز الفراء الرفع على أن تجعل ما بمعنى الذي: أي أن الذي تقضيه هذه الحياة الدنيا فقضاؤك وحكمك منحصر في ذلك.
73- "إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا" التي سلفت منا من الكفر وغيره "وما أكرهتنا عليه من السحر" معطوف على خطايانا: أي ويغفر لنا الذي أكرهتنا عليه من عمل السحر في معارضة موسى فما في محل نصب على المفعولية وقيل هي نافية، قال النحاس: والأول أولى. قيل ويجوز أن يكون في محل رفع بالابتداء والخبر مقدر: أي وما أكرهتنا عليه من السحر موضوع عنا "والله خير وأبقى" أي خير منك ثواباً وأبقى منك عقاباً، وهذا جواب قوله: "ولتعلمن أينا أشد عذاباً وأبقى".
74- "إنه من يأت ربه مجرماً فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيا" المجرم هو المتلبس بالكفر والمعاصي، ومعنى لا يموت فيها ولا يحيا أنه لا يموت فيستريح ولا يحيا حياة تنفعه. قال المبرد: لا يموت ميتة مريحة ولا يحيا حياة ممتعة، فهو يألم كما يألم الحي ويبلغ به حال الموت في المكروه إلا أنه لا يبطل فيها عن إحساس الألم، والعرب تقول: فلان لا حي ولا ميت إذا كان غير منتفع بحياته، وأنشد ابن الأنباري في مثل هذا: ألا من لنفس لا تموت فينقضي شقاها ولا تحيا حياة لها طعم وهذه الآية من جملة ما حكاه الله سبحانه من قول السحرة، وقيل هو ابتداء كلام، والضمير في إنه على هذا الوجه للشأن.
75- "ومن يأته مؤمناً قد عمل الصالحات" أي ومن يأت ربه مصدقاً به قد عمل الصالحات: أي الطاعات، والموصوف محذوف، والتقدير الأعمال الصالحات، وجملة قد عمل في محل نصب على الحال وهكذا مؤمناً منتصب على الحال، والإشارة بـ "أولئك" إلى من باعتبار معناه "لهم الدرجات العلى" أي المنازل الرفيعة التي قصرت دونها الصفات.
76- "جنات عدن" بيان للدرجات أو بدل منها، والعدن الإقامة وقد تقدم بيانه، وجملة "تجري من تحتها الأنهار" حال من الجنات، لأنها مضافة إلى عدن، وعدن علم للإقامة كما سبق، وانتصاب "خالدين فيها" على الحال من ضمير الجماعة في لهم: أي ماكثين دائمين، "و" الإشارة "بذلك" إلى ما تقدم لهم من الأجر، وهو مبتدأ، و"جزاء من تزكى" خبره: أي جزاء من تطهر من الكفر والمعاصي الموجبة للنار. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وما أكرهتنا عليه من السحر" قال: أخذ فرعون أربعين غلاماً من بني إسرائيل، فأمر أن يعلموا السحر بالفرما، قال: علموهم تعليماً لا يغلبهم أحد في الأرض. قال ابن عباس: فهم من الذين آمنوا بموسى، وهم الذين قالوا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي في قوله: "والله خير وأبقى" قال: خير منك إن أطيع وأبقى منك عذاباً إن عصي. وأخرج أحمد ومسلم وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب فأتى على هذه الآية " إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيا " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما أهلها الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون، وأما الذين ليسوا بأهلها فإن النار تميتهم إماتة، ثم يقوم الشفعاء فيشفعون، فيؤتى بهم ضبائر على نهر يقال له الحياة أو الحيوان، فينبتون كما ينبت الغثاء في حميل السيل". وأخرج أبو داود وابن مردويه عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أهل الدرجات العلى ليراهم من تحتهم كما ترون الكوكب الدري في أفق السماء، وإن أبا بكر وعمر منهم وأنعما"، وفي الصحيحين بلفظ "إن أهل عليين ليرون من فوقهم كما ترون الكوكب الغابر في أفق السماء".
هذا شروع في إنجاء بني إسرائيل وإهلاك عدوهم، وقد تقدم في البقرة، وفي الأعراف، وفي يونس. واللام في لقد هي الموطئة للقسم، وفي ذلك من التأكيد ما لا يخفى، و77- "أن" في "أن أسر بعبادي" إما المفسرة لأن في الوحي معنى القول، أو مصدرية: أي بأن أسر أي أسر بهم من مصر. وقد تقدم هذا مستوفى "فاضرب لهم طريقاً في البحر يبساً" أي اجعل لهم طريقاً، ومعنى يبساً يابساً وصف به الفاعل مبالغة، وذلك أن الله تعالى أيبس لهم تلك الطريق حتى لم يكن فيها ماء ولا طين. وقرئ يبسا بسكون الباء على أنه مخفف من يبسا المحرك، أو وجمع يابس كصحب في صاحب، وجملة "لا تخاف دركاً" في محل نصب على الحال: أي آمنا من أن يدرككم العدو، أو صفة أخرى لطريق، والدرك اللحاق بهم من فرعون وجنوده. وقرأ حمزة "لا تخف" على أنه جواب الأمر، والتقدير: إن تضرب لا تخف، ولا تخشى على هذه القراءة مستأنف: أي ولا أنت تخشى من فرعون أو من البحر. وقرأ الجمهور "لا تخاف" وهي أرجح لعدم الجزم في تخشى، ويجوز أن تكون هذه الجملة على قراءة الجمهور صفة أخرى لطريق: أي لا تخاف منه ولا تخشى منه.
78- " فأتبعهم فرعون بجنوده " أتبع هنا مطاوع تبع، يقال أتبعتهم إذا تبعتهم، وذلك إذا سبقوك فلحقتهم، فالمعنى: تبعهم فرعون ومعه جنوده. وقيل الباء زائدة والأصل اتبعهم جنوده: أي أمرهم أن يتبعوا موسى وقومه، وقرئ "فأتبعهم" بالتشديد: أي لحقهم بجنوده وهو معهم كما يقال: ركب الأمير بسيفه: أي معه سيفه، ومحل بجنوده النصب على الحال أي سابقاً جنوده معه "فغشيهم من اليم ما غشيهم" أي علاهم وأصابهم ما علاهم وأصابهم، والتكرير للتعظيم والتهويل كما في قوله: " الحاقة * ما الحاقة " وقيل غشيهم ما سمعت قصته. وقال ابن الأنباري: غشيهم البعض الذي غشيهم، لأنه لم يغشهم كل ماء البحر، بل الذي غشيهم بعضه. فهذه العبارة للدلالة على أن الذي غرقهم بعض الماء، والأول أولى لما يدل عليه من التهويل والتعظيم. وقرئ فغشاهم من اليم ما غشاهم: أي غطاهم ما غطاهم.
79- "وأضل فرعون قومه وما هدى" أي أضلهم عن الرشد، وما هداهم إلى طرق النجاة لأنه قدر أن موسى ومن معه لا يفوتونه لكونهم بين يديه يمشون في طريق يابسة، وبين أيديهم البحر، وفي قوله: "وما هدى" تأكيد لإضلاله، لأن المضل قد يرشد من يضله في بعض الأمور.
80- "يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم" ذكر سبحانه ما أنعم به على بني إسرائيل بعد إنجائهم، والتقدير قلنا لهم بعد إنجائهم: يا بني إسرائيل، ويجوز أن يكون خطاباً لليهود المعاصرين لنبينا صلى الله عليه وسلم لأن النعمة على الآباء معدودة من النعم على الأبناء، والمراد بعدوهم هنا فرعون وجنوده، وذلك بإغراقه وإغراق قومه في البحر بمرأى من بني إسرائيل " وواعدناكم جانب الطور الأيمن " انتصاب جانب على أنه مفعول به، لا على الظرفية لأنه مكان معين غير مبهم، وإنما تنتصب الأمكنة على الظرفية إذا كانت مبهمة. قال مكي: وهذا أصل لا خلاف فيه. قال النحاس: والمعنى أمرنا موسى أن يأمركم بالخروج معه لنكلمه بحضرتكم فتسمعوا الكلام. وقيل وعد موسى بعد إغراق فرعون أن يأتي جانب الطور، فالوعد كان لموسى، وإنما خوطبوا به لأن الوعد كان لأجلهم، وقرأ أبو عمرو وأبو جعفر ويعقوب ووعدناكم بغير ألف، واختاره أبو عبيدة، لأن الوعد إنما هو من الله لموسى خاصة والمواعدة لا تكون إلا من اثنين، وقد قدمنا في البقرة هذا المعنى، والأيمن منصوب على أنه صفة للجانب، والمراد يمين الشخص، لأن الجبل ليس له يمين ولا شمال، فإذا قيل خذ عن يمين الجبل فمعناه عن يمينك من الجبل. وقرئ بجر الأيمن على أنه صفة للمضاف إليه "ونزلنا عليكم المن والسلوى" قد تقدم تفسير المن بالترنجبين والسلوى بالسماني وأوضحنا ذلك بما لا مزيد عليه، وإنزال ذلك عليهم كان في التيه.
81- "كلوا من طيبات ما رزقناكم" أي وقلنا لهم كلوا والمراد بالطيبات المستلذات، وقيل الحلال على الخلاف المشهور في ذلك. وقرأ حمزة والكسائي والأعمش: " قد أنجيناكم من عدوكم وواعدناكم جانب الطور " "كلوا من طيبات ما رزقناكم" بتاء المتكلم في الثلاثة. وقرأ الباقون بنون العظمة فيها "ولا تطغوا فيه" والطغيان التجاوز: أي لا تتجاوزوا ما هو جائز إلى ما لا يجوز، وقيل المعنى: لا تجحدوا نعمة الله فتكونوا طاغين، وقيل لا تكفروا النعمة ولا تنسوا شكرها، وقيل لا تعصوا المنعم: أي لا تحملنكم السعة والعافية على المعصية، ولا مانع من حمل الطغيان على جميع هذه المعاني فإن كل واحد منها يصدق عليه أن طغيان "فيحل عليكم غضبي" هذا جواب النهي: أي يلزمكم غضبي وينزل بكم، وهو مأخوذ من حلول الدين: أي حضور وقت أدائه "ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى" قرأ الأعمش ويحيى بن وثاب والكسائي "فيحل" بضم الحاء وكذلك قرأوا "يحلل" بضم اللام الأولى، وقرأ الباقون بالكسر فيهما وهما لغتان. قال الفراء: والكسر أحب إلي من الضم لأن الضم من الحلول بمعنى الوقوع، ويحل بالكسر يجب، وجاء التفسير بالوجوب لا بالوقوع، وذكر نحو هذا أبو عبيدة وغيره. ومعنى فقد هوى فقد هلك هوياً: . قال الزجاج " فقد هوى " أي صار إلى الهاوية ، وهي قعر النار من هوى يهوي هويا : أي سقط من علو إلى سفل، وهوى فلان: أي مات.
82- "وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً" أي لمن تاب من الذنوب التي أعظمها الشرك بالله، وآمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وعمل عملاً صالحاً مما ندب إليه الشرع وحسنه "ثم اهتدى" أي استقام على ذلك حتى يموت، كذا قال الزجاج وغيره. وقيل لم يشك في إيمانه، وقيل أقام على السنة والجماعة، وقيل تعلم العلم ليهتدي به، وقيل علم أن لذلك ثواباً وعلى تركه عقاباً، والأول أرجح مما بعده.
83- "وما أعجلك عن قومك يا موسى" هذا حكاية لما جرى بين الله سبحانه وبين موسى عند موافاته الميقات. قال المفسرون: وكانت المواعدة أن يوافي موسى وجماعة من وجوه قومه، فسار موسى بهم، ثم عجل من بينهم شوقاً إلى ربه، فقال الله له: ما أعجلك؟ أي ما الذي حملك على العجلة، حتى تركت قومك وخرجت من بينهم.
فأجاب موسى عن ذلك 84- "قال هم أولاء على أثري" أي هم بالقرب مني، تابعون لأثري واصلون بعدي. وقيل لم يرد أنهم يسيرون خلفه، بل أراد أنهم بالقرب منه ينتظرون عوده إليهم، ثم قال مصرحاً بسبب ما سأله الله عنه فقال: "وعجلت إليك رب لترضى" أي لترضى عني بمسارعتي إلى امتثال أمرك أو لتزداد رضا عني بذلك. قال أبو حاتم: قال عيسى بن عمر: بنو تميم يقولون أولا مقصورة، وأهل الحجاز يقولون أولاء ممدودة. وقرأ ابن أبي إسحاق ونضر ورويس عن يعقوب على إثري بكسر الهمزة وإسكان الثاء، وقرأ الباقون بفتحها وهما لغتان. ومعنى عجلت إليك: عجلت إلى الموضع الذي أمرتني بالمصير إليه لترضى عني، يقال: رجل عجل وعجول وعجلان: بين العجلة، والعجلة خلاف البطء.
وجملة 85- "قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك" مستأنفة جواب سؤال مقدر، كأنه قيل فماذا قال الله له؟ فقيل قال إنا قد فتنا قومك من بعدك: أي ابتليناهم واختبرناهم وألقيناهم في فتنة ومحنة. قال ابن الأنباري: صيرناهم مفتونين أشقياء بعبادة العجل من بعد انطلاقك من بينهم، وهم الذين خلفهم مع هارون "وأضلهم السامري" أي دعاهم إلى الضلالة، وكان من قوم يعبدون البقر، فدخل في دين بني إسرائيل في الظاهر وفي قلبه ما فيه من عبادة البقر، وكان من قبيلة تعرف بالسامرة، وقال لمن معه من بني إسرائيل: إنما تختلف موسى عن الميعاد الذي بينكم وبينه لما صار معكم من الحلى، وهي حرام عليكم وأمرهم بإلقائها في النار، فكان من أمر العجل ما كان.
86- "فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفاً" قيل وكان الرجوع إلى قومه بعد ما استوفى أربعين يوماً: ذا القعدة، وعشر ذي الحجة، والأسف الشديد الغضب، وقيل الحزين، وقد مضى في الأعراف بيان هذا مستوفى "قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعداً حسناً" الاستفهام للإنكار التوبيخي، والوعد الحسن وعدهم بالجنة إذا أقاموا على طاعته، ووعدهم أن يسمعهم كلامه في التوراة على لسان موسى ليعملوا بما فيها، فيستحقوا ثواب عملهم وقيل وعدهم النصر والظفر، وقيل هو قوله: "وإني لغفار لمن تاب" الآية "أفطال عليكم العهد" الفاء للعطف على مقدر: أي أوعدكم ذلك، فطال عليكم الزمان فنسيتم "أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم" أي يلزمكم وينزل وينزل بكم، والغضب: العقوبة والنقمة، والمعنى: أم أردتم أن تفعلوا فعلاً يكون سبب حلول غضب الله عليكم "فأخلفتم موعدي" أي موعدكم إياي، فالمصدر مضاف إلى المفعول، لأنهم وعدوه أن يقيموا على طاعة الله عز وجل إلى أن يرجع إليهم من الطور، وقيل وعدوه أن يأتوا على أثره إلى الميقات، فتوقفوا فأجابوه.
و87- "قالوا ما أخلفنا موعدك" الذي وعدناك "بملكنا" بفتح الميم، وهي قراءة نافع وأبي جعفر وعاصم وعيسى بن عمر، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بكسر الميم، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم لأنها على اللغة العالية الفصيحة، وهو مصدر ملكت الشيء أملكه ملكاً، والمصدر مضاف إلى الفاعل والمفعول محذوف: أي بملكنا أمورنا، أو بملكنا الصواب، بل أخطأنا ولم نملك أنفسنا وكنا مضطرين إلى الخطأ، وقرأ حمزة والكسائي "بملكنا" بضم الميم، والمعنى بسلطاننا: أي لم يكن لنا ملك فنخلف موعدك، وقيل إن الفتح والكسر والضم في بملكنا كلها لغات في مصدر ملكت الشيء "ولكنا حملنا أوزاراً من زينة القوم" قرأ نافع وابن كثير وابن عامر وحفص وأبو جعفر ورويس "حملنا" بضم الحاء وتشديد الميم، وقرأ الباقون بفتح الحاء والميم مخففة، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم لأنهم حملوا حلية القوم معهم باختيارهم، وما حملوها كرهاً، فإنهم كانوا استعاروها منهم حين أرادوا الخروج مع موسى، وأوهموهم أنهم يجتمعون في عيد لهم أو وليمة، وقيل هو ما أخذوه من آل فرعون لما قذفهم البحر إلى الساحل، وسميت أوزاراً: أي آثاماً، لأنه لا يحل لهم أخذها، ولا تحل لهم الغنائم في شريعتهم والأوزار في الأصل الأثقال كما صرح به أهل اللغة، والمراد بالزينة هنا الحلي "فقذفناها" أي طرحناها في النار طلباً للخلاص من إثمها، وقيل المعنى: طرحناها إلى السامري لتبقى لديه حتى يرجع موسى فيرى فيها رأيه "فكذلك ألقى السامري" أي فمثل ذلك القذف ألقاها السامري، قبل إن السامري قال لهم حين استبطأ القوم رجوع موسى: إنما احتبس عنكم لأجل ما عندكم من الحلي، فجمعوه ودفعوه إليه، فرمى به في النار وصاغ لهم منه عجلاً، ثم ألقى عليه قبضة من أثر الرسول وهو جبريل.
فصار 88- "عجلاً جسداً له خوار" أي يخور كما يخور الحي من العجول، والخوار صوت البقر، وقيل خواره كان بالريح، لأنه كان عمل فيه خروقاً، فإذا دخلت الريح في جوفه خار ولم يكن فيه حياة، "فقالوا هذا إلهكم وإله موسى" أي قال السامري ومن وافقه هذه المقالة "فنسي" أي فضل موسى ولم يعلم مكان إلهه هذا، وذهب يطلبه في الطور، وقيل المعنى: فنسي موسى أن يذكر لكم أن هذا إلهه وإلهكم، وقيل الناس هو السامري: أي ترك السامري ما أمر به موسى من الإيمان وضل، كذا قال ابن الأعرابي.
89- " أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا " أي أفلا يعتبرون ويتفكرون في أن هذا العجل لا يرجع إليهم قولاً: أي لا يرد عليهم جواباً، ولا يكلمهم إذا كلموه، فكيف يتوهمون أنه إلاه عاجز عن المكالمة، فإن في " ألا يرجع " هي المخففة من الثقيلة، وفيها ضمير مقدر يرجع إلى العجل، ولهذا ارتفع الفعل بعدها، ومنه قول الشاعر: في فتية من سيوف الهند قد علموا أن هالك كل من يحفى وينتعل أي أن هالك. وقرئ بنصب الفعل على أنها الناصبة، وجملة "ولا يملك لهم ضراً ولا نفعاً" معطوفة على جملة لا يرجع: أي أفلا يرون أنه لا يقدر على أن يدفع عنهم ضراً ولا يجلب إليهم نفعاً.
90- "ولقد قال لهم هارون من قبل" اللام هي الموطئة للقسم والجملة مؤكدة لما تضمنته الجملة التي قبلها من الإنكار عليهم والتوبيخ لهم: أي ولقد قال لهم هارون من قبل أن يأتي موسى ويرجع إليهم "يا قوم إنما فتنتم به" أي وقعتم في الفتنة بسبب العجل وابتليتم به وضللتم عن طريق الحق لأجله، قيل ومعنى القصر المستفاد من إنما هو أن العجل صار سبباً لفتنتهم لا لرشادهم وليس معناه أنهم فتنوا بالعجل لا بغيره "وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري" أي ربكم الرحمن لا العجل، وأطيعوا أمري لا أمره.
91- "قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى" أجابوا هارون عن قوله المتقدم بهذا الجواب المتضمن لعصيانه، وعدم قبول ما دعاهم إليه من الخير وحذرهم عنه من الشر: أي لن نزال مقيمين على عبادة هذا العجل، حتى يرجع إلينا موسى، فينظر هل يقررنا على عبادته أو ينهانا عنها، فعند ذلك اعتزلهم هارون في اثني عشر ألفاً من المنكرين لما فعله السامري. وقد أخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم عن محمد بن كعب في قوله: "يبساً" قال: يابساً ليس فيه ماء ولا طين. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس "لا تخاف دركاً" من آل فرعون "ولا تخشى" من البحر غرقاً. وأخرجا عنه أيضاً في قوله: "فقد هوى" شقي. وأخرجا عنه أيضاً "وإني لغفار لمن تاب" قال من الشرك "وآمن" قال: وحد الله "وعمل صالحاً" قال: أدى الفرائض "ثم اهتدى" قال: لم يشكك. وأخرج سعيد بن منصور والفريابي عنه أيضاً "وإني لغفار لمن تاب" قال: من تاب من الذنب، وآمن من الشرك، وعمل صالحاً فيما بينه وبين ربه "ثم اهتدى" علم أن لعمله ثواباً يجزى عليه. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير "ثم اهتدى" قال: ثم استقام لزم السنة والجماعة. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة والبيهقي في البعث من طريق عمرو بن ميمون عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: تعجل موسى إلى ربه، فقال الله: "وما أعجلك عن قومك يا موسى" الآية، قال: فرأى في ظل العرش رجلاً فعجب له، فقال: من هذا يا رب؟ قال: لا أحدثك من هو، لكن سأخبرك بثلاث فيه: كان لا يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله، ولا يعق والديه، ولا يمشي بالنميمة. وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن علي قال: لما نعجل موسى إلى ربه عمد السامري فجمع ما قدر عليه من حلي بني إسرائيل فضربه عجلاً، ثم ألقى القبضة في جوفه فإذا هو عجل جسد له خوار، فقال لهم السامري: هذا إلهكم وإله موسى، فقال لهم هارون، يا قوم ألم يعدكم ربكم وعداً حسناً، فلما أن رجع موسى أخذ برأس أخيه، فقال له هارون ما قال، فقال موسى للسامري: ما خطبك قال: "قبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي" فعمد موسى إلى العجل، فوضع موسى عليه المبارد فبرده بها وهو على شط نهر فما شرب أحد من ذلك الماء ممن كان يعبد ذلك العجل إلا اصفر وجهه مثل الذهب فقالوا لموسى: ما توبتنا؟ قال: يقتل بعضكم بعضاً، فأخذوا السكاكين فجعل الرجل يقتل أخاه وأباه وابنه ولا يبالي بمن قتل حتى قتل منهم سبعون ألفاً، فأوحى الله إلى موسى مرهم فليرفعوا أيديهم، فقد غفرت لمن قتل وتبت على من بقي. والحكايات لهذه القصة كثيرة جداً. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "بملكنا" قال: بأمرنا. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة "بملكنا" قال: بطاقتنا. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي مثله. وأخرج أيضاً عن الحسن قال: بسلطاننا. وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "هذا إلهكم وإله موسى فنسي" قال: فنسي موسى أن يذكر لكم أن هذا إلهه.
جملة 92- "قال يا هارون" مستأنفة جواب سؤال مقدر، والمعنى: أن موسى لما وصل إليهم أخذ بشعور رأس أخيه هارون وبلحيته وقال "ما منعك" من اتباعي واللحوق بي عند أن وقعوا في هذه الضلالة ودخلوا في الفتنة.
وقيل معنى 93-" ما منعك إذ رأيتهم ضلوا * أن لا تتبعن " ما منعك من اتباعي في الإنكار عليهم، وقيل معناه: هلا قاتلتهم إذ قد علمت أني لو كنت بينهم لقاتلتهم، وقيل معناه: هلا فارقتهم، ولا في " أن لا تتبعن " زائدة، وهو في محل نصب على أنه مفعول ثان لمنع: أي أي شيء منعك حين رؤيتك لضلالهم من اتباعي، والاستفهام في "أفعصيت أمري" للإنكار والتوبيخ، والفاء للعطف على مقدر كنظائره، والمعنى: كيف خالفت أمري لك بالقيام لله ومنابذة من خالف دينه وأقمت بين هؤلاء الذين اتخذوا العجل إلهاً، وقيل المراد بقوله أمري هو قوله الذي حكى الله عنه "قال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين" فلما أقام معهم ولم يبالغ في الإنكار إليهم نسبه إلى عصيانه.
94- "قال يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي" قرئ بالفتح والكسر للميم، وقد تقدم الكلام على هذا في سورة الأعراف، ونسبه إلى الأم مع كونه أخاه لأبيه وأمه عند الجمهور استعطافاً له وترقيقاً لقلبه، ومعنى "ولا برأسي" ولا بشعر رأسي: أي لا تفعل هذا بي عقوبة منك لي، فإن لي عذراً هو "إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل" أي خشيت إن خرجت عنهم وتركتهم أن يتفرقوا فتقول إني فرقت جماعتهم وذلك لأن هارون لو خرج لتبعه جماعة منهم وتخلف مع السامري عند العجل آخرون، وربما أفضى ذلك إلى القتال بينهم، ومعنى "ولم ترقب قولي" ولم تعمل بوصيتي لك فيهم، إني خشيت أن تقول فرقت بينهم وتقول لم تعمل بوصيتي لك فيهم وتحفظها، ومراده بوصية موسى له هو قوله: " اخلفني في قومي وأصلح " قال أبو عبيد: معنى "ولم ترقب قولي" ولم تنتظر عهدي وقدومي لأنك أمرتني أن أكون معهم، فاعتذر هارون إلى موسى ها هنا بهذا، واعتذر إليه في الأعراف بما حكاه الله عنه هنالك حيث قال: "إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني".
ثم ترك الكلام مع أخيه وخاطب السامري فـ 95- "قال فما خطبك يا سامري" أي ما شأنك وما الذي حملك على ما صنعت.
96- " قال بصرت بما لم يبصروا به " أي قال السامري مجيباً على موسى: رأيت ما لم يروا أو علمت بما لم يعلموا وفطنت لما لم يفطنوا له، وأراد بذلك أنه رأى جبريل على فرص الحياة فألقى في ذهنه أن يقبض قبضة من أثر الرسول، وأن ذلك الأثر لا يقع على جماد إلا صار حياً. وقرأ حمزة والكسائي والأعمش وخلف " بما لم يبصروا به " بالمثناة من فوق على الخطاب. وقرأ الباقون بالتحتية، وهي أولى، لأنه يبعد كل البعد أن يخاطب موسى بذلك ويدعي لنفسه أنه علم ما لم يعلم به موسى، وقرئ بضم الصاد فيهما وبكسرها في الأول وفتحها في الثاني، وقرأ أبي بن كعب وابن مسعود والحسن وقتادة فقبصت قبصة بالصاد المهملة فيهما، وقرأ الباقون بالضاد المعجمة فيهما، والفرق بينهما أن القبض بالمعجمة هو الأخذ بجميع الكف، وبالمهملة بأطراف الأصابع، والقبضة بضم القاف: القدر المقبوض. قال الجوهري: هي ما قبضت عليه من شيء، قال: وربما جاء بالفتح، وقد قرئ قبضة بضم القاف وفتحها، ومعنى الفتح المرة من القبض، ثم أطلقت على المقبوض وهو معنى القبضة بضم القاف، ومعنى "من أثر الرسول" من المجل الذي وقع عليه حافر فرس جبريل، ومعنى "فنبذتها" فطرحتها في الحلي المذابة المسبوكة على صورة العجل "وكذلك سولت لي نفسي" قال الأخفش: أي زينت: أي ومثل ذلك التسويل سولت لي نفسي، وقيل معنى سولت لي نفسي.
97- فلما سمع موسى منه ذلك "قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس" أي فاذهب من بيننا واخرج عنا فإن لك في الحياة: أي ما دمت حيا، وأطول حياتك أن تقول لا مساس. المساس مأخوذ من المماسة: أي لا يمسك أحد ولا تمس أحداً، لكن لا بحسب الاختيار منك، بل بموجب الاضطرار الملجئ إلى ذلك، لأن الله سبحانه أمر موسى أن ينفي السامري عن قومه، وأمر بني إسرائيل أن لا يخالطوه ولا يقربوه ولا يكلموه عقوبة له. قيل إنه لما قال له موسى ذلك هرب، فجعل يهيم في البرية مع السباع والوحش لا يجد أحداً من الناس يمسه حتى صار كمن يقول لا مساس لبعده عن الناس وبعد الناس عنه، كما قال الشاعر: حمال رايات بها قناعسا حتى تقول الأزد لا مسايسا قال سيبويه: وهو مبني على الكسر. قال الزجاج: كسرت السين لأن الكسرة من علامة التأنيث. قال الجوهري في الصحاح: وأما قول العرب لا مساس مثل قطام فإنما بني على الكسر لأنه معدول عن المصدر، وهو المس. قال النحاس: وسمعت علي بن سليمان يقول: سمعت محمد بن يزيد المبرد يقول: إذا اعتل الشيء من ثلاث جهات وجب أن يبنى، وإذا اعتل من جهتين وجب أن لا ينصرف، لأنه ليس بعد الصرف إلا البناء، فمساس دراك اعتل من ثلاث جهات: منها أنه معدول، ومنها أنه يؤنث، ومنها أنه معرفة، فلما وجب البناء فيه وكانت الألف قبل السين ساكنة كسرت السين لالتقاء الساكنين. وقد رأيت أبا إسحاق يعني الزجاج ذهب إلى أن هذا القول خطأ وألزم أبا العباس إذا سميت امرأة بفرعون أن يبنيه وهذا لا يقوله أحد. وقد قرأ بفتح الميم أبو حيوة والباقون بكسرها. وحاصل ما قيل في معنى لا مساس ثلاثة أوجه: الأول أنه حرم عليه مماسة الناس، وكان إذا ماسه أحد حم الماس والممسوس. فلذلك كان يصيح إذا رأى أحداً لا مساس. والثاني أن المراد منع الناس من مخالطته، واعترض بأن الرجل إذا صار مهجوراً فلا يقول هو لا مساس، وإنما يقال له، وأجيب بأن المراد الحكاية: أي اجعلك يا سامري بحيث إذا أخبرت عن حالك قلت لا مساس. والقول الثالث أن المراد انقطاع نسله، وأن يخبر بأنه لا يتمكن من مماسة المرأة قاله أبو مسلم وهو ضعيف جداً. ثم ذكر حاله في الآخرة فقال: "وإن لك موعداً لن تخلفه" أي لن يخلفك الله ذلك الموعد، وهو يوم القيامة، والموعد مصدر: أي إن لك وعداً لعذابك، وهو كائن لا محالة قال الزجاج: أي يكافئك الله على ما فعلت في القيامة والله لا يخلف الميعاد. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب وابن محيصن واليزيدي والحسن "لن تخلفه" بكسر اللام، وله على هذه القراءة معنيان: أحدهما ستأتيه ولن تجده مخلفاً كما تقول أحمدته: أي وجدته محموداً، والثاني على التهديد: أي لا بد لك من أن تصير إليه. وقرأ ابن مسعود لن نخلفه بالنون: أي لن يخلفه الله. وقرأ الباقون بفتح اللام، وبالفوقية مبنياً للمفعول، معناه ما قدمناه " وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا " ظلت أصله ظللت فحذفت اللام الأولى تخفيفاً، والعرب تفعل ذلك كثيراً. وقرأ الأعمش بلامين على الأصل. وفي قراءة ابن مسعود ظلت بكسر الظاء. والمعنى: انظر إلى إلهك الذي دمت وأقمت على عبادته، والعاكف الملازم "لنحرقنه" قرأ الجمهور بضم النون وتشديد الراء من حرقه يحرقه. وقرأ الحسن بضم النون وسكون الحاء وتخفيف الراء من أحرقه يحرقه. وقرأ علي وابن عباس وأبو جعفر وابن محيصن وأشهب والعقيلي لنحرقنه بفتح النون وضم الراء مخففة من حرقت الشيء أحرقه حرقاً إذا بردته وحككت بعضه ببعض: أي لنبردنه بالمبارد، ويقال للمبرد المحرق. والقراءة الأولى أولى، ومعناها الإحراق بالنار، وكذا معنى القراءة الثانية، وقد جمع بين هذه الثلاث القراءات بأنه أحرق، ثم برد بالمبرد، وفي قراءة ابن مسعود لنذبحنه ثم لنحرقنه، واللام هي الموطئة للقسم "ثم لننسفنه في اليم نسفاً" النسف نفض الشيء ليذهب به الريح. قرأ أبو رجاء لننسفنه بضم السين، وقرأ الباقون بكسرها، وهما لغتان. والمنسف ما ينسف به الطعام، وهو شيء منصرب الصدر أعلاه مرتفع، والنسافة ما يسقط منه.
98- "إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو" لا هذا العجل الذي فتنتم به السامري "وسع كل شيء علماً" قرأ الجمهور وسع بكسر السين مخففة. وهو متعد إلى مفعول واحد، وهو كل شيء، وانتصاب علماً على التمييز المحول عن الفاعل: أي وسع علمه كل شيء. وقرأ مجاهد وقتادة وسع بتشديد السين وفتحها فيتعدى إلى مفعولين، ويكون انتصاب علماً على أنه المفعول الأول وإن كان متأخراً، لأنه في الأصل فاعل، والتقدير: وسع علمه كل شيء، وقد مر نحو هذا في الأعراف.
99- "كذلك نقص عليك" الكاف في محل نصب على أنها نعت لمصدر محذوف أي كما قصصنا عليك خبر موسى كذلك نقص عليك " من أنباء ما قد سبق " أي من أخبار الحوادث الماضية في الأمم الخالية لتكون تسلية لك ودلالة على صدقك، ومن للتبعيض: أي بعض أخبار ذلك "وقد آتيناك من لدنا ذكراً" المراد بالذكر القرآن، وسمي ذكراً لما فيه من الموجبات للتذكر والاعتبار، وقيل المراد بالذكر الشرف كقوله: "وإنه لذكر لك ولقومك".
ثم توعد سبحانه المعرضين على هذا الذكر فقال: 100- "من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزراً" أي أعرض عنه فلم يؤمن به ولا عمل بما فيه، وقيل أعرض عن الله سبحانه، فإن المعرض عنه يحمل يوم القيامة وزراً: أي إثماً عظيماً وعقوبة ثقيلة بسبب إعراضه.
101- "خالدين فيه" أي في الوزر، والمعنى: أنهم يقيمون في جزائه، وانتصاب خالدين على الحال "وساء لهم يوم القيامة حملاً" أي بئس الحمل يوم القيامة، والمخصوص بالذم محذوف: أي ساء لهم حملاً وزرهم، واللام للبيان كما في "هيت لك". وقد أخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله: "يا هارون ما منعك" إلى قوله: "أفعصيت أمري" قال: أمره موسى أن يصلح ولا يتبع سبيل المفسدين. فكان من إصلاحه أن ينكر العجل. وأخرج عنه أيضاً في قوله: "ولم ترقب قولي" قال: لم تنتظر قولي ما أنا صانع، وقال ابن عباس: لم ترقب لم تحفظ قولي. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: " فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس " قال: عقوبة له "وإن لك موعداً لن تخلفه" قال: لن تغيب عنه. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: " وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا " قال: أقمت "لنحرقنه" قال بالنار "ثم لننسفنه في اليم" قال: لنذرينه في البحر. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه كان يقرأ "لنحرقنه" خفيفة ويقول: إن الذهب والفضة لا تحرق بالنار، بل تسحل بالمبرد ثم تلقى على النار فتصير رماداً. وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال: "اليم" البحر. وأخرج أيضاً عن علي قال "اليم" النهر. وأخرج أيضاً عن قتادة في قوله: "وسع كل شيء علماً" قال: ملأ. وأخرج أيضاً عن ابن زيد في قوله: "من لدنا ذكراً" قال: القرآن. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد "وزراً" قال: إثماً. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وساء لهم يوم القيامة حملاً" يقول: بئس ما حملوا.
الظرف وهو 102- "يوم ينفخ" متعلق بمقدر هو اذكر، وقيل هو بدل من يوم القيامة، والأول أولى. قرأ الجمهور ينفخ بضم الياء التحتية مبنياً للمفعول، وقرأ أبو عمرو وابن أبي إسحاق بالنون مبنياً للفاعل، واستدل أبو عمرو على قراءته هذه بقوله ونحشر فإنه بالنون. وقرأ ابن هرمز ينفخ بالتحتية مبنياً للفاعل على أن الفاعل هو الله سبحانه أو إسرافيل، وقرأ أبو عياض "في الصور" بفتح الواو جمع صورة، وقرأ الباقون بسكون الواو، وقرأ طلحة بن مصرف والحسن "يحشر" بالياء التحتية مبنياً للمفعول ورفع "المجرمين" وهو خلاف رسم المصحف وقرأ الباقون بالنون، وقد سبق تفسير هذا في الأنعام، والمراد بالمجرمين المشركون والعصاة المأخوذون بذنوبهم التي لم يغفرها الله لهم، والمراد بـ"يومئذ" يوم النفخ في الصور، وانتصاب زرقاً على الحال من المجرمين: أي زرق العيون، والزرقة الخضرة في العين كعين السنور والعرب تتشاءم بزرقة العين، وقال الفراء زرقاً: أي عمياء. وقال الأزهري: عطاشاً، وهو قول الزجاج لأن سواد العين يتغير بالعطش إلى الزرقة. وقيل إنه كنى بقوله زرقاً عن الطمع الكاذب إذا تعقبته الخيبة، وقيل هو كناية عن شخوص البصر من شدة الحرص، ومنه قول الشاعر: لقد زرقت عيناك يابن معكبر كما كل ضبي من اللؤم أزرق والقول الأول أولى، والجمع بين هذه الآية وبين قوله: "ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً وبكماً وصماً" ما قيل من أن ليوم القيامة حالات ومواطن تختلف فيها صفاتهم ويتنوع عندها عذابهم.
وجملة 103- "يتخافتون بينهم" في محل نصب على الحال، أو مستأنفة لبيان ما هم فيه في ذلك اليوم، والخفت في اللغة السكون، ثم قيل لممن خفض صوته خفته. والمعنى يتساررون: أي يقول بعضهم لبعض سراً "إن لبثتم إلا عشراً" أي ما لبثتم في الدنيا إلا عشر ليال، وقيل في القبور، وقيل بين النفختين. والمعنى: أنهم سيتقصرون مدة مقامهم في الدنيا، أو في القبور، أو بين النفختين لشدة ما يرون من أهوال القيامة. وقيل المراد بالعشر عشر ساعات.
ثم لما قالوا هذا القول قال الله سبحانه 104- "نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة" أي أعدلهم قولاً وأكلمهم رأياً وأعلمهم عند نفسه "إن لبثتم إلا يوماً" أي ما لبثتم إلا يوماً واحداً، ونسبة هذا القول إلى أمثلهم، لكونه أدل على شدة الهول، لا لكونه أقرب إلى الصدق.
105- "ويسألونك عن الجبال" أن عن حال الجبال يوم القيامة، وقد كانوا سألو النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأمره الله سبحانه أن يجيب عنهم فقال: "فقل ينسفها ربي نسفاً" قال ابن الأعرابي وغيره: بقلعها قلعاً من أصولها، ثم يصيرها رملاً يسيل سيلاً. ثم يسيرها كالصوف المنقوش تطيرها الرياح هكذا وهكذا، ثم كالهباء المنثور. والفاء في قوله فقل الجواب شرط مقدر، والتقدير: إن سألوك فقل، أو للمسارعة إلى إلزام السائلين.
والضمير في قوله: 106- "فيذرها" راجع إلى الجبال باعتبار مواضعها: أي فيذر مواضعها بعد نسف ما كان عليها من الجبال "قاعاً صفصفاً" قال ابن الأعرابي: القاع الصفصف الأرض الملساء التي لا نبات فيها. وقال الجوهري: القاع المستوي من الأرض، والجمع أقوع وأقواع وقيعان. والظاهر من لغة العرب أن القاع: الموضع المنكشف، والصفصف المستوي الأملس، وأنشد سيبويه: وكم دون بيتك من صفصف ودكداك رمل وأعقادها وانتصاب قاعاً على أنه مفعول ثان ليذر على تضمينه معنى التصيير، أو على الحال، والصفصف صفة له.
ومحل 107- "لا ترى فيها عوجاً" النصب على أنه صفة ثانية لقاعاً، والضمير راجع إلى الجبال بذلك الاعتبار، والعوج بكسر العين التعوج، قاله ابن الأعرابي. والأمت التلال الصغار، والأمت في اللغة المكان المرتفع، وقيل العوج الميل والأمت الأثر مثل الشراك، وقل العوج الوادي، والأمت الرابية، وقيل هما الارتفاع، وقيل العوج للصدوع، والأمت الأكمة، وقل الأمت الشقوق في الأرض، وقل الأمت أن يغلظ في مكان ويدق في مكان، ووصف مواضع الجبال بالعوج بكسر العين ها هنا يدفع ما يقال: إن العوج بكسر العين في المعاني وبفتحها في الأعيان، وقد تكلف لذلك صاحب الكشاف في هذا الموضع بما عنه غنى، وفي غيره سعة.
108- "يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له" أي يوم نسف الجبال يتبع الناس داعي الله إلى المحشر. وقال الفراء: يعني صوت الحشر، وقيل الداعي هو إسرافيل إذا نفخ في الصور لا عوج له: أي لا معدل لهم عن دعائه فلا يقدرون على أن يزيغوا عنه، أو ينحرفوا منه بل يسرعون إليه كذا قال أكثر المفسرين، وقيل لا عوج لدعائه "وخشعت الأصوات للرحمن" أي خضعت لهيبته، وقيل ذلت، وقيل سكنت، ومنه قول الشاعر: لما أتى خبر الزبير تواضعت سور المدينة والجبال الخشع "فلا تسمع إلا همساً" الهمس الصوت الخفي. قال أكثر المفسرين: هو صوت نقل الأقدام إلى المحشر، ومنه قوله الشاعر: وهن يمشين بنا هميسا يعني صوت أخفاف الإبل. وقال رؤبة صف نفسه: ليث يدق الأسد الهموسا ولا يهاب الفيل والجاموسا يقال للأسد الهموس، لأنه يهمس في الظلمة: أي يطأ وطئاً خفيفاً. والظاهر أن المراد هنا كل صوت خفي سواء كان بالقدم، أو من الفم، أو غير ذلك، ويؤيده قراءة أبي بن كعب فلا ينطقون إلا همساً.
109- "يومئذ لا تنفع الشفاعة" أي يوم يقع ما ذكر لا تنفع الشفاعة من شافع كائنا ما كان "إلا من أذن له الرحمن" أي إلا شفاعة من أذن له الرحمن أن يشفع له "ورضي له قولاً" أي رضي قوله في الشفاعة أو رضي لأجله قول الشافع. والمعنى: إنما تنفع الشفاعة لمن أذن له الرحمن في أن يشفع له، وكان له قول يرضى، ومثل هذه الآية قوله: "لا يشفعون إلا لمن ارتضى"، وقوله: "لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهداً"، وقوله: "فما تنفعهم شفاعة الشافعين".
110- "يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم" أي ما بين أيديهم من أمر الساعة، وما خلفهم من أمر الدنيا، والمراد هنا جميع الخلق، وقيل المراد بهم الذين يتبعون الداعي، وقال ابن جرير: الضمير يرجع إلى الملائكة، أعلم الله من يعبدها أنها لا تعلم ما بين أيديها وما خلفها "ولا يحيطون به علماً" أي بالله سبحانه، لا تحيط علومهم بذاته، ولا بصفاته، ولا بمعلوماته، وقيل الضمير راجع إلى ما في الموضعين فإنهم لا يعلمون جميع ذلك.
111- "وعنت الوجوه للحي القيوم" أي ذلت وخضعت، قاله ابن الأعرابي. قال الزجاج: معنى عنت في اللغة خضعت، يقال عنى يعنو عنواً إذا خضع ومنه قيل للأسير: عان، ومنه قول أمية بن أبي الصلت: مليك على عرش السماء مهيمن لعزته تعنو الوجوه وتسجد وقيل هو من العناء، بمعنى التعب "وقد خاب من حمل ظلماً" أي خسر من حمل شيئاً من الظلم، وقيل هو الشرك.
112- "ومن يعمل من الصالحات" أن الأعمال الصالحة "وهو مؤمن" بالله، لأن العمل لا يقبل من غير إيمان، بل هو شرط في القبول "فلا يخاف ظلماً" يصاب به من نقص ثواب في الآخرة "ولا هضماً" الهضم النقص والكسر يقال هضمت لك من حقي: أي جططته وتركته، وهذا يهضم الطعام: أي ينقص ثقله، وامرأة هضيم الكشح: أي ضامرة البطن، وقرأ ابن كثير ومجاهد "لا يخف" بالجزم جواباً لقوله: ومن يعمل من الصالحات وقرأ الباقون "يخاف" على الخبر. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أن رجلاً أتاه، فقال رأيت قوله: "ونحشر المجرمين يومئذ زرقاً" وأخرى "عمياً" قال: إن يوم القيامة فيه حالات يكونون في حال زرقاً، وفي حال عمياً. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله "يتخافتون بينهم" قال يتساررون. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد ابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: "أمثلهم طريقة" قال: أوفاهم عقلاً، وفي لفظ قال: أعلمهم في نفسه. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال: قالت قريش كيف يفعل ربك بهذه الجبال يوم القيامة؟ فنزلت "ويسألونك عن الجبال" الآية. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "فيذرها قاعاً صفصفاً" قال: لا نبات فيه "لا ترى فيها عوجاً" قال: وادياً "ولا أمتاً" قال رابية. وأخرج عبد بن حميد ابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة أنه سئل عن قوله: " قاعا صفصفا * لا ترى فيها عوجا ولا أمتا " قال: كان ابن عباس يقول: هي الأرض الملساء التي ليس فيها رابية مرتفعة ولا انخفاض. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس "عوجاً" قال ميلاً"ولا أمتاً" قال: الأمت الأثر مثل الشراك. وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي قال: يحشر الناس يوم القيامة في ظلمة تطوي السماء وتتناثر النجوم وتذهب الشمس والقمر وينادي مناد فيتبع الناس الصوت يؤمنونه. فذلك قول الله "يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له". وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي صالح في الآية: قال لا عوج عنه. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وخشعت الأصوات" قال: سكنت "فلا تسمع إلا همساً" قال: الصوت الخفي. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله: "إلا همساً" قال: صوت وطء الأقدام. وأخرج عبد بن حميد عن الضحاك وعكرمة وسعيد بن جبير والحسن مثله. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد قال: الصوت الخفي. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: سر الحديث وصوت الأقدام. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس "وعنت الوجوه" قال: ذلت. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة مثله. وأخرج عبد بن حميد ابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: خشعت. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية قال: خضعت. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: "وعنت الوجوه" الركوع والسجود. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج "وقد خاب من حمل ظلماً" قال: شركاً. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة "وقد خاب من حمل ظلماً" قال: شركاً "فلا يخاف ظلماً ولا هضماً" قال: ظلماً: أن يزاد في سيئاته "ولا هضماً" قال: ينقص من حسناته. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال: لا يخاف أن يظلم في سيئاته، ولا يهضم في حسناته. وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه "ولا هضماً" قال: غصباً.
قوله: 113- "وكذلك أنزلناه" معطوف على قوله "كذلك نقص عليك". أي مثل ذلك الإنزال أنزلناه: أي القرآن حال كونه "قرآناً عربياً" أي بلغة العرب ليفهموه "وصرفنا فيه من الوعيد" بينا فيه ضروباً من الوعيد تخويفاً وتهديداً أو كررنا فيه بعضاً منه "لعلهم يتقون" أي كي يخافوا الله فيتجنبوا معاصيه ويحذروا عقابه "أو يحدث لهم ذكراً" أي اعتباراً واتعاظاً، وقيل ورعاً، وقيل شرفاً، وقيل طاعة وعبادة، لأن الذكر يطلق عليها. وقرأ الحسن أو نحدث بالنون.
114- "فتعالى الله الملك الحق" لما بين للعباد عظيم نعمته عليهم بإنزال القرآن نزه نفسه عن مماثلة مخلوقاته في شيء من الأشياء: أي جل الله عن إلحاد الملحدين وعما يقول المشركون في صفاته فإنه الملك الذي بيده الثواب والعقاب وأنه الحق أي ذو الحق " ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه " أي يتم إليك وحيه. قال المفسرون: كان النبي صلى الله عليه وسلم يبادر جبريل فيقرأ قبل أن يفرغ جبريل من الوحي حرصاً منه على ما كان ينزل عليه منه فنهاه الله عن ذلك، ومثله قوله: "لا تحرك به لسانك لتعجل به" على ما يأتي إن شاء الله، وقيل المعنى: ولا تلقه إلى الناس قبل أن يأتيك بيان تأويله، وقرأ ابن مسعود ويعقوب والحسن والأعمش من قبل أن تقضي بالنون ونصب وحيه "وقل رب زدني علماً" أن سل ربك زيادة العلم بكتابه.
115- "ولقد عهدنا إلى آدم" اللام هي الموطئة للقسم، والجملة المستأنفة مقررة لما قبلها من تصريف الوعيد. أي لقد أمرناه ووصيناه، والمعهود محذوف، وهو ما سيأتي من نهيه عن الأكل من الشجرة، ومعنى "من قبل" أي من قبل هذا الزمان "فنسي" قرأ الأعمش بإسكان الياء، والمراد بالنسيان هنا ترك العمل بما وقع به العهد إليه وينتهي عنه، وبه قال أكثر المفسرين، وقيل النسيان على حقيقته، وأنه نسي ما عهد الله به إليه وينتهي عنه، وكان آدم مأخوذاً بالنسيان في ذلك الوقت، وإن كان النسيان مرفوعاً عن هذه الأمة، والمراد من الآية تسلية النبي صلى الله عليه وسلم على القول الأول. أي أن طاعة بني آدم للشيطان أمر قديم، وأن هؤلاء المعاصرين له إن نقضوا العهد فقد نقض أبوهم آدم، كذا قال ابن جرير والقشيري، واعترضه ابن عطية قائلاً بأن كون آدم مماثلاً للكفار الجاحدين بالله ليس بشيء، وقرئ فنسي بضم النون وتشديد السين مكسورة مبنياً للمفعول: أي فنساه إبليس "ولم نجد له عزماً" العزم في اللغة توطين النفس على الفعل والتصميم عليه، والمضي على المعتقد في أي شيء كان، وقد كان آدم عليه السلام قد وطن نفسه على أن لا يأكل من الشجرة وصمم على ذلك، فلما وسوس إليه إبليس لانت عريكته وفتر عزمه وأدركه ضعف البشر، وقيل العزم الصبر أي لم نجد له صبراً عن أكل الشجرة. قال النحاس: وهو كذلك في اللغة، يقال لفلان عزم: أي صبر وثبات على التحفظ عن المعاصي حتى يسلم منها، ومنها " كما صبر أولو العزم من الرسل "، وقيل المعنى: ولم نجد له عزماً على الذنب، وبه قال ابن كيسان: وقيل لم نجد له رأياً معزوماً عليه، وبه قال ابن قتيبة.
ثم شرع سبحانه في كيفية ظهور نسيانه وفقدان عزمه، والعامل في إذ مقدر: أي 116- "و" اذكر "إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم" وتعليق الذكر بالوقت مع أن المقصود ذكر ما فيه من الحوادث للمبالغة، لأنه إذا وقع الأمر بذكر الوقت كان ذكر ما فيه من الحوادث لازماً بطريق الأولى وقد تقدم تفسير هذه القصة في البقرة مستوفى.
ومعنى 117- "فتشقى" فتتعب في تحصيلر ما لا بد منه في المعاش كالحرث والزرع، ولم يقل فتشقيا، لأن الكلام من أول القصة مع آدم وحده.
ثم علل ما يوجبه ذلك النهي بما فيه الراحة الكاملة عن التعب والاهتمام فقال: 118- " إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى " أي في الجنة. والمعنى: أن لك فيها أن تمتعاً بأنواع المعايش وتنعماً بأصناف النعم من المأكل الشهية والملابس البهية، فإنه لما نفي عنه الجوع والعري أفاد ثبوت الشبع والاكتساء له.
وهكذا قوله: 119- " وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى " فإن نفي الظمأ يستلزم حصول الري ووجود المسكن الذي يدفع عنه مشقة الضحو يقال ضحى الرجل يضحى ضحواً: إذا برز للشمس فأصابه حرها، فذكر سبحانه ها هنا أنه قد كفاه الاشتغال بأمر المعاش وتعب الكد في تحصيله، ولا ريب أن أصول المتاعب في الدنيا هي تحصيل الشبع والري والكسوة والكن، وما عدا هذه ففضلات يمكن البقاء بدونها، وهو إعلام من الله سبحانه لآدم أنه إن أطاعه فله في الجنة هذا كله، وإن ضيع وصيته ولم يحفظ عهده أخرجه من الجنة إلى الدنيا فيحل به التعب والنصب مما يدفع الجوع والعري والظمأ والضحو، فالمراد بالشقاء شقاء الدنيا كما قاله كثير من المفسرين لا شقاء الأخرى. قال الفراء: هو أن يأكل من كد يديه، وقرأ أبو عمرو والكوفيون إلا عاصماً "وأنك لا تظمأ" بفتح أن، وقرأ الباقون بكسرها على العطف على إن لك.
120- "فوسوس إليه الشيطان" قد تقدم تفسيره في الأعراف في قوله: "فوسوس لهما الشيطان" أي أنهى إليه وسوسته، وجملة "قال يا آدم" إلى آخره إما بدل من وسوس أو مستأنفة بتقدير سؤال كأنه قيل: فماذا قال له في وسوسته؟ " شجرة الخلد " هي الشجرة التي من أكل منها لم يمت أصلاً "وملك لا يبلى" أي لا يزول ولا ينقضي.
121- "فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما" قد تقدم تفسير هذا وما بعده في الأعراف. قال الفراء: ومعنى طفقا في العربية: أقبلا، وقيل جعلا يلصقان عليهما من ورق التين "وعصى آدم ربه فغوى" أي عصاه بالأكل من الشجرة "فغوى" فضل عن الصواب أو عن مطلوبه، وهو الخلود بأكل تلك الشجرة، وقيل فسد عليه عيشة بنزوله إلى الدنيا، وقيل جهل موضع رشده، وقيل بشم من كثرة الأكل. قال ابن قتيبة: أكل آدم من الشجرة التي نهي عنها باستزلال إبليس وخدائعه إياه، والقسم له بالله إنه له لمن الناصحين حتى دلاه بغرور ولم يكن ذنبه عن اعتقاد متقدم ونية صحيحة، فنحن نقول: عصى آدم ربه فغوى انتهى. قال القاضي أبو بكر بن العربي: لا يجوز لأحد أن يخبر اليوم بذلك عن آدم. قلت: لا مانع من هذا بعد أن أخبرنا الله في كتابه بأنه عصاه، وكما يقال حسنات الأبرار سيئات المقربين، ومما قلته في هذا المعنى: عصى أبـو العـالم وهـو الــذي مـن طينة صـوره الله وأسـجد الأمـلاك مـن أجـلـه وصـير الجنــة مــأواه أغواه إبليس فمن ذا أنا المسـ ـكين إن إبليس أغواه
122- "ثم اجتباه ربه" أي اصطفاه وقربه. قال ابن فورك: كانت المعصية من آدم قبل النبوة بدليل ما في هذه الآية، فإنه ذكر الاجتباء والهداية بعد ذكر المعصية، وإذا كانت المعصية قبل النبوة فجائز عليهم الذنوب وجهاً واحداً "فتاب عليه وهدى" أي تاب عليه من معصيته، وهداه إلى الثبات على التوبة. قيل وكانت توبة الله عليه قبل أن يتوب هو وحواء بقولهما "ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين" وقد مر وجه تخصيص آدم بالذكر دون حواء. وقد أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "أو يحدث لهم" أي القرآن "ذكراً" قال: جداً وورعاً. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "ولا تعجل بالقرآن" يقول: لا تعجل حتى نبينه لك. وأخرج الفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن الحسن قال: لطم رجل امرأته، فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تطلب قصاصاً، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم بينهما القصاص، فأنزل الله "ولا تعجل بالقرآن" الآية، فوقف النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزلت "الرجال قوامون على النساء" الآية.أخرج عبد بن حميد وابن المنذر و ابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله " ولا تعجل " الآية . قال: لا تتله على أحد حتى نتمه لك. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن منده في التوحيد والطبراني في الصغير وصححه عن ابن عباس قال: إنما سمي الإنسان لأنه عهد إليه فنسي. وأخرج عبد الغني وابن سعد عن ابن عباس "ولقد عهدنا إلى آدم" أن لا تقرب الشجرة "فنسي" فترك عهدي "ولم نجد له عزماً" قال: حفظاً. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً "فنسي" فترك "ولم نجد له عزماً" يقول: لم نجعل له عزماً. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً " أنك لا تظمأ فيها ولا تضحى " قال: لا يصيبك فيها عطش ولا حر. وأخرج أحمد وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلمها مائة عام لا يقطعها، وهي شجرة الخلد" وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "حاج آدم موسى قال له: أنت الذي أخرجت الناس من الجنة بذنبك وأشقيتهم بمعصيتك، قال آدم: يا موسى أنت الذي اصطفاك الله برسالته وبكلامه، أتلومني على أمر كتبه الله علي قبل أن يخلقني، أو قدره علي قبل أن يخلقني، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فحج آدم موسى".
قوله: 123- "قال اهبطا" قد مر تفسيره في البقرة: أي انزلا من الجنة إلى الأرض، خصمهما الله سبحانه بالهبوط لأنهما أصل البشر، ثم عمم الخطاب لهما ولذريتهما فقال: "بعضكم لبعض عدو" والجملة في محل نصب على الحال ويجوز أن يقال خاطبهما في هذا وما بعده خطاب الجمع، لأنهما منشأ الأولاد. ومعنى "بعضكم لبعض عدو" تعاديهم في أمر المعاش ونحوه. فيحدث بسبب ذلك القتال والخصام "فإما يأتينكم مني هدى" بإرسال الرسل وإنزال الكتب "فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى" أي لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة.
124- "ومن أعرض عن ذكري" أي عن ديني، وتلاوة كتابي، والعمل بما فيه، ولم يتبع هداي "فإن له معيشة ضنكا" أي فإن له في هذه الدنيا معيشة ضنكاً: أي عيشاً ضيقاً. يقال: منزل ضنك وعيش ضنك، مصدر يستوي فيه الواحد وما فوقه والمذكر والمؤنث، قال عنترة: إن المنية لو تمثل مثلت مثلي إذا نزلوا بضنك المنزل وقرئ ضنكي بضم الضاد على فعلى. ومعنى الآية: أن الله عز وجل جعل لمن اتبع هداه وتمسك بدينه أن يعيش في الدنيا عيشاً هنياً غير مهموم ولا مغموم ولا متعب نفسه كما قال سبحانه: "فلنحيينه حياة طيبة" وجعل لمن لم يتبع هداه وأعرض عن دينه أن يعيش عيشاً ضيقاً وفي تعب ونصب، ومع ما يصيبه في هذه الدنيا من المتاعب، فهو في الأخرى أشد تعباً وأعظم ضيقاً وأكثر نصباً. وذلك معنى "ونحشره يوم القيامة أعمى" أي مسلوب البصر. وقيل المراد بالعمى عن الحجة، وقيل أعمى عن جهات الخير لا يهتدي إلى شيء منها، وقد قيل إن المراد بالعيشة الضنكي عذاب القبر، وسيأتي ما يرجح هذه ويقويه.
125- " قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا " في الدنيا.
126- "قال كذلك". أي مثل ذلك فعلت أنت، ثم فسره بقوله: "أتتك آياتنا فنسيتها" أي أعرضت عنها، وتركتها، ولم تنظر فيها "وكذلك اليوم تنسى" أي مثل ذلك النسيان الذي كنت فعلته في الدنيا تنسى: أي تترك في العمى والعذاب في النار، قال الفراء: يقال إنه يخرج بصيراً من قبره فيعمى في حشره.
127- "وكذلك نجزي من أسرف" أي مثل ذلك الجزاء نجزيه: والإسراف الانهماك في الشهوات، وقيل الشرك "ولم يؤمن بآيات ربه" بل كذب بها "ولعذاب الآخرة أشد" أي أفظع من المعيشة الضنكى "وأبقى" أي أدوم وأثبت لأنه لا ينقطع. وقد أخرج ابن أبي شيبة والطبراني وأبو نعيم في الحلية وابن مردويه عن ابن عباس. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من اتبع كتاب الله هداه الله من الضلالة في الدنيا، ووقاه سوء الحساب يوم القيامة" وذلك أن الله يقول: "فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى". وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد ومحمد بن نصر وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب من طرق عن ابن عباس قافل: أجار الله تابع القرآن من أن يضل في الدنيا أو يشقى في الآخرة، ثم قرأ "فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى" قال: لا يضل في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة. وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور ومسدد في مسنده وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً في قوله :"معيشة ضنكاً" قال: عذاب القبر. ولفظ عبد الرزاق قال: يضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه. وقد روي موقوفاً. قال ابن كثير: الموقوف أصح. وأخرج البزار وابن أبي حاتم عن أبي هريرة "عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "فإن له معيشة ضنكاً" قال: المعيشة الضنكى أن يسلط عليه تسعة وتسعون حية ينهشون لحمه حتى تقوم الساعة". وأخرج ابن أبي الدنيا والحكيم الترمذي وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان وابن مردويه والبيهقي عن أبي هريرة مرفوعاً نحوه بأطول منه. قال ابن كثير: رفعه منكر جداً. وأخرج ابن أبي شيبة والبزار وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وابن مردويه والبيهقي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "فإن له معيشة ضنكاً" قال: عذاب القبر. قال ابن كثير بعد إخراجه: إسناد جيد. وأخرج هناد وعبد بن حميد وابن المنذر والطبراني والبيهقي عن ابن مسعود في قوله: "فإن له معيشة ضنكاً" قال: عذاب القبر، ومجموع ما ذكرنا هنا يرجع تفسير المعيشة الضنكى بعذاب القبر. وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني والبيهقي في كتاب عذاب القبر عن ابن مسعود أنه فسر المعيشة الضنكى بالشقاء. وأخرج هناد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وعن عكرمة في قوله: "ونحشره يوم القيامة أعمى" قال: عمي عليه كل شيء إلا جهنم، وفي لفظ: لا يبصر إلا النار. وأخرج ابن أبي حاتم عن سفيان في قوله: "وكذلك نجزي من أسرف" قال: من أشرك بالله.
قوله: 128- "أفلم يهد لهم" الاستفهام للتقريع والتوبيخ، والفاء للعطف على مقدر، كما مر غير مرة، والجملة مستأنفة لتقرير ما قبلها وفاعل يهد هو الجملة المذكورة بعدها، والمفعول محذوف، وأنكر البصريون مثل هذا لأن الجمل لا تقع فاعلاً، وجوزه غيرهم. قال القفال: جعل كثرة ما أهلك من القرون مبيناً لهم. قال النحاس: وهذا خطأ لأن كم استفهام، فلا يعمل فيها ما قبلها. وقال الزجاج: المعنى أو لم يهد لهم الأمر بإهلاكنا من أهلكناه، وحقيقته تدل على الهدى، فالفاعل هو الهدى، وقال "كم" في موضع نصب بأهلكنا وقيل إن فاعل يهد ضمير لله أو للرسول، والجملة بعده تفسره، ومعنى الآية على ما هو الظاهر: أفلم يتبين لأهل مكة خبر من "أهلكنا قبلهم من القرون" حال كون القرون "يمشون في مساكنهم" ويتقلبون في ديارهم، أو حال كون هؤلاء يمشون في مساكن القرون اللذين أهلكناهم عند خروجهم للتجارة وطلب المعيشة، فيرون بلاد الأمم الماضية، والقرون الخالية خاوية حاربة من أصحاب الحجر وثمود وقرى قوم لوط فإن ذلك مما يوجب اعتبارهم لئلا يحل بهم مثل ما حل بأولئك. وقرأ ابن عباس والسلمي نهد بالنون، والمعنى على هذه القراءة واضح، وجملة "إن في ذلك لآيات لأولي النهى" تعليل للإنكار وتقرير للهداية، والإشارة بقوله ذلك إلى مضمون كم أهلكنا إلى آخره. والنهي: جمع نهية، وهي العقل: أي لذوي العقول التي تنهي أربابها عن القبيح.
129- "ولولا كلمة سبقت من ربك" أي ولولا الكلمة السابقة، وهي وعد الله سبحانه بتأخير عذاب هذه الأمة إلى الدار الآخرة "لكان" عقاب ذنوبهم "لزاماً" أي لازماً لهم، لا ينفك عنهم بحال ولا يتأخر. وقوله: "وأجل مسمى" معطوف على كلمة، قاله الزجاج وغيره، والأجل المسمى هو يوم القيامة، أو يوم بدر، واللزام مصدر لازم، قيل ويجوز عطف وأجل مسمى على الضمير المستتر في كان العائد إلى الأخذ العاجل المفهوم من السياق تنزيلاً للفصل بالخبر منزلة التأكيد: أي لكان الأخذ العاجل "وأجل مسمى" لازمين لهم كما كانا لازمين لعاد وثمود، وفيه تعسف ظاهر.
ثم لما بين الله سبحانه أنه لا يهلكهم بعذاب الاستئصال أمره بالصبر فقال 130- "فاصبر على ما يقولون" من أنك ساحر كذاب، ونحو ذلك من مطاعنهم الباطلة، والمعنى: لا تحتفل بهم، فإن لعذابهم وقتاً مضروباً لا يتقدم ولا يتأخر. وقيل هذا منسوخ بآية القتال "وسبح بحمد ربك" أي متلبساً بحمده، قال أكثر المفسرين: والمراد الصلوات الخمس كما يفيده قوله: "قبل طلوع الشمس" فإنه إشارة إلى صلاة الفجر "وقبل غروبها" فإنه إشارة إلى صلاة العصر "ومن آناء الليل" العتمة، والمراد بالآناء الساعات، وهي جمع إنى بالكسر والقصر، وهو الساعة، ومعنى "فسبح" أي فصل "وأطراف النهار" أي المغرب والظهر لأن الظهر في آخر طرف النهار الأول، وأول طرف النهار الآخر. وقيل إن الإشارة إلى صلاة الظهر هي بقوله: "وقبل غروبها" لأنها هي وصلاة العصر قبل غروب الشمس، وقيل المراد بالآية صلاة التطوع، ولو قيل ليس في الآية إشارة إلى الصلاة بل المراد التسبيح في هذه الأوقات: أي قول القائل سبحان الله، لم يكن ذلك بعيداً من الصواب، والتسبيح في هذه الأوقات: أي قول القائل سبحان الله، لم يكن ذلك بعيداً من الصواب، والتسبيح وإن كان يطلق على الصلاة ولكنه مجاز، والحقيقة أولى إلا لقرينة تصرف ذلك إلى المعنى المجازي، وجملة "لعلك ترضى" متعلقة بقوله "فسبح": أي سبح في هذه الأوقات رجاء أن تنال عند الله سبحانه ما ترضى به نفسك، هذا على قراءة الجمهور. وقرأ الكسائي وأبو بكر عن عاصم "ترضى" بضم التاء مبنياً للمفعول: أي يرتضيك ربك.
131- "ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم" قد تقدم تفسير هذه الآية في الحجر. والمعنى: لا تطل نظر عينيك، وأزواجاً مفعول متعنا، وزهرة منصوبة على الحال، أو بفعل محذوف: أي جعلنا أو أعطينا، ذكر معنى هذا الزجاج. وقيل هي بدل من الهاء في به باعتبار محله، وهو النصب لا باعتبار لفظه، فإنه مجرور كما تقول مررت به أخاك. ورجح الفراء النصب على الحال، ويجوز أن تكون بدلاً، ويجوز أن تكون منتصبة على المصدر مثل "صبغة الله" و" عبد الله " و"زهرة الحياة الدنيا" زينتها وبهجتها بالنبات وغيره. وقرأ عيسى بن عمر زهرة بفتح الهاء، وهي نور النبات، واللام في "لنفتنهم" فيه متعلق بمتعنا: أي لنجعل ذلك فتنة لهم وضلالة، ابتلاءً منا لهم كقوله: " إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم " وقيل لنعذبهم، وقيل لنشدد عليهم في التكليف "ورزق ربك خير وأبقى" أي ثواب الله، وما ادخر لصالحي عباده في الآخرة خير مما رزقهم في الدنيا على كل حال، وأيضاً فإن ذلك لا ينقطع، وهذا ينقطع، وهو معنى وأبقى. وقيبل المراد بهذا الرزق ما يفتح الله على المؤمنين من الغنائم ونحوها. والأول أولى لأن الخيرية المحققة والدوام الذي لا ينقطع إنما يتحققان في الرزق الأخروي لا الدنيوي، وإن كان حلالاً طيباً " ما عندكم ينفد وما عند الله باق ".
132- "وأمر أهلك بالصلاة" أمره الله سبحانه بأن يأمر أهله بالصلاة، والمراد بهم أهل بيته، وقيل جميع أمته ولم يذكر ها هنا الأمر من الله له بالصلاة، بل قصر الأمر على أهله، إما لكون إقامته لها أمراً معلوماً، أو لكون أمره بها قد تقدم في قوله: "وسبح بحمد ربك" إلى آخر الآية، أو لكون أمره بالأمر لأهله أمراً له، ولهذا قال: "واصطبر عليها" أن اصبر على الصلاة، ولا تشتغل عنها بشيء من أمور الدنيا "لا نسألك رزقاً" أي لا نسألك أن ترزق نفسك ولا أهلك، وتشتغل بذلك عن الصلاة "نحن نرزقك" ونرزقهم ولا نكلفك ذلك "والعاقبة للتقوى" أي العاقبة المحمودة، وهي الجنة لأهل التقوى على حذف المضاف كما قال الأخفش، وفيه دليل على أن التقوى هي ملاك الأمر وعليها تدور دوائر الخير.
133- "وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه" أي قال كفار مكة: هلا يأتينا محمد بآية من آيات ربه كما كان يأتي بها من قبله من الأنبياء؟ وذلك كالناقة والعصا، أو هلا يأتينا محمد بآ]ة من آيات ربه كما كان يأتي بها من قبله من الأنبياء؟ وذلك كالناقة والعصا، أو هلا يأتينا بآية من الآيات التي قد اقترحناها عليه؟ فأجاب الله سبحانه وتعالى عليهم بقوله: " أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى " يريد بالصحف الأولى التوراة والإنجيل والزبور وسائر الكتب المنزلة، وفيها التصريح بنبوته والتبشير به، وذلك يكفي، فإن هذه الكتب المنزلة هم معترفون بصدقها وصحتها، وفيها ما يدفع إنكارهم لنبوته، ويبطل تعنتاتهم وتعسفاتهم. وقيل المعنى: أو لم يأتهم إهلاكنا للأمم الذين كفروا واقترحوا الآيات، فما يؤمنهم إن أتتهم الآيات التي اقترحوها أن يكون حالهم كحالهم. وقيل المراد أو لم تأتهم آية هي أم الآيات وأعظمها في باب الإعجاز يعني القرآن، فإنه برهان لما في سائر الكتب المنزلة. وقرأ أبو جعفر وشيبة ونافع وأبو عمرو ويعقوب وابن أبي إسحاق وحفص " أولم تأتهم " بالتاء الفوقية وقرأ الباقون بالتحتية لأن معنى البينة البيان والبرهان، فذكروا الفعل اعتباراً بمعنى البينة، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم. قال الكسائي: ويجوز بينة بالتنوين. قال النحاس: إذا نونت بينة ورفعت جعلت ما بدلاً منها، وإذا نصبت فعلى الحال. والمعنى: أو لم يأتهم ما في الصحف الأولى مبيناً، وهذا على ما يقتضيه الجواز النحوي وإن لم تقع القراءة به.
134- " ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله " أي من قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم أو من قبل إتيان البينة لنزول القرآن "لقالوا" يوم القيامة "ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً" أي هلا أرسلت إلينا رسولاً في الدنيا "فنتبع آياتك" التي يأتي بها الرسول " من قبل أن نذل " بالعذاب في الدنيا "ونخزى" بدخول النار، وقرئ نذل، ونخزى على البناء للمفعول، وقد قطع الله معذرة هؤلاء الكفرة بإرسال الرسول إليهم قبل إهلاكهم ولهذا حكى الله عنهم أنهم "قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء".
135- "قل كل متربص فتربصوا" أي قل لهم يا محمد كل واحد منا ومنكم متربص: أي منتظر لما يؤول إليه الأمر فتربصوا أنتم "فستعلمون" عن قريب "من أصحاب الصراط السوي". أي فستعلمون بالنصر والعاقبة من هو من أصحاب الصراط المستقيم "ومن اهتدى" من الضلالة ونزع عن الغواية، ومن في الموضعين في محل رفع بالابتداء. قال النحاس: والفراء يذهب إلى أن معنى "من أصحاب الصراط السوي" من لم يضل، وإلى أن معنى "من اهتدى" من ضل ثم اهتدى، وقيل من في الموضعين في محل نصب، وكذا قال الفراء. وحكى عن الزجاج أنه قال: هذا خطأ لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله. وقرأ أبو رافع فسوف تعلمون وقرأ يحيى بن يعمر وعاصم الجحدري السوي على فعلي، وردت هذه القراءة بأن تأنيث الصراط شاذ، وقيل هي بمعنى الوسط والعدل اهـ. وقد أخرج ابن أبي حاتم وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "أفلم يهد لهم" ألم نبين لهم "كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم" نحو عاد وثمود ومن أهلك من الأمم وفي قوله: "ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاماً وأجل مسمى" يقول هذا من مقاديم الكلام، يقول لولا كلمة وأجل مسمى لكان لزاماً. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي نحوه. وأخرج ابن المنذر عن مجاهد قال: الأجل المسمى الكلمة التي سبقت من ربك. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس "لكان لزاماً" قال موتاً. وأخرج الفريابي وعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله: "وسبح بحمد ربك" الآية قال: هي الصلاة المكتوبة. وأخرج الطبراني وابن مردويه وابن عساكر عن جرير عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس" قال: قبل طلوع الشمس صلاة الصبح، وقبل غروبها صلاة العصر. وفي الصحيحين وغيرهما من حديث جرير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا عن صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا، وقرأ " وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها "". وفي صحيح مسلم وسنن أبي داود والنسائي عن عمارة بن رؤبة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها". وأخرج ابن أبي شيبة وابن راهويه والبزار وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والخرائطي وأبو نعيم عن أبي رافع قال: "أضاف النبي صلى الله عليه وسلم ضيفاً، ولم يكن عند النبي صلى الله عليه وسلم ما يصلحه، فأرسلني إلى رجل من اليهود أن بعنا أو سلفنا دقيقاً إلى هلال رجب، فقال: لا إلا برهن، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: أما والله إني لأمين في السماء أمين في الأرض، ولئن أسلفني أو باعني لأديت إليه، اذهب بدرعي الجديد، فلم أخرج من عنده حتى نزلت هذه الآية "ولا تمدن عينيك""، وكأنه يعزيه عن الدنيا، وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أخوف ما أخاف عليكم ما يفتح الله لكم من زهرة الدنيا، قالوا: وما زهرة الدنيا يا رسول الله؟ قال بركات الأرض". وأخرج ابن مردويه وابن عساكر وابن النجار عن أبي سعيد الخدري قال: لما نزلت "وأمر أهلك بالصلاة" كان النبي صلى الله عليه وسلم يجيء إلى باب علي صلاة الغداة ثمانية أشهر يقول: الصلاة رحمكم الله "إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً". وأخرج ابن مردويه عن أبي الحمراء نحوه. وأخرج أحمد في الزهد وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن ثابت، قال "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أصابت أهله خصاصة نادى أهله: يا أهلاه صلوا صلوا" قال ثابت: وكانت الأنبياء إذا نزل بهم أمر فزعوا إلى الصلاة. وأخرج أبو عبيد وسعيد بن منصور وابن المنذر والطبراني في الأوسط وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في الشعب بإسناد قال السيوطي صحيح عن عبد الله بن سلام قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزلت بأهله شدة أو ضيق أمرهم بالصلاة، وقرأ "وأمر أهلك بالصلاة" الآية.