islamkingdomfaceBook islamkingdomtwitter islamkingdominstagram islamkingdomyoutube islamkingdomnew

فتح القدير
15925

18-الكهف

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا

وهي مائة وإحدى عشرة آية قال القرطبي: وهي مكية في قول جميع المفسرين. وروي عن فقرقة أن أول السورة نزل بالمدينة إلى قوله: "جرزاً" والأول أصح انتهى. ومن القائلين إنها مكية جميعها ابن عباس، أخرجه عنه النحاس وابن مردويه ومنهم ابن الزبير، أخرجه عنه ابن مردويه. وقد ورد في فضلها أحاديث: منها ما أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من فتنة الدجال". وأخرج أحمد ومسلم والنسائي وابن حبان عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف عصم من فتنة الدجال". وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن البراء قال "قرأ رجل سورة الكهف وفي الدار دابة، فجعلت تنفر، فنظر فإذا ضبابة أو سحابة قد غشيته، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: اقرأ فلان، فإن السكينة نزلت القرآن"، وهذا الذي كان يقرأ هو أسيد بن حضير كما بينه الطبراني. وأخرج الترمذي وصححه عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ ثلاث آيات من أول سورة الكهف عصم من فتنة الدجال" وفي قراءة العشر الآيات من أولها أو من آخرها أحاديث. وأخرج ابن مردويه والضياء في المختارة عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ الكهف يوم الجمعة فهو معصوم إلى ثمانية أيام من كل فتنة تكون، فإن خرج الدجال عصم منه". وأخرج الطبراني في الأوسط والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي والضياء عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ سورة الكهف كانت له نوراً من مقامه إلى مكة، ومن قرأ عشر آيات من آخرها ثم خرج الدجال لم يضره". وأخرج الحاكم وصححه من حديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين". وأخرجه البيهقي أيضاً في السنن من هذا الوجه ومن وجه آخر. وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة سطع له نور من تحت قدمه إلى عنان السماء يضيء له يوم القيامة وغفر له ما بين الجمعتين". وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبركم بسورة ملأ عظمتها ما بين السماء والأرض ولكاتبها من الأجر مثل ذلك ومن قرأها يوم الجمعة غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام، ومن قرأ الخمس الأواخر منها عند نومه بعثه الله من أي الليل شاء؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: سورة أصحاب الكهف". وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن مغفل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "البيت الذي تقرأ فيه سورة الكهف لا يدخله شيطان تلك الليلة" وفي الباب أحاديث وآثار، وفيما أوردناه كفاية مغنية. علم عباده كيف يحمدونه على إفاضة نعمه عليهم، ووصفه بالموصول يشعر بعلية ما في حيز الصلة لما قبله ووجه كون إنزال الكتاب، وهو القرآن نعمة على رسول الله صلى الله عليه وسلم كونه اطلع بواسطته على أسرار التوحيد، وأحوال الملائكة والأنبياء، وعلى كيفية الأحكام الشرعية التي تعبده الله وتعبد أمته بها، وكذلك العباد كان إنزال الكتاب على نبيهم نعمة لهم لمثل ما ذكرناه في النبي 1- "ولم يجعل له عوجاً" أي شيئاً من العوج بنوع من أنواع الاختلال في اللفظ والمعنى، والعوج بالكسر في المعاني، وبالفتح في الأعيان كذا قيل، ويرد عليه قوله سبحانه: "لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً" يعني الجبال، وهي من الأعيان. قال الزجاج: المعنى في الآية لم يجعل فيها اختلافاً كما قال: "ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً". والقيم المستقيم الذي لا ميل فيه، أو القيم بمصالح العباد الدينية والدنيوية، أو القيم على ما قبله من الكتب السماوية مهيمناً عليها، وعلى الأول يكون تأكيداً لما دل عليه نفي العوج، فرب مستقيم في الظاهر لا يخلو عن أدنى عوج في الحقيقة، وانتصاب قيماً بمضمر: أي جعله قيماً، ومنع صاحب الكشاف أن يكون حالاً من الكتاب، لأن قوله "ولم" يجعل معطوف على "أنزل" فهو داخل في حيز الصلة، فجاعله حالاً من الكتاب فاصل بين الحال وذي الحال ببعض الصلة. وقال الأصفهاني: هما حالان متواليان إلا أن الأول جملة والثاني مفرد، وهذا صواب لأن قوله: "ولم يجعل" لم يكن معطوفاً على ما قبله بل الواو للحال، فلا فصل بين الحال وذي الحال ببعض الصلة.

قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا

وقيل إن 2- "قيماً" حال من ضمير "لم يجعل له"، وقيل في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: أنزل على عبده الكتاب قيماً ولا يجعل له عوجاً، ثم أراد سبحانه أن يفصل ما أجمله في قوله قيماً فقال: "لينذر بأساً شديداً" وحذف المنذر للعلم به مع قصد التعميم، والمعنى لينذر الكافرين. والبأس العذاب، ومعنى "من لدنه" صادراً "من لدنه" نازلاً من عنده. روى أبو بكر عن عاصم أنه قرأ من لدنه باشمام الدال الضمة، وبكسر النون والهاء. وهي لغة الكلابيين. وروى أبو زيد عن جميع القراء فتح اللام وضم الدال وسكون النون "ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات" قرئ "يبشر" بالتشديد والتخفيف، وأجري الموصول على موصوفه المذكور، لأن مدار قبول الأعمال هو الإيمان "أن لهم أجراً حسناً" وهو الجنة.

مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا

حال كونهم 3- "ماكثين فيه" أي في ذلك الأجر "أبداً" أي مكثاً دائماً لا انقطاع له، وتقديم الإنذار على التبشير لإظهار كمال العناية بزجر الكفار.

وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا

ثم كرر الإنذار وذكر المنذر لخصوصه وحذف المنذر به، وهو البأس الشديد، لتقدم ذكره فقال: 4- "وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولداً" وهم اليهود والنصارى وبعض كفار قريش. القائلون بأن الملائكة بنات الله، فذكر سبحانه أولاً قضية كلية، وهي إنذار عموم الكفار.

مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآَبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا

ثم عطف عليها قضية خاصة هي بعض جزئيات تلك الكلية، تنبيهاً على كونها أعظم جزئيات تلك الكلية. فأفاد ذلك أن نسبة الولد إلى الله سبحانه أقبح أنواع الكفر 5- "ما لهم به من علم" أي بالولد، أو اتخاذ الله إياه، و "من" مزيدة لتأكيد النفي، والجملة في محل نصب على الحال أو هي مستأنفة، والمعنى: ما لهم بذلك علم أصلاً "ولا لآبائهم" علم، بل كانوا في زعمهم هذا على ضلالة، وقلدهم أبناؤهم فضلوا جميعاً "كبرت كلمة تخرج من أفواههم" انتصاب "كلمة" على التمييز، وقرئ بالرفع على الفاعلية. قال الفراء: كبرت تلك الكلمة كلمة. وقال الزجاج: كبرت مقالتهم كلمة، والمراد بهذه الكلمة هي قولهم اتخذ الله ولداً. ثم وصف الكلمة بقوله: "تخرج من أفواههم" وفائدة هذا الوصف استعظام اجترائهم على التفوه بها، والخارج من الفم وإن كان هو مجرد الهوى، لكن لما كانت الحروف والأصوات كيفيات قائمة بالهوى أسند إلى الحال ما هو من شأن المحل. ثم زاد في تقبيح ما وقع منهم فقال: "إن يقولون إلا كذباً" أي ما يقولون إلا كذباً لا مجال للصدق فيه بحال.

فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا

ثم سلى رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: 6- "فلعلك باخع نفسك على آثارهم" قال الأخفش والفراء: البخع الجهد. وقال الكسائي: بخعت الأرض بالزراعة إذا جعلتها ضعيفة بسبب متابعة الحراثة، وبخع الرجل نفسه إذا نهكها. وقال أبو عبيدة: معناه مهلك نفسك، ومنه قول ذي الرمة: ألا أيها ذا الباخع الوجد نفسه فيكون المعنى على هذه الأقوال لعلك مجهد نفسك أو مضعفها أو مهلكها "على آثارهم" على فراقهم ومن بعد توليهم وإعراضهم "إن لم يؤمنوا بهذا الحديث" أي القرآن وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله. وقرئ بفتح أن: أي لأن لم يؤمنوا "أسفاً" أي غيظاً وحزناً وهو مفعول له أو مصدر في موضع الحال كذا قال الزجاج.

إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا

7- "إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها" هذه الجملة استئناف. والمعنى: إنا جعلنا ما على الأرض مما يصلح أن يكون زينة لها من الحيوانات والنبات والجماد كقوله سبحانه: "هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً" وانتصاب زينة على أنها مفعول ثان لجعل، واللام في "لنبلوهم أيهم أحسن عملاً" متعلقة بجعلنا، وهي إما للغرض أو للعاقبة، والمراد بالابتلاء أنه سبحانه يعاملهم معاملة لو كانت تلك المعاملة من غيره لكانت من قبيل الابتلاء والامتحان. وقال الزجاج "أيهم" رفع بالابتداء إلا أن لفظه لفظ الاستفهام، والمعنى: لنمتحن أهذا أحسن عملاً أم ذاك؟ قال الحسن: أيهم أزهد، وقال مقاتل: أيهم أصلح فيما أوتي من العلم.

وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا

ثم أعلم سبحانه أنه مبيد لذلك كله ومفنيه فقال: 8- "وإنا لجاعلون ما عليها صعيداً جرزاً" أي لجاعلون ما عليها من هذه الزينة عند تناهي عمر الدنيا صعيداً تراباً. قال أبو عبيدة: الصعيد المستوي من الأرض. وقال الزجاج: هو الطريق الذي لا نبات فيه. قال الفراء: الجرز الأرض التي لا نبات فيها، ومن قولهم: امرأة جرزاً إذا كانت أكولاً، وسيفاً جرزاً إذا كان مستأصلاً، وجرز الجراد والشاة والإبل الأرض إذا أكلت ما عليها. قال ذو الرمة: طوى النحز والاجراز ما في بطونها ومعنى النظم لا تحزن يا محمد مما وقع من هؤلاء من التكذيب فإنا قد جعلنا ما على الأرض زينة لاختبار أعمالهم، وإنا لمذهبون ذلك عند انقضاء عمر الدنيا فمجازوهم إن خيراً فخير، وإن شراً فشر. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: "الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب" الآية قال: أنزل الكتاب عدلاً قيماً "ولم يجعل له عوجاً" ملتبساً. وأخرج ابن المنذر عن الضحاك "قيماً" قال: مستقيماً. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة "من لدنه" أي من عنده. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي "حسناً" يعني الجنة "وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولداً" قال: هم اليهود والنصارى وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: اجتمع عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو جهل والنضر بن الحارث وأمية بن خلف والعاص بن وائل والأسود بن عبد المطلب وأبو البحتري في نفر من قريش، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كبر عليه ما يرى من خلاف قومه إياه، وإنكارهم ما جاء به من النصيحة، فأحزنه حزناً شديداً، فأنزل الله سبحانه: "فلعلك باخع نفسك". وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه "باخع نفسك" يقول: قاتل نفسك. وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد مثله. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي مثله. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد "أسفاً" قال: جزعاً. وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة "أسفاً" قال: حزناً. وأخرج ابن المنذر وابن مردويه من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله: "إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها" قال: الرجال. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير من قوله مثله. وأخرج أبو نصر السجزي في الإبانة من طريق مجاهد عن ابن عباس في الآية قال: العلماء زينة الأرض. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال: هم الرجال العباد العمل لله بالطاعة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم في التاريخ وابن مردويه عن ابن عمر قال:" تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية "لنبلوهم أيهم أحسن عملاً" فقلت: ما معنى ذلك يا رسول الله؟ قال: ليبلوكم أيكم أحسن عقلاً وأورع عن محارم الله وأسرعكم في طاعة الله". وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة قال: ليختبرهم "أيهم أحسن عملاً" قال: أيهم أتم عقلاً. وأخرج عن الحسن "أيهم أحسن عملاً" قال: أشدهم للدنيا تركاً، وأخرج أيضاً عن الثوري قال: أزهدهم في الدنيا. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: "وإنا لجاعلون ما عليها صعيداً جرزاً" قال: يهلك كل شيء ويبيد. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال: الصعيد التراب والجبال التي ليس فيها زرع. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال: يعني بالجرز الخراب.

أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آَيَاتِنَا عَجَبًا

قوله: 9- "أم حسبت" أم هي المنقطعة المقدرة ببل والهمزة عند الجمهور، وببل وحدها عند بعضهم والتقدير: بل أحسبت، أو بل حسبت، ومعناها الانتقال من حديث إلى حديث آخر، لا لإبطال الأول والإضراب عنه كما هو معنى بل في الأصل. والمعنى: أن القوم لما تعجبوا من قصة أصحاب الكهف وسألوا عنها الرسول على سبيل الامتحان، قال سبحانه: بل أظننت يا محمد أنهم كانوا عجباً من آياتنا فقط؟ لا تحسب ذلك فإن آياتنا كلها عجب، فإن من كان قادراً على جعل ما على الأرض زينة لها للابتلاء، ثم جعل ما عليها صعيداً جرزاً كأن لم تغن بالأمس، لا تستبعد قدرته وحفظه ورحمته بالنسبة إلى طائفة مخصوصة، وإن كانت قصتهم خارقة للعادة، فإن آيات الله سبحانه كذلك وفوق ذلك. و "عجباً" منتصبة على أنه خبر كان: أي ذات عجب، أو موصوفة بالعجب مبالغة، ومن آياتنا في محل نصب على الحال.

إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آَتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا

و 10- "إذ أوى الفتية" ظرف لحسبت أو لفعل مقدر، وهو اذكر: أي صاروا إليه وجعلوه مأواهم، والفتية هم أصحاب الكهف، والكهف هو الغار الواسع في الجبل. فإن كان صغيراً سمي غاراً، والرقيم قال كعب والسدي: إنه اسم القرية التي خرج منها أصحاب الكهف. وقال سعيد بن جبير ومجاهد: إنه لوح من حجارة أو رصاص رقمت فيه أسماؤهم جعل على باب الكهف. قال الفراء: ويروى أنه إنما سمي رقيماً لأن أسماءهم كانت مرقومة فيه. والرقم الكتابة. وروي مثل ذلك عن ابن عباس. ومنه قول العجاج في أرجوزة له: ومستقري المصحف الرقيم وقيل إن الرقيم اسم كلبهم، وقيل هو اسم الوادي الذي كانوا فيه، وقيل اسم الجبل الذي فيه الغار. قال الزجاج: أعلم الله سبحانه أن قصة أصحاب الكهف ليست بعجيبة من آيات الله، لأن خلق السموات والأرض وما بينهما أعجب من قصة أصحاب الكهف "فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة" أي من عندك، ومن ابتدائية متعلقة بآتنا، أو لمحذوف وقع حالاً، والتنوين في رحمة إما للتعظيم أو للتنويع، وتقديم من لدنك للاختصاص: أي رحمة مختصة بأنها من خزائن رحمتك، وهي المغفرة في الآخرة والأمن من الأعداء، والرزق في الدنيا "وهيئ لنا من أمرنا رشداً" أي أصلح لنا، من قولك هيأت الأمر فتهيأ، والمراد بأمرهم الأمر الذي هم عليه وهو مفارقتهم للكفار، والرشد نقيض الضلال، ومن للابتداء، ويجوز أن تكون للتجريد كما في قولك رأيت منك رشداً: وتقديم المجرورين للاهتمام بهما.

فَضَرَبْنَا عَلَى آَذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا

11- "فضربنا على آذانهم" قال المفسرون: أنمناهم. والمعنى: سددنا آذانهم بالنوم الغالب على سماع الأصوات، والمفعول محذوف: أي ضربنا على آذانهم الحجاب تشبيهاً للإنامة الثقيلة المانعة من وصول الأصوات إلى الآذان بضرب الحجاب عليها، و "في الكهف" ظرف لضربنا، وانتصاب "سنين" على الظرفية، و "عدداً" صفة لسنين: أي ذوات عدد على أنه مصدر أو بمعنى معدودة على أنه لمعنى المفعول، ويستفاد من وصف السنين بالعدد الكثرة. قال الزجاج: إن الشيء إذا قل فهم مقدار عدده فلم يحتج إلى العدد، وإن كثر احتاج إلى أن يعد وقيل يستفاد منه التقليل لأن الكثير قليل عند الله "وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون".

ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا

12- "ثم بعثناهم" أي أيقظناهم من تلك النومة "لنعلم" أي ليظهر معلومنا، وقرئ بالتحتية مبنياً للفاعل على طريقة الالتفات، و "أي الحزبين" مبتدأ معلق عنه العلم لما في أي من الاستفهام، وخبره "أحصى" وهو فعل ماض، قيل والمراد بالعلم الذي جعل علة للبعث هو الاختبار مجازاً فيكون المعنى بعثناهم لنعاملهم معاملة من يختبرهم، والاولى ما ذكرناه من أن المراد به ظهور معلوم الله سبحانه لعباده، والمراد بالحزبين الفريقان من المؤمنين والكافرين من أصحاب الكهف المختلفين في مدة لبثهم. ومعنى أحصي أضبط، وكأنه وقع بينهم تنازع في مدة لبثهم في الكهف، فبعثهم الله ليتبين لهم ذلك، ويظهر من ضبط الحساب ممن لم يضبطه، وما في "لما لبثوا" مصدرية: أي أحصى للبثهم، وقيل اللام زائدة، وما بمعنى الذي، و "أمداً" تمييز، والأمد الغاية، وقيل إن أحصى أفعل تفضيل. ورد بأنه خلاف ما تقرر في علم الإعراب، وما ورد من الشاذ لا يقاس عليه كقولهم: أفلس من ابن المذلق، وأعدى من الجرب. وأجيب بأن أفعل التفضيل من المزيد قياس مطرد عنه سيبويه وابن عصفور، وقيل إن الحزبين هم أصحاب الكهف اختلفوا بعد انتباههم كم لبثوا، وقيل إن أصحاب الكهف حزب وأصحابهم حزب. وقال الفراء: إن طائفتين من المسلمين في زمان أصحاب الكهف اختلفوا في مدة لبثهم.

نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى

13- "نحن نقص عليك نبأهم بالحق" هذا شروع في تفصيل ما أجمل في قوله: "إذ أوى الفتية" أي نحن نخبرك بخبرهم بالحق أي قصصناه بالحق، أو متلبساً بالحق "إنهم فتية" أي أحداث شبان، و " آمنوا بربهم " صفة لفتية والجملة مستأنفة بتقدير سؤال، والفتية جمع قلة، و "زدناهم هدىً" بالتثبيت والتوفيق وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب.

وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا

14- "وربطنا على قلوبهم" أي قويناها بالصبر على هجر الأهل والأوطان، وفراق الخلان والأخدان "إذ قاموا" الظرف منصوب بربطنا. واختلف أهل التفسير في هذا القيام على أقوال: فقيل إنهم اجتمعوا وراء المدينة من غير ميعاد، فقال رجل منهم هو أكبر القوم: إني لأجد في نفسي شيئاً، إن ربي رب السموات والأرض، فقالوا: ونحن أيضاً كذلك نجد في أنفسنا، فقاموا جميعاً "فقالوا ربنا رب السموات والأرض" قاله مجاهد. وقال أكثر المفسرين: إنه كان لهم ملك جبار يقال له دقيانوس، وكان يدعو الناس إلى عبادة الطواغيت، فثبت الله هؤلاء الفتية وعصمهم حتى قاموا بين يديه "فقالوا ربنا رب السموات والأرض" وقال عطاء ومقاتل إنهم قالوا ذلك عند قيامهم من النوم "لن ندعوا من دونه إلهاً" أي لن نعبد معبوداً آخر غير الله لا اشتراكاً ولا استقلالاً "لقد قلنا إذاً شططاً" أي قولاً ذا شطط، أو قولاً هو نفس الشطط لقصد المبالغة بالوصف بالمصدر، واللام هي الموطئة للقسم، والشطط الغلو ومجاوزة الحد. قال أعشى بن قيس: أتنتهون ولن ينهى ذوي شطط كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل

هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا

15- "هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة" هؤلاء مبتدأ، وخبره اتخذوا، وقومنا عطف بيان، وفي هذا الإخبار معنى للإنكار، وفي الإشارة إليهم تحقير لهم "لولا يأتون عليهم بسلطان بين" أي هلا يأتون بحجة ظاهرة تصلح للتمسك بها "فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً" فزعم أن له شريكاً في العبادة: أي لا أحد أظلم منه.

وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا

16- "وإذ اعتزلتموهم" أي فارقتموهم وتنحيتم عنهم جانباً: أي عن العابدين للأصنام، وقوله: "وما يعبدون إلا الله" معطوف على الضمير المنصوب، وما موصولة أو مصدرية: أي وإذ اعتزلتموهم واعتزلتم معبودهم أو الذي يعبدونه، وقوله: "إلا الله" استثناء منقطع على تقدير أنهم لم يعبدوا إلا الأصنام، أو متصل على تقدير أنهم شركوها في العبادة مع الله سبحانه وقيل هو كلام معترض إخبار من الله سبحانه عن الفتية أنهم لم يعبدوا غير الله فتكون ما على هذا نافية "فأووا إلى الكهف" أي صيروا إليه واجعلوه مأواكم. قال الفراء: هو جواب إذ، ومعناه: اذهبوا إليه واجعلوه مأواكم، وقيل هو دليل على جوابه، أي إذ اعتزلتموهم اعتزالاً اعتقادياً، فاعتزلوهم اعتزالاً جسمانياً، وإذا أردتم اعتزالهم فافعلوا ذلك بالالتجاء إلى الكهف "ينشر لكم ربكم من رحمته" أي يبسط ويوسع "ويهيئ لكم من أمركم مرفقاً" أي يسهل وييسر لكم من أمركم الذي أنتم بصدده "مرفقاً" المرفق بفتح الميم وكسرها لغتان قرئ بهما، مأخوذ من الارتفاق وهو الانتفاع، وقيل فتح الميم أقيس، وكسرها أكثر. قال الفراء: وأكثر العرب على كسر الميم من الأمر ومن مرفق الإنسان، وقد تفتح العرب الميم فيهما فهماً لغتان، وكأن الذين فتحوا أرادوا أن يفرقوا بين المرفق من الأمر، والمرفق من الإنسان. وقال الكسائي: الكسر في مرفق اليد، وقيل المرفق بالكسر ما ارتفقت به، والمرفق بالفتح الأمر الرافق، والمراد هنا ما يرتفقون به وينتفعون بحصوله، والتقديم في الموضعين يفيد الاختصاص. وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: الرقيم الكتاب. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عنه قال: الرقيم واد دون فلسطين قريب من أيلة، والراويان عن ابن عباس ضعيفان. وأخرج ابن جرير من طريق ابن جريج عنه أيضاً قال: هو الجبل الذي فيه الكهف. وأخرج ابن المنذر عنه، قال: والله ما أدري ما الرقيم الكتاب أم بنيان؟ وفي رواية عنه من طريق أخرى قال: وسألت كعباً فقال: اسم القرية التي خرجوا منها. وأخرج ابن أبي حاتم عن أنس قال: الرقيم الكلب. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "كانوا من آياتنا عجباً" يقول: الذي آتيتك من العلم والسنة والكتاب أفضل من شأن أصحاب الكهف والرقيم. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله: "فضربنا على آذانهم" يقول: أرقدناهم. "ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين" من قوم الفتية، أهل الهدى، وأهل الضلالة "أحصى لما لبثوا"، وذلك أنهم كتبوا اليوم الذي خرجوا فيه والشهر والسنة. وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس في قوله: "وزدناهم هدىً" قال: إخلاصاً. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "وربطنا على قلوبهم" قال: بالإيمان وفي قوله: "لقد قلنا إذاً شططاً" قال: كذباً. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال: جوراً. وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عطاء الخراساني في قوله: "وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله" قال: كان قوم الفتية يعبدون الله ويعبدون معه آلهة شتىً، فاعتزلت الفتية عبادة تلك الآلهة ولم تعتزل عبادة الله. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال: هي في مصحف ابن مسعود، وما يعبدون من دون الله، فهذا تفسيرها.

وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَل

قوله: 17- "وترى الشمس إذا طلعت" شرع سبانه في بيان حالهم، بعد ما أووا إلى الكهف "تزاور" قرأ أهل الكوفة بحذف تاء التفاعل، وقرأ ابن عامر تزور قال الأخفش: لا يوضع الأزورار في هذا المعنى، إنما يقال هو مزور عني: أي منقبض. وقرأ الباقون بتشديد الزاي وإدغام تاء التفاعل فيه بعد تسكينها، وتزاور مأخوذ من الزور بفتح الواو، وهو الميل، ومنه زاره إذا مال إليه، والزور الميل، فمعنى الآية أن الشمس إذا طلعت تميل وتنتحي "عن كهفهم" قال الراجز الكلبي: جاب المندا عن هوانا أزور أي مائل "ذات اليمين" أي ناحية اليمين، وهي الجهة المسماة باليمين، وانتصاب ذات على الظرف، "وإذا غربت تقرضهم" القرض: القطع. قال الكسائي والأخفش والزجاج وأبو عبيدة: تعدل عنهم وتتركهم، قرضت المكان: عدلت عنه، تقول لصاحبك: هل وردت مكان كذا؟ فيقول إنما قرضته: إذا مر به وتجاوز عنه، والمعنى: أن الشمس إذا طلعت مالت عن كهفهم ذات اليمين: أي يمين الكهف، وإذا غربت تمر "ذات الشمال" أي شمال الكهف لا تصيبه. بل تعدل عن سمته إلى الجهتين، والفجوة المكان المتسع، وجملة "وهم في فجوة منه" في محل نصب على الحال، وللمفسرين في تفسير هذه الجملة قولان: الأول أنهم مع كونهم في مكان منفتح انفتاحاً واسعاً في ظل جميع نهارهم لا تصيبهم الشمس في طلوعها ولا في غروبها، لأن الله سبحانه حجبها عنهم. والثاني أن باب ذلك الكهف كان مفتوحاً إلى جانب الشمال، فإذا طلعت الشمس كانت عن يمين الكهف، وإذا غربت كانت عن يساره، ويؤيد القول الأول قوله: "ذلك من آيات الله" فإن صرف الشمس عنهم مع توجه الفجوة إلى مكان تصل إليه عادة أنسب بمعنى كونها آية، ويؤيده أيضاً إطلاق الفجوة وعدم تقييدها بكونها إلى جهة كذا، ومما يدل على أن الفجوة المكان الواسع قول الشاعر: ألبست قومك مخزاة ومنقصة حتى أبيحوا وخلوا فجوة الدار ثم أثنى سبحانه عليهم بقوله: "من يهد الله" أي إلى الحق "فهو المهتد" الذي ظفر بالهدى وأصاب الرشد والفلاح "ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً" أي ناصراً يهديه إلى الحق كدقيانوس وأصحابه.

وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا

ثم حكى سبحانه طرفاً آخر من غرائب أحوالهم فقال: 18- "وتحسبهم أيقاظاً" جمع يقظ بكسر القاف وفتحها "وهم رقود" أي نيام، وهو جمع راقد كقعود في قاعد. قيل وسبب هذا الحسبان أن عيونهم كانت مفتحة وهم نيام. وقال الزجاج: لكثرة تقلبهم "ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال" أي نقلبهم في رقدتهم إلى الجهتين لئلا تأكل الأرض أجسادهم "وكلبهم باسط ذراعيه" حكاية حال ماضية، لأن اسم الفاعل لا يعمل إذا كان بمعنى المضي كما تقرر في علم النحو. قال أكثر المفسرين: هربوا من ملكهم ليلاً، فمروا براع معه كلب فتبعهم. والوصيد. قال أبو عبيد وأبو عبيدة هو فناء الباب، وكذا قال المفسرون، وقيل العتبة، ورد بأن الكهف لا يكون له عتبة ولا باب، وإنما أراد أن الكلب موضع العتبة من البيت "لو اطلعت عليهم لوليت منهم فراراً" قال الزجاج: فراراً منصوب على المصدرية بمعنى التولية، والفرار: الهرب "ولملئت" قرئ بتشديد اللام وتخفيفها "منهم رعباً" قرئ بسكون العين وضمها أي خوفاً يملأ الصدر، وانتصاب رعباً على التمييز، أو على أنه مفعول ثان، سبب الرعب الهيبة التي ألبسهم الله إياها، وقيل طول أظفارهم وشعورهم وعظم أجرامهم ووحشة مكانهم، ويدفعه قوله تعالى: "لبثنا يوماً أو بعض يوم" فإن ذلك يدل على أنهم لم ينكروا من حالهم شيئاً، ولا وجدوا من أظفارهم وشعورهم ما يدل على طول المدة.

وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ

19- "وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم" الإشارة إلى المذكور قبله أي وكما فعلنا بهم ما فعلنا من الكرامات بعثناهم من نومهم، وفيه تذكير لقدرته على الإماتة والبعث جميعاً، ثم ذكر الأمر الذي لأجله بعثهم فقال: ليتساءلوا بينهم: أي ليقع التساؤل بينهم والاختلاف والتنازع في مدة اللبث لما يترتب على ذلك من انكشاف الحال وظهور القدرة الباهرة، والاقتصار على علة التساؤل لا ينفي غيرها، وإنما أفرده لاستتباعه لسائر الآثار، وجملة "قال قائل منهم كم لبثتم" مبينة لما قبلها من التساؤل: أي كم مدة لبثكم في النوم؟ قالوا ذلك لأنهم رأوا في أنفسهم غير ما يعهدونه في العادة "قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم" أي قال بعضهم جواباً عن سؤال من سأل منهم، قال المفسرون: إنهم دخلوا الكهف غدوة، وبعثهم الله سبحانه آخر النهار، فلذلك قالوا يوماً، فلما رأوا الشمس قالوا أو بعض يوم، وكان قد بقيت بقية من النهار، وقد مر مثل هذا الجواب في قصة عزير في البقرة "قالوا ربكم أعلم بما لبثتم" أي قال البعض الآخر هذا القول: إما على طريق الاستدلال، أو كان ذلك إلهاماً لهم من الله سبحانه: أي أنكم لا تعلمون مدة لبثكم، وإنما يعلمها الله سبحانه "فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة" أعرضوا عن التجاور في مدة اللبث، وأخذوا في شيء آخر، كأنه قال القائل منهم: اتركوا ما أنتم فيه من المحاورة، وخذوا في شيء آخر مما يهمكم، والفاء للسببية، والورق الفضة مضروبة أو غير مضروبة. وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر والكسائي وحفص عن عاصم بكسر الراء، وقرأ أبو عمرو وحمزة، وأبو بكر عن عاصم بسكونها، وقرئ بكسر الراء وإدغام القاف في الكاف، وقرأ ابن محيصن بكسر الواو وسكون الراء. وفي حملهم لهذه الورق معهم دليل على أن إمساك بعض ما يحتاج إليه الإنسان لا ينافي التوكل على الله، والمدينة دقسوس، وهي مدينتهم التي كانوا فيها، ويقال لها اليوم طرسوس، كذا قال الواحدي "فلينظر أيها أزكى طعاماً" أي ينظر أي أهلها أطيب طعاماً، وأحل مكسباً، أو أرخص سعراً، وقيل يجوز أن يعود الضمير إلى الأطعمة المدلول عليها في المقام كما يقال زيد طبت أبا على أن الأب هو زيد، وفيه بعد. واستدل بالآية على حل ذبائح أهل الكتاب لأن عامة أهل المدينة كانوا كفاراً، وفيهم قوم يخفون إيمانهم، ووجه الاستدلال أن الطعام يتناول اللحم كما يتناول غيره مما يطلق عليه اسم الطعام "وليتلطف" أي يدقق النظر حتى لا يعرف أو لا يغبن، والأولى أولى، ويؤيده "ولا يشعرن بكم أحداً" أي لا يفعلن ما يؤدي إلى الشعور ويتسبب له، فهذا النهي يتضمن التأكيد للأمر بالتلطف.

إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا

ثم علل ما يسبق من الأمر والنهي فقال: 20- "إنهم إن يظهروا عليكم" أي يطلعوا عليم ويعلموا بمكانكم، يعني أهل المدينة "يرجموكم" يقتلوكم بالرجم، وهذه القتلة هي أخبث قتلة، فإن ذلك كان عادة لهم، ولهذا خصه من بين أنواع ما يقع به القتل "أو يعيدوكم في ملتهم" أي يردوكم إلى ملتهم التي كنتم عليها قبل أن يهديكم الله، أو المراد بالعود هنا الصيرورة على تقدير أنهم لم يكونوا على ملتهم، وإيثار كلمة في على كلمة إلى للدلالة على الاستقرار "ولن تفلحوا إذاً أبداً" في إذن معنى الشرط، كأنه قال: إن رجعتم إلى دينهم فلن تفلحوا إذاً أبداً، لا في الدنيا ولا في الآخرة. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "تزاور" قال: تميل، وفي قوله: "تقرضهم" قال: تذرهم. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "تقرضهم" قال: تتركهم "وهم في فجوة منه" قال: المكان الداخل. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير، قال: الفجوة، الخلوة من الأرض، ويعني بالخلوة الناحية من الأرض. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "ونقلبهم" الآية قال: ستة أشهر على ذي الجنب اليمين، وستة أشهر على ذي الجنب الشمال. وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن سعيد بن جبير في الآية قال: كي لا تأكل الأرض لحومهم. وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد أن اسم كلبهم قطموراً. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال: اسمه قطمير. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس في قوله: "بالوصيد" قال: بالفناء. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه قال: بالباب. وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: "أزكى طعاماً" قال: أحل ذبيحة، وكانوا يذبحون للطواغيت. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه "أزكى طعاماً": يعني أطهر، لأنهم كانوا يذبحون للطواغيت.

وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْر

قوله: 21- "وكذلك أعثرنا عليهم" أي وكما أنمناهم وبعثناهم، أعثرنا عليهم: أي أطلعنا الناس عليهم وسمي الإعلام إعثاراً، لأن من كان غافلاً عن شيء فعثر به نظر إليه وعرفه، فكان الإعثار سبباً لحصول العلم "ليعلموا أن وعد الله حق" أي ليعلم الذين أعثرهم الله عليهم أن وعد الله بالبعث حق. قيل وكان ملك ذلك العصر ممن ينكر البعث، فأراه الله هذه الآية. قيل وسبب الإعثار عليهم أن ذلك الرجل الذي بعثوه بالورق، وكانت من ضربة دقيانوس إلى السوق، لما اطلع عليها أهل السوق اتهموه بأنه وجد كنزاً، فذهبوا به إلى الملك، فقال له: من أين وجدت هذه الدراهم؟ قال: بعت بها أمس شيئاً من التمر، فعرف الملك صدقه، ثم قص عليه القصة فركب الملك وركب أصحابه معه حتى وصلوا إلى الكهف "وأن الساعة لا ريب فيها" أي وليعلموا أن القيامة لا شك في حصولها، فإن من شاهد حال أهل الكهف علم صحة ما وعد الله به من البعث "إذ يتنازعون بينهم أمرهم" الظرف متعلق بأعثرنا: أي أعثرنا عليهم وقت التنازع والاختلاف بين أولئك الذين أعثرهم الله في أمر البعث، وقيل في أمر أصحاب الكهف في قدر مكثهم، وفي عددهم، وفيما يفعلونه بعد أن اطلعوا عليهم "فقالوا ابنوا عليهم بنياناً" لئلا يتطرق الناس إليهم، وذلك أن الملك وأصحابه لما وقفوا عليهم وهم أحياء أمات الله الفتية، فقال بعضهم: ابنوا عليهم بنياناً يسترهم عن أعين الناس، ثم قال سبحانه حاكياً لقول المتنازعين فيهم وفي عددهم، وفي مدة لبثهم، وفي نحو ذلكمما يتعلق بهم "ربهم أعلم بهم" من هؤلاء المتنازعين فيهم، قالوا ذلك تفويضاً للعلم إلى الله سبحانه، وقيل هو من كلام الله سبحانه، رداً لقول المتنازعين فيهم: أي دعوا ما أنتم فيه من التنازع، فإني أعلم بهم منكم، وقيل إن الظرف في "إذ يتنازعون" متعلق بمحذوف هو اذكر، ويؤيده أن الإعثار ليس في زمن التنازع بل قبله، ويمكن أن يقال: إن أولئك القوم ما زالوا متنازعين فيما بينهم قرناً بعد قرن، منذ أووا إلى الكهف إلى وقت الإعثار، ويؤيد ذلك أن خبرهم كان مكتوباً على باب الغار، كتبه بعض المعاصرين لهم من المؤمنين الذين كانوا يخفون إيمانهم كما قاله المفسرون "قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجداً" ذكر اتخاذ المسجد يشعر بأن هؤلاء الذين غلبوا على أمرهم هم المسلمون، وقيل هم أهل السلطان، والملك من القوم المذكورين فإنهم الذين يغلبون على أمر من عداهم، والأول أولى. قال الزجاج: هذا يدل على أنه لما ظهر أمرهم غلب المؤمنون بالبعث والنشور. لأن المساجد للمؤمنين.

سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا م

22- "سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم" هؤلاء القائلون بأنهم ثلاثة أو خمسة أو سبعة، هم المتنازعون في عددهم في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب والمسلمين، وقيل هم أهل الكتاب خاصة، وعلى كل تقدير فليس المراد أنهم جميعاً قالوا جميع ذلك، بل قال بعضهم بكذا، وبعضهم بكذا، وبعضهم بكذا "ثلاثة رابعهم كلبهم": أي هم ثلاثة أشخاص، وجملة "رابعهم كلبهم" في محل نصب على الحال: أي حال كون كلبهم جاعلهم أربعة بانضمامه إليهم "ويقولون خمسة سادسهم كلبهم" الكلام فيه كالكلام فيما قبله، وانتصاب "رجماً بالغيب" على الحال: أي راجمين أو على المصدر أي يرجمون رجماً، والرجم بالغيب هو القول بالظن والحدس من غير يقين، والموصوفون بالرجم بالغيب هم كلا الفريقين القائلين بأنهم ثلاثة، والقائلين بأنهم خمسة "ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم" كأن قول هذه الفرقة أقرب إلى الصواب بدلالة عدم إدخالهم في سلك الراجمين بالغيب. قيل وإظهار الواو في هذه الجملة يدل على أنها مرادة في الجملتين الأوليين. قال أبو علي الفارسي قوله: رابعهم كلبهم، وسادسهم كلبهم جملتان استغنى عن حرف العطف فيهما بماتضمنتا من ذكر الجملة الأولى وهي قوله ثلاثة، والتقدير: هم ثلاثة، هكذا حكاه الواحدي عن أبي علي، ثم قال: وهذا معنى قول الزجاج في دخول الواو في وثامنهم وإخراجها من الأول، وقيل هي مزيدة للتوكيد، وقيل إنها واو الثمانية، وإن ذكره متداول على ألسن العرب إذا وصلوا إلى الثمانية كما في قوله تعالى: "وفتحت أبوابها" وقوله: "ثيبات وأبكاراً" ثم أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يخبر المختلفين في عددهم بما يقطع التنازع بينهم فقال: "قل ربي أعلم بعدتهم" منكم أيها المختلفون ثم أثبت علم ذلك لقليل من الناس فقال: "ما يعلمهم" أي يعلم ذواتهم فضلاً عن عددهم، أو ما يعلم عددهم على حذف المضاف "إلا قليل" من الناس، ثم نهى الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم عن الجدال مع أهل الكتاب في شأن أصحاب الكهف فقال: "فلا تمار فيهم" المراء في اللغة الجدال: يقال مارى يماري مماراة ومراءً: أي جادل، ثم استثنى سبحانه من المرء ما كان ظاهراً واضحاً فقال: "إلا مراءً ظاهراً" أي غير متعمق فيه وهو أن يقص عليهم ما أوحى الله إليه فحسب. وقال الرازي: هو أن لا يكذبهم في تعيين ذلك العدد، بل يقول هذا التعيين لا دليل عليه، فوجب التوقف، ثم نهاه سبحانه عن الاستفتاء في شأنهم فقال: "ولا تستفت فيهم منهم أحداً" أي لا تستفت في شأنهم من الخائضين فيهم أحداً منهم، لأن المفتي يجب أن يكون أعلم من المستفتي، وها هنا الأمر بالعكس، ولا سيما في واقعة أهل الكهف، وفيما قص الله عليك في ذلك ما يغنيك عن سؤال من لا علم له.

وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا

23- "ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً" أي لأجل شيء تعزم عليه فيما يستقبل من الزمان، فعبر عنه بالغد، ولم يرد الغد بعينه، فيدخل فيه الغد دخولاً أولياً.

إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا

قال الواحدي: قال المفسرون لما سألت اليهود النبي صلى الله عليه وسلم عن خبر الفتية فقال: أخبركم غداً، ولم يقل إن شاء الله، فاحتبس الوحي عنه حتى شق عليه، فأنزل الله هذه الآية يأمره بالاستثناء بمشيئة الله يقول: إذا قلت لشيء إني فاعل ذلك غداً، فقل إن شاء الله. وقال الأخفش والمبرد والكسائي والفراء: لا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن تقول إن شاء الله، فأضمر القول ولما حذف تقول نقل شاء إلى لفظ الاستقبال، قيل وهذا الاستثناء مفرغ: أي لا تقولن ذلك في حال من الأحوال، إلا حال ملابسته لمشيئة الله وهو أن تقول إن شاء الله، أو في وقت من الأوقات إلا وقت أن يشاء الله أن تقوله مطلقاً، وقيل الاستثناء جار مجرى التأييد كأنه قيل: لا تقولنه أبداً كقوله: " وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله " لأن عودهم في ملتهم مما لا يشاءه الله "واذكر ربك إذا نسيت" الاستثناء بمشيئة الله: أي فقل إن شاء الله، سواء كانت المدة قليلة أو كثيرة. وقد اختلف أهل العلم في المدة التي يجوز إلحاق الاستثناء فيها بعد المستثنى منه على أقوال معروفة في مواضعها وقيل المعنى "واذكر ربك" بالاستغفار " إذا نسيت وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا " المشار إليه بقوله من هذا هو نبأ أصحاب الكهف: أي قل يا محمد عسى أن يوفقني ربي لشيء أقرب من هذا النبأ من الآيات والدلائل الدالة على نبوتي. قال الزجاج: عسى أن يعطيني ربي من الآيات على النبوة ما يكون أقرب في الرشد وأدل من قصة أصحاب الكهف، وقد فعل الله به ذلك حيث آتاه من علم غيوب المرسلين وخبرهم ما كان أوضح في الحجة وأقرب إلى الرشد من خبر أصحاب الكهف، وقيل الإشارة إلى قوله: "واذكر ربك إذا نسيت" أي عسى أن يهديني ربي عند هذا النسيان لشيء آخر بدل هذا المنسي، وأقرب منه رشداً وأدنى منه خيراً ومنفعة، والأول أولى.

وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا

25- " ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا " قرأ الجمهور بتنوين مائة ونصب سنين، فيكون سنين على هذه القراءة بدلاً أو عطف بيان. وقال الفراء وأبو عبيدة والزجاج والكسائي: فيه تقديم وتأخير، والتقدير سنين ثلثمائة. ورجح الأول أبو علي الفارسي. وقرأ حمزة والكسائي بإضافة مائة إلى سنين، وعلى هذه القراءة تكون سنين تمييزاً على وضع الجمع موضع الواحد في التمييز كقوله تعالى: "بالأخسرين أعمالاً" قال الفراء: ومن العرب من يضع سنين موضع سنة. قال أبو علي الفارسي: هذه الأعداد التي تضاف في المشهور إلى الآحاد نحو ثلثمائة رجل وثوب قد تضاف إلى المجموع وفي مصحف عبد الله ثلثمائة سنة. وقال الأخفش: لا تكاد العرب تقول مائة سنين. وقرأ الضحاك ثلثمائة سنون بالواو، وقرأ الجمهور "تسعاً" بكسر التاء، وقرأ أبو عمرو بفتحها، وهذا إخبار من الله سبحانه بمدة لبثهم. قال ابن جرير: إن بني إسرائيل اختلفوا فيما مضى لهم من المدة بعد الإعثار عليهم، فقال بعضهم: إنهم لبثوا ثلثمائة سنة وتسع سنين، فأخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن هذه المدة في كونهم نياماً، وأن ما بعد ذلك مجهول للبشر.

قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا

فأمر الله أن يرد علم ذلك إليه، فقال: 26- "قل الله أعلم بما لبثوا" قال ابن عطية: فقوله على هذا لبثوا الأول يريد في يوم الكهف، ولبثوا الثاني يريد بعد الإعثار عليهم إلى مدة محمد صلى الله عليه وسلم، أو إلى أن ماتوا. وقال بعضهم: إنه لما قال: "وازدادوا تسعاً" لم يدر الناس أهي ساعات أم أيام أم جمع أم شهور أم أعوام، واختلف بنو إسرائيل بحسب ذلك، فأمر الله برد العلم إليه في التسع، فهي على هذا مبهمة. والأول أولى، لأن الظاهر من كلام العرب المفهوم بحسب لغتهم أن التسع أعوام، بدليل أن العدد في هذا الكلام للسنين لا للشهور ولا للأيام ولا للساعات. وعن الزجاج أن المراد ثلثمائة سنة شمسية وثلثمائة وتسع سنين قمرية، وهذا إنما يكون من الزجاج على جهة التقريب. ثم أكد سبحانه اختصاصه بعلم ما لبثوا بقوله: "له غيب السموات والأرض" أي ما خفي فيهما وغاب من أحوالهما ليس لغيره من ذلك شيء، ثم زاد في المبالغة والتأكيد فجاء بما يدل على التعجب من إدراكه للمبصرات والمسموعات فقال: "أبصر به وأسمع" فأفاد هذا التعجب على أن شأنه سبحانه في علمه بالمبصرات والمسموعات خارج عما عليه إدراك المدركين. وأنه يستوي في علمه الغائب والحاضر، والخفي والظاهر، والصغير والكبير، واللطيف والكثيف، وكأن أصله ما أبصره وما أسمعه، ثم نقل إلى صيغة الأمر للإنشاء، والباء زائدة عند سيبويه وخالفه الأخفش، والبحث مقرر في علم النحو "ما لهم من دونه من ولي" الضمير لأهل السموات والأرض، وقيل لأهل الكهف، وقيل لمعاصري محمد صلى الله عليه وسلم من الكفار: أي ما لهم من موال يواليهم أو يتولى أمورهم أو ينصرهم، وفي هذا بيان لغاية قدرته وأن الكل تحت قهره "ولا يشرك في حكمه أحداً" قرأ الجمهور برفع الكاف على الخبر عن الله سبحانه. وقرأ ابن عباس والحسن وأبو رجاء وقتادة بالتاء الفوقية وإسكان الكاف على أنه نهي للنبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل لله شريكاً في حكمه، ورويت هذه القراءة عن ابن عامر. وقرأ مجاهد بالتحتية والجزم. قال يعقوب: لا أعرف وجهها، والمراد بحكم الله: ما يقضيه، أو علم الغيب، والأول أولى. ويدخل علم الغيب في ذلك دخولاً أولياً، فإن علمه سبحانه من جملة قضائه. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وكذلك أعثرنا عليهم" قال: أطلعنا. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "قال الذين غلبوا على أمرهم" قال: الأمراء، أو قال: السلاطين. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله: "سيقولون ثلاثة" قال: اليهود "ويقولون خمسة" قال: النصارى. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله "رجماً بالغيب" قال: قذفاً بالظن. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود في قوله: "ما يعلمهم إلا قليل" قال: أنا من القليل كانوا سبعة. وأخرج الطبراني في الأوسط عن ابن عباس قال السيوطي بسند صحيح في قوله: "ما يعلمهم إلا قليل" قال: أنا من أولئك القليل كانوا سبعة، ثم ذكر أسماءهم. وحكاه ابن كثير عن ابن عباس في رواية قتادة وعطاء وعكرمة، ثم قال: فهذه أسانيد صحيحة إلى ابن عباس أنهم كانوا سبعة. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: "فلا تمار فيهم" يقول: حسبك ما قصصت عليك. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه من طرق عن ابن عبسا في قوله: "ولا تستفت فيهم منهم أحداً" قال: اليهود. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني عن ابن عباس في قوله: "ولا تقولن لشيء" الآية قال: إذا نسيت أن تقول لشيء إني أفعله فنسيت أن تقول إن شاء الله، فقل إذا ذكرت إن شاء الله. وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وابن مردويه عنه أنه كان يرى الاستثناء ولو بعد سنة، ثم قرأ "واذكر ربك إذا نسيت". وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عنه أيضاً في الآية قال: هي خاصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وليس لأحد أن يستثني إلا في صلة يمين. وأخرج سعيد بن منصور عن ابن عمر قال: كل استثناء موصول فلا حنث على صاحبه، وإذا كان غير موصول فهو حانث. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال سليمان بن داود: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة وفي رواية: تسعين تلد كل امرأة منهن غلاماً يقاتل في سبيل الله، فقال له الملك: قل إن شاء الله، فلم يقل، فطاف فلم يلد منهن إلا امرأة واحدة نصف إنسان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لو قال إن شاء الله لم يحنث، وكان دركاً لحاجته". وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن عكرمة "إذا نسيت" قال: إذا غضبت. وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات عن الحسن "إذا نسيت" قال: إذا لم تقل إن شاء الله. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال إن الرجل ليفسر الآية يرى أنها كذلك فيهوي أبعد ما بين السماء والأرض، ثم تلا "ولبثوا في كهفهم" الآية، ثم قال: كم لبث القوم؟ قالوا: ثلثمائة وتسع سنين، قال: لو كانوا لبثوا كذلك لم يقل الله "قل الله أعلم بما لبثوا" ولكنه حكى مقالة القوم فقال: "سيقولون ثلاثة" إلى قوله: "رجماً بالغيب" فأخبر أنهم لا يعلمون، ثم قال سيقولون " ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا ". وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في حرف ابن مسعود، وقالوا "ولبثوا في كهفهم" الآية: يعني إنما قاله الناس ألا ترى أنه قال: "قل الله أعلم بما لبثوا". وأخرج ابن مردويه عن الضحاك عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية " ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة " قيل يا رسول الله: أياماً أم أشهراً أم سنين؟ فأنزل الله: "سنين وازدادوا تسعاً". وأخرجه ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الضحاك بدون ذكر ابن عباس. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "أبصر به وأسمع" قال: الله يقوله.

وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا

قوله: 27- "واتل ما أوحي إليك" أمره الله سبحانه أن يواظب على تلاوة الكتاب الموحي إليه، قيل ويحتمل أن يكون معنى قوله: "واتل" واتبع، أمراً من التلو، لا من التلاوة، و "من كتاب ربك" بيان للذي أوحي إليه "لا مبدل لكلماته" أي لا قادر على تبديلها وتغييرها، وإنما يقدر على ذلك هو وحده. قال الزجاج: أي ما أخبر الله به وما أمر به فلا مبدل له، وعلى هذا يكون التقدير: لا مبدل لحكم كلماته "ولن تجد من دونه ملتحداً" الملتحد: الملتجأ، وأصل اللحد: الميل. قال الزجاج: لن تجد معدلاً عن أمره ونهيه، والمعنى: أنك إن لم تتبع القرآن وتتله وتعمل بأحكامه لن تجد معدلاً تعدل إليه ومكاناً تميل إليه، وهذه الآية آخر قصة أهل الكهف.

وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْ

ثم شرح سبحانه في نوع آخر كما هو دأب الكتاب العزيز فقال: 28- "واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم" قد تقدم في الأنعام نهيه صلى الله عليه وسلم عن طرد فقراء المؤمنين بقوله: "ولا تطرد الذين يدعون ربهم" وأمره سبحانه ههنا بأن يحبس نفسه معهم، فصبر النفس هو حبسها، وذكر الغداة والعشي كناية عن الاستمرار على الدعاء في جميع الأوقات. وقيل في طرفي النهار، وقيل المراد صلاة العصر والفجر. وقرأ نصر بن عاصم ومالك بن دينار وأبو عبد الرحمن وابن عامر بالغدوة بالواو، واحتجوا بأنها في المصحف كذلك مكتوبة بالواو. قال النحاس: وهذا لا يلزم لكتبهم الحياة والصلاة بالواو، ولا تكاد العرب تقول الغدوة، ومعنى "يريدون وجهه" أنهم يريدون بدعائهم رضى الله سبحانه، والجملة في محل نصب على الحال، ثم أمره سبحانه بالمراقبة لأحوالهم فقال: "ولا تعد عيناك عنهم" أي لا تتجاوز عيناك إلى غيرهم. قال الفراء: معناه لا تصرف عيناك عنهم، وقال الزجاج: لا تصرف بصرك إلى غيرهم من ذوي الهيئات والزينة، واستعماله بعن لتضمنه معنى النبو، من عدوته عن الأمر: أي صرفته منه، وقيل معناه لا تحتقرهم عيناك "تريد زينة الحياة الدنيا" أي مجالسة أهل الشرف والغنى، والجملة في محل نصب على الحال: أي حال كونك مريداً لذلك، هذا إذا كان فاعل تريد هو النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان الفاعل ضميراً يعود إلى العينين، فالتقدير: مريدة زينة الحياة الدنيا، وإسناد الإرادة إلى العينين مجاز، وتوحيد الضمير للتلازم كقول الشاعر: لمن زحلوقة زل بها العينان تنهل "ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا" أي جعلناه غافلاً بالختم عليه، نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن طاعة من جعل الله قلبه غافلاً عن ذكره كأولئك الذين طلبوا منه أن ينحي الفقراء عن مجلسه، فإنهم طالبوا تنحية الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه وهم غافلون عن ذكر الله، ومع هذا فهم ممن اتبع هواه وآثره على الحق فاختار الشرك على التوحيد "وكان أمره فرطاً" أي متجاوزاً عن حد الاعتدال، من قولهم: فرس فرط إذا كان متقدماً للخيل فهو على هذا من الإفراط وقيل هو من التفريط، وهو التقصير والتضييع. قال الزجاج: ومن قدم العجز في أمره أضاعه وأهلكه.

وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْت

ثم بين سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم ما يقوله لأولئك الغافلين، فقال: 29- "وقل الحق من ربكم" أي قل لهم: إن ما أوحي إليك وأمرت بتلاوته هو الحق الكائن من جهة الله، لا من جهة غيره حتى يمكن فيه التبديل والتغيير، وقيل المراد بالحق الصبر مع الفقراء. قال الزجاج: أي الذين أتيتكم به "الحق من ربكم" يعني لم آتكم به من قبل نفسي إنما أتيتكم به من الله "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" قيل هو من تمام القول الذي أمر رسوله أن يقوله، والفاء لترتيب ما قبلها على ما بعدها، ويجوز أن يكون من كلام الله سبحانه لا من القول الذي أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه تهديد شديد، ويكون المعنى: قل لهم يا محمد الحق من ربكم وبعد أن تقول لهم هذا القول، من شاء أن يؤمن بالله ويصدقك فليؤمن، ومن شاء أن يكفر به ويكذبك فليكفر. ثم أكد الوعيد وشدده فقال: "إنا أعتدنا للظالمين" أي أعددنا وهيأنا للظالمين الذين اختاروا الكفر بالله والجحد له والإنكار لأنبيائه ناراً عظيمة "أحاط بهم سرادقها" أي اشتمل عليهم. والسرادق: واحد السرادقات. قال الجوهري: وهي التي تمد فوق صحن الدار، وكل بيت من كرسف فهو سرادق، ومنه قول رؤبة: يا حكم بن المنذر بن جارود سرادق المجد عليك ممدود وقال الشاعر: هو المدخل النعمان بيتاً سماؤه صدور الفيول بعد بيت مسردق يقوله سلام بن جندل لما قتل ملك الفرس ملك العرب النعمان بن المنذر تحت أرجل الفيلة. وقال ابن الأعرابي: سرادقها سورها. وقال القتيبي: السرادق الحجرة التي تكون حول الفسطاط. والمعنى: أنه أحاط بالكفار سرادق النار على تشبيه ما يحيط بهم من النار بالسرادق المحيط بمن فيه "وإن يستغيثوا" من حر النار "يغاثوا بماء كالمهل" وهو الحديد المذاب. قال الزجاج: إنهم يغاثون بماء كالرصاص المذاب أو الصفر، وقيل هو دردي الزيت. وقال أبو عبيدة والأخفش: هو كل ما أذيب من جواهر الأرض من حديد ورصاص ونحاس. وقيل هو ضرب من القطران. ثم وصف هذا الماء الذي يغاثون به بأنه "يشوي الوجوه" إذا قدم إليهم صارت وجوههم مشوية لحرارته "بئس الشراب" شرابهم هذا "وساءت" النار "مرتفقاً" متكأ، يقال ارتفقت: أي اتكأت، وأصل الارتفاق نصب المرفق، ويقال ارتفق الرجل: إذا نام على مرفقه، وقال القتيبي: هو المجلس، وقيل المجتمع.

إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا

30- "إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات" هذا شروع في وعد المؤمنين بعد الفراغ من وعيد الكافرين. والمعنى: إن الذين آمنوا بالحق الذي أوحي إليك وعملوا الصالحات من الأعمال "إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً" هذا خبر إن الذين آمنوا، والعائد محذوف: أي من أحسن منهم عملاً.

أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا

وجملة 31- "أولئك لهم جنات عدن" استئناف لبيان الأجر، والإشارة إلى من تقدم ذكره، وقيل يجوز أن يكون أولئك خبر إن الذين آمنوا، وتكون جملة "إنا لا نضيع" اعتراضاً، ويجوز أن يكون أولئك خبراً بعد خبر، وقد تقدم الكلام في جنات عدن، وفي كيفية جري الأنهار من تحتها "يحلون فيها من أساور من ذهب" قال الزجاج: أساور جمع أسورة، وأسورة جمع سوار، وهي زينة تلبس في الزند من اليد وهي من زينة الملوك، قيل يحلي كل واحد منهم ثلاثة أسورة: واحد من فضة واحد من لؤلؤ وواحد من ذهب، وظاهر الآية أنها جميعها من ذهب، ويمكن أن يكون قول القائل هذا جمعاً بين الآيات لقوله سبحانه في آية أخرى: "أساور من فضة" ولقوله في آية أخرى: "ولؤلؤاً" ومن في قوله من أساور للابتداء، وفي "من ذهب" للبيان. وحكي الفراء يحلون بفتح الياء وسكون الحاء وفتح اللام، يقال حليت المرأة تحلى فهي حالية إذا لبست الحلي "ويلبسون ثياباً خضراً من سندس وإستبرق" قال الكسائي: السندس الرقيق واحده سندسة، والإستبرق ما ثخن وكذا قال المفسرون، وقيل الإستبرق هو الديباج كما قال الشاعر: وإستبرق الديباج طورا لباسها وقيل هو المنسوج بالذهب. قال القتيبي: هو فارسي معرب. قال الجوهري: وتصغيره أبيرق، وخص الأخضر لأنه الموافق للبصر ولكونه أحسن الألوان "متكئين فيها على الأرائك" قال الزجاج: الأرائك جمع أريكة، وهي السرر في الحجال، وقيل هي أسرة من ذهب مكللة بالدر والياقوت، وأصل اتكأ أو تكأ، وأصل متكئين موتكئين، والاتكاء التحامل على الشيء "نعم الثواب" ذلك الذي أثابهم الله به "وحسنت" تلك الأرائك "مرتفقاً" أي متكأً وقد تقدم قريباً. وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "ملتحداً" قال: ملتجأً. وأخرج ابن مردويه وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في الشعب عن سلمان قال: جاءت المؤلفة قلوبهم: عيينة بن بدر، والأقرع بن حابس قالوا: يا رسول الله لو جلست في صدر المجلس وتغيبت عن هؤلاء وأرواح جبابهم، يعنون سلمان وأبا ذر وفقراء المسلمين وكانت عليهم جباب الصوف، جالسناك وحادثناك وأخذنا عنك، فأنزل الله "واتل ما أوحي إليك" إلى قوله: "إنا أعتدنا للظالمين ناراً" زاد أبو الشيخ عن سلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام يلتمسهم حتى أصابهم في مؤخر المسجد يذكرون الله تعالى فقال: "الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع رجال من أمتي، معكم المحيا والممات". وأخرج ابن جرير والطبراني وابن مردويه عن عبد الرحمن بن سهل بن حنيف قال: نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بعض أبياته "واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي" فخرج يلتمسهم فوجد قوماً يذكرون الله منهم ثائر الرأس وحاف الجلد وذو الثوب الخلق، فلما رآهم جلس معهم وقال: "الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني أن أصبر نفسي معهم". وأخرج البزار عن أبي سعيد وأبي هريرة قالا: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجل يقرأ سورة الحجر أو سورة الكهف فسكت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا المجلس الذي أمرت أن أصبر نفسي معهم". وفي الباب روايات. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن نافع قال: أخبرني عبد الله بن عمر في هذه الآية "واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم" أنهم الذين يشهدون الصلوات الخمس. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن ابن عباس مثله. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده في قوله: "واصبر نفسك" الآية قال: نزلت في صلاة الصبح وصلاة العصر. وأخرج ابن مردويه من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس في قوله: "ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا" قال: نزلت في أمية بن خلف، وذلك أنه دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى أمر كرهه الله من طرد الفقراء عنه وتقريب صناديد أهل مكة، فأنزل الله هذه الآية، يعني من ختمنا على قلبه يعني التوحيد "واتبع هواه" يعني الشرك "وكان أمره فرطاً" يعني فرطاً في أمر الله وجهالة بالله. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن بريدة قال: دخل عيينة بن حصن على النبي صلى الله عليه وسلم في يوم حار، وعنده سلمان عليه جبة صوف، فصار منه ريح العرق في الصوف، فقال عيينة: يا محمد إذا نحن أتيناك فأخرج هذا وضرباءه من عندك لا يؤذينا، فإذا خرجنا فأنت وهم أعلم، فأنزل الله "ولا تطع من أغفلنا قلبه" الآية. وقد ثبت في صحيح مسلم في سبب نزول الآية المتضمنة لمعنى هذه الآية، وهي قوله تعالى: "ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي" عن سعيد بن أبي وقاص قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ستة نفر، فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم: اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا، قال: وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان نسيت اسمهما، فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع، فحدث نفسه، فأنزل الله "ولا تطرد الذين يدعون ربهم" الآية. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "وكان أمره فرطاً" قال: ضياعاً. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة "وقل الحق" قال: هو القرآن. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله: "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" يقول: من شاء الله له الإيمان آمن، ومن شاء له الكفر كفر، وهو قوله: " وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين ". وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال: في الآية هذه تهديد ووعيد. وأخرج ابن جرير عنه أيضاً في قوله: "أحاط بهم سرادقها" قال: حائط من نار. وأخرج أحمد والترمذي وابن أبي الدنيا وابن جرير وأبو يعلى وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لسرادق النار أربعة جدر، كثافة كل جدار منها مسيرة أربعين سنة". وأخرج أحمد والبخاري وابن جرير وابن أبي حاتم وابن حبان والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في البعث عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "بماء كالمهل" قال: "كعكر الزيت، فإذا قرب إليه سقطت فروة وجهه فيه". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "كالمهل" قال: أسود كعكر الزيت. وأخرج ابن أبي شيبة وهناد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عطية قال: سئل ابن عباس عن المهل فقال: ماء غليظ كدردي الزيت. وأخرج هناد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني عن ابن مسعود أنه سئل عن المهل، فدعا بذهب وفضة فأذابه، فلما ذات قال: هذا أشبه شيء بالمهل الذي هو شراب أهل النار ولونه لون السماء، غير أن شراب أهل النار أشد حراً من هذا. وأخرج ابن جرير عن ابن عمر قال: هل تدرون ما المهل؟ المهل سهل الزيت، يعني آخره. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "وساءت مرتفقاً" قال: مجتمعاً. وأخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء". وأخرج البيهقي عن أبي الخير مرثد بن عبد الله قال: في الجنة شجرة تنبت السندس منه يكون ثياب أهل الجنة. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير عن عكرمة قال: الإستبرق الديباج الغليظ. وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم عن مجاهد مثله. وأخرج ابن أبي حاتم عن الهيثم بن مالك الطائي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الرجل ليتكئ المتكأ مقدار أربعين سنة ما يتحول منه ولا يمله، يأتيه ما اشتهت نفسه ولذت عينه". وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: الأرائك السرر في جوف الحجال عليها الفرش منضود في السماء فرسخ. وأخرج البيهقي في البعث عنه قال: لا تكون أريكة حتى يكون السرير في الحجلة. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن عكرمة أنه سئل عن الأرائك فقال: هي الحجال على السرر.

وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا

قوله: 32- "واضرب لهم مثلاً رجلين" هذا المثل ضربه الله سبحانه لمن يتعزز بالدنيا ويستنكف عن مجالسة الفقراء فهو على هذا متصل بقوله: "واصبر نفسك". وقد اختلف في الرجلين هل هما مقدران أو محققان؟ فقال بالأول بعض المفسرين. وقال بالآخر بعض آخر. واختلفوا في تعيينهما، فقيل هما أخوان من بني إسرائيل، وقيل هما أخوان مخزوميان من أهل مكة: أحدهما مؤمن، والآخر كافر، وقيل هما المذكوران في سورة الصافات في قوله: "قال قائل منهم إني كان لي قرين" وانتصاب مثلاً ورجلين على أنهما مفعولا أضرب، قيل والأول هو الثاني والثاني هو الأول "جعلنا لأحدهما جنتين" هو الكافر، و "من أعناب" بيان لما في الجنتين: أي من كروم متنوعة "وحففناهما بنخل" الحف الإحاطة، ومنه "حافين من حول العرش" ويقال حف القوم بفلان يحفون حفاً: أي أطافوا به، فمعنى الآية: وجعلنا النخل مطيفاً بالجنتين من جميع جوانبهما "وجعلنا بينهما زرعاً" أي بين الجنتين، وهو وسطهما، ليكون كل واحد منهما جامعاً للأقوات والفواكه.

كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آَتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا

ثم أخبر سبحانه عن الجنتين بأن كل واحدة منهما كانت تؤدي حملها وما فيها، فقال: 33- "كلتا الجنتين آتت أكلها" أخبر عن "كلتا" بآتت، لأن لفظه مفرد، فراعى جانب اللفظ. وقد ذهب البصريون إلى أن كلتا وكلا اسم مفرد غير مثنى. وقال الفراء: هو مثنى، وهو مأخوذ من كل فخففت اللام وزيدت الألف للتثنية. وقال سيبويه: ألف كلتا للتأنيث، والتاء بدل من لام الفعل، وهي واو، والأصل كلوا. وقال أبو عمرو: التاء ملحقة وأكلهما: هو ثمرهما. وفيه دلالة على أنه قد صار صالحاً للأكل. وقرأ عبد الله بن مسعود كل الجنتين آتى أكله "ولم تظلم منه شيئاً" أي لم تنقص من أكلها شيئاً، يقال ظلمه حقه: أي نقصه، ووصف الجنتين بهذه الصفة للإشعار بأنهما على خلاف ما يعتاد في سائر البساتين فإنها في الغالب تكثر في عام، وتقل في عام "وفجرنا خلالهما نهراً" أي أجرينا وشققنا وسط الجنتين نهراً ليسقيهما دائماً من غير انقطاع، وقرئ "فجرنا" بالتشديد للمبالغة، وبالتخفيف على الأصل.

وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا

34- "وكان له" أي لصاحب الجنتين "ثمر" قرأ أبو جعفر وشيبة وعاصم ويعقوب وابن أبي إسحاق " ثمر " بفتح الثاء والميم، وكذلك قرأوا في قوله: "أحيط بثمره" وقرأ أبو عمرو بضم الثاء وإسكان الميم فيهما، وقرأ الباقون بضمهما جميعاً في الموضعين. قال الجوهري: الثمرة واحدة الثمر، وجمع الثمر ثمار مثل جبل وجبال. قال الفراء: وجمع الثمار ثمر. مثل كتاب وكتب، وجمع الثمر أثمار، مثل عنق وأعناق وقيل الثمر جميع المال من الذهب والفضة والحيوان وغير ذلك. وقيل هو الذهب والفضة خالصة "فقال لصاحبه" أي قال صاحب الجنتين الكافر لصاحبه المؤمن "وهو يحاوره" أي والكافر يحاور المؤمن، والمعنى: يراجعه الكلام ويجاوبه، والمحاورة المراجعة، والتحاور التجاوب "أنا أكثر منك مالاً وأعز نفراً" النفر الرهط، وهو ما دون العشرة، وأراد ها هنا الأتباع والخدم والأولاد.

وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا

35- "ودخل جنته" أي دخل الكافر جنة نفسه. قال المفسرون: أخذ بيد أخيه المسلم، فأدخله جنته يطوف به فيها، ويريه عجائبها، وإفراد الجنة هنا يحتمل أن وجهه كونه لم يدخل أخاه إلا واحدة منهما، أو لكونهما لما اتصلا كانا كواحدة، أو لأنه أدخله في واحدة، ثم واحدة أو لعدم تعلق الغرض بذكرهما، وما أبعد ما قاله صاحب الكشاف أنه وحد الجنة للدلالة على أنه لا نصيب له في الجنة التي وعد المؤمنون، وجملة "وهو ظالم لنفسه" في محل نصب على الحال: أي وذلك الكافر ظالم لنفسه بكفره وعجبه "قال ما أظن أن تبيد هذه أبداً" أي قال الكافر لفرط غفلته وطول أمله: ما أظن أن تفنى هذه الجنة التي تشاهدها.

وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا

36- "وما أظن الساعة قائمة" أنكر البعث بعد إنكاره لفناء جنته. قال الزجاج: أخبر أخاه بكفره بفناء الدنيا وقيام الساعة " ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا " اللام هي الموطئة للقسم، والمعنى: أنه إن يرد إلى ربه فرضاً وتقديراً كما زعم صاحبه، واللام في "لأجدن" جواب القسم، والشرط: أي لأجدن يومئذ خيراً من هذه الجنة، في مصاحف مكة والمدينة والشام خيراً منهما وفي مصاحف أهل البصرة والكوفة "خيراً منها" على الإفراد، و "منقلباً" منتصب على التمييز: أي مرجعاً وعاقبة، قال هذا قياساً للغائب على الحاضر. وأنه لما كان غنياً في الدنيا، سيكون غنياً في الأخرى، اغتراراً منه بما صار فيه من الغنى التي هو استدراج له من الله.

قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا

37- "قال له صاحبه" أي قال للكافر صاحبه المؤمن حال محاورته له منكراً عليه ما قاله: "أكفرت بالذي خلقك من تراب" بقولك "ما أظن الساعة قائمة" وقال "خلقك من تراب": أي جعل أصل خلقك من تراب حيث خلق أباك آدم منه، وهو أصلك، وأصل البشر فلكل فرد حظ من ذلك، وقيل يحتمل أنه كان كافراً بالله فأنكر عليه ما هو عليه من الكفر، ولم يقصد أن الكفر حدث له بسبب هذه المقالة "ثم من نطفة" وهي المادة القريبة "ثم سواك رجلاً" أي صيرك إنساناً ذكراً وعدل أعضاءك وكملك، وفي هذا تلويح بالدليل على البعث، وأن القادر على الابتداء قادر على الإعادة، وانتصاب رجلاً على الحال أو التمييز.

لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا

38- "لكنا هو الله ربي" كذا قرأ الجمهور بإثبات الألف بعد لكن المشددة. وأصله لكن أنا حذفت الهمزة وألقيت حركتها على النون الساكنة قبلها فصار لكننا، ثم استثقلوا اجتماع النونين فسكنت الأولى وأدغمت الثانية، وضمير هو للشأن، والجملة بعده خبره والمجموع خبر أنا، والراجع ياء الضمير، وتقدير الكلام: لكن أنا الشأن الله ربي. قال أهل العربية: إثبات ألف أنا في الوصل ضعيف. قال النحاس: مذهب الكسائي والفراء والمازني أن الأصل لكن أنا، وذكر نحو ما قدمنا. وروي عن الكسائي أن الأصل لكن الله هو ربي أنا. قال الزجاج: إثبات الألف في "لكنا" في الإدراج جيد لأنها قد حذفت الألف من أنا فجاءوا بها عوضاً، قال: وفي قراءة أبي لكن أنا هو الله ربي وقرأ ابن عامر والمثنى عن نافع، وورش عن يعقوب "لكنا" في حال الوصل والوقف معاً بإثبات الألف، ومثله قول الشاعر: أنا سيف العشيرة فاعرفوني فإني قد تذربت السناما ومنه قول الأعشى: فكيف أنا وألحان القوافي وبعد الشيب يكفي ذاك عارا ولا خلاف في إثباتها في الوقف، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وأبو العالية، وروي عن الكسائي لكن هو الله ربي ثم نفى عن نفسه الشرك بالله، فقال: "ولا أشرك بربي أحداً" وفيه إشارة إلى أن أخاه كان مشركاً.

وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا

ثم أقبل عليه يلومه فقال: 39- "ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله" لولا للتحضيض: أي هلا قلت حين دخلتها هذا القول. قال الفراء والزجاج: ما في موضع رفع على معنى الأمر ما شاء الله: أي هلا قلت حين دخلتها الأمر بمشيئة الله، وما شاء الله كان، ويجوز أن تكون ما مبتدأ والخبر مقدر: أي ما شاء الله كائن، ويجوز أن تكون ما شرطية والجواب محذوف: أي أي شيء شاء الله كان "لا قوة إلا بالله" أي هلا قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله، تحضيضاً له على الاعتراف بأنها وما فيها بمشيئة الله، إن شاء أبقاها وإن شاء أفناها، وعلى الاعتراف بالعجز، وأن ما تيسر له من عمارتها إنما هو بمعونة الله لا بقوته وقدرته. قال الزجاج: لا يقوى أحد على ما في يده من ملك ونعمة إلا بالله، ولا يكون إلا ما شاء الله. ثم لما علمه الإيمان وتفويض الأمور إلى الله سبحانه أجابه على افتخاره بالمال والنفر فقال " إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا " المفعول الأول ياء الضمير، وأنا ضمير فصل، وأقل المفعول الثاني للرؤية إن كانت علمية، وإن جعلت بصرية كان انتصاب أقل على الحال، ويجوز أن يكون أنا تأكيد لياء الضمير، وانتصاب مالاً وولداً على التمييز.

فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا

40- " فعسى ربي أن يؤتين خيرا من جنتك " هذا جواب الشرط: أي إن ترني أفقر منك، فأنا أرجو أن يرزقني الله سبحانه جنة خيراً من جنتك في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما "ويرسل عليها حسباناً" أي ويرسل على جنتك حسباناً، والحسبان مصدر، بمعنى الحساب كالغفران: أي مقداراً قدره الله عليها، ووقع في حسابه سبحانه، وهو الحكم بتخريبها. قال الزجاج: الحسبان من الحساب: أي يرسل عليها عذاب الحساب، وهو حساب ما كسبت يداك. وقال الأخفش: حسباناً: أي مرامي "من السماء" واحدها حسبانة، وكذا قال أبو عبيدة والقتيبي. وقال ابن الأعرابي: الحسبانة السحابة، والحسبانة الوسادة، والحسبانة الصاعقة، وقال النضر بن شميل: الحسبان سهام يرمي بها الرجل في جوف قصبة تنزع في قوس، ثم يرمي بعشرين منها دفعة، والمعنى: يرسل عليها مرامي من عذابه: إما برد، وإما حجارة أو غيرهما مما يشاء من أنواع العذاب. ومنه قول أبي زياد الكلابي: أصاب الأرض حسبان أي جراد "فتصبح صعيداً زلقاً" أي فتصبح جنة الكافر بعد إرسال الله سبحانه عليها حسباناً صعيداً، أي أرضاً لا نبات بها وقد تقدم تحقيقه، زلقاً: أي تزلق فيها الأقدام لملاستها، يقال مكان زلق بالتحريك: أي دحض، وهو في الأصل مصدر قولك زلقت رجله تزلق زلقاً وأزلقها غيره، والمزلقة الموضع الذي لا يثبت عليه قدم، وكذا الزلاقة، وصف الصعيد بالمصدر مبالغة، أو أريد به المفعول.

أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا

وجملة 41- "أو يصبح ماؤها غوراً" معطوفة على الجملة التي قبلها: والغور الغائر. وصف الماء بالمصدر مبالغة، والمعنى: أنها تصير عادمة للماء بعد أن كانت واجدة له، وكان خلالها ذلك النهر يسقيها دائماً، ويجيء الغور بمعنى الغروب، ومنه قول أبي ذوئيب: هل الدهر إلا ليلة ونهارها وإلا طلوع الشمس ثم غيارها "فلن تستطيع له طلباً" أي لن تستطيع طلب الماء الغائر فضلاً عن وجوده ورده ولا تقدر عليه بحيلة من الحيل، وقيل المعنى: فلن تستطيع طلب غيره عوضاً عنه.

وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا

ثم أخبر سبحانه عن وقوع ما رجاه ذلك المؤمن وتوقعه من إهلاك جنة الكافر فقال: 42- "وأحيط بثمره" قد قدمنا اختلاف القراء في هذا الحرف وتفسيره، وأصل الإحاطة من إحاطة العدو بالشخص كما تقدم في قوله: "إلا أن يحاط بكم" وهي عبارة عن إهلاكه وإفنائه، وهو معطوف على مقدر كأنه قيل فوقع ما توقعه المؤمن وأحيط بثمره "فأصبح يقلب كفيه" أي يضرب إحدى يديه على الأخرى وهو كناية عن الندم، كأنه قيل فأصبح يندم " على ما أنفق فيها " أي في عمارتها وإصلاحها من الأموال، وقيل المعنى: يقلب ملكه فلا يرى فيه عوض ما أنفق، لأن الملك قد يعبر عنه باليد من قولهم في يده مال، وهو بعيد جداً، وجملة "وهي خاوية على عروشها" في محل نصب على الحال: أي والحال أن تلك الجنة ساقطة على دعائمها التي تعمد بها الكروم أو ساقط بعض تلك الجنة على بعض، مأخوذ من خوت النجوم تخوي إذا سقطت ولم تمطر في نوئها، ومنه قوله تعالى: "فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا" قيل وتخصيص ماله عروش بالذكر دون النخل والزرع لأنه الأصل، وأيضاً إهلاكها مغن عن ذكر إهلاك الباقي، وجملة "ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحداً" معطوفة على يقلب كفيه، أو حال من ضميره: أي وهو يقول تمنى عند مشاهدته لهلاك جنته بأنه لم يشرك بالله حتى تسلم جنته من الهلاك، أو كان هذا القول منه على حقيقته، لا لما فاته من الغرض الدنيوي، بل لقصد التوبة من الشرك والندم على ما فرط منه.

وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا

43- "ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله" فئة اسم كان وله خبرها، وينصرونه صفة لفئة أي فئة ناصرة، ويجوز أن تكون ينصرونه الخبر، ورجح الأول سيبويه ورجح الثاني المبرد، واحتج بقوله: "ولم يكن له كفواً أحد" والمعنى: أنه لم تكن له فرقة وجماعة يلتجئ إليها وينتصر بها، ولا نفعه النفر الذين افتخر بهم فيما سبق "وما كان" في نفسه "منتصراً" أي ممتنعاً بقوته عن إهلاك الله لجنته، وانتقامه منه.

هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا

44- "هنالك الولاية لله الحق" قرأ أبو عمرو والكسائي "الحق" بالرفع نعتاً للولاية، وقرأ أهل المدينة وأهل مكة وعاصم وحمزة "الحق" بالجر نعتاً لله سبحانه. قال الزجاج: ويجوز النصب على المصدر والتوكيد كما تقول هذا لك حقاً. وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي "الولاية" بكسر الواو، وقرأ الباقون بفتحها، وهما لغتان بمعنى، والمعنى هنالك: أي في ذلك المقام النصرة لله وحده لا يقدر عليها غيره، وقيل هو على التقديم والتأخير: أي الولاية لله الحق هنالك "هو خير ثواباً وخير عقباً" أي هو سبحانه خير ثواباً لأوليائه في الدنيا والآخرة "وخير عقباً" أي عاقبة، قرأ الأعمش وعاصم وحمزة "عقباً" بسكون القاف، وقرأ الباقون بضمها، وهما بمعنى واحد: أي هو خير عاقبة لمن رجاه وآمن به، قال هذا عاقبة أمر فلان، وعقباه: أي أخراه. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله: "جعلنا لأحدهما جنتين" قال: الجنة هي البستان، فكان له بستان واحد وجدار واحد، وكان بينهما نهر، فلذلك كانا جنتين، ولذلك سماه جنة من قبل الجدار الذي عليها. وأخرج ابن أبي حاتم عن يحيى بن أبي عمرو الشيباني قال: نهر أبي قرطس نهر الجنتين. قال ابن أبي حاتم: وهو نهر مشهور بالرملة. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس "ولم تظلم منه شيئاً" قال: لم تنقص، كل شجر الجنة أطعم. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عنه "وكان له ثمر" يقول مال. وأخرج أبو عبيد وابن جرير ابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة، قال: قرأها ابن عباس "وكان له ثمر" بالضم، وقال: هي أنواع المال. وأخرج ابن أبي شيبة ابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد "وكان له ثمر" قال: ذهب وفضة. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة "وهو ظالم لنفسه" يقول: كفور لنعمة ربه. وأخرج ابن أبي حاتم عن أسماء بنت عميس قالت: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن عند الكرب الله الله ربي لا أشرك به شيئاً. وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن يحيى بن سليم الطائفي عمن ذكره قال: "طلب موسى من ربه حاجة فأبطأت عليه فقال: ما شاء الله، فإذا حاجته بين يديه، فقال: يا رب إني أطلب حاجتي منذ كذا وكذا أعطيتها الآن، فأوحى الله إليه: يا موسى، أما علمت أن قولك ما شاء الله أنجح ما طلبت به الحوائج". وأخرج أبو يعلى وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أنعم الله على عبد نعمة في أهل أو مال أو ولد فيقول ما شاء الله لا قوة إلا بالله إلا دفع الله عنه كل آفة حتى تأتيه منيته، وقرأ "ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله""، وفي إسناده عيسى بن عون عن عبد الملك بن زرارة عن أنس. قال أبو الفتح الأزدي: عيسى بن عون عن عبد الملك بن زرارة عن أنس لا يصح حديثه. وأخرج ابن أبي حاتم من وجه آخر عن أنس نحوه موقوفاً. وأخرج البيهقي في الشعب عنه نحوه مرفوعاً. وأخرج أحمد من حديث أبي هريرة قال: قال لي نبي الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة تحت العرش؟ قلت نعم، قال: أن تقول لا قوة إلا بالله". وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟ لا حول ولا قوة إلا بالله"، وقد وردت أحاديث وآثار عن السلف في فضل هذه الكلمة. وأخرج ابن جرير ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "فتصبح صعيداً زلقاً" قال: مثل الجرز. وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "حسباناً من السماء" قال: عذاباً فتصبح صعيداً زلقاً: أي قد حصد ما فيها فلم يترك فيها شيء "أو يصبح ماؤها غوراً" أي ذاهباً قد غار في الأرض "وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه" قال: يصفق "على ما أنفق فيها" متلهفاً على ما فاته.

وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا

ثم ضرب سبحانه مثلاً آخر لجبابرة قريش فقال: 45- "واضرب لهم مثل الحياة الدنيا" أي اذكر لهم ما يشبه الحياة الدنيا في حسنها ونضارتها وسرعة زوالها لئلا يركنوا إليها، وقد تقدم هذا المثل في سورة يونس، ثم بين سبحانه هذا المثل فقال: "كماء أنزلناه من السماء" ويجوز أن يكون هذا هو المفعول الثاني لقوله اضرب على جعله بمعنى صير "فاختلط به نبات الأرض" أي اختلط بالماء نبات الأرض حتى استوى، وقيل المعنى: إن النبات اختلط بعضه ببعض حين نزل عليه الماء، لأن النبات إنما يختلط ويكثر بالمطر، فتكون الباء في به سببية "فأصبح" النبات "هشيماً" الهشيم الكسير، وهو من النبات ما تكسر بسبب انقطاع الماء عنه وتفتت، ورجل هشيم ضعيف البدن، وتهشم عليه فلان إذا تعطف، واهتشم ما في ضرع الناقة إذا احتلبه، وهشم الثريد كسره وثرده، ومنه قول ابن الزبعري: عمرو الذي هشم الثريد لقومه ورجال مكة مسنتون عجاف "تذروه الرياح" تفرقه. قال أبو عبيدة وابن قتيبة: تذروه تنسفه، وقال ابن كيسان: تذهب به وتجيء، والمعنى متقارب. وقرأ طلحة بن مصرف تذريه الريح قال الكسائي: وفي قراءة عبد الله تذريه يقال ذرته الريح تذروه، وأذرته تذريه. وحكى الفراء: أذريت الرجل عن فرسه: أي قلبته "وكان الله على كل شيء مقتدراً" أي على كل شيء من الأشياء يحييه ويفنيه بقدرته لا يعجز عن شيء.

الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا

46- "المال والبنون زينة الحياة الدنيا" هذا رد على الرؤساء الذين كانوا يفتخرون بالمال والغنى والأبناء فأخبرهم سبحانه أن ذلك مما يتزين به في الدنيا لا مما ينفع في الآخرة، كما قال في الآية الأخرى "إنما أموالكم وأولادكم فتنة" وقال "إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم" ولهذا عقب هذه الزينة الدنيوية بقوله: "والباقيات الصالحات" أي أعمال الخير، وهي ما كان يفعله فقراء المسلمين من الطاعات "خير عند ربك ثواباً" أي أفضل من هذه الزينة بالمال والبنين ثواباً، وأكثر عائدة ومنفعة لأهلها "وخير أملاً" أي أفضل أملاً، يعني أن هذه الأعمال الصالحة لأهلها من الأمل أفضل مما يؤمله أهل المال والبنين، لأنهم ينالون بها في الآخرة أفضل مما كان يؤمله هؤلاء الأغنياء في الدنيا، وليس في زينة الدنيا خير حتى تفضل عليها الآخرة، ولكن هذا التفضل خرج مخرج قوله تعالى: "أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً"، والظاهر أن الباقيات الصالحات كل عمل خير فلا وجه لقصرها على الصلاة كما قال البعض، ولا لقصرها على نوع من أنواع الذكر كما قاله بعض آخر، ولا على ما كان يفعله فقراء المهاجرين باعتبار السبب، لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وبهذا تعرف أن تفسير الباقيات الصالحات في الأحاديث بما سيأتي لا ينافي إطلاق هذا اللفظ على ما هو عمل صالح من غيرها. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن علي قال: "المال والبنون" حرث الدنيا والعمل الصالح حرث الآخرة، وقد جمعهما الله لأقوام. وأخرج ابن أبي شيبة ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "والباقيات الصالحات" قال: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر. وأخرج سعيد بن منصور وأحمد وأبو يعلى وابن جرير وابن أبي حاتم وابن حبان والحاكم وصححه وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "استكثروا من الباقيات الصالحات، قيل: وما هن يا رسول الله؟ قال التكبير والتهليل والتسبيح والتحميد ولا حول ولا قوة إلا بالله". وأخرج الطبراني وابن شاهين وابن مردويه عن أبي الدرداء مرفوعاً بلفظ "سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، هن الباقيات الصالحات". وأخرج النسائي وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني في الصغير والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي عن أبي هريرة مرفوعاً "خذوا جنتكم، قيل يا رسول الله من أي عدو قد حضر؟ قال: بل جنتكم من النار قول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، فإنهن يأتين يوم القيامة مقدمات معقبات ومجنبات، وهي الباقيات الصالحات". وأخرج سعيد بن منصور وأحمد وابن مردويه عن النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا وإن سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله الباقيات الصالحات". وأخرج ابن مردويه نحوه من حديث أنس مرفوعاً، وزاد التكبير وسماهن الباقيات الصالحات. وأخرج ابن مردويه نحوه من حديث أبي هريرة. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن مردويه من حديث عائشة مرفوعاً نحوه، وزادت "ولا حول ولا قوة إلا بالله". وأخرج ابن أبي حاتم وبن مردويه من حديث علي مرفوعاً نحوه. وأخرج ابن مردويه من طريق الضحاك عن ابن عباس مرفوعاً فذكر نحوه دون الحوقلة. وأخرج الطبراني عن سعد بن جنادة مرفوعاً نحوه. وأخرج البخاري في تاريخه وابن جرير عن ابن عمر من قوله نحوه. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس من قوله نحوه. وكل هذه الأحاديث مصرحة بأنها الباقيات الصالحات، وأما ما ورد في فضل هذه الكلمات من غير تقييد بكونها المرادة في الآية فأحاديث كثيرة لا فائدة في ذكرها هنا. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال: كل شيء من طاعة الله، فهو من الباقيات الصالحات.

وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا

وقوله: 47- "ويوم نسير الجبال" قرأ الحسن وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر "تسير" بمثناة فوقية مضمومة وفتح الياء التحتية على البناء للمفعول، ورفع الجبال على النيابة عن الفاعل. وقرأ ابن محيصن ومجاهد "تسير" بفتح التاء الفوقية والتخفيف على أن الجبال فاعل. وقرأ الباقون "نسير" بالنون على أن الفاعل هو الله سبحانه والجبال منصوبة على المفعولية، ويناسب القراءة الأولى قوله تعالى: "وإذا الجبال سيرت"، ويناسب القراءة الثانية قوله تعالى: "وتسير الجبال سيراً"، واختار القراءة الثالثة أبو عبيدة لأنها المناسبة لقوله: "وحشرناهم" قال بعض النحويين: التقدير والباقيات الصالحات خير عند ربك يوم نسير الجبال، وقيل العامل في الظرف فعل محذوف، والتقدير: واذكر يوم نسير الجبال، ومعنى تسيير الجبال إزالتها من أماكنها وتسييرها كما تسير السحاب، ومنه قوله تعالى: "وهي تمر مر السحاب"، ثم تعود إلى الأرض بعد أن جعلها الله كما قال: " وبست الجبال بسا * فكانت هباء منبثا "، والخطاب في قوله: "وترى الأرض بارزة" لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لكل من يصلح للرؤية، ومعنى بروزها ظهورها وزوال ما يسترها من الجبال والشجر والبنيان، وقيل المعنى ببروزها بروز ما فيها من الكنوز والأموات كما قال سبحانه "وألقت ما فيها وتخلت"، وقال "وأخرجت الأرض أثقالها" فيكون المعنى: وترى الأرض بارزاً ما في جوفها "وحشرناهم" أي الخلائق، ومعنى الحشر الجمع: أي جمعناهم إلى الموقف من كل مكان "فلم نغادر منهم أحداً" فلم نترك منهم أحداً، يقال غادره وأغدره إذا تركه، قال عنترة: غادرته متعفراً أوصاله والقوم بين مجرح ومجندل أي تركته، ومنه الغدر، لأن الغادر ترك الوفاء للمغدور، قالوا: وإنما سمي الغدير غديراً، لأن الماء ذهب وتركه، ومنه غدائر المرأة لأنها تجعلها خلفها.

وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا

48- "وعرضوا على ربك صفاً" انتصاب صفاً على الحال: أي مصفوفين كل أمة وزمرة صف، وقيل عرضوا صفاً واحداً كما في قوله: "ثم ائتوا صفاً" أي جميعاً، وقيل قياماً. وفي الآية تشبيه حالهم بحال الجيش الذي يعرض على السلطان "لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة" هو على إضمار القول: أي قلنا لهم لقد جئتمونا، والكاف في "كما خلقناكم" نعت مصدر محذوف: أي مجيئاً كائناً كمجيئكم عند أن خلقناكم أول مرة، أو كائنين كما خلقناكم أول مرة: أي حفاة عراة غرلاً، كما ورد ذلك في الحديث. قال الزجاج: أي بعثناكم وأعدناكم كما خلقناكم، لأن قوله لقد جئتمونا معناه بعثناكم " بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا " هذا إضراب وانتقال من كلام إلى كلام للتقريع والتوبيخ، وهو خطاب لمنكري البعث: أي زعمتم في الدنيا أن لن تبعثوا، وأن لن نجعل لكم موعداً نجازيكم بأعمالكم وننجز ما وعدناكم به من البعث والعذاب.

وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا

وجملة 49- "ووضع الكتاب" معطوفة على عرضوا، والمراد بالكتاب صحائف الأعمال، وأفرده لكون التعريف فيه للجنس، والوضع إما حسي بأن يوضع صحيفة كل واحد في يده: السعيد في يمينه، والشقي في شماله، أو في الميزان. وإما عقلي: أي أظهر عمل كل واحد من خير وشر بالحساب الكائن في ذلك اليوم "فترى المجرمين مشفقين مما فيه" أي خائفين وجلين مما في الكتاب الموضوع لما يتعقب ذلك من الافتضاح في ذلك الجمع، والمجازاة بالعذاب الأليم "ويقولون يا ويلتنا" يدعون على أنفسهم بالويل لوقوعهم في الهلاك، ومعنى هذا النداء قد تقدم تحقيقه في المائدة "مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها" أي أي شيء له لا يترك معصية صغيرة ولا معصية كبيرة إلا حواها وضبطها وأثبتها "ووجدوا ما عملوا" في الدنيا من المعاصي الموجبة للعقوبة، أو وجدوا جزاء ما عملوا "حاضراً" مكتوباً مثبتاً "ولا يظلم ربك أحداً" أي لا يعاقب أحداً من عباده بغير ذنب، ولا ينقص فاعل الطاعة من أجره الذي يستحقه.

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا

ثم إنه سبحانه عاد إلى الرد على أرباب الخيلاء من قريش، فذكر قصة آدم واستكبار إبليس عليه فقال: 50- "وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم" أي واذكر وقت قولنا لهم اسجدوا سجود تحية وتكريم، كما مر تحقيقه "فسجدوا" طاعة لأمر الله وامتثالاً لطلبه السجود "إلا إبليس" فإنه أبى واستكبر ولم يسجد، وجملة "كان من الجن" مستأنفة لبيان سبب عصيانه وأنه كان من الجن ولم يكن من الملائكة فلهذا عصى، ومعنى "ففسق عن أمر ربه" أنه خرج عن طاعة ربه. قال الفراء: العرب تقول فسقت الرطبة عن قشرها لخروجها منه. قال النحاس: اختلف في معنى "ففسق عن أمر ربه" على قولين: الأول مذهب الخليل وسيبويه أن المعنى: أتاه الفسق لما أمر فعصى فكان سبب الفسق أمر ربه. كما تقول أطعمه عن جوع. والقول الآخر قول قطرب: أن المعنى على حذف المضاف: أي فسق عن ترك أمره. ثم إنه سبحانه عجب من حال من أطاع إبليس في الكفر والمعاصي وخالف أمر الله فقال: "أفتتخذونه وذريته أولياء" كأنه قال: أعقيب ما وجد منه من الإباء والفسق تتخذونه وتتخذون ذريته: أي أولاده، وقيل أتباعه مجازاً أولياء "من دوني" فتطيعونهم بدل طاعتي وتستبدلونهم بي، والحال أنهم: أي إبليس وذريته "لكم عدو" أي أعداء وأفرده لكونه اسم جنس، أو لتشبيهه بالمصادر كما في قوله: "فإنهم عدو لي"، وقوله "هم العدو" أي كيف تصنعون هذا الصنع وتستبدلون بمن خلقكم وأنعم عليكم بجميع ما أنتم فيه من النعم؟ بمن لم يكن لكم منه منفعة قط، بل هو عدو لكم يترقب حصول ما يضركم في كل وقت "بئس للظالمين بدلاً" أي الواضعين للشيء في غير موضعه المستبدلين بطاعة ربهم طاعة الشيطان، فبئس ذلك البدل الذي استبدلوه بدلاً عن الله سبحانه.

مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا

51- "ما أشهدتهم خلق السموات والأرض" قال أكثر المفسرين: إن الضمير للشركاء، والمعنى: أنهم لو كانوا شركاء لي في خلق السموات والأرض وفي خلق أنفسهم لكانوا مشاهدين خلق ذلك مشاركين لي فيه، ولم يشاهدوا ذلك ولا أشهدتهم إياه أنا فليسوا لي بشركاء. وهذا استدلال بانتفاء الملزوم المساوي على انتفاء اللازم. وقيل الضمير للمشركين الذين التمسوا طرد فقراء المؤمنين، والمراد أنهم ما كانوا شركاء لي في تدبير العالم بدليل أني ما أشهدتهم خلق السموات والأرض "ولا خلق أنفسهم" وما اعتضدت بهم بل هم كسائر الخلق، وقيل المعنى: أن هؤلاء الظالمين جاهلون بما جرى به القلم في الأزلن لأنهم لم يكونوا مشاهدين خلق العالم، فكيف يمكنهم أن يحكموا بحسن حالهم عند الله، والأول من هذه الوجوه أولى لما يلزم في الوجهين الآخرين من تفكيك الضميرين، وهذه الجملة مستأنفة لبيان عدم استحقاقهم للاتخاذ المذكور، وقرأ أبو جعفر " ما أشهدتهم " وقرأ الباقون "ما أشهدتهم" ويؤيده "وما كنت متخذ المضلين عضداً" والعضد يستعمل كثيراً في معنى العون، وذلك أن العضد قوام اليد، ومنه قوله: "سنشد عضدك بأخيك" أي سنعينك ونقويك به، ويقال أعضدت بفلان إذا استعنت به، وذكر العضد على جهة المثل، وخص المضلين بالذكر لزيادة الذم والتوبيخ. والمعنى: ما استعنت على خلق السموات والأرض بهم ولا شاورتهم وما كنت متخذ الشياطين أو الكافرين أعواناً، ووحد العضد لموافقة الفواصل. وقرأ أبو جعفر الجحدري "وما كنت" بفتح التاء على أن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم: أي وما كنت يا محمد متخذاً لهم عضداً ولا صح لك ذلك، وقرأ الباقون بضم التاء. وفي عضد لغات ثمان أفصحها فتح العين وضم الضاد، وبها قرأ الجمهور. وقرأ الحسن "عضداً" بضم العين والضاد، وقرأ عكرمة بضم العين وإسكان الضاد، وقرأ الضحاك بكسر العين وفتح الضاد، وقرأ عيسى ابن عمر بفتحهما، ولغة تميم فتح العين وسكون الضاد.

وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا

ثم عاد إلى ترهيبهم بأحوال القيامة فقال: 52- "ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم" قرأ حمزة ويحيى بن وثاب وعيسى بن عمر نقول بالنون، وقرأ الباقون بالياء التحتية: أي اذكر يوم يقول الله عز وجل للكفار توبيخاً لهم وتقريعاً نادوا شركائي الذين زعمتم أنهم ينفعونكم ويشفعون لكم، وأضافهم سبحانه إلى نفسه جرياً على ما يعتقده المشركون، تعالى الله عن ذلك "فدعوهم" أي فعلوا ما أمرهم الله به من دعاء الشركاء "فلم يستجيبوا لهم" إذ ذاك: أي لم يقع منهم مجرد الاستجابة لهم، فضلاً عن أن ينفعوهم أو يدفعوا عنهم "وجعلنا بينهم موبقاً" أي جعلنا بين هؤلاء المشركين وبين من جعلوهم شركاء لله موبقاً، ذكر جماعة من المفسرين أنه اسم واد عميق فرق الله به تعالى بينهم، وعلى هذا فهو اسم مكان. قال ابن الأعرابي: كل حاجز بين شيئين فهو موبق. وقال الفراء: الموبق المهلك. والمعنى: جعلنا تواصلهم في الدنيا مهلكاً لهم في الآخرة، يقال وبق يوبق فهو وبق، هكذا ذكره الفراء في المصادر. وحكى الكسائي وبق يبق وبوقاً فهو وابق، والمراد بالمهلك على هذا هو عذاب النار يشتركون فيه. والأول أولى، لأن من جملة ما زعموا أنهم شركاء لله الملائكة وعزير والمسيح، فالموبق هو المكان الحائل بينهم. وقال أبو عبيدة: الموبق هنا الموعد للهلاك، وقد ثبت في اللغة أوبقه بمعنى أهلكه، ومنه قول زهير: ومن يشتري حسن الثناء بماله يصن عرضه عن كل شنعاء موبق ولكن المناسب لمعنى الآية هو المعنى الأول.

وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا

53- "ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها" المجرمون موضوع موضع الضمير للإشارة إلى زيادة الذم لهم بهذا الوصف المسجل عليهم به، والظن هنا بمعنى اليقين. والمواقعة المخالطة بالوقوع فيها، وقيل إن الكفار يرون النار من مكان بعيد فيظنون ذلك ظناً "ولم يجدوا عنها مصرفاً" أي معدلاً يعدلون إليه، أو انصرافاً، لأن النار قد أحاطت بهم من كل جانب. قال الواحدي: المصرف الموضع الذي ينصرف إليه. وقال القتيبي: أي معدلاً ينصرفون إليه، وقيل ملجأ يلجأون إليه. والمعنى متقارب في الجميع. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "وترى الأرض بارزة" قال: ليس عليها بناء ولا شجر. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "لا يغادر صغيرة ولا كبيرة" قال: الصغيرة التبسم، والكبيرة الضحك. وزاد ابن أبي الدنيا وابن أبي حاتم عنه قال: الصغيرة التبسم بالاستهزاء بالمؤمنين، والكبيرة القهقهة بذلك. وأقول: صغيرة وكبيرة نكرتان في سياق النفي، فيدخل تحت ذلك كل ذنب يتصف بصغر، وكل ذنب يتصف بالكبر، فلا يبقى من الذنوب شيء إلا أحصاه الله وما كان من الذنوب ملتبساً بين كونه صغيراً أو كبيراً، فذلك إنما هو بالنسبة إلى العباد لا بالنسبة إلى الله سبحانه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ في العظمة والبيهقي في الشعب عن ابن عباس قال: أن من الملائكة قبيلة يقال لهم الجن فكان إبليس منهم، وكان يوسوس ما بين السماء والأرض، فعصى فسخط الله عليه فمسخه الله شيطاناً رجيماً. وأخرج ابن جرير عنه في قوله: "كان من الجن" قال: كان خازن الجنان، فسمي بالجان. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه أيضاً قال: إن إبليس كان من أشرف الملائكة وأكرمهم قبيلة، وكان خازناً على الجنان. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن قال: قاتل الله أقواماً زعموا أن إبليس كان من الملائكة، والله يقول كان من الجن. وأخرج ابن جرير وابن الأنباري عنه أنه قال: ما كان من الملائكة طرفة عين، إنه لأصل الجن كما أن آدم أصل الإنس. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله: "ما أشهدتهم خلق السموات والأرض" قال: يقول ما أشهدت الشياطين الذين اتخذتم معي هذا "وما كنت متخذ المضلين عضداً" قال: الشياطين عضداً، قال: ولا اتخذتهم عضداً على شيء عضدوني عليه فأعانوني. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: "وجعلنا بينهم موبقاً" يقول: مهلكاً. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن مجاهد مثله. وأخرج أبو عبيد وهناد وابن المنذر عنه قال: واد في جهنم. وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في البعث عن أنس في الآية قال: واد في جهنم من قيح ودم. وأخرج أحمد في الزهد وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عمرو قال: هو واد عميق في النار فرق الله به يوم القيامة بين أهل الهدى وأهل الضلالة. وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "فظنوا أنهم مواقعوها" قال: علموا.

وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا

لما ذكر سبحانه افتخار الكفرة على فقراء المسلمين بأموالهم وعشائرهم وأجابهم عن ذلك وضرب لهم الأمثلة الواضحة، حكى بعض أهوال الآخرة فقال: 54- "ولقد صرفنا" أي كررنا ورددنا "في هذا القرآن للناس" أي لأجلهم ولرعاية مصلحتهم ومنفعتهم "من كل مثل" من الأمثال التي من جملتها الأمثال المذكورة في هذه السورة، وقد تقدم تفسير هذه الآية في سورة بني إسرائيل، وحين لم يترك الكفار ما هم فيه من الجدال بالباطل، ختم الآية بقوله: "وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً" قال الزجاج: المراد بالإنسان الكافر، واستدل على أن المراد الكافر بقوله تعالى: "ويجادل الذين كفروا بالباطل" وقيل المراد به في الآية النضر بن الحارث، والظاهر العموم وأن هذا النوع أكثر الأشياء التي يتأتى منها الجدال جدلاً، ويؤيد هذا ما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث علي "أن النبي صلى الله عليه وسلم طرقه وفاطمة ليلاً، فقال: ألا تصليان؟ فقلت: يا رسول الله إنما أنفسنا بيد الله إن شاء أن يبعثنا بعثنا، فانصرف حين قلت ذلك ولم يرجع إلي شيئاً، ثم سمعته يضرب فخذه ويقول "وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً"" وانتصاب جدلاً على التمييز.

وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا

55- "وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين" قد تقدم الكلام على مثل هذا في سورة بني إسرائيل، وذكرنا أن "أن" الأولى في محل نصب، والثانية في محل رفع، والهدى القرآن ومحمد صلى الله عليه وسلم، والناس هنا هم أهل مكة، والمعنى على حذف مضاف: أي ما منع الناس من الإيمان والاستغفار إلا طلب إتيان سنة الأولين، أو انتظار إتيان سنة الأولين، وزاد الاستغفار في هذه السورة لأنه قد ذكر هنا ما فرط منهم من الذنوب التي من جملتها جدالهم بالباطل، وسنة الأولين هو أنهم إذا لم يؤمنوا عذبوا عذاب الاستئصال. قال الزجاج: سنتهم هو قولهم: "إن كان هذا هو الحق من عندك" الآية "أو يأتيهم العذاب" أي عذاب الآخرة "قبلاً" قال الفراء: إن قبلاً جمع قبيل: أي متفرقاً يتلو بعضه بعضاً، وقيل عياناً، وقيل فجأة. ويناسب ما قاله الفراء قراءة أبي جعفر وعاصم والأعمش وحمزة والكسائي ويحيى بن وثاب وخلف "قبلاً" بضمتين فإنه جمع قبيل، نحو سبيل وسبل، والمراد أصناف العذاب، ويناسب التفسير الثاني: أي عياناً، قراءة الباقين بكسر القاف وفتح الباء: أي مقابلة ومعاينة، وقرئ بفتحتين على معنى أو يأتيهم العذاب مستقبلاً، وانتصابه على الحال. فحاصل معنى الآية أنهم لا يؤمنون ولا يستغفرون إلا عند نزول عذاب الدنيا المستأصل لهم، أو عند إتيان أصناف عذاب الآخرة أو معاينته.

وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آَيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا

56- "وما نرسل المرسلين" من رسلنا إلى الأمم "إلا" حال كونهم "مبشرين" للمؤمنين "ومنذرين" للكافرين، فالاستثناء مفرغ من أعم العام، وقد تقدم تفسير هذا "ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق" أي ليزيلوا بالجدال بالباطل الحق ويبطلوه وأصل الدحض الزلق: يقال دحضت رجله: أي زلقت تدحض دحضاً، ودحضت الشمس عن كبد السماء زالت، ودحضت حجته دحوضاً بطلت، ومن ذلك قول طرفة: أبا منذر رمت الوفاء فهبته وحدت كما حاد البعير عن الدحض ومن مجادلة هؤلاء الكفار بالباطل قولهم للرسل " ما أنتم إلا بشر مثلنا " ونحو ذلك "واتخذوا آياتي" أي القرآن "وما أنذروا" به من الوعيد والتهديد " هزوا " أي لعباً وباطلاً، وقد تقدم هذا في البقرة.

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا

57- "ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها" أي لا أحد أظلم لنفسه ممن وعظ بآيات ربه التنزيلية أو التكوينية أو مجموعهما فتهاون بها وأعرض عن قبولها، ولم يتدبرها حق التدبر ويتفكر فيها حق التفكر "ونسي ما قدمت يداه" من الكفر والمعاصي، فلم يتب عنها. قيل والنسيان هنا بمعنى الترك، وقيل هو على حقيقته "إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه" أي أغطية: والأكنة جمع كنان، والجملة تعليل لإعراضهم ونسيانهم. قال الزجاج: أخبر الله سبحانه أن هؤلاء طبع على قلوبهم "وفي آذانهم وقراً" أي وجعلنا في آذانهم ثقلاً يمنع من استماعه، وقد تقدم تفسير هذا في الأنعام "وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذاً أبداً" لأن الله قد طبع على قلوبهم بسبب كفرهم ومعاصيهم.

وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا

58- "وربك الغفور ذو الرحمة" أي كثير المغفرة، وصاحب الرحمة التي وسعت كل شيء فلم يعاجلهم بالعقوبة، ولهذا قال "لو يؤاخذهم بما كسبوا" أي بسبب ما كسبوه من المعاصي التي من جملتها الكفر والمجادلة والإعراض "لعجل لهم العذاب" لاستحقاقهم لذلك "بل" جعل "لهم موعد" أي أجل مقدر لعذابهم، قيل هو عذاب الآخرة، وقيل يوم بدر "لن يجدوا من دونه موئلاً" أي ملجأ يلجأون إليه. وقال أبو عبيدة منجا، وقيل محيصاً، ومنه قول الشاعر: لا وألت نفسك خليتها للعامريين ولم تكلم وقال الأعشى: وقد أخالس رب البيت غفلته وقد يحاذر مني ثم ما يئل أي ما ينجو.

وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا

59- "وتلك القرى" أي قرى عاد وثمود وأمثالها "أهلكناهم" هذا خبر اسم الإشارة والقرى صفته، والكلام على حذف مضاف: أي أهل القرى أهلكناهم "لما ظلموا" أي وقت وقوع الظلم منهم بالكفر والمعاصي "وجعلنا لمهلكهم موعداً" أي وقتاً معيناً، وقرأ عاصم "مهلكهم" بفتح الميم واللام، وهو مصدر هلك، وأجاز الكسائي والفراء كسر اللام وفتح الميم، وبذلك قرأ حفص، وقرأ الجمهور بضم الميم وفتح اللام. وقال الزجاج مهلك: اسم للزمان، والتقدير: لوقت مهلكهم. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "إلا أن تأتيهم سنة الأولين" قال: عقوبة الأولين. وأخرج ابن أبي حاتم عن الأعمش في قوله: "قبلاً" قال: جهاراً. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال فجأة. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "ونسي ما قدمت يداه" قال: نسي ما سلف من الذنوب الكثيرة. وأخرج أيضاً عن ابن عباس "بما كسبوا" يقول: بما عملوا. وأخرج ابن حاتم عن السدي "بل لهم موعد" قال: الموعد يوم القيامة. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: "موئلاً" قال: ملجأ: وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد "موئلاً" قال: محرزاً.

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا

الظرف في قوله: 60- "وإذ قال" متعلق بفعل محذوف هو اذكر. قيل ووجه ذكر هذه القصة في هذه السورة، أن اليهود لما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن قصة أصحاب الكهف وقالوا: إن أخبركم فهو نبي وإلا فلا. ذكر الله قصة موسى والخضر تنبيهاً على أن النبي لا يلزمه أن يكون عالماً بجميع القصص والأخبار. وقد اتفق أهل العلم على أن موسى المذكور هو موسى بن عمران النبي المرسل إلى فرعون، وقالت فرقة لا التفات إلى ما تقوله منهم نوف البكالي: إنه ليس ابن عمران، وإنما هو موسى بن ميشي بن يوسف بن يعقوب، وكان نبياً قبل موسى بن عمران، وهذا باطل قد رده السلف الصالح من الصحابة ومن بعدهم كما في صحيح البخاري وغيره، والمراد بفتاه هنا هو يوشع بن نون. قال الواحدي: أجمعوا على أنه يوشع بن نون، وقد مضى ذكره في المائدة، وفي آخر سورة يوسف، ومن قال: إن موسى هو ابن ميشى قال: إن هذا الفتى لم يكن هو يوشع بن نون. قال الفراء: وإنما سمي فتى موسى لأنه كان ملازماً له يأخذ عنهم العلم ويخدمه، ومعنى "لا أبرح" لا أزال، ومنه قوله: "لن نبرح عليه عاكفين" ومنه قول الشاعر: وأبرح ما أدام الله قومي بحمد الله منتطقاً مجيداً وبرح إذا كان بمعنى زال فهو من الأفعال الناقصة، وخبره هنا محذوف اعتماداً على دلالة ما بعده وهو "حتى أبلغ مجمع البحرين" قال الزجاج: لا أبرح بمعنى لا أزال، وقد حذف الخبر لدلالة حال السفر عليه، ولأن قوله "حتى أبلغ" غاية مضروبة، فلا بد لها من ذي غاية، فالمعنى: لا أزال أسير إلى أن أبلغ، ويجوز أن يراد لا يبرح مسيري حتى أبلغ، وقيل معنى لا أبرح: لا أفارقك حتى أبلغ مجمع البحرين، وقيل يجوز أن يكون من برح التام، بمعنى زال يزال، ومجمع البحرين ملتقاهما. قيل المراد بالبحرين بحر فارس والروم، وقيل بحر الأردن وبحر القلزم، وقيل مجمع البحرين عند طنجة، وقيل بإفريقية. وقالت طائفة: المراد بالبحرين موسى والخضر، وهو من الضعف بمكان، وقد حكي عن ابن عباس ولا يصح "أو أمضي حقباً" أي أسير زماناً طويلاً. قال الجوهري: الحقب بالضم ثمانون سنة. وقال النحاس: الذي يعرفه أهل اللغة أن الحقب والحقبة زمان من الدهر مبهم غير محدود، كما أن رهطاً وقوماً منهم غير محدود، وجمعه أحقاب. وسبب هذه العزيمة على السير من موسى عليه السلام ما روي أنه سئل موسى من أعلم الناس؟ فقال أنا، فأوحى الله إليه: إن أعلم منك عبد لي عند مجمع البحرين.

فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا

61- "فلما بلغا" أي موسى وفتاه "مجمع بينهما" أي بين البحرين، وأضيف مجمع إلى الظرف توسعاً، وقيل البين: بمعنى الافتراق: أي البحران المفترقان يجتمعان هناك، وقيل الضمير لموسى والخضر: أي وصلا الموضع الذي فيه اجتماع شملهما، ويكون البين على هذا بمعنى الوصل، لأنه من الأضداد، والأول أولى "نسيا حوتهما" قال المفسرون: إنهما تزودا حوتاً مملحاً في زنبيل، وكانا يصيبان منه عند حاجتهما إلى الطعام، وكان قد جعل الله فقدانه أمارة لهما على وجدان المطلوب. والمعنى أنهما نسيا بفقد أمره، وقيل الذي نسي إنما هو فتى موسى، لأنه وكل أمر الحوت إليه، وأمره أن يخبره إذا فقده، فلما انتهيا إلى ساحل البحر وضع فتاه المكتل الذي فيه الحوت فأحياه الله، فتحرك واضطرب في المكتل، ثم انسرب في البحر، ولهذا قال: "فاتخذ سبيله في البحر سرباً" انتصاب سرباً على أنه المفعول الثاني لاتخذ، أي اتخذ سبيلاً سرباً، والسرب النفق الذي يكون في الأرض للضب ونحوه من الحيوانات، وذلك أن الله سبحانه أمسك جرية الماء على الموضع الذي انسرب فيه الحوت فصار كالطاق فشبه مسلك الحوت في البحر مع بقائه وانجياب الماء عنه بالسرب الذي هو الكوة المحفورة في الأرض. قال الفراء: لما وقع في الماء جمد مذهبه في البحر فكان كالسرب، فلما جاوزا ذلك المكان الذي كانت عنده الصخرة وذهب الحوت فيه انطلقا، فأصابهما ما يصيب المسافر من النصب والكلال، ولم يجدا النصب حتى جاوزا الموضع الذي فيه الخضر.

فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آَتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا

ولهذا قال سبحانه: 62- "فلما جاوزا" أي مجمع البحرين الذي جعل موعداً للملاقاة "قال لفتاه آتنا غداءنا" وهو ما يؤكل بالغداة، وأراد موسى أن يأتيه بالحوت الذي حملاه معهما "لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً" أي تعباً وإعياءً، قال المفسرون: الإشارة بقوله "سفرنا هذا" إلى السفر الكائن منهما بعد مجاوزة المكان المذكور، فإنهما لم يجدا النصب إلا في ذلك دون ما قبله.

قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا

63- "قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة" أي قال فتى موسى لموسى، ومعنى الاستفهام تعجيبه لموسى مما وقع له من النسيان هناك مع كون ذلك الأمر مما لا ينسى، لأنه قد شاهد أمراً عظيماً من قدرة الله الباهرة، ومفعول "أرأيت" محذوف لدلالة ما ذكره من النسيان عليه، والتقدير: أرأيت ما دهاني، أو نابني في ذلك الوقت والمكان. وتلك الصخرة كانت عند مجمع البحرين الذي هو الموعد، وإنما ذكرها دون أن يذكر مجمع البحرين لكونها متضمنة لزيادة تعيين المكان، لاحتمال أن يكون المجمع مكاناً متسعاً يتناول مكان الصخرة وغيره، وأوقع النسيان على الحوت دون الغداء الذي تقدم ذكره لبيان أن ذلك الغداء المطلوب هو ذلك الحوت الذي جعلاه زاداً لهما، وأمارة لوجدان مطلوبهما. ثم ذكر ما يجري مجرى السبب في وقوع ذلك النسيان فقال: "وما أنسانيه إلا الشيطان" بما يقع منه من الوسوسة، و "أن أذكره" بدل اشتمال من الضمير في "أنسانيه"، وفي مصحف عبد الله: وما أنسانيه أن أذكره إلا الشيطان "واتخذ سبيله في البحر عجباً" انتصاب عجباً على أنه المفعول الثاني كما مر في سرباً، والظرف في محل نصب على الحال، يحتمل أن يكون هذا من كلام يوشع، أخبر موسى أن الحوت اتخذ سبيله عجباً للناس، وموضع التعجب أن يحيا حوت قد مات وأكل شقه، ثم يثب إلى البحر ويبقى أثر جريته في الماء لا يمحو أثرها جريان ماء البحر، ويحتمل أن يكون من كلام الله سبحانه لبيان طرف آخر من أمر الحوت، فيكون ما بين الكلامين اعتراضاً.

قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آَثَارِهِمَا قَصَصًا

64- " قال ذلك ما كنا نبغ " أي قال موسى لفتاه ذلك الذي ذكرت من فقد الحوت في ذلك الموضع هو الذي كنا نطلبه، فإن الرجل الذي نريده هو هنالك "فارتدا على آثارهما قصصاً" أي رجعا على الطريق التي جاءا منها يقصان أثرهما لئلا يخطئا طريقهما، وانتصاب قصصاً على أنه مصدر لفعل محذوف، أو على الحال: أي قاصين أو مقتصين، والقصص في اللغة اتباع الأثر.

فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا

65- "فوجدا عبداً من عبادنا" هو الخضر في قول جمهور المفسرين، وعلى ذلك دلت الأحاديث الصحيحة، وخالف في ذلك من لا يعتد بقوله، فقال ليس هو الخضر بل عالم آخر، قيل سمي الخضر لأنه كان إذا صلى اخضر ما حوله، قيل واسمه بليا بن ملكان، ثم وصفه الله سبحانه فقال: "آتيناه رحمة من عندنا" قيل الرحمة هي النبوة، وقيل النعمة التي أنعم الله بها عليه "وعلمناه من لدنا علماً" وهو ما علمه الله سبحانه من علم الغيب الذي استأثر به، وفي قوله من لدنا تفخيم لشأن ذلك العلم، والرحلة في ذلك ما يدل على أنه لا ينبغي لأحد أن يترك طلب العلم وإن كان قد بلغ نهايته، وأن يتواضع لمن هو أعلم منه.

قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا

ثم قص الله سبحانه علينا ما دار بين موسى والخضر بعد اجتماعهما فقال: 66- " قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا " في هذا السؤال ملاطفة ومبالغة في حسن الأدب، لأنه استأذنه أن يكون تابعاً له على أن يعلمه مما علمه الله من العلم. والرشد الوقوف على الخير وإصابة الصواب، وانتصابه على أنه مفعول ثان لتعلمني: أي علماً ذا رشد أرشد به، وقرئ رشداً بفتحتين، وهما لغتان كالبخل والبخل. وفي الآية دليل على أن المتعلم تبع للعالم وإن تفاوت المراتب. وليس في ذلك ما يدل على أن الخضر أفضل من موسى، فقد يأخذ الفاضل عن الفاضل وقد يأخذ الفاضل عن المفضول إذا اختص أحدهما بعلم لا يعلمه الآخر. فقد كان علم موسى علم الأحكام الشرعية والقضاء بظاهرها، وكان علم الخضر علم بعض الغيب ومعرفة البواطن.

قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا

67- "قال إنك لن تستطيع معي صبراً" أي قال الخضر لموسى: إنك لا تطيق أن تصبر على ما تراه من علمي، لأن الظواهر التي هي علمك لا توافق ذلك.

وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا

ثم أكد ذلك مشيراً إلى علة عدم الاستطاعة، فقال: 68- "وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً" أي كيف تصبر على علم ظاهره منكر، وأنت لا تعلم، ومثلك مع كونك صاحب شرع لا يسوغ له السكوت على منكر والإقرار عليه، وخبراً منتصب على التمييز: أي لم تحط به خبرك: والخبر العلم بالشيء، والخبير بالأمور هو العالم بخفاياها، وبما يحتاج إلى الاختبار منها.

قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا

69- "قال ستجدني إن شاء الله صابراً" أي قال موسى للخضر: ستجدني صابراً معك، ملتزماً طاعتك "ولا أعصي لك أمراً" فجملة ولا أعصي معطوفة على صابراً، فيكون التقييد بقوله: إن شاء الله شاملاً للصبر ونفي المعصية، وقيل إن التقييد بالمشيئة مختص بالصبر، لأنه أمر مستقبل لا يدري كيف يكون حاله فيه، ونفي المعصية معزوم عليه في الحال، ويجاب عنه بأن الصبر، ونفي المعصية متفقان في كون كل واحد منهما معزوم عليه في الحال، ويجاب عنه بأن الصبر، ونفي المعصية متفقان في كون كل واحد منهما معزوم عليه في الحال، وفي كون كل واحد منهما لا يدري كيف حاله فيه في المستقبل.

قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا

قال: 70- "فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء" مما تشاهده من أفعالي المخالفة لما يقتضيه ظاهر الشرع الذي بعثك الله به "حتى أحدث لك منه ذكراً" أي حتى أكون أنا المبتدئ لك بذكره، وبيان وجهه وما يؤول إليه، وهذه الجمل المعنونة بقال وقال مستأنفة، لأنها جوابات عن سؤالات مقدرة كل واحدة ينشأ السؤال عنها مما قبلها. وقد أخرج الدارقطني في الإفراد وابن عساكر من طريق مقاتل بن سليمان عن الضحاك عن ابن عباس قال: الخضر ابن آدم لصلبه ونسئ له في أجله حتى يكذب الدجال. وأخرج البخاري وغيره عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما سمي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء، فإذا هي تهتز من خلفه خضراء". وأخرجه ابن عساكر من حديث ابن عباس. وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن عساكر عن مجاهد إنما سمي الخضر لأنه إذا صلى اخضر ما حوله. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله: "لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين" قال: حتى أنتهي. وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "مجمع البحرين". قال: بحر فارس والروم، وهما نحو المشرق والمغرب. وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس مثله. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي بن كعب قال: "مجمع البحرين" إفريقية. وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب قال طنجة. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "أو أمضي حقباً" قال: سبعين خريفاً. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه قال: دهراً. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: "نسيا حوتهما" قال: كان مملوحاً مشقوق البطن. وأخرج ابن المنذر عنه في قوله: "فاتخذ سبيله في البحر سرباً" قال: أثره يابس في البحر كأنه في حجر. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "فارتدا على آثارهما قصصاً" قال: عودهما على بدئهما. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "آتيناه رحمة من عندنا" قال: أعطيناه الهدى والنبوة. واعلم أنها قد رويت في قصة الخضر مع موسى المذكورة في الكتاب العزيز أحاديث كثيرة، وأتمها وأكملها ما روي عن ابن عباس ولكنها اختلفت في بعض الألفاظ، وكلها مروية من طريق سعيد بن جبير عنه، وبعضها في الصحيحين وغيرهما، وبعضها في أحدهما، وبعضها خارج عنهما. وقد رويت من طريق العوفي عنه كما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم، ومن طريق هارون بن عنترة عن أبيه عنه عند ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والخطيب وابن عساكر، فلنقتصر على الرواية التي هي أتم الروايات الثابتة في الصحيحين، ففي ذلك ما يغني عن غيره، وهي: قال سعيد بن جبير: قلت لابن عباس: إن نوفاً البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس موسى صاحب بني إسرائيل، قال ابن عباس: كذب عدو الله. حدثنا أبي بن كعب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن موسى قام خطيباً في بني إسرائيل، فسئل أي الناس أعلم؟ فقال أنا، فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه، فأوحى الله إليه إن لي عبداً بمجمع البحرين هو أعلم منك، قال موسى: يا رب فكيف لي به؟ قال: تأخذ معك حوتاً فتجعله في مكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ثم، فأخذ حوتاً فجعله في مكتل. ثم انطلق وانطلق معه فتاه يوشع بن نون حتى أتيا الصخرة وضعا رؤوسهما فناما، واضطرب الحوت في المكتل فخرج منه فسقط في البحر فاتخذ سبيله في البحر سرباً، وأمسك الله عن الحوت جرية الماء، فصار عليه مثل الطاق، فلما استيقظ نسي صاحبه أن يخبره بالحوت، فانطلقا بقية يومهما وليلتهما، حتى إذا كانا من الغد قال موسى لفتاه "آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً" قال: ولم يجد موسى النصب حتى جاوز المكان الذي أمره الله به، فقال له فتاه "أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجباً" قال: فكان للحوت سرباً، ولموسى وفتاه عجباً، فقال موسى: " ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا "" قال سفيان: يزعم ناس أن تلك الصخرة عندها عين الحياة لا يصيب ماؤها ميتاً إلا عاش، قال: وكان الحوت قد أكل منه، فلما قطر عليه الماء عاش، قال: "فرجعا يقصان أثرهما حتى انتهيا إلى الصخرة، فإذا رجل مسجى بثوب فسلم عليه موسى، فقال الخضر: وأنى بأرضك السلام؟ قال أنا موسى قال موسى بني إسرائيل؟ قال نعم، قال أتيتك لتعلمني مما علمت رشداً، قال إنك لن تستطيع معي صبراً، يا موسى إني على علم من الله علمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علم من الله علمك الله لا أعلمه، قال موسى: ستجدني إن شاء الله صابراً ولا أعصي لك أمراً، فقال له الخضر "فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكراً" فانطلقا يمشيان على ساحل البحر فمرت بهما سفينة فكلموهم أن يحملوهم، فعرفوا الخضر فحملوه بغير نول، فلما ركبا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحاً من ألواح السفينة بالقدوم، فقال له موسى: قوم حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئاً إمراً؟ قال: ألم أقل أنك لن تستطيع معي صبراً، قال: لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسراً. قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فكانت الأولى من موسى نسياناً. قال: وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر في البحر نقرة، فقال له الخضر: ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور الذي وقع على حرف السفينة من هذا البحر. ثم خرجا من السفينة فبينما هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلاماً يلعب مع الغلمان فأخذ الخضر رأسه بيده فاقتلعه بيده فقتله، فقال موسى " أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا * قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا " قال: وهذه أشد من الأولى " قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا * فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه " قال مائل، فقال الخضر بيده هكذا فأقامه، فـ "قال" موسى قوم آتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيفونا " لو شئت لاتخذت عليه أجرا * قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وددنا أن موسى كان صبر حتى يقص الله علينا من خبرهما". قال سعيد بن جبير: وكان ابن عباس يقرأ وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً وكان يقرأ: وأما الغلام فكان كافراً وكان أبواه مؤمنين وبقية روايات سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أبي بن كعب هي موافقة لهذه الرواية في المعنى وإن تفاوتت الألفاظ في بعضها فلا فائدة في الإطالة بذكرها، وكذلك روايات غير سعيد عنه.

فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا

قوله: 71- "فانطلقا" أي موسى والخضر على ساحل البحر يطلبان السفينة، فمرت بهم سفينة فكلموهم أن يحملوهم فحملوهم "حتى إذا ركبا في السفينة خرقها" قيل قلع لوحاً من ألواحها، وقيل لوحين مما يلي الماء، وقيل خرق جدار السفينة ليعيبها ولا يتسارع الغرق إلى أهلها "قال" موسى: "أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئاً إمراً" أي لقد أتيت أمراً عظيماً، يقال أمر الأمر إذا كبر، والأمر الاسم منه. وقال أبو عبيدة: الأمر الداهية العظيمة وأنشد: قد لقي الأقران مني نكراً داهية دهيا وأمراً إمرا وقال القتيبي: الأمر العجب. وقال الأخفش: أمر أمره يأمر إذا اشتد، والاسم الأمر. قرأ حمزة والكسائي " لتغرق أهلها " بالياء التحتية المفتوحة، ورفع أهلها على أنه فاعل. وقرأ الباقون بالفوقية المضمومة ونصب أهلها على المفعولية.

قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا

72- "قال" أي الخضر "ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبراً" أذكره ما تقدم من قوله له سابقاً "إنك لن تستطيع معي صبراً".

قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا

فـ 73- "قال" له موسى "لا تؤاخذني بما نسيت" يحتمل أن تكون ما مصدرية، أي لا تؤاخذني بنسياني أو موصولة أي لا تؤاخذني بالذي نسيته، وهو قول الخضر "فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكراً" فالنسيان إما على حقيقته على تقدير أن موسى نسي ذلك، أو بمعنى الترك على تقدير أنه لم ينس ما قاله له، ولكنه ترك العمل به "ولا ترهقني من أمري عسراً" قال أبو زيد: أرهقته عسراً إذا كلفته ذلك: والمعنى عاملني باليسر لا بالعسر. وقرئ عسراً بضمتين.

فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا

74- "فانطلقا حتى إذا لقيا غلاماً فقتله" أي الخضر، ولفظ الغلام يتناول الشاب البالغ كما يتناول الصغير، قيل كان الغلام يلعب مع الصبيان فاقتلع الخضر رأسه "قال" موسى "أقتلت نفساً زكية بغير نفس" قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر وأويس بألف بعد الزاي وتخفيف الياء اسم فاعل. وقرأ الباقون بتشديد الياء من دون ألف، الزاكية: البريئة من الذنوب. قال أبو عمرو: الزاكية التي لم تذنب، والزكية التي أذنبت ثم تابت. وقال الكسائي: الزاكية والزكية لغتان. وقال الفراء: الزاكية والزكية مثل القاسية والقسية، ومعنى "بغير نفس" بغير قتل نفس محرمة حتى يكون قتل هذه قصاصاً "لقد جئت شيئاً نكراً" أي فظيعاً منكراً لا يعرف في الشرع. قيل معناه أنكر من الأمر الأول لكون القتل لا يمكن تداركه، بخلاف نزع اللوح من السفينة فإنه يمكن تداركه بإرجاعه، وقيل النكر أقل من الأمر، لأن قتل نفس واحدة أهون من إغراق أهل السفينة. قيل استبعد موسى أن يقتل نفساً بغير نفس، ولم يتأول للخضر بأنه يحل القتل بأسباب أخر.

قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا

75- "قال" الخضر "ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبراً" زاد هنا لفظ لك، لأن سبب العتاب أكثر، وموجبه أقوى، وقيل زاد لفظ لك لقصد التأكيد كما تقول لمن توبخه: لك أقول وإياك أعني.

قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا

76- "قال" موسى "إن سألتك عن شيء بعدها" أي بعد هذه المرة، أو بعد هذه النفس المقتولة "فلا تصاحبني" أي لا تجعلني صاحباً لك، نهاه عن مصاحبته مع حرصه على التعلم لظهور عذره، ولذا قال: "قد بلغت من لدني عذراً" يريد أنك قد أعذرت حيث خالفتك ثلاث مرات، وهذا كلام نادم شديد الندامة، اضطره الحال إلى الاعتراف وسلوك سبيل الإنصاف. قرأ الأعرج تصحبني بفتح التاء والباء وتشديد النون. وقرأ الجمهور "تصاحبني" وقرأ يعقوب " تصاحبني " بضم التاء وكسر الحاء ورواها سهل عن أبي عمرو. قال الكسائي: معناه لا تتركني أصحبك. وقرأ الجمهور "لدني" بضم الدال إلا أن نافعاً وعاصماً خففا النون، وشددها الباقون. وقرأ أبو بكر عن عاصم "لدني" بضم اللام وسكون الدال. قال ابن مجاهد: وهي غلط. قال أبو علي: هذا التغليظ لعله من جهة الرواية، فأما على قياس العربية فصحيحة. وقرأ الجمهور "عذراً" بسكون الذال. وقرأ عيسى بن عمر بضمر الذال. وحكى الداني أن أبياً روى عن النبي صلى الله عليه وسلم بكسر الراء وياء بعدها بإضافة العذر إلى نفسه.

فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا

77- " فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية " قيل هي أيلة وقيل أنطاكية، وقيل برقة، وقيل قرية من قرى أذربيجان، وقيل قرية من قرى الروم "استطعما أهلها" هذه الجملة في محل الجر على أنها صفة لقرية، ووضع الظاهر موضع المضمر لزيادة التأكيد، أو لكراهة اجتماع الضميرين في هذه الكلمة لما فيه من الكلفة، أو لزيادة التشنيع على أهل القرية بإظهارهم "فأبوا أن يضيفوهما" أي أبوا أن يعطوهما ما هو حق واجب عليهم من ضيافتهما، فمن استدل بهذه الآية على جواز السؤال وحل الكدية فقد أخطأ خطأً بيناً، ومن ذلك قول بعض الأدباء الذين يسألون الناس: فإن رددت فما في الرد منقصة علي قد رد موسى قبل والخضر وقد ثبت في السنة تحريم السؤال بما لا يمكن دفعه من الأحاديث الصحيحة الكثيرة "فوجدا فيها" أي في القرية "جداراً يريد أن ينقض" إسناد الإرادة إلى الجدار مجاز. قال الزجاج: الجدار لا يريد إرادة حقيقية إلا أن هيئة السقوط قد ظهرت فيه كما تظهر أفعال المريدين القاصدين فوصف بالإرادة، ومنه قول الراعي: في مهمه فلقت به هاماتها فلق الفؤوس إذا أردن نصولا ومعنى الانقضاض السقوط بسرعة، يقال انقض الحائط إذا وقع، وانقض الطائر إذا هوى من طيرانه فسقط على شيء، ومعنى فأقامه فسواه، لأنه وجده مائلاً فرده كما كان، وقيل نقضه وبناه، وقيل أقامه بعمود، وقد تقدم في الحديث الصحيح أنه مسحه بيده "قال" موسى "لو شئت لاتخذت عليه أجراً" أي على إقامته وإصلاحه، تحريضاً من موسى للخضر على أخذ الأجر. قال الفراء: معناه لو شئت لم تقمه حتى يقرونا فهو الأجر، قرأ أبو عمرو ويعقوب وابن كثير وابن محيصن واليزيدي والحسن "لاتخذت" يقال تخذ فلان يتخذ تخذاً مثل اتخذ. وقرأ الباقون "لاتخذت".

قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا

78- "قال" الخضر "هذا فراق بيني وبينك" على إضافة فراق إلى الظرف اتساعاً: أي هذا الكلام والإنكار منك على ترك الأجر هو المفرق بيننا. قال الزجاج: المعنى هذا فراق بيننا: أي هذا فراق اتصالنا، وكرر بين تأكيداً، ولما قال الخضر لموسى بهذا أخذ في بيان الوجه الذي فعل بسببه تلك الأفعال التي أنكرها موسى فقال: "سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبراً" والتأويل رجوع الشيء إلى مآله.

أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا

ثم شرع في البيان له فقال: 79- "أما السفينة" يعني التي خرقها "فكانت لمساكين" لضعفاء لا يقدرون على دفع من أراد ظلمهم "يعملون في البحر" ولم يكن لهم مال غير تلك السفينة يكرونها من الذين يركبون البحر ويأخذون الأجرة، وقد استدل الشافعي بهذه الآية على أن الفقير أسوأ حالاً من المسكين "فأردت أن أعيبها" أي أجعلها ذات عيب بنزع ما نزعته منها "وكان وراءهم ملك" قال المفسرون: يعني أمامهم، ووراء يكون بمعنى أمام، وقد مر الكلام على هذا في قوله: " من ورائه عذاب غليظ " وقيل أراد خلفهم، وكان طريقهم في الرجوع عليه، وما كان عندهم خبر بأنه "يأخذ كل سفينة غصباً" أي كل سفينة صالحة لا معيبة، وقد قرئ بزيادة صالحة روي ذلك عن أبي وابن عباس. وقرأ جماعة بتشديد السين من مساكين، واختلف في معناها، فقيل هم ملاحو السفينة، وذلك أن المساك هو الذي يمسك السفينة، والأظهر قراءة الجمهور بالتخفيف.

وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا

80- "وأما الغلام" يعني الذي قتله "فكان أبواه مؤمنين" أي ولم يكن هو كذلك "فخشينا أن يرهقهما" أي يرهق الغلام أبويه، يقال رهقه: أي غشيه، وأرهقه أغشاه. قال المفسرون: معناه خشينا أن يحملهما حبه على أن يتبعاه في دينه، وهو الكفر، و "طغياناً" مفعول يرهقهما و "كفراً" معطوف عليه، وقيل المعنى: فخشينا أن يرهق الوالدين طغياناً عليهما وكفراً لنعمتهما بعقوقه. قيل ويجوز أن يكون فخشينا من كلام الله، ويكون المعنى كرهنا كراهة من خشي سوء عاقبة أمره فغيره، وهذا ضعيف جداً، فالكلام كلام الخضر. وقد استشكل بعض أهل العلم قتل الخضر لهذا الغلام بهذه العلة، فقيل إنه كان بالغاً وقد استحق ذلك بكفره، وقيل كان يقطع الطريق فاستحق القتل لذلك، ويكون معنى فخشينا أن يرهقهما طغياناً وكفراً: أن الخضر خاف على الأبوين أن يذبا عنه ويتعصبا له فيقعا في المعصية، وقد يؤدي ذلك إلى الكفر والارتداد. والحاصل أنه لا إشكال في قتل الخضر له إذا كان بالغاً كافراً أو قاطعاً للطريق هذا فيما تقتضيه الشريعة الإسلامية، ويمكن أن يكون للخضر شريعة من عند الله سبحانه تسوغ له ذلك، وأما إذا كان الغلام صبياً غير بالغ، فقيل إن الخضر علم بإعلام الله له أنه لو صار بالغاً لكان كافراً يتسبب عن كفره إضلال أبويه وكفرهما، وهذا وإن كان ظاهر الشريعة الإسلامية يأباه، فإن قتل من لا ذنب له ولا قد جرى عليه قلم التكليف لخشية أن يقع منه بعد بلوغه ما يجوز به قتله لا يحل في الشريعة المحمدية، ولكنه حل في شريعة أخرى، فلا إشكال. وقد ذهب الجمهور إلى أن الخضر كان نبياً.

فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا

81- "فأردنا أن يبدلهما ربهما خيراً منه" قرأ الجمهور بفتح الباء الموحدة وتشديد الدال وقرأ عاصم وابن عامر وأبو جعفر ويعقوب بسكون الباء وتخفيف الدال، والمعنى: أردنا أن يزقهما الله بدل هذا الولد ولداً خيراً منه "زكاة" أي ديناً وصلاحاً وطهارة من الذنوب "وأقرب رحماً" قرأ ابن عباس وحمزة والكسائي وابن كثير وابن عامر "رحماً" بضم الحاء. وقرأ الباقون بسكونها، ومعنى الرحم الرحمة، يقال رحمه الله رحمة رحمى، والألف للتأنيث.

وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِ

82- "وأما الجدار" يعني الذي أصلحه "فكان لغلامين يتيمين في المدينة" هي القرية المذكورة سابقاً، وفيه جواز إطلاق اسم المدينة على القرية لغة "وكان تحته كنز لهما" قيل كان مالاً جسيماً كما يفيده اسم الكنز، إذ هو المال المجموع. قال الزجاج: المعروف في اللغة أن الكنز إذا أفرد: فمعناه المال المدفون، فإذا لم يكن مالاً قيل: كنز علم وكنز فهم، وقيل لوح من ذهب، وقيل صحف مكتوبة "وكان أبوهما صالحاً" فكان صلاحه مقتضياً لرعاية ولديه وحفظ مالهما، قيل هو الذي دفنه، وقيل هو الأب السابع من عند الدافن له، وقيل العاشر "فأراد ربك" أي مالكك ومدبر أمرك، وأضاف الرب إلى ضمير موسى تشريفاً له "أن يبلغا أشدهما" أي كمالهما وتمام نموهما "ويستخرجا كنزهما" من ذلك الموضع الذي عليه الجدار، ولو انقض لخرج الكنز من تحته "رحمة من ربك" لهما، وهو مصدر في موضع الحال: أي مرحومين من الله سبحانه "وما فعلته عن أمري" أي عن اجتهادي ورأيي، وهو تأكيد لما قبله، فقد علم بقوله فأراد ربك أنه لم يفعله الخضر عن أمر نفسه "ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبراً" أي ذلك المذكور من تلك البينات التي بينتها لك وأوضحت وجوهها تأويل ما ضاق صبرك عنه ولم تطق السكوت عليه، ومعنى التأويل هنا هو المآل الذي آلت إليه تلك الأمور، وهو اتضاح ما كان مشتبهاً على موسى وظهور وجهه، وحذف التاء من تسطع تخفيفاً. وقد أخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "لقد جئت شيئاً إمراً" يقول: نكراً. وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد نحوه. وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "إمراً" قال: عجباً. وأخرج ابن جرير عن أبي بن كعب في قوله: "لا تؤاخذني بما نسيت" قال: لم ينس، ولكنها من معاريض الكلام. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي العالية قال: كان الخضر عبداً لا تراه الأعين، إلا من أراد الله أن يريه إياه، فلم يره من القوم إلا موسى، ولو رأه القوم لحالوا بينه وبين خرق السفينة وبين قتل الغلام، وأقول: ينبغي أن ينظر من أين له هذا؟ فإن لم يكن مستنده إلا قوله: ولو رآه القوم إلخ، فليس ذلك بموجب لما ذكره، أما أولاً فإن من الجائز أن يفعل ذلك من غير أن يراه أهل السفينة وأهل الغلام، لا لكونه لا تراه الأعين، بل لكونه فعل ذلك من غير اطلاعهم. وأما ثانياً فيمكن أن أهل السفينة وأهل الغلام قد عرفوه وعرفوا أنه لا يفعل ذلك إلا بأمر من الله كما يفعل الأنبياء، فسلموا لأمر الله. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: " نفسا زكية " قال: مسلمة. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير، قال: لم تبلغ الخطايا. وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن الحسن نحوه. وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "شيئاً نكراً" قال: النكر أنكر من العجب. وأخرج أحمد عن عطاء قال: كتب نجدة الحروري إلى ابن عباس يسأله عن قتل الصبيان، فكتب إليه إن كنت الخضر تعرف الكافر من المؤمن فاقتلهم. وزاد ابن أبي شيبة من طريق أخرى عنه: ولكنك لا تعلم، قد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتلهم فاعتزلهم. وأخرج مسلم وأبو داود والترمذي وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند وابن مردويه عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافراً، ولو أدرك لأرهق أبويه طغياناً وكفراً". وأخرج أبو داود والترمذي وعبد الله بن أحمد والبزار وابن المنذر والطبراني وابن مردويه عن أبي أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ "من لدني عذراً" مثقلة. وأخرج ابن مردويه عن أبي أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ "أن يضيفوهما" مشددة. وأخرج ابن الأنباري في المصاحف وابن مردويه عن أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قرأ "فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقض" فهدمه، ثم قعد يبنيه. قلت: ورواية الصحيحين التي قدمناها أنه مسحه بيده أولى. وأخرج الفريابي في معجمه وابن حبان والحاكم وصححه وابن مردويه عن أبي أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ: " لو شئت لاتخذت عليه أجرا " مخففة. وأخرج ابن أبي شيبة وأبو داود والترمذي والنسائي والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن عباس عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رحمة الله علينا وعلى موسى، لو صبر لقص الله علينا من خبره"، ولكن قال: "إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني". وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ: "وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصباً". وأخرج ابن الأنباري عن أبي بن كعب أنه قرأها كذلك. وأخرج أبو عبيد وابن المنذر عن أبي الزاهرية قال: كتب عثمان " وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا ". وأخرج أبو عبيد وسعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري عن ابن عباس أنه كان يقرأ وأما الغلام فكان كافراً وكان أبواه مؤمنين. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة قال هي في مصحف عبد الله فخاف ربك أن يرهقهما طغياناً وكفراً. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "خيراً منه زكاة" قال: ديناً "وأقرب رحماً" قال: مودة، فأبدلا جارية ولدت نبياً. وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "وكان تحته كنز لهما" قال: كان الكنز لمن قبلنا وحرم علينا، وحرمت الغنيمة على من كان قبلنا وأحلت لنا، فلا يعجبن الرجل، فيقول فما شأن الكنز، أحل لمن قبلنا وحرم علينا؟ فإن الله يحل من أمره ما يشاء ويحرم ما يشاء، وهي السنن والفرائض، يحل لأمة ويحرم على أخرى. وأخرج البخاري في تاريخه والترمذي وحسنه والبزار وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "وكان تحته كنز لهما" قال: ذهب وفضة. وأخرج الطبراني عن أبي الدرداء في قوله: "وكان تحته كنز لهما" قال: أحلت لهم الكنوز وحرمت عليهم الغنائم، وأحلت لنا الغنائم وحرمت علينا الكنوز. وأخرج البزار وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي ذر رفعه قال: إن الكنز الذي ذكره الله في كتابه لوح من ذهب مصمت فيه: عجبت لمن أيقن بالقدر ثم نصب، وعجبت لمن ذكر النار ثم ضحك، وعجبت لمن ذكر الموت ثم غفل، لا إله إلا الله محمد رسول الله، وفي نحو هذا روايات كثيرة لا تتعلق بذكرها فائدة. وأخرج ابن المبارك وسعيد بن منصور وأحمد في الزهد والحميد في مسنده وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله: "وكان أبوهما صالحاً" قال: حفظا بصلاح أبيهما. وأخرج ابن مردويه عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله عز وجل يصلح بصلاح الرجل الصالح ولده وولد ولده وأهل دويرته وأهل دويرات حوله، فما يزالون في حفظ الله تعالى ما دام فيهم". وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: إن الله يصلح بصلاح الرجل ولده وولد ولده ويحفظه في دويرته، والدويرات حوله، فما يزالون في ستر من الله وعافية. وأخرج ابن جرير من طريق الحسن بن عمارة عن أبيه قال: قيل لابن عباس: لم نسمع لفتى موسى بذكر وقد كان معه؟ فقال ابن عباس: قال فيما يذكر من حديث الفتى إنه شرب من الماء فخلد، فأخذه العالم فطابق به سفينة ثم أرسله في البحر، فإنها لتموج به إلى يوم القيامة، وذلك أنه لم يكن له أن يشرب منه. قال ابن كثير: إسناده ضعيف، الحسن متروك وأبوه غير معروف.

وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا

لما أجاب سبحانه عن سؤالين من سؤالات اليهود، وانتهى الكلام إلى حيث انتهى شرع سبحانه في السؤال الثالث والجواب عنه، فالمراد بالسائلين هنا هم اليهود. واختلفوا في ذي القرنين اختلافاً كثيراً، فقيل هو الاسكندر بن فيلقوس الذي ملك الدنيا بأسرها اليوناني باني الإسكندرية. وقال ابن إسحاق: هو رجل من أهل مصر، اسمه مرزبان بن مرزبة اليوناني، من ولد يونان بن يافث بن نوح. وقيل هو ملك اسمه هرمس، وقيل ملك اسمه هرديس، وقيل شاب من الروم، وقيل كان نبياً، وقيل كان عبداً صالحاً، وقيل اسمه عبد الله بن الضحاك، وقيل مصعب بن عبد الله، من أولاد كهلان بن سبأ. وحكى القرطبي عن السهيلي أنه قال: إن الظاهر من علم الأخبار أنهما إثنان: أحدهما كان على عهد إبراهيم عليه السلام، والآخر كان قريباً من عيسى عليه السلام. وقيل هو أبو كرب الحميري، وقيل هو ملك من الملائكة، ورجح الرازي القول الأول، قال: لأن من بلغ ملكه من السعة والقوة إلى الغاية التي نطق بها التنزيل إنما هو الإسكندر اليوناني كما تشهد به كتب التاريخ، قال: فوجب القطع بأن ذا القرنين هو الإسكندر، قال: وفيه إشكال لأنه كان تلميذاً لأرسطاطاليس الحكيم، وكان على مذهبه، فتعظيم الله إياه يوجب الحكم بأن مذهب أرسطاطاليس حق وصدق، وذلك مما لا سبيل إليه. قال النيسابوري: قلت ليس كل ما ذهب إليه الفلاسفة باطلاً فلعله أخذ منهم ما صفا وترك ما كدر والله أعلم. ورجح ابن كثير ما ذكره السهيلي أنهما إثنان كما قدمنا ذلك، وبين أن الأول طاف بالبيت مع إبراهيم أول ما بناه وآمن به واتبعه وكان وزيره الخضر. وأما الثاني فهو الإسكندر المقدوني اليوناني، وكان وزيره الفيلسوف المشهور أرسطاطاليس، وكان قبل المسيح بنحو من ثلثمائة سنة. فأما الأول المذكور في القرآن فكان في زمن الخليل، هذا معنى ما ذكره ابن كثير في تفسيره راوياً له عن الأزرقي وغيره، ثم قال: وقد ذكرنا طرفاً صالحاً في أخباره في كتاب البداية والنهاية بما فيه كفاية. وحكى أبو السعود في تفسيره عن ابن كثير أنه قال: وإنما بينا هذا: يعني أنهما إثنان، لأن كثيراً من الناس يعتقد أنهما واحد، وأن المذكور في القرآن العظيم هو هذا المتأخر، فيقع بذلك خطأ كبير وفساد كثير، كيف لا، والأول كان عبداً صالحاً مؤمناً، وملكاً عادلاً، ووزيره الخضر، وقد قيل إنه كان نبياً. وأما الثاني فقد كان كافراً، ووزيره أرسطاطاليس الفيلسوف، وكان ما بينهما من الزمان أكثر من ألفي سنة، فأين هذا من ذاك؟ انتهى. قلت: لعله ذكر هذا في الكتاب الذي ذكره سابقاً، وسماه بالبداية والنهاية ولم يقف عليه، والذي يستفاد من كتب التاريخ هو أنهما إثنان كما ذكره السهيلي والأزرقي وابن كثير وغيرهم لا كما ذكره الرازي وادعى أنه الذي تشهد به كتب التواريخ، وقد وقع الخلاف هل هو نبي أم لا؟ وسيأتي ما يستفاد منه المطلوب آخر هذا البحث إن شاء الله. وأما السبب الذي لأجله سمي ذا القرنين، فقال الزجاج والأزهري: إنما سمي ذا القرنين، لأنه بلغ قرن الشمس من مطلعها، وقرن الشمس من مغربها، وقيل إنه كان له ضفيرتان من شعر، والضفائر تسمى قروناً، ومنه قول الشاعر: فلثمت فاها آخذاً بقرونها شرب النزيف ببرد ماء الحشرج والحشرج ماء من مياه العرب، وقيل إنه رأى في أول ملكه كأنه قابض على قرني الشمس فسمي بذلك، وقيل كان له قرنان تحت عمامته، وقيل إنه دعا إلى الله فشجه قومه على قرنه، ثم دعا إلى الله فشجوه على قرنه الآخر، ويقل إنما سمي بذلك لأنه كريم الطرفين من أهل بيت شرف من قبل أبيه وأمه، وقيل لأنه انقرض في وقته قرنان من الناس وهو حي، وقيل لأنه كان إذا قاتل قاتل بيديه وركابيه جميعاً، وقيل لأنه أعطي علم الظاهر والباطن، وقيل لأنه دخل النور والظلمة، وقيل لأنه ملك فارس والروم، وقيل لأنه ملك الروم والترك، وقيل لأنه كان لتاجه قرنان. قوله: " قل سأتلو عليكم منه ذكرا " أي سأتلو عليكم أيها السائلون من ذي القرنين خبراً، وذلك بطريق الوحي المتلو.

إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآَتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا

ثم شرع سبحاغنه في بيان ما أمر به رسوله أن يقوله لهم من أنه سيتلو عليهم منه ذكراً فقال: 84- "إنا مكنا له في الأرض" أي أقدرناه بما مهدنا له من الأسباب، فجعلنا له مكنة وقدرة على التصرف فيها، وسهل عليه المسير في مواضعها، وذلل له طرقها حتى تمكن منها أين شاء وكيف شاء؟ ومن جملة تمكينه فيها أنه جعل له الليل والنهار سواء في الإضاءة "وآتيناه من كل شيء" مما يتعلق بمطلوبه "سبباً" أي طريقاً يتوصل بها إلى ما يريده.

فَأَتْبَعَ سَبَبًا

85- "فأتبع سبباً" من تلك الأسباب. قال المفسرون: والمعنى طريقاً تؤديه إلى مغرب الشمس. قال الزجاج: فأتبع سبباً من الأسباب التي أوتي، وذلك أنه أوتي من كل شيء سبباً فأتبع من تلك الأسباب التي أوتي سبباً في المسير إلى المغرب، وقيل أتبع من كل شيء علماً يتسبب به إلى ما يريد، وقيل بلاغاً إلى حيث أراد، وقيل من كل شيء يحتاج إليه الخلق، وقيل من كل شيء تستعين به الملوك من فتح المدائن وقهر الأعداء. وأصل السبب الحبل فاستعين لكل ما يتوصل به إلى شيء. قرأ ابن عامر وأهل الكوفة وعاصم وحمزة والكسائي "فأتبع" بقطع الهمزة، وقرأ أهل المدينة وأهل مكة وأبو عمرو بوصلها. قال الأخفش: تبعته وأتبعته بمعنى، مثل ردفته وأردفته، ومنه قوله: "فأتبعه شهاب ثاقب" قال النحاس: واختار أبو عبيدة قراءة أهل الكوفة، قال لأنها من السير. وحكى هو والأصمعي أنه يقال: تبعته وأتبعته إذا سار ولم يلحقه، وأتبعه إذا لحقه. قال أبو عبيدة: ومثله "فأتبعوهم مشرقين". قال النحاس: وهذا من الفرق وإن كان الأصمعي قد حكاه فلا يقبل إلا بعلم أو دليل، وقوله عز وجل: " فأتبعوهم مشرقين " ليس في الحديث أنهم لحقوهم، وإنما الحديث لما خرج موسى وأصحابه من البحر وحصل فرعون وأصحابه في البحر انطبق عليهم البحر. والحق في هذا أن تبع واتبع وأتبع لغات بمعنى واحد، وهو بمعنى السير.

حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا

86- "حتى إذا بلغ مغرب الشمس" أي نهاية الأرض من جهة المغرب، لأن من وراء هذه النهاية البحر المحيط، وهو لا يمكن المضي فيه "وجدها تغرب في عين حمئة" قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي "حامية": أي حارة. وقرأ الباقون "حمئة" أي كثيرة الحمأة، وهي الطينة السوداء، تقول: حمئت البئر حمأ بالتسكين إذا نزعت حمأتها، وحمأت البئر حمأتها بالتحريك كثرت حمأتها، ويجوز أن تكون حامية من الحمأة، فخففت الهمزة وقلبت ياء، وقد يجمع بين القراءتين فيقال كانت حارة وذات حمأة. قيل ولعل ذا القرنين لما بلغ ساحل البحر المحيط رآها كذلك في نظره، ولا يبعد أن يقال لا مانع من أن يمكنه الله من عبور البحر المحيط حتى يصل إلى تلك العين التي تغرب فيها الشمس، وما المانع من هذا بعد أن حكى الله عنه أنه بلغ مغرب الشمس، ومكن له في الأرض والبحر من جملتها، ومجرد الاستبعادلا يوجب حمل القرآن على خلاف ظاهره "ووجد عندها قوماً" الضمير في عندها إما للعين أو للشمس. قيل هم قوم لباسهم جلود الوحش، وكانوا كفاراً، فخيره الله بين أن يعذبهم وبين أن يتركهم، فقال: "إما أن تعذب، وإما أن تتخذ فيهم حسناً" أي إما أن تعذبهم بالقتل من أول الأمر، وإما أن تتخذ فيهم أمراً ذا حسن أو أمراً حسناً مبالغة بجعل المصدر صفة للأمر والمراد دعوتهم إلى الحق وتعليمهم الشرائع.

قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا

87- "قال" ذو القرنين مختاراً للدعوة التي هي الشق الأخير من الترديد "أما من ظلم" نفسه بالإصرار على الشرك ولم يقبل دعوتي "فسوف نعذبه" بالقتل في الدنيا "ثم يرد إلى ربه" في الآخرة "فيعذبه" فيها "عذاباً نكراً" أي منكراً فظيعاً. قال الزجاج: خيره الله بين الأمرين. قال النحاس: ورد علي بن سليمان قوله لأنه لم يصح أن ذا القرنين نبي فيخاطب بهذا، فكيف يقول لربه عز وجل "ثم يرد إلى ربه" وكيف يقول "فسوف نعذبه" فيخاطبه بالنون، قال: والتقدير قلنا يا محمد قالوا يا ذا القرنين. قال النحاس: وهذا الذي ذكره لا يلزم لجواز أن يكون الله عز وجل خاطبه على لسان نبي في وقته، وكأن ذا القرنين خاطب أولئك القوم فلا يلزم ما ذكره. ويمكن أن يكون مخاطباً للنبي الذي خاطبه الله على لسانه، أو خاطب قومه الذين وصل بهم إلى ذلك الموضع. قال ثعلب: إن في قوله: "إما أن تعذب وإما أن تتخذ" في موضع نصب، ولو رفعت لكان صواباً بمعنى فأما هو كقول الشاعر: فسيروا فإما حاجة تقضيانها وإما مقيل صالح وصديق

وَأَمَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا

88- "وأما من آمن" بالله وصدق دعوتي "وعمل" عملاً "صالحاً" مما يقتضيه الإيمان "فله جزاء الحسنى" قرأ أهل المدينة وأبو عمرو وعاصم وابن كثير وابن عامر "فله جزاء" بالرفع على الابتداء: أي جزاء الخصلة الحسنى عند الله، أو الفعلة الحسنى وهي الجنة قاله الفراء. وإضافة الجزاء إلى الحسنى التي هي الجنة كإضافة حق اليقين ودار الآخرة، ويجوز أن يكون هذا الجزاء من ذي القرنين: أي أعطيه وأتفضل عليه، وقرأ سائر الكوفيين "فله جزاءً الحسنى" بنصب جزاء وتنوينه. قال الفراء: انتصابه على التمييز. وقال الزجاج: هو مصدر في موضع الحال أي مجزياً بها جزاء، وقرأ ابن عباس ومسروق بنصب "جزاء" من غير تنوين. قال أبو حاتم: هي على حذف التنوين لالتقاء الساكنين. قال النحاس: وهذا عند غيره خطأ لأنه ليس موضع حذف تنوين لالتقاء الساكنين. وقرئ برفع "جزاء" منوناً على أنه مبتدأ، والحسنى بدل منه والخبر الجار والمجرور "وسنقول له من أمرنا يسراً" أي مما نأمر به قولاً ذا يسر ليس بالصعب الشاق، أو أطلق عليه المصدر مبالغة.

ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا

89- "ثم أتبع سبباً" أي طريقاً آخر غير الطريق الأولى وهي التي رجع بها من المغرب وسار فيها إلى المشرق.

حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا

90- "حتى إذا بلغ مطلع الشمس" أي الموضع الذي تطلع عليه الشمس أولاً من معمور الأرض، أو مكان طلوعها لعدم المانع شرعاً ولا عقلاً من وصوله إليه كما أوضحناه فيما سبق "وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها ستراً" يسترهم، لا من البيوت ولا من اللباس، بل هم حفاة عراة لا يأوون إلى شيء من العمارة. قيل لأنهم بأرض لا يمكن أن يستقر عليها البناء.

كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا

91- "كذلك وقد أحطنا بما لديه خبراً" أي كذلك أمر ذي القرنين أتبع هذه الأسباب حتى بلغ، وقد علمنا حين ملكناه ما عنده من الصلاحية لذلك الملك والاستقلال به، وقيل المعنى: لم نجعل لهم ستراً مثل ذلك الستر الذي جعلنا لكم من الأبنية والثياب، وقيل المعنى: كذلك بلغ مطلع الشمس مثل ما بلغ من مغربها، وقيل المعنى: كذلك تطلع على قوم مثل ذلك القبيل الذي تغرب عليهم، فقضى في هؤلاء كما قضى في أولئك من تعذيب الظالمين والإحسان إلى المؤمنين، ويكون تأويل الإحاطة بما لديه في هذه الوجوه على ما يناسب ذلك كما قلنا في الوجه الأول. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال: قالت اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم يا محمد إنك إنما تذكر إبراهيم وموسى وعيسى والنبيين، إنك سمعت ذكرهم منا، فأخبرنا عن نبي لم يذكره الله في التوراة إلا في مكان واحد، قال: ومن هو؟ قالوا ذو القرنين، قال: ما بلغني عنه شيء، فخرجوا فرحين قد غلبوا في أنفسهم، فلم يبلغوا باب البيت حتى نزل جبريل بهؤلاء الآيات "ويسألونك عن ذي القرنين". وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أدري أتبع كان نبياً أم لا؟ وما أدري أذو القرنين كان نبياً أم لا؟ وما أدري الحدود كفارات لأهلها أم لا؟". وأخرج ابن مردويه عن سالم بن أبي الجعد قال: سئل علي عن ذي القرنين أنبي هو؟ قال: سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: "هو عبد ناصح الله فنصحه". وأخرج ابن عبد الحكم في فتوح مصر وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري في المصاحف وابن أبي عاصم في السنة وابن مردويه من طريق أبي الطفيل أن ابن الكواء سأل علي بن أبي طالب عن ذي القرنين أنبياً كان أم ملكاً؟ قال: لم يكن نبياً ولا ملكاً. ولكن كان عبداً صالحاً أحب الله فأحبه الله، ونصح لله فنصحه الله، بعثه الله إلى قومه فضربوه على قرنه فمات، ثم أحياه الله لجهادهم. ثم بعثه الله إلى قومه فضربوه على قرنه الآخر فمات. فأحياه الله لجهادهم، فلذلك سمي ذا القرنين، وإن فيكم مثله. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عمرو قال: ذو القرنين نبي. وأخرج ابن أبي حاتم عن الأخرص بن حكيم عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن ذي القرنين فقال: هو ملك مسح الأرض بالأسباب. وأخرج ابن عبد الحكم في فتوح مصر وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن خالد بن معدان الكلاعي مرفوعاً مثله. وأخرج ابن عبد الحكم وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري في كتاب الأضداد وأبو الشيخ عن عمر بن الخطاب أنه سمع رجلاً ينادي بمنى يا ذا القرنين، فقال عمر: ها أنتم قد سمعتم بأسماء الأنبياء فما بالكم وأسماء الملائكة؟ وفي الباب غير ما ذكرناه مما يغني عنه ما قد أوردناه. وقد أخرج ابن عبد الحكم في فتوح مصر وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي في الدلائل عن عقبة بن عامر الجهني حديثاً يتضمن أن نفراً من اليهود سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذي القرنين، فأخبرهم بما جاءوا له ابتداء، وكان فيما أخبرهم به أنه كان شاباً من الروم، وأنه بنى الإسكندرية، وأنه علا به ملك في السماء، وذهب به إلى السد، وإسناده ضعيف، وفيه متنه نكارة، وأكثر ما فيه أنه من أخبار بني إسرائيل. ذكر معنى هذا ابن كثير في تفسيره وعزاه إلى ابن جرير والأموي في مغازيه، ثم قال بعد ذلك: والعجب أن أبا زرعة الداري مع جلالة قدره ساقه بتمامه في كتابه دلائل النبوة انتهى. وقد ساقه بتمامه السيوطي في الدر المنثور، وساق أيضاً خبراً طويلاً عن وهب بن منبه وعزاه إلى ابن إسحاق وابن المنذر وابن أبي حاتم والشيرازي في الألقاب وأبي الشيخ، وفيه أشياء منكرة جداً، وكذلك ذكر خبراً طويلاً عن محمد الباقر أخرجه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ، ولعل هذه الأخبار ونحوها منقولة عن أهل الكتاب، وقد أمرنا بأن لا نصدقهم ولا نكذبهم فيما ينقلونه إلينا. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وآتيناه من كل شيء سبباً" قال: علماً. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن أبي هلال أن معاوية بن أبي سفيان قال لكعب الأحبار: أنت تقول إن ذا القرنين كان يربط خيله بالثريا، قال له كعب: إن كنت قلت ذلك فإن الله قال: "وآتيناه من كل شيء سبباً". وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق عثمان بن أبي حاصر أن ابن عباس ذكر له أن معاوية بن أبي سفيان قرأ الآية التي في سورة الكهف تغرب في عين حامية قال ابن عباس: فقلت لمعاوية ما نقرأها إلا "حمئة" فسأل معاوية عبد بن عمرو كيف تقرؤها؟ فقال عبد الله: كما قرأتها، قال ابن عباس: فقلت لمعاوية: في بيتي نزل القرآن، فأرسل إلى كعب، فقال له: أين تجد الشمس تغرب في التوراة؟ فقال له كعب: سل أهل العربية فإنهم أعلم بها، وأما أنا فإني أجد في التوراة في ماء وطين، وأشار بيده إلى المغرب. قال ابن أبي حاصر: لو أني عندكما أيدتك بكلام تزداد به بصيرة في حمئة. قال ابن عباس: وما هو؟ قلت: فيما نأثر قول تبع فيما ذكر به ذا القرنين في كلفه بالعلم واتباعه إياه: قد كان ذو القرنين عمر مسلما ملكاً تذل له الملوك وتحشد فأتى المشارق والمغارب يبتغي أسباب ملك من حكيم مرشد فرأى مغيب الشمس عند غروبها في عين ذي خلب وثاط خرمد فقال ابن عباس: ما الخلب؟ قلت: الطين بكلامهم، قال: فما الثاط؟ قلت: الحمأة. قال: فما الخرمد؟ قلت: الأسود، فدعا ابن عباس غلاماً فقال: اكتب ما يقول هذا الرجل. وأخرج الترمذي وأبو داود الطيالسي وابن جرير وابن المنذر عن أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم "كان يقرأ في عين حمئة". وأخرج الطبراني والحاكم وابن مردويه عن ابن عباس مرفوعاً مثله.

ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا

ثم حكى سبحانه سفر ذي القرنين إلى ناحية أخرى، وهي ناحية القطر الشمالي بعد تهيئة أسبابه فقال: 92- "ثم أتبع سبباً" أي طريقاً ثالثاً معترضاً بين المشرق والمغرب.

حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا

93- "حتى إذا بلغ بين السدين" قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص وابن محيصن ويحيى اليزيدي وأبو زيد عن المفضل بفتح السين. وقرأ الباقون بضمها. قال أبو عبيدة وابن الأنباري وأبو عمرو بن العلاء: السد إن كان بخلق الله سبحانه فهو بضم السين حتى يكون بمعنى مفعول: أي هو مما فعله الله وخلقه، وإن كان من عمل العباد فهو بالفتح حتى يكون حدثاً. وقال ابن الأعرابي: كل ما قابلك فسد ما وراءه فهو سد وسد نحو الضعف والضعف، والفقر والفقر، والسدان هما جبلان من قبل أرمينية وأذربيجان، وانتصاب بين على أنه مفعول به كما ارتفع بالفاعلية في قوله: "لقد تقطع بينكم". وقيل موضع بين السدين هو منقطع أرض الترك مما يلي المشرق لا جبلا أرمينية وأذربيجان، وحكى ابن جرير في تاريخه أن صاحب أذربيجان أيام فتحها وجه إنساناً من ناحية الجزر فشاهده، ووصف أنه بنيان رفيع وراء خندق وثيق منيع، و "وجد من دونهما" أي من ورائهما مجازاً عنهما، وقيل أمامهما "قوماً لا يكادون يفقهون قولاً" قرأ حمزة والكسائي "يفقهون" بضم الياء وكسر القاف من أفقه إذا أبان: أي لا يبينون لغيرهم كلاماً، وقرأ الباقون بفتح الياء والقاف: أي لا يفهمون كلام غيرهم، والقراءتان صحيحتان، ومعناهما لا يفهمون عن غيرهم ولا يفهمون غيرهم، لأنهم لا يعرفون غير لغة أنفسهم.

قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا

94- "قالوا" أي هؤلاء القوم الذين لا يفهمون قولاً، قيل إن فهم ذي القرنين لكلامهم من جملة الأسباب التي أعطاه الله، وقيل إنهم قالوا ذلك لترجمانهم، فقال لذي القرنين بما قالوا له: "يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض" يأجوج ومأجوج اسمان عجميان بدليل منع صرفهما، وبه قال الأكثر. وقيل مشتقان من أج الظليم في مشيه إذا هرول، وتأججت النار إذا تلهبت، قرأهما الجمهور بغير همز، وقرأ عاصم بالهمز. قال ابن الأنباري: وجه همزهما وإن لم يعرف له أصل أن العرب قد همزت حروفاً لا يعرف للهمز فيها أصل كقولهم: كبأث ورثأت واستشأت الريح. قال أبو علي: يجوز أن يكونا عربيين، فيمن همز فهو على وزن يفعول مثل يربوع، ومن لم يهمز أمكن أن يكون خفف الهمزة فقلبها ألفاً مثل راس. وأما مأجوج، فهو مفعول من أج، والكلمتان من أصل واحد في الاشتقاق. قال: وترك الصرف فيهما على تقدير كونهما عربيين للتأنيث والتعريف كأنه اسم للقبيلة. واختلف في نسبهم، فقيل هم من ولد يافث بن نوح، وقيل يأجوج من الترك ومأجوج من الجيل والديلم. وقال كعب الأحبار: احتلم آدم فاختلط ماؤه بالتراب فخلقوا من ذلك الماء. قال القرطبي: وهذا فيه نظر، لأن الأنبياء لا يحتلمون، وإنما هم من ولد يافث، كذلك قال مقاتل وغيره. وقد وقع الخلاف في صفتهم، فمن الناس من يصفهم بصغر الجثث وقصر القامة، ومنهم من يصفهم بكبر الجثث وطول القامة، ومنهم من يقول لهم مخالب كمخالب السباع، وإن منهم صنفاً يفترش إحدى أذنيه ويلتحف بالأخرى، ولأهل العلم من السلف ومن بعدهم أخبار مختلفة في صفاتهم وأفعالهم. واختلف في إفسادهم في الأرض، فقيل هو أكل بني آدم، وقيل هو الظلم والغشم والقتل وسائر وجوه الإفساد، وقيل كانوا يخرجون إلى أرض هؤلاء القوم الذين شكوهم إلى ذي القرنين في أيام الربيع فلا يدعون فيها شيئاً أخضر إلا أكلوه "فهل نجعل لك خرجاً" هذا الاستفهام من باب حسن الأدب مع ذي القرنين. وقرئ خراجاً. قال الأزهري: الخراج يقع على الضريبة ويقع على مال الفيء، ويقع على الجزية وعلى الغلة. والخراج أيضاً اسم لما يخرج من الفرائض في الأموال، والخرج المصدر. وقال قطرب: الخرج الجزية والخراج في الأرض، وقيل الخرج ما يخرجه كل أحد من ماله، والخراج ما يجيبه السلطان، وقيل هما بمعنى واحد "على أن تجعل بيننا وبينهم سداً" أي ردماً حاجزاً بيننا وبينهم. وقرئ سداً بفتح السين. قال الخليل وسيبويه: الضم هو الاسم، والفتح المصدر. وقال الكسائي: الفتح والضم لغتان بمعنى واحد، وقد سبق قريباً ما حكيناه عن أبي عمرو بن العلاء وأبي عبيدة وابن الأنباري من الفرق بينهما. وقال ابن أبي إسحاق: ما رأته عيناك فهو ساد بالضم، وما لا ترى فهو سد بالفتح، وقد قدمنا بيان من قرأ بالفتح وبالضم في السدين.

قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا

95- "قال ما مكني فيه ربي" أي قال لهم ذو القرنين: ما بسطه الله لي من القدرة والملك "خير" من خرجكم، ثم طلب منهم المعاونة له فقال: "فأعينوني بقوة" أي برجال منكم يعملون بأيديهم، أو أعينوني بآلات البناء، أو بمجموعهما. قال الزجاج: بعمل تعملونه معي. قرأ ابن كثير وحده " ما مكني " بنونين، وقرأ الباقون بنون واحدة " أجعل بينكم وبينهم ردما " هذا جواب الأمر، والردم: ما جعل بعضه على بعض حتى يتصل. قال الهروي: يقال ردمت الثلمة أردمها بالكسر ردماً: أي سددتها، والردم أيضاً الاسم، وهو السد، وقيل الردم أبلغ من السد، إذ السد كل ما يسد به، والردم: وضع الشيء على الشيء من حجارة أو تراب أو نحوهما حتى يقوم من ذلك حجاب منيع، ومنه ردم ثوبه: إذا رقعه برقاع متكاثفة بعضها فوق بعض، ومنه قول عنترة: هل غادر الشعراء من متردم أي من قول يركب بعضه على بعض.

آَتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آَتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا

96- "آتوني زبر الحديد" أي أعطوني وناولوني، وزبر الحديد جمع زبرة، وهي القطعة. قال الخليل: الزبرة من الحديد القطعة الضخمة. قال الفراء: معنى "آتوني زبر الحديد" إئتوني بها فلما ألقيت الياء زيدت ألفاً، وعلى هذا فانتصاب زبر بنزع الخافض "حتى إذا ساوى بين الصدفين" والصدفان: جانبا الجبل. قال الأزهري: يقال لجانبي الجبل صدفان إذا تحاذيا لتصادفهما: أي تلاقيهما، وكذا قال أبو عبيدة والهروي. قال الشاعر: كلا الصدفين ينفده سناها توقد مثل مصباح الظلام وقد يقال لكل بناء عظيم مرتفع صدف، قاله أبو عبيدة، قرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص الصدفين بفتح الصاد والدال. وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو ويعقوب واليزيدي وابن محيصن بضم الصاد والدال. وقرأ عاصم في رواية أبي بكر بضم الصاد وسكون الدال. وقرأ ابن الماجشون بفتح الصاد وضم الدال، واختار القراءة الأولى أبو عبيد لأنها أشهر اللغات، ومعنى الآية: أنهم أعطوه زبر الحديد، فجعل بيني بها بين الجبلين حتى ساواهما "قال انفخوا" أي قال للعملة انفخوا على هذه الزبر بالكيران "حتى إذا جعله ناراً" أي جعل ذلك المنفوخ فيه، وهو الزبر ناراً: أي كالنار في حرها وإسناد الجعل إلى ذي القرنين مجاز لكونه الآمر بالنفخ. قيل كان يأمر بوضع طاقة من الزبر والحجارة ثم يوقد عليها الحطب والفحم وبالمنافخ حتى تحمى، والحديد إذا أوقد عليه صار كالنار، ثم يؤتى بالنحاس المذاب فيفرغه على تلك الطاقة، وهو معنى قوله: "قال آتوني أفرغ عليه قطراً" قال أهل اللغة: القطر النحاس الذائب، والإفراغ: الصب، وكذا قال أكثر المفسرين. وقالت طائفة: القطر الحديد المذاب. وقالت فرقة أخرى منهم ابن الأنباري: هو الرصاص المذاب.

فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا

97- "فما اسطاعوا" أصله استطاعوا، فلما اجتمع المتقاربان، وهما التاء والطاء خففوا بالحذف. قال ابن السكيت: يقال ما أستطيع، وما أسطيع، وما أستيع. وبالتخفيف قرأ الجمهور، وقرأ حمزة وحده "فما اسطاعوا" بتشديد الطاء كأنه أراد استطاعوا فأدغم التاء في الطاء وهي قراءة ضعيفة الوجه، قال أبو علي الفارسي: هي غير جائزة. وقرأ الأعمش فما استطاعوا على الأصل، ومعنى "أن يظهروه" أن يعلوه: أي فما استطاع يأجوج ومأجوج أن يعلوا على ذلك الردم لارتفاعه وملاسته "وما استطاعوا له نقباً" يقال نقبت الحائط: إذا خرقت فيه خرقاً فخلص إلى ما وراءه. قال الزجاج: ما قدروا أن يعلوا عليه لارتفاعه وانملاسه، وما استطاعوا أن ينقبوه من أسفله لشدته وصلابته.

قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا

98- "قال هذا رحمة من ربي" أي قال ذو القرنين مشيراً إلى السد: هذا السد رحمة من ربي: أي أثر من آثار رحمته لهؤلاء المتجاوزين للسد ولمن خلفهم ممن يخشى عليهم معرتهم لو لم يكن ذلك السد، وقيل الإشارة إلى التمكين من بنائه "فإذا جاء وعد ربي" أي أجل ربي أن يخرجوا منه، وقيل هو مصدر بمعنى المفعول، وهو يوم القيامة "جعله دكاءً" أي مستوياً بالأرض ومنه قوله: "كلا إذا دكت الأرض دكاً". قال الترمذي: أي مستوياً، يقال ناقة دكاء: إذا ذهب سنامها. وقال القتيبي أي جعله مدكوكاً ملصقاً بالأرض. وقال الحليمي: قطعاً متكسراً. قال الشاعر: هل غير غار دك غاراً فانهدم قال الأزهري: دككته: أي دققته. ومن قرأ "دكاء" بالمد وهو عاصم وحمزة والكسائي أراد التشبيه بالناقة الدكاء، وهي التي لا سنام لها: أي مثل دكاء، لأن السد مذكر فلا يوصف بدكاء. وقرأ الباقون "دكاً" بالتنوين على أنه مصدر، ومعناه ما تقدم، ويجوز أن يكون مصدراً بمعنى الحال: أي مدكوكاً "وكان وعد ربي حقاً" أي وعده بالثواب والعقاب، أو الوعد المعهود حقاً ثابتاً لا يتخلف، وهذا آخر قول ذي القرنين. وقد أخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "حتى إذا بلغ بين السدين" قال: الجبلين أرمينية وأذربيجان. وأخرج أيضاً عن ابن جريج "لا يكادون يفقهون قولاً" قال: الترك. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن عباس قال: يأجوج ومأجوج شبر وشبران وأطولهم ثلاثة أشبار، وهم من ولد آدم. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر والطبراني وابن مردويه والبيهقي في البعث وابن عساكر عن ابن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن يأجوج ومأجوج من ولد آدم ولو أرسلوا لأفسدوا على الناس معايشهم، ولا يموت منهم رجل إلا ترك من ذريته ألفاً فصاعداً، وإن من ورائهم ثلاث أمم: تاويل، وتاريس، ومنسك". وأخرج النسائي من حديث عمرو بن أوس عن أبيه مرفوعاً "أنه لا يموت رجل منهم إلا ترك من ذريته ألفاً فصاعداً". وأخرج أحمد والترمذي وحسنه وابن ماجه وابن أبي حاتم وابن حبان والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في البعث عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض يحفرون السد كل يوم، حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم: ارجعوا فستفتحونه غداً، فيعودون إليه أشد ما كان، حتى إذا بلغت مدتهم وأراد الله أن يبعثهم على الناس حفروا، حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم: ارجعوا فستفتحونه غداً إن شاء الله، ويستثني فيعودون إليه وهو كهيئته حين تركوه، فيحفرونه ويخرجون على الناس فيستقون المياه، ويتحصن الناس منهم في حصونهم، فيرمون بسهامهم إلى السماء فترجع مخضبة بالدماء، فيقولون قهرنا من في الأرض وعلونا من في السماء قسراً وعلواً، فيبعث الله عليهم نغفاً في أفقائهم فيهلكون"، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فوالذي نفس محمد بيده إن دواب الأرض لتسمن وتبطر وتشكر شكرا من لحومهم" وقد ثبت في الصحيحين من حديث زينت بنت جحش قالت "استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم من نومه وهو محمر وجهه وهو يقول: لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وحلق، قلت: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث"، وأخرجا نحوه من حديث أبي هريرة مرفوعاً. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "فهل نجعل لك خرجاً" قال: أجراً عظيماً. وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله: "ردماً" قال: هو كأشد الحجاب. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: "زبر الحديد" قال: قطع الحديد. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه "بين الصدفين". قال: الجبلين. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: رؤوس الجبلين. وأخرج هؤلاء عن ابن عباس في قوله: "قطراً" قال النحاس: وأخرج عبد الرزاق وابن أبي حاتم عن قتادة " فما اسطاعوا أن يظهروه " قال: أن يرتقوه. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال: أن يعلوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "جعله دكاء" قال: لا أدري الجبلين يعني به أم بينهما.

وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا

قوله: 99- "وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض" هذا من كلام الله سبحانه بعد انقضاء كلام ذي القرنين، والضمير في بعضهم ليأجوج ومأجوج: أي تركنا بعض يأجوج ومأجوج يوم مجيء الوعد، أو يوم خروج يأجوج ومأجوج يموج في بعض آخر منهم، يقال ماج الناس: إذا دخل بعضهم في بعض حيارى كموج الماء. والمعنى أنهم يضطربون ويختلطون، وقيل الضمير في بعضهم للخلق، واليوم يوم القيامة: أي وجعلنا بعض الخلق من الجن والإنس يموج في بعض، وقيل المعنى: وتركنا يأجوج ومأجوج يوم كمال السد وتمام عمارته بعضهم يموج في بعض، وقيل المعنى: وتركنا يأجوج ومأجوج يوم كمال السد وتمام عمارته بعضهم يموج في بعض، وقد تقدم تفسير "ونفخ في الصور" في الأنعام، قيل هي النفخة الثانية بدليل قوله بعد "فجمعناهم جمعاً" فإن الفاء تشعر بذلك، ولم يذكر النفخة الأولى لأن المقصود هنا ذكر أحوال القيامة. والمعنى جمعنا الخلائق بعد تلاشي أبدانهم ومصيرها تراباً جمعاً تاماً على أكمل صفة وأبدع هيئة وأعجب أسلوب.

وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا

100- "وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضاً" المراد بالعرض هنا الإظهار: أي أظهرنا لهم جهنم حتى شاهدوها يوم جمعنا لهم، وفي ذلك وعيد للكفار عظيم لما يحصل معهم عند مشاهدتها من الفزع والروعة.

الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا

ثم وصف الكافرين المذكورين بقوله: 101- "الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري" أي كانت أعينهم في الدنيا في غطاء وهو ما غطى الشيء وستره من جميع الجوانب عن ذكري عن سبب ذكري وهو الآيات التي يشاهدها من له تفكر واعتبار فيذكر الله بالتوحيد والتمجيد، فأطلق المسبب على السبب، أو عن القرآن العظيم، وتأمل معانيه وتدبر فوائده. ثم لما وصفهم سبحانه بالعمي عن الدلائل التكوينية أو التنزيلية أو مجموعهما، أراد أن يصفهم بالصمم عن استماع الحق فقال: "وكانوا لا يستطيعون سمعاً" أي لا يقدرون على الاستماع لما فيه الحق من كلام الله وكلام رسوله، وهذا أبلغ مما لو قال وكانوا صماً، لأن الأصم قد يستطيع السمع إذا صيح به، وهؤلاء لا استطاعة لهم بالكلية، وفي ذكر غطاء الأعين وعدم استطاعة السماع تمثيل لتعاميهم عن المشاهدة بالأبصار وإعراضهم عن الأدلة السمعية.

أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا

102- "أفحسب الذين كفروا" الحسبان هنا بمعنى الظن، والاستفهام للتقريع والتوبيخ والفاء للعطف على مقدر كنظائره. والمعنى: أفظنوا أنهم ينتفعون بما عبدوه مع إعراضهم عن تدبر آيات الله وتمردهم عن قبول الحق، ومعنى "أن يتخذوا عبادي من دوني" أي يتخذوهم من دون الله، وهم الملائكة والمسيح والشياطين "أولياء" أي معبودين، قال الزجاج: المعنى أيحسبون أن ينفعهم ذلك، وقرئ "أفحسب" بسكون السين، ومعناه أكافيهم ومحسبهم أن يتخذوهم أولياء على أنه مبتدأ وخبر، يريد أن ذلك لا يكفيهم ولا ينفعهم عند الله كما حسبوا "إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلاً" أي هيأناها لهم نزلاً يتمتعون به عند ورودهم. قال الزجاج: النزل المأوى والمنزل، وقيل إنه الذي يعد للضيف، فيكون تهكماً بهم كقوله: "فبشرهم بعذاب أليم"، والمعنى: أن جهنم معدة لهم عندنا كما يعد النزل للضيف.

قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا

103- "قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً" انتصاب أعمالاً على التمييز، والجمع للدلالة على إرادة الأنواع منها.

الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا

ومحل الموصول وهو 104- "الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا" الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، كأنه قيل من هم؟ فقيل هم الذين ضل سعيهم، والمراد بضلال السعي بطلانه وضياعه، ويجوز أن يكون في محل نصب على الذم. ويكون الجواب "أولئك الذين كفروا بآيات ربهم" ويجوز أن يكون في محل جر على أنه نعت للأخسرين أو بدل منه، ويكون الجواب أيضاً هو أولئك وما بعده، وأول هذه الوجوه هو أولاها، وجملة "وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً" في محل نصب على الحال من فاعل ضل: أي والحال أنهم يظنون أنهم محسنون في ذلك منتفعون بآثاره.

أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا

وتكون جملة 105- "أولئك الذين كفروا بآيات ربهم" مستأنفة مسوقة لتكميل الخسران وبيان سببه. هذا على الوجه الأول الراجح لا على الوجوه الآخرة، فإنها هي الجواب كما قدمنا، ومعنى كفرهم بآيات ربهم: كفرهم بدلائل توحيده من الآيات التكوينية والتنزيلية، ومعنى كفرهم بلقائه كفرهم بالبعث وما بعده من أمور الآخرة، ثم رتب على ذلك كقوله: "فحبطت أعمالهم" أي التي عملوها مما يظنونه حسناً، وهو خسران وضلال، ثم حكم عليهم بقوله: "فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً" أي لا يكون لهم عندنا قدر ولا نعبأ بهم، وقيل لا يقام لهم ميزان توزن به أعمالهم، لأن ذلك إنما يكون لأهل الحسنات والسيئات من الموحدين، وهؤلاء لا حسنات لهم. قال ابن الأعرابي: العرب تقول ما لفلان عندنا وزن: أي قدره لخسته، ويوصف الرجل بأنه لا وزن له لخفته، وسرعة طيشه، وقلة تثبته. والمعنى على هذا أنهم لا يعتد بهم ولا يكون لهم عند الله قدر ولا منزلة، وقرأ مجاهد يقيم بالياء التحتية: أي فلا يقيم الله، وقرأ الباقون بالنون.

ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آَيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا

ثم بين سبحانه عاقبة هؤلاء وما يؤول إليه أمرهم فقال: 106- "ذلك" أي الذي ذكرناه من أنواع الوعيد جزاؤهم، ويكون قوله: جهنم عطف بيان للجزاء، أو جملة جزاؤهم جهنم مبتدأ وخبر والجملة خبر ذلك، والسبب في ذلك أنهم ضموا إلى الكفر اتخاذ آيات الله واتخاذ رسله هزواً، فالباء في "بما كفروا" للسببية، ومعنى كونهم هزواً أنهم مهزوء بهم. وقد اختلف السلف في تعيين هؤلاء الأخسرين أعمالاً، فقيل اليهود والنصارى، وقيل كفار مكة، وقيل الخوارج، وقيل الرهبان أصحاب الصوامع، والأولى حمل الآية على العموم لكل من اتصف بتلك الصفات المذكورة.

إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا

ثم ذكر سبحانه بعد هذا الوعيد لهؤلاء الكفار الوعد للمؤمين فقال: 107- "إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات" أي جمعوا بينهما حتى كانوا على ضد صفة من قبلهم "كانت لهم" قال ابن الأنباري: كانت فيما سبق من علم الله كانت لأهل طاعته "جنات الفردوس نزلاً" قال المبرد: الفردوس فيما سمعت من كلام العرب الشجر الملتف والأغلب عليه العنب. واختار الزجاج ما قاله مجاهد: إن الفردوس البستان باللغة الرومية، وقد تقدم بيان النزل، وانتصابه على أنه خبر كان. والمعنى: كانت لهم ثمار جنة الفردوس نزلاً معداً لهم مبالغة في إكرامهم.

خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا

وانتصاب 108- "خالدين فيها" على الحال، وكذلك جملة "لا يبغون عنها حولاً" في محل نصب على الحال، والحول مصدر: أي لا يطلبون تحولاً عنها إذ هي أعز من أن يطلبوا غيرها، أو تشتاق أنفسهم إلى سواها. قال ابن الأعرابي وابن قتيبة والأزهري: الحول اسم بمعنى التحول يقوم مقام المصدر، وقال أبو عبيدة والفراء: إن الحول التحويل. وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق هارون بن عنترة عن أبيه عن ابن عباس في قوله: "وتركنا بعضهم" الآية قال: الجن والإنس "يموج" بعضهم "في بعض". وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "لا يستطيعون سمعاً" قال: لا يعقلون سمعاً. وأخرج أبو عبيد وسعيد بن منصور وابن المنذر عن علي أنه قرأ "أفحسب الذين كفروا" قال أبو عبيدة بجزم السين وضم الباء. وأخرج أبو عبيد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة أنه قرأ كذلك. وأخرج عبد الرزاق والبخاري والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وابن مردويه من طريق مصعب بن سعد قال: سألت أبي "قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً" أهم الحرورية؟ قال: لا هم اليهود والنصارى، أما اليهود فكذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم، وأما النصارى فكفروا بالجنة وقالوا: لا طعام فيها ولا شراب، والحرورية "الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه"، وكان سعد يسميهم الفاسقين. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عن مصعب قال: قلت لأبي "قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً" الحرورية هم؟ قال: لا ولكنهم أصحاب الصوامع، والحرورية قوم زاغوا فأزاغ الله قلوبهم. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي حميصة عبد الله بن قيس قال: سمعت علي بن أبي طالب يقول: في هذه الآية "قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً" إنهم الرهبان الذين حبسوا أنفسهم في السواري. وأخرج ابن مردويه عن أبي الطفيل قال: سمعت علي ابن أبي طالب وسأله ابن الكوا فقال: "هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً" قال: فجرة قريش. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه من طريقين عن علي أنه سئل عن هذه الآية "قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً" قال: لا أظن إلا أن الخوارج منهم، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة، وقال اقرأوا إن شئتم "فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً"". وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وابن مردويه عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سلوا الله الفردوس، فإنها سرة الجنة، وإن أهل الفردوس يسمعون أطيط العرش". وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه وسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة". وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وأحمد والترمذي وابن جرير والحاكم والبيهقي وابن مردويه عن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن في الجنة مائة درجة، كل درجة منها ما بين السماء والأرض، والفردوس أعلاها درجة، ومن فوقها يكون العرش، ومنه تفجر أنهار الجنة الأربعة، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس"، والأحاديث بهذا المعنى كثيرة. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: الفردوس بستان بالرومية. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال: هو الكرم بالنبطية، وأخرج ابن أبي شيبة وهناد وابن المنذر عن عبد الله بن الحارث أن ابن عباس سأل كعباً عن الفردوس قال: هي جنات الأعناب بالسريانية. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "لا يبغون عنها حولاً" قال: متحولاً.

قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا

لما ذكر سبحانه أنواع الدلائل نبه على كمال القرآن فقال: 109- "قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي" قال ابن الأنباري: سمي المداد مداداً لإمداده الكاتب، وأصله من الزيادة ومجيء الشيء بعد الشيء، ويقال للزيت الذي يوقد به السراج مداد، والمراد بالبحر هنا الجنس. والمعنى: لو كتبت كلمات علم الله وحكمته، وفرض أن جنس البحر مداداً لها لنفد البحر قبل نفود الكلمات، ولو جئنا بمثل البحر مداداً لنفد أيضاً، وقيل في بيان المعنى لو كان البحر مداداً للقلم والقلم يكتب "لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي" وقوله: "ولو جئنا بمثله مدداً" كلام من جهته سبحانه غير داخل تحت قوله "قل لو كان" وفيه زيادة مبالغة وتأكيد، والواو لعطف ما بعده على جملة مقدرة مدلول عليها بما قبلها: أي لنفد البحر قبل أن تنفد كلماته لو لم يجيء بمثله مدداً ولو جئنا بمثله مدداً، والمدد الزيادة، وقيل عني سبحانه بالكلمات الكلام القديم الذي لا غاية له ولا منتهى، وهو وإن كان واحداً فيجوز أن يعبر عنه بلفظ الجمع لما فيه من الفوائد، وقد عبرت العرب عن الفرد بلفظ الجمع، قال الأعشى: ووجه نقي اللون صاف يزينه مع الجيد لبات لها ومعاصم فعبر باللبات عن اللبة. قال الجبائي: إن قوله: "قبل أن تنفد كلمات ربي" يدل على أن كلماته قد تنفد في الجملة، وما ثبت عدمه امتنع قدمه. وأجيب بأن المراد الألفاظ الدالة على متعلقات تلك الصفة الأزلية، وقيل في الجواب إن نفاد شيء قبل نفاد شيء آخر لا يدل على نفاد الشيء الآخر، ولا على عدم نفاده، فلا يستفاد من الآية إلا كثرة كلمات الله بحيث لا تضبطها عقول البشر، أما أنها متناهية، أو غير متناهية فلا دليل على ذلك في الآية. والحق أن كلمات الله تابعة لمعلوماته، وهي غير متناهية، فالكلمات غير متناهية. وقرأ مجاهد وابن محيصن وحميد ولو جئنا بمثله مداداً وهي كذلك في مصحف أبي، وقرأ الباقون "مدداً" وقرأ حمزة والكسائي قبل أن ينفد بالتحتية، وقرأ الباقون بالفوقية.

قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا

ثم أمر سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم أن يسلك مسلك التواضع، فقال: 110- "قل إنما أنا بشر مثلكم" أي إن حالي مقصور على البشرية لا يتخطاها إلى الملكية، ومن كان هكذا فهو لا يدعي الإحاطة بكلمات الله إلا أنه امتاز عنهم بالوحي إليه من الله سبحانه فقال: "يوحى إلي" وكفى بهذا الوصف فارقاً بينه وبين سائر أنواع البشر، ثم بين أن الذي أوحي إليه هو قوله: " أنما إلهكم إله واحد " لا شريك له في ألوهيته، وفي هذا إرشاد إلى التوحيد، ثم أمرهم بالعمل الصالح والتوحيد فقال: "فمن كان يرجو لقاء ربه" الرجاء توقع وصول الخير في المستقبل، والمعنى: من كان له هذا الرجاء الذي هو شأن المؤمنين "فليعمل عملاً صالحاً" وهو ما دل الشرع على أنه عمل خير يثاب عليه فاعله "ولا يشرك بعبادة ربه أحداً" من خلقه سواء كان صالحاً، أو طالحاً، حيواناً أو جماداً، قال الماوردي: قال جميع أهل التأويل في تفسير هذه الآية: إن المعنى لا يرائي بعمله أحداً. وأقول: إن دخول الشرك الجلي الذي كان يفعله المشركون تحت هذه الآية هو المقدم على دخول الشرك الخفي الذي هو الرياء، ولا مانع من دخول هذا الخفي تحتها، إنما المانع من كونه هو المراد بهذه الآية. وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "لكلمات ربي" يقول: علم ربي. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال: يقول ينفد ماء البحر قبل أن ينفد كلام الله وحكمته. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله: "فمن كان يرجو لقاء ربه" الآية قال: أنزلت في المشركين الذين عبدوا مع الله إلهاً غيره، وليست هذه في المؤمنين. وأخرج الحاكم وصححه والبيهقي عن ابن عباس قال: "قال رجل: يا نبي الله إني أقف المواقف أبتغي وجه الله، وأحب أن يرى موطني، فلم يرد عليه شيئاً حتى نزلت هذه الآية "ولا يشرك بعبادة ربه أحداً"". وأخرج ابن منده وأبو نعيم في الصحابة وابن عساكر من طريق السدي الصغير عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: كان جندب بن زهير إذا صلى أو صام أو تصدق فذكر بخير ارتاح له، فزاد في ذلك لقالة الناس فلا يريد به الله، فنزل في ذلك "فمن كان يرجو لقاء ربه" الآية. وأخرج ابن المنذر عن مجاهد قال: "قال رجل: يا رسول الله أعتق وأحب أن يرى، وأتصدق وأحب أن يرى، فنزلت "فمن كان يرجو لقاء ربه" الآية"، وهو مرسل. وأخرجه هناد في الزهد عنه أيضاً. وأخرج ابن سعد وأحمد والترمذي وابن ماجه والبيهقي في الشعب عن أبي سعيد بن أبي فضالة الأنصاري وكان من الصحابة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه، نادى مناد: من كان أشرك في عمل عمله لله أحداً فليطلب ثوابه من عند غير الله، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك". وأخرج الحاكم وصححه والبيهقي عن أبي هريرة أن رجلاً قال: "يا رسول الله الرجل يجاهد في سبيل الله وهو يبتغي عرضاً من الدنيا؟ فقال: لا أجر له، فأعظم الناس ذلك، فعاد الرجل فقال: لا أجر له". وأخرج ابن أبي الدنيا في الإخلاص وابن جرير في تهذيبه والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي عن شداد بن أوس قال: كنا نعد الرياء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الشرك الأصغر. وأخرج الطيالسي وأحمد وابن أبي الدنيا والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي عن شداد بن أوس أيضاً قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من صلى يرائي فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدق يرائي فقد أشرك، ثم قرأ "فمن كان يرجو لقاء ربه" الآية". وأخرج الطيالسي وأحمد وابن مردويه وأبو نعيم عن شداد أيضاً قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله يقول: أنا خير قسيم لمن أشرك بي، ومن أشرك بي شيئاً فإن عمله قليله وكثيره لشريكه الذي أشركه أنا عنه غني". وأخرج أحمد والحكيم الترمذي وابن جرير في تهذيبه والحاكم وصححه والبيهقي عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيخ الشرك الخفي، أن يقوم الرجل يصلي لمكان رجل". وأخرج أحمد وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي عن شداد بن أوس سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أتخوف على أمتي الشرك والشهوة الخفية، قلت: أتشرك أمتك من بعدك؟ قال: نعم، أما إنهم لا يعبدون شمساً ولا قمراً ولا حجراً ولا وثناً، ولكن يراءون الناس بأعمالهم، قلت: يا رسول الله ما الشهوة الخفية؟ قال: يصبح أحدهم صائماً فتعرض له شهوة من شهواته فيترك صومه ويواقع شهوته". وأخرج أحمد ومسلم وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه أنه قال: "أنا خير الشركاء، فمن عمل عملاً أشرك فيه غيري فأنا بريء منه، وهو للذي أشرك" وفي لفظ: "فمن أشرك بي أحداً فهو له كله". وفي الباب أحاديث كثيرة في التحذير من الرياء وأنه الشرك الأصغر، وأن الله لا يقبله، وقد استوفاها صاحب الدر المنثور في هذا الموضع فليرجع إليه، ولكنها لا تدل على أنه المراد بالآية، بل الشرك الجلي يدخل تحتها دخولاً أولياً، وعلى فرض أن سبب النزول هو الرياء كما يشير إلى ذلك ما قدمنا، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما هو مقرر في علم الأصول. وقد ورد في فضائل هذه الآية بخصوصها ما أخرجه الطبراني وابن مردويه عن أبي حكيم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو لم ينزل على أمتي إلا خاتمة سورة الكهف لكفتهم". وأخرج ابن راهويه والبزار والحاكم وصححه والشيرازي في الألقاب وابن مردويه عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ في ليلة "فمن كان يرجو لقاء ربه" الآية، كان له نور من عدن أبين إلى مكة حشوه الملائكة" قال ابن كثير بعد إخراجه: غريب جداً. وأخرج ابن الضريس عن أبي الدرداء قال: من حفظ خاتمة الكهف كان له نور يوم القيامة من لدن قرنه إلى قدمه. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن معاوية بن أبي سفيان أنه تلا هذه الآية "فمن كان يرجو لقاء ربه" وقال: إنها آخر آية نزلت من القرآن. قال ابن كثير: وهذا أثر مشكل، فإن هذه الآية هي آخر سورة الكهف، والكهف كلها مكية، ولعل معاوية أراد أنه لم ينزل بعدها ما ينسخها ولا يغير حكمها، بل هي مثبتة محكمة، فاشتبه ذلك على بعض الرواة فروي بالمعنى على ما فهمه.


1-الفاتحة 2-البقرة 3-آل-عمران 4-النساء 5-المائدة 6-الأنعام 7-الأعراف 8-الأنفال 9-التوبة 10-يونس 11-هود 12-يوسف 13-الرعد 14-إبراهيم 15-الحجر 16-النحل 17-الإسراء 18-الكهف 19-مريم 20-طه 21-الأنبياء 22-الحج 23-المؤمنون 24-النور 25-الفرقان 26-الشعراء 27-النمل 28-القصص 29-العنكبوت 30-الروم 31-لقمان 32-السجدة 33-الأحزاب 34-سبأ 35-فاطر 36-يس 37-الصافات 38-ص 39-الزمر 40-غافر 41-فصلت 42-الشورى 43-الزخرف 44-الدخان 45-الجاثية 46-الأحقاف 47-محمد 48-الفتح 49-الحجرات 50-ق 51-الذاريات 52-الطور 53-النجم 54-القمر 55-الرحمن 56-الواقعة 57-الحديد 58-المجادلة 59-الحشر 60-الممتحنة 61-الصف 62-الجمعة 63-المنافقون 64-التغابن 65-الطلاق 66-التحريم 67-الملك 68-القلم 69-الحاقة 70-المعارج 71-نوح 72-الجن 73-المزمل 74-المدثر 75-القيامة 76-الإنسان 77-المرسلات 78-النبأ 79-النازعات 80-عبس 81-التكوير 82-الانفطار 83-المطففين 84-الانشقاق 85-البروج 86-الطارق 87-الأعلى 88-الغاشية 89-الفجر 90-البلد 91-الشمس 92-الليل 93-الضحى 94-الشرح 95-التين 96-العلق 97-القدر 98-البينة 99-الزلزلة 100-العاديات 101-القارعة 102-التكاثر 103-العصر 104-الهمزة 105-الفيل 106-قريش 107-الماعون 108-الكوثر 109-الكافرون 110-النصر 111-المسد 112-الإخلاص 113-الفلق 114-الناس