islamkingdomfaceBook islamkingdomtwitter islamkingdominstagram islamkingdomyoutube islamkingdomnew

فتح القدير
18995

37-الصافات

وَالصَّافَّاتِ صَفًّا

هي مائة واثنتان وثمانون آية وهي مكية. قال القرطبي: في قول الجميع. وأخرج ابن الضريس وابن النحاس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: نزلت بمكة. وأخرج النسائي والبيهقي في سننه عن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بالتخفيف ويؤمنا بالصافات. قال ابن كثير: تفرد به النسائي. وأخرج ابن أبي داود في فضائل القرآن، وابن النجار في تاريخه من طريق نهشل بن سعد الورداني عن الضحاك عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ يس والصافات يوم الجمعة ثم سأل الله أعطاه سؤله". وأخرج أبو نعيم في الدلائل والسلفي في الطيوريات عن ابن عباس: "أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله ملوك حضر موت عند قدومهم عليه أن يقرأ عليهم شيئاً مما أنزل الله قرأ "الصافات صفا" حتى بلغ "رب المشارق والمغارب"" الحديث. قوله: 1- "والصافات صفاً" قرأ أبو عمرو وحمزة، وقيل حمزة فقط بإدغام التاء من الصافات في صاد صفاً، وإدغام التاء من الزاجرات في زاي زجراً، وإدغام التاء من التاليات في ذال ذكراً، وهذه القراءة قد أنكرها أحمد بن حنبل لما سمعها. قال النحاس: وهي بعيدة في العربية من ثلاث جهات: الجهة الأولى أن التاء ليست من مخرج الصاد ولا من مخرج الزاي ولا من مخرج الدال ولا من أخواتهن. الجهة الثانية أن التاء في كلمة وما بعدها في كلمة أخرى. الثالثة أنك إذا أدغمت جمعت بين ساكنين من كلمتين، وإنما يجوز الجمع بين ساكنين في مثل هذا إذا كانا في كلمة واحدة. وقال الواحدي: إدغام التاء في الصاد حسن لمقاربة الحرفين، ألا ترى أنهما من طرف اللسان. وقرأ الباقون بإظهار جميع ذلك، والواو للقسم، والمقسم به الملائكة: الصافات، والزاجرات، والتاليات والمراد بالصافات: التي تصف في السماء من الملائكة كصفوف الخلق في الدنيا، قاله ابن مسعود وابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة. وقيل إنها تصف أجنحتها في الهواء واقفة فيه حتى يأمرها الله بما يريد. وقال الحسن: صفا كصفوفهم عند ربهم في صلاتهم. وقيل المراد بالصافات هنا الطير كما في قوله: " أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ". والأول أولى، والصف: ترتيب الجمع على خط كالصف في الصلاة. والأول أولى، والصف: ترتيب الجمع على خط كالصف في الصلاة. وقيل الصافات جماعة الناس المؤمنين إذا قاموا صفاً في الصلاة أو في الجهاد، ذكره القشيري.

فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا

والمراد بـ 2- "الزاجرات" الفاعلات للزجر من الملائكة، إما لأنها تزجر السحاب كما قال السدي، وإما لأنها تزجر عن المعاصي بالمواعظ والنصائح. وقال قتادة: المراد بالزاجرات الزواجر من القرآن، وهي كل ما ينهى ويزجر عن القبيح. والأول أولى. وانتصاب صفا و"زجراً" على المصدرية لتأكيد ما قبلهما. وقيل المراد بالزاجرات العلماء، لأنهم الذين يزجرون أهل المعاصي والزجر في الأصل: الدفع بقوة، وهو هنا قوة التصويت، ومنه قول الشاعر: زجر أبي عروة السباع إذا أشفق أن يختلطن بالغنم ومنه زجرت الإبل والغنم: إذا أفزعتها بصوتك.

فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا

والمراد بـ 3- "التاليات ذكراً" الملائكة التي تتلو القرآن كما قال ابن مسعود وابن عباس والحسن ومجاهد وابن جبير والسدي. وقيل المراد جبريل وحده، فذكر بلفظ الجمع تعظيماً له مع أنه لا يخلو من أتباع له من الملائكة. وقال قتادة: المراد كل من تلا ذكر الله وكتبه. وقيل المراد آيات القرآن، ووصفها بالتلاوة وإن كانت متلوة كما في قوله: "إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل" وقيل لأن بعضهم يتلو بعضاً ويتبعه. وذكر الماوردي أن التاليات هم الأنبياء يتلون الذكر على أممهم، وانتصاب ذكراً على أنه مفعول به ويجوز أن يكون مصدراً كما قبله من قوله صفاً، وزجراً. قيل وهذه الفاء في قوله فالزاجرات، فالتاليات إما لترتيب الصفات أنفسها في الوجد أو لترتيب موصوفاتها في الفضل، وفي الكل نظر.

إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ

وقوله: 4- "إن إلهكم لواحد" جواب القسم: أي أقسم الله بهذه الأقسام إنه واحد ليس له شريك. وأجاز الكسائي فتح إن الواقعة في جواب القسم.

رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ

5- "رب السموات والأرض" يجوز أن يكون خبراً ثانياً، وأن يكون بدلاً من لواحد وأن يكون خبر مبتدأ محذوف. قال ابن الأنباري: الوقف على لواحد وقف حسن، ثم يبتدئ رب السموات والأرض على معنى هو رب السموات والأرض. قال النحاس: ويجوز أن يكون بدلاً من لواحد. والمعنى في الآية: أن وجود هذه المخلوقات على هذا الشكل البديع من أوضح الدلائل على وجود الصانع وقدرته، وأنه رب ذلك كله: أي خالقه ومالكه. والمراد بما بينهما: ما بين السموات والأرض من المخلوقات. والمراد بـ"المشارق" مشارق الشمس. قيل إن الله سبحانه خلق للشمس كل يوم مشرقاً ومغرباً بعدد أيام السنة، تطلع كل يوم من واحد منها وتغرب من واحد، كذا قال ابن الأنباري وابن عبد البر. وأما في قوله في سورة الرحمن "رب المشرقين ورب المغربين" فالمراد بالمشرقين: أقصى مطلع تطلع منه الشمس في الأيام الطوال، وأقصر يوم في الأيام القصار، وكذلك في المغربين. وأما ذكر المشرق والمغرب بالإفراد فالمراد به الجهة التي تشرق منها الشمس، والجهة التي تغرب منها، ولعله قد تقدم لنا في هذا كلام أوسع من هذا.

إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ

6- "إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب" المراد بالسماء الدنيا التي تلي الأرض، من الدنو وهو القرب، فهي أقرب السموات إلى الأرض. قرأ الجمهور "بزينة الكواكب" بإضافة زينة إلى الكواكب. والمعنى: زيناها بتزيين الكواكب: أي بحسنها. وقرأ مسروق والأعمش والنخعي وحمزة بتنوين زينة وخفض الكواكب على أنها بدل من الزينة على أن المراد بالزينة الاسم لا المصدر، والتقدير بعد طرح المبدل منه: إنا زينا السماء بالكواكب، فإن الكواكب في أنفسها زينة عظيمة، فإنها في أعين الناظرين لها كالجواهر المتلألئة. وقرأ عاصم في رواية أبي بكر عنه بتنوين زينة ونصب الكواكب على أن الزينة مصدر وفاعله محذوف، والتقدير: بأن الله زين الكواكب بكونها مضيئة حسنة في أنفسها، أو تكون الكواكب منصوبة بإضمار أعني، أو بدلاً من السماء بدل اشتمال، وانتصاب حفظاً على المصدرية بإضمار فعل: أي حفظناها حفظاً، أو على أنها مفعول لأجله: أي زيناها بالكواكب للحفظ، أو بالعكف على محل زينة كأنه قال: إنا خلقنا الكواكب زينة للسماء.

وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ

7- "حفظاً من كل شيطان مارد" أي متمرد خارج عن الطاعة يرمى بالكواكب، كقوله: "ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوماً للشياطين".

لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ

8- وجملة " لا يسمعون إلى الملإ الأعلى " مستأنفة لبيان حالهم بعد السماء منهم . وقال أبو حاتم : أي لئلا يسمعوا ، ثم حذف إن فرفع الفعل ، وكذا قال الكلبي ، والملأ الأعلى : أهل السماء الدنيا فما فوقها ، وسمي الكل منهم أعلى بإضافته إلى ملإ الأرض ، والضمير في يسمعون إلى الشياطين . وقيل إن جملة لا يسمعون صفة لكل شيطان ، وقيل جوابا عن سؤال مقدر كأنه قيل : فما كان حالهم بعد حفظ السماء عنهم ؟ فقال : " لا يسمعون إلى الملإ الأعلى " قرأ الجمهور يسمعون بسكون السين وتخفيف الميم . وقرأ حمزة و الكسائي و عاصم في رواية حفص عنه بتشديد الميم والسين ، والأصل يتسمعون فأدغم التاء في السين ، فالقراءة الأولى تدل على انتفاء سماعهم دون استماعهم ، والقراءة الثانية تدل على انتفائهما وفي معنى القراءة الأولى قوله تعالى :" إنهم عن السمع لمعزولون " قال مجاهد : كانوا يتسمعون ولكن لا يسمعون. واختار أبوعبيدة القراءة الثانية ، قال : لأن العرب لا تكاد تقول : سمعت إليه ، وتقول تسمعت إليه .

دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ

9- " ويقذفون من كل جانب * دحورا " أي يرمون من كل جانب من جوانب السماء بالشهب إذا أرادوا الصعود لاستراق السمع، وانتصاب دحوراً على أنه مفعول لأجله والدحور الطرد، تقول دحرته دحراً ودحوراً: طردته. قرأ الجمهور "دحوراً" بضم الدال، وقرأ علي والسلمي ويعقوب الحضرمي وابن أبي عبلة بفتحها. وروي عن أبي عمرو أنه قرأ يقذفون مبنياً للفاعل، وهي قراءة غير مطابقة لما هو المراد من النظم القرآني، وقيل إن انتصاب دحوراً على الحال: أي مدحورين، وقيل هو جمع داحر نحو قاعد وقعود فيكون حالاً أيضاً. وقيل إنه مصدر لمقدر: أي يدحرون دحوراً. وقال الفراء: إن المعنى يقذفون بما يدحرهم: أي بدحور، ثم حذفت الباء فانتصب بنزع الخافض. واختلف هل كان هذا الرمي لهم بالشهب قبل المبعث أو بعده، فقال بالأول طائفة، وبالآخر آخرون وقالت طائفة بالجمع بين القولين: إن الشياطين لم تكن ترمى قبل المبعث رمياً يقطعها عن السمع، ولكن كانت ترمى وقتاً لا ترمى وقتاً آخر وترمى من جانب ولا ترمى من جانب آخر، ثم بعد المبعث رميت في كل وقت ومن كل جانب حتى صارت لا تقدر على استراق شيء من السمع إلا من اختطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب، ومعنى "ولهم عذاب واصب" ولهم عذاب دائم لا ينقطع، والمراد به العذاب في الآخرة غير العذاب الذي لهم في الدنيا من الرمي بالشهب. وقال مقاتل: يعني دائماً إلى النفخة الأولى، والأول أولى. وقد ذهب جمهور المفسرين إلى أن الواصب الدائم. وقال السدي وأبو صالح والكلبي: هو الموجع الذي يصل وجعه إلى القلب، مأخوذ من الوصب وهو المرض، وقيل هو الشديد.

إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ

والاستثناء في قوله: 10- "إلا من خطف الخطفة" هو من قوله لا يسمعون أو من قوله ويقذفون. وقيل الاستثناء راجع إلى غير الوحي لقوله: "إنهم عن السمع لمعزولون" بل يخطف الواحد منهم خطفة مما يتفاوض فيه الملائكة ويدور بينهم مما سيكون في العالم قبل أن يعلمه أهل الأرض. والخطف الاختلاس مسارقة وأخذ الشيء بسرعة. قرأ الجمهور "خطف" بفتح الخاء وكسر الطاء مخففة، وقرأ قتادة والحسن بكسرهما وتشديد الطاء، وهي لغة تميم بن مر وبكر بن وائل. وقرأ عيسى بن عمر بفتح الخاء وكسر الطاء مشددة. وقرأ ابن عباس بكسرهما مع تخفيف الطاء، وقيل إن الاستثناء منقطع "فأتبعه شهاب ثاقب" أي لحقه وتبعه شهاب ثاقب: نجم مضيء فيحرقه، وربما لا يحرقه فيلقي إلى إخوانه ما خطفه، وليست الشهب التي يرجم بها هي من الكواكب الثواب بل من غير الثوابت، وأصل الثقوب الإضاءة. قال الكسائي: ثقبت النار تثقب ثقابة وثقوباً: إذا اتقدت، وهذه الآية هي كقوله: "إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين".

فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ

11- "فاستفتهم أهم أشد خلقاً أم من خلقنا" أي اسأل الكفار المنكرين للبعث أهم أشد خلقاً وأقوى أجساماً وأعظم أعضاء، أم من خلقنا من السموات والأرض والملائكة؟ قال الزجاج: المعنى فاسألهم سؤال تقرير أهم أشد خلقاً: أي أحكم صنعة أم من خلقنا قبلهم من الأمم السالفة؟ يريد أنهم ليسوا بأحكم خلقاً من غيرهم من الأمم وقد أهلكناهم بالتكذيب فما الذي يؤمنهم من العذاب؟ ثم ذكر خلق الإنسان فقال: "إنا خلقناهم من طين لازب" أي إنا خلقناهم في ضمن خلق أبيهم آدم من طين لازب: أي لاصق، يقال لزب يلزب لزوباً: إذا لصق. وقال قتادة وابن زيد: اللازب اللازق. وقال عكرمة: اللازب اللزج. وقال سعيد بن جبير: اللازب الجيد الذي يلصق باليد. وقال مجاهد: هو اللازم، والعرب تقول: طين لازب ولازم تبدل الباء من الميم، واللازم الثابت كما يقال: صار الشيء ضربة لازب، ومنه قول النابغة: لا تحسبون الخير لا شر بعده ولا تحسبون الشر ضربة لازب وحكى الفراء عن العرب: طين لاتب بمعنى لازم، واللاتب الثابت. قال الأصمعي واللاتب اللاصق مثل اللازب. والمعنى في الآية: أن هؤلاء كيف يستعبدون المعاد وهم مخلوقون من هذا الخلق الضعيف ولم ينكره من هو مخلوق خلقاً أقوى منهم وأعظم وأكمل وأتم. وقيل اللازب هو المنتن قاله مجاهد والضحاك. قرأ الجمهور "أم من خلقنا" بتشديد الميم وهي أم المتصلة، وقرأ الأعمش بالتخفيف، وهو استفهام ثان على قراءته. قيل وقد قرئ لازم ولاتب، ولا أدري من قرأ بذلك.

بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ

ثم أضرب سبحانه عن الكلام السابق فقال: 12- "بل عجبت" يا محمد من قدرة الله سبحانه: "ويسخرون" منك بسبب تعجبك، أو ويسخرون منك بما تقوله من إثبات المعاد. قرأ الجمهور بفتح التاء من "عجبت" على الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. وقرأ حمزة والكسائي بضمها، ورويت هذه القراءة عن علي وابن مسعود وابن عباس، واختارها أبو عبيد والفراء. قال الفراء: قرأها الناس بنصب التاء ورفعها، والرفع أحب إلي لأنها عن علي وعبد الله وابن عباس. قال: والعجب أن أسند إلي الله فليس معناه من الله كمعناه من العباد. قال الهروي: وقال بعض الأئمة: معنى قوله: "بل عجبت" بل جازيتهم على عجبهم، لأن الله أخبر عنهم في غير موضع بالتعجب من الخلق كما قال: "وعجبوا أن جاءهم منذر منهم" وقالوا: "إن هذا لشيء عجاب" "أكان للناس عجباً أن أوحينا إلى رجل منهم" وقال علي بن سليمان: معنى القراءتين واحد، والتقدير: قل يا محمد بل عجبت لأن النبي صلى الله عليه وسلم مخاطب بالقرآن. قال النحاس: وهذا قول حسن وإضمار القول كثير. وقيل إن معنى الإخبار من الله سبحانه عن نفسه بالعجب أنه ظهر من أمره وسخطه على من كفر به ما يقوم مقام العجب من المخلوقين. قال الهروي: ويقال معنى عجب ربكم: أي رضي ربكم وأثاب، فسماه عجباً، وليس بعجب في الحقيقة، فيكون معنى عجبت هنا عظم فعلهم عندي. وحكى النقاش أن معنى بل عجبت: بل أنكرت. قال الحسن بن الفضل: التعجب من الله إنكار الشيء وتعظيمه، وهو لغة العرب، وقيل معناه: أنه بلغ في كمال قدرته وكثرة مخلوقاته إلى حيث عجبت منها، وهؤلاء لجهلهم يسخرون منها، والواو في ويسخرون للحال: أي بل عجبت والحال أنهم يسخرون، ويجوز أن تكون للاستئناف.

وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ

13- "وإذا ذكروا لا يذكرون" أي وإذا وعظوا بموعظة من مواعظ الله أو مواعظ رسوله لا يذكرون: أي لا يتعظون بها ولا ينتفعون بما فيها. قال سعيد بن المسيب: أي إذا ذكر لهم ما حل بالمكذبين ممن كان قبلهم أعرضوا عنه ولم يتدبروا.

وَإِذَا رَأَوْا آَيَةً يَسْتَسْخِرُونَ

14- "وإذا رأوا آية" أي معجزة من معجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم "يستسخرون" أي يبالغون في السخرية. قال قتادة: يسخرون ويقولون إنها سخرية، يقال سخر واستسخر بمعنى، مثل قر واستقر، وعجب واستعجب. والأول أولى، لأن زيادة البناء تدل على زيادة المعنى. وقيل معنى يستسخرون: يستدعون السخرى من غيرهم. وقال مجاهد: يستهزئون.

وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ

15- "وقالوا إن هذا إلا سحر مبين" أي ما هذا الذي تأتينا به إلا سحر واضح ظاهر.

أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ

16- " أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما " الاستفهام للإنكار: أي أنبعث إذا متنا؟ فالعامل في إذا هو ما دل عليه " أإنا لمبعوثون " وهو أنبعث، لا نفس مبعوثون لتوسط ما يمنع من عمله فيه، وهذا الإنكار للبعث منهم هو السبب الذي لأجله كذبوا الرسل وما نزل عليهم واستهزأوا بما جاءوا به من المعجزات، وقد تقدم تفسير معنى هذه الآية في مواضع.

أَوَآَبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ

17- "أو آباؤنا الأولون" هو مبتدأ وخبره محذوف: أي أو آباؤنا الأولون مبعوثون، وقيل معطوف على محل إن واسمها، وقيل على الضمير في مبعوثون لوقوع الفصل بينهما والهمزة للإنكار داخلة على حرف العطف، ولهذا قرأ الجمهور بفتح الواو، وقرأ ابن عامر وقالوا بسكونها على أن أو هي العاطفة، وليست الهمزة للاستفهام.

قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ

ثم أمر الله سبحانه رسوله بأن يجيب عنهم تبكيتاً لهم، فقال: 18- "قل نعم وأنتم داخرون" أي نعم تبعثون وأنتم صاغرون ذليلون. قال الواحدي: والدخور أشد الصغار، وجملة وأنتم داخرون في محل نصب على الحال.

فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ

ثم ذكر سبحانه أن بعثهم يقع بزجرة واحدة فقال: 19- "فإنما هي زجرة واحدة" الضمير للقصة أو البعثة المفهومة مما قبلها: أي إنما قصة البعث أو البعثة زجرة واحدة: أي صيحة واحدة من إسرافيل بنفخه في الصور عند البعث "فإذا هم ينظرون" أي يبصرون ما يفعل الله بهم من العذاب. وقال الحسن: هي النفخة الثانية، وسميت الصيحة زجرة، لأن المقصود منها الزجر، وقيل معنى ينظرون ينتظرون ما يفعل بهم، والأول أولى. وقد أخرج عبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه من طرق عن ابن مسعود "والصافات صفاً" قال: الملائكة "فالزاجرات زجراً" قال: الملائكة "فالتاليات ذكراً" قال: الملائكة. وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد وعكرمة مثله. وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس مثله. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه أنه كان يقرأ "لا يسمعون إلى الملإ الأعلى" مخففة، وقال: إنهم كانوا يتسمعون ولكن لا يسمعون. وأخرج ابن جرير عنه أيضاً في قوله: "عذاب واصب" قال: دائم. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عنه أيضاً "فأتبعه شهاب ثاقب" . وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه أيضا " فأتبعه شهاب ثاقب " قال: لا يقتلون بالشهاب ولا يموتون. ولكنها تحرق وتخبل وتجرح في غير قتل. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: "من طين لازب" قال: ملتصق. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عنه أيضاً "من طين لازب" قال: اللزج الجيد. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً قال: اللازب والحمأ والطين واحد: كان أوله تراباً ثم صار حمأ منتناً، ثم صار طيناً لازباً، فخلق الله منه آدم. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال: اللازب الذي يلصق بعضه إلى بعض. وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن مسعود أنه كان يقرأ "بل عجبت ويسخرون" بالرفع للتاء من عجبت.

وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ

قوله: 20- " وقالوا يا ويلنا " أي قال أولئك المبعوثون لما عاينوا البعث الذي كانوا يكذبون به في الدنيا يا ويلنا، دعوا بالويل على أنفسهم. قال الزجاج: الويل كلمة يقولها القائل وقت الهلكة، وقال الفراء: إن أصله يا وي لنا، ووي بمعنى الحزن كأنه قال: يا حزن لنا. قال النحاس: ولو كان كما قال لكان منفصلاً، وهو في المصحف متصل، ولا نعلم أحداً يكتبه إلا متصلاً، وجملة "هذا يوم الدين" تعليل لدعائهم بالويل على أنفسهم، والدين الجزاء، فكأنهم قالوا هذا اليوم الذي نجازى فيه بأعمالنا من الكفر والتكذيب للرسل فأجاب عليهم الملائكة بقولهم.

هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ

21- "هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون"، ويجوز أن يكون هذا من قول بعضهم لبعض، والفصل الحكم والقضاء لأنه يفصل فيه بين المحسن والمسيء.

احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ

وقوله: 22- "احشروا الذين ظلموا وأزواجهم" هو أمر من الله سبحانه للملائكة بأن يحشروا المشركين وأزواجهم، وهم أشباههم في الشرك، والمتابعون لهم في الكفر، والمشايعون لهم في تكذيب الرسل، كذا قال قتادة وأبو العالية. وقال الحسن ومجاهد: المراد بأزواجهم نساؤهم المشركات الموافقات لهم على الكفر والظلم. وقال الضحاك: أزواجهم قرناؤهم من الشياطين يحشر كل كافر من شيطانه، وبه قال مقاتل.

مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ

23- " وما يعبدون من دون الله " من الأصنام والشياطين، وهذا العموم المستفاد من ما الموصولة، فإنها عبارة عن المعبودين، لا عن العابدين كما قيل مخصوص، لأن من طوئف الكفار من عبد المسيح، ومنهم من عبد الملائكة فيخرجون بقوله: "إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون" ووجه حشر الأصنام مع كونها جمادات لا تعقل هو زيادة التبكيت لعابديها وتخلجيلهم وإظهار أنها لا تنفع ولا تضر "فاهدوهم إلى صراط الجحيم" أي عرفوا هؤلاء المحشورين طريق النار وسوقوهم إليها، يقال هديته الطريق وهديته إليها: أي دللته عليها، وفي هذا تهكم بهم.

وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ

24- "وقفوهم إنهم مسؤولون" أي احبسوهم، يقال وقفت الدابة أقفها وقفاً فوقفت هي وقوفاً يتعدى ولا يتعدى، وهذا الحبس لهم يكون قبل السوق إلى جهنم: أي وقفوهم للحساب ثم سوقوهم إلى النار بعد ذلك، وجملة "إنهم مسؤولون" تعليل للجملة الأولى. قال الكلبي: أي مسؤولون عن أعمالهم وأقوالهم وأفعالهم. وقال الضحاك: عن خطاياهم، وقيل عن لا إله إلا الله، وقيل عن ظلم العباد، وقيل عن ظلم العباد.

مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ

وقيل هذا السؤال هو المذكور بعد هذا بقوله: 25- "ما لكم لا تناصرون" أي أي شيء لكم لا ينصر بعضكم بعضاً كما كنتم في الدنيا، وهذا توبيخ لهم وتقريع وتهكم بهم، وأصله تتناصرون فطرحت إحدى التاءين تخفيفاً. قرأ الجمهور "إنهم مسؤولون" بكسر الهمزة، وقرأ عيسى بن عمر بفتحها. قال الكسائي: أي لأنهم أو بأنهم، وقيل الإشارة بقوله: "ما لكم لا تناصرون" إلى قول أبي جهل يوم بدر "نحن جميع منتصر".

بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ

ثم أضرب سبحانه عما تقدم إلى بيان الحالة التي هم عليها هنالك فقال: 26- "بل هم اليوم مستسلمون" أي منقادون لعجزهم عن الحيلة. قال قتادة: مستسلمون في عذاب الله. وقال الأخفش: ملقون بأيديهم، يقال استسلم للشيء: إذا انقاد له وخضع.

وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ

27- "وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون" أي أقبل بعض الكفار على بعض يتساءلون. قيل هم الأتباع والرؤساء يسأل بعضهم بعضاً سؤال توبيخ وتقريع ومخاصمة. وقال مجاهد: هو قول الكفار للشياطين. وقال قتادة: هو قول الإنس للجن.

قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ

والأول أولى لقوله: 28- "قالوا إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين" أي كنتم تأتوننا في الدنيا عن اليمين: أي من جهة الحق والدين والطاعة وتصدونا عنها. قال الزجاج: كنتم تأتوننا من قبل الدين، فتروننا أن الدين والحق ما تضلوننا به، واليمين عبارة عن الحق، وهذا كقوله تعالى إخباراً عن إبليس " ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم " قال الواحدي: قال أهل المعاني: إن الرؤساء كانوا قد حلفوا لهؤلاء الأتباع أن ما يدعونهم إليه هو الحق فوثقوا بأيمانهم، فمعنى "تأتوننا عن اليمين" أي من ناحية الأيمان التي كنتم تحلفونها فوثقنا بها. قال: والمفسرون على القول الاول. وقيل المعنى: تأتوننا عن اليمين التي نحبها ونتفاءل بها لتغرونا بذلك عن جهة النصح، والعرب تتفاءل بما جاء عن اليمين وتسميه السانح. وقيل اليمين بمعنى القوة: أي تمنعوننا بقوة وغلبة وقهر كما في قوله: "فراغ عليهم ضرباً باليمين" أي بالقوة وهذه الجملة مستأنفة جواب سؤال مقدر.

قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ

وكذلك كجملة 29- "قالوا بل لم تكونوا مؤمنين" فإنها مستأنفة جواب سؤال مقدر، والمعنى: أنه قال الرؤساء أو الشياطين لهؤلاء القائلين: كنتم تأتوننا عن اليمين بل لم تكونوا مؤمنين ولم نمنعكم من الإيمان. والمعنى: أنكم لم تكونوا مؤمنين قط حتى ننقلكم عن الإيمان إلى الكفر بل كنتم من الأصل على الكفر فأقمتم عليه.

وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ

30- "وما كان لنا عليكم من سلطان" من تسلط بقهر وغلبة حتى ندخلكم في الإيمان ونخرجكم من الكفر "بل كنتم قوماً طاغين" أي متجاوزين الحد في الكفر والضلال.

فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ

وقوله: 31- "فحق علينا قول ربنا إنا لذائقون" من قول المتبوعين: أي وجب علينا وعليكم ولزمنا قول ربنا، يعنون قوله تعالى: "لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين" إنا لذائقو العذاب: أي إنا جميعاً لذائقو العذاب الذي ورد به الوعيد. قال الزجاج: أي إن المضل والضال في النار.

فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ

32- "فأغويناكم" أي أضللناكم عن الهدى، ودعوناكم إلى ما كنا فيه من الغي، وزينا لكم ما كنتم عليه من الكفر "إنا كنا غاوين" فلا عتب علينا في تعرضنا لإغوائكم، لأنا أردنا أن تكونوا أمثالنا في الغواية، ومعنى الآية: أقدمنا على إغوائكم لأنا كنا موصوفين في أنفسنا بالغواية، فاقروا ها هنا بأنهم تسببوا لإغوائهم، لكن لا بطريق القهر والغلبة، ونفوا عن أنفسهم فيما سبق أنهم قهروهم وغلبوهم، فقالوا: "وما كان لنا عليكم من سلطان".

فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ

ثم أخبر الله سبحانه عن الأتباع والمتبوعين بقوله: 33- "فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون" كما كانوا مشتركين في الغواية.

إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ

34- "إنا كذلك نفعل بالمجرمين" أي إنا نفعل مثل ذلك الفعل بالمجرمين: أي أهل الإجرام، وهم المشركون.

إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ

كما يفيده قوله: 35- "إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون" أي إذا قيل لهم قولوا لا إله إلا الله يستكبرون عن القبول، ومحل يستكبرون النصب على أنه خبر كان، أو الرفع على أنه خبر إن، وكان ملغاة.

وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آَلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ

36- " ويقولون أإنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون " يعنون النبي صلى الله عليه وسلم: أي لقول شاعر مجنون.

بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ

فرد الله سبحانه عليهم بقوله: 37- "بل جاء بالحق" يعني القرآن المشتمل على التوحيد والوعد والوعيد "وصدق المرسلين" أي صدقهم فيما جاءوا به من التوحيد والوعيد وإثبات الدار الآخرة ولم يخالفهم ولا جاء بشيء لم تأت به الرسل قبله.

إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ

38- "إنكم لذائقوا العذاب الأليم" أي إنكم بسبب شرككم وتكذيبكم لذائقو العذاب الشديد الألم. قرأ الجمهور "لذائقوا" بحذف النون وخفض العذاب، وقرأ أبان بن ثعلب عن عاصم وأبو السماك بحذفها ونصب العذاب، وأنشد سيبويه في مثل هذه القراءة بالحذف للنون والنصب للعذاب قول الشاعر: فألفيته غير مستعتب ولا ذاكر الله إلا قليلا وأجاز سيبويه أيضاً "والمقيمي الصلاة" بنصب الصلاة على هذا التوجيه. وقد قرئ بإثبات النون ونصب العذاب على الأصل.

وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ

ثم بين سبحانه أن ما ذاقوه من العذاب ليس إلا بسبب أعمالهم، فقال: 39- "وما تجزون إلا ما كنتم تعملون" أي إلا جزاء ما كنتم تعملون من الكفر والمعاصي، أو إلا بما كنتم تعملون.

إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ

ثم استثنى المؤمنين فقال: 40- "إلا عباد الله المخلصين" قرأ أهل المدينة والكوفة "المخلصين" بفتح اللام: أي الذين أخلصهم الله لطاعته وتوحيده. وقرأ الباقون بكسرها: أي الذين أخلصوا لله العبادة والتوحيد، والاستثناء إما متصل على تقدير تعميم الخطاب في تجزون لجميع المكلفين، أو منقطع: أي لكن عباد الله المخلصين لا يذوقون العذاب.

أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ

والإشارة بقوله: 41- "أولئك" إلى المخلصين، وهو مبتدأ وخبره قوله: "لهم رزق معلوم" أي لهؤلاء المخلصين رزق يرزقهم الله إياه معلوم في حسنه وطيبه وعدم انقطاعه. قال قتادة: يعني الجنة، وقيل معلوم الوقت، وهو أن يعطوا منه بكرة وعشية كما في قوله: "ولهم رزقهم فيها بكرة وعشياً" وقيل هو المذكور في قوله بعده.

فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ

42- "فواكه" فإنه بدل من رزق أو خبر مبتدأ محذوف: أي هو فواكه، وهذا هو الظاهر. والفواكه جمع الفاكهة وهي الثمار كلها رطبها ويابسها، وخصص الفواكه بالذكر لأن أرزاق أهل الجنة كلها فواكه كذا قيل. والأول أن يقال: إن تخصيصها بالذكر لأنها أطيب ما يأكلونه وأذ ما تشتهيه أنفسهم. وقيل إن الفواكه من أتباع سائر الأطعمة، ذكرها يغني عن ذكر غيرها، وجملة "وهم مكرمون" في محل نصب على الحال: أي ولهم من الله عز وجل إكرام عظيم برفع درجاتهم عنده وسماع كلامه ولقائه في الجنة قرأ الجمهور "مكرمون" بتخفيف الراء. وقرأ أبو مقسم بتشديدها.

فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ

وقوله 43- "في جنات النعيم" يجوز أن يتعلق بمكرمون وأن يكون حبراً ثانياً، وأن يكون حالاً.

عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ

وقوله: 44- "على سرر" يحتمل أن يكون حالاً، وأن يكون خبراً ثالثاً، وانتصاب "متقابلين" على الحالية من الضمير في مكرمون، أو من الضمير في متعلق على سرر. قال عكرمة ومجاهد: معنى التقابل أنه لا ينظر بعضهم في قفا بعض، وقيل إنها تدور بها الأسرة كيف شاءوا فلا يرى بعضهم قفا بعض. قرأ الجمهور سرر بضم الراء. وقرأ أبو السماك بفتحها، وهي لغة بعض تميم.

يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ

ثم ذكر سبحانه صفة أخرى لهم فقال: 45- "يطاف عليهم بكأس من معين" ويجوز أن تكون هذه الجملة مستأنفة جواباً عن سؤال مقدر، ويجوز أن تكون في محل نصب على الحال من ضمير متقابلين، والكأس عند أهل اللغة اسم شامل لكل إناء فيه الشراب، فإن كان فارغاً فليس بكأس. وقال الضحاك والسدي: كل كأس في القرآن فهي الخمر. قال النحاس: وحكى من يوثق به من أهل اللغة أن العرب تقول لقدح إذا كان فيه خمر كأس، فإذا لم يكن فيه خمر فهو قدح كما يقال للخوان إذا كان عليه طعام مائدة، فإذا لم يكن عليه طعام لم يقل له مائدة فإذا لم يكن عليه طعام لم يقل له مائدة، ومن معين متعلق بمحذوف هو صفة لكأس. قال الزجاج: بكأس من معين: أي من خمر تجري كما تجري العيون على وجه الأرض، والمعين الماء الجاري.

بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ

وقوله: 46- "بيضاء لذة للشاربين" صفتان لكأس. قال الزجاج: أي ذات لذة فحذفت المضاف، ويجوز أن يكون الوصف بالمصدر لقصد المبالغة في كونها لذة فلا يحتاج إلى تقدير المضاف. قال الحسن: خمر الجنة أشد بياضاً من اللبن له لذة لذيذة، يقال شراب لذ ولذيذ كما يقال نبات غض وغضيض، ومنه قول الشاعر: بحديثها اللذ الذي لو كلمت أسد الفلاة به أتين سراعا واللذيذ: كل شيء مستطاب، وقيل البيضاء: هي التي لم يعتصرها الرجال.

لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ

ثم وصف هذه الكأس من الخمر بغير ما يتصف به خمر الدنيا، فقال: 47- "لا فيها غول" أي لا تغتال عقولهم فتذهب بها ولا يصيبهم منها مرض ولا صداع "ولا هم عنها ينزفون" أي يسكرون: يقال نزف الشارب فهو منزوف ونزيف إذا سكر، ومنه قول امرئ القيس: وإذا هي تمشي كمش النزيـ ـف يصرعه بالكثيب البهر وقال أيضاً: نزيف إذا قامت لوجه تمايلت ومنه قول الآخر: فلثمت فاها آخذاً بقرونها شرب النزيف ببرد ماء الحشرج قال الفراء: العرب تقول ليس فيها غلية وغائلة وغول سواء. وقال أبو عبيدة: الغول أن تغتال عقولهم، وأنشد قول مطيع بن إياس: وما زالت الكأس تغتالهم وتذهب بالأول الأول وقال الواحدي: الغول حقيقته الإهلاك، يقال غاله غولاً واغتاله: أي أهلكه، والغول كل ما اغتالك: أي أهلكك. قرأ الجمهور "ينزفون" بضم الياء وفتح الزاي مبنياً للمفعول. وقرأ حمزة والكسائي بضم الياء وكسر الزاي من أنزف الرجل: إذا ذهب عقله من السكر فهو نزيف ومنزوف ومنزف، يقال أحصد الزرع: إذا حان حصاده، وأقطف الكرم: إذا حان قطافه. قال الفراء: من كسر الزاي فله معنيان، يقال أنزف الرجل: إذا فنيت خمره، وأنزف: إذا ذهب عقله من السكر، وتحمل هذه القراءة على معنى لا ينفد شرابهم لزيادة الفائدة. قال النحاس: والقراءة الأولى أبين وأصح في المعنى، لأن معنى لا ينزفون عند جمهور المفسرين: لا تذهب عقولهم، فنفى الله عز وجل عن خمر الجنة الآفات التي تلحق في الدنيا من خمرها من الصداع والسكر. وقال الزجاج وأبو علي الفارسي معنى: لا ينزفون بكسر الزاي: لا يسكرون. قال المهدوي: لا يكون معنى ينزفون يسكرون، لأن قبله "لا فيها غول" أي لا تغتال عقولهم فيكون تكريراً، وهذا يقوي ما قاله قتادة: إن الغول وجع البطن وكذا روى ابن أبي نجيح عن مجاهد. وقال الحسن: إن الغول الصداع. وقال ابن كيسان: هو المغص، فيكون معنى الآية: لا فيها نوع من أنواع الفساد المصاحبة لشرب الخمر في الدنيا من مغص أو وجع بطن أو صداع أو عربدة أو لغو أو تأثيم ولا هم يسكرون منها. ويؤيد هذا أن أصل الغول الفساد الذي يلحق في خفاء، يقال اغتاله اغتيالاً: إذا أفسد عليه أمره في خفية، ومنه الغول والغيلة القتل خفية. وقرأ ابن أبي إسحاق ينزفون بفتح الياء وكسر الزاء. وقرأ طلحة بن مصرف بفتح الياء وضم الزاي.

وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ

ولما ذكر سبحانه صفة مشروبهم ذكر عقبه صفة منكوحهم فقال: 48- "وعندهم قاصرات الطرف" أي نساء قصرن طرفهن على أزواجهن فلا يردن غيرهم، والقصر معناه الحبس، ومنه قول امرئ القيس: من القاصرات الطرف لودب محول من الذر فوق الأتب منها لأثرا والمحول الصغير من الذر، والأتب القميص، وقيل القاصرات: المحبوسات على أزواجهن، والأول أولى لأنه قال: قاصرات الطرف، ولم يقل مقصورات. والعين عظام العيون جمع عيناء وهي الواسعة العين. قال الزجاج: معنى "عين" كبار الأعين حسناها. وقال مجاهد: العين حسان العيون. وقال الحسن: هن الشديدات بياض العين الشديدات سوادها، والأول أولى.

كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ

49- "كأنهن بيض مكنون" قال الحسن وأبو زيد: شبههن بيض النعام تكنها النعامة بالريش من الريح والغبار. فلونه أبيض في صفرة، وهو أحسن ألوان النساء. وقال سعيد بن جبير والسدي: شبههن ببطن البيض قبل أن يقشر وتمسه الأيدي وبه قال ابن جرير، ومنه قول امرئ القيس: وبيضة خدر لا يرام خباؤها تمتعت من لهو بها غير معجل قال المبرد: وتقول العرب إذا وصفت الشيء بالحسن والنظافة كأنه بيض النعام المغطى بالريش. وقيل المكنون: المصون عن الكسر: أي إنهن عذارى، وقيل المراد بالبيض اللؤلؤ كما في قوله: " وحور عين * كأمثال اللؤلؤ المكنون " ومثله قول الشاعر: وهي بيضاء مثل لؤلؤة الغوا ص ميزت من جوهر مكنون والأول أولى، وإنما قال مكنون ولم يقل مكنونات لأنه وصف البيض باعتبار اللفظ. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "احشروا الذين ظلموا وأزواجهم" قال: تقول الملائكة للزبانية هذا القول. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وابن أبي شيبة وابن منيع في مسنده، وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه، وابن مردويه والبيهقي في البعث من طريق النعمان بن بشير عن عمر بن الخطاب في قوله: "احشروا الذين ظلموا وأزواجهم" قال: أمثالهم الذين هم مثلهم: يجيء أصحاب الربا مع أصحاب الربا، وأصحاب الزنا مع أصحاب الزنا، وأصحاب الخمر مع أصحاب الخمر، أزواج في الجنة، وأزواج في النار. وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في البعث عن ابن عباس في قوله: "احشروا الذين ظلموا وأزواجهم" قال: أشباههم، وفي لفظ: نظراءهم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله: "فاهدوهم إلى صراط الجحيم" قال: وجوههم وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً في الآية قال: دلوهم "إلى صراط الجحيم" قال: طريق النار. وأخرج عنه أيضاً في قوله: "وقفوهم إنهم مسؤولون" قال: احبسوهم إنهم محاسبون. وأخرج البخاري في تاريخه والدارمي والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من داع دعا إلى شيء إلا كان موقوفاً معه يوم القيامة لازماً به لا يفارقه وإن دعا رجل رجلاً، ثم قرأ "وقفوهم إنهم مسؤولون"" وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله "وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون" قال: ذلك إذا بعثوا في النفخة الثانية. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عنه في قوله: "كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون" قال: كانوا إذا لم يشرك بالله يستنكفون، " ويقولون أإنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون " لا يعقل، قال: فحكى الله صدقه فقال: "بل جاء بالحق وصدق المرسلين". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله". وأنزل الله في كتابه وذكر قوماً استكبروا، فقال: "إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون"، وقال: "إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها" وهي لا إله إلا الله محمد رسول الله استكبر عنها المشركون يوم الحديبية يوم كاتبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على قضية المدة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في البعث عن ابن عباس في قوله: "يطاف عليهم بكأس من معين" قال: الخمر " لا فيها غول " قال ليس فيها صداع "ولا هم عنها ينزفون" قال: لا تذهب عقولهم. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عنه قال في الخمر أربع خصال: السكر والصداع والقيء والبول، فنزه الله خمر الجنة عنها، فقال: "لا فيها غول" لا تغول عقولهم من السكر "ولا هم عنها ينزفون" قال: يقيئون عنها كما يقيء صاحب خمر الدنيا عنها. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس " لا فيها غول " قال: هي الخمر ليس فيها وجع بطن. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في البعث عنه أيضاً في قوله: "وعندهم قاصرات الطرف" يقول: من غير أزواجهن "كأنهن بيض مكنون" قال: اللؤلؤ المكنون. وأخرج ابن المنذر عنه في قوله: "كأنهن بيض مكنون" قال: بياض البيضة ينزع عنها فوفها وغشاؤها.

فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ

قوله: 50- "فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون" معطوف على يطاف: أي يسأل هذا ذاك، وذاك هذا حال شربهم عن أحوالهم التي كانت في الدنيا، وذلك من تمام نعيم الجنة، والتقدير: فيقبل بعضهم على بعض، وإنما عبر عنه بالماضي للدلالة على تحقق وقوعه.

قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ

51- "قال قائل منهم" أي قال قائل من أهل الجنة في حال إقبال بعضهم على بعض الحديث وسؤال بعضهم لبعض "إني كان لي قرين" أي صاحب ملازم لي في الدنيا كافر بالبعث منكر له.

يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ

كما يدل عليه قوله: " أإنك لمن المصدقين " يعني بالبعث والجزاء، وهذا الاستفهام من القرين لتوبيخ ذلك المؤمن وتبكيته بإيمانه وتصديقه بما وعد الله به من البعث، وكان هذا القول منه في الدنيا.

أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ

ثم ذكر ما يدل على الاستبعاد للبعث عنده وفي زعمه فقال: 53- " أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمدينون " أي مجزيون بأعمالنا ومحاسبون بها بعد أن صرنا تراباً وعظاما، وقيل معنى مدينون مسوسون، يقال دانه: إذا ساسه. قال سعيد بن جبير: قرينه شريكه، وقيل أراد بالقرين الشيطان الذي يقارنه وأنه كان يوسوس إليه بإنكار البعث، وقد مضى ذكر قصتهما في سورة الكهف، والاختلاف في اسميها، قرأ الجمهور "لمن المصدقين" بتخفيف الصاد من التصديق/ أي لمن المصدقين بالبعث، وقرئ بتشديدها، ولا أدري من قرأ بها، ومعناها بعيد لأنها من التصدق لا من التصديق، ويمكن تأويلها بأنه أنكر عليه التصدق بماله لطلب الثواب، وعلل ذلك باستبعاد البعث. وقد اختلف القراء في هذه الاستفهامات الثلاثة، فقرأ نافع الأولى والثانية بالاستفهام بهمزة، والثالثة بكسر الألف من غير استفهام، ووافقه الكسائي إلا أنه يستفهم الثالثة بهمزتين، وابن عامر الأولى والثالثة بهمزتين، والثانية بكسر الألف من غير استفهام، والباقون بالاستفهام في جميعها. ثم اختلفوا، فابن كثير يستفهم بهمزة واحدة غير مطولة وبعده ساكنة خفيفة، وأبو عمرو مطولة، وعاصم وحمزة بهمزتين.

قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ

54- "قال هل أنتم مطلعون" القائل هو المؤمن الذي في الجنة بعد ما حكى لجلسائه فيها ما قاله له قرينه في الدنيا: أي هل أنتم مطلعون إلى أهل النار لأريكم ذلك القرين الذي قال لي تلك المقالة كيف منزلته في النار؟ قال ابن الأعرابي: الاستفهام هو بمعنى الأمر: أي اطلعوا، وقيل القائل هو الله سبحانه، وقيل الملائكة، والأول أولى.

فَاطَّلَعَ فَرَآَهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ

55- "فاطلع فرآه في سواء الجحيم" أي فاطلع على النار ذلك المؤمن الذي صار يحدث أصحابه في الجنة بما قال له قرينه في الدنيا، فرأى قرينه في وسط الجحيم. قال الزجاج: سواء كل شيء وسطه. قرأ الجمهور "مطلعون" بتشديد الطاء مفتوحة وبفتح النون، فاطلع ماضياً مبنياً للفاعل من الطلوع. وقرأ ابن عباس ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو مطلعون بسكون الطاء وفتح النون فأطلع بقطع الهمزة مضمومة وكسر اللام ماضياً مبنياً للمفعول. قال النحاس: فأطلع فيه قولان على هذه القراءة أحدهما أن يكون فعلاً مستقبلاً: أي فأطلع أنا، ويكون منصوباً على أنه جواب الاستفهام، والقول الثاني أن يكون فعلاً ماضياً، وقرأ حماد بن أبي عمار مطلعون بتخفيف الطاء وكسر النون فاطلع مبنياً للمفعول، وأنكر هذه القراءة أبو حاتم وغيره. قال النحاس: هي لحن، لأنه لا يجوز الجمع بين النون والإضافة، ولو كان مضافاً لقال هل أنتم مطلعي، وإن كان سيبويه والفراء قد حكيا مثله وأنشدا: هم القائلون الخير والآمورنه إذا ما خشوا من محدث الدهر معظما ولكنه شاذ خارج عن كلام العرب.

قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ

56- "قال تالله إن كدت لتردين" أي قال ذلك الذي من أهل الجنة لما اطلع على قرينه ورآه في النار: تالله إن كدت لتردين: أي لتهلكني بالإغواء. قال الكسائي: لتردين لتهلكني، والرد الهلاك. قال المبرد: لو قيل لتردين لتوقعني في النار لكان جائزاً. قال مقاتل: المعنى والله لقد كدت أن تغويني فأنزل منزلتك، والمعنى متقارب، فمن أغوى إنساناً فقد أهلكه.

وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ

57- " ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين " أي لولا رحمة ربي وإنعامه علي بالإسلام وهدايتي إلى الحق وعصمتي عن الضلال لكنت من المحضرين معك في النار. قال الفراء: أي لكنت معك في النار محضراً. قال الماوردي: وأحضر لا يستعمل إلا في الشر.

أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ

ولما تم كلامه مع ذلك القرين الذي هو في النار عاد إلى مخاطبة جلسائه من أهل الجنة فقال: 58- "أفما نحن بميتين"، والهمزة للاسفتها التقريري وفيها معنى التعجيب، والفاء للعطف على محذوف كما في نظائره: أي أنحن مخلدون منعمون فما نحن بميتين.

إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ

59- "إلا موتتنا الأولى" التي كانت في الدنيا، وقوله هذا كان على طريقة الابتهاج والسرور بما أنعم الله عليهم من نعيم الجنة الذي لا ينقطع وأنهم مخلدون لا يموتون أبداً، وقوله: "وما نحن بمعذبين" هو من تمام كلامه: أي وما نحن بمعذبين كما يعذب الكفار. ثم قال مشيراً إلى ما هم فيه من النعيم.

إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ

60- "إن هذا لهو الفوز العظيم" أي إن هذا الأمر العظيم والنعيم المقيم والخلود الدائم الذي نحن فيه لهو الفوز العظيم الذي لا يقادر قدره ولا يكن الإحاطة بوصفه.

لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ

وقوله: 61- "لمثل هذا فليعمل العاملون" من تمام كلامه: أي لمثل هذا العطاء والفضل العظيم فليعمل العاملون، فإن هذه هي التجارة الرابحة، لا العمل للدنيا الزائلة فإنها صفقة خاسرة نعيمها منقطع وخيرها زائل وصاحبها عن قريب منها راحل. وقيل إن هذا من قول الله سبحانه، وقيل من قول الملائكة، والأول أولى. قرأ الجمهور بميتين وقرأ زيد بن علي بمايتين وانتصاب إلا موتتنا على المصدرية، والاستثناء مفرغ، ويجوز أن يكون الاستثناء منقطعاً. أي لكن الموتة الأولى التي كانت في الدنيا.

أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ

62- "أذلك خير نزلاً أم شجرة الزقوم" الإشارة بقوله ذلك إلى ما ذكره من نعيم الجنة، وهو مبتدأ وخبره خير، ونزلا تمييز، والنزل في اللغة الرزق الذي يصلح أن ينزلوا معه ويقيموا فيه والخيرية بالنسبة إلى ما اختاره الكفار على غيره. قال الزجاج: المعنى أذلك خير في باب الإنزال التي يبقون بها نزلاً أم نزل أهل النار، وهو قوله: "أم شجرة الزقوم" وهو ما يكره تناوله. قال الواحدي: وهو شيء مر كريه يكره أهل النار على تناوله فهم يتزقمونه، وهي على هذا مشتقة من التزقم وهو البلع على جهد لكراهتها ونتنها. واختلف فيها هل هي من شجر الدنيا التي يعرفها العرب أم لا على قولين: أحدهما أنها معروفة من شجر الدنيا فقال قطرب: إنها شجرة مرة تكون بتهامة من أخبث الشجر. وقال غيره: بل هو كل نبات قاتل. القول الثاني أنها غير معروفة في شجر الدنيا. قال قتادة: لما ذكر الله هذه الشجرة افتتن بها الظلمة فقالوا: كيف تكون في النار شجرة.

إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ

فأنزل الله تعالى 63- "إنا جعلناها فتنة للظالمين" قال الزجاج: حين افتتنوا بها وكذبوا بوجودها. وقيل معنى جعلها فتنة لهم: أنها محنة لهم لكونها يعذبون بها، والمراد بالظالمين هنا الكفار أو أهل المعاصي الموجبة للنار.

إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ

ثم بين سبحانه أوصاف هذه الشجرة رداً على منكريها فقال: 64- "إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم" أي في قعرها، قال الحسن: أصلها في قعر جهنم وأغصانها ترفع إلى دركاتها.

طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ

ثم قال 65- "طلعها كأنه رؤوس الشياطين" أي ثمرها وما تحمله كأنه في تناهي قبحه وشناعة منظره رؤوس الشياطين، فشبه المحسوس بالمتخيل، وإن كان غير مرئي للدلالة على أنه غاية في القبح كما تقول في تشبيه من يستقبحونه: كأنه شيطان، وفي تشبيه من يستحسنونه: كأنه ملك، كما في قوله "ما هذا بشراً إن هذا إلا ملك كريم" ومنه قول أيقتلني والمشرفي مضاجعي ومسنونة زرق كأنياب أغوال وقال الزجاج والفراء: الشياطين حيات لها رؤوس وأعراف، وهي من أقبح الحيات وأخبثها وأخفها جسماً. وقيل إن رؤوس الشياطين اسم لنبت قبيح معروف باليمن يقال له الاستن، ويقال له الشيطان. قال النحاس: وليس ذلك معروفاً عند العرب. وقيل هو شجر خشن منتن مر منكر الصورة يسمى ثمره رؤوس الشياطين.

فَإِنَّهُمْ لَآَكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ

66- "فإنهم لآكلون منها" أي من الشجرة أو من طلعها، والتأنيث لاكتساب الطلع التأنيث من إضافته إلى الشجرة "فمالئون منها البطون" وذلك أنهم يكرهون على أكلها حتى تمتلئ بطونهم، فهذا طعامهم وفاكهتهم بدل رزق أهل الجنة.

ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ

67- "ثم إن لهم عليها" بعد الأكل منها "لشوباً من حميم" الشوب الخلط. قال الفراء: يقال شاب طعامه وشرابه: إذا خلطهما بشيء يشوبهما شوباً وشيابة، والحميم الماء الحار. فأخبر سبحانه أنه يشاب لهم طعامهم من تلك الشجرة بالماء الحار ليكون أفظع لعذابهم وأشنع لحالهم كما في قوله: " وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم " قرأ الجمهور "شوباً" بفتح الشين، وهو مصدر، وقرأ شيبان النحوي بالضم. قال الزجاج: المفتوح مصدر، والمضموم اسم بمعنى المشوب، كالنقص بمعنى المنقوص.

ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ

68- "ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم" أي مرجعهم بعد شرب الحميم وأكل الزقوم إلى الجحيم، وذلك أنهم يوردون الحميم لشربه، وهو خارج الجحيم كما تورد الإبل، ثم يردون إلى الجحيم كما في قوله سبحانه: "يطوفون بينها وبين حميم آن" وقيل إن الزقوم والحميم نزل يقدم إليهم قبل دخولها. قال أبو عبيدة: ثم بمعنى الواو، وقرأ ابن مسعود ثم إن مقيلهم لإلى الجحيم.

إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آَبَاءَهُمْ ضَالِّينَ

وجملة 69- "إنهم ألفوا" أي وجدوا "آباءهم ضالين" تعليل لاستحقاقهم ما تقدم ذكره أي صادفوهم كذلك فاقتدوا بهم تقليداً وضلالة لا لحجة أصلاً.

فَهُمْ عَلَى آَثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ

70- "فهم على آثارهم يهرعون" الإهراع الإسراع. قال الفراء: الإهراع: الإسراع برعدة. وقال أبو عبيدة: يهرعون: يستحثون من خلفهم، يقال جاء فلان يهرع إلى النار: إذا استحثه البرد إليها. وقال المفضل يزعجون من شدة الإسراع. قال الزجاج: هرع وأهرع: إذا استحث وانزعج، والمعنى: يتبعون آباءهم في سرعة كأنهم يزعجون إلى اتباع آبائهم.

وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ

71- "ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين" أي ضل قبل هؤلاء المذكورين أكثر الأولين من الأمم الماضية.

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ

72- "ولقد أرسلنا فيهم منذرين" أي أرسلنا في هؤلاء الأولين رسلاً أنذروهم العذاب وبينوا لهم الحق فلم ينجع ذلك فيهم.

فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ

73- "فانظر كيف كان عاقبة المنذرين" أي الذين أنذرتهم الرسل فإنهم صاروا إلى النار. قال مقاتل: يقول كان عاقبتهم العذاب، يحذر كفار مكة.

إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ

ثم استثنى عباده المؤمنين فقال: 74- "إلا عباد الله المخلصين" أي إلا من أخلصهم الله بتوفيقهم إلى الإيمان والتوحيد، وقرئ "المخلصين" بكسر اللام: أي الذين أخلصوا لله طاعاتهم ولم يشوبوها بشيء مما يغيرها. وقد أخرج ابن أبي شيبة وهناد وابن المنذر عن ابن مسعود في قوله: "فاطلع فرآه في سواء الجحيم" قال: اطلع ثم التفت إلى أصحابه فقال: لقد رأيت جماجم القوم تغلي. وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس قال: قول الله لأهل الجنة -"كلوا واشربوا هنيئاً بما كنتم تعملون"- قال هنيئاً: أي لا تموتون فيها فعند ذلك قالوا: " أفما نحن بميتين * إلا موتتنا الأولى وما نحن بمعذبين * إن هذا لهو الفوز العظيم " قال: هذا قول الله "لمثل هذا فليعمل العاملون". وأخرج ابن مردويه عن البراء بن عازب قال: كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده في يدي، فرأى جنازة فأسرع المشي حتى أتى القبر، ثم جثى على ركبتيه فجعل يبكي حتى بل الثرى، ثم قال: "لمثل هذا فليعمل العاملون". وأخرج ابن مردويه عن أنس قال: دخلت مع النبي صلى الله عليه وسلم على مريض يجود بنفسه فقال: "لمثل هذا فليعمل العاملون". وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: مر أبو جهل برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس، فلما بعد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أولى لك فأولى * ثم أولى لك فأولى "، فلما سمع أبو جهل قال: من توعد يا محمد؟ قال إياك، قال بما توعدني؟ قال أوعدك بالعزيز الكريم، فقال أبو جهل: أليس أنا العزيز الكريم؟ فأنزل الله " إن شجرة الزقوم * طعام الأثيم " إلى قوله "ذق إنك أنت العزيز الكريم" فلما بلغ أبا جهل ما نزل فيه جمع أصحابه، فأخرج إليهم زبداً وتمراً فقال: تزقموا من هذا. فو الله ما يتوعدكم محمد إلا بهذا، فأنزل الله "إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم" إلى قوله: "ثم إن لهم عليها لشوباً من حميم " . وأخرج ابن أبي شيبة عنه قال : لو أن قطرة من زقوم جهنم أنزلت إلى الأرض لأفسدت على الناس معايشهم . وأخرج ابن جرير و ابن المنذر عنه أيضا " ثم إن لهم عليها لشوبا " قال: لمزجا. وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً قال في قوله: "لشوباً من حميم" يخالط طعامهم ويشاب بالحميم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال: لا ينتصف النهار يوم القيامة حتى يقيل هؤلاء ويقيل هؤلاء أهل الجنة وأهل النار، وقرأ ثم إن مقيلهم لإلى الجحيم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "إنهم ألفوا آباءهم ضالين" قال: وجدوا آباءهم.

وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ

لما ذكر سبحانه أنه أرسل في الأمم الماضية منذرين ذكر تفصيل بعض ما أجمله فقال: "ولقد نادانا نوح" واللام هي الموطئة للقسم، وكذا اللام في قوله: "فلنعم المجيبون" أي نحن، والمراد أن نوحاً دعا ربه على قومه لما عصوه، فأجاب الله دعاءه وأهلك قومه بالطوفان. فالنداء هنا هو نداء الدعاء لله والاستغاثة به، كقوله: "رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً" وقوله: " أني مغلوب فانتصر " قال الكسائي: أي فلنعم المجيبون له كنا.

وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ

76- "ونجيناه وأهله من الكرب العظيم" المراد بأهله أهل دينه، وهم من آمن معه وكانوا ثمانين، والكرب العظيم هو الغرق، وقيل تكذيب قومه له وما يصدر منهم إليه من أنواع الأذايا.

وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ

77- "وجعلنا ذريته هم الباقين" وحدهم دون غيرهم كما يشعر به ضمير الفصل، وذلك لأن الله أهلك الكفرة بدعائه ولم يبق منهم باقية، ومن كان معه في السفينة من المؤمنين ماتوا كما قيل ولم يبق إلا أولاده. قال سعيد بن المسيب: كان ولد نوح ثلاثة والناس كلهم من ولد نوح، فسام أبو العرب وفارس والروم واليهود والنصارى. وحام أبو السودان من المشرق إلى المغرب: السند، والهند، والنوب، والزنج، والحبشة، والقبط، والبربر وغيرهم. ويافث أبو الصقالب والترك والخرز ويأجوج ومأجوج وغيرهم. وقيل إنه كان لمن مع نوح ذرية كما يدل عليه قوله "ذرية من حملنا مع نوح" وقوله "قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم" فيكون على هذا معنى "وجعلنا ذريته هم الباقين" وذريته وذرية من معه دون ذرية من كفر، فإن الله أغرقهم فلم يبق لهم ذرية.

وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ

78- "وتركنا عليه في الآخرين" يعني في الذين يأتون بعده إلى يوم القيامة من الأمم.

سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ

والمتروك هذا هو قوله: 79- "سلام على نوح" أي تركنا هذا الكلام بعينه وارتفاعه على الحكاية، والسلام هو الثناء الحسن: أي يثنون عليه ثناءً حسناً ويدعون له ويترحمون عليه. قال الزجاج: تركنا عليه الذكر الجميل إلى يوم القيامة، وذلك الذكر هو قوله: "سلام على نوح". قال الكسائي: في ارتفاع سلام وجهان: أحدهما وتركنا عليه في الآخرين يقال سلام على نوح. والوجه الثاني أن يكون المعنى: وأبقينا عليه، وتم الكلام، ثم ابتدأ فقال: سلام على نوح: أي وسلامة له من أن يذكر بسوء في الآخرين. قال المبرد: أي تركنا عليه هذه الكلمة باقية: يعني يسلمون عليه تسليماً ويدعون له، وهو من الكلام المحكي كقوله: "سورة أنزلناها" وقيل إنه ضمن تركنا معنى قلنا. قال الكوفيون: جملة سلام على نوح في العالمين في محل نصب مفعول تركنا، لأنه ضمن معنى قلنا. قال الكسائي: وفي قراءة ابن مسعود سلاماً منصوب بتركنا: أي تركنا عليه ثناءً حسناً، وقيل المراد بالآخرين أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وفي العالمين متعلق بما تعلق به الجار والمجرور الواقع خبراً، وهو على نوح: أي سلام ثابت أو مستمر أو مستقر على نوح في العالمين من الملائكة والجن والإنس، وهذا يدل على عدم اختصاص ذلك بأمة محمد صلى الله عليه وسلم كما قيل.

إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ

80- "إنا كذلك نجزي المحسنين" هذه الجملة تعليل لما قبلها من التكرمة لنوح بإجابة دعائه وبقاء الثناء من الله عليه وبقاء ذريته: أي إنا كذلك نجزي من كان محسناً في أقواله وافعاله راسخاً في الإحسان معروفاً به، والكاف في كذلك نعت مصدر محذوف: أي جزاء كذلك الجزاء.

إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ

81- "إنه من عبادنا المؤمنين" هذا بيان لكونه من المحسنين وتعليل له بأنه كان عبداً مؤمناً مخلصاً لله.

ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآَخَرِينَ

82- "ثم أغرقنا الآخرين" أي الكفرة الذين لم يؤمنوا بالله ولا صدقوا نوحاً.

وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ

ثم ذكر سبحانه قصة إبراهيم وبين أنه ممن شايع نوحا فقال : " وإن من شيعته لإبراهيم " أي من أهل دينه وممن شايعه ووافقه على الدعاء إلى الأعوان وهو مأخوذ من الشياع ، وهو الحطب الصغار الذي يوقد مع الكبار حتى يستوقد ، وقال الفراء : المعنى وإن من شيعته محمد لإبراهيم ، فالهاء في شيعته على هذا لمحمد صلى الله عليه وسلم ، وكذا قال الكلبي . ولا يخفى ما في هذا من الضعف والمخالفة للسياق .

إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ

والظرف في قوله: 84- "إذ جاء ربه بقلب سليم" منصوب بفعل محذوف: أي اذكر، وقيل بما في الشيعة من معنى المتابعة. قال أبو حيان: لا يجوز لأن فيه الفصل بي العامل والمعمول بأجنبي، وهو إبراهيم، والأول أن يقال: إن لام الابتداء تمنع ما بعدها من العمل فيما قبلها، والقلب السليم المخلص من الشرك والشك. وقيل هو الناصح لله في خلقه، وقيل الذي يعلم أن الله حق، وأن الساعة قائمة، وأن الله يبعث من في القبور. ومعنى مجيئه إلى ربه يحتمل وجهين: أحدهما عند دعائه إلى توحيده وطاعته. الثاني عند إلقائه في النار.

إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ

وقوله: 85- "إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون" بدل من الجملة الأولى، أو ظرف لسليم، أو ظرف لجاء، والمعنى: وقت قال لأبيه آزر وقومه من الكفار: أي شيء تعبدون.

أَئِفْكًا آَلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ

86- "أئفكا آلهة دون الله تريدون" انتصاب إفكاً على أنه مفعول لأجله، وانتصاب آلهة على أنه مفعول تريدون، والتقدير/ أتريدون آلهة من دون الله للإفك، ودون ظرف لتريدون، وتقديم هذه المعمولات للفعل عليه للاهتمام. وقيل انتصاب إفكاً على أنه مفعول به لتريدون، وآلهة بدل منه، جعلها نفس الإفك مبالغة، وهذا أولى من الوجه الأول. وقيل انتصابه على الحال من فاعل تريدون: أي أتريدون آلهة آفكين أو ذوي إفك. قال المبرد: الإفك أسوأ الكذب، وهو الذي لا يثبت ويضطرب ومنه ائتفكت بهم الأرض.

فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ

87- "فما ظنكم برب العالمين" أي ما ظنكم به إذا لقيتموه وقد عبدتم غيره وما ترونه يصنع بكم؟ وهو تحذير مثل قوله "ما غرك بربك الكريم" وقيل المعنى. أي شيء توهمتموه بالله حتى أشركتم به غيره.

فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ

88- " فنظر نظرة في النجوم * فقال إني سقيم " قال الواحدي: قال المفسرون: كانوا يتعاطون علم النجوم فعاملهم بذلك لئلا ينكروا عليه وذلك أنه أراد أن يكايدهم في أصنامهم لتلزمهم الحجة في أنها غير معبودة، وكان لهم من الغد يوم عيد يخرجون إليه، وأراد أن يتخلف عنهم فاعتل بالسقم: وذلك أنهم كلفوه أن يخرج معهم إلى عيدهم فنظر إلى النجوم يريهم أنه مستدل بهم على حاله، فلما نظر إليها قال إني سقيم أي سأسقم. وقال الحسن: إنهم لما كلفوه أن يخرج معهم تفكر فيما يعمل، فالمعنى على هذا أنه نظر فيما نجم له من الرأي: أي فيما طلع له منه، فعلم أن كل شيء يسقم.

فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ

89- "فقال إني سقيم". قال الخليل والمبرد: يقال للرجل إذا فكر في الشيء يدبره: نظر في النجوم. وقيل كانت الساعة التي دعوه إلى الخروج معهم فيها ساعة تعتاده فيها الحمى. وقال الضحاك: معنى إني سقيم: سأسقم سقم الموت، لأن من كتب عليه الموت يسقم في الغالب ثم يموت، وهذا تورية وتعريض كما قال للملك لما سأله عن سارة هي أختي: يعني أخوة الدين. وقال سعيد بن جبير: أشار لهم إلى مرض يسقم ويعدي وهو الطاعون وكانوا يهربون من ذلك.

فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ

ولهذا قال: 90- "فتولوا عنه مدبرين" أي تركوه وذهبوا مخافة العدوى.

فَرَاغَ إِلَى آَلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ

91- "فراغ إلى آلهتهم" يقال راغ يروغ روغاً وروغاناً: إذا مال، ومنه طريق رائغ، أي مائل. ومنه قول الشاعر: فيريك من طرف اللسان حلاوة ويروغ عنك كما يروغ الثعلب وقال السدي: ذهب إليهم، وقلا أبو مالك: جاء إليهم، وقال الكلبي: أقبل عليهم، والمعنى متقارب "فقال ألا تأكلون" أي فقال إبراهيم للأصنام التي راغ إليها استهزاءً وسخرية: ألا تأكلون من الطعام الذي كانوا يصنعونه لها، وخاطبها كما يخاطب من يعقل، لأنهم أنزلوها بتلك المنزلة.

مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ

وكذا قوله: 92- "ما لكم لا تنطقون" فإنه خاطبهم خطاب من يعقل، والاستفهام للتهكم بهم قد علم أنها جمادات لا تنطق. قيل إنهم تركوا عند أصنامهم طعامهم للتبرك بها وليأكلوه إذا رجعوا من عيدهم. وقيل تركوه للسدنة، وقيل إن إبراهيم هو الذي قرب إليهم الطعام مستهزئاً بها.

فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ

93- "فراغ عليهم ضرباً باليمين" أي فمال عليهم يضربهم ضرباً باليمين فانتصابه على أنه مصدر مؤكد لفعل محذوف، أو هو مصدر لراغ، لأنه بمعنى ضرب. قال الواحدي: قال المفسرون: يعني بيده اليمنى يضربهم بها. وقال السدي: بالقوة والقدرة لأن اليمين أقوى اليدين. قال الفراء وثعلب ضرباً بالقوة، واليمين القوة. وقال الضحاك والربيع بن أنس: المراد باليمين اليمين التي حلفها حين قال: "وتالله لأكيدن أصنامكم" وقيل المراد باليمين هنا العدل كما في قوله: " ولو تقول علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين " أي بالعدل، واليمين كناية عن العدل كما أن الشمال كناية عن الجور، وأول هذه الأقوال أولاها.

فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ

94- "فأقبلوا إليه يزفون" أي أقبل إليه عبدة تلك الأصنام يسرعون لما علموا بما صنعه بها، ويزفون في محل نصب على الال من فاعل أقبلوا. قرأ الجمهور "يزفون" بفتح الياء من زف الظليم يزف إذا عدا بسرعة، وقرأ حمزة بضم الياء من أزف يزف: أي دخل في الزفيف، آو يحملون غيرهم على الزفيف. قال الأصمعي: أزففت الإبل: أي حملتها على أن تزف، وقيل هما لغتان، يقال زف القوم وأزفوا، وزفت العروس وأزففتها، حكي ذلك عن الخليل. قال النحاس: زعم أبو حاتم أنه لا يعرف هذه اللغة: يعني يزفون بضم الياء، وقد عرفها جماعة من العلماء منهم الفراء، وشبهها بقولهم أطردت الرحل: أي صيرته إلى ذلك، وقال المبرد: الزفيف الإسراع. وقال الزجاج: الزفيف أول عدو النعام. وقال قتادة والسدي: ومعنى يزفون يمشون. وقال الضحاك: يسعون. وقال يحيى بن سلام: يرعدون غضباً. وقال مجاهد: يختالون: أي يمشون مشي الخيلاء، وقيل يتسللون تسللاً بين المشي والعدو، والأولى تفسير يزفون بيسرعون، وقرئ يزفون على البناء للمفعول، وقرئ يزفون كيرمون. وحكى الثعلبي عن الحسن ومجاهد وابن السميفع أنهم قرأوا يرفون بالراء المهملة، وهي ركض بين المشي والعدو.

قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ

95- "قال أتعبدون ما تنحتون" لما أنكروا على إبراهيم ما فعله بالأصنام، ذكر لهم الدليل الدال على فساد عبادتها فقال مبكتاً لهم ومنكراً عليهم "أتعبدون ما تنحتون" أي أتعبدون أصناماً أنتم تنحتونها، والنحت النجر والبري، نحته ينحته بالكسر نحتاً: أي براه، والنحاتة البراية.

وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ

وجملة 96- "والله خلقكم وما تعملون" في محل نصب على الحال من فاعل تعبدون، وما في وما تعملون موصولة: أي وخلق الذي تصنعونه على العموم ويدخل فيها الأصنام التي ينحتونها دخولاً أولياً، ويكون معنى العمل هنا التصوير والنحت ونحوهما، ويجوز أن تكون مصدرية: أي خلقكم وخلق عملكم، ويجوز أن تكون استفهامية، ومعنى الاستفهام التوبيخ والتقريع: أي وأي شيء تعملون، ويجوز أن تكون نافية، أي إن العمل في الحقيقة ليس لكم فأنتم لا تعملون شيئاً، وقد طول صاحب الكشاف الكلام في رد قول من قال إنها مصدرية، ولكم بما لا طائل تحته، وجعلها موصولة أولى بالمقام وأوفق بسياق الكلام.

قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ

97- "قالوا ابنوا له بنياناً فألقوه في الجحيم" مستأنفة جواب سؤال مقدر كالجملة التي قبلها، قالوا هذه المقالة لما عجزوا عن جواب ما أورده عليهم من الحجة الواضحة، فتشاوروا فيما بينهم أن يبنوا له حائطاً من حجارة ويملأوه حطباً ويضرموه، ثم يلقوه فيه، والجحيم النار الشديدة الاتقاد قال الزجاج وكل نار بعضها فوق بعض فهي جحيم، واللام في الجحيم عوض عن المضاف إليه: أي في جحيم ذلك البنيان.

فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ

ثم لما ألقوه فيها نجاه الله منها وجعلها عليه: برداً وسلاماً، وهو معنى قوله: 98- "فأرادوا به كيداً فجعلناهم الأسفلين" الكيد: المكر والحيلة: أي احتالوا لإهلاكه فجعلناهم الأسفلين المقهورين المغلوبين، لأنها قامت له بذلك عليهم الحجة التي لا يقدرون على دفعها ولا يمكنهم جحدها، فإن النار الشديدة الاتقاد العظيمة الاضطرام المتراكمة الجمار إذا صارت بعد إلقائه عليها برداً وسلاماً، ولم تؤثر فيه أقل تأثير كان ذلك من الحجة بمكان يفهمه كل من له عقل، وصار المنكر له سافلاً ساقط الحجة ظاهر التعصب واضح التعسف وسبحان من يجعل المحن لمن يدعو إلى دينه منحاً، ويسوق إليهم الخير بما هو من صور الضير. ولما انقضت هذه الوقعة وأسفر الصبح لذي عينين، وظهرت حجة الله لإبراهيم، وقامت براهين نبوته، وسطعت أنوار معجزته.

وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ

99- "قال إني ذاهب إلى ربي" أي مهاجر من بلد قومي الذين فعلوا ما فعلوا تعصباً للأصنام وكفراً بالله وتكذيباً لرسله إلى حيث أمرني بالمهاجرة إليه. أو إلى حيث أتمكن من عبادته "سيهدين" أي سيهديني إلى المكان الذي أمرني بالذهاب إليه، أو إلى مقصدي. وقيل إن الله سبحانه أمره بالمسير إلى الشام، وقد سبق بيان هذا في سورة الكهف مستوفى.

رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ

قال مقاتل: فلما قدم الأرض المقدسة سأل ربه الولد فقال: 100- "رب هب لي من الصالحين" أي ولداً صالحاً من الصالحين يعينني على طاعتك ويؤنسني في الغربة هكذا قال المفسرون، وعللوا ذلك بأن الهبة قد غلب معناها في الولد، فتحمل عند الاطلاق عليه، وإذا وردت مقيدة حملت على ما قيدت به كما في قوله: "ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبياً". وعلى فرض أنها لم تغلب في طلب الولد.

فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ

فقوله: 101- "فبشرناه بغلام حليم" يدل على أنه ما أراد بقوله: "رب هب لي من الصالحين" إلا الولد، ومعنى حليم: أن يكون حليماً عند كبره، فكأنه بشر ببقاء ذلك الغلام حتى يكبر ويصير حليماً، لأن الصغير لا يوصف بالحلم. قال الزجاج: هذه البشارة تدل على أنه مبشر بابن ذكر، وأنه يبقى حتى ينتهي في السن ويوصف بالحلم.

فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ

102- "فلما بلغ معه السعي" في الكلام حذف كما تشعر به هذه الفاء الفصيحة والتقدير: فوهبنا له الغلام فنشأ حتى صار إلى السن التي يسعى فيها مع أبيه في أمور دنياه. قال مجاهد: "فلما بلغ معه السعي" أي شب وأدرك سعيه سعي إبراهيم. وقال مقاتل: لما مشى معه. قال الفراء كان يومئذ ابن ثلاث عشرة سنة. وقال الحسن: هو سعي العقل الذي تقوم به الحجة. وقال ابن زيد: هو السعي في العبادة، وقيل هو الاحتلام "قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك" قال إبراهيم لابنه لما بلغ معه ذلك المبلغ: إني رأيت في المنام هذه الرؤيا. قال مقاتل: رأى إبراهيم ذلك ثلاث ليال متتابعات. قال قتادة: رؤيا الأنبياء حق إذا رأوا شيئاً فعلوه. وقد اختلف أهل العلم في الذبيح؟ هل هو إسحاق أو إسماعيل. قال القرطبي: فقال أكثرهم: الذبيح إسحاق وممن قال بذلك العباس بن عبد المطلب وابن عبد الله، وهو الصحيح عن عبد الله بن مسعود، ورواه أيضاً عن جابر وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عمر وعمر بن الخطاب، قال: فهؤلاء سبعة من الصحابة. قال: ومن التابعين وغيرهم علقمة والشعبي ومجاهد وسعيد بن جبير وكعب الأحبار وقتادة ومسروق وعكرمة والقاسم بن أبي برزة وعطاء ومقاتل وعبد الرحمن بن سابط والزهري والسدي وعبد الله بن أبي الهذيل ومالك بن أنس كلهم قالوا الذبيح إسحاق، وعليه أهل الكتابين اليهود والنصارى، واختاره غير واحد، منهم النحاس وابن جرير الطبري وغيرهما. قال وقال آخرون: هو إسماعيل، وممن قال بذلك أبو هريرة وأبو الطفيل عامر بن واثلة، وروي ذلك عن ابن عمر وابن عباس أيضاً، ومن التابعين سعيد بن المسيب والشعبي ويوسف بن مهران ومجاهد والربيع بن أنس ومحمد بن كعب القرظي والكلبي وعلقمة، وعن الأصمعي قال: سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح فقال: يا أصمعي أين عزب عنك عقلك، ومتى كان إسحاق بمكة؟ وإنما كان إسماعيل بمكة. قال ابن كثير في تفسيره: وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الذبيح هو إسحاق، وحكي ذلك عن طائفة من السلف حتى يقال عن بعض الصحابة وليس في ذلك كتاب ولا سنة، وما أظن ذلك تلقي إلا عن أخبار أهل الكتاب، وأخذ مسلماً من غير حجة، وكتاب الله شاهد مرشد إلى أنه إسماعيل، فإنه ذكر البشارة بالغلام الحليم، وذكر أنه الذبيح، وقال بعد ذلك "وبشرناه بإسحاق نبياً من الصالحين" اهـ. واحتج القائلون بأنه إسحاق بأن الله عز وجل قد أخبرهم عن إبراهيم حين فارق قومه، فهاجر إلى الشام مع امرأته سارة وابن أخيه لوط فقال: "إني ذاهب إلى ربي سيهدين" أنه دعا فقال: "رب هب لي من الصالحين" فقال تعالى "فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب" ولأن الله قال: "وفديناه بذبح عظيم" فذكر أنه في الغلام الحليم الذي بشر به إبراهيم، وإنما بشر بإسحاق، لأنه قال: "وبشرناه بإسحاق" وقال هنا "بغلام حليم" وذلك قبل أن يعرف هاجر، وقبل أن يصير له إسماعيل، وليس في القرآن أنه بشر بولد إلى إسحاق. قال الزجاج الله أعلم أيهما الذبيح اهـ، وما استدل به الفريقان يمكن الجواب عنه والمناقشة له. ومن جملة ما احتج به من قال إنه إسماعيل بأن الله وصفه بالصبر دون إسحاق كما في قوله: "وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين" وهو صبره على الذبح، ووصفه بصدق الوعد في قوله: "إنه كان صادق الوعد" لأنه وعد أباه من نفسه الصبر على الذبح، فوفى به، ولأن الله سبحانه قال: "وبشرناه بإسحاق نبياً" فكيف يأمره بذبحه، وقد وعده أن يكون نبياً، وأيضاً فإن الله قال: "فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب" فكيف يؤمر بذبح إسحاق قبل إنجاز الوعد في يعقوب، وأيضاً ورد في الأخبار تعليق قرن الكبش في الكعبة، فدل على أن الذبيح إسماعيل، ولو كان إسحاق لكان الذبح واقعاً ببيت المقدس وكل هذا أيضاً يحتمل المناقشة "فانظر ماذا ترى" قرأ حمزة والكسائي "تري" بضم الفوقية وكسر الراء، والمفعولان محذوفان: أي انظر ماذا تريني إياه من صبرك واحتمالك. وقرأ الباقون من السبعة بفتح التاء والراء من الرأي، وهو مضارع رأيت، وقرأ الضحاك والأعمش، ترى بضم التاء وفتح الراء مبنياً للمفعول: أي ماذا يخيل إليك ويسنح لخاطرك. قال الفراء في بيان معنى القراءة الأولى: انظر ماذا ترى من صبرك وجزعك. قال الزجاج: لم يقل هذا أحد غيره، وإنما قال العلماء ماذا تشير: أي ما تريك نفسك من الرأي، وقال أبو عبيد: إنما يكون هذا من رؤية العين خاصة وكذا قال أبو حاتم، وغلطهما النحاس وقال: هذا يكون من رؤية العين وغيرها، ومعنى القراءة الثانية ظاهر واضح، وإنما شاوره ليعلم صبره لأمر الله، وإلا فرؤيا الأنبياء وحي، وامتثالها لازم لهم متحتم عليهم "قال يا أبت افعل ما تؤمر" أي ما تؤمر به مما أوحي إليك من ذبحي، وما موصولة، وقيل مصدرية على معنى افعل أمرك، والمصدر مضاف إلى المفعول، وتسمية المأمور به أمراً، والأول أولى "ستجدني إن شاء الله من الصابرين" على ما ابتلاني به من الذبح، والتعليق بمشيئة الله سبحانه تبركاً بها منه.

فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ

103- "فلما أسلما" أي استسلما لأمر الله وأطاعاه وانقادا له. قرأ الجمهور أسلمنا وقرأ علي وابن مسعود وابن عباس فلما سلما أي فوضا أمرهما إلى الله، وروي عن ابن عباس أنه قرأ استسلما قال قتادة: أسلم أحدهما نفسه لله، وأسلم الآخر ابنه، يقال: سلم لأمر الله وأسلم واستسلم بمعنى واحد. وقد اختلف في جواب لما ماذا هو؟ فقيل هو محذوف، وتقديره ظهر صبرهما أو أجزلنا لهما أجرهما أو فديناه بكبش هكذا قال البصريون. وقال الكوفيون الجواب هو ناديناه، والواو زائدة مقحمة، واعترض عليهم النحاس بأن الواو من حروف المعاني ولا يجوز أن تزداد، وقال الأخفش الجواب "وتله للجبين" والواو زائدة، وروي هذا أيضاً عن الكوفيين، واعتراض النحاس يرد عليه كما ورد على الأول "وتله للجبين" التل: الصرع والدفع، يقال تللت الرجل: إذا ألقيته، والمراد أنه أضجعه على جبينه على الأرض، والجبين أحد جانبي الجبهة، فللوجه جبينان والجبهة بينهما، وقيل كبه على وجهه كيلا يرى منه ما يؤثر الرقة لقلبه. واختلف في الموضع الذي أراد ذبحه فيه، فقيل هو مكة في المقام، وقيل في المنحر بمعنى عند الجمار، وقيل على الصخرة التي بأصل جبل ثبير، وقيل بالشام.

وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ

104- " وناديناه أن يا إبراهيم * قد صدقت الرؤيا " أي عزمت على الإتيان بما رأيته. قال المفسرون: لما أضجعه للذبح نودي من الجبل يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا، وجعله مصدقاً بمجرد العزم وإن لم يذبحه لأنه قد أتى بما أمكنه، والمطلوب استسلامهما لأمر الله وقد فعلا. قال القرطبي: قال أهل السنة إن نفس الذبح لم يقع، ولو وقع لم يتصور رفعه، فكان هذا من باب النسخ قبل الفعل، لأنه لو حصل الفراغ من امتثال الأمر بالذبح ما تحقق الفداء.

قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ

قال: ومعنى. 105- "صدقت الرؤيا" فعلت ما أمكنك ثم امتنعت لما منعناك، هذا أصح ما قيل في هذا الباب. وقالت طائفة: ليس هذا مما ينسخ بوجه، لأن معنى ذبحت الشيء قطعته، وقد كان إبراهيم يأخذ السكين فيمر بها على حلقه فتنقلب كما قال مجاهد. وقال بعضهم: كان كلما قطع جزءاً التأم وقالت طائفة منهم السدي: ضرب الله على عنقه صفيحة نحاس، فجعل إبراهيم يحز ولا يقطع شيئاً. وقال بعضهم إن إبراهيم ما أمر بالذبح الحقيقي الذي هو فري الأوداج وإنهار الدم، وإنما رأى أنه أضجعه للذبح، فتوهم أنه أمر بالذبح الحقيقي فلما أتى بما به من الإضجاع قيل له قد "صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين" أي نجزيهم بالخلاص من الشدائد والسلامة من المحن، فالجملة كالتعليل لما قبلها. قال مقاتل: جزاه الله سبحانه بإحسانه في طاعته العفو عن ذبح ابنه.

إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ

106- "إن هذا لهو البلاء المبين" البلاء والابتلاء: الاختبار، والمعنى: إن هذا هو الاختبار الظاهر حيث اختبره الله في طاعته بذبح ولده. وقيل المعنى: إن هذا لهو النعمة الظاهرة حيث سلم الله ولده من الذبح وفداه بالكبش، يقال أبلاه الله إبلاءً وبلاءً: إذا أنعم عليه: والأول أولى، وإن كان الابتلاء يستعمل في الاختبار بالخير والشر، ومنه "ونبلوكم بالشر والخير فتنة" ولكن المناسب للمقام المعنى الأول. قال أبو زيد: هذا في البلاء الذي نزل به في أن يذبح ولده. قال: وهذا من البلاء المكروه.

وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ

107- "وفديناه بذبح عظيم" الذبح: اسم المذبوح وجمع ذبوح كالطحن اسم للمطحون، وبالفتح المصدر، ومعنى عظيم: عظيم القدر، ولم يرد عظم الجثة وإنما عظم قدره لأنه فدى به الذبيح، أو لأنه متقبل. قال النحاس: العظيم في اللغة يكون للكبير وللشريف، وأهل التفسير على أنه ها هنا للشريف: أي المتقبل. قال الواحدي: قال أكثر المفسرين: أنزل عليه كبش قد رعى في الجنة أربعين خريفاً. وقال الحسن: ما فدي إلا بتيس من الأورى أهبط عليه من ثبير فذبحه إبراهيم فداء عن ابنه. قال الزجاج: قد قيل إنه فدي بوعل، والوعل التيس الجبلي، ومعنى الآية: جعلنا الذبح فداء له وخلصناه به من الذبح.

وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ

108- "وتركنا عليه في الآخرين".

سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ

109- " وتركنا عليه في الآخرين * سلام على إبراهيم " أي في الأمم الآخرة التي تأتي بعده، والسلام الثناء الجميل. وقال عكرمة: سلام منا، وقيل سلامة من الآفات، والكلام في هذا كالكلام في قوله: "سلام على نوح في العالمين" وقد تقدم في هذه السورة بيان معناه، ووجه إعرابه.

كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ

110- "كذلك نجزي المحسنين" أي مثل ذلك الجزاء العظيم نجزي من انقاد لأمر الله.

إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ

111- "إنه من عبادنا المؤمنين" أي الذين أعطوا العبودية حقها ورسخوا في الإيمان بالله وتوحيده.

وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ

112- "وبشرناه بإسحاق نبياً من الصالحين" أي بشرنا إبراهيم بولد يولد له ويصير نبياً بعد أن يبلغ السن التي يتأهل فيها لذلك، وانتصاب نبياً على الحال، وهي حال مقدرة. قال الزجاج: إن كان الذبيح إسحاق فيظهر كونها مقدرة والأولى أن يقال إن من فسر الذبيح بإسحاق جعل البشارة هنا خاصة بنبوته. وفي ذكر الصلاح بعد النبوة تعظيم لشأنه، ولا حاجة إلى وجود المبشر به وقت البشارة، فإن وجود ذي الحال ليس بشرط، وإنما الشرط المقارنة للفعل، ومن الصالحين كما يجوز أن يكون صفة لـنبياً يجوز أن يكون حالاً من الضمير المستتر فيه، فتكون أحوالاً متداخلة.

وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ

113- "وباركنا عليه وعلى إسحاق" أي على إبراهيم وعلى إسحاق بمرادفة نعم الله عليهما، وقيل كثرنا ولدهما وقيل إن الضمير في عليه يعود إلى إسماعيل وهو بعيد، وقيل المراد بالمباركة هنا: هي الثناء الحسن عليهما إلى يوم القيامة "ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين" أي محسن في عمله بالإيمان والتوحيد، وظالم لها بالكفر والمعاصي لما ذكر سبحانه البركة في الذرية بين أن كون الذرية من هذا العنصر الشريف والحتد المبارك ليس بنافع لهم، بل إنما ينتفعون بأعمالهم، لا بآبائهم، فإن اليهود والنصارى وإن كانوا من ولد إسحاق فقد صاروا إلى ما صاروا إليه من الضلال البين، والعرب وإن كانوا من ولد إسماعيل فقد ماتوا على الشرك إلا من أنقذه الله بالإسلام. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "وجعلنا ذريته هم الباقين" يقول: لم يبق إلا ذرية نوح "وتركنا عليه في الآخرين" يقول: يذكر بخير. وأخرج الترمذي وحسنه وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "وجعلنا ذريته هم الباقين" قال: حام وسام ويافث. وأخرج ابن سعد وأحمد والترمذي وحسنه وأبو يعلى وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه عن سمرة أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سام أبو العرب، وحام أبو الحبش، ويافث أبو الروم" والحديثان هما من سماع الحسن عن سمرة، وفي سماعه منه مقال معروف، وقد قيل إنه لم يسمع منه إلا حديث العقيقة فقط وما عداه فبواسطة. قال ابن عبد البر: وقد روي عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله. وأخرج البزار وابن أبي حاتم والخطيب في تالي التلخيص عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ولد نوح ثلاثة: سام وحام ويافث، فولد سام العرب وفارس والروم والخير فيهم، وولد يافث يأجوج ومأجوج والترك والصقالبة ولا خير فيهم، وولد حام القبط والبربر والسودان" وهو من حديث إسماعيل بن عياش عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب عنه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: "فأقبلوا إليه يزفون" قال: يخرجون. وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً في قوله: "قال إني ذاهب إلى ربي" قال: حين هاجر. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً "فلما بلغ معه السعي" قال: العمل. وأخرج الطبراني عنه أيضاً قال: لما أراد إبراهيم أن يذبح إسحاق قال لأبيه: إذا ذبحتني فاعتزل لا اضطرب فينتضح عليك دمي فشده، فلما أخذ الشفرة وأراد أن يذبحه نودي من خلفه " أن يا إبراهيم * قد صدقت الرؤيا ". وأخرج أحمد عنه أيضاً مرفوعاً مثله مع زيادة وأخرجه عنه موقوفاً. وأخرج ابن المنذر والحاكم وصححه من طريق مجاهد عنه أيضاً في قوله: "وإن من شيعته لإبراهيم" قال: من شيعة نوح على منهاجه وسننه "فلما بلغ معه السعي" قال شب حتى بلغ سعيه سعي أبيه في العمل "فلما أسلما" سلما ما أمر به "وتله" وضع وجهه إلى الأرض، فقال لا تذبحني وأنت تنظر عسى أن ترحمني، فلا تجهز الأرض، فلما أدخل يده ليذبحه فلم تحل المدية حتى نودي: " أن يا إبراهيم * قد صدقت الرؤيا " فأمسك يده، قوله: "وفديناه بذبح عظيم" بكبش عظيم متقبل، وزعم ابن عباس أن الذبح إسماعيل. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رؤيا الأنبياء وحي" وأخرجه البخاري وغيره من قول عبيد بن عمير واستدل بهذه الآية. وأخرج ابن جرير والحاكم من طريق عطاء ابن أبي رباح عن ابن عباس قال: المفدي إسماعيل، وزعمت اليهود أنه إسحاق وكذبت اليهود. وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق الشعبي عن ابن عباس قال: الذبيح إسماعيل. وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق مجاهد ويوسف بن ماهك عن ابن عباس قال الذبيح إسماعيل. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير من طريق يوسف بن ماهك وأبي الطفيل عن ابن عباس قال الذبيح إسماعيل. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه عن ابن عمر في قوله: "وفديناه بذبح عظيم" قال: إسماعيل ذبح عنه إبراهيم الكبش. وأخرج عبد بن حميد من طريق الفرزدق الشاعر قال: رأيت أبا هريرة يخطب على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: إن الذي أمر بذبحه إسماعيل. وأخرج البزار وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وابن مردويه عن العباس بن عبد المطلب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال نبي الله داود: يا رب أسمع الناس يقولون: رب إبراهيم وإسحاق ويعقوب فاجعلني رابعاً، قال: إن إبراهيم ألقي في النار فصبر من أجلي، وإن إسحاق جاد لي بنفسه، وإن يعقوب غاب عنه يوسف، وتلك بلية لم تنلك" وفي إسناده الحسن بن دينار البصري، وهو متروك عن علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف. وأخرج الديلمي عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً نحوه. وأخرج الدارقطني في الأفراد والديلمي عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الذبيح إسحاق". وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن العباس بن عبد المطلب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "الذبيح إسحاق". وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة مرفوعاً مثله. وأخرج ابن مردويه عن بهار وكانت له صحبة، قال: إسحاق ذبيح الله. وأخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن مسعود قال سئل النبي صلى الله عليه وسلم من أكرم الناس؟ قال: "يوسف بن يعقوب بن إسحاق ذبيح الله". وأخرج عبد الرزاق والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال: الذبيح إسحاق. وأخرج عبد بن حميد والبخاري في تاريخه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن العباس بن عبد المطلب قال: الذبيح إسحاق. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر والحاكم من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: الذبيح إسحاق. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال: صرعه للذبح. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن علي بن أبي طالب في قوله: "وفديناه بذبح عظيم" قال: كبش أعين أبيض أقرن قد ربط بسمرة في أصل ثبير. وأخرج ابن أبي شيبة ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وفديناه بذبح عظيم" قال: كبش قد رعى في الجنة أربعين خريفاً، وأخرج عبد بن حميد عنه قال: فدي إسماعيل بكبشين أملحين أقرنين أعينين. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس أن رجلاً قال: نذرت لأنحر نفسي، فقال ابن عباس: لقد كان لكم في روسل الله أسوة حسنة، ثم تلا "وفديناه بذبح عظيم"، فأمره بكبش فذبحه. وأخرج الطبراني من طريق أخرى عنه نحوه. وأخرج ابن جرير عنه أيضاً في قوله: "وبشرناه بإسحاق نبياً من الصالحين" قال: إنما بشر به نبياً حين فداه الله من الذبح ولم تكن البشارة بالنبوة عند مولده. وبما سقناه من الاختلاف في الذبيح هل هو إسحاق أو إسماعيل، وما استدل به المختلفون في ذلك تعلم أنه لم يكن في المقام ما يوجب القطع أو يتعين رجحانه تعيناً ظاهراً، وقد رجح كل قول طائفة من المحققين المنصفين كابن جرير فإنه رجح أنه إسحاق، ولكنه لم يستدل على ذلك إلا ببعض مما سقناه ها هنا، وكابن كثير فإنه رجح أنه إسماعيل، وجعل الأدلة على ذلك أقوى وأصح، وليس الأمر كما ذكره، فإنها إن لم تكن دون أدلة القائلين بأن الذبيح إسحاق لم تكن فوقها ولا أرجح منها، ولم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك شيء، وما روي عنه فهو إما موضوع أو ضعيف جداً، ولم يبق إلا مجرد استنباطات من القرآن كما أشرنا إلى ذلك فيما سبق، وهي محتملة ولا تقوم حجة بمحتمل، فالوقف هو الذي لا ينبغي مجاوزته، وفي السلامة من الترجيح، بلا مرجح، ومن الاستدلال بما هو محتمل.

وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ

لما فرغ سبخانه من ذكر إنجاء الذبيح من الذبح، وما من عليه بعد ذلك من النبوة ذكر ما من به على موسى وهارون، فقال: 114- "ولقد مننا على موسى وهارون" يعني بالنبوة وغيرهما من النعم العظيمة التي أنعم الله بها عليهما.

وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ

115- "ونجيناهما وقومهما من الكرب العظيم" المراد بقومهما هم المؤمنون من بني إسرائيل، والمراد بالكرب العظيم هو ما كانوا فيه من استعباد فرعون إياهم، وما كان نصيبهم من جهته من البلاء، وقيل هو الغرق الذي أهلك فرعون وقومه، والأول أولى.

وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ

116- "ونصرناهم" جاء بضمير الجماعة. قال الفراء: الضمير لموسى وهارون وقومهما، لأن قبله ونجيناهما وقومهما، والمراد بالنصر التأييد لهم على عدوهم "فكانوا" بسبب ذلك "هم الغالبين" على عدوهم بعد أن كانوا تحت أسرهم وقهرهم، وقيل الضمير في نصرناهم عائد على الاثنين موسى وهارون تعظيماً لهما، والأول أولى.

وَآَتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ

117- "وآتيناهما الكتاب المستبين" المراد بالكتاب التوراة: والمستبين: البين الظاهر، يقال استبان كذا. أي صار بيناً.

وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ

118- " وهديناهما الصراط المستقيم " أي القيم لا اعوجاج فيه، وهو دين الإسلام فإنه الطريق الموصلة إلى المطلوب.

وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآَخِرِينَ

119- "وتركنا عليهما في الآخرين".

سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ

120- " وتركنا عليهما في الآخرين * سلام على موسى وهارون " أي أبقينا عليهما في الأمم المتأخرة الثناء الجميل، وقد قدمنا الكلام في السلام وفي وجه إعرابه بالرفع، وكذلك تقدم تفسير.

إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ

121- "إنا كذلك نجزي المحسنين".

إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ

122- " إنا كذلك نجزي المحسنين * إنهما من عبادنا المؤمنين " في هذه السورة.

وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ

123- "وإن إلياس لمن المرسلين" قال المفسرون: هو نبي من أنبياء بني إسرائيل، وقصته مشهورة مع قومه، قيل وهو إلياس بن يس من سبط هارون أخي موسى. قال ابن إسحاق وغيره: كان إلياس هو القيم بأمر بني إسرائيل بعد يوشع، وقيل هو إدريس، والأول أولى. قرأ الجمهور "إلياس" بهمزة مكسورة مقطوعة، وقرأ ابن ذكوان بوصلها، ورويت هذه القراءة عن ابن عامر، وقرأ ابن مسعود والأعمش ويحيى بن وثاب وإن إدريس لمن المرسلين وقرأ أبي وإن إبليس بهمزة مكسورة ثم تحتية ساكنة ثم لام مكسورة ثم تحتية ساكنة ثم سين مهملة مفتوحة.

إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ

124- "إذ قال لقومه ألا تتقون" هو ظرف لقوله من المرسلين، أو متعلق بمحذوف: أي اذكر يا محمد إذ قال، والمعنى: ألا تتقون عذاب الله.

أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ

ثم أنكر عليهم بقوله: 125- "أتدعون بعلاً" هو اسم لصنم كانوا يعبدونه: أي أتعبدون صنماً وتطلبون الخير منه. قال ثعلب: اختلف الناس في قول سبحانه بعلاً فقالت طائفة: البعل هنا الصنم، وقالت طائفة: البعث هنا ملك، وقال ابن إسحاق: امرأة كانوا يعبدونها. قال الواحدي: والمفسرون يقولون رباً، وهو بلغة اليمن، يقولون للسيد والرب البعل. قال النحاس: القولان صحيحان: أي أتدعون صنماً عملتوه رباً "وتذرون أحسن الخالقين" أي وتتركون عبادة أحسن من يقال له خالق.

اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ

وانتصاب الاسم الشريف في قوله: 126- "الله ربكم ورب آبائكم الأولين" على أنه بدل من أحسن، هذا على قراءة حمزة والكسائي والربيع بن خثيم وابن أبي إسحاق ويحيى بن وثاب والأعمش، فإنهم قرأوا بنصب الثلاثة الأسماء، وقيل النصب على المدح، وقيل على عطف البيان، وحكى أبو عبيد أن النصب على النعت. قال النحاس: وهو غلط وإنما هو بدل، ولا يجوز النعت لأنه ليس بتحلية واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وأبو جعفر وشيبة ونافع بالرفع. قال أبو حاتم: بمعنى هو الله ربكم. قال النحاس: وأولى ما قيل إنه مبتدأ وخبر بغير إضمار ولا حذف. وحكي عن الأخفش أن الرفع أولى وأحسن. قال ابن الأنباري: من رفع أو نصب لم يقف على أحسن الخالقين على جهة التمام لأن الله مترجم عن أحسن الخالقين على الوجهين جميعاً، والمعنى، أنه خالقكم وخالق من قبلكم فهو الذي تحق له العبادة.

فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ

127- "فكذبوه فإنهم لمحضرون" أي فإنه بسبب تكذيبه لمحضرون في العذاب، وقد تقدم أن الإحضار المطلق مخصوص بالشر.

إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ

128- "إلا عباد الله المخلصين" أي من كان مؤمناً به من قومه، قرئ بكسر اللام وفتحها كما تقدم، والمعنى على قراءة الكسر: أنهم أخلصوا لله، وعلى قراءة الفتح: أن الله استخلصهم من عباده.

وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ

وقد تقدم تفسير 129- "وتركنا عليه في الآخرين".

سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ

وقد تقدم تفسير 130- " وتركنا عليه في الآخرين * سلام على إل ياسين " قرأ نافع وابن عامر والأعرج وشيبة " على إل ياسين " بإضافة آل بمعنى آل ياسين، وقرأ الباقون بكسر الهمزة وسكون اللام موصولة بياسين إلا الحسن، فإنه قرأ الياسين بإدخال آلة التعريف على ياسين، قيل المراد على هذه القراءات كلها إلياس، وعليه وقع التسليم، ولكنه اسم أعجمي، والعرب تضطرب في هذه الأسماء الأعجمية ويكثر تغييرهم لها. قال ابن جني: العرب تتلاعب بالأسماء الأعجمية تلاعباً، فياسين، وإلياس، وإلياسين شيء واحد. قال الأخفش: العرب تسمي قوم الرجل باسم الرجل الجليل منهم، فيقولون المهالبة على أنهم سموا كل رجل منهم بالمهلب. قال: فعلى هذا إنه سمى كل رجل منهم بالياسين. قال الفراء: يذهب بالياسين إلى أن يجعله جمعاً فيجعل أصحابه داخلين معه في اسمه. قال: أبو علي الفارسي: تقديره الياسيين إلى أن الياءين للنسبة حذفتا كما حذفتا في الأشعرين والأعجمين. ورجح الفراء وأبو عبيدة قراءة الجمهور قالا: لأنه لم يقل في شيء من السور على آل فلان، إنما جاء بالاسم كذلك الياسين لأنه إنما هو بمعنى إلياس أو بمعنى إلياس وأتباعه. وقال الكلبي: المراد بآل ياسين آل محمد. قال الواحدي: وهذا بعيد لأن ما بعده من الكلام وما قبله لا يدل عليه.

إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ

وقد تقدم تفسير 131- "إنا كذلك نجزي المحسنين".

إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ

وقد تقدم تفسير 132- " إنا كذلك نجزي المحسنين * إنه من عبادنا المؤمنين " مستوفى.

وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ

133- "وإن لوطاً لمن المرسلين" قد تقدم ذكر قصة لوط مستوفاة.

إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ

134- "إذ نجيناه وأهله أجمعين" الظرف متعلق بمحذوف هو اذكر ولا يصح تعلقه بالمرسلين، لأنه لم يرسل وقت تنجيته.

إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ

135- "إلا عجوزاً في الغابرين" قد تقدم أن الغابر يكون بمعنى الماضي، ويكون بمعنى الباقي، فالمعنى: إلا عجوزاً في الباقين في العذاب، أو الماضين الذين قد هلكوا.

ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآَخَرِينَ

136- "ثم دمرنا الآخرين" أي أهلكناهم بالعقوبة، والمعنى: أن في نجاته وأهله جميعاً إلا العجوز وتدمير الباقين من قومه الذين لا يؤمنوا به دلالة بينة على ثبوت كونه من المرسلين.

وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ

137- "وإنكم لتمرون عليهم مصبحين" خاطب بهذا العرب أو أهل مكة على الخصوص: أي تمرون على منازلهم التي فيها آثار العذاب وقت الصباح.

وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ

138- "وبالليل" والمعنى تمرون على منازلهم في ذهابكم إلى الشام ورجوعكم منه نهاراً وليلاً "أفلا تعقلون" ما تشاهدونه في ديارهم من آثار عقوبة الله النازلة بهم، فإن في ذلك عبرة للمعتبرين وموعظة للمتدبرين.

وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ

139- "وإن يونس لمن المرسلين" يونس هو ذو النون، وهو ابن متى. قال المفسرون: وكان يونس قد وعد قومه العذاب.

إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ

فلما تأخر عنهم العذاب خرج عنهم وقصد البحر وركب السفينة، فكان بذهابه إلى البحر كالفار من مولاه فوصف بالإباق، وهو معنى قوله: 140- "إذ أبق إلى الفلك المشحون" وأصل الإباق الهرب من السيد، لكن لما كان هربه من قومه بغير إذن ربه وصف به. وقال المبرد. تأويل أبق بباعد: أي ذهب إليه، ومن ذلك قولهم عبد آبق. وقد اختلف أهل اعلم هل كانت رسالته قبل التقام الحوت إياه أو بعده؟ ومعنى المشحون: المملوء.

فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ

141- " فساهم فكان من المدحضين " المساهمة أصلها المغالبة، وهي الاقتراع، وهو أن يخرج السهم على من غلب. قال المبرد: أي فقارع. قال: وأصله من السهام التي تجال، ومعنى "فكان من المدحضين" فصار من المغلوبين. قال: يقال دحضت حجته ودحضها الله، وأصله من الزلق عن مقام الظفر، ومنه قول الشاعر: قتلنا المدحضين بكل فج فقد قرت بقتلهم العيون أي المغلوبين.

فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ

142- "فالتقمه الحوت وهو مليم" يقال لقمت اللقمة والتقمتها: إذا ابتلعتها: أي فابتلعه الحوت، ومعنى "وهو مليم" وه مستحق للوم، يقال: رجل مليم إذا أتى بما يلام عليه، وأما الملوم فهو الذي يلام سواء أتى بما يستحق أن يلام عليه أم لا، وقيل المليم المعيب، يقال ألام الرجل إذا عمل شيئاً صار به معيباً. ومعنى هذه المساهمة: أن يونس لما ركب السفينة احتبست، فقال الملاحون: ها هنا عبد أبق من سيده، وهذا رسم السفينة إذا كان فيها آبق لا تجري، فاقترعوا فوقعت القرعة على يونس، فقال أنا الآبق وزج نفسه في الماء. قال سعيد بن جبير: لما استهموا جاء حوت إلى السفينة فاغراً فاه ينتظر أمر ربه حتى إذا ألقى نفسه في الماء أخذه الحوت.

فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ

143- "فلولا أنه كان من المسبحين" أي الذاكرين لله، أو المصلين له.

لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ

144- "للبث في بطنه إلى يوم يبعثون" أي لصار بطن الحوت له قبراً إلى يوم البعث، وقيل للبث في بطنه حياً. واختلف المفسرون كم أقام في بطن الحوت؟ فقال السدي والكلبي ومقاتل بن سليمان: أربعين يوماً. وقال الضحاك: عشرين يوماً. وقال عطاء: سبعة أيام. وقال مقاتل بن حبان: ثلاثة أيام، وقيل ساعة واحدة. وفي هذه الآية ترغيب في ذكر الله، وتنشيط للذاكرين له.

فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ

145- "فنبذناه بالعراء وهو سقيم" النبذ الطرح. والعراء.. قال ابن الأعرابي: هو الصحراء، وقال الأخفش: الفضاء، وقال أبو عبيدة: الواسع من الأرض، وقال الفراء: المكان الخالي. وروي عن أبي عبيدة أيضاً أنه قال: هو وجه الأرض، وأنشد لرجل من خزاعة: ورفعت رجلاً لا أخاف عثارها ونبذت بالبلد العراء ثيابي والمعنى: أن الله طرحه من بطن الحوت في الصحراء الواسعة التي لا نبات فيها، وهو عند إلقائه سقيم لما ناله في بطن الحوت من الضرر، قيل صار بدنه كبدن الطفل حين يولد. وقد استشكل بعض المفسرين الجمع بين ما وقع هنا من قوله: "فنبذناه بالعراء"، وقوله في موضع آخر: "لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم" فإن هذه الآية تدل على أنه لم ينبذ بالعراء. وأجاب النحاس وغيره بأن الله سبحانه أخبرها هنا أنه نبذ بالعراء وهو غير مذموم، ولوا رحمته عز وجل لنبذ بالعراء وهو مذموم.

وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ

146- "وأنبتنا عليه شجرة من يقطين" أي شجرة فوقه تظللعليه، وقيل معنى عليه عنده وقيل معنى عليه له. واليقطين هي شجرة الدباء. وقال المبرد: اليقطين يقال لكل شجرة ليس لها ساق، بل تمتد على وجه الأرض نحو الدباء والبطيخ والحنظل، فإن كان لها ساق يقلها فيقال لها شجرة فقط، وهذا قول الحسن ومقاتل وغيرهما. وقال سعيد بن جبير: هو كل شيء ينبت ثم يموت من عامه. قال الجوهري: اليقطين ما لا ساق له من شجر كشجر القرع ونحوه. قال الزجاج: اشتقاق اليقطين من قطن بالمكان: أي أقام به فهو يفعيل، وقيل هو اسم أعجمي. قال المفسرون: كان يستظل بظلها من الشمس، وقيض الله له أروية من الوحش تروح عليه بكرة وعشية.

وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ

فكان يشرب من لبنها حتى اشتد لحمه ونبت شعره ثم أرسله الله بعد ذلك، وهو معنى قوله: 147- "وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون" هم قومه الذي هرب منهم إلى البحر وجرى له ما جرى بعد هربه كما قصه الله علينا في هذه السورة، وهم أهل نينوى. قال قتادة: أرسل إلى أهل نينوى من أرض الموصل، وقد مر الكلام على قصته في سورة يونس مستوفى، وأو في أو يزيدون قيل هي بمعنى الواو، والمعنى: ويزيدون. وقال الفراء: أو ها هنا بمعنى بل، وهو قول مقاتل والكلبي. وقال المبرد والزجاج والأخفش: أو هنا على أصله، والمعنى: أو يزيدون في تقديركم إذا رآهم الرائي قال هؤلاء مائة ألف أو يزيدون، فالشك إنما دخل على حكاية قول المخلوقين. قال مقاتل والكلبي: كانوا يزيدون عشرين ألفاً. وقال الحسن: بضعاً وثلاثين ألفاً. وقال سعيد بن جبير: سبعين ألفاً. وقرأ جعفر بن محمد ويزيدون بدون ألف الشك. وقد وقع الخلاف بين المفسرين هل هذا الإرسال المذكور هو الذي كان قبل التقام الحوت له، وتكون الواو في وأرسلناه لمجرد الجمع بين ما وقع له مع الحوت وبين إرساله إلى قومه من غير اعتبار تقديم ما تقدم في السياق وتأخير ما تأخر، أو هو إرسال له بعد ما وقع له مع الحوت ما وقع على قولين، وقد قدمنا الإشارة إلى الاختلاف بين أهل العلم هل كان قد أرسل قبل أن يهرب من قومه إلى البحر أو لم يرسل إلا بعد ذلك؟ والراجح أنه كان رسولاً قبل أن يذهب إلى البحر كما يدل عليه ما قدمنا في سورة يونس وبقي مستمراً على الرسالة، وهذا الإرسال المذكور هنا هو بعد تقدم نبوته ورسالته.

فَآَمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ

1480 "فآمنوا فمتعناهم إلى حين" أي وقع منهم الإيمان بعد ما شاهدوا أعلام نبوته فمتعهم الله في الدنيا إلى حين انقضاء آجالهم ومنتهى أعمارهم. وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن عساكر عن ابن مسعود قال: إلياس هو إدريس. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة مثله. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الخضر هو إلياس". وأخرج الحاكم وصححه والبيهقي في الدلائل وضعفه عن أنس قال "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فنزل منزلاً فإذا رجل في الوادي يقول: اللهم اجعلني من أمة محمد صلى الله عليه وسلم المرحومة المغفور المثاب لها فأشرفت على الوادي فإذا طوله ثمانون ذراعاً وأكثر، فقال من أنت؟ فقلت: أنس خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أين هو؟ فقلت: هو ذا يسمع كلامك، قال فأته وأقرئه مني السلام وقل له أخوك إلياس يقرئك السلام، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فجاء حتى عانقه وقعدا يتحدثان، فقال له: يا رسول الله إني إنما آكل في كل سنة يوماً وهذا يوم فطري فآكل أنا وأنت، فنزلت عليهما المائدة من السماء خبز وحوت وكرفس، فأكلا وأطعماني وصليا العصر ثم ودعه، ثم رأيته مر على السحاب نحو السماء". قال الذهبي متعقباً لتصحيح الحاكم له: بل موضوع قبح الله من وضعه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن ابن عباس في قوله: "أتدعون بعلاً" قال: صنماً. وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عنه في قوله: " سلام على إل ياسين " قال: نحن آل محمد آل ياسين. وأخرج وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: بعث الله يونس إلى أهل قريته فردوا عليه ما جاءهم به فامتنعوا منه، فلما فعلوا ذلك أوحى الله إليهم إني مرسل عليهم العذاب في يوم كذا وكذا. فاخرج من بين أظهرهم، فاعلم قومه الذي وعد الله من عذابه إياهم، فقالوا ارمقوه فإن خرج من بين أظهركم فهو والله كائن ما وعدكم، فلما كانت الليل التي وعدوا بالعذاب في صبيحتها أدلج فرآه القوم فحذروا، فخرجوا من القرية إلى براز من أرضهم وفرقوا بين كل دابة وولدها، ثم عجوا إلى الله وأنابوا واستقالوا فأقالهم الله، وانتظر يونس الخبر عن القرية وأهلها حتى مر به مار، فقال ما فعل أهل القرية؟ قال: إن نبيهم لما خرج من بين أظهرهم عرفوا أنه قد صدقهم ما وعدهم من العذاب، فخرجوا من قريتهم إلى براز من الأرض، ثم فرقوا بين كل ذات ولد وولدها ثم عجوا إلى الله وتابوا إليه، فتقبل منهم وأخر عنهم العذاب، فقال يونس عند ذلك: لا أرجع إليهم كذاباً أبداً ومضى على وجهه، وقد قدمنا الكلام على قصته وما روي فيها من سورة يونس فلا نكرره. وأخرج ابن جرير وابن المنذر والبيهقي عن ابن عباس في قوله: "فساهم" قال: اقترع "فكان من المدحضين" قال: المقروعين. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله: "وهو مليم" قال: مسيء. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وأحمد في الزهد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله: "فلولا أنه كان من المسبحين" قال: من المصلين. وأخرج وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله: "فلولا أنه كان من المسبحين" قال: من المصلين. وأخرج وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً "فنبذناه بالعراء" قال: ألقيناه بالساحل. وأخرج هؤلاء عنه أيضاً "شجرة من يقطين" قال: القرع. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر من طريق سعيد بن جبير عنه أيضاً قال: اليقطين كل شيء يذهب على وجه الأرض. وأخرج أحمد في الزهد وعبد بن حميد وابن جرير وابن مردويه عنه أيضاً قال: إنما كانت رسالة يونس بعد ما نبذه الحوت، ثم تلا "فنبذناه بالعراء" إلى قوله: "وأرسلناه إلى مائة ألف" وقد تقدم عنه ما يدل على أن رسالته كانت من قبل ذلك: وليس في الآية: ما يدل على ما ذكره كما قدمنا. وأخرج الترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي بن كعب قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله: "وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون" قال: يزيدون عشرين ألفاً. قال الترمذي: غريب. وأخرج وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: يزيدون ثلاثين ألفاً. وروي عنه أنهم يزيدون بضعة وثلاثين ألفاً وروي عنه أنهم يزيدون بضعة وأربعين ألفاً. ولا يتعلق بالخلاف في هذا كثير فائدة.

فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ

لما كانت قريش وقبائل من العرب يزعمون أن الملائكة بنات الله أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم باستفتائهم على طريقة التقريع والتوبيخ، فقال: 149- "فاستفتهم" يا محمد: أي استخبرهم "ألربك البنات ولهم البنون" أي كيف يجعلون لله على تقدير صدق ما زعموه من الكذب أدنى الجنسين وأوضعهما وهو الإناث، ولهم أعلاهما وأرفعهما وهم الذكور، وهل هذا إلا حيف في القسمة لضعف عقولهم وسوء إدراكهم ومثله قوله: " ألكم الذكر وله الأنثى * تلك إذا قسمة ضيزى ".

أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ

ثم زاد في توبيخهم وتقريعهم فقال: 150- "أم خلقنا الملائكة إناثاً وهم شاهدون" فأضرب عن الكلام الأول إلى ما هو أشد منه في التبكيت والتهكم بهم: أي كيف جعلوهم إناثاً وهم لم يحضروا عند خلقنا لهم، وهذا كقوله: "وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً أشهدوا خلقهم" فبين سبحانه أن مثل ذلك لا يعلم إلا بالمشاهدة ولم يشهدوا، ولا دل دليل على قولهم من السمع، ولا هو مما يدرك بالعقل حتى ينسبوا إدراكه إلى عقولهم.

أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ

ثم أخبر سبحانه عن كذبهم فقال: 151- "ألا إنهم من إفكهم ليقولون".

وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ

ثم أخبر سبحانه عن كذبهم فقال: 152- " ألا إنهم من إفكهم ليقولون * ولد الله وإنهم لكاذبون " فبين سبحانه أن قولهم هذا هو من الإفك والافتراء من دون دليل ولا شبهة دليل فإنه لم يلد ولم يولد. قرأ الجمهور "ولد الله" فعلاً ماضياً مسنداً إلى الله. قرئ بإضافة ولد إلى الله على أنه خبر مبتدأ محذوف: أي يقولون الملائكة ولد الله، والولد بمعنى مفعول يستوي فيه المفرد والمثنى والمجموع والمذكر والمؤنث.

أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ

ثم كرر سبحانه تقريعهم وتوبيخهم فقال: 153- "أصطفى البنات على البنين" قرأ الجمهور بفتح الهمزة على أنها للاستفهام الإنكاري، وقد حذف معها همزة الوصل استغناء به عنها. وقرأ نافع في رواية عنه وأبو جعفر وشيبة والأعمش بهمزة وصل تثبت ابتداء وتسقط درجاً، ويكون الاستفهام منوياً قاله الفراء. وحذف حرفه للعلم به من المقام، أو على أن اصطفى وما بعده بدل من الجملة المحكية بالقول. وعلى تقدير عدم الاستفهام والبدل. فقد حكى جماعة من المحققين منهم الفراء أن التوبيخ يكون باستفهام وبغير استفهام كما في قوله: "أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا" وقيل هو على إضمار القول.

مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ

154- "ما لكم كيف تحكمون" جملتان استفهاميتان ليس لأحدهما تعلق بالأخرى من حيث الإعراب: استفهمهم أولاً عما استقر لهم وثبت استفهام بإنكار، وثانياً استفهام تعجب من هذا الحكم الذي حكموا به، والمعنى: أي شيء ثبت لكم كيف تحكون لله بالبنات وهم القسم الذي تكرهونه، ولكم بالبنين وهم القسم الذي تحبونه.

أَفَلَا تَذَكَّرُونَ

155- "أفلا تذكرون" أي تتذكرون فحذفت إحدى التاءين، والمعنى: ألا تعتبرون وتتفكرون فتتذكرون بطلان قولكم.

أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ

156- "أم لكم سلطان مبين" أي حجة واضحة ظاهرة على هذا الذي تقولونه، وهو إضراب عن توبيخ إلى توبيخ وانتقال من تقريع إلى تقريع.

فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ

157- " فاتوا بكتابكم إن كنتم صادقين " أي فأتوا بحجتكم الواضحة على هذا إن كنتم صادقين فيما تقولونه، أو فأتوا بالكتاب الذي ينطق لكم بالحجة ويشتمل عليها.

وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ

158- "وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً" قال أكثر المفسرين: إن المراد بالجنة هنا الملائكة، قيل لهم جنة لأنهم لا يرون. وقال مجاهد: هم بطن من بطون الملائكة يقال لهم الجنة. وقال أبو مالك: إنما قيل لهم الجنة لأنهم خزان على الجنان. والنسب الصهر. قال قتادة والكلبي: قالوا لعنهم الله: إن الله صاهر الجن فكانت الملائكة من أولادهم، قالا: والقائل بهذه المقالة اليهود. وقال مجاهد والسدي ومقاتل: إن القائل بذلك كنانة وخزاعة قالوا: إن الله خطب إلى سادات الجن فزوجوه من سروات بناتهم، فالملائكة بنات الله من سروات بنات الجن. وقال الحسن: أشركوا الشيطان في عباده الله، فهو النسب الذي جعلوه . ثم رد الله سبحانه عليهم بقوله : " ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون " أي علموا أن هؤلاء الكفار الذي قالوا هذا القول يحضرون النار ويعذبون فيها. وقيل علمت الجنة أنهم أنفسهم يحضرون للحساب. والأول أولى، لأن الإحضار إذا أطلق فالمراد بالعذاب: وقيل المعنى: ولقد علمت الجنة أنهم لمحضرون إلى الجنة.

سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ

ثم نزه سبحانه نفسه فقال: 159- "سبحان الله عما يصفون" أو هو حكاية لتنزيه الملك لله عز وجل عما وصفه به المشركون.

إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ

والاستثناء في قوله: 160- "إلا عباد الله المخلصين" منقطع، والتقدير: لكن عباد الله المخلصين بريئون عن أن يصفوا الله بشيء من ذلك. وقد قرئ بفتح اللام وكسرها ومعناهما ما بيناه قريباً. وقيل هو استثناء من المحضرين: أي إنهم يحضرون النار إلا من أخلص، فيكون متصلاً لا منقطعاً، وعلى هذا تكون جملة التسبيح معترضة.

فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ

ثم خاطب الكفار على العموم أو كفار مكة على الخصوص فقال: 161- "فإنكم وما تعبدون".

مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ

ثم خاطب الكفار على العموم أو كفار مكة على الخصوص فقال: 162- " فإنكم وما تعبدون * ما أنتم عليه بفاتنين " أي فإنكم وآلهتكم التي تعبدون من دون الله لستم بفاتنين على الله بإفساد عباده وإضلالهم، وعلى متعلقة بفاتنين، والواو في وما تعبدون إما للعطف على اسم إن، أو هو بمعنى مع، وما موصولة أو مصدرية: أي فإنكم والذي تعبدون، أو وعبادتكم، ومعنى فاتنين مضلين، يقال فتنت الرجل وأفتنته، ويقال فتنه عن الشيء وبالشيء كما يقال أضله على الشيء وأضله به. قال الفراء: أهل الحجاز يقولون فتنته، وأهل نجد يقولون أفتنته، ويقال فتن فلان على فلان امرأته: أي أفسدها عليه، فالفتنة هنا بمعنى الإضلال والإفساد. قال مقاتل: يقول ما أنتم بمضلين أحداً بآلهتكم إلا من قدر الله له أن يصلى الجحيم، وما في وما أنتم نافية وأنتم خطاب لهم ولمن يعبدونه على التغليب. قال الزجاج: أهل التفسير مجمعون فيما علمت أن المعنى: ما أنتم بمضلين أحداً إلا من قدر الله عز وجل عليه أن يضل، ومنه قول الشاعر: فرد بفتنته كيده وكان لنا فاتنا أي مضلاً.

إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ

163- "إلا من هو صال الجحيم" قرأ الجمهور صال بكسر اللام لأنه منقوص مضاف حذفت الياء لالتقاء الساكنين وحمل على لفظ من، وأفرد كما أفرد هو. وقرأ الحسن وابن أبي عبلة بضم اللام مع واو بعدها، وروي عنهما أنهما قرآ بضم اللام بدون واو. فأما مع الواو فعلى أنه جمع سلامة بالواو حملاً على معنى من، وحذفت نون الجمع للإضافة، وأما بدون الواو فيحتمل أن يكون جمعاً، وإنما حذفت الواو خطاً كما حذفت لفظاً، ويحتمل أن يكون مفرداً، وحقه على هذا كسر اللام. قال النحاس: وجماعة أهل التفسير يقولون: إنه لحن لأنه لا يجوز هذا قاض المدينة، والمعنى: أن الكفار وما يعبدونه لا يقدرون على إضلال أحد من عباد الله إلا من هو من أهل انار وهم المصرون على الكفر، وإنما يصير على الكفر من سبق القضاء عليه بالشقاوة، وإنه ممن يصلى النار: أي يدخلها. ثم قال الملائكة مخبرين للنبي صلى الله عليه وسلم كما حكاه الله سبحانه عنهم.

وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ

164- "وما منا إلا له مقام معلوم" وفي الكلام حذف، والتقدير: وما منا أحد، أو وما منا ملك إلا له مقام معلوم في عبادة الله. وقيل التقدير: وما منا إلا من له مقام معلوم، رجح البصريون التقدير الأول، ورجح الكوفين الثاني. قال الزجاج: هذا قول الملائكة وفيه مضمر. المعنى وما منا مل إلا له مقام معلوم.

وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ

ثم قالوا: 165- "وإنا لنحن الصافون" أي في مواقف الطاعة. قال قتادة: هم الملائكة صفوا أقدامهم. وقال الكلبي: صفوف الملائكة في السماء كصفوف أهل الدنيا في الأرض.

وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ

166- "وإنا لنحن المسبحون" أي المنزهون لله المقدسون له عما أضافه إليه المشركون، وقيل المصلون، وقيل المراد بقولهم المسبحون مجموع التسبيح باللسان وبالصلاة، والمقصود أن هذه الصفات هي صفات الملائكة، وليسوا كما وصفهم به الكفار من أنهم بنات الله.

وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ

167- "وإن كانوا ليقولون" هذا رجوع إلى الإخبار عن المشركين: أي كانوا قبل المبعث المحمدي إذا عيوا بالجهل قالوا.

لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ

168- "لو أن عندنا ذكراً من الأولين" أي كتاباً من كتب الأولين كالتوراة والإنجيل.

لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ

169- "لكنا عباد الله المخلصين" أي لأخلصنا العبادة له ولم نكفر به، وإن في قوله: "وإن كانوا" هي المخففة من الثقيلة، وفيها ضمير شأن محذوف، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية: أي وإن الشأن كان كفار العرب ليقولون إلخ.

فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ

والفاء في قوله: 170- "فكفروا به" هي الفصيحة الدالة على محذوف مقدر في الكلام. قال الفراء: تقديره فجاءهم محمد بالذكر فكفروا به، وهذا على طريق التعجب منهم "فسوف يعلمون" أي عاقبة كفرهم ومغبته، وفي هذا تهديد لهم شديد.

وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ

وجملة 171- "ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين" مستأنفة مقررة للوعيد، والمراد بالكلمة ما وعدهم الله به من النصر والظفر على الكفار. قال مقاتل: عنى بالكلمة قوله سبحانه: "كتب الله لأغلبن أنا ورسلي". وقال الفراء: سبقت كلمتنا بالسعادة لهم.

إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ

والأولى تفسير هذه الكلمة بما هو مذكور هنا، فإنه قال: 172- "إنهم لهم المنصورون".

وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ

والأولى تفسير هذه الكلمة بما هو مذكور هنا، فإنه قال: 173- " إنهم لهم المنصورون * وإن جندنا لهم الغالبون " فهذه الكلمة المذكورة سابقاً وهذا تفسير لها، والمراد بجند الله حزبه وهم الرسل وأتباعهم. قال الشيباني: جاء هنا على الجمع: يعني قوله: "لهم الغالبون" من أجل أنه رأس آية، وهذا الوعد لهم بالنصر والغلبة لا ينافيه انهزامهم في بعض المواطن وغلبة الكفار لهم، فإن الغالب في كل موطن هو انتصارهم على الأعداء وغلبته لهم، فخرج الكلام مخرج الغالب، على أن العاقبة المحمودة لهم على كل حال وفي كل موطن كما قال سبحانه: "والعاقبة للمتقين".

فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ

ثم أمر الله سبحانه رسوله بالإعراض عنهم والإغماض عما يصدر منهم من الجهالات والضلالات فقال: 174- "فتول عنهم حتى حين" أي أعرض عنهم إلى مدة معلومة عند الله سبحانه، وهي مدة الكف عن القتال. قال السدي ومجاهد: حتى نأمرك بالقتال. وقال قتادة: إلى الموت، وقيل إلى يوم بدر، وقيل إلى يوم فتح مكة، وقيل هذه الآية منسوخة بآية السيف.

وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ

175- "وأبصرهم فسوف يبصرون" أي وأبصرهم إذا نزل بهم العذاب بالقتل والأسر فسوف يبصرون حين لا ينفعهم الإبصار، وعبر بالإبصار عن قرب الأمر: أي فسوف يبصرون عن قريب. وقيل المعنى: فسوف يبصرون العذاب يوم القيامة.

أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ

ثم هددهم بقوله سبحانه: 176- "أفبعذابنا يستعجلون" كانوا يقولون من فرط تكذيبهم: متى هذا العذاب؟.

فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ

177- "فإذا نزل بساحتهم" أي إذا نزل عذاب الله لهم بفنائهم، والساحة في اللغة: فناء الداء الواسع. قال الفراء: نزل بساحتهم ونزل بهم سواء. قال الزجاج: وكان عذاب هؤلاء بالقتل، قيل المراد به نزول رسول الله صلى الله عليه وسلم بساحتهم يوم فتح مكة. قرأ الجمهور نزل مبنياً للفاعل. وقرأ عبد الله بن مسعود على البناء للمفعول، والجار والمجرور قائم مقام الفاعل "فساء صباح المنذرين" أي بئس صباحهم. وخص الصباح بالذكر لأن العذاب كان يأتيهم فيه.

وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ

ثم كرر سبحانه ما سبق تأكيداً للوعد بالعذاب فقال: 178- "وتول عنهم حتى حين".

وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ

ثم كرر سبحانه ما سبق تأكيداً للوعد بالعذاب فقال: 179- " وتول عنهم حتى حين * وأبصر فسوف يبصرون " وحذف مفعول أبصر ها هنا وذكره أولاً إما لدلالة الأول عليه فتركه هنا اختصاراً، أو قصداً إلى التعميم للإيذان بأن ما يبصره من أنواع عذابهم لا يحيط به الوصف. وقيل هذه الجملة المراد بها أحوال القيامة، والجملة الأولى المراد بها عذابهم في الدنيا، وعلى هذا فلان يكون من باب التأكيد، بل من باب التأسيس.

سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ

ثم نزه سبحانه نفسه عن قبيح ما يصدر منهم فقال: 180- "سبحان ربك رب العزة عما يصفون" العزة الغلبة والقوة، والمراد تنزيهه عن كل ما يصفونه به مما لا يليق بجنابه الشريف، ورب العزة بدل من ربك.

وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ

ثم ذكر ما يدل على تشريف رسله وتكريمهم فقال: 181- " وسلام على المرسلين " أي الذين أرسلهم إلى عباده وبلغوا رسالاته، وهو من السلام الذي هو التحية، وقيل معناه: أمن لهم وسلامه من المكاره.

وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ

182- "والحمد لله رب العالمين" إرشاد لعباده إلى حمده على إرسال رسله إليهم مبشرين ومنذرين، وتعليم لهم كيف يصنعون عند إنعامه عليهم وما يثنون عليه به، وقيل إنه الحمد على هلاك المشركين ونصر الرسل عليهم، والأولى أنه حمد لله سبحانه على كل ما أنعم به على خلقه أجمعين كما يفيده حذف المحمود عليه، فإن حذفه مشعر بالتعميم كما تقرر في علم المعاني، والحمد هو الثناء الجميل بقصد التعظيم. وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: "وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً" بقال: زعم أعداء الله أنه تبارك وتعالى هو وإبليس أخوان. وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله "فإنكم وما تعبدون" قال: فإنكم يا معشر المشركين وما تعبدون: يعني الآلهة "ما أنتم عليه بفاتنين" قال: بمضلين "إلا من هو صال الجحيم" يقول: إلا من سبق في علمي أنه سيصلى الجحيم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضاً في الآية يقول: إنكم لا تضلون أنتم ولا أيضاً في الآية قال: لا تفتنون إلا من هو صال الجحيم. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عنه أيضاً في قوله: "وما منا إلا له مقام معلوم" قال الملائكة: "وإنا لنحن الصافون" قال الملائكة: "وإنا لنحن المسبحون" قال: الملائكة. وأخرج محمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن عائشة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما في السماء موضع قدم إلا عليه ملك ساجد أو قائم، وذلك قول الملائكة " وما منا إلا له مقام معلوم * وإنا لنحن الصافون "" وأخرج محمد بن نصر وابن عساكر عن العلاء بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوماً لأصحابه "أطت السماء وحق لها أن تئط، ليس فيها موضع قدم إلا عليه ملك راكع أو ساجد، ثم قرأ " وإنا لنحن الصافون * وإنا لنحن المسبحون "". وأخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود قال: "إن من السموات لسماء ما فيها موضع شبر إلا وعليه جبهة ملك أو قدماه قائماً أو ساجداً، ثم قرأ " وإنا لنحن الصافون * وإنا لنحن المسبحون "". وأخرج الترمذي وحسنه ابن جرير وابن مردويه عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون، إن السماء أطت وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجداً لله" وقد ثبت في الصحيح وغيره "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الصحابة أن يصفوا كما تصف الملائكة عند ربهم، فقالوا: وكيف تصف الملائكة عند ربهم قال: يقيمون الصفوف المقدمة ويتراصون في الصف". وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "لو أن عندنا ذكراً من الأولين" قال: لما جاء المشركين من أهل مكة ذكر الأولين وعلم الآخرين كفروا بالكتاب "فسوف يعلمون". وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس قال "صبح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر وقد خرجوا بالمساحي، فلما نظروا إليه قالوا: محمد والخميس، فقال: الله أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين" الحديث. وأخرج ابن سعد وابن مردويه من طريق سعيد عن قتادة عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا سلمتم على المرسلين فسلموا علي فإنما أنا بشر من المرسلين". وأخرج ابن مردويه من طريق أبي العوام عن قتادة عن أنس مرفوعاً نحوه بأطول منه. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وأبو يعلى وابن مردويه عن أبي سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا أراد أن يسلم من صلاته قال: " سبحان ربك رب العزة عما يصفون * وسلام على المرسلين * والحمد لله رب العالمين ". وأخرج الطبراني عن ابن عباس قال: كنا نعرف انصراف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة بقوله: "سبحان ربك" إلى أخر الآية. وأخرج الخطيب نحوه من حديث أبي سعيد. وأخرج الطبراني عن زيد بن أرقم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من قال دبر كل صلاة: " سبحان ربك رب العزة عما يصفون * وسلام على المرسلين * والحمد لله رب العالمين "ثلاث مرات، فقد اكتال بالمكيال الأوفى من الأجر". وأخرج حميد بن زنجويه في ترغيبه من طريق الأصبغ بن نباتة عن علي بن أبي طالب نحوه. وإلى هنا انتهى الجزء الثالث من هذا التفسير المبارك بمعونة الله، المقبول بفضل الله، بقلم مصنفه الحقير محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما، في نهار الخميس الحادي والعشرين من شهر محرم الحرام من شهور سنة تسعو عشرين ومائتين وألف من الهجرة النبوية، حامداً لله شاكراً له مصلياً مسلماً على رسوله وآله، ويتلوه إن شاء الله تفسير سورة ص. انتهى سماع هذا الجزء على مؤله حفظه الله في يوم الاثنين غرة شهر جمادي الآخرة سنة 1239هـ. كتبه يحيى بن علي الشوكاني غفر الله لهما


1-الفاتحة 2-البقرة 3-آل-عمران 4-النساء 5-المائدة 6-الأنعام 7-الأعراف 8-الأنفال 9-التوبة 10-يونس 11-هود 12-يوسف 13-الرعد 14-إبراهيم 15-الحجر 16-النحل 17-الإسراء 18-الكهف 19-مريم 20-طه 21-الأنبياء 22-الحج 23-المؤمنون 24-النور 25-الفرقان 26-الشعراء 27-النمل 28-القصص 29-العنكبوت 30-الروم 31-لقمان 32-السجدة 33-الأحزاب 34-سبأ 35-فاطر 36-يس 37-الصافات 38-ص 39-الزمر 40-غافر 41-فصلت 42-الشورى 43-الزخرف 44-الدخان 45-الجاثية 46-الأحقاف 47-محمد 48-الفتح 49-الحجرات 50-ق 51-الذاريات 52-الطور 53-النجم 54-القمر 55-الرحمن 56-الواقعة 57-الحديد 58-المجادلة 59-الحشر 60-الممتحنة 61-الصف 62-الجمعة 63-المنافقون 64-التغابن 65-الطلاق 66-التحريم 67-الملك 68-القلم 69-الحاقة 70-المعارج 71-نوح 72-الجن 73-المزمل 74-المدثر 75-القيامة 76-الإنسان 77-المرسلات 78-النبأ 79-النازعات 80-عبس 81-التكوير 82-الانفطار 83-المطففين 84-الانشقاق 85-البروج 86-الطارق 87-الأعلى 88-الغاشية 89-الفجر 90-البلد 91-الشمس 92-الليل 93-الضحى 94-الشرح 95-التين 96-العلق 97-القدر 98-البينة 99-الزلزلة 100-العاديات 101-القارعة 102-التكاثر 103-العصر 104-الهمزة 105-الفيل 106-قريش 107-الماعون 108-الكوثر 109-الكافرون 110-النصر 111-المسد 112-الإخلاص 113-الفلق 114-الناس