islamkingdomfaceBook islamkingdomtwitter islamkingdominstagram islamkingdomyoutube islamkingdomnew

فتح القدير
17157

12-يوسف

الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ

قيل هي مائة وإحدى عشرة آية وهي مكية كلها، وقيل نزلت ما بين مكة والمدينة وقت الهجرة. وقال ابن عباس في رواية عنه وقتادة: إلا أربع آيات. وأخرج النحاس وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت سورة يوسف بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. وأخرج الحاكم وصححه عن رفاعة بن رافع الزرقي: أنه خرج هو وابن خالته معاذ بن عفراء حتى قدما مكة، وذكر قصة وفي آخرها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمهما سورة يوسف، و"اقرأ باسم ربك"، ثم رجعا. وأخرج البيهقي في الدلائل من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس "أن حبراً من اليهود دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوافقه وهو يقرأ سورة يوسف، فقال: يا محمد من علمكها؟ قال: الله علمنيها، فعجب الحبر لما سمع منه، فرجع إلى اليهود، فقال لهم: والله إن محمداً ليقرأ القرآن كما أنزل في التوراة، فانطلق بنفر منهم حتى دخلوا عليه فعرفوه بالصفة، ونظروا إلى خاتم النبوة بين كتفيه فجعلوا سمعهم إلى قراءته لسورة يوسف فتعجبوا منه، وأسلموا عند ذلك" وأخرج الثعلبي عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "علموا أقاربكم سورة يوسف، فإنه أيما مسلم تلاها أو علمها أهله وما ملكت يمينه هون الله عليه سكرات الموت، وأعطاه القوة أن لا يحسد مسلماً". وفي إسناده سلام بن سالم، ويقال ابن سليم المدائني، وهو متروك عن هارون بن كثير. قال أبو حاتم: مجهول، وقد ذكر له الحافظ ابن عساكر متابعاً من طريق القاسم بن الحكم عن هارون بن كثير، ومن طريق شبابة عن مجلز بن عبد الواحد البصري عن علي بن زيد بن جدعان، وعن عطاء بن ميمون عن زر بن حبيش عن أبي بن كعب مرفوعاً فذكر نحوه، وهو منكر من جميع طرقه. قال القرطبي: قال سعد بن أبي وقاص: أنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلاه عليهم زماناً، فقالوا: لو حدثتنا، فنزل قوله تعالى: "الله نزل أحسن الحديث" قال: قال العلماء: وذكر الله أقاصيص الأنبياء في القرآن وكررها بمعنى واحد في وجوه مختلفة بألفاظ متباينة على درجات البلاغة. وقد ذكر قصة يوسف ولم يكررها، فلم يقدر مخالف على معارضة ما تكرر، ولا على معارضة غير المتكرر. قوله: 1- "الر" قد تقدم الكلام فيه في فاتحة سورة يونس، والإشارة بقوله: "تلك" إلى آيات السورة، والكتاب المبين: السورة، أي تلك الآيات التي أنزلت إليك في هذه السورة آيات السورة الظاهر أمرها في إعجاز العرب وتبكيتهم، والمبين من أبان بمعنى بان: أي الظاهر أمره في كونه من عند الله وفي إعجازه، أو المبين بمعنى الواضح المعنى بحيث لا يلتبس على قارئه وسامعه، أو المبين لما فيه من الأحكام.

إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ

2- "إنا أنزلناه" أي الكتاب المبين حال كونه "قرآناً عربياً"، فعلى تقدير أن الكتاب السورة تكون تسميتها قرآناً باعتبار أن القرآن اسم جنس يقع على الكل وعلى البعض، وعلى تقدير أن المراد بالكتاب كل القرآن، فتكون تسميته قرآناً واضحة، وعربياً صفة لقرآنا: أي على لغة العرب "لعلكم تعقلون" أي لكي تعلموا معانيه وتفهموا ما فيه.

نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآَنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ

3- "نحن نقص عليك أحسن القصص" القصص تتبع الشيء، ومنه قوله تعالى: "وقالت لأخته قصيه"، أي تتبعي أثره وهو مصدر، والتقدير: نحن نقص عليك قصصاً أحسن القصص، فيكون بمعنى الاقتصاص، أو هو بمعنى المفعول: أي المقصوص "بما أوحينا إليك" أي بإيحائنا إليك "هذا القرآن" وانتصاب القرآن على أنه صفة لاسم الإشارة، أو بدل منه، أو عطف بيان، وأجاز الزجاج الرفع على تقدير مبتدأ، وأجاز الفراء الجر، ولعل وجهه أن يقدر حرف الجر في بما أوحينا داخلاً على اسم الإشارة، فيكون المعنى: نحن نقص عليك أحسن القصص بهذا القرآن "وإن كنت من قبله لمن الغافلين" إن هي المخففة من الثقيلة بدليل اللام الفارقة بينها وبين النافية، والضمير في من قبله عائد على الإيحاء المفهوم من أوحينا، والمعنى: أنك قبل إيحائنا إليك من الغافلين عن هذه القصة. واختلف في وجه كون ما في هذه السورة هو أحسن القصص، فقيل: لأن ما في هذه السورة من القصص يتضمن من العبر والمواعظ والحكم ما لم يكن في غيرها، وقيل لما فيها من حسن المحاورة وما كان من يوسف عليه السلام من الصبر على أذاهم وعفوه عنهم، وقيل لأن فيها ذكر الأنبياء والصالحين والملائكة والشياطين والجن والإنس والأنعام والطير وسير الملوك والمماليك والتجار والعلماء والجهال والنساء وحيلهن ومكرهن، وقيل لأن فيها ذكر الحبيب والمحبوب وما دار بينهما، وقيل إن أحسن هنا بمعنى أعجب، وقيل إن كل من ذكر فيها كان مآله السعادة.

إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ

4- قوله: "إذ قال يوسف لأبيه" إذ منصوب على الظرفية بفعل مقدر: أي اذكر وقت قال يوسف. قرأ الجمهور يوسف بضم السين، وقرأ طلحة بن مصرف بكسرها مع الهمز مكان الواو، وحكى ابن زيد الهمز وفتح السين، وهو غير منصرف للعجمة والعلمية، وقيل هو عربي، والأول أولى بدليل عدم صرفه "لأبيه" أي يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم "يا أبت" بكسر التاء في قراءة أبي عمرو وعاصم وحمزة والكسائي ونافع وابن كثير، وهي عند البصريين علامة التأنيث، ولحقت في لفظ أب في النداء خاصة بدلاً من الياء وأصله يا أبي، وكسرها للدلالة على أنها عوض عن حرف بناسب الكسر، وقرأ ابن عامر بفتحها، لأن الأصل عنه يا أبتا، ولا يجمع بين العوض والمعوض، فيقال يا أبتي، وأجاز الفراء يا أبت بضم التاء "إني رأيت" من الرؤيا النومية لا من الرؤية البصرية كما يدل عليه "لا تقصص رؤياك على إخوتك". قوله: "أحد عشر كوكباً" قرئ بسكون العين تخفيفاً لتوالي الحركات، وقرأ بفتحها على الأصل "والشمس والقمر" إنما أخرهما عن الكواكب لإظهار مزيتهما وشرفهما كما في عطف جبريل وميكائيل على الملائكة، وقيل إن الواو بمعنى مع، وجملة "رأيتهم لي ساجدين" مستأنفة لبيان الحالة التي رآهم عليها، وأجريت مجرى العقلاء في الضمير المختص بهم لوصفها بوصف العقلاء، وهو كونها ساجدة كذا قال الخليل وسيبويه، والعرب تجمع ما لا يعقل جمع من يعقل إذا أنزلوه منزلته.

قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ

5- "قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك" الرؤيا مصدر رأى في المنام رؤيا على وزن فعلى كالسقيا والبشرى، وألفه للتأنيث ولذلك لم يصرف، نهى يعقوب عليه السلام ابنه يوسف عن أن يقص رؤياه على إخوته، لأنه قد علم تأويلها وخاف أن يقصها على إخوته فيفهمون تأويلها ويحصل منهم الحسد له، ولهذا قال: "فيكيدوا لك كيداً" وهذا جواب النهي وهو منصوب بإضمار أن: أي فيفعلوا لك: أي لأجلك كيداً مثبتاً راسخاً لا تقدر على الخلوص منه، أو كيداً خفياً عن فهمك، وهذا المعنى الحاصل بزيادة اللام آكد من أن يقال فيكيدوا كيداً، وقيل إنما جيء باللام لتضمينه معنى الاحتيال المتعدي باللام، فيفيد هذا التضمين معنى الفعلين جميعاً الكيد والاحتيال كما هو القاعدة في التضمين أن يقدر أحدهما أصلاً والآخر حالاً، وجملة "إن الشيطان للإنسان عدو مبين" مستأنفة، كأن يوسف عليه السلام قال: كيف يقع منهم، فنبهه بأن الشيطان يحملهم على ذلك، لأنه عدو للإنسان مظهر للعداوة مجاهر بها.

وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آَلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ

6- قوله "وكذلك يجتبيك ربك" أي مثل ذلك الاجتباء البديع الذي رأيته في النوم من سجود الكواكب والشمس والقمر يجتبيك ربك، ويحقق فيك تأويل تلك الرؤيا، فيجعلك نبياً ويصطفيك على سائر العباد، ويسخرهم لك كما تسخرت لك تلك الأجرام التي رأيتها في منامك فصارت ساجدة لك، قال النحاس: والاجتباء أصله من جبيت الشيء حصلته، ومنه جبيت الماء في الحوض جمعته، ومعنى الاجتباء: الاصطفاء، وهذا يتضمن الثناء على يوسف وتعديد نعم الله عليه، ومنها "ويعلمك من تأويل الأحاديث" أي تأويل الرؤيا. قال القرطبي: وأجمعوا أن ذلك في تأويل الرؤيا، وقد كان يوسف عليه السلام أعلم الناس بتأويلها، وقيل المراد: ويعلمك من تأويل أحاديث الأمم والكتب، وقيل المراد به إحواج إخوته إليه، وقيل إنجاؤه من كل مكروه، وقيل إنجاؤه من القتل خاصة "ويتم نعمته عليك" فيجمع لك بين النبوة والملك كما تدل عليه هذه الرؤيا التي أراك الله، أو يجمع لك بين خيري الدنيا والآخرة "وعلى آل يعقوب" وهم قرابته من إخوته وأولاده ومن بعدهم، وذلك أن الله سبحانه أعطاهم النبوة كما قاله جماعة من المفسرين، ولا يبعد أن يكون إشارة إلى ما حصل لهم بعد دخولهم مصر من النعم التي من جملتها كون الملك فيهم مع كونهم أنبياء "كما أتمها على أبويك"، أي إتماماً مثل إتمامها على أبويك: وهي نعمة النبوة عليهما، مع كون إبراهيم اتخذه الله خليلاً، ومع كون اسحاق نجاه الله سبحانه من الذبح وصار لهما الذرية الطيبة: وهم يعقوب، ويوسف، وسائر الأسباط، ومعنى "من قبل" من قبل هذا الوقت الذي أنت فيه، أو من قبلك، وإبراهيم وإسحاق عطف بيان لأبويك، وعبر عنهما بالأبوين مع كون أحدهما جداً: وهو إبراهيم، لأن الجد أب " إن ربك عليم " بكل شيء " حكيم " في كل أفعاله، والجملة مستأنفة مقررة لمضمون ما قبلها تعليلاً له: أي فعل ذلك لأنه عليم حكيم، وكان هذا كلام من يعقوب مع ولده يوسف تعبيراً لرؤياه على طريق الإجمال، أو علم ذلك من طريق الوحي، أو عرفه بطريق الفراسة وما تقتضيه المخايل اليوسفية. وقد أخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله: "تلك آيات الكتاب المبين" قال: بين الله حلاله وحرامه. وأخرج ابن جرير عن معاذ قال: بين الله [الحروف] التي سقطت عن ألسن الأعاجم، وهي ستة أحرف. وأخرج الحاكم عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا قرآناً عربياً ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألهم إسماعيل هذا اللسان العربي إلهاماً". وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قال: نزل القرآن بلسان قريش، وهو كلامهم. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: قالوا يا رسول الله لو قصصت علينا، فنزلت "نحن نقص عليك أحسن القصص". وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود مثله، وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: "نحن نقص عليك أحسن القصص" قال: من الكتب الماضية وأمور الله السالفة في الأمم، "وإن كنت من قبله" أي من قبل هذا القرآن "لمن الغافلين". وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك "نحن نقص عليك أحسن القصص" قال: القرآن. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وابن مردويه عن ابن عباس. في قوله:"إني رأيت أحد عشر كوكباً" قال: رؤيا الأنبياء وحي. وأخرج سعيد بن منصور والبزار وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والعقيلي وابن حبان في الضعفاء وأبو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي عن جابر بن عبد الله قال: "جاء بستاني اليهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد أخبرني عن الكواكب التي رآها يوسف ساجدة له ما أسماؤها؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجبه بشيء، فنزل عليه جبريل فأخبره بأسمائها، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البستاني اليهودي فقال: هل أنت مؤمن إن أخبرتك بأسمائها؟ قال نعم، قال: خرثان، والطارق، والذيال، وذوالكتفان، وقابس، ووثاب، وعمودان، والفيلق، والمصبح، والضروح، وذو الفرغ، والضياء والنور: رآها في أفق السماء ساجدة له، فلما قص يوسف على يعقوب قال: هذا أمر مشتت يجمعه الله من بعد، فقال اليهودي: إي والله إنها لأسماؤها" هكذا ساقه السيوطي في الدر المنثور، وأما ابن كثير فجعل قوله: فلما قص إلخ رواية منفردة وقال: تفرد بها الحكم بن ظهيرة الفزاري: وقد ضعفوه وتركه الأكثرون. وقال الجوزجاني: ساقط. وقال ابن الجوزي: هو موضوع. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "أحد عشر كوكباً" قال: إخوته، والشمس قال: أمه، والقمر قال: أبوه، وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وأبو الشيخ عن قتادة نحوه. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد نحوه أيضاً. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن عباس "وكذلك يجتبيك ربك" قال: يصطفيك. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة مثله، وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد "ويعلمك من تأويل الأحاديث" قال: عبارة الرؤيا. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن زيد "ويعلمك من تأويل الأحاديث" قال: تأويل العلم والحلم، وكان يوسف من أعبر الناس. وأخرج ابن جرير عن عكرمة "كما أتمها على أبويك" قال: فنعمته على إبراهيم: أن نجاه من النار، وعلى إسحاق: أن نجاه من الذبح.

لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آَيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ

7- أي "لقد كان" في قصتهم علامات دالة على عظيم قدرة الله وبديع صنعه "للسائلين" من الناس عنها، وقرأ أهل مكة آية على التوحيد، وقرأ الباقون على الجمع، واختار قراءة الجمع أبو عبيد. قال النحاس: وآية ها هنا قراءة حسنة، وقيل المعنى: لقد كان في يوسف وإخوته آيات دالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم للسائلين له من اليهود، فإنه روى أنه قال له جماعة من اليهود وهو بمكة: أخبرنا عن رجل من الأنبياء كان بالشام أخرج ابنه إلى مصر فبكى عليه حتى عمي، ولم يكن بمكة أحد من أهل الكتاب ولا من يعرف خبر الأنبياء، وإنما وجهوا إليه من أهل المدينة من يسأله عن هذا، فأنزل الله سورة يوسف جملة واحدة كما في التوراة. وقيل معنى "آيات للسائلين" عجب لهم، وقيل بصيرة، وقيل عبرة. قال القرطبي: وأسماؤهم يعني إخوة يوسف: روبيل، وهو أكبرهم، وشمعون، ولاوي، ويهوذا، وريالون، ويشجر، وأمهم ليا بنت ليان وهي بنت خال يعقوب، وولد له من سريتين أربعة، وهم: دان، ونفتالي، وجاد، وآشر، ثم ماتت ليا فتزوج يعقوب أختها راحيل فولدت له يوسف، وبنيامين، وقال السهيلي: إن أم يوسف اسمها وقفا، وراحيل ماتت من نفاس بنيامين وهو أكبر من يوسف.

إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ

8- "إذ قالوا ليوسف وأخوه" أي وقت قالوا، والظرف متعلق بكان "أحب إلى أبينا منا" والمراد بقوله "وأخوه" هو بنيامين، وخصوه بكونه أخاه مع أنهم جميعاً إخوته، لأنه أخوه لأبويه كما تقدم، ووحد الخبر فقال: أحب مع تعدد المبتدأ، لأن أفعل التفضيل يستوي فيه الواحد وما فوقه إذا لم يعرف، واللام في ليوسف هي الموطئة للقسم، وإنما قالوا هذه لأنه بلغهم خبر الرؤيا فأجمع رأيهم على كيده، وجملة "ونحن عصبة " في محل نصب على الحال، والعصبة: الجماعة، قيل وهي ما بين الواحد إلى العشرة، وقيل إلى الخمسة عشر، وقيل من العشرة إلى الأربعين ولا واحد لها من لفظها بل هي كالنفر والرهط، وقد كانوا عشرة "إن أبانا لفي ضلال مبين" أي لفي ذهاب عن وجه التدبير بالترجيح لهما علينا وإيثارهما دوننا مع استوائنا في الانتساب إليه ولا يصح أن يكون مرادهم أنه في دينه في ضلال مبين.

اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ

9- "اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضاً" أي قالوا: افعلوا به أحد الأمرين: إما القتل، أو الطرح في أرض، أو المشير بالقتل بعضه والمشير بالطرح البعض الآخر، أو كان المتكلم بذلك واحد منهم فوافقه الباقون، فكانوا كالقائل في نسبة هذا المقول إليهم، وانتصاب أرضاً على الظرفية، والتنكير للإبهام: أي أرضاً مجهولة، وجواب الأمر "يخل لكم وجه أبيكم" أي يصف ويخلص فيقبل عليكم ويحبكم حباً كاملاً "وتكونوا" معطوف على يخل، ويجوز أن يكون منصوباً بإضمار أن "من بعده" أي من بعد يوسف، والمراد بعد الفراغ من قتله أو طرحه، وقيل من بعد الذنب الذي اقترفوه في يوسف "قوماً صالحين" في أمور دينكم وطاعة أبيكم، أو صالحين في أمور دنياكم لذهاب ما كان يشغلكم عن ذلك، وهو الحسد ليوسف وتكدر خواطركم بتأثيره عليكم هو وأخوه، أو المراد بالصالحين: التائبون من الذنب.

قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ

10- "قال قائل منهم" أي من الإخوة، قيل هو يهوذا، وقيل روبيل، وقيل شمعون " لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب " قيل ووجه الإظهار في لا تقتلوا يوسف استجلاب شفقتهم عليه. قرأ أهل مكة وأهل البصرة وأهل الكوفة وأهل الشام في غيابة الجب بالإفراد. وقرأ أهل المدينة في غيابات بالجمع، واختار أبو عبيد الإفراد وأنكر الجمع، لأن الموضع الذي ألقوه فيه واحد، قال النحاس: وهذا تضييق في اللغة، وغيابات على الجمع تجوز، والغيابة كل شيء غيب عنك شيئاً، وقيل للقبر غيابة، والمراد بها هنا غور البئر الذي لا يقع البصر عليه، أو طاقة فيه، قال الشاعر: ألا فالبثا شهرين أو نصف ثالث إلى ذا كما قد غيبتني غيابيــا والجب: البئر التي لم تطو، ويقال لها قبل الطي ركية، فإذا طويت قيل لها بئر، سميت جباً لأنها قطعت في الأرض قطعاً، وجمع الجب جبب وجباب وأجباب، وجمع بين الغيابة والجب مبالغة في أن يلقوه في مكان من الجب شديد الظلمة حتى لا يدركه نظر الناظرين، قيل وهذه البئر ببيت المقدس، وقيل بالأردن، وجواب الأمر "يلتقطه بعض السيارة" قرأ مجاهد وأبو رجاء والحسن وقتادة تلتقطه بالمثناة الفوقية، ووجهه أن بعض السيارة سيارة. وحكي عن سيبويه سقطت بعض أصابعه، ومنه قول الشاعر: أرى مر السنين أخذن مني كما أخذ الســــــرار من الهلال وقرأ الباقون يلتقطه بالتحتية، والسيارة: الجمع الذي يسيرون في الطريق، والالتقاط: هو أخذ شيء مشرف على الضياع، وكأنهم أرادوا أن بعض السيارة إذا التقطه حمله إلى مكان بعيد بحيث يخفى عن أبيه ومن يعرفه، ولا يحتاجون إلى الحركة بأنفسهم إلى المكان البعيد، فربما أن والدهم لا يأذن لهم بذلك، ومعنى "إن كنتم فاعلين" إن كنتم عاملين بما أشرت به عليكم في أمره، كأنه لم يجزم بالأمر، وبل وكله إلى ما يجمعون عليه كما يفعله المشير مع من استشاره. وفي هذا دليل على أن إخوة يوسف ما كانوا أنبياء، فإن الأنبياء لا يجوز عليهم التواطؤ على القتل لمسلم ظلماً وبغياً، وقيل كانوا أنبياء، وكان ذلك منهم زلة قدم وأوقعهم فيها التهاب نار الحسد في صدورهم واضطرام جمرات الغيظ في قلوبهم. ورد بأن الأنبياء معصومون عن مثل هذه المعصية الكثيرة المتبالغة في الكبر، مع ما في ذلك من قطع الرحم وعقوق الوالد وافتراء الكذب، وقيل إنهم لم يكونوا في ذلك الوقت أنبياء، بل صاروا أنبياء من بعد. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله: "آيات للسائلين" قال عبرة، وأخرج أيضاً عن قتادة في الآية يقول: من سأل عن ذلك فهو هكذا ما قص الله عليكم وأنبأكم به، وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك نحوه، وأخرج ابن جرير عن ابن إسحاق قال: إنما قص الله على محمد صلى الله عليه وسلم خبر يوسف وبغي إخوته عليه وحسدهم إياه حين ذكر رؤياه لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم من بغي قومه عليه وحسدهم إياه حين أكرمه الله بنبوته ليتأسى به. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: "إذ قالوا ليوسف وأخوه" يعني بنيامين هو أخوه لأبيه وأمه، وفي قوله "ونحن عصبة" قال: العصبة ما بين العشرة إلى الأربعين. وأخرج ابن أبي حاتم وابن جرير وأبو الشيخ عن ابن زيد قال: العصبة الجماعة "إن أبانا لفي ضلال مبين" قال: لفي خطأ من رأيه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ في قوله: "قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف" قال: قاله كبيرهم الذي تخلف، قال: والجب بئر بالشام "يلتقطه بعض السيارة" قال: التقطه ناس من الأعراب. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله: "وألقوه في غيابة الجب" يعني الركية. وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال الجب البئر. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ قال: هي بئر ببيت المقدس، يقول في بعض نواحيها. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد قال: الجب بحذاء طبرية بينه وبينها أميال.

قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ

لما أجمع رأيهم على أن يلقوه في غيابات الجب جاءوا إلى أبيهم وخاطبوه بلفظ الأبوة استعطافاً له وتحريكاً للحنو الذي جبلت عليه طبائع الآباء للأبناء، وتوسلاً بذلك إلى تمام ما يريدونه من الكيد الذي دبروه، واستفهموه استفهام المنكر لأمر ينبغي أن يكون الواقع على خلافه، فـ 11- " قالوا يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف " أي أي شيء لك لا تجعلنا أمناء عليه، وكأنهم قد كانوا سألوه قبل ذلك أن يخرج معهم يوسف فأبى، وقرأ يزيد بن القعقاع وعمرو بن عبيد والزهري "لا تأمنا" بالادغام بغير إشمام. وقرأ طلحة بن مصرف لا تأمننا بنونين ظاهرتين على الأصل: وقرأ يحيى بن وثاب وأبو رزين والأعمش لا تيمنا وهو لغة تميم كما تقدم، وقرأ سائر القراء بالإدغام والإشمام ليدل على حال الحرف قبل إدغامه "وإنا له لناصحون" في حفظه وحيطته حتى نرده إليك.

أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ

12- "أرسله معنا غداً" أي إلى الصحراء التي أرادوا الخروج إليها، وغدا ظرف، والأصل عند سيبويه غدوة. قال النضر بن شميل: ما بين الفجر وطلوع الشمس، يقال له غدوة، وكذا يقال له بكرة "يرتع ويلعب" هذا جواب الأمر. قرأ أهل البصرة وأهل مكة وأهل الشام بالنون وإسكان العين كما رواه البعض عنهم. وقرأوا أيضاً بالاختلاس، وقرأ الباقون بالنون وكسر العين، والقراءة الأولى مأخوذة من قول العرب رتع الإنسان أو البعير: إذا أكل كيف شاء، أو المعنى: نتسع في الخصب، وكل مخصب راتع: قال الشاعر فارعى فزارة لا هنـــاك المرتع ومنه قول الشاعر: ترتفع ما رتعت حتى إذا ادكرت فإنما هي إقبـــــال وإدبــــار والقراءة الثانية مأخوذة من رعي الغنم. وقرأ مجاهد وقتادة " يرتع ويلعب " بالتحتية فيهما، ورفع يلعب على الاستئناف، والضمير ليوسف. وقال القتيبي: معنى نرتع نتحارس ونتحافظ ويرعى بعضنا بعضاً، من قولهم رعاك الله: أي حفظك، ونلعب من اللعب. قيل لأبي عمرو بن العلاء: كيف قالوا ونلعب وهم أنبياء؟ فقال: لم يكونوا يومئذ أنبياء، وقيل المراد به اللعب المباح من الأنبياء، وهو مجرد الانبساط، وقيل هو اللعب الذي يتعلمون به الحرب ويتقوون به عليه كما في قولهم: "إنا ذهبنا نستبق" لا اللعب المحظور الذي هو ضد الحق، ولذلك لم ينكر يعقوب عليهم لما قالوا ونلعب، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم لجابر "فهلا بكراً تلاعبها وتلاعبك".

قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ

فأجابهم يعقوب بقوله: 13- "إني ليحزنني أن تذهبوا به" أي ذهابكم به، واللام في "ليحزنني" لام الابتداء للتأكيد ولتخصيص المضارع بالحال، أخبرهم أنه يحزن لغيبة يوسف عنه لفرط محبته له وخوفه عليه "وأخاف أن يأكله الذئب" أي ومع ذلك أخاف أن يأكله الذئب. قال يعقوب هذا تخوفاً عليه منهم، فكنى عن ذلك بالذئب. وقيل إنه خاف أن يأكله الذئب حقيقة، لأن ذلك المكان كان كثير الذئاب، ولو خاف منهم عليه أن يقتلوه لأرسل معهم من يحفظه. قال ثعلب: والذئب مأخوذ من تذأبت الريح: إذا هاجت من كل وجه. قال: والذئب مهموز لأنه يجيء من كل وجه. وقد قرأ ابن كثير ونافع في رواية عنه بالهمز عن الأصل، وكذلك أبو عمرو في رواية عنه وابن عامر وعاصم وحمزة. وقرأ الباقون بالتخفيف "وأنتم عنه غافلون" لاشتغالكم بالرتع واللعب، أو لكونهم غير مهتمين بحفظه.

قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ

14- "قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة" اللام هي الموطئة للقسم. والمعنى: والله لئن أكله الذئب والحال إن نحن عصبة: أي جماعة كثيرة عشرة "إنا إذاً لخاسرون" أي إنما في ذلك الوقت، وهو أكل الذئب له لخاسرون هالكون ضعفاً وعجزاً، أو مستحقون للهلاك لعدم الاعتداد بنا، وانتفاء القدرة على أيسر شيء وأقله، أو مستحقون لأن يدعى علينا بالخسار والدمار، وقيل لخاسرون لجاهلون حقه، وهذه الجملة جواب القسم المقدر في الجملة التي قبلها.

فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ

15- "فلما ذهبوا به" من عند يعقوب "وأجمعوا" أمرهم "أن يجعلوه في غيابة الجب" قد تقدم تفسير الغيابة والجب قريباً، وجواب لما محذوف لظهوره ودلالة المقام عليه، والتقدير: فعلوا به ما فعلوا، وقيل جوابه "قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق" وقيل الجواب المقدر جعلوه فيها، وقيل الجواب أوحينا والواو مقحمة، ومثله قوله تعالى: " فلما أسلما وتله للجبين * وناديناه " أي ناديناه "وأوحينا إليه" أي إلى يوسف تيسيراً له وتأنيساً لوحشته مع كونه صغيراً اجتمع على إنزال الضرر به عشرة رجال من إخوته، بقلوب غليظة فقد نزعت عنها الرحمة وسلبت منها الرأفة، فإن الطبع البشري، دع عنك الدين، يتجاوز عن ذنب الصغير ويغتفره لضعفه عن الدفع وعجزه عن أيسر شيء يراد منه، فكيف بصغير لا ذنب له، بل كيف بصغير هو أخ وله ولهم أب مثل يعقوب، فلقد أبعد من قال إنهم كاوا أنبياء في ذلك الوقت، فما هكذا عمل الأنبياء ولا فعل الصالحين. وفي هذا دليل على أنه يجوز أن يوحي الله إلى من كان صغيراً ويعطيه النبوة حينئذ كما وقع في عيسى ويحيى بن زكريا، وقد قيل إنه كان في ذلك الوقت قد بلغ مبلغ الرجال، وهو بعيد جداً، فإن من كان قد بلغ مبالغ الرجال لا يخاف عليه أن يأكله الذئب " لتنبئنهم بأمرهم هذا " أي لتخبرن إخوتك بأمرهم هذا الذي فعلوه معك بعد خلوصك مما أرادوه بك من الكيد وأنزلوه عليك من الضرر، وجملة "وهم لا يشعرون" في محل نصب على الحال: أي لا يشعرون بأنك أخوهم يوسف لاعتقادهم هلاكك بإلقائهم لك في غيابة الجب، ولبعد عهدهم بك، ولكونك قد صرت عند ذلك في حال غير ما كنت عليه وخلاف ما عهدوه منك، وسيأتي ما قاله لهم عند دخولهم عليه بعد أن صار إليه ملك مصر.

وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ

16- قوله: " وجاؤوا أباهم عشاء يبكون " عشاء منتصب على الظرفية، وهو آخر النهار، وقيل في الليل، ويبكون في محل نصب على الحال: أي باكين أو متباكين لأنهم لم يبكوا حقيقة، بل فعلوا فعل من يبكي ترويجاً لكذبهم وتنفيقاً لمكرهم وغدرهم.

قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ

فلما وصلوا إلى أبيهم 16- "قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق" أي نتسابق في العدو أو في الرمي، وقيل ننتضل، ويؤيده قراءة ابن مسعود ننتضل قال الزجاج: وهو نوع من المسابقة. وقال الزهري: النضال في السهام، والرهان في الخيل، والمسابقة تجمعهما. قال القشيري: نستبق، أي في الرمي أو على الفرس أو على الأقدام. والغرض من المسابقة التدرب بذلك في القتال "وتركنا يوسف عند متاعنا" أي عند ثيابنا ليحرسها "فأكله الذئب" الفاء للتعقيب: أي أكله عقب ذلك. وقد اعتذروا عليه بما خافه سابقاً عليه، ورب كلمة تقول لصاحبها دعني "وما أنت بمؤمن لنا" بمصدق لنا في هذا العذر الذي أبدينا، والكلمة التي قلناها "ولو كنا" عندك أو في الواقع "صادقين" لما قد علق بقلبك من التهمة لنا في ذلك مع شدة محبتك له. قال الزجاج: والمعنى: ولو كنا عندك من أهل الثقة والصدق ما صدقتنا في هذه القضية لشدة محبتك ليوسف.

وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ

وكذا ذكره ابن جرير وغيره 18- " وجاؤوا على قميصه بدم كذب " على قميصه في محل نصب على الظرفية: أي جاءوا فوق قميصه بدم، ووصف الدم بأنه كذب مبالغة كما هو معروف في وصف اسم العين باسم المعنى، وقيل المعنى: بدم ذي كذب أو بدم مكذوب فيه. وقرأ الحسن وعائشة بدم كدب بالدال المهملة: أي بدم طري، يقال للدم الطري كدب. وقال الشعبي: إنه المتغير، والكذب أيضاً البياض الذي يخرج في أظفار الأحداث، فيجوز أن يكون شبه الدم في القميص بالبياض الذي يخرج في الظفر من جهة اللونين. وقد استدل يعقوب على كذبهم بصحة القميص، وقال لهم: متى كان هذا الذئب حكيماً يأكل يوسف ولا يخرق القميص؟ ثم ذكر الله سبحانه ما أجاب به يعقوب عليهم فقال "قال بل سولت لكم أنفسكم أمراً" أي زينت وسهلت. قال النيسابوري: التسويل تقرير في معنى النفس مع الطمع في تمامه. وهو تفعيل من السول وهو الأمنية. قال الأزهري: وأصله مهموز غير أن العرب استثقلوا فيه الهمزة " فصبر جميل " قال الزجاج: أي فشأني أو الذي أعتقده صبر جميل. وقال قطرب: أي فصبري صبر جميل، وقيل فصبر جميل أولى بي. قيل والصبر الجميل هو الذي لا شكوى معه. قال الزجاج: قرأ عيسى بن عمر فيما زعم سهل بن يوسف فصبراً جميلاً قال: وكذا في مصحف أنس. قال المبرد: فصبر جميل بالرفع أولى من النصب. لأن المعنى: قال رب عندي صبر جميل، وإنما النصب على المصدر أي فلأصبرن صبراً جميلاً. قال الشاعر: شكا إلي جملي طول السرى صبراً جميلاً فكلانا مبتلى "والله المستعان" أي المطلوب منه العون "على ما تصفون" أي على إظهار حال ما تصفون، أو على احتمال ما تصفون، وهذا منه عليه السلام إنشاء لا إخبار. وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: " أرسله معنا غدا يرتع ويلعب " قال: نسعى وننشط ونلهو. وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه والسلفي في الطيوريات عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تلقنوا الناس فيكذبوا، فإن بني يعقوب لم يعلموا أن الذئب يأكل الناس، فلما لقنهم أبوهم كذبوا، فقالوا أكله الذئب". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "وأوحينا إليه" الآية قال: أوحي إلى يوسف وهو في الجب لتنبئن إخوتك بما صنعوا وهم لا يشعرون بذلك الوحي. وأخرج هؤلاء عن قتادة قال: أوحى الله إليه وحياً وهو في الجب أن سينبئهم بما صنعوا وهم: أي إخوته لا يشعرون بذلك الوحي، فهون ذلك الوحي عليه ما صنع به. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "وهم لا يشعرون" قال: لم يعلموا بوحي الله إليه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه قال: لما دخل إخوة يوسف على يوسف فعرفهم وهم له منكرون جيء بالصواع فوضعه على يده، ثم نقره فطن، فقال: إنه ليخبرني هذا الجام أنه كان لكم أخ من أبيكم يقال له يوسف يدنيه دونكم، وأنكم انطلقتم به فألقيتموه في غيابة الجب فأتيتم أباكم فقلتم: إن الذئب أكله، وجئتم على قميصه بدم كذب، فقال بعضهم لبعض: إن هذا الجام ليخبره بخبركم، فقال ابن عباس: فلا نرى هذه الآية نزلت إلا في ذلك لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي بكر بن عياش قال: كان يوسف في الجب ثلاثة أيام. وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك "وما أنت بمؤمن لنا" قال: بمصدق لنا. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس " وجاؤوا على قميصه بدم كذب " قال: كان دم سخلة. وأخرج ابن جرير عن مجاهد مثله، وأخرج الفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس " وجاؤوا على قميصه بدم كذب " قال: لما أتي يعقوب بقميص يوسف فلم ير فيه خرقاً قال: كذبتم لو كان كما تقولون أكله الذئب لخرق القميص. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "بل سولت لكم أنفسكم أمراً" قال: أمرتكم أنفسكم. وأخرج ابن جرير وابن أبي جرير وأبو الشيخ عن قتادة في قوله "بل سولت لكم أنفسكم أمراً" يقول: بل زينت لكم أنفسكم أمراً " فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون " أي على ما تكذبون، وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب الصبر وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن حبان بن أبي حبلة قال: "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله: " فصبر جميل " قال: لا شكوى فيه، من بث لم يصبر" وهو من طريق هشيم عن عبد الرحمن عن حبان بن أبي حبلة، وهو مرسل. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: " فصبر جميل " قال: ليس في جزع.

وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ

هذا شروع في حكاية خلاص يوسف وما بعد ذلك من خبره، وقد تقدم تفسير السيارة، والمراد بها هنا رفقة مارة تسير من الشام إلى مصر، فأخطأوا الطريق وهاموا حتى نزلوا قريباً من الجب، وكان في قفرة بعيدة عن العمران، والوارد الذي يرد الماء ليستقي للقوم، وكان اسمه فيما ذكر المفسرون مالك بن ذعر من العرب العاربة "فأدلى دلوه" أي أرسله، يقال أدلى دلوه: أذا أرسلها ليملأها، ودلاها: إذا أخرجها قاله الأصمعي وغيره. فتعلق يوسف بالحبل، فلما خرج الدلو من البئر أبصره الوارد فـ " قال يا بشرى " هكذا قرأ أهل المدينة وأهل مكة وأهل البصرة، وأهل الشام بإضافة البشرى إلى الضمير، وقرأ أهل الكوفة "يا بشرى" غير مضاف، ومعنى مناداته للبشرى: أنه أراد حضورها في ذلك الوقت، فكأنه قال: هذا وقت مجيئك وأوان حضورك، وقيل إنه نادى رجلاً اسمه بشرى. والأول أولى. قال النحاس: والمعنى من نداء البشرى التبشير لمن حضر، وهو أوكد من قولك بشرته كما تقول يا عجباً: أي يا عجب هذا من أيامك فاحضر. قال: وهذا مذهب سيبويه "وأسروه" أي أسر الوارد وأصحابه الذين كانوا معه يوسف فلم يظهروه لهم، وقيل إنهم لم يخفوه، بل أخفوا وجدانه لهم في الجب، وزعموا أنه دفعه إليهم أهل الماء ليبيعوه لهم بمصر، وقيل ضمير الفاعل في أسروه لإخوة يوسف، وضمير المفعول ليوسف، وذلك أنه كان يأتيه أخوه يهوذا كل يوم بطعام، فأتاه يوم خروجه من البئر فأخبر إخوته فأتوا الرفقة وقالوا: هذا غلام ابق منا فاشتروه منهم، وسكت يوسف مخافة أن يأخذوه فيقتلوه. والأول أولى. وانتصاب بضاعة على الحال: أي أخفوه حال كونه بضاعة: أي متاعاً للتجارة، والبضاعة: ما يبضع من المال: أي يقطع منه لأنها قطعة من المال الذي يتجر به، قيل قاله لهم الوارد وأصحابه أنه بضاعة استبضعناها من الشام مخافة أن يشاركوهم فيه، وفي قوله: " والله عليم بما يعملون " وعيد شديد لمن كان فعله سبباً لما وقع فيه يوسف من المحن وما صار فيه من الابتذال بجري البيع والشراء فيه، وهو الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم: يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم في وصفه بذلك.

وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ

قوله: 20- "وشروه بثمن بخس دراهم معدودة" يقال شراه بمعنى اشتراه، وشراه بمعنى باعه. قال الشاعر: وشريت بـــرداه ليتني من بعد برد كنت هامه أي بعته. وقال آخر: فلما شراها فاضت العين عبرة أي اشتراها، والمراد هنا: وباعوه: أي باعه الوارد وأصحابه "بثمن بخس" أي ناقص أو زائف، وقيل يعود إلى إخوة يوسف على القول السابق، وقيل عائد إلى الرفقة، والمعنى: اشتروه، وقيل بخس: ظلم، وقيل حرام. قيل باعوه بعشرين درهماً، وقيل بأربعين، ودراهم بدل من ثمن: أي دنانير، ومعدودة وصف لدراهم، وفيه إشارة إلى أنها قليلة تعد ولا توزن، لأنهم كانوا لا يزنون ما دون أوقية وهي أربعون درهماً "وكانوا فيه من الزاهدين" يقال زهدت وزهدت بفتح الهاء وكسرها، قال سيبويه والكسائي: قال أهل اللغة: يقال زهد فيه: أي رغب عنه، وزهد عنه: أي رغب فيه، والمعنى: أنهم كانوا فيه من الراغبين عنه الذين لا يبالون به فلذلك باعوه بذلك الثمن البخس، وذلك لأنهم التقطوه، والملتقط للشيء: متهاون به، والضمير من كانوا يرجع إلى ما قبله على حسب اختلاف الأقوال فيه.

وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أ

21- "وقال الذي اشتراه من مصر" هو العزيز الذي كان على خزائن مصر، وكان وزيراً لملك مصر، وهو الريان بن الوليد من العمالقة، وقيل إن الملك هو فرعون موسى، قيل اشتراه بعشرين ديناراً وقيل تزايدوا في ثمنه فبلغ أضعاف وزنه مسكاً وعنبراً وحريراً وورقاً وذهباً ولآلىء وجواهر، فلما اشتراه العزيز قال لامرأته واللام متعلقة باشتراه "أكرمي مثواه" أي منزله الذي يثوى فيه بالطعام الطيب واللباس الحسن، يقال ثوى بالمكان: أي أقام به "عسى أن ينفعنا" أي يكفينا بعض المهمات مما نحتاج إلى مثله فيه "أو نتخذه ولداً" أي نتبناه فنجعله ولداً لنا، قيل كان العزيز حصوراً لا يولد له، وقيل كان لا يأتي النساء، وقد كان تفرس فيه أنه ينوب عنه فيما إليه من أمر المملكة. قوله: "وكذلك مكنا ليوسف" الكاف في محل نصب على أنه نعت مصدر محذوف، والإشارة إلى ما تقدم من إنجائه من إخوته وإخراجه من الجب، وعطف قلب العزيز عليه: أي مثل ذلك التمكين البديع مكنا ليوسف حتى صار متمكناً من الأمر والنهي، يقال مكنه فيه: أي أثبته فيه، ومكن له فيه: أي جعل له فيه مكاناً، ولتقارب المعنيين يستعمل كل واحد منهما مكان الآخر. قوله: "ولنعلمه من تأويل الأحاديث" هو علة لمعلل محذوف كأنه قيل فعلنا ذلك التمكين لنعلمه من تأويل الأحاديث أو كان ذلك الإنجاء لهذه العلة، أو معطوف على مقدر، وهو أن يقال: مكنا ليوسف ليترتب على ذلك ما يترتب مما جرى بينه وبين امرأة العزيز، ولنعلمه من تأويل الأحاديث، ومعنى تأويل الأحاديث: تأويل الرؤيا فإنها كانت من الأسباب التي بلغ بها ما بلغ من التمكن، وقيل معنى تأويل الأحاديث فهم أسرار الكتب الإلهية وسنن من قبله من الأنبياء، ولا مانع من حمل ذلك على الجميع "والله غالب على أمره" أي على أمر نفسه لا يمتنع منه شيء، ولا يغالبه عليه غيره من مخلوقاته. "إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون"، ومن جملة ما يدخل تحت هذا العام كما يفيد ذلك إضافة اسم الجنس إلى الضمير ما يتعلق بيوسف عليه السلام من الأمور التي أرادها الله سبحانه في شأنه، وقيل معنى "والله غالب على أمره" أنه كان من أمر يعقوب أن لا يقص رؤيا يوسف على إخوته، فغلب أمر الله سبحانه حتى قصت عليهم حتى وقع منهم ما وقع. وهذا بعيد جداً "ولكن أكثر الناس لا يعلمون" أي لا يطلعون على غيب الله وما في طيه من الأسرار العظيمة والحكم النافعة، وقيل المراد بالأكثر: الجميع لأنه لا يعلم الغيب إلا الله، وقيل إن الله سبحانه قد يطلع بعض عبيده على بعض غيبه كما في قوله: " فلا يظهر على غيبه أحدا * إلا من ارتضى من رسول "، وقيل المعنى: ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن الله غالب على أمره وهم المشركون ومن لا يؤمن بالقدر.

وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ

وقوله: 22- "ولما بلغ أشده آتيناه حكماً وعلماً" الأشد. قال سيبويه جمع واحدة شدة. وقال الكسائي: واحده شد. وقال أبو عبيد: إنه لا واحد له من لفظه عند العرب، ويرده قول الشاعر: عهدي به شد النهار كأنما خضب البنان ورأسه بالعظلم والأشد: هو وقت استكمال القوة ثم يون بعده النقصان. قيل هو ثلاث وثلاثون سنة، وقيل بلوغ الحلم، وقيل ثماني عشرة سنة، وقيل غير ذلك مما قد قدمنا بيانه في النساء والأنعام. والحكم: هو ما كان يقع منه من الأحكام في سلطان ملك مصر، والعلم: هو العلم بالحكم الذي كان يحكمه، وقيل العقل والفهم والنبوة صبياً قال: المراد بهذا الحكم والعلم الذي آتاه الله هو الزيادة فيهما "وكذلك نجزي المحسنين" أي ومثل ذلك الجزاء العجيب نجزي المحسنين، فكل من أحسن في عمله أحسن الله جزاءه، وجعل عاقبة الخير من جملة ما يجزيه به، وهذا عام يدخل تحته جزاء يوسف على صبره الحسن دخولاً أولياً، قال الطبري: هذا وإن كان مخرجه ظاهراً على كل محسن فالمراد به محمد صلى الله عليه وسلم، يقول الله تعالى كما فعل هذا يوسف ثم أعطيته ما أعطيته كذلك أنجيك من مشركي قومك الذين يقصدونك بالعداوة وأمكن لك في الأرض. والأولى ما ذكرناه من حمل العموم على ظاهره فيدخل تحته ما ذكره ابن جرير الطبري. وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر وأبو الشيخ عن الضحاك في قوله: "وجاءت سيارة" قال: جاءت سيارة فنزلت على الجب "فأرسلوا واردهم" فاستسقى الماء فاستخرج يوسف، فاستبشروا بأنهم أصابوا غلاماً لا يعلمون علمه ولا منزلته من ربه، فزهدوا فيه فباعوه، وكان بيعه حراماً، وباعوه بدراهم معدودة. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة "فأرسلوا واردهم" يقول: فأرسلوا رسولهم "فأدلى دلوه" فنشب الغلام في الدلو، فلما خرج " قال يا بشرى هذا غلام " تباشروا به حين استخرجوه، وهي بئر ببيت المقدس معلوم مكانها. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله: " يا بشرى "، قال: كان اسم صاحبه بشرى كما تقول يا زيد، وهذا على ما فيه من البعد لا يتم إلا على قراءة من قرأ يا بشرى بدون إضافة. وأخرج أبو الشيخ عن الشعبي نحوه. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قول: " وأسروه بضاعة " يعني إخوة يوسف أسروا شأنه وكتموا أن يكون أخاهم، وكتم يوسف شأنه مخافة أن يقتله إخوته واختار البيع فباعه إخوته بثمن بخس. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن مجاهد قال: أسره التجار بعضهم من بعض. وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه "وأسروه بضاعة" قال: صاحب الدلو ومن معه، قالوا لأصحابهم: إنا استبضعناه خيفة أن يشركوهم فيه إن علموا به، واتبعهم إخوته يقولون للمدلي وأصحابه: استوثقوا منه لا يأبق حتى وقفوا بمصر فقال: من يبتاعني ويبشر، فابتاعه الملك والملك مسلم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله: "وشروه" قال: إخوة يوسف باعوه حين أخرجه المدلي دلوه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن عباس قال: بيع بينهم بثمن بخس، قال: حرام لم يحل لهم بيعه، ولا أكل ثمنه. وأخرج ابن جرير عن قتادة "وشروه بثمن بخس" قال: هم السيارة وأخرج أبو الشيخ عن علي بن أبي طالب أنه قضى في اللقيط أنه حر وقرأ "وشروه بثمن بخس" وأخرج ابن جرير عن مجاهد قال: البخس: القليل وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن الشعبي مثله. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال: إنما اشتري يوسف بعشرين درهماً، وكان أهله حين أرسل إليهم بمصر ثلثمائة وتسعين إنساناً: رجالهم أنبيا، ونساؤهم صديقات، والله ما خرجوا مع موسى حتى بلغوا ستمائة ألف وسبعين ألفاً وقد روي في مقدار ثمن يوسف غير هذا المقدار مما لا حاجة إلى التطويل بذكره. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وقال الذي اشتراه من مصر" قال: كان اسمه قطفير. وأخرج أبو الشيخ عن شعيب الجبائي: أن اسم امرأة العزيز زليخا. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن محمد بن إسحاق قال: الذي اشتراه أطيفير بن روحب، وكان اسم امرأته راعيل بنت رعاييل، وأخرج ابن جرير وابن إسحاق وأبو الشيخ عن ابن عباس قال: اسم الذي باعه من العزيز مالك بن ذعر. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه في قوله: "أكرمي مثواه" قال: منزلته، وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن قتادة مثله. وأخرج سعيد بن منصور وابن سعد وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال: أفرس الناس ثلاثة: العزيز حين تفرس في يوسف فقال لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً، والمرأة التي أتت موسى فقالت لأبيها يا أبت استأجره، وأبو بكر حين استخلف عمر. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "ولنعلمه من تأويل الأحاديث" قال: عبارة الرؤيا. وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن أبي حاتم وابن الأنباري في كتاب الأضداد والطبراني في الأوسط وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "ولما بلغ أشده" قال: ثلاثاً وثلاثين سنة. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال: أربعين سنة. وأخرج عن عكرمة قال: خمساً وعشرين سنة. وأخرج عن السدي قال: ثلاثين سنة، وأخرج عن سعيد بن جبير قال ثمانية عشر سنة. وأخرج عن ربيعة قال: الحلم: وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن الشعبي نحوه. وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال: عشرين سنة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد "آتيناه حكماً وعلماً" قال: هو الفقه والعلم والعقل قبل النبوة. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس "وكذلك نجزي المحسنين" قال: المهتدين.

وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ

المراودة الإرادة والطلب برفق ولين- وقيل هي مأخوذة من الرود: أي الرفق والتأني، يقال أرودني: أمهلني، وقيل المراودة مأخوذة من راد يرود: إذا جاء وذهب، كأن المعنى: أنها فعلت في مراودتها له فعل المخادع، ومنه الرائد لمن يطلب الماء والكلأ، وقد يخص بمحاولة الوقاع فيقال: راود فلان جاريته عن نفسها وراودته هي عن نفسه: إذا حاول كل منهما الوطء والجماع، وهي مفاعلة، وأصلها أن تكون من الجانبين، فجعل السبب هنا في أحد الجانبين قائماً مقام المسبب، فكأن يوسف عليه السلام لما كان ما أعطيه من كمال الخلق والزيادة في الحسن سبباً لمراودة امرأة العزيز له مراود. وإنما قال "التي هو في بيتها" ولم يقل امرأة العزيز، وزليخا قصداً إلى زيادة التقرير مع استهجان التصريح باسم المرأة والمحافظة على الستر عليها "وغلقت الأبواب" قيل في هذه الصيغة ما يدل على التكثير، فيقال غلق الأبواب، ولا يقال غلق الباب، بل يقال أغلق الباب، وقد يقال أغلق الأبواب، ومنه قول الفرزدق في أبي عمرو بن العلاء: ما زلت أغلق أبواباً وافتحها حتى أتيت أبا عمرو بن عمار قيل وكانت الأبواب سبعة. قوله "هيت لك". قرأ أبو عمرو وعاصم والكسائي وحمزة والأعمش بفتح الهاء وسكون الياء وفتح التاء، وبها قرأ ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد وعكرمة: قال ابن مسعود: لا تنطعوا في القراءة، فإنما هو مثل قول أحدكم هلم وتعال. وقرأ ابن أبي إسحاق النحوي بفتح الهاء وكسر التاء. وقرأ عبد الرحمن السلمي وابن كثير هيت بفتح الهاء وضم التاء، ومنه قول طرفة: ليس قومي بالأبعدين إذا ما قال داع من العشيرة هيت وقرأ أبو جعفر ونافع بكسر الهاء وسكون الياء وفتح التاء. وقرأ علي وابن عباس في رواية عنه وهشام بكسر الهاء وبعدها همزة ساكنة وضم التاء. وقرأ ابن عامر وأهل الشام بكسر الهاء وبالهمزة وفتح التاء. ومعنى هيت على جميع القراءات معنى هلم وتعال، لأنها من أسماء الأفعال إلا فيقراءة من قرأ بكسر الهاء بعدها همزة وتاء مضمومة، فإنها بمعنى: تهيأت لك. وأنكر أبو عمرو هذه القراءة. وقال أبو عبيدة: سئل أبو عمرو عن قراءة من قرأ بكسر الهاء والهمزة وضم التاء فقال: باطل جعلها بمعنى تهيأت اذهب فاستعرض العرب حتى تنتهي إلى اليمن، هل تعرف أحداً يقول هكذا؟ وأنكرها أيضاً الكسائي. وقال النحاس: هي جيدة عند البصريين، لأنه يقال: هاء الرجل يهاء ويهيء هيئة، رجح الزجاج القراءة الأولى، وأنشد بيت طرفة المذكور هيتا بالفتح، ومنه قول الشاعر في علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أبلغ أمير المؤمنيــــن أخا العـــراق إذا أتيتا إن العـراق وأهــــله سلم إليك فهيت هيتا وتكون اللام في "لك" على القراءات الأولى التي هي فيها بمعنى اسم الفعل للبيان: أي لك. أقول هذا كما في هلم لك. قال النحويون: هيت جاء بالحركات الثلاث: فالفتح للخفة، والكسر لالتقاء الساكنين، والضم تشبيهاً بحيث، وإذا بين باللام نحو هيت لك فهو صوت قائم مقام المصدر كأف له: أي لك أقول هذا وإن لم يبين باللام فهو صوت قائم مقام مصدر الفعل فيكون اسم فعل، إما خبر: أي تهيأت، وإما أمر: أي أقبل. وقال في الصحاح: يقال هوت به وهيت به إذا صاح به ودعاه، ومنه قول الشاعر: يحدو بها كل فتى هيات وقد روي عن ابن عباس والحسن أنها كلمة سريانية معناها أنها تدعوه إلى نفسها. قال أبو عبيدة: كان الكسائي يقول: هي لغة لأهل حوران وقعت إلى أهل الحجاز معناها تعال. قال أبو عبيدة: فسألت شيخاً عالماً من حوران فذكر أنها لغتهم "قال معاذ الله" أي أعوذ بالله معاذاً مما دعوتني إليه، فهو مصدر منتصب بفعل محذوف مضاف إلى اسم الله سبحانه، وجملة "إنه ربي أحسن مثواي" تعليل للامتناع الكائن منه ببعض الأسباب التي هي أقرب إلى فهم امرأة العزيز، والضمير للشأن: أي إن الشأن ربي، يعني العزيز: أي سيدي الذي رباني وأحسن مثواي حيث أمرك بقوله: "أكرمي مثواه"، فكيف أخونه في أهله وأجيبك إلى ما تريدين من ذلك؟ وقال الزجاج: إن الضمير لله سبحانه: أي إن الله ربي تولاني بلطفه فلا أركب ما حرمه، وجملة "إنه لا يفلح الظالمون" تعليل آخر للامتناع منه عن إجابتها، والفلاح: الظفر. والمعنى: أنه لا يظفر الظالمون بمطالبهم، ومن جملة الظالمين الواقعون في مثل هذه المعصية التي تطلبها امرأة العزيز من يوسف.

وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ

قوله: 24- "ولقد همت به وهم بها" يقال هم بالأمر: إذا قصده وعزم عليه. والمعنى: أنه هم بمخالطتها كما همت بمخالطته ومال كل واحد منهما إلى الآخر بمقتضى الطبيعة البشرية والجبلة الخلقية، ولم يكن من يوسف عليه السلام القصد إلى ذلك اختياراً كما يفيده ما تقدم من استعاذته بالله، وإن ذلك نوع من الظلم. ولما كان الأنبياء معصومين عن الهم بالمعصية والقصد إليها شطح أهل العلم في تفسير هذه الآية بما فيه نوع تكلف، فمن ذلك ما قاله أبو حاتم قال: كنت أقرأ على أبي عبيدة غريب القرآن، فلما أتيت على "ولقد همت به وهم بها" قال: هذا على التقديم والتأخير: كأنه قال: ولقد همت به ولولا أن رأى برهان ربه لهم بها. وقال أحمد بن يحيى ثعلب: أي همت زليخا بالمعصية وكانت مصرة، وهم يوسف ولم يوقع ما هم به، فبين الهمين فرق، ومن هذا قول الشاعر: هممت بهم من ثنية لؤلؤ شفيت غليلات الهوى من فؤاديا فهذا إنما هو حديث نفس من غير عزم، وقيل هم بها: أي هم بضربها، وقيل هم بها بمعنى تمنى أن يتزوجها، وقد ذهب جمهور المفسرين من السلف والخلف إلى ما قدمنا من حمل اللفظ على معناه اللغوي، ويدل على هذا ما سيأتي من قوله "ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب"، وقوله "وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء" ومجرد الهم لا ينافي العصمة، فإنها قد وقعت العصمة عن الوقوع في المعصية، وذلك المطلوب، وجواب لو في "لولا أن رأى برهان ربه" محذوف: أي لولا أن رأى برهان ربه لفعل ما هم به. واختلف في هذا البرهان الذي رآه ما هو؟ فقيل إن زليخا قامت عند أن همت به وهم بها إلى صنم لها في زاوية البيت فسترته بثوب فقال: ما تصنعين؟ قالت: أستحي من إلهي هذا أن يراني على هذه الصورة، فقال يوسف: أنا أولى أن أستحي من الله تعالى. وقيل إنه رأى في سقف البيت مكتوباً " ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة " الآية، وقيل رأى كفاً مكتوباً عليها "وإن عليكم لحافظين" وقيل إن البرهان هو تذكره عهد الله وميثاقه وما أخذه على عباده، وقيل نودي: يا يوسف أنت مكتوب في الأنبياء وتعمل عمل السفهاء؟ وقيل رأى صورة يعقوب على الجدار عاضاً على أنملته يتوعده، وقيل غير ذلك مما يطول ذكره. والحاصل أنه رأى شيئاً حال بينه وبين ما هم به قوله: " كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء " الكاف نعت مصدر محذوف، والإشارة بذلك إلى الإراءة المدلول عليها بقوله: "لولا أن رأى برهان ربه" أو إلى التثبيت المفهوم من ذلك: أي مثل تلك الإراءة أريناه، أم مثل ذلك التثبيت ثبتناه "لنصرف عنه السوء" أي كل ما يسوؤه، والفحشاء كل أمر مفرط القبح، وقيل السوء: الخيانة للعزيز في أهله، والفحشاء: الزنا، وقيل السوء: الشهوة، والفحشاء: المباشرة، وقيل السوء: الثناء القبيح. والأولى الحمل على العموم فيدخل فيه ما يدل عليه السياق دخولاً أولياً، وجملة "إنه من عبادنا المخلصين" تعليل لما قبله. قرأ ابن عامر وابن كثير وأبو عمرو المخلصين بكسر اللام. وقرأ الآخرون بفتحها. والمعنى على القراءة الأولى أن يوسف عليه السلام كان ممن أخلص طاعته لله، وعلى الثانية أنه كان ممن استخلصه الله للرسالة.

وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ

وقد كان عليه السلام مخلصاً مستخلصاً 25- "واستبقا الباب" أي تسابقا إليه، فحذف حرف الجر وأوصل الفعل بالمفعول، أو ضمن الفعل معنى فعل آخر يتعدى بنفسه كابتدرا الباب، وهذا الكلام متصل بقوله: "ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه" وما بينهما اعتراض، ووجه تسابقهما أن يوسف يريد الفرار والخروج من الباب، وامرأة العزيز تريد أن تسبقه إليه لتمنعه، ووحد الباب هنا وجمعه فيما تقدم، لأن تسابقهما كان إلى الباب الذي يخلص منه إلى خارج الدار "وقدت قميصه من دبر" أي جذبت قميصه من ورائه فانشق إلى أسفله، والقد: القطع، وأكثر ما يستعمل فيما كان طولاً، والقط بالطاء يستعمل فيما كان عرضاً، وقع منها ذلك عند أن فر يوسف لما رأى برهان ربه فأرادت أن تمنعه من الخروج بجذبها لقميصه "وألفيا سيدها لدى الباب" أي وجدا العزيز هنالك، وعنى بالسيد: الزوج لأن القبط يسمون الزوج سيداً، وإنما لم يقل سيدهما، لأن ملكه ليوسف لم يكن صحيحاً فلم يكن سيداً له، وجملة "قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً" مستأنفة جواب سؤال مقدر كأنه قيل: فما كان منهما عند أن ألفيا سيدها لدى الباب، وما استفهامية، والمراد بالسوء هنا الزنا، قالت هذه المقالة طلباً منها للحيلة وللستر على نفسها، فنسبت ما كان منها إلى يوسف: أي جزاء يستحقه من فعل مثل فعل هذا، ثم أجابت عن استفهامها بقولها: "إلا أن يسجن" أي ما جزاؤه إلا أن يسجن، ويحتمل أن تكون ما نافية: أي ليس جزاؤه إلا السجن أو العذاب الأليم، قيل والعذاب الأليم هو الضرب بالسياط، والظاهر أنه ما يصدق عليه العذاب الأليم من ضرب أو غيره، وفي الإبهام للعذاب زيادة تهويل.

قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ

وجملة 26- "قال هي راودتني عن نفسي" مستأنفة كالجملة الأولى. وقد تقدم بيان معنى المراودة: أي هي التي طلبت مني ذلك ولم أرد بها سوءاً "وشهد شاهد من أهلها" أي من قرابتها، وسمي الحكم بينهما شهادة لما يحتاج فيه من التثبت والتأمل، قيل لما التبس الأمر على العزيز احتاج إلى حاكم يحكم بينهما ليتبين له الصادق من الكاذب. قيل كان ابن عم لها واقفاً مع العزيز في الباب، وقيل ابن خال لها، وقيل إنه طفل في المهد تكلم. قال السهيلي: وهو الصحيح للحديث الوارد في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذكر من تكلم في المهد، وذكر من جملتهم شاهد يوسف، وقيل إنه رجل حكيم كان العزيز يستشيره في أموره، وكان من قرابة المرأة "إن كان قميصه قد من قبل" أي فقال الشاهد هذه المقالة مستدلاً على بيان صدق الصادق منهما وكذب الكاذب بأن قميص يوسف إن كان مقطوعاً من قبل: أي من جهة القبل "فصدقت" أي فقد صدقت بأنه أراد بها سوءاً "وهو من الكاذبين" في قوله إنها راودته عن نفسه. وقرأ يحيى بن يعمر وابن أبي إسحاق من قبل بضم اللام. وكذا قرأ من دبر قال الزجاج: جعلاهما غايتين كقبل وبعد كأنه قيل من قبله ومن دبره، فلما حذف المضاف إليه: وهو مراد صار المضاف غاية بعد أن كان المضاف إليه هو الغاية.

وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ

27- "وإن كان قميصه قد من دبر" أي من ورائه "فكذبت" في دعواها عليه "وهو من الصادقين" في دعواها عليها، ولا يخفي أن هاتين الجملتين الشرطيتين لا تدوم لا تلازم بين مقدميهما وتالييهما، لا عقلاً ولا عادة، وليس ها هنا إلا مجرد أمارة غير مطردة، إذ من الجائز أن تجذبه إليها وهو مقبل عليها فينقد القميص من دبر، وأن تجذبه وهو مدبر عنها فينقد القميص من قبل.

فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ

28- "فلما رأى" أي العزيز "قميصه" أي قميص يوسف "قد من دبر قال إنه" أي هذا الأمر الذي وقع فيه الاختلاف بينكما، أو أن قولك: "ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً" "من كيدكن" أي من جنس كيدكن يا معشر النساء "إن كيدكن عظيم" والكيد: المكر والحيلة.

يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ

ثم خاطب العزيز يوسف بقوله 29- "يوسف أعرض عن هذا" أي عن هذا الأمر الذي جرى واكتمه ولا تتحدث به، ثم أقبل عليها بالخطاب فقال "واستغفري لذنبك" الذي وقع منك "إنك كنت" بسبب ذلك "من الخاطئين" أي من جنسهم، والجملة تعليل لما قبلها من الأمر بالاستغفار ولم يقل من الخاطئات تغليباً للمذكر على المؤنث كما في قوله "وكانت من القانتين"، ومعنى من الخاطئين من المتعمدين، يقال خطىء إذا أذنب متعمداً، وقيل إن القائل ليوسف ولامرأة العزيز بهذه المقالة هو الشاهد الذي حكم بينهما. وقد أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيوخ عن قتادة في قوله: " وراودته التي هو في بيتها عن نفسه" قال: هي امرأة العزيز. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد قال: راودته حين بلغ مبلغ الرجال. وأخرج أبو عبيد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس في قوله: " هيت لك " قال: هلم لك تدعوه إلى نفسها. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه اقلأ: هلم لك بالقبطية وأخرج ابن جرير عن الحسن قال: هي كلمة بالسريانية: أي عليك. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير قال: معناها تعال: وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد: إنها لغة عربية تدعوه بها إلى نفسها. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "إنه ربي" قال: سيدي، قال: يعني زوج المرأة. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وصححه عن ابن عباس قال: لما همت به تزينت ثم استلقت على فراشها، وهم بها جلس بين رجليها يحل ثيابه، فنودي من السماء يابن يعقوب لا تكن كطائر نتف ريشه فبقي لا ريش له، فلم يتعظ على النداء شيئاً حتى رأى برهان ربه جبريل في صورة يعقوب عاضاً على أصبعه، ففزع فخرجت شهوته من أنامله فوثب فأدركته، فوضعت يديها في قميصه فشقته حتى بلغت عضلة ساقه فألفيا سيدها لدى الباب. وأخرج أبو نعيم في الحلية عن علي بن أبي طالب في قوله: "همت به وهم بها" قال: طمعت فيه وطمع فيها. وكان فيه من الطمع أن هم أن يحل التكة، فقامت إلى صنم لها مكلل بالدر والياقوت في ناحية البيت فسترته بثوب أبيض بينها وبينه، فقال: أي شيء تصنعين؟ فقالت: أستحي من إلهي أن يراني على هذه السوءة، فقال يوسف: تستحين من صنم لا يأكل ولا يشرب، ولا أستحي أنا من إلهي الذي هو قائم على كل نفس بما كسبت؟ ثم قال: لا تناليها مني أبداً، وهو البرهان الذي رأى. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله: "لولا أن رأى برهان ربه" قال: مثل له يعقوب، فضرب بيده في صدره فخرجت شهوته من أنامله. وقد أطال المفسرون في تعيين البرهان الذي رآه، واختلفت أقوالهم في ذلك اختلافاً كثيراً. وأخرج ابن جرير عن زيد بن ثابت: قال السيد: الزوج، يعني في قوله " وألفيا سيدها لدى الباب " وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد نحوه. وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: " إلا أن يسجن أو عذاب أليم " قال: القيد. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "وشهد شاهد من أهلها" قال: صبي أنطقه الله كان في الدار. وأخرج أحمد وابن جرير والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "تكلم أربعة وهم صغار: ابن ماشطة فرعون، وشاهد يوسف، وصاحب جريح، وعيسى بن مريم". وأخرج عبد الرزاق والفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "وشهد شاهد من أهلها" قال: كان رجلاً ذا لحية. وأخرج الفريابي وابن جرير وأبو الشيخ عنه قال: كان من خاصة الملك. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن قال: هو رجل له فهم وعلم. وأخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم قال: ابن عم لها كان حكيماً. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد قال: إنه ليس بإنسي ولا جني هو خلق من خلق الله. قلت: ولعله لم يستحضر قوله تعالى: "من أهلها".

وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ

يقال نسوة بضم النون، وهي قراءة الأعمش والفضل وسليمان. ويقال نسوة بكسر النون، وهي قراءة الباقين، والمراد جماعة من النساء، ويجوز التذكير في العفل المسند إليهن كما يجوز التأنيث. قيل: وهن امرأة ساقي العزيز وامرأة خبازه، وامرأة صاحب دوابه، وامرأة صاحب سجنه، وامرأة حاجبه. وافتى في كلام العرب: الشاب، والفتاة: الشابة، والمراد به هنا: غلامها، يقال فتاي وفتاتي: أي غلامي واجاريتي. وجملة 30- "قد شغفها حباً" في محل رفع على أنها خبر ثان للمبتدأ، أو في محل نصب على الحال، ومعنى شغفها حباً: غلبها حبه، وقيل دخل حبه في شغافها. قال أبو عبيدة: وشغاف القلب غلافه وهو جلدة عليه، وقيل هو وسط القلب. وعلى هذا يكون المعنى: دخل حبه إلى شغافها فغلب عليه، وأنشد الأصمعي قول الراجز: يتبعها وهي له شغاف وقرأ جعفر بن محمد وابن محيصن والحسن شعفها بالعين المهملة. قال ابن الأعرابي: معناه أجرى حبه عليها. وقرأ غيرهم بالمعجمة. قال الجوهري: شعفه الحب أحرق قلبه. وقال أبو زيد: أمرضه. قال النحاس: معناه عند أكثر أهل اللغة: قد ذهب بها كل مذهب، لأن شعاف الجبال: أعاليها، وقد شغف بذلك شغفاً بإسكان الغين المعجمة: إذا ولع به، وأنشد أبو عبيدة بيت امرئ القيس: أتقتلني من قد شغفت فؤادها كما شغف المهنوة الرجل الطالي قال: فشبهت لوعة الحب بذلك. وقرأ الحسن قد شغفها بضم الغين. قال النحاس: وحكي قد شغفها بكسر الغين، ولا يعرف ذلك في كلام العرب إلا شغفها بفتح الغين، ويقال إن الشغاف: الجلدة اللاصقة بالكبد التي لا ترى، وهي الجلدة البيضاء، فكأنه لصق حبه بقلبها كلصوق الجلدة بالكبد، وجملة "إنا لنراها في ضلال مبين" مقررة لمضمون ما قبلها. والمعنى: إنا لنراها: أي نعلمها في فعلها هذا، وهو المراودة لتاها في ضلال عن طريق الرشد والصواب مبين: واضح لا يلتبس على من نظر فيه.

فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآَتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَ

31- "فلما سمعت" امرأة العزيز "بمكرهن" أي بغيبهن إياها، سميت الغيبة مكراً لاشتراكهما في الإخفاء، وقيل أردن أن يتوسلن بذلك إلى رؤية يوسف، فلهذا سمي قولهن مكراً، وقيل إنها أسرت عليهن فأفشين سرها فسمى بذلك مكراً "أرسلت إليهن" أي تدعوهن إليها لينظرن إلى يوسف حتى يقعن فيما وقعت فيه " وأعتدت لهن متكئا " أي هيأت لهن مجالس يتكئن عليها، وأعتجت من الاعتداد، وهو كل ما جعلته عدة لشيء. وقرأ مجاهد وسعيد بن جبير متكأ مخففاً غير مهموز، والمتك: هو الأترج بلغة القبط، ومنه قول الشاعر: نشرب الإثم بالصواع جهاراً وترى المتك بيننا مستعاراً وقيل إن ذلك هو لغة أزدشنوءة، وقيل حكي ذلك عن الأخفش. وقال الفراء: إنه ماء الورد. وقرأ الجمهور متكأ بالهمز والتشديد، وأصح ما قيل فيه إنه المجلس، وقيل هو الطعام، وقيل المتكأ كل ما اتكئ عليه عند طعام أو شراب أو حديث. وحكى القتيبي أنه يقال اتكأنا عند فلان: أي أكلنا، ومنه قول الشاعر: فظللنا بنعمة واتكأنا وشربنا الحلال من قلله ويؤيد هذا قوله: "وآتت كل واحدة منهن سكيناً" فإن ذلك إنما يكون لشيء يأكلنه بعد أن يقطعنه، والسكين تذكر وتؤنث، قاله الكسائي والفراء. قال الجوهري: والغالب عليه التذكر، والمراد من إعطائها لكل واحدة سكيناً أن يقطعن ما يحتاج إلى التقطيع من الأطعمة، ويمكن أنها أرادت بذلك ما سيقطع منهن من تقطيع أيديهن "وقالت" ليوسف " اخرج عليهن " أي في تلك الحالة التي هن عليها من الاتكاء والأكل وتقطيع ما يحتاج إلى التقطيع من الطعام. وقوله: "فلما رأينه أكبرنه" أي عظمته، وقيل أمذين، ومنه قول الشاعر: إذا ما رأين الفحل من فوق قلة صهلن وأكبرن المني المقطرا وقيل حضن. قال الأزهري: أكبرن بمعنى حضن، والهاء للسكت، يقال أكبرت المرأة: أي دخلت في الكبر بالحيض: وقع منهن ذلك دهشاً وفزعاً لما شاهدنه من جماله الفائق، وحسنه الرائق، ومن ذلك قول الشاعر: نأتي النساء على أطهارهن ولا نأتي النساء إذا أكبرن إكبارا وأنكر ذلك أبو عبيدة وغيره وقالوا: ليس ذلك في كلام العرب. قال الزجاج: يقال أكبرنه ولا يقال حضنه، فليس الإكبار بمعنى الحيض. وأجاب الأزهري فقال: يجوز أن تكون هاء الوقف لا هاء الكناية. وقد زيف هذا بأن هاء الوقف تسقط في الوصل. وقال ابن الأنباري: إن الهاء كناية عن مصدر الفعل: أي أكبرن إكباراً بمعنى حضن حيضاً "وقطعن أيديهن" أي جرحنها، وليس المراد به القطع الذي تبين منه اليد، بل المراد به الخدش والحز، وذلك معروف في اللغة كما قال النحاس، يقال قطع يد صاحبه: إذا خدشها، وقيل المراد بأيديهن هنا: أناملهن، وقيل أكمامهن. والمعنى: أنه لما خرج يوسف عليهن أعظمنه ودهشن وراعهن حسنه حتى اضطربت أيديهن فوقع القطع عليها وهن في شغل عن ذلك بما دهمهن، مما تطيش عنده الأحلام وتضطرب له الأبدان وتزول به العقول " وقلن حاش لله " كذا قرأ أبو عمرو بن العلاء بإثبات الألف في حاشا. وقرأ الباقون بحذفها. وقرأ الحسن حاش لله بإسكان الشين، وروي عنه أنه قرأ حاش لله وقرأ ابن مسعود وأبي حاشا لله. قال الزجاج: وأصل الكلمة من الحاشية بمعنى الناحية، تقول كنت في حاشية فلان. أي في ناحيته، فقولك حاشا لزيد من هذا: أي تباعد منه. وقال أبو علي: هو من المحاشاة: وقيل إن حاش حرف. وحاش فعل، وكلام أهل النحو في هذه الكلمة معروف، ومعناها هنا التنزيه كما تقول: أسى القوم حاشا زيداً، فمعنى حاشا لله: براءة لله وتنزيه له. قوله: "ما هذا بشراً" إعمال ما عمل ليس هي لغة أهل الحجاز، وبها نزل القرآن كهذه الآية، وكقوله سبحانه " ما هن أمهاتهم "، وأما بنو تميم فلا يعملونها عمل ليس. وقال الكوفيون: أصله ما هذا ببشر، فلما حذفت الباء انتصب. قال أحمد بن يحيى ثعلب: إذا قلت مازيد بمنطلق، فموضع الباء موضع نصب، وهكذا سائر حروف الخفض. وأما الخليل وسيبويه وجمهور النحويين فقد أعملوها عمل ليس، وبه قال البصريون والبحث مقرر في كتب النحو بشواهده وحججه، وإنما نفين عنه البشرية لأنه قد برز في صورة قد لبست من الجمال البديع ما لم يعهد على أحد من البشر، ولا أبصر المبصرون ما يقاربه في جميع الصور البشرية، ثم لما نفين عنه البشرية لهذه العلة أثبتن له الملكية وإن كن لا يعرفن الملائكة لكنه قد تقرر في الطباع أنهم على شكل فوق شكل البشر في الذات والصفات، وأنهم فائقون في كل شيء، كما تقرر أن الشياطين على العكس من ذلك، ومن هذا قول الشاعر: فلست لإنسي ولكن لملاك تنزل من جو السماء يصوت وقرأ الحسن ما هذا بشراء على أن الباء حرف جر، والشين مكسورة: أي ما هذا بعبد يشترى وهذه قراءة ضعيفة لا تناسب ما بعدها من قوله: "إن هذا إلا ملك كريم". وأعلم أنه لا يلزم من قول النسوة هذا أن الملائكة صورهم أحسن من صور بني آدم، فإنهن لم يقلنه لدليل، بل حكمن على الغيب بمجرد الاعتقاد المرتكز في طباعهن وذلك ممنوع، فإن الله سبحانه يقول "لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم". وظاهر هذا أنه لم يكن شيء مثله من أنواع المخلوقات في حسن تقويمه وكمال صورته، فما قاله صاحب الكشاف في هذا المقام هو من جلمة تعصباته لما رسخ في عقله من أقوال المعتزلة، على أن هذه المسألة: أعني مسألة المفاضلة بين الملائكة والبشر ليست من مسائل الدين في ورد ولا صدر، فما أغنى عباد الله عنها وأحوجهم إلى غيرها من مسائل التكليف.

قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آَمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ

32- "قالت فذلكن الذي لمتنني فيه" الإشارة إلى يوسف، والخطاب للنسوة: أي عيرتنني فيه. قالت لهن هذا لما رأت افتتانهن بيوسف إظهاراً لعذر نفسها، ومعنى فيه: أي في حبه، وقيل الإشارة إلى الحب، والضمير له أيضاً، والمعنى: فذلك الحب الذي لمتنني فيه هو ذلك الحب، والأول أولى. ورجحه ابن جرير. وأصل اللوم: الوصف بالقبيح، ثم لما أظهرت عذر نفسها عند النسوة بما شاهدته مما وقعن فيه عند ظهوره لهن ضاق صدرها عن كتم ما تجده في قلبها من حبه، فأقرت بذلك وصرحت بما وقع منها من المراودة له، فقالت "ولقد راودته عن نفسه فاستعصم" أي استعف وامتنع مما أريده طالباً لعصمة نفسه عن ذلك، ثم توعدته إن لم يفعل ما تريده كاشفة لجلباب الحياء هاتكة لستر العفاف فقالت "ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكوناً من الصاغرين" أي لئن لم يفعل ما قد أمرته به فيما تقدم ذكره عند أن غلقت الأبواب وقالت هيت لك ليسجنن: أي يعتقل في السجن وليكونن من الصاغرين الأذلاء لما يناله من الإهانة، ويسلب عنه من النعمة والعزة في زعمها، قرئ ليكونن بالتثقيل والتخفيف، قيل والتخفيف أولى لأن النون كتبت في المصحف ألفاً على حكم الوقف، وذلك لا يكون إلا في الخفيفة، وأما ليسجنن فبالتثقيل لا غير، فلما سمع يوسف مقالها هذا، وعرف أنها عزمة منها مع ما قد علمه من نفاذ قولها عند زوجها العزيز قال مناجياً لربه سبحانه.

قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ

33- "رب السجن" أي يا رب السجن الذي أوعدتني هذه به "أحب إلي مما يدعونني إليه" من مؤاتاتها والوقوع في المعصية العظيمة التي تذهب بخير الدنيا والآخر. قال الزجاج: أي دخول السجن، فحذف المضاف. وحكى أبو حاتم أن عثمان بن عفان رضي الله عنه قرأ السجن بفتح السين، وقرأ كذلك ابن أبي إسحاق وعبد الرحمن والأعرج ويعقوب، وهو مصدر سجنه سجناً، وإسناد الدعوة إليهن جميعاً، لأن النسوة رغبنه في مطاوعتها وخوفنه من مخالفتها، ثم جرى على هذا في نسبة الكيد إليهن جميعاً، فقال: "وإلا تصرف عني كيدهن" أما الكيد من امرأة العزيز فما قد قصه الله سبحانه في هذه السورة، وأما كيد سائر النسوة فهو ما تقدم من الترغيب له في المطاوعة والتخويف من المخالفة وقيل إنها كانت كل واحدة تخلو به وحدها وتقول له: يا يوسف اقض لي حاجتي فأنا خير لك من امرأة العزيز، وقيل إنه خاطب امرأة العزيز بما يصلح لخطاب جماعة النساء تعظيماً لها، أو عدولاً عن التصريح إلى التعويض، والكيد: الاحتيال، وجزم "أصب إليهن" على أنه جواب الشرط: أي أمل إليهن، من صبا يصبو: إذا مال واشتاق، ومنه قول الشاعر: إلى هند صبا قلبي وهند حبها يصبي "وأكن من الجاهلين" معطوف على أصب: أي أكن ممن يجهل ما يحرم ارتكابه ويقدم عليه، أو ممن يعمل عمل الجهال.

فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ

وقوله 34- "فاستجاب له ربه" لما قال: وإلا تصرف عني كيدهن كان ذلك منه تعرضا للدعاء، وكأنه قال: اللهم اصرف عني كيدهن، فالاستجابة من الله تعالى له هي بهذا الاعتبار، لانه لم يتقدم دعاء صادق منه عليه السلام، والمعنى: أنه لطف به وعصمه عن الوقوع في المعصية، لأنه إذا صرف عنه كيدهن لم يقع شيء مما رمنه منه، ووجه إسناد الكيد قد تقدم، وجملة "إنه هو السميع العليم" تعليل لما قبلها من صرف كيد النسوة عنه: أي إنه هو السميع لدعوات الداعين له: العليم بأحوال الملتجئين إليه. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "قد شغفها" قال: غلبها. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه "قد شغفها" قال: قتلها حب يوسف، الشغف: الحب القاتل، والشغف: حب دون ذلك، والشغاف: حجاب القلب. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضاً "قد شغفها" قال: قد علقها. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "فلما سمعت بمكرهن" قال: بحديثهن. وأخرج ابن أبي حاتم عن سفيان "فلما سمعت بمكرهن" قال: بعلمهن، وكل مكر في القرآن فهو عمل. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في قوله: " وأعتدت لهن متكئا " قال: هيأت لهن مجلساً، وكان سنتهم إذا وضعوا المائدة أعطوا كل إنسان سكيناً يأكل بها "فلما رأينه" قال: فلما خرج عليهن يوسف "أكبرنه" قال: أعظمنه ونظرن إليه، وأقبلن يحززن أيديهن بالسكاكين وهن يحسبن أنهن يقطعن الطعام. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس " وأعتدت لهن متكئا " قال: أعطنهن أترنجاً، وأعطت كل واحدة منهن سكيناً، فلما رأين يوسف أكبرنه، وجعلن يقطعن أيديهن وهن يحسبن أنهن يقطعن الأترنج. وأخرج مسدد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عنه المتكأ: الأترنج، وكان يقرأها خفيفة. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد " متكئا " قال: طعاماً. وأخرج أبو عبيد وابن المنذر عنه قال هو الأترنج. وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: هو كل شيء يقطع بالسكين. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن الضحاك مثله. وأخرج أبو الشيخ من طريق عبد العزيز بن الوزير بن الكميت بن زيد قال حدثني أبي عن جدي يقول في قوله "فلما رأينه أكبرنه" قال: أمنين، وأنشد: ولما رأته الخيل من رأس شاهق صهلن وأمنين المني المدفقا وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق عبد الصمد بن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه عن جده ابن عباس في قوله "فلما رأينه أكبرنه" قال: لما خرج عليهن يوسف حضن من الفرح وذكر قول الشاعر الذي قدمنا ذكره: نأثي النساء لدى أطهارهن وأخرج ابن أبي شيبة وابن جريروابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "أكبرنه" قال: أعظمنه "وقطعن أيديهن" قال: حزاً بالسكين حتى ألقينها " وقلن حاش لله " قال: معاذ الله. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: " إن هذا إلا ملك كريم " قال: قلن ملك من الملائكة من حسنه. وأخرج أبو الشيخ عن منبه عن أبيه قال: مات من النسوة التي قطعن أيديهن تسع عشرة امرأة كمداً. وأخرج أحمد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أعطي يوسف وأمه شطر الحسن، وقد وردت روايات عن جماعة من السلف في وصف حسن يوسف، والمبالغة في ذلك، ففي بعضها أنه أعطي نصف الحسن، وفي بعضها ثلثه، وفي بعضها ثلثيه، وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس "فاستعصم" قال: امتنع. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن قتادة "فاستعصم" قال: فاستعصى. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن زيد في قوله: "وإلا تصرف عني كيدهن" قال: إن لا تكن منك أنت القوى والمنعة لا تكن مني ولا عندي. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ "أصب إليهن" قال: أتبعهن وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس قال: أطاوعهن.

ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآَيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ

معنى: 35- "بدا لهم" ظهر لهم، والضمير للعزيز وأصحابه الذين يدبرون الأمر معه ويشيرون عليه، وأما فاعل" بدا لهم" فقال سيبويه هو "ليسجننه": أي ظهر لهم أن يسجنوه. قال المبرد: وهذا غلط لأن الفاعل لا يكون جملة، ولكن الفاعل ما دل عليه بدا وهو المصدر كما قال الشاعر: وحق لمن أبو موسى أبوه يوفقه الذي نصب الجبالا أي وحق الحق فحذف الفاعل لدلالة الفعل عليه: وقيل الفاعل المحذوف هو رأى: أي وظهر لهم رأي لم يكونوا يعرفونه من قبل، وهذا الفاعل حذف [لدلالته] وليسجننه عليه، واللام في ليسجننه جواب قسم محذوف على تقدير القول: أي ظهر لهم من بعد ما رأوا الآيات قائلين والله ليسجننه. وقرىء لتسجننه بالمثناة الفوقية على الخطاب، إما للعزيز ومن معه، أو له وحده على طريق التعظيم، والآيات قيل هي القميص وشهادة الشاهد وقطع الأيدي، وقيل هي البركات التي فتحها الله عليهم بعد وصول يوسف إليهم ولم يجد ذلك فيهم بل كانت امرأته هي الغالبة على رأيه الفاعلة لما يطابق هواها في يوسف، وإنفاذ ما تقدم منها من الوعيد له بقولها" ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين " قيل وسبب ظهور هذا الرأي لهم في سجن يوسف أنهم أرادوا ستر القالة وكتم ما شاع في الناس من قصة امرأة العزيز معه، وقيل إن العزيز قصد بسجنه الحيلولة بينه وبين امرأته لما علم أنها قد صارت بمكان من حبه لا تبالي معه بحمل نفسها علبه على أي صفة كانت، ومعنى قوله "حتى حين" إلى مدة غير معلومة كما قال أكثر المفسرين، وقيل إلى انقطاع ما شاع في المدينة. وقال سعيد بن جبير: إلى سبع سنين، وقيل إلى خمس، وقيل إلى ستة أشهر، وقد تقدم في البقرة الكلام في تفسير الحين، وحتى بمعنى إلى.

وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآَخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ

قوله:36- "ودخل معه السجن فتيان" في الكلام حذف متقدم عليه، والتقدير: وبدا لهم من بعد ما رأو الآيات ليسجننه حتى حين فسجنوه، ودخل معه السجن فتيان، ومع للمصاحبة، وفتيان تثنية فتى، وذلك يدل على أنهما عبدان له، ويحتمل أن يكون الفتى اسماً للخادم وإن لم يكن مملوكاً، وقد قيل إن أحدهما خباز الملك، والآخر ساقيه، وقد كانا وضعا للملك سماً لما ضمن لهما أهل مصر مالاً في مقابلة ذلك، ثم إن الساقي رجع عن ذلك وقال للملك: لا تأكل الطعام فإنه مسموم، وقال الخباز: لا تشرب فإن الشراب مسموم، فقال الملك للساقي: اشرب فشرب فلم يضره، وقال للخباز كل فأبى، فجرب الطعام على حيوان فهلك مكانه فحبسهما، وكان دخولهما السجن مع دخول يوسف، وقيل قبله، وقيل بعده. قال ابن جرير: إنهما سألا يوسف عن علمه فقال: إني أعبر الرؤيا، فسألاه عن رؤياهماكما قص الله سبحانه "قال أحدهما إني أراني أعصر خمراً" أي رأيتني، والتعبير بالمضارع لاستحضار الصورة. والمعنى: إني أراني أعصر عنباً، فسماه باسم ما يؤول إليه لكونه المقصود من العصر. وفي قراءة ابن مسعود أعصر عنباً قال الأصمعي: أخبرني المعتمر بن سليمان أنه لقي أعرابياً ومعه عنب، فقال له: ما معك؟ فقال خمر. وقيل معنى أعصر خمراً. أي عنب خمر، فهو على حذف المضاف، وهذا الذي رأى هذه الرؤيا هو الساقي، وهذه الجملة مستأنفة بتقدير سؤال، وكذلك الجملة التي بعدها وهي "وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزاً" ثم وصف الخبز هذا بقوله: "تأكل الطير منه" وهذا الرائي لهذه الرؤيا هو الخباز، قم قالا ليوسف حميعاً بعد أن قصا رؤياهما عليه "نبئنا بتأويله" أي بتأويل ما قصصناه عليك من مجموع المرئيين، أو بتأويل المذكور لك من كلامنا، وقيل إن كل واحد منهما قال له ذلك عقب قص رؤياه عليه، فيكون الضمير راحعاً إلى ما رآه كل واحد منهما، وقيل إن الضمير في بتأويله موضوع موضع اسم الإشارة، والتقدير يتأويل ذلك "إنا نراك من المحسنين" أي من الذين يحسنون عبارة الرؤيا وكذا قال الفراء : إن معنى من المحسنين من العالمين الذين أحسنوا العلم. وقال ابن إسحاق: من المحسنين إلينا إن فسرت ذلك، أو من المحسنين إلى اهل السجن، فقد روي أنه كان كذلك.

قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ

وجملة 37- "قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما" مستأنفة جواب سؤال مقدر، ومعنى ذلك أنه يعلم شيئاً من الغيب، وأنه لا يأتيهما إلى السجن طعام إلا أخبرهما بماهيته قبل أن يأتيهما، وهذا ليس من جواب سؤالهما تعبير ما قصاه عليه، بل جعله عليه السلام مقدمة قبل تعبيره لرؤياهما بياناً لعلو مرتبته في العلم، وأنه ليس من المعبرين الذين يعبرون الرؤيا عن ظن وتخمين، فهو كقول عيسى عليه السلام "وأنبئكم بما تأكلون" وإنما قال يوسف عليه السلام لها بهذا ليحصل الانقياد منها له فيما يدعوهما إليه بعد ذلك من الإيمان بالله والخروج من الكفر، ومعنى ترزقانه: يجري عليهما من جهة الملك أو غيره، والجملة صفة لطعام، أو يرزقكما الله سبحانه، والاستثناء بقوله: "إلا نبأتكما بتأويله" مفرغ من أعم الأحوال: أي يأتيكما، وسماه تـأويلاً بطريق المشاكلة، لأن الكلام في تأويل الرؤيا، أو المعنى: إلا نبأتكما بما يؤول إليه الكلام من مطابقة ما أخبركما به للواقع، والإشارة بقوله: "ذلكما" إلى التأويل، والخطاب للسائلين له عن تعبير رؤياهما "مما علمني ربي" بما أوحاه إلي وأهمني إياه لا من قبيل الكهانة والتنجيم ونحو ذلك مما يكثر فيه الخطأ، ثم بين لهما أن ذلك الذي ناله من هذه الرتبة العلية والعلوم الجملة هو بسبب ترك الملة التي لا يؤمن أهلها بالله ولا بالآخرة واتباعه لملة الأنبياء من آبائه فقال: "إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله" وهو كلام مستأنف يتضمن التعليل لما قبله، والمراد بالترك هو عدم التلبس بذلك من الأصل، لا أنه قد كان تلبس به، ثم تركه كما يدل عليه قوله: "ما كان لنا أن نشرك بالله" ثم وصف هؤلاء القوم بما يدل على تصلبهم في الكفر وتهالكهم عليه. فقال " وهم بالآخرة هم كافرون " أي هم مختصون بذلك دون غيرهم لإفراطهم في الكفر بالله .

وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آَبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ

وقوله: 38- "واتبعت" معطوف على تركت، وسماهم آباء جميعاً لأن الأجداد آباء، وقدم الجد الأعلى، ثم الجلد الأقرب ثم الأب لكون إبراهيم هو أصل هذه الملة التي كان عليها أولاده ثم تلقاها عنه إسحاق ثم يعقوب، وهذا منه عليه السلام لترغيب صاحبيه في الإيمان بالله "ما كان لنا أن نشرك بالله" أي ما صح لنا ذلك فضلاً عن وقوعه، والضمير في لنا له وللأنبياء المذكورين، والإشارة بقوله: "ذلك" إلى الإيمان المفهوم من قوله ما كان لنا أن نشرك بالله، و"من فضل الله علينا" خبر اسم الإشارة: أي ناشئ من تفضلات الله علينا ولطفه بنا بما جعله لنا من النبوة المتضمنة للعصمة عن معاصيه، ومن فضل الله على الناس كافة ببعثة الأنبياء إليهم وهدايتهم إلى ربهم وتبيين طرائق الحق لهم "ولكن أكثر الناس لا يشكرون" الله سبحانه على نعمه التي أنعم بها عليهم فيؤمنون به ويوحدونه ويعملون بما شرعه لهم.

يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ

قوله: 39- " يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار " جعلهما مصاحبين للسجن لطول مقامهما فيه، وقيل المراد: يا صاحبي في السجن، لأن السجن ليس بمصحوب بل مصحوب فيه، وأن ذلك من باب يا سارق الليلة. وعلى الأول يكون من باب قوله: "أصحاب الجنة أصحاب النار" والاستفهام للإنكار مع التقريع والتوبيخ، ومعنى التفرق هنا هو التفرق في الذوات والصفات والعدد: أي هل الأرباب المتفرقون في ذواتهم المختلفون في صفاتهم المتنافون في عددهم خير لكما يا صاحبي السجن، أم الله المعبود بحق المتفرد في ذاته وصفاته الذي لا ضد له ولا ند ولا شريك، القهار الذي لا يغالبه مغالب ولا يعانده معاند؟ أورد يوسف عليه السلام على صاحبي السجن هذه الحجة القاهرة على طريق الاستفهام، لأنهما كانا ممن يعبد الأصنام، وقد قيل إنه كان بين أيديهما أصنام يعبدونها عند أن خاطبهما بهذا الخطاب.

مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَ

ولهذا قال لهما 40- "ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها" أي إلا أسماء فارغة سميتموها ولا مسميات لها، وإن كنتم تزعمون أن لها مسميات، وهي الآلهة التي تعبدونها، لكنها لما كانت لا تستحق التسمية بذلك صارت الأسماء كأنها لا مسيمات لها، وقيل المعنى: ما تعبدون من دون الله إلا مسميات أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم من تلقاء أنفسكم، وليس لها من الإلهية شيء إلا مجرد الأسماء لكونها جمادات لا تسمع ولا تصبر ولا تنفع ولا تضر، وإنما قال: "ما تعبدون" على خطاب الجمع وكذلك ما بعده من الضمائر، لأنه قصد خطاب صاحبي السجن ومن كان على دينهم، ومفعول سميتموها الثاني محذوف: أي سميتموها آلهة من عند أنفسكم "ما أنزل الله بها" أي بتلك التسمية "من سلطان" من حجة تدل على صحتها "إن الحكم إلا لله" أي ما الحكم إلا لله في العبادة، فهو الذي خلقكم وخلق هذه الأصنام التي جعلتموها معبودة بدون حجة ولا برهان، وجملة " أمر أن لا تعبدوا إلا إياه " مستأنفة، والمعنى: أنه أمركم بتخصيصه بالعبادة دون غيره مما تزعمون أنه معبود، ثم بين لهم أن عبادته وحده دون غيره هي دين الله الذي لا دين غيره فقال: "ذلك" أي تخصيصه بالعبادة "الدين القيم" أي المستقيم الثابت "ولكن أكثر الناس لا يعلمون" أن ذلك هو دينه القويم، وصراطه المستقيم، لجهلكم وبعدكم عن الحقائق. وقد أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عكرمة قال: سألت ابن عباس عن قوله: "ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات" فقال: ما سألني عنها أحد قبلك، من الآيات قد القميص وأثرها في جسده، وأثر السكين، وقالت امرأة العزيز: إن أنت لم تسجنه ليصدقنه الناس. وأخرج أبو الشيخ عن ابن زيد قال: من الآيات كلام الصبي. وأخرج ابن جرير عن قتادة قال: الآيات حزهن أيديهن وقد القميص. وأقول: إن كان المراد بالآيات: الآيات الدالة على براءته فلا يصح عد قطع أيدي النسوة منها، لأنه وقع منهن ذلك لما حصل لهن من الدهشة عند ظهوره لهن مع ما ألبسه الله سبحانه من الجمال الذي تنقطع عند مشاهدته عرى الصبر وتضعف عند رؤيته قوى التجلد، وإن كان المراد بالآيات الدالة على أنه قد أعطي من الحسن ما يسلب عقول المبصرين، ويذهب بإدراك الناظرين، فنعم يصح عد قطع الأيدي من جملة الآيات، ولكن ليس هذه الآيات هي المرادة هنا. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وصححه عن ابن عباس قال: عوقب يوسف ثلاثة مرات: أما أول مرة فبالحبس لما كان من حمه بها، والثانية لقوله: "اذكرني عند ربك" "فلبث في السجن بضع سنين" عوقب بطول الحبس، والثالثة حيث قال: "أيتها العير إنكم لسارقون" فاستقبل في وجهه "إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل". وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما" خازن الملك على طعامه، والآخر سياقه على شرابه. وأخرج ابن جرير عنه في قوله: "إني أراني أعصر خمراً" قال: عنباً. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن مجاهد " نبئنا بتأويله " قال : عبارته . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: "إنا نراك من المحسنين" قال: كان إحسانه فيما ذكر لنا أنه كان يعزي حزينهم ويداوي مريضهم، ورأو منه عبادة واجتهاداً فأحبوه. وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي في الشعب عن الضحاك قال: كان إحسانه أنه إذا مرض إنسان في السجن قام عليه. وإذا ضاق عليه المكان أوسع له، وإذا احتاج جمع له. وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس قال: دعا يوسف لأهل السجن فقال: اللهم لا تعم عليهم الأخبار وهون عليهم مر الأيام. وأخرج أبو عبيد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن جريح في قوله: "لا يأتيكما طعام" الآية قال: كره العبارة لهما فأجابهما بغير جوابهما ليريهما أن عنده علماً، وكان الملك إذا أراد قتل إنسان نع له طعاماً معلوماً فأرسل به إليه، فقال يوسف "لا يأتيكما طعام ترزقانه" إلى قوله: "يشكرون" فلم يدعه صاحبا الرؤيا حتى يعبر لهما، فكره العبارة فقال: "يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون" إلى قوله: "ولكن أكثر الناس لا يعلمون" قال: فلم يدعاه فعبر لهما. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: "ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس" قال: إن المؤمن ليشكر ما به نعمة الله، ويشكر ما بالناس من نعم الله، ذكر لنا أن أبا الدرداء كان يقول: يا رب شاكر نعمة غير منعم عليه لا يدري، ويا رب حامل فقه غير فقيه. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: "أأرباب متفرقون" الآية قال: لما عرف يوسف أن أحدهما مقتول دعاهما إلى حظهما من ربهما وإلى نصيبهما من آخرتهما. وأخرج أبو الشيخ عن ابن جريح في قوله: "ذلك الدين القيم" قال: العدل.

يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآَخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ

فقال: هذا هو بيان ما طلباه منه من تعبير رؤياهما، والمراد بقوله: "أما أحدكما" هو الساقي، وإنما أبهمه لكونه مفهوماص أو لكراهة التصريح للخباز بأنه الذي سيصلب "فيسقي ربه خمراً" أي مالكه، وهي عهدته التي كان قائماً بها في خدمة الملك، فكأنه قال: أما أنت أيها الساقي فستعود إلى ما كنت عليه ويدعو بك الملك ويطلقك من الحبس "وأما الآخر" وهو الخباز "فيصلب فتأكل الطير من رأسه" تعبيراً لما رآه من أنه يحمل فوق رأسه خبزاً فتأكل الطير منه "قضي الأمر الذي فيه تستفتيان" وهو ما رأياه وقصاه عليه، يقال استفتاه: إذا طلب منه بيان حكم شيء سأله عنه مما أشكل عليه، وهما قد سألاه تعبير ما أشكل عليهما من الرؤيا.

وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ

42- "وقال للذي ظن أنه ناج منهما" أي قال يوسف، والظان هو أيضاً يوسف، والمراد بالظن العلم لأنه قد علم من الرؤيا نجاة الشرابي وهلاك الخباز، هكذا قال جمهور المفسرين. وقيل الظاهر على معناه، لأن عابر الرؤيا إنما يظن ظناً، والأول أولى وأنسب بحال الأنبياء. ولا سيما وقد أخبر عن نفسه عليه السلام بأنه قد أطلعه الله على كل شيء من علم الغيب كما في قوله: "لا يأتيكما طعام ترزقانه" الآية،وجملة "اذكرني عند ربك" هي مقول القول أمره بأن يذكره عند سيده ويصفه بما شاهده منه من جودة التعبير والاطلاع على شيء من علم الغيب، وكانت هذه المقالة منه عليه السلام صادرة عن هول ونسيان عن ذكر الله بسبب الشيطان، فيكون ضمير المفعول في أنساه عائداً إلى يوسف، هكذا قال بعض المفسرين ويكون المراد بربه في قوله: "ذكر ربه" هو الله سبحانه: أي إنساء الشيطان يوسف ذكر الله تعالى في تلك الحال "وقال للذي ظن أنه ناج منهما" يذكره عند سيده ليكون ذلك سبباً لانتباهه على ما أوقعه من الظلم البين عليه بسجنه بعد أن رأى من الآيات ما يدل على براءته. وذهب كثير من المفسرين إلى أن الذي أنساه الشيطان ذكر ربه هو الذي نجا من الغلامين: وهو الشرابي، والمعنى: إنساء الشيطان الشرابي ذكر سيده: أي ذكره لسيده فلم يبلغ إليه ما اوصاه به يوسف مع ذكره عند سيده، ويكون المعنى: فأنساه الشيطان ذكر إخباره بما أمره به يوسف مع خلوصه من السجن ورجوعه إلى ما كان عليه من القيام بسقي الملك، وقد رجح هذا بكون الشيطان لا سبيل له على الأنبياء. وأجيب بأن النسيان وقع من يوسف، ونسبته إلى الشيطان على طريق المجاز، والأنبياء غير معصومين عن النسيان إلا فيما يخبرون به عن الله سبحانه، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني" ورجح أيضاً بأن النسيان ليس بذنب، فلو كان الذي أنساه الشيطان ذكر ربه هو يوسف لم يستحق العقوبة على ذلك بلبثه في السجن بضع سنين. وأجيب بأن النسيان هنا بمعنى الترك، وأنه عوقب بسبب استعانته بغير الله سبحانه، وبؤيد رجوعه الضمير إلى يوسف ما بعده من قوله: "فلبث في السجن بضع سنين" ويؤيد رجوعه إلى الذي نجا من الغلامين قوله فيما سيأتي "وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة" سنة " فلبث" أي يوسف "في السجن" بسبب ذلك القول قاله للذي نجا من الغلامين،أو بسبب ذلك الإنساء "بضع سنين" البضع: ما بين الثلاث إلى التسع كما حكاه الهروي عن العرب. وحكي عن أبي عبيدة أن البضع: ما دون نصف العقد، يعني ما بين واحد إلى أربعة، وقيل ما بين ثلاث إلى سبع، حكاه قطرب. وحكى الزجاج أنه ما بين الثلاث إلى الخمس. وقد اختلف في تعيين قدر المدة التي لبث قيها يوسف في السجن فقيل سبع سنين، وقيل ثنتا عشرة سنة، وقيل أربع عشرة سنة، وقيل خمس سنين. وقد أخرج ابن جرير عن عكرمة في قوله: "أما أحدكما" قال: أتاه فقال: رأيت فيما يرى النائم أني غرست حبلة من عنب فنبتت، فخرج فيه عناقيد فعصرتهن ثم سقيتهن الملك، فقال: تمكث في السجن ثلاثة أيام، ثم تخرج فتسقيه خمراً. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن مسعود قال: ما رأى صاحبا يوسف شيئاً، إنما تحالما ليجربا علمه، فلما أول رؤياهما قالا: إنما كنا نلعب ولم نر شيئاً، فقال "قضي الأمر الذي فيه تستفتيان" يقول: وقعت العبارة فصار الأمر على ما عبر يوسف. وأخرج أبو عبيد وابن المنذر وأبو الشيخ عن أبي مجلز قال: كان أحد اللذين قصا على يوسف الرؤيا كاذبا. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن ساباط "وقال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك" قال: عند ملك الأرض. وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب العقوبات وابن جرير والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لو لم يقل يوسف الكلمة التي قال ما لبث في السجن طول ما لبث حيث يبتغي الفرج من عند غير الله". وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وأبو الشيخ عن عكرمة مرفوعاً نحوه وهو مرسل. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة مرفوعاً نحوه. وأخرج أحمد في الزهد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم أبو الشيخ عن الحسن مرفوعاً نحوه وهو مرسل. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن قتادة فذكر نحوه وهو مرسل أيضاً. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أنس قال: أوحي إلى يوسف: من استنقذك من القتل حين هم إخوتك أن يقتلوك؟ قال: أنت يا رب، قال: فمن استنقذك من الجب إذ ألقوك فيه؟ قال: أنت يا رب، قال: فمن استنقذك من المرأة إذ همت بك؟ قال: أنت يا رب، قال: فما لك نسيتني وذكرت آدمياً؟ قال: جزعاً وكلمة تكلم بها لساني، قال: فوعزتي لأخلدنك في السجن بضع سنين، فلبث فيه سبع سنين. وقد اختلف السلف في تقدير مدة لبثه في السجن على حسب ما قدمنا ذكره، فلم نشتغل ها هنا بذكر من قال بذلك ومن خرجه.

وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ

المراد بالملك هنا: هو الملك الأكبر، وهو الريان بن الوليد الذي كان العزيز وزيراً له، رأى في نومه لما دنا فرج يوسف عليه السلام أنه خرج من نهر يابس 43- "سبع بقرات سمان" جمع سمين وسمينة، في إثرهن سبع عجاف: أي مهازيل، وقد أقبلت العجاف على السمان فأكلتهن. والمعنى: إني رأيت، ولكنه عبر بالمضارع لاستحضار الصورة، وكذلك قوله "يأكلهن" عبر بالمضارع للاستحضار، والعجاف جمع عجفاء، وقياس جمعه عجف، لأن فعلاء وأفعل لا تجمع على فعال، ولكنه عدل عن القياس حملا على سمان "وسبع سنبلات" معطوف على سبع بقرات، والمراد بقوله "خضر" أنه قد انعقد حبها، واليابسات التي قد بلغت الحصاد، والمعنى: وأرى سبعاً أخر يابسات، وكان قد رأى أن السبع السنبلات اليابسات قد أدركت الخضر والتوت عليها حتى غلبتها، ولعل عدم التعرض لذكر هذا في النظم القرآني للاكتفاء بما ذكر من حال البقرات "يا أيها الملأ" خطاب للأشراف من قومه "أفتوني في رؤياي" أي أخبروني بحكم هذه الرؤيا "إن كنتم للرؤيا تعبرون" أي تعلمون عبارة الرؤيا، وأصل العبارة مشتقة من عبور النهر، فمعنى عبرت النهر: بلغت شاطئه، فعابر الرؤيا يخبر بما يؤول إليه أمرها. قال الزجاج: اللام في للرؤيا للتبيين: أي إن كنتم تعبرون، ثم بين فقال للرؤيا وقيل هو للتقوية، وتأخير الفعل العامل فيه لرعاية الفواصل.

قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ

وجملة 44- "قالوا أضغاث أحلام" مستأنفة جواب سؤال مقدر، والأضغاث جمع ضغث، وهو كل مختلط من بقل أو حشيش أو غيرهما، والمعنى: أخاليط أحلام جمع حلم: وهي الرؤيا الكاذبة التي لا حقيقة لها كما يكون من حديث النفس ووسواس الشيطان، والإضافة بمعنى من، وجمعوا الأحلام ولم يكن من الملك إلا رؤيا واحدة مبالغة منهم في وصفها بالبطلان، ويجوز أن يكون رأى مع هذه الرؤيا غيرها مما لم يقصه الله علينا "وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين" قال الزجاج: المعنى بتأويل الأحلام المختلطة، نفوا عن أنفسم علم ما لا تأويل له، لا مطلق العلم بالتأويل، وقيل إنهما نفوا عن أنفسهم علم التعبير مطلقاً ولم يدعوا أنه لا تأويل لهذه الرؤيا، وقيل إنهم قصدوا محوها من صدر الملك حتى لا يشتغل بها، ولم يكن ما ذكروه من نفي العلم حقيقة .

وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ

45- "وقال الذي نجا منهما" أي من الغلامين، وهو الساقي الذي قال له يوسف "اذكرني عند ربك"، " وادكر بعد أمة " بالدال المهملة على قراءة الجمهور، وهي القراءة الفصيحة: أي تذكر الساقي يوسف وما شاهده منه من العلم بتعبير الرؤيا. وقرىء بالمعجمة، ومعنى "بعد أمة": بعد حين، ومنه "إلى أمة معدودة" أي إلى وقت. قال ابن درستويه: والأمة لا تكون على الحين إلا على حذف مضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، كأنه قال: والله وادكر بعد حين أمة أو بعد زمن أمة. والأمة: الجماعة الكثيرة من الناس. قال الأخفش: هو في اللفظ واحد وفي المعنى جمع..وكل جنس من الحيوان أمة. وقرأ ابن عباس وعكرمة بعد أمة بفتح الهمزة وتخفيف الميم: أي بعد نسيان، ومنه قول الشاعر: أممت وكنت لا أنس حديثاً كذاك الدهر يودي بالعقول ويقال أمه يأمه أمها: إذا نسي. وقرأ الأشهب العقيلي بعد أمة بكسر الهمزة: أي بعد نعمة: وهي نعمة النجاة "أنا أنبئكم بتأويله" أي أخبركم به يسؤالي عنه من له علم بتأويله، وهو يوسف "فأرسلون" خاطب الملك بلفظ التعظيم، أو خاطبه ومن كان عنده من الملأ، طلب منهم أن يرسلوه إلى يوسف ليقص عليه رؤيا الملك حتى يخبره يتأويلها فيعود بذلك إلى الملك.

يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ

46- "يوسف أيها الصديق أفتنا" أي يا يوسف، وفي الكلام حذف، والتقدير: فأرسلوه إلى يوسف فسار إليه، فقال له يوسف إيها الصديق إلى آخر الكلام، والمعنى: أخبرنا في رؤيا من رأى سبع بقرات إلخ وترك ذلك اكتفاء بما هو واثق به من فهم يوسف بأن ذلك رؤيا، وأن المطلوب منه تعبيرها "لعلي أرجع إلى الناس" أي إلى الملك ومن عنده من الملأ "لعلهم يعلمون" ما تأتي به من تأويل هذه الرؤيا أو يعلمون فضلك ومعرفتك لفن التعبير.

قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ

وجملة 47- "قال تزرعون" إلخ مستأنفة جواب سؤال مقدر كغيرها مما يرد هذا المورد "سبع سنين دأبا" أي متوالية متتابعة، وهو مصدر، وقيل هو حال: أي دائبين، وقيل صفة لسبع: أي دائبة، وحكى أبو حاتم عن يعقوب أنه قرأ "دأباً" بتحريك الهمزة، وكذا روى حفص عن عاصم وهما لغتان. قال الفراء: حرك لأن فيه حرفاً من حروف الحلق، وكذلك كل حرف فتح أوله وسكن ثانيه فتثقيله جائز في كلمات معروفة. فعبر يوسف عليه السلام السبع البقرات السمان بسبع سنين فيها خصب، والعجاف بسبع سنين فيها جدب وهكذا عبر السبع السنبلات الخضر والسبع السنبلات اليابسات، واستدل بالسبع السنبلات الخضر على ما ذكره في التعبير من قوله"فما حصدتم فذروه في سنبله" أي ما حصدتم في كل سنة من السنين المخصبة فذروا ذلك المحصود في سنبله ولا تفصلوه عنها لئلا يأكله السوس إلا قليلاً مما تأكلون في هذه السنين المخصبة فإنه لا بد لكم من فصله عن سنبله وإخراجه عنها، واقتصر على استثناء المأكول دون ما يحتاجون إليه من البذر الذي يبذرونه في أموالهم لأنه قد علم من قوله تزرعون.

ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ

48- "ثم يأتي من بعد ذلك" أي من بعد السبع السنين المخصبة "سبع شداد" أي سبع سنين مجدبة يصعب أمرها على الناس "يأكلن ما قدمتم لهن" من تلك الحبوب المتروكة في سنابلها. وإساد الأكل إلى السنين مجاز، والمعنى: يأكل الناس فيهن أو يأكل أهلهن ما قدمتم لهن: أي ما ادخرتم لأجلهن فهو من باب: نهاره صائم، ومنه قول الشاعر: نهارك يا مغرور سهو وغفلة وليلك نوم والردى لك لازم "إلا قليلاً مما تحصنون" أي مما تحسبون من الحب لتزرعوا به، لأن في استبقاء البذر تحصين الأقوات. وقال أبو عبيدة: معنى تحصنون: تحرزون، وقيل تدخرون، والمعنى واحد.

ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ

وقوله: 49- "ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون" أي من بعد السنين المجدبات، فالإشارة إليها، والعام السنة "فيه يغاث الناس" من الإغاثة أو الغوث، والغيث المطر، وقد غاث الغيث الأرض: أي أصابها، وغاث الله البلاد بغيثها غوثاً: أمطرها، فمعنى يغاث الناس: يمطرون "وفيه يعصرون" أي يعصرون الأشياء التي تعصر كالعنب والسمسم والزيتون وقيل أراد حلب الألبان، وقيل معنى يعصرون: ينجون. مأخوذ من العصرة وهي المنجاة. قال أبو عبيدة: والعصر بالتحريك الملجأ والمنجاة، ومنه قول الشاعر: صادياً يستغيث غير مغاث ولقد كان عصرة المنجود واعتصرت بفلان: التجأت به. وقرأ حمزة والكسائي " يعصرون " بتاء الخطاب. وقرئ يعصرون بضم حرف المضارعة وفتح الصاد، ومعناه يمطرون، ومنه قوله تعالى: "وأنزلنا من المعصرات ماءً ثجاجاً". وقد أخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: قال يوسف للساقي: اذكرني عند ربك: أي الملك الأعظم ومظلمتي وحبسي في غير شيء، فقال أفعل، فلما خرج الساقي رد على ما كان عليه ورضي عنه صاحبه وأنساه الشيطان ذكر الملك الذي أمره يوسف أن يذكره له، فلبث يوسف بعد ذلك في السجن بضع سنين، ثم إن الملك ريان بن الوليد رأى رؤياه التي أري فيها فهالته وعرف أنها رؤيا واقعة ولم يدر ما تأويلها، فقال للملأ حوله من أهل مملكته " إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات " فلما سمع من الملك ما سمع منه ومسألته عن تأويلها ذكر يوسف ما كان عبر له ولصاحبه وما جاء من ذلك على ما قال فقال: أنا أنبئكم بتأويله. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: "أضغاث أحلام" يقول: مشتبهة. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ من طرق عن ابن عباس في قوله "وادكر بعد أمة" قال: بعد حين. وأخرج ابن جرير عن مجاهد والحسن وهكرمة وعبد الله بن كثير والسدي مثله. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: بعد سنين. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: "أفتنا في سبع بقرات" الآية، قال: أما السمان فسنون فيها خصب، وأما العجاف فسنون مجدبة، وسبع سنبلات خضر هي السنون المخاصيب تخرج الأرض نباتها وزرعها وثمارها، وآخر يابسات المحول الجدوب لا تنبت شيئاً. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد عجبت من يوسف وكرمه وصبره والله يغفر له حين سئل عن البقرات العجاف والسمان، ولو كنت مكانه ما أخبرتهم حتى اشترط عليهم أن يخرجوني، ولقد عجبت من يوسف وصبره وكرمه والله يغفر له حين أتاه الرسول، ولو كنت مكانه لبادرتهم الباب ولكنه أراد أن يكون له العذر". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "إلا قليلاً مما تحصنون" يقول: تخزنون، وفي قوله: "وفيه يعصرون" يقول: الأعناب والدهن. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله: "فيه يغاث الناس" يقول: يصيبهم فيه غيث "وفيه يعصرون" يقول: يعصرون [وفيه] العنب ويعصرون فيه الزبيب ويعصرون من كل الثمرات. وأخرج سعيد بن منصرو وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه أيضاً "وفيه يعصرون" قال: يختلبون. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عنه أيضاً "ثم يأتي من بعد ذلك عام" قال: أخبرهم بشيء لم يسألوه عنه كأن الله قد علمه إياه فيه يغاث الناس بالمطر، وفيه يعصرون السمسم دهناً والعنب خمراً والزيتون زيتاً.

وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ

قوله: 50- "وقال الملك ائتوني به" في الكلام حذف قبل هذا، والتقدير: فذهب الرسول إلى الملك فأخبره بما أخبره به يوسف من تعبير تلك الرؤيا، وقال الملك لمن بحضرته ائتوني به: أي بيوسف، رغب إلى رؤيته ومعرفة حاله بعد أن علم من فضله ما علمه من وصف الرسول له ومن تعبيره لرؤياه "فلما جاءه" أي جاء إلى يوسف "الرسول" واستدعاه إلى حضرة الملك وأمره بالخروج من السجن "قال" يوسف للرسول "ارجع إلى ربك" أي سيدك " فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن " أمره بأن يسأل الملك عن ذلك وتوقف عن الخروج من السجن، ولم يسارع إلى إجابة الملك، ليظهر للناس براءة ساحته ونزاهة جانبه، وأنه ظلم بكيد امرأة العزيز ظلماً بيناً، ولقد أعطي عليه السلام من الحلم والصبر والأناة ما تضيق الأذهان عن تصوره، ولهذا ثبت في الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم: "ولو لثبت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي"، يعني الرسول الذي جاء يدعوه إلى الملك. قال ابن عطية: هذا الفعل من يوسف أناة وصبراً، وطلباً لبراءة ساحته، وذلك أنه خشي أن يخرج وينال من الملك مرتبة، ويسكت عن أمر ذنبه فيراه الناس بتلك العين يقولون هذا الذي راود امرأة العزيز، وإنما قال: "فاسأله ما بال النسوة" وسكت عن امرأة العزيز رعاية لذمام الملك العزيز، أو خوفاً منه من كيدها وعظيم شرها، وذكر السؤال عن تقطيع الأيدي ولم يذكر مراودتهن له، تنزهاً منه عن نسبة ذلك إليهن، ولذلك لم ينسب المراودة فيما تقدم إلى امرأة العزيز إلا بعد أن رمته بدائها وانسلت. وقد اكتفى هنا بالإشارة الإجمالية بقوله: "إن ربي بكيدهن عليم" فجعل علم الله سبحانه بما وقع عليه من الكيد منهن مغنياً عن التصريح.

قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ

وجملة 51- " قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه " مستأنفة جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: فماذا قال الملك بعد أن أبلغه الرسول ما قال يوسف، والخطب: الشأن العظيم الذي يحق له أن يخاطب فيه صاحبه خاصة. والمعنى: ما شأنكن [إذا] راودتن يوسف عن نفسه. وقد تقدم معنى المراودة، وإنما نسب إليهن المراودة، لأن كل واحد منهن وقع منها ذلك كما تقدم، ومن جملة من شمله خطاب الملك امرأة العزيز، أو أراد بنسبة ذلك إليهن وقوعه منهن في الجملة كما كان من امرأة العزيز تحاشياً عن التصريح منه بنسبة ذلك إليها لكونها امرأة وزيره وهو العزيز: فأجبن عليه بقولهن "قلن حاش لله" أي معاذ الله "ما علمنا عليه من سوء" أي من أمر سيء ينسب إليه. فعند ذلك "قالت امرأة العزيز" منزهة لجانبه مقرة على نفسها بالمراودة له "الآن حصحص الحق" أي تبين وظهر. وأصله حص، فقيل حصحص كما قيل في كبوا كبكبوا، قاله الزجاج، وأصل الحص، استئصال الشيء. يقال حص شعره: إذا استأصله. ومنه قول أبي قيس بن الأسلت: قد حصت البيضة رأسي فما أطــعــم نــومــاً غــير تــهــجــاع والمعنى أنه انقطع الحق عن الباطل بظهوره وبيانه. ومنه: فمن مبلغ عني خداشاً فإنـــه كذوب إذا ما حصحص الحق ظالم وقيل هو مشتق من الحصة، والمعنى: بانت حصة الباطل. قال الخليل: معناه ظهر الحق بعد خفائه، ثم أوضحت ذلك بقولها "أنا راودته عن نفسه" ولم تقع منه المراودة لي أصلاً "وإنه لمن الصادقين" فيما قاله تبرئة نفسه ونسبة المراودة إليها، وأرادت بالآن زمان تكلمها بهذا الكلام.

ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ

وقوله: 51- "ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب" ذهب أكثر المفسرين إلى أن هذا من كلام يوسف عليه السلام. قال الفراء: ولا يبعد وصل كلام إنسان بكلام إنسان آخر إذا دلت القرينة الصارفة لكل منهما إلى ما يليق به. والإشارة إلى الحادثة الواقعة منه، وهي تثبته وتأنيه: أي فعلت ذلك ليعلم العزيز إني لم أخنه في أهله بالغيب، والمعنى بظهر الغيب. والجار والمجرور في محل نصب على الحال: أي وهو غائب عني، أو وأنا غائب عنه. قيل إنه قال ذلك وهو في السجن بعد أن أخبره الرسول بما قالته النسوة. وما قالته امرأة العزيز، وقيل إنه قال ذلك وقد صار عند الملك، والأول أولى. وذهب الأقلون من المفسرين إلى أن هذا من كلام امرأة العزيز، والمعنى: ذلك القول الذي قلته في تنزيهه، والإقرار على نفسي بالمراودة ليعلم يوسف إني لم أخنه فأنسب إليه ما لم يكن منه وهو غائب عني، أو وأنا غائبة عنه "وأن الله لا يهدي كيد الخائنين" أي لا يثبته ويسدده، أو لا يهديهم في كيدهم حتى يوقعوه على وجه يكون له تأثير يثبت به ويدوم وإذا كان من قول يوسف ففيه تعريض بامرأة العزيز حيث وقع منها الكيد له والخيانة لزوجها، وتعريض بالعزيز حيث ساعدها على حبسه بعد أن علم براءته ونزاهته.

وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ

53- " وما أبرئ نفسي " إن كان من كلام يوسف فهو من باب الهضم للنفس، وعدم التزكية بها مع أنه قد علم هو وغيره من الناس أنه بريء وظهر ذلك ظهور الشمس، وأقرت به المرأة التي ادعت عليه الباطل، ونزهته النسوة اللاتي قطعن أيديهن، وإن كان من كلام امرأة العزيز فهو واقع على الحقيقة، لأنها قد أقرت بالذنب، واعترفت بالمراودة، وبالافتراء على يوسف. وقد قيل إن هذا من قول العزيز وهو بعيد جداً، ومعناه: وما أبريء نفسي من سوء الظن بيوسف، والمساعدة على حبسه بعد أن علمت ببراءته "إن النفس لأمارة بالسوء" أي إن هذا الجنس من الأنفس البشرية شأنه الأمر بالسوء لميله إلى الشهوات، وتأثيرها بالطبع، وصعوبة قهرها، وكفها عن ذلك "إلا ما رحم ربي" إي إلا من رحم من النفوس فعصمها عن أن تكون أمارة بالسوء، أو إلا وقت رحمة ربي وعصمته لها، وقيل الاستثناء منقطع، والمعنى: لكن رحمة ربي هي التي تكفها عن أن تكون أمارة بالسوء وجملة " إن ربي غفور رحيم " تعليل لما قبلها: أي إن من شأنه كثرة المغفرة لعباده والرحمة لهم.

وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ

قوله: 54- " وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي " الملك هو الريان بن الوليد لا العزيز كما تقدم: ومعنى "أستخلصه لنفسي": أجعله خالصاً لي دون غيري، وقد كان قبل ذلك خالصاً للعزيز، والاستخلالص: طلب خلوص الشيء من شوائب الشركة، قال ذلك لما كان يوسف نفيساً، وعادة الملوك أن يجعلوا الأشياء النفسية خالصة لهم دون غيرهم "فلما كلمه" في الكلام حذف، وتقديره فأتوه به فلما كلمه: أي فلما كلم الملك يوسف ويحتمل أن يكون المعنى: فلما كلم يوسف الملك. قيل والأول أولى، لأن مجالس الملوك لا يتكلم فيها ابتداء إلا هم دون من يدخل عليهم، وقيل الثاني أولى لقول الملك " قال إنك اليوم لدينا مكين أمين " فإن هذا يفيد أنه لما تكلم يوسف في مقام الملك جاء بما حببه إلى الملك، وقربه من قلبه، فقا له هذه المقالة، ومعنى مكين: ذو مكانة وأمانة بحيث يتمكن مما يريده من الملك ويأمنه الملك على ما يطلع عليه من أمره، أو على ما يكله إليه من ذلك. قيل إنه لما وصل إلى الملك أجلسه على سريره، وقال له: إني أحب أن أسمع منك تعبير رؤياي، فعبرها له بأكمل بيان وأتم عبارة، فلما سمع الملك منه ذلك قال له: "إنك اليوم لدينا مكين أمين" فلما سمع يوسف منه ذلك.

قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ

55- " قال اجعلني على خزائن الأرض " أي ولني أمر الأرض التي أمرها إليك وهي أرض مصر، أو اجعلني على حفظ خزائن الأرض، وهي الأمكنة التي تخزن فيها الأموال. طلب يوسف عليه السلام منه ذلك ليتوصل به إلى نشر العدل ورفع الظلم، ويتوسل به إلى دعاء أهل مصر إلى الإيمان بالله وترك عبادة الأوثان وفيه دليل على أنه يجوز لمن وثق من نفسه إذا دخل في أمر من أمور السلطان أن يرفع منار الحق ويهدم ما أمكنه من الباطل طلب ذلك لنفسه. ويجوز له أن يصف نفسه بالأوصاف التي لها ترغيباً فيما يرومه، وتنشيطاً لمن يخاطبه من الملوك بإلقاء مقاليد الأمور إليه وجعلها منوطة به ولكنه يعارض هذا الجواز ما ورد عن نبينا صلى الله عليه وسلم من النهي عن طلب الولاية والمنع من تولية من طلبها أو حرص عليها، والخزائن جمع خزانة، وهي اسم للمكان الذي يخزن فيه الشيء والحفيظ الذي يحفظ الشيء: أي "إني حفيظ" لما جعلته إلي من حفظ الأموال لا أخرجها في غير مخارجها، ولا أصرفها في غير مصارفها "عليم" بوجود جمعها وتفريقها ومدخلها ومخرجها.

وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ

56- "وكذلك مكنا ليوسف" أي ومثل ذلك التمكين العجيب مكنا ليوسف في الأرض: أي جعلنا له مكاناً، وهو عبارة عن كمال قدرته ونفوذ أمره ونهيه حتى صار الملك يصدر عن رأيه، وصار الناس يعملون على أمره ونهيه "يتبوأ منها حيث يشاء" أي ينزل منها حيث أراد ويتخذه مباءة، وهو عباة عن كمال قدرته كما تقدم، وكأنه يتصرف في الأرض التي أمرها إلى سلطان مصر كما يتصرف الرجل في منزله. وقرأ ابن كثير بالنون. وقد استدل بهذه الآية على أنه يجوز تولي الأعمال من جهة السلطان الجائر بل الكافر لمن وثق من نفسه بالقيام بالحق. وقد قدمنا الكلام على هذا مستوفى في قوله سبحانه: "ولا تركنوا إلى الذين ظلموا" "نصيب برحمتنا من نشاء" من العباد فنرحمه في الدنيا بالإحسان إليه والإنعام عليه، وفي الآخرة بإدخاله الجنة وإنجائه من النار "ولا نضيع أجر المحسنين" في أعمالهم الحسنة التي هي مطلوب الله منهم: أي لا نضيع ثوابهم فيها، ومجازاتهم عليها.

وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ

57- "ولأجر الآخرة" أي أجرهم في الآخرة، وأضيف الأجر إلى الآخرة للملانسة، وأجرهم هو الجزاء الذي يجازيهم الله به فيها، وهو الجنة التي لا ينفد نعيمها ولا تنقضي مدتها "خير للذين آمنوا" بالله "وكانوا يتقون" الوقوع فيما حرمه عليهم، والمراد بهم الحسنونو المتقدم ذكرهم، وفيه تنبيه على أن الإحسان المعتد به هو الإيمان والتقوى. وقد أخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "ما بال النسوة" قال: أراد يوسف العذر قبل أن يخرج من السجن. وأخرج الفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي في الشعب عنه قال: لما قالت امرأة العزيز: أنا راودته، قال يوسف "ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب" فغمزه جبريل فقال: ولا حين هممت بها؟ فقال " وما أبرئ نفسي " الآية. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً "حصحص الحق" قال: تبين. وأخرج ابن جرير عن مجاهد وقتادة والضحاك وابن زيد والسدي مثله. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي حاتم عن حكيم بن جزام في قوله: "ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب" فقال له جبريل، ولا حين حللت السراويل؟ فقال عند ذلك " وما أبرئ نفسي ". وأخرج ابن عبد الحكم في فتوح مصر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله: " وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي " قال: فأتاه الرسول فقال: ألق عنك ثياب السجن وألبس ثياباً جدداً وقم إلى الملك، فدعا له أهل السجن وهو يومئذ ابن ثلاثين سنة، فلما أتاه رأى غلاماً حدثاً، فقال: أيعلم هذا رؤياي ولا يعلمها السحرة والكهنة؟ وأقعده قدامه وقال لا تخف. وألبسه طوقاً من ذهب وثياب من حرير، وأعطاه دابة مسروجة مزينة كدابة الملك، وضرب الطبل بمصر: إن يوسف خليفة الملك. وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس قال: قال الملك ليوسف: إني أحب أن تخالطني في كل شيء إلا في أهلي، وأنا آنف أن تأكل معي، فغضب يوسف وقال: أنا أحق أن آنف، أنا ابن إبراهيم خليل الله، وأنا ابن إسحاق ذبيح الله، وأنا ابن يعقوب نبي الله. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن شيبة بن نعامة الضبي في قوله: " اجعلني على خزائن الأرض " يقول على جميع الطعام "إني حفيظ" لما استودعتني " عليم " بسني المجاعة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله: "وكذلك مكنا ليوسف في الأرض" قال: ملكناه فيها يكون فيها حيث يشاء من تلك الدنيا يصنع فيها ما يشاء. وأخرج أبو الشيخ عن زيد بن أسلم أن يوسف تزوج امرآة العزيز فوجدها بكراً، وكان زوجها عنيناً.

وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ

قوله: 58- "وجاء إخوة يوسف" أي جاءوا إلى مصر من أرض كنعان ليمتاروا لما أصابهم القحط "فدخلوا" على يوسف "فعرفهم" لأنه فارقهم رجالاً "وهم له منكرون" لأنهم فارقوه صبياً يباع بالدراهم في أيدي السيارة بعد أن أخرجوه من الجب، ودخلوا عليه الآن وهو رجل عليه أبهة الملك، ورونق الرئاسة، وعنده الخدم والحشم وقيل إنهم أنكروه لكونه كان في تلكالحال على هيئة ملك مصر، ولبس تاجه وتطوق بطوقه، وقيل كانوا بعيداً منه فلم يعرفوه، وقيل غير ذلك.

وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ

59- "ولما جهزهم بجهازهم" المراد به هنا أنه أعطاهم ما طلبوه من الميرة وما يصلحون به سفرهم من العدة التي يحتاجها المسافر، يقال جهزت القوم تجهيزاً: إذا تكلفت لهم جهازاً للسفر. قال الأزهري: القراء كلهم على فتح الجيم، والكسر لغة جيدة " قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم " قيل: لا بد من كلام ينشأ عنه طلبه لهم بأن يأتوه بأخ لهم من أبيهم، فروي أنه لما رآهم وكلموه بالعبرانية قال لم: ما أنتم وما شأنكم فإني أنكركم؟ فقالوا: نحن قوم من أهل الشام جئنا نمتار ولنا أب شيخ صديق نبي من الأنبياء اسمه يعقوب. قال: كم أنتم؟ قالوا عشرة وقد كنا إثني عشر، فذهب أخ لنا إلى البرية فهلك، وكان أحبنا إلى أبينا، وقد سكن بعده إلى أخ له أصغر منه هو باق لديه يتسلى به، فقال لهم حينئذ: " ائتوني بأخ لكم من أبيكم " يعني أخاه بنيامين الذي تقدم ذكره، وهو أخو يوسف لأبيه وأمه. فوعدوه بذلك، فطلب منهم أن يتركوا أحدهم رهينة عنده حتى يأتوه بالأخ الذي طلبه، فاقترعوا فأصابت القرعة شمعون فخلفوه عنده، ثم قال لهم: "ألا ترون أني أوفي الكيل" أي أتممه، وجاء بصيغة الاستقبال مع كونه قال لهم هذه المقالة بعد تجهيزهم للدلالة على أن ذلك عادته المستمرة، ثم أخبرهم بما يزيدهم وثوقاً به وتصديقاً لقوله، فقال: "وأنا خير المنزلين" أي والحال أني خير المنزلين لمن نزل بي، كما فعلته بكم من حسن الضيافة وحسن الإنزال. قال الزجاج: قال يوسف "وأنا خير المنزلين" لأنه حين أنزلهم أحسن ضيافتهم.

فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ

ثم توعدهم إذا لم يأتوه به فقال: 60- "فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون" أي فلا أبيعكم شيئاً فيما بعد، وأما في الحال فقد أوفاهم كيلهم، ومعنى لا تقربون: لا تدخلون بلادي فضلاً عن أن أحسن إليكم وقيل معناه: لا أنزلكم عندي كما أنزلتكم هذه المرة، ولم يرد أنهم لا يقربون بلاده، وتقربون مجزوم إما على أن لا ناهية أو على أنها نافية، وهو معطوف على محل الجزاء داخل في حكمه كأنه قال: فإن لم تأتوني تحرموا ولا تقربوا فلما سمعوا منه ذلك وعدوه بما طلبه منهم.

قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ

61- فـ"قالوا سنراود عنه أباه" أي سنطلبه منه، ونجتهد في ذلك بما نقدر عليه وقيل معنى المراودة هنا: المخادعة منهم لأبيهم والاحتيال عليه حتى ينتزعوه منه "وإنا لفاعلون" هذه المراودة غير مقصرين فيها، وقيل معناه: وإنا لقادرون على ذلك، لا نتعانى به ولا نتعاظمه.

وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ

62- "وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم" قرأ أهل المدينة وأبو عمرو وعاصم من رواية شعبة وابن عامر " لفتيانه " واختار هذه القراءة أبو حاتم والنحاس وغيرهما. وقرأ سائر الكوفيين "لفتيانه" واختار هذه القراءة أبو عبيدة، وفي مصحف عبد الله بن مسعود كالقراءة الآخرة. قال النحاس: لفتيانه مخالف للسواد الأعظم، ولا يترك السواد المجمع عليه لهذا الإسناد المنقطع وأيضاً فإن فتية أشبه من فتيان، لأن فتية عند العرب لأقل العدد، وأمر القليل بأن يجعلوا البضاعة في الرحال أشبه والجملة مستأنفة جواب سؤال كأنه قيل: فما قال يوسف بعد وعدهم له بذلك؟ فأجيب بأنه قال لفتيته. قال الزجاج الفتية والفتيان في هذا الموضع المماليك، وقال الثعلبي: هما لغتان جيدتان مثل الصبيان والصبية. والمراد بالبضاعة هنا هي التي وصلوا بها من بلادهم ليشتروا بها الطعام، وكانت نعالاً وأدماً، فعل يوسف عليه السلام ذلك تفضلاً عليهم، وقيل فعل ذلك ليرجعوا إليه مرة أخرى لعلمه أنهم لا يقبلون الطعام إلا بثمن، قاله الفراء، وقيل فعل ذلك ليستعينوا بها على الرجوع إليه لشراء الطعام، وقيل إنه استقبح أن يأخذ من أبيه وأخوته ثمن الطعام، ثم علل يوسف عليه السلام ما أمر به من جعل الضاعة في رحالهم بقوله: "لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم" فجعل علة جعل البضاعة في الرحال هي معرفتهم لها إذا انقلبوا إلى أهلهم، وذلك لأنهم لا يعلمون برد البضاعة إليهم إلا عند تفريغ الأوعية التي جعلوا فيها الطعام، وهم لا يفرغونها إلا عند الوصول إلى أهلهم، ثم علل معرفتهم للبضاعة المردودة إليهم المجعولة في رحالهم بقوله: "لعلهم يرجعون" فإنهم إذا عرفوا ذلك وعلموا أنهم أخذوا الطعام بلا ثمن، وأن ما دفعوه عوضاً عنه قد رجع إليهم، وتفضل به من وصلوا إليه عليهم نشطوا إلى العود إليه، ولا سيما مع ما هم فيه من الجدب الشديد والحاجة إلى الطعام وعدم وجوده لديهم، فإن ذلك من أعظم ما يدعوهم إلى الرجوع، وبهذا يظهر أن يوسف عليه السلام لم يرد البضاعة إليهم إلا لهذا المقصد، وهو رجوعهم إليه فلا يتم تعليل ردا بغير ذلك، والرحال جمع رحل، والمراد به هنا ما يستصحبه الرجل معه من الأثاث. قال الواحدي: الرحل كل شيء معد للرحيل من وعاء للمتاع ومركب للبعير ومجلس ورسن انتهى. والمراد هنا الأوعيه التي يجعلون فيها ما يمتارونه من الطعام. قال ابن الأنباري: يقال للوعاء رحل وللبيت رحل.

فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ

63- "فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يا أبانا منع منا الكيل" أرادوا بهذا ما تقدم من قول يوسف لهم: "فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي": أي منع منا الكيل في المستقبل، وفيه دلالة على أن الامتيار مرة بعد مرة معهود فيما بينهم وبينه، ولعلهم قالوا له بهذه المقالة قبل أن يفتحوا متاعهم ويعلموا برد بضاعتهم كما يفيد ذلك قوله فيما بعد "ولما فتحوا متاعهم" إلى آخره، ثم ذكروا له ما أمرهم به يوسف، فقالوا "فأرسل معنا أخانا" يعنون بنيامين و"نكتل" جواب الأمر: أي نكتل بسبب إرساله معنا ما نريده من الطعام. قرأ أهل الحرمين وأبو عمرو وابن عامر وعاصم "نكتل" بالنون. وقرأ سائر الكوفيون بالياء التحتية، واختار أبو عبيد القراءة الأولى قال: ليكونون كلهم داخلين فيمن يكتال، وزعم أنه إذا كان بالياء كان للأخ وحده: أي يكتال أخونا بنيامين، واعترضه النحاس مما حاصله أن إسناد الكيل إلى الأخ لا ينافي كونه للجميع،والمعنى: يكتال بنيامين لنا جميعاً. قال الزجاج أي إن أرسلته اكتلنا وإلا منعنا الكيل "وإنا له" أي لأخيهم بنيامين "لحافظون" من أن يصيبه سوء أو مكروه.

قَالَ هَلْ آَمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ

وجملة 64- " قال هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل " مستأنفة جواب سؤال مقدر كما تقدم في نظائر ذلك في مواضع كثيرة، والمعنى: أنه لا يأمنهم على بنيامين إلا كما أمنهم على أخيه يوسف وقد قالوا له في يوسف "وإنا له لحافظون" كما قالوا هنا "وإنا له لحافظون" ثم خانوه في يوسف فهو إن أمنهم في بنيامين خاف أن يخونوه فيه كما خانوه في يوسف "فالله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين" لعل هنا إضماراً والتقدير فتوكل يعقوب على الله ودفعه إليهم وقال: فالله خير حفظاً. قرأ أهل المدينة حفظاً وهو منتصب على التمييز، وهي قراءة أبي عمرو وعاصم وابن عامر. وقرأ سائر الكوفيون حافظاً وهو منتصب على الحال. وقال الزجاج: على البيان يعني التمييز، ومعنى الآية: أن حفظ الله خير من حفظهم له، لما وكل يعقوب حفظه إلى الله سبحانه حفظه وأرجعه إليه، ولما قال في يوسف: "وأخاف أن يأكله الذئب" وقع له من الامتحان ما وقع.

وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ

65-" ولما فتحوا متاعهم" أي أوعية الطعام أو ما أعم من ذلك مما يطلق عليه لفظ المتاع سواء كان الذي فيه طعاماً أو غير طعام "وجدوا بضاعتهم ردت إليهم" أي البضاعة التي حملوها إلى مصر ليمتاروا بها، وقد تقدم بيانها، وجملة "قالوا يا أبانا" مستأنفة كما تقدم "ما نبغي" ما استفهامية والمعنى: أي شيء نطلب من هذا الملك بعد أن صنع معنا ما صنع من الإحسان برد البضاعة والإكرام عند القدوم إليه، وتوفير ما أردناه من [الميرة]، ويكون الاستفهام للإنكار، وجملة "هذه بضاعتنا ردت إلينا" مقررة لما دل عليه الاستفهام من الإنكار لطلب شيء مع كونها قد ردت إليهم، وقيل إن ما في ما ينبغي نافية أي ما نبغي في القول وما نتزيد فيما وصفنا لك من إحسان الملك إلينا وإكرامه لنا، ثم برهنوا على ما لقوه من التزيد في وصف الملك بقولهم: "هذه بضاعتنا ردت إلينا" فإن من تفضل عليهم برد ذلك حقيق بالثناء عليه منهم، مستحق لما وصفوه به، ومعنى "ونمير أهلنا" نجلب إليهم الميرة وهي الطعام، والمائر الذي يأتي بالطعام. وقرأ السلمي بضم النون، وهو معطوف على مقدر يدل عليه السياق والتقدير: هذه بضاعتنا ردت إلينا فنحن نستعين بها على الرجوع ونمير أهلنا "ونحفظ أخانا" بنيامين مما تخافه عليه "ونزداد" بسبب إرساله معنا "كيل بعير" أي حمل بعير زائد على ما جئنا به هذه المرة، لأنه كان يكال لكل رجل وقر بعير، ومعنى "ذلك كيل يسير" أن زيادة كيل بعير لأخينا يسهل على الملك، ولا يمتنع علينا من زيادته له لكونه يسيراً لا يتعاظمه ولا يضايقنا فيه، وقيل إن المعنى: ذلك المكيل لأجلنا قليل نريد أن ينضاف إليه حمل بعير لأخينا. واختار الزجاج الأول. وقيل إن هذا من كلام يعقوب جواباً على ما قاله أولاده: "ونزداد كيل بعير" يعني إن حمل بعير شيء يسير لا يخاطر لأجله بالولد وهو ضعيف.

قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آَتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ

لأن جواب يعقوب هو 66- "قال لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقاً من الله" أي حتى تعطوني ما أثق به وأركن إليه من جهة الله سبحانه، وهو الحلف به، واللام في "لتأتنني به" جواب القسم، لأن معنى "حتى تؤتون موثقاً من الله": حتى تحلفوا بالله لتأتني به: أي لتردن بنيامين إلي، والاستثناء بقوله "إلا أن يحاط بكم" هو من أعم العام، لأن "لتأتنني به" وإن كان كلاماً مثبتاً فهو في معنى النفي ، فكأنه قال: لا تمنعون من إتياني به في حال من الأحوال لعلة من العلل إلا لعلة الإحاطة بكم، والإحاطة مأخوذة من إحاطة العدو، ومن أحاط به العدو فقد غلب أو هلك، فأخذ يعقوب عليهم العهد بأن يأتوه ببنيامين إلا أن تغلبوا عليه أو تهلكوا دونه، فيمون ذلك عذراً لكم عندي " فلما آتوه موثقهم " أي أعطوه ما طلبه منهم من اليمين "قال الله على ما نقول وكيل" أي قال يعقوب: الله على ما قلناه من طلبي الموثق منكم وإعطائكم لي ما طلبته منكم مطلع رقيب لا يخفى عليه منه خافية، فهو المعاقب لمن خاس في عهده وفجر في الحلف به، أو موكول إليه القيام بما شهد عليه منا. وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس قال: إن إخوة يوسف لما دخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون، جاء بصواع الملك الذي كان يشرب فيه، فوضعه على يده فجعل ينقره ويطن. فقال: إن هذا الجام ليخبرني عنكم خبراً، هل كان لكم أخ من أبيكم يقال له يوسف؟ وكان أبوه يحبه دونكم، وإنكم انطلقتم به فألقيتموه في الجب وأخبرتم أباكم أن الذئب أكله، وجئتم على قميصه بدم كذب؟ قال: فجعل بعضهم ينظر إلى بعض ويعجبون. وأخرج أبو الشيخ عن وهيب قال: لما جعل يوسف ينقر الصواع ويخبرهم قام إليه بعض إخوته فقال: أنشدك بالله أن لا تكتشف لنا عورة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: " ائتوني بأخ لكم من أبيكم " قال: يعني بنبامين، وهو أخو يوسف لأبيه وأمه. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "وأنا خير المنزلين" قال: خير من يضيف بمصرز وأخرج ابن جرير عن قتادة في قوله: " لفتيانه " أي لغلمانه " اجعلوا بضاعتهم " أي أوراقهم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: "ما نبغي هذه بضاعتنا ردت إلينا" يقولون ما نبغي وراء هذا "ونزداد كيل بعير" أي حمل بعير. وأخرج أبو عبيد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد "ونزداد كيل بعير" قال: حمل حمار، قال وهي لغة، قال أبو عبيد: يعني مجاهداً أن الحماريقال له في بعض اللغات بعير. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "إلا أن يحاط بكم" قال: تهلكوا جميعاً، وفي قوله " فلما آتوه موثقهم " قال: عهدهم. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "إلا أن يحاط بكم" قال لا تغلبوا حتى لا تطيقوا ذلك.

وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ

لما تجهز أولاد يعقوب للمسير إلى مصر خاف عليهم أبوهم أن تصيبهم العين لكونهم كانوا ذوي جمال ظاهر وثياب حسنة مع كونهم أولاد رجل واحد. فنهاهم أن يدخلوا مجتمعين من باب واحد لأن في ذلك مظنة لإصابة الأعين لهم، وأمرهم أن يدخلوا من أبواب متفرقة، ولم يكتف بقوله: 67- "لا تدخلوا من باب واحد" عن قوله: "وادخلوا من أبواب متفرقة" لأنهم لو دخلوا من بابين مثلاً كانوا قد امتثلوا النهي عن الدخول من باب واحد، ولكنه لما كان في الدخول من بابين مثلاً نوع اجتماع يخشى معه أن تصيبهم العين أمرهم أن يدخلوا من أبواب متفرقة، قيل وكانت أبواب مصر أربعة. وقد أنكر بعض المعتزلة كأبي هاشم والبلخي أن للعين تأثيراً، وقالا: لا يمتنع أن صاحب العين إذا شاهد الشيء وأعجب به كانت المصلحة له في تكليفه أن يغير الله ذلك الشيء حتى لا يبقى قلب ذلك المكلف معلقاً به. وليس هذا بمستنكر من هذين وأتباعهما، فقد صار دفع أدلة الكتاب والسنة بمجرد الاستبعادات العقلية دأبهم وديدنهم، وأي مانع من إصابة العين بتقدير الله سبحانه لذلك؟ وقد وردت الأحاديث الصحيحة بأن العين حق، وأصيب بها جماعة في عصر النبوة، ومنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأعجب من إنكار هؤلاء لما وردت به نصوص هذه الشريعة ما يقع من بعضهم من الإزراء على من يعمل بالدليل المخالف لمجرد الاستبعاد العقلي والتنطع في العبارات كالزمخشري في تفسيره، فإنه في كثير من المواطن لا يقف على دفع دليل الشرع بالاستبعاد الذي يدعيه على العقل حتى يضم إلى ذلك الوقاحة في العبارة على وجه يوقع المقصرين في الأقوال الباطلة والمذاهب الزائفة.وبالجملة فقول هؤلاء مدفوع بالأدلة المتكاثرة وإجماع من يعتد به من هذه الأمة سلفاً وخلفاً، وبما هو مشاهد في الوجود، فكم من شخص من هذا النوع الإنساني وغيره من أنواع الحيوان هلك بهذا السبب. وقد اختلف العلماء فيمن عرف بالإصابة بالعين، فقال قوم، يمنع من الاتصال بالناس دفعاً لضروره بحبس أو غيره من لزوم بيته، وقيل ينفى، وأبعد من قال إنه يقتل إلا إذا كان يتعمد ذلك وتتوقف إصابته على اختياره وقصده ولم ينجز عن ذلك، فإنه إذا قتل كان له حكم القاتل. ثم قال يعقوب لأولاده "وما أغني عنكم من الله من شيء" أي لا أدفع عنكم ضرراً ولا أجلب إليكم نفعاً بتدبيري هذا، بل ما قضاه الله عليكم فهو واقع لا محالة. قال الزجاج وابن الأنباري: لو سيق في علم الله أن العين تهلكهم مع الاجتماع لكان تفرقهم كاجتماعهم. وقال آخرون: ما كان يغني عنهم يعقوب شيئاً قط حيث أصابهم ما أصابهم مع تفرقهم من إضافة السرقة إليهم، ثم صرح يعقوب بأنه لا حكيم إلا الله سبحانه فقال: "إن الحكم إلا لله" لا لغيره ولا يشاركه فيه مشارك في ك "عليه توكلت" في كل إيراد وإصدار لا على غيره: أي اعتمدت ووثقت "وعليه" لا على غيره "فليتوكل المتوكلون" على العموم.

وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ

ويدخل فيه أولاده دخولاً أولياً 68- "ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم" أي من الدخول "من الله" أي من جهته "من شيء" من الأشياء مما قدره الله عليهم لأن الحذر لا يدفع القدر، والاستثناء بقوله" إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها " منقطع، والمعنى: ولكن حاجة كانت في نفس يعقوب، وهي شفقته عليهم ومحبته لسلامتهم قضاها الله عليهم، وقيل إنه خطر ببال يعقوب أن الملك إذا رآهم مجتمعين مع ما يظهر فيهم من كمال الخلقة، وسيما الشجاعة أوقع بهم حسداً وحقداً أو خوفاً منهم، فأمرهم بالتفرق لهذه العلة. وقد اختار هذا النحاس وقال: لا معنى للعين ها هنا. وفيه أن هذا لو كان هو السبب لأمرهم بالتفرق ولم يخص النهي عن ذلك بالاجتماع عند الدخول من باب واحد، لأن هذا الحسد أو الخوف بحصل باجتماعهم داخل المدينة كما يحصل باجتماعهم عند الدخول من باب واحد. وقيل إن الفاعل في قضاها ضمير يعود الدخول لا إلى يعقوب. والمعنى: ما كان الدخول يغني عنهم من جهة الله شيئاً، ولكنه قضى ذلك الدخول حاجة في نفس يعقوب لوقوعه حسب إرادته "وإنه لذو علم لما علمناه" أي وإن يعقوب لصاحب علم لأجل تعليم الله إياه بما أوحاه الله من ان الحذر لا يدفع القدر، وأن ما قضاه الله سبحانه فهو كائن لا محالة "ولكن أكثر الناس لا يعلمون" بذلك كما ينبغي، وقيل لا يعلمون أن الحذر مندوب إليه وإن كان لا يغني من القدر شيئاً، والسياق يدفعه.

وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آَوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ

وقيل إن المراد بأكثر الناس المشركون 69- " ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه " أي ضم إليه أخاه بنيامين، قيل إنه بإنزال كل إثنين في منزلك فبقي أخوه منفرداً فضمه إليه و "قال إني أنا أخوك" يوسف، قال له ذلك سراً، من دون أن يطلع عليه إخوته "فلا تبتئس" أي فلا تحزن "بما كانوا يعملون" أي إخوتك من الأعمال الماضية التي عملوها، وقيل إنه لم يخبره بأنه يوسف، بل قال له: إني أخوك مكان أخيك يوسف فلا تحزن بما كنت تلقاه منهم من الجفاء حسداً وبغياً، وقيل إنه أخبره بما سيدبره معهم من جعل السقاية في رحله، فقال لا أبالي، وقيل إنه لما أخبر يوسف أخاه بنيامين بأنه أخوه قال: لا تردني إليهم، فقال قد علمت اغتمام أبينا يعقوب فإذا حبستك عندي ازداد غمه، فأتى بنيامين فقال له يوسف: لا يمكن حبسك عندي إلا بأن أنسبك إلى ما لا يجمل بك،فقال لا أبالي، فدس الصاع في رحله، وهو المراد بالسقاية وأصلها المشربة التي يشرب بها جعلت صاعاً يكال به، وقيل كانت تسقى بها الدواب ويكال بها الحب، وقيل كانت من فضة وقيل كانت من ذهب، وقيل غير ذلك. وقد تقدم تفسير الجهاز والرحل. والمعنى: أنه جعل السقاية التي هو الصواع في رحل أخيه الذي هو الوعاء الذي يجعل فيه ما يشتريه من الطعام من مصر.

فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ

70- "ثم"بعد ذلك "أذن مؤذن" أي نادى مناد قالاً: "أيتها العير" قال الزجاج: معناه يا أصحاب العير، وكل ما امتير عليه من الإبل والحمير والبغال فهو عير، وقيل هي قافلة الحمير. وقال أبو عبيدة: العير الإبل المرحولة المركوبة "إنكم لسارقون" نسية السرق إليهم على حقيقتها، لأن المنادي غير عالم بما دبره يوسف، وقيل إن المعنى: إن حالكم حال السارقين كون الصواع صار لديكم من غير رضا من الملك.

قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ

71- "قالوا"أي إخوة يوسف "وأقبلوا عليهم" أي حال كونهم مقبلين على من نادى منهم المنادي من أصحاب الملك "ماذا تفقدون" أي ما الذي فقدتموه، يقال فقدت الشيء إذا عدمته بضياع أو نحوه، فكأنهم قالوا ماذا ضاع عليكم؟ وصيغة المستقبل لاستحضار الصورة.

قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ

72- "قالوا"في جوابهم "نفقد صواع الملك" قرأ يحيى ين يعمر صواغبالغين المعجمة. وقرأ أبو رجاء صوع بضم الصاد المهملة وسكون الواو وبعدها عين مهملة. وقرأ أبي صياع. وقرأ أبو جعفر صاع،وبها قرأ أبو هريرة. وقرأ الجمهور صواع بالصاد والعين المهملتين. قال الزجاج: الصواع هو الصاع بعينه، وهو يذكر ويؤنث، وهو السقاية، ومنه قول الشاعر: نشرب الخمر بالصواع جهاراً "ولمن جاء به حمل بعير" أي قالوا: ولمن جاء بالصواع من جهة نفسه حمل بعير. والبعير الجمل، وفي لغة بعض العرب أنه الحمار، والمراد بالحمل ها هنا ما يحمله البعير من الطعام، ثم قال المنادي "وأنا به زعيم" أي بحمل البعير الذي جعل لمن جاء بالصواع قبل التفتيش للأوعية، والزعيم هو الكفيل، ولعل القائل نفقد صواع الملك هو المنادي وحده لأنه القائل بالحقيقة.

قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ

73- "قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض" التاء بدل من واو القسم عند الجمهور، وقيل من الباء، وقيل أصل بنفسها، ولا تدخل إلا على هذا الاسم الشريف دون سائر أسمائه سبحانه، وقد دخلت نادراً على الرب، وعلى الرحمن، والكلام على هذا مستوفى في علم الإعراب، وجعلوا المقسم عليه هو علم يوسف وأصحابه بنزاهة جانبهم وطهارة ذيلهم عن التلوث بقذر الفساد في الأرض الذي من أعظم أنواعه السرقة، لأنهم قد شاهدوا منهم في قدومهم عليه المرة الأولى، وهذه المرة من التعفف والزهد عما هو دون السرقة بمراحل ما يستفاد منه العلم الجازم بأنهم ليسوا بمن يتجارأ على هذا النوع العظيم من أنواع الفساد، ولو لم يكن من ذلك إلا ردهم لبضاعتم التي وجدوها في رحالهم. والمراد بالأرض هنا أرض مصر، ثم أكدوا هذه الجملة التي أقسموا بالله عليها بقولهم "وما كنا سارقين" لزيادة التبري مما قرفوهم به والتنزه عن هذه النقيصة الخسيسة والرذيلة الشنعاء.

قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ

74- "قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين" هذه الجملة مستأنفة كما تقدم غير مرة في نظائرها، والقائلون هم أصحاب يوسف، أو المنادي منهم وحده كما مر، والضمير في جزاؤه للصواع على حذف مضاف: أي فما جزاء سرقة الصواع عندكم، أو الضمير للسارق، أي فما جزاء سارق الصواع عندكم "إن كنتم كاذبين" فيما تدعونه لأنفسكم من البراءة عن السرقة، وذلك بأن يوجد الصواع معكم، فأجاب أخوة يوسف.

قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ

70- "قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه" أي جزاء سرقة الصواع أو جزاء سارق الصواع وجزاؤه مبتدأ، والجملة الشرطية: وهي من وجد في رحله فهو جزاؤه خبر المبتدأ على إقامة الظاهر مقام المضمر فيها، والأصل جزاؤه من وجد في رحله فهو، فيكون الضمير الثاني عائد إلى المبتدأ، والأول إلى من، ويجوز أن يكون خبر المبتدأ من وجد في رحله، والتقدير: جزاء السرقة للصواع أخذ من وجد في رحله، وتكون جملة فهو جزاؤه لتأكيد الجملة الولى وتقريرها. قال الزجاج: وقوله "فهو جزاؤه" زيادة في البيان: أي جزاؤه أخذ السارق فهو جزاؤه لا غير. قال المفسرون: وكان حكم السارق في آل يعقوب أن يسترق سنة فلذلك استفتوهم في جزائه "كذلك نجزي الظالمين" أي مثل ذلك الجزاء الكامل نجزي الظالمين لغيرهم من الناس بسرقة أمتعتهم، وهذه الجملة مؤكدة لما قبلها إذا كانت من كلام إخوة يوسف، ويجوز أن تكون من كلام أصحاب يوسف: أي كذلك نحن نجزي الظالمين بالسرق. ثم لما ذكروا جزاء السارق أرادوا أن يفتشوا أمتعتهم حتى يتبين الأمر.

فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَ

فأقبل يوسف على ذلك 76- " فبدأ بأوعيتهم " تفتيش "أوعيتهم" أي أوعية الإخوة العشرة "قبل وعاء أخيه" أي قبل تفتيشهلوعاء أخيه بنيامين دفعاً للتهمة ورفعاً لما دبره من الحيلة "ثم استخرجها" أي السقاية أو الصواع، لأنه يذكر ويؤنث " كذلك كدنا ليوسف " أي مثل ذلك الكيد العجيب كدنا ليوسف: يعني علمناه إياه وأوحينا إليه، والكيد مبدؤه السعي في الحيلة والخديعة، ونهايته إلقاء المخدوع من حيث لا يشعر في أمر مكروه لا سبيل إلى دفعه، وهو محمول في حق الله سبحانه على النهاية لا على البداية. قال القتيبي: معنى كدنادبرنا. وقال ابن الأنباري أردنا. وفي الآية دليل على جواز التوصل إلى الأغراض الصحيحة بما صورته صورة الحيلة والمكيدة إذا لم يخالف ذلك شرعاً ثابتاً "ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك" أي ما كان يوسف ليأخذ أخاه بنيامين في دين الملك: أي ملك مصر، وفي شريعته التي كان عليها، بل كان دينه وقضاؤه أن يضرب السارق ويغرم ضعف ما سرقه دون الاستعباد سنة كما هو دين يعقوب وشريعته. وحاصل أن يوسف ما كان يتمكن من إجراء حكم يعقوب على أخيه مع كونه مخالفاً لدين الملك وشريعته لولا ما كاد الله له ودبره وأراده حتى وجد السبيل إليه: وهو ما أجراه على ألسن إخوته من قولهم: إن جزاء السارق الاسترقاق، فكان قولهم هذا هو يمشيئة الله وتدبيره، وهو معنى قوله: "إلا أن يشاء الله" أي إلا حال مشيئته وإذنه بذلك وإرادته له، وهذه الجملة: أعني ما كان ليأخذ أخاه إلخ تعليل لما صنعه الله من الكيد ليوسف أو تفسير له. "نرفع درجات من نشاء" بضروب العلوم والمعارف والعطايا والكرامات كما رفعنا درجة يوسف بذلك "فوق كل ذي علم" ممن رفعه الله بالعلم "عليم" أرفع رتبة منهم وأعلى درجة لا يبلغون مداه ولا يرتقون شأوه. وقيل معنى ذلك: أن فوق كل أهل العلم عليم وهو الله سبحانه. وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وقال يا بني لا تدخلوا من باب واحد" قال: رهب يعقوب عليهم العين. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن محمد بن كعب قال: خشي عليهم العين. وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وأبو الشيخ عن النخعي في قوله: "وادخلوا من أبواب متفرقة" قال: أحب يعقوب أن يلقى يوسف أخاه في خلوة. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها" قال: خيفة العين على بنيه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: "وإنه لذو علم لما علمناه" قال: إنه لعامل بما علم، ومن لا يعمل لا يكون عالماً. وأخرج هؤلاء عنه في قوله: " آوى إليه أخاه " قال: ضمه إليه. وفي قوله: "فلا تبتئس" قال: لا تحزن ولا تيأس، وفي قوله: "فلما جهزهم بجهازهم" قال: قضى حاجتهم وكال لهم طعامهم، وفي قوله: "جعل السقاية" قال: هو إناء الملك الذي يشرب منه "في رحل أخيه" قال: في متاع أخيه. وأخرج ابن أبي حاتم وابن الأنباري في المصاحف عن ابن عباس في قوله: "جعل السقاية" قال: هو الصواع، وكل شيء يشرب منه فهو صواع. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن زيد نحوه أيضاً. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "أيتها العير" قال: كانت العير حميراً. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله: " ولمن جاء به حمل بعير " قال: حمل حمار طعام، وهي لغة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "وأنا به زعيم" يقول: كفيل. وأخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير ومجاهد وقتادة والضحاك مثله. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الربيع بن أنس في قوله: "ما جئنا لنفسد في الأرض" يقول: ما جئنا لنعصي في الأرض. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله: "فما جزاؤه" قال: عرفوا الحكم في حكمهم فقالوا "من وجد في رحله فهو جزاؤه" وكان الحكم عند الأنبياء يعقوب وبنيه أن يؤخذ السارق بسرقته عبداً يسترق. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: "فبدأ بأوعيتهم" قال: ذكر لنا أنه كان كلما فتح متاع رجل استغفر تأثما مما صنع حتى بقي متاع الغلام، قال ما اظن أن هذا أخذ شيئاً، قالوا بلى فاستبره، وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن لضحاك في قوله: "كذلك كدنا ليوسف" قال: كذلك صنعنا ليوسف "ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك" يقول: في سلطان الملك، قال: كان في دين ملكهم أنه سرق أخذت منه السرقة ومثلها معها من ماله فيعطيه المسروق. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك" يقول: في سلطان الملك. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "إلا أن يشاء الله" قال: إلا بعلة كادها الله ليوسف فاعتل بها. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه في قوله: "نرفع درجات من نشاء" قال: يوسف وإخوته أوتوا علماً فرفعنا يوسف في العلم فوقهم درجة. وأخرج الفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير قال: كنا عند ابن عباس فحدث بحديث، فقال رجل عنده: "وفوق كل ذي علم عليم" فقال ابن عباس: بئس ما قلت، الله العليم الخبير، وهو فوق كل عالم. وأخرج ابن جرير عن محمد بن كعب قال: سأل رجل علياً عن مسألة، فقال فيها، فقال الرجل ليس هكذا ولكن كذا وكذا، قال علي: أصبت وأخطأت "وفوق كل ذي علم عليم". وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن عكرمة في قوله: "وفوق كل ذي علم عليم" قال: علم الله فوق كل عالم.

قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ

قوله: 77- "قالوا إن يسرق" أي بنيامين "فقد سرق أخ له من قبل" يعنون يوسف. وقد اختلف المفسرون في هذه السرقة التي نسبوها إلى يوسف ما هي؟ فقيل إنه كان ليوسف عمة هي أكبر من يعقوب، وكانت عندها منطقة إسحاق لكونها أسن أولاده وكانوا يتوارثونها فيأخذها الأكبر سناً من ذكر أو أنثى، وكانت قد حضنت يوسف وأحبته حباً شديداً، فلما ترعرع قال لها يعقوب: سلمي يوسف إلي فأشفقت من فراقه واحتالت في بقائه لديها، فجعلت المنطقة تحت ثيابه وحزمته بها، ثم قالت: قد سرقت منطقة إسحاق فانظروا من سرقها، فبحثوا عنها فوجدوها مع يوسف فأخذته عندها كما هو شرع الأنبياء في ذلك الوقت من آل إبراهيم. وقد سبق بيان شريعتهم في السرقة: وقيل إن يوسف أخذ صنماً كان لجده أبي أمه فكسره وألقاه على الطريق تغييراً للمنكر. وحكي عن الزجاج أنه كان صنماً من ذهب. وحكى الواحدي عن الزجاج أنه قال: الله أعلم، أسرق أخ له أم لا؟ وحكى القرطبي في تفسيره عن الزجاج أنه قال: كذبوا عليه فيما نسبوه إليه. قلت: وهذا أولى، فما هذه الكذبه بأول كذباتهم، وقد قدمنا ما يدفع قول من قال إنهم قد كانوا أنبياء عند صدور هذه الأمور منهم. قوله: "فأسرها يوسف في نفسه" قال الزجاج وغيره: الضمير في أسرها يعود إلى الكلمة أو الجملة، كأنه قيل فأسر الجملة في نفسه "ولم يبدها لهم" ثم فسرها بقوله: "قال أنتم شر مكاناً" وقد رد أبو علي الفارسي هذا فقال: إن هذا النوع من الإضمار على شريطة التفسير غير مستعمل، وقيل الضمير عائد إلى الإجابة: أي أسر يوسف إجابتهم في ذلك الوقت إلى وقت آخر، وقيل أسر في نفسه قولهم: إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل وهذا هو ألأولى ، ويكون معنى "ولم يبدها لهم" أنه لم يبد لهم هذه المقالة التي أسرها في نفسه بأن يذكر لهم صحتها أو بطلانها، وجملة "قال أنتم شر مكاناً" مفسرة على القول الأول، ومستأنفة على القولين الأخرين، كأنه قيل: فماذا قال يوسف لما قال هذه المقالة؟ أي أنتم شر مكاناً: أي موضعاً ومنزلاً ممن نسبتموه إلى السرقة وهو بريء، فإنكم قد فعلتم من إلقاء يوسف إلى الجب والكذب على أبيكم وغير ذلك من افاعيلكم. ثم قال: "والله أعلم بما تصفون" من الباطل بنسبة السرق إلى يوسف، وأنه لا حقيقة لذلك، ثم أرادوا أن يستعطفوه ليطلق له أخاهم بنيامين يكون معهم يرجعون به إلى أبيهم لما تقدم من أخذه الميثاق عليهم بأن يردوه إليه.

قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ

78- " قالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا " أي إن لبنيامين هذا أباً متصفاً بهذه الصفة، وهي كونه شيخاً كبيراً لا يستطيع فراقه ولا يصبر عنه ولا يقدر على الوصول إليه "فخذ أحدنا مكانه" يبقى لديك، فإن له منزلة في قلب أبيه ليست لواحد منافلا يتضرر بفراق أحدنا كما [يتضرر] بفراق بنيامين، ثم عللوا ذلك بقوله، "إنا نراك من المحسنين" إلى الناس كافة. وإلينا خاصة، فتمم إحسانك إلينا بإجابتنا إلى هذا المطلب.

قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ

فأجاب يوسف عليهم بقوله: 79- "معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده" أي نعوذ بالله معاذاً، فهو مصدر منصوب بفعل محذوف، والمستعيذ بالله هو المعتصم به، وأن نأخذ منصوب بنزع الخافض، والأصل من أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده، وهو بنيامين لأنه الذي وجد الصواع في رحله فقد حل لنا استعباده بفتواكم التي أفتيتمونا بقولكم: "جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه". "إنا إذا لظالمون" أي إنا إذا أخذنا غير من وجدنا متاعنا عنده لظالمون في دينكم وما تقتضيه فتواكم.

فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ ا

80- "فلما استيأسوا منه" أي يئسوا من يوسف وإسعلفهم منه إلى مطلبهم الذي طلبوه، والسين والتاء للمبالغة "خلصوا نجياً" أي انفردوا حال كونهم متناجين فيما بينهم، وهو مصدر يقع على الواحد والجمع كما في قوله "وقربناه نجياً". قال الزجاج: معناه انفردوا وليس معهم أخوهم متناجين فيما يعملون به في ذهابهم إلى ابيهم من غير أخيهم "قال كبيرهم"، قيل هو روبيل لأنه الأسن، وقيل يهوذا لأنه الوفر عقلاً، وقيل شمعون لأنه رئيسهم "ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقاً من الله" أي عهداً من الله في حفظ ابنه ورده إليه، ومعنى كونه من الله أنه بإذنه "ومن قبل ما فرطتم في يوسف" معطوف على ما قبله، والتقدير: ألم تعلموا أن أباكم وتعلموا تفريطكم في يوسف، ذكر هذا النحاس وغيره، ومن قبل متعلقة بتعلموا: أي وتعلموا تفريطكم في يوسف من قبل، على أن ما مصدرية، ويجوز أن تكون زائدة، وقيل ما فرطتم مرفوع المحل على الإبنداء، وخبره من قبل وقيل إن ما موصولة أو موصوفة، وكلاهما في محل النصب أو الرفع، وما ذكرناه هو الأولى، ومعنى فرطتم: قصرتم في شأنه، ولم تحفظوا عهد أبيكم فيه "فلن أبرح الأرض"، يقال برح براحاً وبروحاً: أي زال، فإذا دخله النفي صار مثبتاً: أي لن أبرح من الأرض، بل ألزمها ولا أزال مقيماً فيها "حتى يأذن لي أبي" في مفارقتها والخروج منها، وإنما قال ذلك لأنه يستحي من أبيه أن يأتي إليه بغير ولده الذي أخذ عليهم الموثق بإرجاعه إليه إلا أن يحاط بهم كما تقدم "أو يحكم الله لي" بمفارقتها والخروج منها، وقيل المعنى: أو يحكم الله لي بالنصر على من أخذ أخي فأحاربه وآخذ أخي منه، أو أعجز فأنصرف بعد ذلك "وهو خير الحاكمين" لأن أحاكمه لا تجري إلا على ما يوافق الحق. ويطابق الصواب.

ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ

ثم قال كبيرهم مخاطباً لهم 81- " ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق " قرأ الجمهور سرق على البناء للفاعل، لأنهم قد شاهدوا استخراج الصواع من وعائه. وقرأ ابن عباس والضحاك وأبو رزين على البناء للمفعول، وروى ذلك النحاس عن الكسائي. قال الزجاج: إن سرق يحتمل معنيين: أحدهما علم منه السرق، والآخر اتهم بالسرق "وما شهدنا إلا بما علمنا" من استخراج الصواع من وعائه، وقيل المعنى: ما شهدنا عند يوسف بأن السارق يسترق إلا بما علمنا من شريعتك وشريعة آبائك "وما كنا للغيب حافظين" حتى يتضح لنا هل الأمر على ما شاهدناه أو على خلافه؟ وقيل المعنى: ما كنا وقت أخذنا له منك ليخرجا معنا إلى مصر للغيب حافظين بأنه سيقع منه السرق الذي افتضحنا به، وقيل الغيب هو الليل، ومرادهم أنه سرق وهم نيام، وقيل مرادهم أنه فعل ذلك وهو غائب عنهم.

وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ

فخفي عليم فعله 82- "واسأل القرية التي كنا فيها" هذا من تمام قول كبيرهم لهم: أي قولوا لأبيكم اسأل القرية التي كنا فيها: أي مصر، والمراد أهلها: أي اسأل أهل القرية، وقيل هي قرية من قرى مصر نزلوا فيها وامتاروا منها، وقيل المعنى: واسأل القرية نفسها وإن كانت جماداً فإنك نبي الله، والله سبحانه سينطقها فتجيبك، ومما يؤيد هذا أنه قال سيبويه: لا يجوز كلم هنداً وأنت تريد غلام هند "والعير التي أقبلنا فيها" أي وقولوا لأبيكم اسأل العير التي أقبلنا فيها: أي أصحابهاوكانوا قوماً معروفين من جيران يعقوب "وإنا لصادقون" فيما قلنا، جاءوا بهذ الجملة مؤكدة هذا التأكيد لأن ما قد تقدم منهم مع أبيهم يعقوب يوجب كمال الريبة في خبرهم هذا عند السامع.وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله: "إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل" قال: يعنون يوسف. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس قال: سرق مكحلة لخالته، يعني يوسف. وأخرج أبو الشيخ عن عطية قال: سرق في صباه ميلين من ذهب. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سرق يوسف صنماً لجده أبي أمه من ذهب وفضة فكسره وألقاه على الطريق فعيره بذلك إخوته". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير مثله غير مرفوع، وقد روى نحوه عن جماعة من التابعين. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "فأسرها يوسف في نفسه" قال: أسر في نفسه قوله: "أنتم شر مكاناً والله أعلم بما تصفون". وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن قتادة مثله. وأخرج ابن جرير عن ابن إسحاق في قوله: " فلما استيأسوا منه " قال: أيسوا منه، ورأوا شدته في أمره. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "خلصوا نجياً" قال: وحدهم. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "قال كبيرهم" قال: شمعون الذي تخلف أكبرهم عقلاً، وأكبر منه في الميلاد روبيل. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة "قال كبيرهم" هو روبيل، وهو الذي كان نهاهم عن قتله وكان أكبر القوم. وأخرج ابن المنذر عن مجاهد في قوله: "أو يحكم الله لي" قال: أقاتل بسيفي حتى أقتل. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن أبي صالح نحوه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عكرمة "وما كنا للغيب حافظين" قال: ما كنا نعلم أن ابنك يسرق. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة نحوه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "واسأل القرية" قال: يعنون مصر. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة مثله.

قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ

قوله: 83- "قال بل سولت لكم أنفسكم أمراً" أي زينت، والأمر هنا قولهم "إن ابنك سرق"وما سرق في الحقيقة، وقيل المراد بالأمر إخراجهم بنيامين، والمضي به إلى مصر طلباً للمنفعة فعاد ذلك بالمضرة، وقيل التسويل: التخييل: أي خيلت لكم أنفسكم أمراً لا أصل له، وقيل الأمر الذي سولت لهم أنفسهم فتياهم بأن السارق يؤخذ بسرقته، والإضراب هنا هو باعتبار ما أثبتوه من البراءة لأنفسم، لا باعتبار أصل الكلام فإنه صحيح، والجملة مستأنفة مبنية على سؤال مقدر كغيرها. وجملة "فصبر جميل" خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره محذوف: أي فأمري صبر جميل أجمل بي وأولى لي والصبر الجميل هو الذي لا يبوح صاحبه بالشكوى بل يفوض أمره إلى الله ويسترجع، وقد ورد أن الصبر عند أول الصدمة "عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً" أي بيوسف وأخيه بنيامين، والأخ الثالث الباقي بمصر، وهو كبيرهم كما تقدم، وإنما قال هكذا لأنه قد كان عنده أن يوسف لم يمت، وأنه باق على الحياة وإن غاب عنه خبره "إنه هو العليم" بحالي "الحكيم" فيما يقضي به.

وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ

84- "وتولى عنهم" أي أعرض عنهم، وقطع الكلام معهم " وقال يا أسفى على يوسف ". قال الزجاج: الأصل يا أسفي، فأبدل من الياء ألفاً لخفة الفتحة، والأسف: شدة الجزع، وقيل شدة الحزن، ومنه قول كثير: فيا أسفا للقلب كيف انصرافه وللنفس لما سليت فتسلت قال يعقوب هذه المقالة لما بلغ منه الحزن غاية مبالغة بسبب فراقه ليوسف، وانضمام فراقه لأخيه بنيامين، وبلوغ ما بلغه من كونه أسيراً عند ملك مصر، فتضاعفت أحزانه، وهاج عليه الوجد القديم بما أثاره من الخبر الأخير. وقد روى عن سعيد بن جبير أن يعقوب لم يكن عنه ما ثبت في شريعتنا من الاسترجاع والصبر على المصائب، ولو كان عنده ذلك لما قال: يا أسفا على يوسف. ومعنى المناداة للأسف طلب حضوره، كأنه قال: تعال يا أسفي وأقبل إلي "وابيضت عيناه من الحزن" أي انقلب سواد عينيه بياضاً من كثرة البكاء. قيل إنه زال إدراكه بحاسة البصر بالمرة، وقيل كان يدرك إدراكاً ضعيفاً. وقد قيل في توجيه ما وقع من يعقوب عليه السلام من هذا الحزن العظيم المفضي إلى ذهاب بصره كلاً أو بعضاً بأنه إنما وقع منه ذلك لأنه علم أن يوسف حي، فخاف على دينه مع كونه بأرض مصر وأهلها حينئذ كفار، وقيل إن مجرد الحزن ليس بمحرم، وإنما المحرم ما يفضي منه إلى الوله وشق الثياب والتكلم بما لا ينبغي. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم عند موت ولده إبراهيم: "تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول ما يسخط الرب، وإنا عليك يا إبراهيم لمحزونون". ويؤيد هذا قوله: "فهو كظيم" أي مكظوم، فإن معناه: أنه مملوء من الحزن ممسك له لا يبثه، ومنه كظم الغيظ وهو إخفاؤه، فالمكظوم المسدودعليه طريق حزنه، من كظم السقاء: إذا سده على ما فيه، والكظم بفتح الظاء: مخرج النفس، يقال أخذ بأكظامه وقيل الكظيم بمعنى الكاظم: أي المشتمل على حزنه الممسك له، ومنه: فإن أك كاظماً لمصاب ناس فإني اليوم منطلق لساني ومنه "والكاظمين الغيظ". وقال الزجاج: معنى كظيم: محزون. وروي عن ابن عباس أنه قال: معناه مغموم مكروب. قال بعض أهل اللغة: الحزن بالضم والسكون: البكاء، وبفتحتين: ضد الفرح.

قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ

وقال أكثر أهل اللغة: هما لغتان بمعنى 85- " قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف " أي لا تفتؤ، فحذف حرف النفي لعدم اللبس. قال الكسائي: فتأت وفتئت أفعل كذا: أي ما زالت، وقال الفراء:إن لا مضمرة: أي لا تفتأ.قال النحاس: والذي قال صحيح. وقد روي عن الخليل وسيبويه مثل قول الفراء، وأنشد الفراء محتجاً على ما قاله: فقلت يمين الله أبرح قاعداً ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي ويقال فتىء وفتأ لغتان، ومنه قول الشاعر: فما فتئت حتى كأن غبارها سرادق يوم ذي رياح ترفع "حتى تكون حرضاً" الحرض مصدر يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث والصفة المشبهة، حرض بكسر الراء كدنف ودنف، وأصل الحرض: الفساد في الجسم أو العقل من الحزن أو العشق أو الهرم، حكي ذلك عن أبي عبيدة وغيره، ومنه قول الشاعر: سرى همي فأمرضني وقد ما زادني مرضا كذاك الحب قبل اليو م مما يورث الحرضا وقيل الحرض: ما دون الموت، وقيل الهرم، وقيل الحارض: البالي الدائر. وقال الفراء: الحارض: الفاسد الجسم والعقل، وكذا الحرض. وقال مؤرج: هو الذائب من الهم، ويدل عليه قول الشاعر: إني امرؤلج بي حب فأحرضني حتى بليت وحتى شفني السقم ويقال رجل محرض، ومنه قول الشاعر: طلبته الخيل يوماً كاملاً ولو ألفته لأضحى محرضاً قال النحاس: وحكى أهل اللغة أحرضه الهم: إذا أسقمه، ورجل حارض: أي أحمق. وقال الأخفش: الحارض الذاهب. وقال ابن الأنباري: هو الهالك. والأولى تفسير الحرض هنا بغير الموت والهلاك من هذه المعاني المذكورة حتى يكون لقوله "أو تكون من الهالكين" معنى غير معنى الحرض، فالتأسيس أولى من التأكيد، ومعنى من الهالكين: من الميتين، وغرضهم منع يعقوب من البكاء والحزن شفقة عليه وإن كانوا هم سبب أحزانه ومنشأ همومه وغمومه.

قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ

86- "قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله" هذه الجملة مستأنفة، كأنه قيل فما قال يعقوب لما قالوا له ما قالوا؟ والبث: ما برد على الإنسان من الأشياء التي يعظم حزن صاحبها بها حتى لا يقدر على إخفائها، كذا قال أهل اللغة، وهو مأخوذ من بثثه: أي فرقته، فسميت المصيبة بثاً مجازاً. قال ذو الرمة: وقفت على ربع لمية يا فتى فما زلت أبكي عنده وأخاطبه وأسقيه حتى كاد مما أبثه تكلمني أحجاره وملاعبه وقد ذكر المفسرون أن الإنسان إذا قدر على كتم ما نزل به من المصائب كان ذلك حزناً، وإن لم يقدر على كتمه كان ذلك بثاً، فالبث على هذا: أعظم الحزن وأصعبه، وقيل البث: الهم، وقيل هو الحاجة، وعلى هذا القول يكون عطف الحزن على البث واضح المعنى. وأما على تفسير البث بالحزن العظيم، فكأنه قال: إنما أشكو حزني العظيم وما دونه من الحزن إلى الله لا إلى غيره من الناس. وقد قرىء حزني بضم الحاء وسكون الزاي وحزني بفتحهما "وأعلم من الله ما لا تعلمون" أي أعلم من لطفه وإحسانه وثوابه على المصيبة ما لا تعلمونه أنتم، وقيل أراد علمه بأن يوسف حي، وقيل أراد علمه بأن رؤياه صادقة، وقيل أعلم من إجابة المضطرين إلى الله ما لا تعلمون.

يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ

87- "يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه" التحسس بمهملات: طلب الشيء بالحواس، مأخوذ من الحس، أو من الإحساس: أي اذهبوا فتعرفوا خبر يوسف وأخيه وتطلبوه، وقريء بالجيم، وهو أيضاً التطلب "ولا تيأسوا من روح الله" أي لا تقنطوا من فرجه وتنفيسه. قال الأصمعي: الروح ما يجده الإنسان من نسيم الهواء فيسكن إليه، والتركيب يدل على الحركة والهزة فكل ما يهتز الإنسان بوجوده ويلتذ به فهو روح. وحكى الواحدي عن الأصمعي أيضاً أنه قال: الروح الإستراحة من غم القلب. وقال أبو عمر: الروح الفرج، وقيل الرحمة "إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون" لكونهم لا يعلمون بقدرة الله سبحانه، وعظيم صنعه وخفي ألطافه.

فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ

قوله: 88- "فلما دخلوا عليه" أي على يوسف، وفي الكلام حذف، والتقدير: فذهبوا كما أمرهم أبوهم إلى مصر ليتحسسوا من يوسف وأخيه، فلما دخلوا على يوسف "قالوا يا أيها العزيز" أي الملك الممتنع القادر "مسنا وأهلنا الضر" أي الجوع والحاجة. وفيه دليل على أنه تجوز الشكوى عند الضرورة إذا خاف من إصابته على نفسه كما يجوز للعليل أن يشكو إلى الطبيب ما يجده من العلة، وهذه المرة التي دخلوا فيها مصر هي المرة الثالثة كما يفيده ما تقدم من سياق الكتاب العزيز "وجئنا ببضاعة مزجاة" البضاعة هي القطعة من المال يقصد بها شراء شيء يقال أبضعت الشيء واستبضعته: إذا جعلته بضاعة، وفي المثل كمستبضع التمر إلى هجر. والإزجاء: السوق بدفع. قال الواحدي: الإزجاء في اللغة السوق والدفع قليلاً قليلاً، ومنه قوله تعالى: "ألم تر أن الله يزجي سحاباً"، والمعنى: أنها بضاعة تدفع ولا يقبلها التجار. قال ثعلب: البضاعة المزجاة الناقصة غير التامة. قال أبو عبيدة: إنما قيل للدراهم الرديئة مزجاة لأنها مردودة مدفوعة غير مقبولة. واختلف في هذه البضاعة ما هي؟ فقيل كانت قديداً وحيساً، وقيل صوف وسمن، وقيل الحبة الخضراء والصنوبر، وقيل دراهم رديئة، وقيل النعال والأدم. ثم طلبوا منه بعد أن أخبروه بالبضاعة التي معهم أن يوفي لهم الكيل: أي يجعله تاماً لا نقص فيه، وطلبوا منه أن يتصدق عليهم إما بزيادة يزيدها لهم على ما يقابل بضاعتهم. أو بالإغماض عن رداءة البضاعة التي جاءوا بها، وأن يجعلها كالبضاعة الجيدة في إيفاء الكيل لهم بها، وبهذا قال أكثر المفسرين، وقد قيل كيف يطلبون التصدق عليهم وهم أنبياء والصدقة محرمة على الأنبياء. وأجيب باختصاص ذلك بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، "إن الله يجزي المتصدقين" بما يجعله لهم من الثواب الأخروي، أو التوسيع عليهم في الدنيا. وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: "عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً" قال: يوسف وأخيه وروبيل. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في الآية قال: يوسف وأخيه وكبيرهم الذي تخلف وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس في قوله: " يا أسفى على يوسف " قال: يا حزنا وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن قتادة مثله. وأخرجوا عن مجاهد قال: يا جزعا. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: "فهو كظيم" قال: حزين. وأخرج ابن المبارك وعبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيوخ عن قتادة قال كظم على الحزن فلم يقل إلا خيراً. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن عطاء الخرساني قال: كظيم مكروب. وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة مثله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيوخ عن الضحاك قال: الكظيم الكمد. وأخرج ابن جرير عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيوخ عن ابن عباس في قوله: " تالله تفتأ تذكر يوسف " قال: لا تزال تذكر يوسف "حتى تكون حرضاً" قال: دنفاً من المرض "أو تكون من الهالكين" قال: الميتين. وأخرج هؤلاء عن مجاهد نحوه وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وأبوالشيوخ عن قتادة في قوله: " تفتأ تذكر يوسف " قال: لا تزال تذكر يوسف "حتى تكون حرضاً" قال: هرماً "أو تكون من الهالكين" قال: أو تموت. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيوخ عن الضحاك "حتى تكون حرضاً" قال: الحرض البالي "أو تكون من الهالكين" قال: من الميتين. وأخرج ابن جرير وعبد الرزاق عن مسلم بن يسار يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من بث لم يصبر، ثم قرأ "إنما أشكو بثي وحزني إلى الله""، وأخرج ابن منده في المعرفة عن مسلم بن يسار عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره. وأخرج ابن مردوية من حديث عبدالله بن عمرو مرفوعاً مثله. وأخرجه ابن المنذر وابن مردوية عن عبد الرحمن بن يعمر مرفوعاً مرسلاً. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيوخ عن ابن عباس في قوله: "إنما أشكو بثي" قال: همي. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله: " وأعلم من الله ما لا تعلمون " قال: أعلم أن رؤيا يوسف صادقة وأني سأسجد له. وأخرج ابن جرير عن الضحاك مثله . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله "ببضاعة "قال : دراهم "مزجاة" قال : كاسدة .وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه قال : مزجاة رثة المتاع خلقة الحبل والغرارة والشيء. وأخرج أبو عبيد وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه أيضا مزجاة قال : الورق الزيوف التي لا تنفق حتى يوضع منها . وأخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن جرير في قوله " وتصدق علينا " قال : اردد علينا أخانا .

قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ

الإستفهام في قوله: 89- "هل علمتم" للتوبيخ والتقريع، وقد كانوا عالمين بذلك، ولكنه أراد ما ذكرناه، ويستفاد منه تعظيم الواقعة لكونه في قوة: ما أعظم الأمر الذي ارتكبتم من يوسف وأخيه، وما أقبح ما أقدمتم عليه؟ كما يقال للمذنب: هل تدري من عصيت؟ والذي فعلوا بيوسف هو ما تقدم مما قصه الله سبحانه علينا في هذه السورة وأما ما فعلوا بأخيه، فقال جماعة من المفسرين هو ما أدخلوه عليه من الغم بفراق أخيه يوسف، وما كان يناله منهم من الإحتقار والإهانة، ولم يستفهمهم عما فعلوا بأبيه يعقوب مع أنه قد نالهم منهم ما قصه الله فيما سبق من صنوف الأذى. قال الواحدي: ولم يذكر أباه يعقوب مع عظظم ما دخل عليه من الغم بفراقه تعظيما له ورفعاً من قدره، وعلماً بأن ذلك كان بلاءً له من الله عز وجل ليزيد في درجته عنده "إذ أنتم جاهلون" نفى عنهم العلم وأثبت صفة الجهل،لأنهم لم يعلموا بما يقتضيه العلم: وقيل إنه أثبت لهم صفة الجهل لقصد الاعتذار عنهم وتخفيف الأمر عليهم، فكأنه قال: إنما أقدمتم على ذلك الفعل القبيح المنكر وقت عدم علمكم بما فيه من الإثم وقصور معارفكم عن عاقبته، وما يترتب عليه، أو أراد أنهم عند ذلك في أوان الصبا وزمان الصغر، اعتذاراً لهم ودفعاً لما يدهمهم من الخجل والحيرة مع علمه وعلمهم بأنهم كانوا في ذلك الوقت كباراً.

قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ

90-" قالوا أإنك لأنت يوسف " قرأ ابن كثير إنك على الخبر بدون استفهام. وقرأ الباقون على الإستفهام التقريري، وكان ذلك منهم على طريق التعجب والاستغراب: قيل سبب معرفتهم له بمجرد قوله لهم "ما فعلتم بيوسف وأخيه" أنهم لما قال لهم ذلك تنبهوا وفهموا أنه لا يخاطبهم بمثل هذا إلا هو، وقيل إنه لما قال لهم بهذه المقالة وضع التاج عن رأسه فعرفوه، وقيل أنه تبسم فعرفوا ثناياه "قال أنا يوسف وهذا أخي" أجابهم بالاعتراف بما سألوه عنه. قال ابن الأنباري أظهر الاسم فقال أنا يوسف ولم يقل أنا هو، تعظيماً لما وقع به من ظلم إخوته، كأنه قال: أنا المظلوم المستحل منه المحرم المرادد قتله. فاكتفى بإظها الإسم عن هذه المعاني، وقال: وهذا أخي مع كونهم يعرفونه ولا ينكرونه، لأن قصده وهذا أخي المظلوم كظلمي "قد من الله علينا" بالخلاص عما ابتلينا به، وقيل من الله علينابكل خير في الدنيا والآخرة، وقيل بالجمع بيننا بعد التفرق، ولا مانع من إرادة جمبع ذلك "إنه من يتق ويصبر" قرأ الجمهور بالجزم على أن من شرطية. وقرأ ابن كثير بإثبات الياء في يتقي، كما في قول الشاعر: ألم يأتيك والأنباء تنمي بما لاقت لبون بني زياد وقيل إنه جعل من موصولة لا شرطية، وهو بعيد. والمعنى: إنه من يفعل التقوى أو يفعل ما يقيه عن الذنوب ويصبر على المصائب"فإن الله لا يضيع أجر المحسنين" على العموم، فيدخل فيه ما يفيده السياق دخولاً أولياً، وجاء بالظاهر، وكان المقام مقام المضمر: أي أجرهم للدلالة على أن الموصوفين بالتقوى موصوفون بصفة الإحسان.

قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آَثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ

91- "قالوا تالله لقد آثرك الله علينا" أي لقد اختارك وفضلك علينا بما خصك به من صفات الكمال، وهذا اعتراف منهم بفضله وعظيم قدره. ولا يلزم من ذلك أن لا يكونوا أنبياء، فإن درج الأنبياء متفاوتة، قال الله تعالى: "تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض" "وإن كنا لخاطئين" أي وإن الشأن ذلك. قال أبو عبيدة: خطء وأخطأ بمعنى واحد. وقال الأزهري: المخطىء من أراد الصواب فصار إلى غيره، ومنه قولهم: المجتهد يخطىء ويصيب، والخاطىء من تعمد ما لا ينبغي. قالوا هذه المقالة المتضمنة للاعتراف بالخطأ والذنب استجلاباً لعفوه واستجذاباً لصفحه.

قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ

92- "قال لا تثريب عليكم" التثريب التعيير والتوبيخ: أي لا تعيير ولا توبيخ، ولا لوم عليكم. قال الأصمعي ثربت عليه: قبحت عليه فعله. وقال الزجاج: المعنى لا إفساد لما بيني وبينكم من الحرمة وحق الأخوة، ولكم عندي الصلح والعفو، وأصل التثريب الإفساد، وهي لغة أهل الحجاز. وقال ابن الأنباري: معناه قد انقطع عنكم توبيخي عند اعترافكم بالذنب. قال ثعلب: ثرب فلان على فلان إذا عدد عليه ذنوبه، وأصل التثريب من الثرب، وهو الشحم الذي هو غاشية الكرش، ومعناه إزالة التثريب، كما أن التجليد والتقريع إزالة الجلد والقرع وانتصاب اليوم بالتثريب: أي لا أثرب عليكم أو منتصب بالعامل المقدر في عليكم وهو مستقر أو ثابت أو نحوهما أي لا تثريب مستقر أو ثابت عليكم. وقد جوز الأخفش الوقف على عليكم، فيكون اليوم متعلق بالفعل الذي بعده. وقد ذكر مثل هذا ابن الأنباري. ثم دعا لهم بقوله : "يغفر الله لكم" على تقدير الوقف على اليوم أو أخبرهم بأن الله قد غفر لهم ذلك اليوم على تقدير الوقف على عليكم "وهو أرحم الراحمين" يرحم عباده رحمة لا يتراحمون بها فيما بينهم فيجازي محسنهم ويغفر لمسيئهم.

اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ

93- قوله "اذهبوا بقميصي هذا"قيل هذا القميص هو القميص الذي ألبسه الله إبراهيم لما ألقي في النار وكساه إبراهيم إسحاق وكساه إسحاق يعقوب. وكان يعقوب أدرج هذا القميص في [قصبة] وعلقه في عنق يوسف لما كان يخاف عليه من العين، فأخبر جبريل يوسف أن يرسل به إلى يعقوب ليعود عليه بصره لأن فيه ريح الجنة، وريح الجنة لا يقع على سقيم إلا شفي ولا مبتلي إلا عوفي "فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا" أي يصر بصيراً على أن يأت هي التي من أخوات كان. قال الفراء: يرجع بصيراً. وقال السدي: يعد بصيراً. وقيل معناه: يأت إلي إلى مصر وهو بصير قد ذهب عنه العمى، ويؤيد قوله "وأتوني بأهلكم أجمعين" أي جميع من شمله لفظ الأهل من النساء والذراري، قيل كانوا نحو سبعين، وقيل ثلاثة وتسعين

وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ

94- "ولما فصلت العير" أي خرجت منطلقة من مصر إلى الشام، يقال فصل فصولاً، وفصلته فصلاً، لازم ومتعد، وسقال فصل من البلد فصولاً: إذا انفصل عنه وجاوز حيطانه "قال أبوهم" أي يعقوب لمن عنده في أرض كنعان من أهله "إني لأجد ريح يوسف" قيل إنها هاجت ريح فحملت ريح القميص إلى يعقوب مع طول المسافة، فأخبرهم بما وجد، ثم قال "لولا أن تفندون" لولا أن تنسبوني إلى الفند، وهو ذهاب العقل من الهرم، يقال أفند الرجل: إذا خرف وتغير عقله. وقال أبو عبيدة لولا أن تسفهون، فجعل الفند السفه. وقال الزجاج: لولا أن تجهلون، فجعل الفند الجهل، ويؤيد قول من قال إنه السفه قول النابغة: إلا سليمان إذ قال المليك له قم في البرية فاحددها عن الفند أي امنعها عن السفه. وقال أبو عمر الشيباني : التفنيد التقبيح، ومنه قول الشاعر: يا صاحبي دعا لومي وتفنيد فليس ما فات من امري بمردود وقيل هو الكذب، ومنه قول الشاعر: هل في افتخار الكريم من أود أم هل لقول الصديق من فند وقال ابن الأعرابي "لولا أن تفندون" لولا أن تضعفوا رأيي. وروي مثله عن أبي عبيدة. وقال الأخفش: التفنيد اللوم وضعف الرأي. وكل هذه المعاني راجع إلى التعجيز وتضعيف الرأي، يقال فنده تفنيداً: إذا عجزه، وأفند: إذا تكلم بالخطأ، والفند: الخطأ من الكلام، ومما يدل على إطلاقه على اللوم قول الشاعر: يا عاذلي دعا الملام وأقصرا طال الهوى وأطلتما التفنيدا أخبرهم يعقوب بأن الصبا قد حملت إليه ريح حبيبه، وأنه لولا ما يخشاه من التفنيد لما شك في ذلك: فإن الصبــا ريح مــا تنفــسـت علـى نفس مهموم تجلــت همـومهــا إذا قلت هذا حي أسلو يهيجني نسيم الصبا من حيث ما يطلع الفجر ولقد تهب لي الصبا من أرضها فيــلــذ مــس هبــوبكــم ويــطــيب

قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ

95- "قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم" أي قال الحاضرون عنده من اهله: إنك يا يعقوب لفي ذهابك عن طريق الصواب الذي كنت عليه قديماً من لإفراط حبك ليوسف لا تنساه، ولا تفتر عنه، ولسان حال يعقوب يقول لهم: لا يعرف الشوق إلا من يكابده ولا الصبابة إلا من يعانيها لا تعذل المشتاق في أشواقه حتى تكون حشاك في أحشائه وقيل المعنى: إنك لفي جنونك القديم، وقيل في محيتك القديمة.

فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ

قالوا له ذلك لأنه لم يكن قد بلغهم قدوم البشير 96- "فلما أن جاء البشير" قال المفسرون البشير: هو يهوذا بن يعقوب قال لإخوته: أنا جئته بالقميص ملطخاً بالدم، فأعطني اليوم قميصك لأخبره أنك حي، فأفرحه كما أحزنته "ألقاه على وجهه" أي ألقى البشير قميص يوسف على وجه يعقوب، أو ألقاه يعقوب على وجه نفسه "فارتد بصيراً" الارتداد: انقلاب الشيء إلى حال قد كان عليها، والمعنى: عاد ورجع إلى حالته الأولى من صحة بصره "قال ألم أقل لكم" أي قال يعقوب لمن كان عنده من أهله الذين قال لهم: "إني لأجد ريح يوسف": ألم أقل لكم هذا القول فقلتم ما قلتم، ويكون قوله: "إني أعلم من الله ما لا تعلمون" كلاماً مبتدأ لا يتعلق بالقول، ويجوز أن تكون جملة "إني أعلم من الله ما لا تعلمون" مقول القول، ويريد بذلك أخبارهم بما قاله سابقاً "إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون".

قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ

97- "قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين" طلبوا منه أن يستغفر لهم، واعترفوا بالذنب، وفي الكلام حذف، والتقدير: ولما رجعوا من مصر ووصلوا إلى أبيهم قالوا هذا القول، فوعدهم بما طلبوه منه.

قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ

98- "قال سوف أستغفر لكم ربي" قال الزجاج: أراد يعقوب أن يستغفر لهم في وقت السحر، لأنه أخلق بإجابة الدعاء، لا أنه بخل عليهم بالاستغفار، وقيل أخره إلى ليلة الجمعة، وقيل أخره إلى أن يستحل لهم من يوسف، ولم يعلم أنه قد عفا عنهم، وجملة "إنه هو الغفور الرحيم" تعليل لما قبله. وقد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عكرمة في قوله: "لا تثريب" قال: لا تعيير. وأخرج أبو الشيخ عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال "لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة التفت إلى الناس فقال: ماذا تقولون وماذا تظنون؟ فقالوا ابن عم كريم ، فقال: لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم" وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس مرفوعاً نحوه. وأخرج البيهقي في الدلائل عن أبي هريرة مرفوعاً نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عطاء الخرساني قال: طلب الحوائج إلى الشباب أسل منها عند الشيوخ: ألم تر إلى قول يوسف لا تثريب عليكم اليوم؟. وقال يعقوب: "سوف أستغفر لكم ربي". أقول: وفي هذا الكلام نظر فإنهم طلبوا من يوسف أن يعفو عنهم بقولهم: لقد آثرك الله علينا، فقال: لا تثريب عليكم اليوم، لأن مقصودهم صدور العفو منه عنهم، وطلبوا من أبيهم يعقوب أن يستغفر الله لهم وهو لا يكون إلا بطلب ذلك منه إلى الله عز وجل، وبين المقامين فرق، فلم يكن وعد يعقوب لهم بخلاً عليهم بسؤال الله لهم، ولا سيما إذا صح ما تقدم من أنه أخر ذلك إلى وقت الإجابة، فإنه لو طلبه لهم في الحال لم يحصل له علم بالقبول. وأخرج الحكيم الترمذي وأبو الشيخ عن وهب بن منبه قال: لما كان من أمر إخوة يوسف ما كان، كتب يعقوب إلى يوسف وهو لا يعلم أنه يوسف: بسم الله الرحمن الرحيم، من يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم إلى عزيز آل فرعون، سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد: فإنا أهل بيت مولع بنا أسباب البلاء. كان جدي إبراهيم خليل الله ألقي في النار في طاعة ربه، فجعلها الله عليه برداً وسلاماً، وأمر الله جدي أن يذبح له أبي ففداه الله بما فداه، وكان لي ابن وكان من أحب الناس إلي ففقدته، فأذهب حزني عليه نور بصري، وكان له أخ من أمه كنت إذا ذكرته ضممته إلى صدري فأذهب عني بعض وجدي، وهو المحبوس عندك في السرقة، وإني أخبرك أني إسرق، ولم ألد سارقاً، فلما قرأ يوسف الكتاب بكى وصاح وقال: " اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا "، وأخرج أبو الشيخ عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في قوله:" اذهبوا بقميصي هذا " أن نمرود لما ألقى إبراهيم في النار نزل إليه جبريل بقميص من الجنة وطنفسة من الجنة. فألبسه القميص وأقعده على الطنفسة. وقعد معه يتحدث. فأوحى الله إلى النار "كوني برداً وسلاماً". ولولا أنه قال وسلاماً لأذاه البرد. وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس مرفوعاً إن الله كسا إبراهيم ثوباً من الجنة، فكساه إبراهيم إسحاق، وكساه إسحاق يعقوب، فأخذه يعقوب فجعله في قصبة من حديد وعلقه في عنق يوسف، ولو علم إخوته إذ ألقوه في الجب لأخذوه، فلما أراد الله أن يرد يوسف على يعقوب. كان بين رؤياه وتعبيره أربعون سنة أمر البشير أن يبشره من ثمان مراحل، فوجد يعقوب ريحه فقال:"إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون". فلما ألقاه على وجهه ارتد بصيراً، وليس يقع شيء من الجنة على عاهة من عاهات الدنيا إلا أبرأها بإذن الله. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وأحمد في الزهد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "ولما فصلت العير" قال: لما خرجت العير هاجت الريح، فجاءت يعقوب بريح قميص يوسف فقال: "إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون" تسفهون. فوجد ريحه من مسيرة ثمانية أيام. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه قال:وجد ريحه من مسيرة عشرة أيام. وأخرج ابن أبي حاتم من وجه آخر عنه قال: وجده من مسيرة ثمانين فرسخاً. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عنه أيضاً: "لولا أن تفندون" قال تجهلون. وأخرج ابن جرير عنه أيضا: قال تكذبون. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد قال: تهرمون، يقولون قد ذهب عقلك. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن الربيع قال: " لولا أن تفندون ". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس "إنك لفي ضلالك القديم" يقول: خطئك القديم. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد ابن جبير قال: جنونك القديم. وأخرج ابن جرير عن مجاهد قال: حبك القديم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: البشير البريد. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن الضحاك مثله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن سفيان قال: البشير هو يهوذا بن يعقوب. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال: لما أن جاء البشير إلى يعقوب فألقى عليه القميص قال: على أي دين خلفت يوسف؟ قال: على الإسلام. قال، الآن تمت النعمة. وأخرج ابو عبيد وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني عن ابن مسعود في قوله: "سوف أستغفر لكم ربي" قال: إن يعقوب أخر بنيه إلى السحر وأخرج ابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس قال: أخرهم إلى السحر. وكان يصلي بالسحر. وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه عنه قال: أخرهم إلى السحر لأن دعاء السحر مستجاب. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عنه أيضاً قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم في قصة: "هو قول أخي يعقوب لبنيه: سوف أستغفر لكم ربي، يقول حتى تأتي ليلة الجمعة".

فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آَوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ

قوله: 99- "فلما دخلوا على يوسف" لعل في الكلام محذوفاً مقدراً، وهو فرحل يعقوب وأولاده وأهله إلى مصر فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه: أي ضمهما وأنزلهما عنده. قال المفسرون: المراد بالأبوين هنا يعقوب وزوجته خالة يوسف، لأن أمه قد كانت ماتت في ولادتها لأخيه بنيامين كما تقدم، وقيل أحيا الله له أمه تحقيقاً للرؤيا حتى سجدت له "وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين" مما تكرهون، وقد كانوا فيما مضى يخافون ملوك مصر، ولا يدخلونها إلا بجواز منهم. قيل والتقييد بالمشيئة عائد إلى الأمن، ولا مانع من عوده إلى الجميع، لأن دخولهم لا يكون إلا بمشيئة الله سبحانه، كما أنهم لا يكونون آمنين إلا بمشيئته، وقيل إن التقييد بالمشيئة راجع إلى قوله: "سوف أستغفر لكم ربي" وهو بعيد. وظاهر النظم القرآني: أن يوسف قال لهم هذه المقالة: أي ادخلوا مصر قبل دخولهم، وقد قيل في توجيه ذلك أنه تلقاهم إلى خارج مصر، فوقف منتظراً لهم في مكان أو خيمة، فدخلوا عليه ف" آوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر " فلما دخلوا مصر ودخلوا عليه دخولاً أخر في المكان الذي له بمصر.

وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الش

100- "رفع أبويه على العرش" أي أجلسهما معه على السرير الذي يجلس عليه كما هو عادة الملوك "وخروا له سجداً" أي الأبوان والأخوة، والمعنى: أنهم خروا ليوسف سجداً، وكان ذلك جائزاً في شريعتهم منزلاً منزلة التحية، وقيل لمن يكن ذلك سجوداً بل هو مجرد إيماء، وكانت تلك تحيتهم، وهو يخالف معنى: وخروا له سجداً، فإن الخرور في اللغة المقيد بالسجود لا يكون إلا بوضع الوجه على الأرض، وقيل الضمير في قوله له راجع إلى الله سبحانه أي وخروا لله سجداً، وهو بعيد جداً، وقيل إن الضمير ليوسف، واللام للتعليل: أي وخروا لأجله، وفيه أيضاً بعد وقال يوسف "يا أبت هذا تأويل رؤياي" يعني التي تقدم ذكرها "من قبل"أي من قبل هذا الوقت "قد جعلها ربي حقاً" بوقوع تأويلها على ما دلت عليه "وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن"الأصل أن يتعدى فعل الإحسان بإلى، وقد يتعدى بالباء كما في قوله تعالى: "وبالوالدين إحساناً" وقيل إنه ضمن أحسن معنى لطف بي محسناً، ولم يذكر إخراجه من الجب، لأن في ذكره نوع تثريب للإخوة، وقد قال: لا تثريب عليكم، وقد تقدم سبب سجنه ومدة بقائه فيه، وقد قيل إن وجه عدم ذكر إخراجه من الجب أن المنة كانت في إخراجه من السجن أكبر من المنة في إخراجه من الجب، وفيه نظر "وجاء بكم من البدو" أي البادية، وهي أرض كنعان بالشام، وكانوا أهل مواش وبرية، وقيل إن الله لم يبعث نبياً من البادية، وأن المكان الذي كان فيه يعقوب يقال له بداً، وإياه عنى جميل بقوله: وأنت الذي حببت شعباً إلى بدا إلي وأوطاني بلاد سواهما وفيه نظر " من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي " أي أفسد بيننا وحمل بعضنا على بعض، يقال نزغه إذا نخسه، فأصله من نخس الدابة ليقوى مشيها، وأحال يوسف ذنب إخوته على الشيطان تكرماً منه وتأدباً "إن ربي لطيف لما يشاء" اللطيف الرفيق، قال الأزهري: اللطيف من أسماء الله تعالى معناه الرفيق بعباده، يقال لطف فلان بفلان يلطف: إذا رفق به، وقال عمرو بن أبي عمرو: اللطيف الذي يوصل إليك أربك في لطف. قال الخطابي اللطيف هو البر بعباده الذي يلطف بهم من حيث لا يعلمون، ويسبب لهم مصالحهم من حيث لا يحتسبون وقيل اللطيف العالم بدقائق الأمور، ومعنى لما يشاء:لأجل ما يشاء حتى يجيء على وجه الصواب " إنه هو العليم الحكيم " أي العليم بالأمور الحكيم في أفعاله. ولما أتم الله نعمته على يوسف عليه السلام بما خلصه منه من المحن العظيمة وبما خوله من الملك وعلمه من العلم، تاقت نفسه إلى الخير الأخروي الدائم الذي لا ينقطع.

رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ

فقال:101- "رب قد آتيتني من الملك" من للتبعيض: أي بعض الملك، لأنه لم يؤت كل الملك، إنما أوتي ملكاً خاصاً، وهو ملك مصر في زمن خاص "وعلمتني من تأويل الأحاديث" أي بعضها، لأنه لم يؤت جميع علم التأويل سواء أريد به مطلق العلم والفهم، أو مجرد تأويل الرؤيا، وقيل من للجنس كما في قوله: "فاجتنبوا الرجس من الأوثان" وقيل زائدة: أي آتيتني الملك وعلمتني تأويل الأحاديث "فاطر السماوات والأرض" منتصب على أنه صفة لرب، لكونه منادى مضافاً، ويجوز أن يكون انتصابه على أنه منادى بحرف مقدر: أي يا فاطر، والفاطر الخالق والمنشيء والمخترع والمبدع "أنت وليي" أي ناصري ومتولي أموري " في الدنيا والآخرة " تتوالاني فيهما "توفني مسلماً وألحقني بالصالحين" أي توفني على الإسلام لا يفارقني حتى أموت، وألحق بالصالحين من النبيين من آبائي وغيرهم فأظفر بثوابهم منك ودرجاتهم عندك. قيل إنه لما دعا بهذا الدعاء توفاه الله عز وجل، قيل كان عمره عند أن ألقي في الجب سبع عشرة سنة، وكان في العبودية والسجن والملك ثمانين سنة إلى قدوم إبيه يعقوب عليه، ثم عاش بعد اجتماع شملهم حتى كمل عمره المقدار الذي سيأتي وتوفاه الله. قيل لم يتمن الموت أحد غير يوسف لا نبي ولا غيره. وذهب الجمهور إلى أنه لم يتمن الموت بهذا الدعاء، وإنما دعا ربه أن يتوفاه على الإسلام ويلحقه بالصالحن من عباده عند حضور أجله. وقد أخرج أبو الشيخ عن أبي هريره قال: دخل يعقوب مصر في ملك يوسف وهو ابن ماءة وثلاثين سنة، وعاش في ملكه ثلاثين سنة، ومات يوسف وهو ابن مائة وعشرين. قال أبو هريرة: وبلغني أنه كان عمر إبراهيم خليل الله مائة وخمسة وتسعين سنة. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله:" آوى إليه أبويه " قال: أبوه وأمه ضمهما. وأخرجا عن وهب قال وخالته، وكانت توفيت أم يوسف في نفاس أخيه بنيامين وأخرج أبو الشيخ نحوه عن سفيان بن عيينة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ورفع أبويه على العرش" قال: السرير، وأخرج ابن أبي حاتم عن عدي بن حاتم في قوله: "وخروا له سجداً" قال: كانت تحية من كان قبلكم فأعطاكم الله السلام مكانها. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة نحوه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن زيد قال: ذلك سجود تشرفة كما سجدت الملائكة تشرفة لأدم، وليس سجود عبادة. وأخرج أبو الشيخ عن قتادة في قوله: "إن ربي لطيف لما يشاء" قال: لطيف ليوسف وصنع له حين أخرجه من السجن، وجاء بأهله من البدو، ونزع من قلبه نزغ الشيطان وتحريشه على إخوته. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: ما سأل نبي الوفاة غير يوسف. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عنه قال: اشتاق إلى لقاء الله وأحب أن يلحق به وبأبائه. فدعا الله أن يتوفاه، وأن يلحقه بهم وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك في قوله "وألحقني بالصالحين" قال: يعني إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة قال: يعني أهل الجنة.

ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ

الخطاب بقوله:102- "ذلك" لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مبتدأ خبره "من أنباء الغيب"، و"نوحيه إليك" خبر ثان. قال الزجاج: ويجوز أن يكون ذلك بمعنى الذي ونوحيه إليك خبره: أي الذي من أنباء الغيب نوحيه إليك. والمعنى: الإخبار من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بأن هذا الذي قصه عليه من أمر يوسف وإخوته من الأخبار التي كانت غائبة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأوحاه الله إليه وأعلمه به ولم يكن عنده قبل الوحي شيء من ذلك، وفيه تعريض بكفار قريش، لأنهم كانوا مكذبين له صلى الله عليه وسلم بما جاء به جحوداً وعناداً وحسداً مع كونهم يعلمون حقيقة الحال "وما كنت لديهم" أي لدى إخوة يوسف "إذ أجمعوا أمرهم" إجماع الأمر: العزم عليه: أي وما كنت لدى إخوة يوسف إذ عزموا جميعاً على إلقائه في الجب "وهم" في تلك الحالة "يمكرون" به: أي بيوسف في هذا الفعل الذي فعلوه به ويبغونه الغوائل- وقيل الضمير ليعقوب:أي يمكرون بيعقوب حين جاءوا بقميص يوسف ملطخاً بالدم وقالوا أكله الذئب.وإذا لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لديهم عند أن فعلوا ذلك، انتفى علمه بذلك مشاهدة، ولم يكن بين قوم لهم علم بأحوال الأمم السالفة ولا خالطهم ولا خالطوه، فانتفى علمه بذلك بطريق الرواية عن الغير، فلم يبق لعلمه بذلك طريق إلا مجرد الوحي من الله سبحانه، فهذا يستلزم الإيمان بما جاء به، فلما لم يؤمن بذلك من عاصره من الكفار.

وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ

قال الله سبحانه ذاكراً لهذا103- "وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين" أي وما أكثر الناس المعاصرين لك يا محمد، أو ما أكثر الناس على العموم ولو حرصت على هدايتهم وبالغت في ذلك بمؤمنين بالله لتصميمهم على الكفر الذي هو دين آبائهم، يقال حرص يحرص مثل ضرب يضرب، وفي لغة ضعيفة حرص يحرص مثل حمد يحمد، والحرص طلب الشيء باجتهاد. قال الزجاج ومعناه وما أكثر الناس بمؤمنين ولو حرصت على أن تهديهم، لأنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء. قال ابن الأنباري: إن قريشاً واليهود سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قصة يوسف وإخوته فشرحهما شرحاً شافياً، وهو يؤمل أن يكون ذلك سبباً لإسلامهم، فخالفوا ظنه، وحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك فعزاه الله بقوله: "وما أكثر الناس".

وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ

الآية 104-"وما تسألهم عليه من أجر" أي على القرآن وما تتلوه عليهم منه، أو على الإيمان وحرصك على وقوعه منهم أو على ما تحدثهم به من هذا الحديث من أجر من مال يعطونك إياه ويجعلونه لك كما يفعله أحبارهم "إن هو" أي القرآن أو الحديث الذي حدثتهم به " إلا ذكر للعالمين" أي ما هو إلا ذكر للعالمين كافة لا يختص بهم وحدهم.

وَكَأَيِّنْ مِنْ آَيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ

105-"وكأين من آية في السموات والأرض" قال الخليل وسيبويه: والأكثرون أن كأين أصلها أي دخل عليها كاف التشبيه، لكنه انمحى عن الحرفين الإفرادي، وصار المجوع كاسم واحد بمعنى كم الخبرية، والأكثر إدخال من في مميزه، وهو تمييز عن الكاف لا عن عن أي كما في مثلك رجلاً. وقد مر الكلام على هذا مستوفى في آل عمران. والمعنى: كم من آية تدلهم على توحيد الله كائنة في السموات من كونها منصوبة بغير عمد، مزينة بالكواكب النيرة السيارة والثوابت، وفي الأرض من جبالها وقفارها وبحارها ونباتها وحيواناتها تدلهم على توحيد الله سبحانه، وأنه الخالق لذلك، الرزاق له المحيي والمميت، ولكن أكثر الناس يمرون على هذه الآيات غير متأملين لها، ولا مفكرين فيها، ولا ملتفين إلى ما تدل عليه من وجود خالقها، وأنه المنفرد بالألوهية مع كونهم مشاهدين لها "يمرون عليها وهم عنها معرضون" وإن نظروا إليها بأعيانهم فقد أعرضوا عما هو الثمرة للنظر بالحدقة، وهي التفكر والاعتبار والاستدلال. وقرأ عكرمة وعمرو بن فايد برفع الأرض على أنه مبتدأ، وخبره يمرون عليها، وقرأ السدي بنصب الأرض بتقدير فعل. وقرأ ابن مسعود يمشون عليها.

وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ

106- "وما يؤمن أكثرهم بالله" أي وما يصدق ويقر أكثر الناس بالله من كونه الخالق الرزاق المحيي المميت "إلا وهم مشركون" بالله يعبدون معه غيره كما كانت تفعله الجاهلية، فإنهم مقرون بالله سبحانه وبأنه الخالق لهم " ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله " "ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله"، لكنهم كانوا يثبتون له شركاء فيعبدونهم ليقربونهم إلى الله " ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله " ومثل هؤلاء الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله المعتقدون في الأموات بأنهم يقدرون على ما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه كما يفعله كثير من عباد القبور، ولا ينافي هذا ما قيل من أن الآية نزلت في قوم مخصوصين، فالاعتبار بما يدل عليه اللفظ لا بما يفيده السبب من الاختصاص ممن كان سبباً لنزول الحكم.

أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ

107- "أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله" الأستفهام للإنكار، والغاشية ما يغشاهم ويغمرهم من العذاب كقوله تعالى: "يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم"، وقيل هي الساعة، وقيل الصواعق والقوارع، ولا مانع من الحمل على العموم " أو تأتيهم الساعة بغتة" أي فجأة، وانتصاب بغتة على الحال. قال المبرد: جاء عن العرب حال بعد نكرة، وهو قولهم وقع أمر بغتة، يقال بغتهم الأمر بغتاً وبغتة: إذا فاجأهم "وهم لا يشعرون" بإتيانه، ويجوز انتصاب بغتة على أنها صفة مصدر محذوف.

قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ

108- "قل هذه سبيلي" أي قل يا محمد للمشركين هذه الدعوة التي أدعو إليها والطريقة التي أنا عليها سبيلي: أي طريقي وسنتي، فاسم الإشارة مبتدأ وخبره سبيلي، وفسر ذلك بقوله: " أدعو إلى الله على بصيرة " أي على حجة واضحة، والبصيرة المعرفة التي يتميز بها الحق من الباطل والجملة في محل نصب على الحال "أنا ومن اتبعني" أي ويدعو إليها من اتبعني واهتدى بهديي. قال الفراء: والمعنى ومن اتبعني يدعو إلى الله كما أدعو. وفي هذا دليل على أن كل متبع لرسول الله صلى الله عليه وسلم حق عليه أن يقتدي به في الدعاء إلى الإيمان به وتوحيده والعمل بما شرعه لعباده " وسبحان الله وما أنا من المشركين" أي وقل يا محمد لهم سبحان الله وما أنا من المشركين بالله الذين يتخذون من دونه أنداداً. قال ابن الأنباري: ويجوز أن يتم الكلام عند قوله: " أدعو إلى الله " ثم ابتدأ، فقال "على بصيرة أنا ومن اتبعني". وقد اخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون" قال: هم بنو يعقوب إذ يمكرون بيوسف. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن قتادة في الآية يقول: وما كنت لديهم وهم يلقونه في غيابة الجب وهم يمكرون بيوسف. وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك "وكأين من آية" قال: كم من آية في السماء يعني شمسها وقمرها ونجومها وسحابها، وفي الأرض ما فيها من الخلق والأنهار والجبال والمدائن والقصور. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون" قال: سلهم من خلقهم ومن خلق السموات والأرض فسيقولون الله، فذلك إيمانهم وهم يعبدون غيره. وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن عطاء في قوله: "وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون" قال: كانوا يعلمون ان الله ربهم وهو خالقهم وهو رازقهم، وكانوا مع ذلك يشركون. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن الضحاك في الآية قال: كانوا يشركون به في تلبيتهم يقولون لبيك، [لبيك] اللهم ليك لا شريك لك إلا شريكاً هز لك تملكه وما ملك. زأخرج أبو الشيخ عن الحسن في الآية قال: ذلك المنافق يعمل بالرياء وهو مشرك بعمله. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "غاشية من عذاب الله" قال: وقيعة تغشاهم. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "هذه سبيلي" قل هذه دعوتي. وأخرج أبو الشيخ عنه "قل هذه سبيلي" قال: صلاتي. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن زد في الآية قال: أمري ومشيئتي ومنهاجي، وأخرجا عن قتادة في قوله: "على بصيرة" أي على هدىً "أنا ومن اتبعني".

وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ

قوله 109- "وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً" هذا رد على من قال "لولا أنزل عليه ملك": أي لم نبعث من الأنبياء إلى من قبلك إلا رجالاً لا ملائكة، فكيف ينكرون إرسالنا إياك. وتدل الآية على أن الله سبحانه لم يبعث نبياً من النساء ولا من الجن، وهذا يرد على من قال: إن في النساء أربع نبيات: حواء، وآسية، وأم موسى، ومريم، وقد كان بعثة الأنبياء من الرجال دون النساء أمراً معروفاً عند العرب، حتى قال قيس بن عاصم في سجاح المتنبئة: أضحت نبيتنا أنثى نطيف بها وأصبحت أنبياء الله ذكرانا فلعنة الله والأقوام كلهم على سجاح ومن باللوم أغرانا "نوحي إليهم" كما نوحي إليك "من أهل القرى" أي المدائن دون أهل البادية لغلبة الجفاء والقسوة على البدو ولكون أهل الأمصار أتم عقلاً وأكمل حلماً وأجل فضلاً "أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم" يعني المشركين المنكرين لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم: أي أفلم يسر المشركون هؤلاء فينظروا إلى مصارع الأمم الماضية فيعتبروا بهم حتى ينزعوا عما هم فيه من التكذيب "ولدار الآخرة خير للذين اتقوا" أي لدار الساعة الآخرة، أو لحالة الآخرة على حذف الموصوف. وقال الفراء: إن الدار هي الآخرة، وأضيف الشيء إلى نفسه لاختلاف اللفظ كيوم الجمعة وصلاة الأولى ومسجد الجامع، والكلام في ذلك مبين في كتب الإعراب. والمراد بهذه الدار: الجنة: أي هي خير للمتقين من دار الدنيا. وقرىء وللدار الآخرة وقرأ نافع وعاصم ويعقوب "أفلا تعقلون" بالتاء الفوقية على الخطاب.

حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ

وقرأ الباقون بالتحتية 110- "حتى إذا استيأس الرسل" هذه الغاية لمحذوف دل عليه الكلام، وتقديره: وما أرسلنا من قبلك يا محمد إلا رجالاً ولم نعاجل أممهم الذين لم يؤمنوا بما جاءوا به بالعقوبة "حتى إذا استيأس الرسل" من النصر بعقوبة قومهم، أو حتى إذا استيأس الرسل من إيمان قومهم لانهماكهم في الكفر "وظنوا أنهم قد كذبوا". قرأ ابن عباس وابن مسعود وأبو عبد الرحمن السلمي وأبو جعفر بن القعقاع والحسن وقتادة وأبو رجاء العطاردي وعاصم وحمزة والكسائي ويحيى بن وثاب والأعمش وخلفكذبوا بالتخفيف:ظن القوم أن الرسل قد كذبوهم فيما أخبروا به من العذاب ولم يصدقوا، وقيل المعنى: ظن القوم أن الرسل قد كذبوهم فيما ادعوا من نصرهم، وقيل المعنى: وظن الرسل أنها قد كذبتهم أنفسهم حين حدثتهم بأنهم ينصرون عليهم، أو كذبهم رجاؤهم للنصر. وقرأ الباقون كذيوا بالتشديد، والمعنى عليها واضح: أي ظن الرسل بأن قومهم قد كذبوهم فيما وعدوهم به من العذاب، ويجوز في هذا أن يكون فاعل ظن القوم المرسل إليهم على معنى أنهم ظنوا أن الرسل قد كذبوا فيما جاءوا به من الوعد والوعيد. وقرأ مجاهد وحميد قد كذبوا بفتح الكاف والذال مخففتين على معنى: وظن قوم الرسل أن الرسل قد كذبوا، وقد قيل إن الظن في هذه الآية بمعنى اليقين، لأن الرسل قد تيقنوا أن قومهم كذبوهم، وليس ذلك مجرد ظن منهم، والذي ينبغي أن يفسر الظن باليقين في مثل هذه الصورة ويفسر بمعناه الأصلي فيما يحصل فيه مجرد ظن فقط من الصور السابقة "جاءهم نصرنا" أي فجاء الرسل نصر الله سبحانه فجأة، أو جاء قوم الرسل الذين كذبوهم نصر الله لرسله بإيقاع العذاب على المكذبين " فنجي من نشاء " قرأ عاصم فنجي بنون واحدة. وقرأ الباقون فننجي بنونين، واختار أبو عبيدة القراءة الأولى، لأنها في مصحف عثمان كذلك. وقرأ ابن محيصن فنجا على البناء للفاعل، فتكون من على القراءة الأولى في محل رفع على أنها نائب الفاعل، وتكون على القراءة الثانية في محل نصب على أنها مفعول، وعلى القراءة الثالثة في محل رفع على أنها فاعل، والذين نجام الله هم الرسل ومن آمن معهم، وهلك المكذبون "ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين" عند نزوله بهم، وفيه بيان من يشاء الله نجاته من العذاب وهم من عدا هؤلاء المجرمين.

لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ

111- "لقد كان في قصصهم" أي قصص الرسل ومن بعثوا إليه من الأمم، أو في قصص يوسف وإخوته وأبيه "عبرة لأولي الألباب" والعبرة: الفكرة والبصيرة المخلصة من الجهل والحيرة. وقيل هي نوع من الاعتبار، وهي العبور من الطرف المعلوم إلى الطرف المجهول، وأولوا الألباب هم ذوو العقول السليمة الذين يعتبرون بعقولهم فيدرون ما فيه مصالح دينهم، وإنما كان هذا القصص عبرة لما اشتمل عليه من الإخبارات المطابقة للواقع مع بعد المدة بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين الرسل الذين قص حديثهم، ومنهم يوسف وإخوته وأبوه مع كونه لم يطلع على أخبارهم ولا اتصل بأحبارهم "ما كان حديثاً يفترى" أي ما كان هذا المقصوص الذي يدل عليه ذكر القصص وهو القرآن المشتمل على ذلك حديثاً يفترى "ولكن تصديق الذي بين يديه" أي ما قبله من الكتب المنزلة كالتوراة والإنجيل والزبور، وقرىء برفع تصديق على أنه خبر مبتدأ محذوف: أي هو تصديق وتفصيل كل شيء من الشرائع المجملة المحتاجة إلى تفصيلها، لأن الله سبحانه لم يفرط في الكتاب من شيء، وقيل تفصيل كل شيء من قصة يوسف مع إخوته وأبيه. قيل وليس المراد به ما يقتصيه من العموم، بل المراد به الأصول والقوانين وما يؤول إليها "وهدىً" في الدنيا يهتدى به كل من أراد الله هدايته "ورحمة" في الآخرة يرحم الله بها عباده العاملين بما فيه شرط الإيمان الصحيح، ولهذا قال: "لقوم يؤمنون" أي يصدقون به وبما تضمنه من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وشرائعه وقدره، وأما من عداهم فلا ينتفع به ولا يهتدي بما اشتمل عليه من الهدى، فلا يستحق ما يستحقونه. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً" قال: أي ليسوا من أهل السماء كما قلتم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في الآية قال: ما نعلم أن الله أرسل رسولاً قط إلا من أهل القرى، لأنهم كانوا أعلم واحلم من أهل المعمور. وأخرج ابن ابي حاتم عن الحسن في قوله: "كيف كان عاقبة الذين من قبلهم" قال: كيف عذب الله قوم نوح وقوم لوط وقوم صالح والأمم التي عذب الله. وأخرج البخاري وغيره من طريق عروة أنه سأل عائشة عن قول الله سبحانه: يعني "إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا" قال: قلت أكذبوا أم كذبوا؟ يعني على هذه الكلمة مخففة أم مشددة، فقالت: بل كذبوا تعني بالتشديد، قلت: والله لقد استيقنوا ان قومهم كذبوهم فما هو بالظن، قالت: أجل لعمري لقد استيقنوا بذلك، فقلت: لعلها وظنوا أنهم قد كذبوا مخففة،قالت: معاذ الله لم تكن الرسل لتظن ذلك بربها، قلت: فما هذه الآية؟ قالت: هم اتباع الرسل الذين آمنوا بهم وصدقوهم وطال عليهم البلاء واستأخر عليهم النصر، حتى إذا استيأس الرسل ممن كذبهم من قومهم وظنت الرسل أن أتباعهم قد كذبوهم جاءهم نصر الله عند ذلك. وأخرج ابن جرير وابن المنذر والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عن عبد الله بن أبي مليكة أن ابن عباس قرأها عليه "وظنوا أنهم قد كذبوا" مخففة يقول أخلفوا. وقال ابن عباس: كانوا بشراً، وتلا "حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله" قال ابن أبي مليكة: وأخبرني عروة عن عائشة أنها خالفت ذلك وأبته، وقالت: والله ما وعد الله رسولاً من شيء إلا علم أنه سيكون قبل أن يموت، ولكنه لم يزل البلاء بالرسل حتى ظنوا أن من معهم من المؤمنين قد كذبوهم، وكانت تقرأها مثقلة. وأخرج ابن مردويه من طريق عروة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ: " وظنوا أنهم قد كذبوا " مخففة. وأخرج أبو عبيد وسعيد بن منصور والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه من طرق عن ابن عباس أنه كان يقرأ "قد كذبوا" مخففة، قال: يئس الرسل من قومهم أن يستجيبوا لهم، وظن قومهم أن الرسل قد كذبوهم بما جاءوا به "جاءهم نصرنا" قال: جاء الرسل نصرنا. وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر والطبراني وأبو الشيخ عن تميم بن حذلم قال: قرأت على ابن مسعود القرآن فلم يأخذ علي إلا حرفين كل آتوه داخرين فقال: أتوه مخففة. وقرأت عليه "وظنوا أنهم قد كذبوا" فقال: كذبوا مخففة، قال: استيأس الرسل من إيمان قومهم أن يؤمنوا بهم، وظن قومهم حين أبطأ الأمر أنهم قد كذيوا. وأخرج ابن مردويه من طريق أبي الأحوص عنه قال: حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في سورة يوسف "وظنوا أنهم قد كذبوا" خفيفة. وللسلف في هذا كلام يرجع إلى ما ذكرناه من الخلاف عن الصحابة. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس " فنجي من نشاء " قال: فننجي الرسل ومن نشاء "ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين" وذلك أن الله بعث الرسل يدعون قومهم، فأخبروهم أن من أطاع الله نجا ومن عصاه عذب وغوى. وأخرج أبو الشيخ عنه قال "جاءهم نصرنا" العذاب. وأخرج أبو الشيخ عن السدي "ولا يرد بأسنا" قال: عذابه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "لقد كان في قصصهم" قال: يوسف وإخوته. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ "عبرة لأولي الألباب" قال: معروفة لذوي العقول. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن قتادة "ما كان حديثاً يفترى" قال: الفرية الكذب "ولكن تصديق الذي بين يديه" قال: القرآن يصدق الكتب التي كانت قبله من كتب الله التي أنزلها على أنبيائه كالتوراة والإنجيل والزبور، ويصدق ذلك كله ويشهد عليه أن جميعه حق من عند الله "وتفصيل كل شيء" فصل الله بين حلاله وحرامه وطاعته ومعصيته.


1-الفاتحة 2-البقرة 3-آل-عمران 4-النساء 5-المائدة 6-الأنعام 7-الأعراف 8-الأنفال 9-التوبة 10-يونس 11-هود 12-يوسف 13-الرعد 14-إبراهيم 15-الحجر 16-النحل 17-الإسراء 18-الكهف 19-مريم 20-طه 21-الأنبياء 22-الحج 23-المؤمنون 24-النور 25-الفرقان 26-الشعراء 27-النمل 28-القصص 29-العنكبوت 30-الروم 31-لقمان 32-السجدة 33-الأحزاب 34-سبأ 35-فاطر 36-يس 37-الصافات 38-ص 39-الزمر 40-غافر 41-فصلت 42-الشورى 43-الزخرف 44-الدخان 45-الجاثية 46-الأحقاف 47-محمد 48-الفتح 49-الحجرات 50-ق 51-الذاريات 52-الطور 53-النجم 54-القمر 55-الرحمن 56-الواقعة 57-الحديد 58-المجادلة 59-الحشر 60-الممتحنة 61-الصف 62-الجمعة 63-المنافقون 64-التغابن 65-الطلاق 66-التحريم 67-الملك 68-القلم 69-الحاقة 70-المعارج 71-نوح 72-الجن 73-المزمل 74-المدثر 75-القيامة 76-الإنسان 77-المرسلات 78-النبأ 79-النازعات 80-عبس 81-التكوير 82-الانفطار 83-المطففين 84-الانشقاق 85-البروج 86-الطارق 87-الأعلى 88-الغاشية 89-الفجر 90-البلد 91-الشمس 92-الليل 93-الضحى 94-الشرح 95-التين 96-العلق 97-القدر 98-البينة 99-الزلزلة 100-العاديات 101-القارعة 102-التكاثر 103-العصر 104-الهمزة 105-الفيل 106-قريش 107-الماعون 108-الكوثر 109-الكافرون 110-النصر 111-المسد 112-الإخلاص 113-الفلق 114-الناس