islamkingdomfaceBook islamkingdomtwitter islamkingdominstagram islamkingdomyoutube islamkingdomnew

فتح القدير
15913

6-الأنعام

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ

قال الثعلبي: سورة الأنعام مكية إلا ست آيات نزلت بالمدينة وهي "وما قدروا الله حق قدره" إلى آخر ثلاث آيات، و "قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم" إلى آخر ثلاث آيات. قال ابن عطية: وهي الآيات المحكمات، يعني في هذه السورة. وقال القرطبي: هي مكية إلا آيتين هما "وما قدروا الله حق قدره" نزلت في مالك بن الصيف وكعب بن الأشرف اليهوديين، وقوله تعالى: "وهو الذي أنشأ جنات معروشات" نزلت في ثابت بن قيس بن شماس. وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: أنزلت سورة الأنعام بمكة. وأخرج أبو عبيد وابن المنذر والطبراني وابن مردويه عنه، قال: أنزلت سورة الأنعام بمكة ليلاً جملة وحولها سبعون ألف ملك يجأرون حولها بالتسبيح. وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال: نزلت سورة الأنعام يشيعها سبعون ألفاً من الملائكة. وأخرج ابن مردويه عن أسماء قال: نزلت سورة الأنعام على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مسير في زجل من الملائكة. وقد نظموا ما بين السماء والأرض. وأخرج الطبراني وابن مردويه عن أسماء بنت يزيد نحوه. وأخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نزلت علي سورة الأنعام جملة واحدة يشيعها سبعون ألف ملك لهم زجل بالتسبيح والتحميد" وهو من طريق إبراهيم بن نائلة شيخ الطبراني عن إسماعيل بن عمرو عن يوسف بن عطية بن عون عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكره. وابن مردويه رواه عن الطبراني عن إسماعيل المذكور به. وأخرج الطبراني وابن مردويه وأبو الشيخ والبيهقي في الشعب عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نزلت سورة الأنعام ومعها موكب من الملائكة يسد ما بين الخافقين، لهم زجل بالتسبيح والتقديس، والأرض ترتج، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: سبحان الله العظيم سبحان الله العظيم". وأخرج الحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم، والإسماعيلي في معجمه والبيهقي عن جابر قال: لما نزلت سورة الأنعام سبح رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: "لقد شيع هذه السورة من الملائكة ما سد الأفق". وأخرج البيهقي وضعفه والخطيب في تاريخه عن علي بن أبي طالب قال: أنزل القرآن خمساً خمساً، ومن حفظه خمساً خمساً لم ينسه، إلا سورة الأنعام فإنها نزلت جملة يشيعها من كل سماء سبعون ملكاً حتى أدوها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ما قرئت على عليل إلا شفاه الله. وأخرج أبو الشيخ عن أبي بن كعب مرفوعاً نحو حديث ابن عمر. وأخرج النحاس في تاريخه عن ابن عباس قال: سورة الأنعام نزلت بمكة جملة واحدة، فهي مكية إلا ثلاث آيات منها نزلن بالمدينة "قل تعالوا أتل ما حرم" إلى تمام الآيات الثلاث. وأخرج الديلمي بسند ضعيف عن أنس مرفوعاً "ينادي مناد: يا قارئ سورة الأنعام هلم إلى الجنة بحبك إياها وتلاوتها". وأخرج ابن المنذر عن أبي جحيفة قال: نزلت سورة الأنعام جميعها معها سبعون ألف ملك كلها مكية إلا "ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة" فإنها مدنية. وأخرج أبو عبيد في فضائله والدارمي في مسنده ومحمد بن نصر في كتاب الصلاة وأبو الشيخ عن عمر بن الخطاب قال: الأنعام من نواجب القرآن. وأخرج محمد بن نصر عن ابن مسعود مثله. وأخرج السلفي بسند واه عن ابن عباس مرفوعاً: "من قرأ إذا صلى الغداة ثلاث آيات من أول سورة الأنعام إلى "ويعلم ما تكسبون" نزل إليه أربعون ألف ملك يكتب له مثل أعمالهم، ونزل إليه ملك من فوق سبع سموات ومعه مرزبة من حديد، فإن أوحى الشيطان في قلبه شيئاً من الشر ضربه ضربة حتى يكون بينه وبينه سبعون حجاباً، فإذا كان يوم القيامة، قال الله تعالى: أنا ربك وأنت عبدي، امش في ظلي واشرب من الكوثر واغتسل من السلسبيل وادخل الجنة بغير حساب ولا عذاب". وأخرج الديلمي عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صلى الفجر في جماعة وقعد في مصلاه وقرأ ثلاث آيات من أول سورة الأنعام وكل الله به سبعين ملكاً يسبحون الله ويستغفرون له إلى يوم القيامة". وفي فضائل هذه السورة روايات عن جماعة من التابعين مرفوعة وغير مرفوعة. قال القرطبي: قال العلماء: هذه السورة أصل في محجة المشركين وغيرهم من المبتدعين ومن كذب بالبعث والنشور، وهذا يقتضي إنزالها جملة واحدة لأنها في معنى واحد من الحجة وإن تصرف ذلك بوجوه كثيرة، وعليها بنى المتكلمون أصول الدين. بدأ سبحانه هذه السورة بالحمد لله، للدلالة على أن الحمد كله له، ولإقامة الحجة على الذين هم بربهم يعدلون. وقد تقدم في سورة الفاتحة ما يغني عن الإعادة له هنا، ثم وصف نفسه بأنه الذي خلق السموات والأرض إخباراً عن قدرته الكاملة الموجبة لاستحقاقه لجميع المحامد، فإن من اخترع ذلك وأوجده هو الحقيق بإفراده بالثناء وتخصيصه بالحمد، والخلق يكون بمعنى الاختراع، وبمعنى التقدير وقد تقدم تحقيق ذلك، وجمع السموات لتعدد طباقها، وقدمها على الأرض لتقدمها في الوجود "والأرض بعد ذلك دحاها". قوله: 1- "وجعل الظلمات والنور" معطوف على خلق، ذكر سبحانه خلق الجواهر بقوله: "خلق السموات والأرض" ثم ذكر خلق الأعراض بقوله: "وجعل الظلمات والنور" لأن الجواهر لا تستغني عن الأعراض. واختلف أهل العلم في المعنى المراد بالظلمات والنور، فقال جمهور المفسرين: المراد بالظلمات سواد الليل، وبالنور ضياء النهار. وقال الحسن: الكفر والإيمان. قال ابن عطية: وهذا خروج عن الظاهر انتهى. والأولى أن يقال: إن الظلمات تشمل كل ما يطلق عليه اسم الظلمة، والنور يشمل كل ما يطلق عليه اسم النور فيدخل تحت ذلك ظلمة الكفر ونور الإيمان "أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات" وأفرد النور لأنه جنس يشمل جميع أنواعه، وجمع الظلمات لكثرة أسبابها وتعدد أنواعها. قال النحاس: جعل هنا بمعنى خلق: وإذا كانت بمعنى خلق لم تتعد إلا إلى مفعول واحد. وقال القرطبي: جعل هنا بمعنى خلق لا يجوز غيره. قال ابن عطية: وعليه يتفق اللفظ والمعنى في النسق، فيكون الجمع معطوفاً على الجمع، والمفرد معطوفاً على المفرد، وتقديم الظلمات على النور لأنها الأصل، ولهذا كان النهار مسلوخاً من الليل. قوله: "ثم الذين كفروا بربهم يعدلون" معطوف على الحمد لله، أو على خلق السموات والأرض، وثم لاستبعاد ما صنعه الكفار من كونهم بربهم يعدلون مع ما تبين من أن الله سبحانه حقيق بالحمد على خلقه السموات والأرض والظلمات والنور، فإن هذا يقتضي الإيمان به وصرف الثناء الحسن إليه، لا الكفر به واتخاذ شريك له، وتقديم المفعول للاهتمام، ورعاية الفواصل، وحذف المفعول لظهوره: أي يعدلون به ما لا يقدر على شيء مما يقدر عليه، وهذا نهاية الحمق وغاية الرقاعة حيث يكون منه سبحانه تلك النعم، ويكون من الكفرة الكفر.

هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ

قوله: 2- "هو الذي خلقكم من طين" في معناه قولان: أحدهما: وهو الأشهر، وبه قال الجمهور: أن المراد آدم عليه السلام، وأخرجه مخرج الخطاب للجميع، لأنهم ولده ونسله. الثاني: أن يكون المراد جميع البشر باعتبار أن النطفة التي خلقوا منها مخلوقة من الطين، ذكر الله سبحانه خلق آدم وبنيه بعد خلق السموات والأرض إتباعاً للعالم الأصغر بالعالم الأكبر، والمطلوب بذكر هذه الأمور دفع كفر الكافرين بالبعث ورد لجحودهم بما هو مشاهد لهم لا يمترون فيه. قوله: "ثم قضى أجلاً وأجل مسمى عنده" جاء بكلمة ثم لما بين خلقهم وبين موتهم من التفاوت. وقد اختلف السلف ومن بعدهم في تفسير الأجلين، فقيل "قضى أجلاً" يعني الموت "وأجل مسمى عنده" يعني القيامة، وهو مروي عن ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن وقتادة والضحاك ومجاهد وعكرمة وزيد بن أسلم وعطية والسدي وخصيف ومقاتل وغيرهم، وقيل الأول ما بين أن يخلق إلى أن يموت، والثاني ما بين أن يموت إلى أن يبعث، وهو قريب من الأول. وقيل الأول مدة الدنيا، والثاني عمر الإنسان إلى حين موته. وهو مروي عن ابن عباس ومجاهد. وقيل الأول قبض الأرواح في النوم، والثاني قبض الروح عند الموت. وقيل الأول ما يعرف من أوقات الأهلة والبروج وما يشبه ذلك، والثاني أجل الموت. وقيل الأول لمن مضى، والثاني لمن بقي ولمن يأتي. وقيل إن الأول الأجل الذي هو محتوم، والثاني الزيادة في العمر لمن وصل رحمه، فإن كان براً تقياً وصولاً لرحمه زيد في عمره، وإن كان قاطعاً للرحم لم يزد له، ويرشد إلى هذا قوله تعالى: "وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب" وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن صلة الرحم تزيد في العمر، وورد عنه أن دخول البلاد التي قد فشا بها الطاعون والوباء من أسباب الموت، وجاز الابتداء بالنكرة في قوله: "وأجل مسمى عنده" لأنها قد تخصصت بالصفة. قوله: "ثم أنتم تمترون" استبعاد لصدور الشك منهم مع وجود المقتضى لعدمه: أي كيف تشكون في البعث مع مشاهدتكم في أنفسكم من الابتداء والانتهاء ما يذهب بذلك ويدفعه، فإن من خلقكم من طين وصيركم أحياء تعلمون وتعقلون وخلق لكم هذه الحواس والأطراف، ثم سلب ذلك عنكم فصرتم أمواتاً وعدتم إلى ما كنتم عليه من الجمادية، لا يعجزه أن يبعثكم ويعيد هذه الأجسام كما كانت، ويرد إليها الأرواح التي فارقتها بقدرته وبديع حكمته.

وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ

قوله: 3- "وهو الله في السموات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون" قيل إن في السموات وفي الأرض متعلق باسم الله باعتبار ما يدل عليه من كونه معبوداً ومتصرفاً ومالكاً: أي هو المعبود أو المالك أو المتصرف في السموات والأرض كما تقول: زيد الخليفة في الشرق والغرب: أي حاكم أو متصرف فيهما، وقيل المعنى: وهو الله يعلم سركم وجهركم في السموات وفي الأرض فلا تخفى عليه خافية، فيكون العامل فيهما ما بعدهما. قال النحاس: وهذا من أحسن ما قيل فيه. وقال ابن جرير: هو الله في السموات ويعلم سركم وجهركم في الأرض. والأول أولى، ويكون "يعلم سركم وجهركم" جملة مقررة لمعنى الجملة الأولى، لأن كونه سبحانه في السماء والأرض يستلزم علمه بأسرار عباده وجهرهم، وعلمه بما يكسبونه من الخير والشر وجلب النفع ودفع الضرر. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن علي أن هذه الآية أعني الحمد لله إلى قوله: "ثم الذين كفروا بربهم يعدلون" نزلت في أهل الكتاب. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ عن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد قال: نزلت هذه الآية في الزنادقة، قالوا: إن الله لم يخلق الظلمة ولا الخنافس ولا العقارب ولا شيئاً قبيحاً، وإنما يخلق النور وكل شيء حسن، فأنزلت فيهم هذه الآية. وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس "وجعل الظلمات والنور" قال: الكفر والإيمان. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة قال: إن الذين بربهم يعدلون هم أهل الشرك. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي مثله. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد قال: "يعدلون" يشركون. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله: "ثم الذين كفروا بربهم يعدلون" قال: الآلهة التي عبدوها عدلوها بالله، وليس لله عدل ولا ند، وليس معه آلهة ولا اتخذ صاحبة ولا ولداً. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس "هو الذي خلقكم من طين" يعني آدم "ثم قضى أجلاً" يعني أجل الموت "وأجل مسمى عنده" أجل الساعة والوقوف عند الله. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وصححه عنه في قوله: "ثم قضى أجلاً" قال: أجل الدنيا، وفي لفظ أجل موته "وأجل مسمى عنده" قال: الآخرة لا يعلمه إلا الله. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه "قضى أجلاً" قال: هو اليوم يقبض فيه الروح ثم يرجع إلى صاحبه من اليقظة "وأجل مسمى عنده" قال: هو أجل موت الإنسان.

وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ

قوله: 4- "وما تأتيهم" إلخ، كلام مبتدأ لبيان بعض أسباب كفرهم وتمردهم، وهو الإعراض عن آيات الله التي تأتيهم كمعجزات الأنبياء، وما يصدر عن قدرة الله الباهرة مما لا يشك من له عقل أنه فعل الله سبحانه، والإعراض: ترك النظر في الآيات التي يجب أن يستدلوا بها على توحيد الله و من في "من آية" مزيدة للاستغراق و من في "من آيات" تبعيضية: أي وما تأتيهم آية من الآيات التي هي بعض آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين.

فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ

والفاء في 5- "فقد كذبوا" جواب شرط مقدر: أي إن كانوا معرضين عنها فقد كذبوا بما هو أعظم من ذلك وهو الحق "لما جاءهم" قيل المراد بالحق هنا القرآن، وقيل محمد صلى الله عليه وسلم " فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون " أي أخبار الشيء الذي كانوا به يستهزئون وهو القرآن أو محمد صلى الله عليه وسلم، على أن ما عبارة عن ذلك تهويلاً للأمر وتعظيماً له: أي سيعرفون أن هذا الشيء الذي استهزأوا به ليس بموضع للاستهزاء، وذلك عند إرسال عذاب الله عليهم، كما يقال: اصبر فسوف يأتيك الخبر عن إرادة الوعيد والتهديد، وفي لفظ الأنباء ما يرشد إلى ذلك فإنه لا يطلق إلا على خبر عظيم.

أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا

قوله: 6- "ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن" كلام مبتدأ لبيان ما تقدمه، والهمزة للإنكار، و كم يحتمل أن تكون الاستفهامية وأن تكون الخبرية وهي معلقة لفعل الرؤية عن العمل فيما بعده، و "من قرن" تمييز، والقرن يطلق على أهل كل عصر، سموا بذلك لاقترانهم: أي ألم يعرفوا بسماع الأخبار ومعاينة الآثار كم أهلكنا من قبلهم من الأمم الموجودة في عصر بعد عصر لتكذيبهم أنبياءهم. وقيل القرن مدة من الزمان. وهي ستون عاماً أو سبعون أو ثمانون أو مائة على اختلاف الأقوال، فيكون ما في الآية على تقدير مضاف محذوف: أي من أهل قرن. قوله: "مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم" مكن له في الأرض جعل له مكاناً فيها، ومكنه في الأرض: أثبته فيها، والجملة مستأنفة جواب سؤال مقدر كأنه قيل: كيف ذلك، وقيل إن هذه الجملة صفة لقرن، والأول أولى، و ما في "ما لم نمكن" نكرة موصوفة بما بعدها: أي مكناهم تمكيناً لم نمكنه لكم، والمعنى: إنا أعطينا القرون الذين هم قبلكم ما لم نعطكم من الدنيا وطول الأعمار وقوة الأبدان وقد أهلكناهم جميعاً، فإهلاككم وأنتم دونهم بالأولى. قوله: "وأرسلنا السماء عليهم مدراراً" يريد المطر الكثير، عبر عنه بالسماء، لأنه ينزل من السماء، ومنه قول الشاعر: إذا نزل السماء بأرض قوم والمدرار صيغة مبالغة تدل على الكثرة كمذكار للمرأة التي كثرت ولادتها للذكور، وميناث للتي تلد الإناث، يقال در اللبن يدر: إذا أقبل على الحالب بكثرة وانتصاب "مدراراً" على الحال، وجريان الأنهار من تحتهم معناه من تحت أشجارهم ومنازلهم: أي أن الله وسع عليهم النعم بعد التمكين لهم في الأرض فكفروها، فأهلكهم الله بذنوبهم "وأنشأنا من بعدهم" أي من بعد إهلاكهم "قرناً آخرين" فصاروا بدلاً من الهالكين، وفي هذا بيان لكمال قدرته سبحانه وقوة سلطانه وأنه يهلك من يشاء ويوجد من يشاء.

وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ

قوله: 7- "ولو نزلنا عليك كتاباً في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين" في هذه الجملة بيان شدة صلابتهم في الكفر، وأنهم لا يؤمنون ولو أنزل الله على رسوله كتاباً مكتوباً في قرطاس بمرأى منهم ومشاهدة "فلمسوه بأيديهم" حتى يجتمع لهم إدراك الحاستين: حاسة البصر، وحاسة اللمس "لقال الذين كفروا" منهم "إن هذا إلا سحر مبين" ولم يعملوا بما شاهدوا ولمسوا، وإذا كان هذا حالهم في المرئي المحسوس، فكيف فيما هو مجرد وحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بواسطة ملك لا يرونه ولا يحسونه؟ والكتاب مصدر بمعنى الكتابة، والقرطاس: الصحيفة.

وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ

قوله: 8- "وقالوا لولا أنزل عليه ملك" هذه الجملة مشتملة على نوع آخر من أنواع جحدهم لنبوته صلى الله عليه وسلم وكفرهم بها: أي قالوا هلا أنزل الله عليك ملكاً نراه ويكلمنا أنه نبي حتى نؤمن به ونتبعه؟ كقولهم: "لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيراً". "ولو أنزلنا ملكاً لقضي الأمر" أي لو أنزلنا ملكاً على الصفة التي اقترحوها بحيث يشاهدونه ويخاطبونه ويخاطبهم "لقضي الأمر" أي لأهلكناهم إذ لم يؤمنوا عند نزوله ورؤيتهم له، لأن مثل هذه الآية البينة، وهي نزول الملك على تلك الصفة إذا لم يقع الإيمان بعدها فقد استحقوا الإهلاك والمعالجة بالعقوبة "ثم لا ينظرون" أي لا يمهلون بعد نزوله ومشاهدتهم له، وقيل إن المعنى: إن الله سبحانه لو أنزل ملكاً مشاهداً لم تطق قواهم البشرية أن يبقوا بعد مشاهدته أحياء، بل تزهق أرواحهم عند ذلك فيبطل ما أرسل الله له رسله وأنزل به كتبه من هذا التكليف الذي كلف به عباده "لنبلوهم أيهم أحسن عملاً".

وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ

قوله: 9- "ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً" أي لو جعلنا الرسول إلى النبي ملكاً يشاهدونه ويخاطبونه لجعلنا ذلك الملك رجلاً، لأنهم لا يستطيعون أن يروا الملك على صورته التي خلقه الله عليها إلا بعد أن يتجسم بالأجسام الكثيفة المشابهة لأجسام بني آدم، لأن كل جنس يأنس بجنسه، فلو جعل الله سبحانه الرسول إلى البشر أو الرسول إلى رسوله ملكاً مشاهداً مخاطباً لنفروا منه ولم يأنسوا به، ولداخلهم الرعب وحصل معهم من الخوف ما يمنعهم من كلامه ومشاهدته، هذا أقل حال فلا تتم المصلحة من الإرسال. وعند أن يجعله الله رجلاً: أي على صورة رجل من بني آدم ليسكنوا إليه ويأنسوا به سيقول الكافرون إنه ليس بملك وإنما هو بشر، ويعودون إلى مثل ما كانوا عليه. قوله: "وللبسنا عليهم ما يلبسون" أي لخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم لأنهم إذا رأوه في صورة إنسان قالوا هذا إنسان وليس بملك، فإن استدل لهم بأنه ملك كذبوه. قال الزجاج: المعنى للبسنا عليهم: أي على رؤسائهم كما يلبسون على ضعفتهم، وكانوا يقولون لهم: إنما محمد بشر وليس بينه وبينكم فرق، فيلبسون عليهم بهذا ويشككونهم، فأعلم الله عز وجل أنه لو نزل ملكاً في صورة رجل لوجدوا سبيلاً إلى اللبس كما يفعلون. واللبس: الخلط، يقال: لبست عليه الأمر ألبسه لبساً: أي خلطته، وأصله التستر بالثوب ونحوه.

وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ

ثم قال سبحانه مؤنساً لنبيه صلى الله عليه وسلم ومسلياً له 10- "ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون" يقال: حاق الشيء يحيق حيقاً وحيوقاً وحيقاناً نزل: أي فنزل ما كانوا به يستهزئون، وأحاط بهم: وهو الحق حيث أهلكوا من أجل الاستهزاء به.

قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ

11- "قل سيروا في الأرض" أي قل يا محمد لهؤلاء المستهزئين سافروا في الأرض وانظروا آثار من كان قبلكم لتعرفوا ما حل بهم من العقوبات، وكيف كانت عاقبتهم بعدما كانوا فيه من النعيم العظيم الذي يفوق ما أنتم فيه، فهذه ديارهم خاربة وجناتهم مغبرة وأراضيهم مكفهرة، فإذا كانت عاقبتهم هذه العاقبة فأنتم بهم لاحقون وبعد هلاكهم هالكون. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين" يقول: ما يأتيهم من شيء من كتاب الله إلا أعرضوا عنه، وفي قوله: " فقد كذبوا بالحق لما جاءهم فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون " يقول: سيأتيهم يوم القيامة أنباء ما استهزأوا به من كتاب الله عز وجل. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك في قوله: "من قرن" قال: أمة. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: "مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم" يقول: أعطيناهم ما لم نعطكم. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "وأرسلنا السماء عليهم مدراراً" يقول: يتبع بعضها بعضاً. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن هارون التيمي في الآية قال: المطر في إبانه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله: "ولو نزلنا عليك كتاباً في قرطاس فلمسوه بأيديهم" يقول: لو أنزلنا من السماء صحفاً فيها كتاب "فلمسوه بأيديهم" لزادهم ذلك تكذيباً. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "فلمسوه بأيديهم" قال: فمسوه ونظروا إليه لم يصدقوا به. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن محمد بن إسحاق قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه إلى الإسلام وكلمهم فأبلغ إليهم فيما بلغني، فقال له زمعة بن الأسود بن المطلب والنضر بن الحارث بن كلدة وعبدة بن عبد يغوث وأبي بن خلف بن وهب والعاص بن وائل بن هشام: لو جعل معك يا محمد ملك يحدث عنك الناس ويرى معك، فأنزل الله " وقالوا لولا أنزل عليه ملك " الآية. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "وقالوا لولا أنزل عليه ملك" قال: ملك في صورة رجل "ولو أنزلنا ملكاً لقضي الأمر" لقامت الساعة. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: "لقضي الأمر" يقول: لو أنزل الله ملكاً ثم لم يؤمنوا لعجل لهم العذاب. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "ولو أنزلنا ملكاً" قال: ولو أتاهم ملك في صورته "لقضي الأمر" لأهلكناهم "ثم لا ينظرون" لا يؤخرون "ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً" يقول: لو أتاهم ملك ما أتاهم إلا في صورة رجل، لأنهم لا يستطيعون النظر إلى الملائكة "وللبسنا عليهم ما يلبسون" يقول: لخلطنا عليهم ما يخلطون. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله: "ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً" قال: في صورة رجل في خلق رجل. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: "ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً" يقول: في صورة آدمي. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد نحوه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس: "وللبسنا عليهم" يقول: شبهنا عليهم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في الآية قال: شبهنا عليهم ما يشبهون على أنفسهم. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن محمد بن إسحاق قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني بالوليد بن المغيرة وأمية بن خلف وأبي جهل بن هشام فهمزوه واستهزأوا به فغاظه ذلك، فأنزل الله: " ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون ".

قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ

قوله: 12- "قل لمن ما في السموات والأرض" هذا احتجاج عليهم وتبكيت لهم. والمعنى: قل لهم هذا القول فإن قالوا فقل لله، وإذا ثبت أن له ما في السموات والأرض إما باعترافهم، أو بقيام الحجة عليهم فالله قادر على أن يعاجلهم بالعقاب، ولكنه كتب على نفسه الرحمة: أي وعد بها فضلاً منه وتكرماً، وذكر النفس هنا عبارة عن تأكد وعده وارتفاع الوسائط دونه، وفي الكلام ترغيب للمتولين عنه إلى الإقبال إليه وتسكين خواطرهم بأنه رحيم بعباده لا يعاجلهم بالعقوبة وأنه يقبل منهم الإنابة والتوبة، ومن رحمته لهم إرسال الرسل، وإنزال الكتب، ونصب الأدلة. قوله: "ليجمعنكم إلى يوم القيامة" اللام جواب قسم محذوف. قال الفراء وغيره: يجوز أن يكون تمام الكلام عند قوله: "الرحمة" ويكون ما بعدها مستأنفاً على جهة التبيين فيكون المعنى "ليجمعنكم" ليمهلنكم وليؤخرن جمعكم. وقيل المعنى: ليجمعنكم في القبور إلى اليوم الذي أنكرتموه. وقيل: "إلى" بمعنى في: أي ليجمعنكم في يوم القيامة. وقيل يجوز أن يكون موضع "ليجمعنكم" النصب على البدل من الرحمة، فتكون اللام بمعنى أن. والمعنى: كتب ربكم على نفسه الرحمة أن يجمعنكم كما قالوا في قوله تعالى: "ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه" أي أن يسجنوه، وقيل إن جملة "ليجمعنكم" مسوقة للترهيب بعد الترغيب، وللوعيد بعد الوعد: أي إن أمهلكم برحمته فهو مجازيكم بجمعكم ثم معاقبة من يستحق عقوبته من العصاة، والضمير في "لا ريب فيه" لليوم أو للجمع. قوله: "الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون". قال الزجاج: إن الموصول مرتفع على الابتداء، وما بعده خبره كما تقول: الذي يكرمني فله درهم، فالفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط. وقال الأخفش: إن شئت كان "الذين" في موضع نصب على البدل من الكاف والميم في "ليجمعنكم" أي ليجمعن المشركين الذين خسروا أنفسهم، وأنكره المبرد وزعم أنه خطأ، لأنه لا يبدل من المخاطب ولا من المخاطب. لا يقال: مررت بك زيد ولا مررت بي زيد، ويل يجوز أن يكون "الذين" مجروراً على البدل من المكذبين الذين تقدم ذكرهم أو على النعت لهم، وقيل إنه منادى وحرف النداء مقدر.

وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ

قوله: 13- "وله ما سكن في الليل والنهار" أي لله، وخص الساكن بالذكر، لأن ما يتصف بالسكون أكثر مما يتصف بالحركة، وقيل المعنى: ما سكن فيهما أو تحرك فاكتفى بأحد الضدين عن الآخر، وهذا من جملة الاحتجاج على الكفرة.

قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ

قوله: 14- "قل أغير الله أتخذ ولياً" الاستفهام للإنكار، قال لهم: ذلك لما دعوه إلى عبادة الأصنام، ولما كان الإنكار لاتخاذ غير الله ولياً، لا لاتخاذ الولي مطلقاً دخلت الهمزة على المفعول لا على الفعل. والمراد بالولي هنا: المعبود: أي كيف أتخذ غير الله معبوداً؟ و "فاطر السموات والأرض" مجرور على أنه نعت لاسم الله، وأجاز الأخفش الرفع على إضمار مبتدأ، وأجاز الزجاج النصب على المدح، وأجاز أبو علي الفارسي نصبه بفعل مضمر كأنه قيل: أترك فاطر السموات والأرض. قوله: "وهو يطعم ولا يطعم" قرأ الجمهور بضم الياء وكسر العين في الأول، وضمها وفتح العين في الثاني: أي يرزق ولا يرزق، وقرأ سعيد بن جبير ومجاهد والأعمش بفتح الياء في الثاني وفتح العين، وقرئ بفتح الياء والعين في الأول وضمها وكسر العين في الثاني على أن الضمير يعود إلى الولي المذكور، وخص الإطعام دون غيره من ضروب الإنعام لأن الحاجة إليه أمس. قوله: "قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم" أمره سبحانه بعدما تقدم من اتخاذ غير الله ولياً أن يقول لهم إنه مأمور بأن يكون أول من أسلم وجهه لله من قومه، وأخلص من أمته، وقيل معنى "أسلم" استسلم لأمر الله، ثم نهاه الله عز وجل أن يكون من المشركين. والمعنى: أمرت بأن أكون أول من أسلم ونهيت عن الشرك: أي يقول لهم هذا.

قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ

ثم أمره أن يقول: 15- "إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم" أي إن عصيته بعبادة غيره أو مخالفة أمره أو نهيه. والخوف: توقع المكروه، وقيل هو بمعنى العلم: أي إني أعلم إن عصيت ربي أن لي عذاباً عظيماً.

مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ

قوله: 16- "من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه". قرأ أهل المدينة وأهل مكة وابن عامر على البناء للمفعول: أي من يصرف عنه العذاب، واختار هذه القراءة سيبويه. وقرأ الكوفيون على البناء للفاعل وهو اختيار أبي حاتم، فيكون الضمير على هذه القراءة لله. ومعنى "يومئذ" يوم العذاب العظيم "فقد رحمه" الله أي نجاه وأنعم عليه وأدخله الجنة، والإشارة بذلك إلى الصرف أو إلى الرحمة: أي فذلك الصرف أو الرحمة "الفوز المبين" أي الظاهر الواضح، وقرأ أبي " من يصرف عنه ".

وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ

قوله: 17- "وإن يمسسك الله بضر" أي إن ينزل الله بك ضراً من فقر أو مرض "فلا كاشف له إلا هو" أي لا قادر على كشفه سواه "وإن يمسسك بخير" من رخاء أو عافية "فهو على كل شيء قدير" ومن جملة ذلك المس بالشر والخير.

وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ

قوله: 18- "وهو القاهر فوق عباده" القهر: الغلبة، والقاهر: الغالب، وأقهر الرجل: إذا صار مقهوراً ذليلاً، ومنه قول الشاعر: تمنى حصين أن يسود خزاعة فأمسى حصين قد أذل وأقهرا ومعنى: "فوق عباده" فوقية الاستعلاء بالقهر والغلبة عليهم، لا فوقية المكان كما تقول: السلطان فوق رعيته: أي بالمنزلة والرفعة. وفي القهر معنى زائد ليس في القدرة، وهو منع غيره عن بلوغ المراد "وهو الحكيم" في أمره "الخبير" بأفعال عباده.

قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآَنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آَلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ

قوله: 19- "قل أي شيء أكبر شهادة" أي مبتدأ، وأكبر خبره، وشهادة تمييز، والشيء يطلق على القديم والحادث، والمحال والممكن. والمعنى: أي شهيد أكبر شهادة، فوضع شيء موضع شهيد، وقيل إن "شيء" هنا موضوع موضع اسم الله. والمعنى: لله أكبر شهادة: أي انفراده بالربوبية، وقيام البراهين على توحيده أكبر شهادة وأعظم فهو شهيد بيني وبينكم، وقيل إن قوله: "الله شهيد بيني وبينكم" هو الجواب، لأنه إذا كان الشهيد بينه وبينهم كان أكبر شهادة له صلى الله عليه وسلم، وقيل إنه قد تم الجواب عند قوله: "قل الله" يعني الله أكبر شهادة، ثم ابتدأ فقال: "شهيد بيني وبينكم" أي هو شهيد بيني وبينكم. قوله: "وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ" أي أوحى الله إلي هذا القرآن الذي تلوته عليكم لأجل أن أنذركم به وأنذر به من بلغ إليه: أي كل من بلغ إليه من موجود ومعدوم سيوجد في الأزمنة المستقبلة، وفي هذه الآية من الدلالة على شمول أحكام القرآن لمن سيوجد كشمولها لمن قد كان موجوداً وقت النزول ما لا يحتاج معه إلى تلك الخزعبلات المذكورة في علم أصول الفقه، وقرأ أبو نهيك "وأوحي" على البناء للفاعل، وقرأ ابن عداة على البناء للمفعول. قوله: " أإنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى " الاستفهام للتوبيخ والتقريع على قراءة من قرأ بهمزتين على الأصل أو بقلب الثانية، وأما من قرأ على الخبر فقد حقق عليهم شركهم، وإنما قال: "آلهة أخرى" لأن الآلهة جمع والجمع يقع عليه التأنيث، كذا قال الفراء، ومثله قوله تعالى: "ولله الأسماء الحسنى" وقال: "فما بال القرون الأولى"، "قل لا أشهد" أي فأنا لا أشهد معكم فحذف لدلالة الكلام عليه، وذلك لكون هذه الشهادة باطلة، ومثله "فإن شهدوا فلا تشهد معهم" وما في "مما تشركون" موصولة أو مصدرية: أي من الأصنام التي تجعلونها آلهة، أو من إشراككم بالله.

الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ

قوله: 20- "الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم" الكتاب للجنس فيشمل التوراة والإنجيل وغيرهما: أي يعرفون رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال به جماعة من السلف، وإليه ذهب الزجاج، وقيل إن الضمير يرجع إلى الكتاب: أي يعرفونه معرفة محققة بحيث لا يلتبس عليهم منه شيء، و "كما يعرفون أبناءهم" بيان لتحقق تلك المعرفة وكمالها وعدم وجود شك فيها، فإن معرفة الآباء للأبناء هي البالغة إلى غاية الإتقان إجمالاً وتفصيلاً. قوله: "الذين خسروا أنفسهم" في محل رفع على الابتداء، وخبره "فهم لا يؤمنون" ودخول الفاء في الخبر لتضمن المبتدأ معنى الشرط: وقيل إن الموصول خبر مبتدأ محذوف، وقيل هو نعت للموصول الأول. وعلى الوجهين الأخيرين يكون "فهم لا يؤمنون" معطوفاً على جملة "الذين آتيناهم الكتاب". والمعنى على الوجه الأول أن الكفار الخاسرين لأنفسهم بعنادهم وتمردهم لا يؤمنون بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى الوجهين الأخيرين أن أولئك الذين آتاهم الله الكتاب هم الذين خسروا أنفسهم بسبب ما وقعوا فيه من البعد عن الحق وعدم العمل بالمعرفة التي ثبتت لهم فهم لا يؤمنون.

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ

قوله: 21- "ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً" أي اختلق على الله الكذب فقال: إن في التوراة أو الإنجيل ما لم يكن فيهما "أو كذب بآياته" التي يلزمه الإيمان بها من المعجزة الواضحة البينة، فجمع بين كونه كاذباً على الله ومكذباً بما أمره الله بالإيمان به، ومن كان هكذا فلا أحد من عباد الله أظلم منه، والضمير في "إنه لا يفلح الظالمون" للشأن. وقد أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سلمان الفارسي قال: إنا نجد في التوراة أن الله خلق السموات والأرض، ثم جعل مائة رحمة قبل أن يخلق الخلق، ثم خلق الخلق فوضع بينهم رحمة واحدة وأمسك عنده تسعاً وتسعين رحمة فبها يتراحمون، وبها يتعاطفون، وبها يتباذلون، وبها يتزاورون وبها تحن الناقة، وبها تنتج البقرة، وبها تيعر الشاة، وبها تتابع الطير، وبها تتابع الحيتان في البحر، فإذا كان يوم القيامة جمع تلك الرحمة إلى ما عنده، ورحمته أفضل وأوسع. وقد أخرج مسلم وأحمد وغيرهما عن سلمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خلق الله يوم خلق السموات والأرض مائة رحمة: منها رحمة يتراحم بها الخلق، وتسعة وتسعون ليوم القيامة، فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة"، وثبت في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما قضى الله الخلق كتب كتاباً فوضعه عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي". وقد روي من طرق أخرى بنحو هذا. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله: "وله ما سكن في الليل والنهار" يقول: ما استقر في الليل والنهار، وفي قوله: "قل أغير الله أتخذ ولياً" قال: أما الولي فالذي تولاه ويقر له بالربوبية. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "فاطر السموات والأرض" قال: بديع السموات والأرض. وأخرج أبو عبيد في فضائله وابن جرير وابن الأنباري عنه قال: كنت لا أدري ما فطر السموات والأرض؟ حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما: أنا فطرتها، يقول: أنا ابتدأتها. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله: "وهو يطعم ولا يطعم" قال: يرزق ولا يرزق. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "من يصرف عنه" قال: من يصرف عنه العذاب. وأخرج أبو الشيخ عن السدي في قوله: "وإن يمسسك بخير" يقول: بعافية. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس قال:" جاءالنمام بن زيد وقردم بن كعب وبحري بن عمرو فقالوا: يا محمد ما تعلم مع الله إلهاً غيره؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:لا إله إلا الله، بذلك بعثت وإلى ذلك أدعو، فأنزل الله: "قل أي شيء أكبر شهادة"الآية". وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله: "وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به" يعني أهل مكة "ومن بلغ" يعني من بلغه هذا القرآن من الناس فهو له نذير. وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن أنس قال: لما نزلت هذه الآية "وأوحي إلي هذا القرآن" كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر والنجاشي وكل جبار يدعوهم إلى الله عز وجل وليس بالنجاشي الذي صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرج ابن مردويه وأبو نعيم والخطيب وابن النجار عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من بلغه القرآن فكأنما شافهته به، ثم قرأ "وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ"". وأخرج ابن أبي شيبة وابن الضريس وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن محمد بن كعب القرظي قال: "من بلغه القرآن فكأنما رأى النبي صلى الله عليه وسلم" وفي لفظ: "من بلغه القرآن حتى تفهمه وتعقله كان كمن عاين رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلمه". وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي في الأسماء والصفات عن مجاهد في قوله: "وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به" قال: العرب "ومن بلغ" قال: العجم. وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: قال النضر وهو من بني عبد الدار: إذا كان يوم القيامة شفعت لي اللات والعزى، فأنزل الله "ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً" الآية.

وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ

قوله: 22- "ويوم نحشرهم" قرأ الجمهور بالنون في الفعلين، وقرئ بالياء فيهما، وناصب الظرف محذوف مقدر متأخراً: أي يوم نحشرهم كان كيت وكيت، والاستفهام في "أين شركاؤكم" للتقريع والتوبيخ للمشركين. وأضاف الشركاء إليهم، لأنها لم تكن شركاء لله في الحقيقة بل لما سموها شركاء أضيفت إليهم، وهي ما كانوا يعبدونه من دون الله أو يعبدونه مع الله. قوله: "الذين كنتم تزعمون" أي تزعمونها شركاء، فحذف المفعولان معاً، ووجه التوبيخ بهذا الاستفهام أن معبوداتهم غابت عنهم في تلك الحال أو كانت حاضرة ولكن لا ينتفعون بها بوجه من الوجوه، فكان وجودها كعدمها.

ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ

قوله: 23- "ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين". قال الزجاج: تأويل هذه الآية أن الله عز وجل أخبر بقصص المشركين وافتتانهم بشركهم، ثم أخبر أن فتنتهم لم تكن حتى رأوا الحقائق إلا أن انتفوا من الشرك، ونظير هذا في اللغة أن ترى إنساناً يحب غاوياً. فإذا وقع في هلكة تبرأ منه فتقول: ما كانت محبتك إياه إلا أن تبرأ منه انتهى. فالمراد بالفتنة على هذا كفرهم: أي لم تكن عاقبة كفرهم الذي افتخروا به وقاتلوا عليه إلا ما وقع منهم من الجحود والحلف على نفيه بقوله: "والله ربنا ما كنا مشركين" وقيل المراد بالفتنة هنا جوابهم: أي لم يكن جوابهم إلا الجحود والتبري، فكان هذا الجواب فتنة لكونه كذباً، وجملة "ثم لم تكن فتنتهم" معطوفة على عامل الظرف المقدر كما مر والاستثناء مفرغ، وقرئ "فتنتهم" بالرفع والنصب، و "يكن" و "تكن" والوجه ظاهر. وقرئ " لم تكن فتنتهم " وقرئ "ربنا" بالنصب على النداء.

انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ

24- "انظر كيف كذبوا على أنفسهم" بإنكار ما وقع منهم في الدنيا من الشرك "وضل عنهم ما كانوا يفترون" أي زال وذهب افتراؤهم وتلاشى وبطل ما كانوا يظنونه من أن الشركاء يقربوهم إلى الله، هذا على أن ما مصدرية، وقيل هي موصولة عبارة عن الآلهة: أي فارقهم ما كانوا يعبدون من دون الله فلم يغن عنهم شيئاً، وهذا تعجيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم من حالهم المختلفة ودعواهم المتناقضة، وقيل لا يجوز أن يقع منهم كذب في الآخرة لأنها دار لا يجري فيها غير الصدق، فمعنى "والله ربنا ما كنا مشركين" نفي شركهم عند أنفسهم، وفي اعتقادهم ويؤيد هذا قوله تعالى: "ولا يكتمون الله حديثاً".

وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَا

قوله: 25- "ومنهم من يستمع إليك" هذا كلام مبتدأ لبيان ما كان يصنعه بعض المشركين في الدنيا، والضمير عائد إلى الذين أشركوا: أي وبعض الذين أشركوا يستمع إليك حين تتلو القرآن "وجعلنا على قلوبهم أكنة" أي فعلنا ذلك بهم مجازاة على كفرهم، والأكنة: الأغطية جمع كنان مثل الأسنة والسنان، كننت الشيء في كنه: إذا جعلته فيه، وأكننته أخفيته، وجملة "وجعلنا على قلوبهم أكنة" أي فعلنا ذلك بهم مجازاة على كفرهم، والأكنة: الأغطية جمع كنان مثل الأسنة والسنان، كننت الشيء في كنه: إذا جعلته فيه، وأكننته أخفيته، وجملة "جعلنا على قلوبهم أكنة" مستأنفة للإخبار بمضمونها، أو في محل نصب على الحال: أي وقد جعلنا على قلوبهم أغطية كراهة أن يفقهوا القرآن، أو لئلا يفقهوه، والوقر: الصمم، يقال: وقرت أذنه تقر وقراً: أي صمت. وقرأ طلحة بن مصرف "وقراً" بكسر الواو: أي جعل في آذانهم ما سدها عن استماع القول على التشبيه بوقر البعير، وهو مقدار ما يطيق أن يحمله، وذكر الأكنة والوقر تمثيل لفرط بعدهم عن فهم الحق وسماعه كأن قلوبهم لا تعقل وأسماعهم لا تدرك "وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها" أي لا يؤمنوا بشيء من الآيات التي يرونها من المعجزات ونحوها لعنادهم وتمردهم. قوله: " حتى إذا جاؤوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين " حتى هنا هي الابتدائية التي تقع بعدها الجمل، وجملة يجادلونك في محل نصب على الحال، والمعنى: أنهم بلغوا من الكفر والعناد أنهم إذا جاءوك مجادلين لم يكتفوا بمجرد عدم الإيمان، بل يقولون إن هذا إلا أساطير الأولين، وقيل حتى هي الجارة وما بعدها في محل جر، والمعنى: حتى وقت مجيئهم مجادلين يقولون إن هذا إلا أساطير الأولين، وهذا غاية التكذيب ونهاية العناد، والأساطير. قال الزجاج: واحدها أسطار. وقال الأخفش: أسطورة. وقال أبو عبيدة: أسطارة. وقال النحاس: أسطور. وقال القشيري: أسطير. وقيل هو جمع لا واحد له كعباديد وأبابيل، والمعنى: ما سطره الأولون في الكتب من القصص والأحاديث. قال الجوهري: الأساطير الأباطيل والترهات.

وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ

قوله: 26- " وهم ينهون عنه وينأون عنه " أي ينهى المشركون الناس عن الإيمان بالقرآن أو بمحمد صلى الله عليه وسلم ويبعدون هم في أنفسهم عنه. وقيل إنها نزلت في أبي طالب فإنه كان ينهى الكفار عن أذية النبي صلى الله عليه وسلم ويبعد هو عن إجابته "وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون" أي ما يهلكون بما يقع منهم من النهي والنأي إلا أنفسهم بتعريضها لعذاب الله وسخطه، والحال أنهم ما يشعرون بهذا البلاء الذي جلبوه على أنفسهم.

وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآَيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ

قوله: 27- "ولو ترى إذ وقفوا على النار" الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل من تتأتى منه الرؤية، وعبر عن المستقبل يوم القيامة بلفظ الماضي تنبيهاً على تحقق وقوعه كما ذكره علماء المعاني، و "وقفوا" معناه حبسوا، يقال: وقفته وقفا ووقت وقوفاً، وقيل معنى: "وقفوا على النار" أدخلوها فتكون على بمعنى في، وقيل هي بمعنى الباء: أي وقفوا بالنار أي بقربها معاينين لها، ومفعول ترى محذوف، وجواب لو محذوف ليذهب السامع كل مذهب، والتقدير: لو تراهم إذ وقفوا على النار لرأيت منظراً هائلاً وحالاً فظيعاً "فقالوا يا ليتنا نرد" أي إلى الدنيا "ولا نكذب بآيات ربنا" أي التي جاءنا بها رسوله صلى الله عليه وسلم "ونكون من المؤمنين" بها العاملين بما فيها، والأفعال الثلاثة داخلة تحت التمني: أي تمنوا الرد، وأن لا يكذبوا، وأن يكونوا من المؤمنين برفع الأفعال الثلاثة كما هي قراءة الكسائي وأهل المدينة وشعبة وابن كثير وأبي عمرو. وقرأ حفص وحمزة بنصب نكذب ونكون بإضمار أن بعد الواو على جواب التمني، واختار سيبويه القطع في "ولا نكذب" فيكون غير داخل في التمني، والتقدير: ونحن لا نكذب على معنى الثبات على ترك التكذيب: أي لا نكذب رددنا أو لم نرد، قال: وهو مثل دعني ولا أعود: أي لا أعود على كل حال تركتني أو لم تتركني. واستدل أبو عمرو بن العلاء على خروجه من التمني بقوله: "وإنهم لكاذبون" لأن الكذب لا يكون في التمني. وقرأ ابن عامر "ونكون" بالنصب وأدخل الفعلين الأولين في التمني. وقرأ أبي " ولا نكذب بآيات ربنا ". وقرأ هو وابن مسعود " يا ليتنا نرد ولا نكذب " بالفاء والنصب، والفاء ينصب بها في جواب التمني كما ينصب بالواو كما قال الزجاج، وقال أكثر البصريين: لا يجوز الجواب إلا بالفاء.

بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ

قوله: 28- "بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل" هذا إضراب عما يدل عليه التمني من الوعد بالإيمان والتصديق: أي لم يكن ذلك التمني منهم عن صدق نية وخلوص اعتقاد بل هو لسبب آخر، وهو أنه بدا لهم ما كانوا يخفون: أي يجحدون من الشرك وعرفوا أنهم هالكون بشركهم فعدلوا إلى التمني والمواعيد الكاذبة، وقيل: بدا لهم ما كانوا يخفون من النفاق والكفر بشهادة جوارحهم عليهم، وقيل: بدا لهم ما كانوا يكتمون من أعمالهم القبيحة كما قال تعالى: "وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون". وقال المبرد: بدا لهم جزاء كفرهم الذي كانوا يخفونه وهو مثل القول الأول، وقيل المعنى: أنه ظهر للذين اتبعوا الغواة ما كان الغواة يخفون عنهم من أمر البعث والقيامة "ولو ردوا" إلى الدنيا حسبما تمنوا "لعادوا" لفعل ما نهوا عنه من القبائح التي رأسها الشرك كما عاين إبليس ما عاين من آيات الله ثم عاند "وإنهم لكاذبون" أي متصفون بهذه الصفة لا ينفكون عنها بحال من الأحوال ولو شاهدوا ما شاهدوا، وقيل المعنى: وإنهم لكاذبون فيما أخبروا به عن أنفسهم من الصدق والإيمان. وقرأ يحيى بن وثاب "ولو ردوا" بكسر الراء لأن الأصل رددوا فنقلت كسرة الدال إلى الراء، وجملة "وإنهم لكاذبون" معترضة بين المعطوف وهو وقالوا، وبين المعطوف عليه وهو لعادوا: أي لعادوا إلى ما نهوا عنه.

وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ

29- "وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا" أي ما هي إلا حياتنا الدنيا "وما نحن بمبعوثين" بعد الموت، وهذا من شدة تمردهم وعنادهم حيث يقولون هذه المقالة على تقدير أنهم رجعوا إلى الدنيا بعد مشاهدتهم للبعث.

وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ

قوله: 30- "ولو ترى إذ وقفوا على ربهم" قد تقدم تفسيره في قوله: "ولو ترى إذ وقفوا على النار" أي حبسوا على ما يكون من أمر ربهم فيهم، وقيل على بمعنى عند، وجواب لو محذوف: أي لشاهدت أمراً عظيماً، والاستفهام في "أليس هذا بالحق" للتقريع والتوبيخ: أي أليس هذا البعث الذي ينكرونه كائناً موجوداً، وهذا الجزاء الذي يجحدونه حاضراً. "قالوا بلى وربنا" اعترفوا بما أنكروا وأكدوا اعترافهم بالقسم "قال فذوقوا العذاب" الذي تشاهدونه وهو عذاب النار "بما كنتم تكفرون" أي بسبب كفركم به أو بكل شيء مما أمرتم بالإيمان به في دار الدنيا. وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ثم لم تكن فتنتهم" قال: معذرتهم. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه "ثم لم تكن فتنتهم" قال: حجتهم "إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين" يعني المنافقين والمشركين قالوا وهم في النار: هلم فلنكذب فلعله أن ينفعنا، فقال الله: "انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم" في القيامة "ما كانوا يفترون" يكذبون في الدنيا. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه في قوله: "والله ربنا ما كنا مشركين" ثم قال: "ولا يكتمون الله حديثاً" قال: بجوارحهم. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة "انظر كيف كذبوا على أنفسهم" قال: باعتذارهم الباطل "وضل عنهم ما كانوا يفترون" قال: ما كانوا يشركون. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "ومنهم من يستمع إليك" قال: قريش، وفي قوله: "وجعلنا على قلوبهم أكنة" قال: كالجعبة للنبل. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً" قال: يسمعونه بآذانهم ولا يعون منه شيئاً، كمثل البهيمة التي لا تسمع النداء ولا تدري ما يقال لها. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي قال: الغطاء أكن قلوبهم أن يفقهوه، والوقر الصمم، و "أساطير الأولين" أساجيع الأولين. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: أساطير الأولين: أحاديث الأولين. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال: أساطير الأولين: كذب الأولين وباطلهم. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس في قوله: "وهم ينهون عنه وينأون عنه" قال: نزلت في أبي طالب كان ينهى المشركين أن يردوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتباعد عما جاء به. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن القاسم بن مخيمرة نحوه. وأخرج ابن جرير عن عطاء نحوه أيضاً. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال: ينهون عنه الناس أن يؤمنوا به، "وينأون عنه": يتباعدون. وأخرج ابن جرير من طريق العوفي عنه قال: لا يلقونه ولا يدعون أحداً يأتيه. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن محمد بن الحنفية في الآية. قال: كفار مكة كانوا يدفعون الناس عنه ولا يجيبونه. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد نحوه. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة قال: ينهون عن القرآن وعن النبي صلى الله عليه وسلم، "وينأون عنه" يتباعدون عنه. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن أبي هلال في الآية قال: نزلت في عمومة النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا عشرة، فكانوا أشد الناس معه في العلانية، وأشد الناس عليه في السر. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: "بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل" قال: من أعمالهم "ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه" يقول: ولو وصل الله لهم دنيا كدنياهم التي كانوا فيها لعادوا إلى أعمالهم أعمال السوء التي كانوا نهوا عنها. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: أخبر الله سبحانه أنهم لو ردوا لم يقدروا على الهدى، فقال: "ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه" أي ولو ردوا إلى الدنيا لحيل بينهم وبين الهدى كما حيل بينهم وبينه أول مرة وهم في الدنيا.

قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ

قوله: 31- "قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله" هم الذين تقدم ذكرهم. والمراد من تكذيبهم بلقاء الله تكذيبهم بالبعث، وقيل تكذيبهم بالجزاء. والأول أولى، لأنهم الذين قالوا قريباً "إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين" "حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة" أي القيامة، وسميت ساعة لسرعة الحساب فيها. ومعنى بغتة: فجأة، يقال: بغتهم الأمر يبغتهم بغتاً وبغتة. قال سيبويه: وهي مصدر في موضع الحال، قال: ولا يجوز أن يقاس عليه، فلا يقال: جاء فلان سرعة، و "حتى" غاية للتكذيب لا للخسران، فإنه لا غاية له "قالوا يا حسرتنا" هذا جواب إذا جاءتهم أوقعوا النداء على الحسرة، وليست بمنادى في الحقيقة ليدل ذلك على كسرة تحسرهم. والمعنى: يا حسرتنا احضري فهذا أوانك، كذا قال سيبويه في هذا النداء وأمثاله كقولهم: يا للعجب ويا للرجل، وقيل هو تنبيه للناس على عظم ما يحل بهم من الحسرة، كأنهم قالوا: يا أيها الناس تنبهوا على عظيم ما بنا من الحسرة، والحسرة: الندم الشديد "على ما فرطنا فيها" أي على تفريطنا في الساعة: أي في الاعتداد لها، والاحتفال بشأنها، والتصديق بها. ومعنى فرطنا ضيعنا، وأصله التقدم، يقال فرط فلان: أي تقدم وسبق إلى الماء، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "وأنا فرطكم على الحوض"، ومنه الفارط: أي المتقدم فكأنه أرادوا بقولهم: "على ما فرطنا" أي على ما قدمنا من عجزنا عن التصديق بالساعة والاعتداد لها. وقال ابن جرير الطبري: إن الضمير في فرطنا فيها يرجع إلى الصفقة، وذلك أنهم لما تبين لهم خسران صفقتهم ببيعهم الإيمان بالكفر، والدنيا بالآخرة "قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا" في صفقتنا، وإن لم تذكر في الكلام فهو دال عليها، لأن الخسران لا يكون إلا في صفقة، وقيل الضمير راجع إلى الحياة: أي على ما فرطنا في حياتنا. قوله: "وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم" هذه الجملة حالية: أي يقولون تلك المقالة، والحال أنهم "يحملون أوزارهم على ظهورهم" أي ذنوبهم، جمع وزر: يقال وزر يزر، فهو وازر وموزور، وأصله من الوزر. قال أبو عبيدة: يقال للرجل إذا بسط ثوبه فجعل فيه المتاع: احمل وزرك: أي ثقلك، ومنه الوزير، لأنه يحمل أثقال ما يسند إليه من تدبير الولاية. والمعنى: أنها لزمتهم الآثام فصاروا مثقلين بها، وجعلها محمولة على الظهور تمثيل "ألا ساء ما يزرون" أي بئس ما يحملون.

وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ

قوله: 32- "وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو" أي وما متاع الدنيا إلا لعب ولهو على تقدير حذف مضاف، أو ما الدنيا من حيث هي إلا لعب ولهو. والقصد بالآية تكذيب الكفار في قولهم: "ما هي إلا حياتنا الدنيا" واللعب معروف، وكذلك اللهو، وكل ما يشغلك فقد ألهاك، وقيل أصله الصرف عن الشيء. ورد بأن اللهو بمعنى الصرف لامه ياء، يقال: لهيت عنه، ولام اللهو واو، يقال: لهوت بكذا "وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون" سميت آخرة لتأخرها عن الدنيا: أي هي خير للذين يتقون الشرك والمعاصي، أفلا تعقلون ذلك. قرأ ابن عامر "ولدار الآخرة" بلام واحدة وبالإضافة وقرأ الجمهور باللام التي للتعريف معها، وجعل الآخرة نعتاً لها والخبر خير، وقرئ "تعقلون" بالفوقية والتحتية.

قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ

قوله: 33- "قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون" هذه اللام مبتدأ مسوق لتسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم عما ناله من الغم والحزن بتكذيب الكفار له، ودخول قد للتكثير فإنها قد تأتي لإفادته كما تأتي رب والضمير في "إنه" للشأن، وقرئ بفتح الياء من يحزنك وضمها، وقرئ "يكذبونك" مشدداً ومخففاً، واختار أبو عبيد قراءة التخفيف. قال النحاس: وقد خولف أبو عبيد في هذا. ومعنى "يكذبونك" على التشديد: ينسبونك إلى الكذب ويردون عليك ما قلته. ومعنى المخفف: أنهم لا يجدونك كذاباً. يقال أكذبته: وجدته كذاباً، وأبخلته: وجدته بخيلاً. وحكى الكسائي عن العرب: أكذبت الرجل: أخبرت أنه جاء بالكذب، وكذبته: أخبرت أنه كاذب. وقال الزجاج: كذبته إذا قلت له كذبت، وأكذبته: إذا أردت أن ما أتى به كذب. والمعنى: أن تكذيبهم ليس يرجع إليك فإنهم يعترفون لك بالصدق، ولكن تكذيبهم راجع إلى ما جئت به، ولهذا قال: "ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون" ووضع الظاهر موضع المضمر لزيادة التوبيخ لهم والإزراء عليهم، ووصفهم بالظلم لبيان أن هذا الذي وقع منهم ظلم بين.

وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ

قوله: 34- "ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا" هذا من جملة التسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي أن هذا الذي وقع من هؤلاء إليك ليس هو بأول ما صنعه الكفار مع من أرسله الله إليهم، بل قد وقع التكذيب لكثير من الرسل المرسلين من قبلك فاقتد بهم ولا تحزن واصبر كما صبروا على ما كذبوا به وأوذوا حتى يأتيك نصرنا كما أتاهم فإنا لا نخلف الميعاد و "لكل أجل كتاب" "إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا" "ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين" "إنهم لهم المنصورون" "وإن جندنا لهم الغالبون" "كتب الله لأغلبن أنا ورسلي". "ولا مبدل لكلمات الله" بل وعده كائن وأنت منصور على المكذبين، ظاهر عليهم. وقد كان ذلك ولله الحمد "ولقد جاءك من نبإ المرسلين" ما جاءك من تجري قومهم عليهم في الابتداء وتكذيبهم لهم ثم نصرهم عليهم في الانتهاء، وأنت ستكون عاقبة هؤلاء المكذبين لك كعاقبة المكذبين للرسل فيرجعون إليك ويدخلون في الدين الذي تدعوهم إليه طوعاً أو كرهاً.

وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآَيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ

قوله: 35- "وإن كان كبر عليك إعراضهم" كان النبي صلى الله عليه وسلم يكبر عليه إعراض قومه ويتعاظمه ويحزن له فبين له الله سبحانه أن هذا الذي وقع منهم من توليهم عن الإجابة له، والإعراض عما دعا إليه هو كائن لا محالة لما سبق في علم الله عز وجل، وليس في استطاعته وقدرته إصلاحهم وإجابتهم قبل أن يأذن الله بذلك، ثم علق ذلك بما هو محال، فقال: " فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية " "أو سلماً في السماء فتأتيهم بآية" منها فافعل، ولكنك لا تستطيع ذلك فدع الحزن و "لا تذهب نفسك عليهم حسرات". و " لست عليهم بمصيطر " والنفق: السرب والمنفذ، ومنه النافقاء لجحر اليربوع، ومنه المنافق. وقد تقدم في البقرة ما يغني عن الإعادة. والسلم: الدرج الذي يرتقي عليه، وهو مذكر لا يؤنث، وقال الفراء: إنه يؤنث. قال الزجاج: وهو مشتق من السلامة، لأنه يسلك به إلى موضع الأمن، وقيل: إن الخطاب وإن كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم فالمراد به أمته، لأنها كانت تضيق صدورهم بتمرد الكفرة وتصميمهم على كفرهم ولا يشعرون أن لله سبحانه في ذلك حكمة لا تبلغها العقول ولا تدركها الأفهام، فإن الله سبحانه لو جاء لرسوله صلى الله عليه وسلم بآية تضطرهم إلى الإيمان لم يبق للتكليف الذي هو الابتلاء والامتحان معنى، ولهذا قال: "ولو شاء الله لجمعهم على الهدى" جمع إلجاء وقسر، ولكنه لم يشأ ذلك ولله الحكمة البالغة "فلا تكونن من الجاهلين" فإن شدة الحرص والحزن لإعراض الكفار عن الإجابة قبل أن يأذن الله بذلك هو صنيع أهل الجهل ولست منهم، فدع الأمور مفوضة إلى عالم الغيب والشهادة فهو أعلم بما فيه المصلحة، ولا تحزن لعدم حصول ما يطلبونه من الآيات التي لو بدا لهم بعضها لكان إيمانهم بها اضطراراً.

إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ

36- "إنما يستجيب الذين يسمعون" أي إنما يستجيب لك إلى ما تدعو إليه الذين يسمعون سماع تفهم بما تقتضيه العقول وتوجبه الأفهام وهؤلاء ليسوا كذلك، بل هم بمنزلة الموتى الذين لا يسمعون ولا يعقلون لما جعلنا على قلوبهم من الأكنة وفي آذانهم من الوقر، ولهذا قال: "والموتى يبعثهم الله" شبههم بالأموات بجامع أنهم جميعاً لا يفهمون الصواب ولا يعقلون الحق: أي أن هؤلاء لا يلجئهم الله إلى الإيمان وإن كان قادراً على ذلك كما يقدر على بعثة الموتى للحساب "ثم إليه يرجعون" إلى الجزاء فيجازي كلاً بما يليق به كما تقتضيه حكمته البالغة. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "قالوا يا حسرتنا" قال: الحسرة الندامة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه والخطيب بسند صحيح عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: "يا حسرتنا" قال: الحسرة أن يرى أهل النار منازلهم من الجنة، فتلك الحسرة. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "ألا ساء ما يزرون" قال: ما يعلمون. وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "لعب ولهو" قال: كل لعب: لهو. وأخرج الترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والحاكم وصححه والضياء في المختارة عن علي بن أبي طالب قال: قال أبو جهل للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا لا نكذبك ولكن نكذب بما جئت به، فأنزل الله "فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون". وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أبي يزيد المدني أن أبا جهل قال: والله إني لأعلم أنه صادق، ولكن متى كنا تبعاً لبني عبد مناف؟. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه عن أبي ميسرة نحو رواية علي بن أبي طالب. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون" قال: يعلمون أنك رسول الله ويجحدون. وأخرج ابن جرير عن الضحاك في قوله: "ولقد كذبت رسل من قبلك" قال: يعزي نبيه صلى الله عليه وسلم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريج مثله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس قال: "فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض" والنفق: السرب، فتذهب فيه فتأتيهم بآية أو تجعل لهم سلماً في السماء فتصعد عليه "فتأتيهم بآية" أفضل مما أتيناهم به فافعل "ولو شاء الله لجمعهم على الهدى" يقول سبحانه: لو شئت لجمعتهم على الهدى أجمعين. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: "نفقاً في الأرض" قال: سرباً "أو سلماً في السماء" قال: يعني الدرج. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الحسن في قوله: "إنما يستجيب الذين يسمعون" قال: المؤمنون "والموتى" قال: الكفار. وأخرج هؤلاء عن مجاهد مثله.

وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آَيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ

هذا كان منهم تعنتاً ومكابرة حيث لم يقتدوا بما قد أنزله الله على رسوله من الآيات البينات التي من جملتها القرآن، وقد علموا أنهم قد عجزوا عن أن يأتوا بسورة مثله، ومرادهم بالآية هنا هي التي تضطرهم إلى الإيمان كنزول الملائكة بمرأى منهم ومسمع، أو نتق الجبل كما وقع لبني إسرائيل، فأمره الله سبحانه أن يجيبهم بأن الله قادر على أن ينزل على رسوله آية تضطرهم إلى الإيمان، ولكنه ترك ذلك لتظهر فائدة التكليف الذي هو الابتلاء والامتحان، وأيضاً لو نزل آية كما طلبوا لم يمهلهم بعد نزولها بل سيعاجلهم بالعقوبة إذا لم يؤمنوا. قال الزجاج: طلبوا أن يجمعهم على الهدى، يعني جمع إلجاء "ولكن أكثرهم لا يعلمون" أن الله قادر على ذلك، وأنه تركه لحكمة بالغة لا تبلغها عقولهم.

وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ

قوله: 38- "وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم" الدابة من دب يدب فهو داب: إذا مشى مشياً فيه تقارب خطو. وقد تقدم بيان ذلك في البقرة "ولا طائر" معطوف على "دابة" مجرور في قراءة الجمهور. وقرأ الحسن وعبد الله بن أبي إسحاق "ولا طائر" بالرفع عطفاً على موضع من دابة على تقدير زيادة من، و "بجناحيه" لدفع الإبهام، لأن العرب تستعمل الطيران لغير الطير كقولهم: طرفي حاجتي: أي أسرع، وقيل إن اعتدال جسد الطائر بين الجناحين يعينه على الطيران، ومع عدم الاعتدال يميل، فأعلمنا سبحانه أن الطيران بالجناحين، وقيل ذكر الجناحين للتأكيد كضرب بيده وأبصر بعينيه ونحو ذلك. والجناح: أحد ناحيتي الطير الذي يتمكن به من الطيران في الهواء، وأصله الميل إلى ناحية من النواحي. والمعنى: ما من دابة من الدواب التي تدب في أي مكان من أمكنة الأرض ولا طائر يطير في أي ناحية من نواحيها "إلا أمم أمثالكم" أي جماعات مثلكم خلقهم الله كما خلقكم، ورزقهم كما رزقكم داخلة تحت علمه وتقديره وإحاطته بكل شيء، وقيل: " أمثالها " في ذكر الله والدلالة عليه، وقيل: " أمثالها " في كونهم محشورين، روي ذلك عن أبي هريرة. وقال سفيان بن عيينة: أي ما من صنف من الدواب والطير إلا في الناس شبه منه، فمنهم من يعدو كالأسد، ومنهم من يشره كالخنزير، ومنهم من يعوي كالكلب، ومنهم من يزهو كالطاوس، وقيل: "أمثالكم" في أن لها أسماء تعرف بها. وقال الزجاج: "أمثالكم" في الخلق والرزق والموت والبعث والاقتصاص. والأولى أن تحمل المماثلة على كل ما يمكن وجود شبه فيه كائناً ما كان. قوله: "ما فرطنا في الكتاب من شيء" أي ما أغفلنا عنه ولا ضيعنا فيه من شيء. والمراد بالكتاب: اللوح المحفوظ، فإن الله أثبت فيه جميع الحوادث، وقيل إن المراد به القرآن: أي ما تركنا في القرآن من شيء من أمر الدين إما تفصيلاً أو إجمالاً، ومثله قوله تعالى: "ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء"، وقال: "وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم"، ومن جملة ما أجمله في الكتاب العزيز قوله: "ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا" فأمر في هذه الآية باتباع ما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكل حكم سنه الرسول لأمته قد ذكره الله سبحانه في كتابه العزيز، بهذه الآية وبنحو قوله تعالى: "قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني" وبقوله: "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة"، ومن في "من شيء" مزيدة للاستغراق. قوله: "ثم إلى ربهم يحشرون" يعني الأمم المذكورة، وفيه دلالة على أنها تحشر كما يحشر بنو آدم، وقد ذهب إلى هذا جمع من العلماء، ومنهم أبو ذر وأبو هريرة والحسن وغيرهم. وذهب ابن عباس إلى أن حشرها موتها، وبه قال الضحاك. والأول أرجح للآية، ولما صح في السنة المطهرة من أنه يقاد يوم القيامة للشاة الجلحاء من الشاة القرناء، ولقول الله تعالى: "وإذا الوحوش حشرت"، وذهبت طائفة من العلماء إلى أن المراد بالحشر المذكور في الآية حشر الكفار، وما تخلل كلام معترض. قالوا: وأما الحديث فالمقصود به التمثيل على جهة تعظيم أمر الحساب والقصاص. واستدلوا أيضاً بأن في هذا الحديث خارج الصحيح عن بعض الرواة زيادة، ولفظه: "حتى يقاد للشاة الجلحاء من القرناء، وللحجر لم ركب على الحجر؟ والعود لم خدش العود؟" قالوا: والجمادات لا يعقل خطابها ولا ثوابها ولا عقابها.

وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ

قوله: 39- "والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم" أي لا يسمعون بأسماعهم ولا ينطقون بألسنتهم، نزلهم منزلة من لا يسمع ولا ينطق لعدم قبولهم لما ينبغي قبوله من الحجج الواضحة والدلائل الصحيحة. وقال أبو علي: يجوز أن يكون صممهم وبكمهم في الآخرة. قوله: "في الظلمات" أي في ظلمات الكفر والجهل والحيرة لا يهتدون لشيء مما فيه صلاحهم. والمعنى: كائنين في الظلمات التي تمنع من إبصار المبصرات وضموا إلى الصمم والبكم عدم الانتفاع بالأبصار لتراكم الظلمة عليهم، فكانت حواسهم كالمسلوبة التي لا ينتفع بها بحال وقد تقدم في البقرة تحقيق المقام بما يغني عن الإعادة، ثم بين سبحانه أن الأمر بيده ما شاء يفعل، من شاء تعالى أن يضله أضله، ومن شاء أن يهديه جعله على صراط مستقيم لا يذهب به إلى غير الحق، ولا يمشي فيه إلا إلى صوب الاستقامة. وقد أخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في قوله: "إلا أمم أمثالكم" قال: أصنافاً مصنفة تعرف بأسمائها. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال: الطير أمة، والإنس أمة، والجن أمة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي: قال: خلق أمثالكم. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن جريج في الآية قال: الذرة فما فوقها من ألوان ما خلق الله من الدواب. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس "ما فرطنا في الكتاب من شيء" يعني ما تركنا شيئاً إلا وقد كتبناه في أم الكتاب. وأخرج عبد الرزاق وأبو الشيخ عن قتادة نحوه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "ثم إلى ربهم يحشرون" قال: موت البهائم حشرها، وفي لفظ قال: يعني بالحشر الموت. وأخرج عبد الرزاق وأبو عبيد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن أبي هريرة قال: "ما من دابة ولا طائر إلا سيحشر يوم القيامة، ثم يقتص لبعضها من بعض حتى يقتص للجلحاء من ذات القرن، ثم يقال لها: كوني تراباً، فعند ذلك يقول الكافر: "يا ليتني كنت تراباً" وإن شئتم فاقرأوا "وما من دابة في الأرض" الآية". وأخرج ابن جرير عن أبي ذر قال: انتطحت شاتان عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي: "يا أبا ذر أتدري فيم انتطحتا؟ قلت: لا، قال: لكن الله يدري وسيقضي بينهما". قال أبو ذر: ولقد تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يقلب طائر جناحيه في السماء إلا ذكرنا منه علماً. وأخرجه أيضاً أحمد، وفي صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء".

قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ

قوله: 40- "أرأيتكم" الكاف والميم عند البصريين للخطاب ولا حظ لهما في الإعراب، وهو اختيار الزجاج. وقال الكسائي والفراء وغيرهما: إن الكاف والميم في محل نصب بوقوع الرؤية عليهما. والمعنى: أرأيتم أنفسكم. قال الكشاف مرجحاً للمذهب الأول: إنه لا محل للضمير الثاني، يعني الكاف من الإعراب، لأنك تقول: أرأيتك زيداً ما شأنه، فلو جعلت للكاف محلاً لكنت كأنك تقول: أرأيت نفسك زيداً ما شأنه وهو خلف من القول انتهى. والمعنى: أخبروني "إن أتاكم عذاب الله" كما أتى غيركم من الأمم "أو أتتكم الساعة" أي القيامة "أغير الله تدعون" هذا على طريقة التبكيت والتوبيخ: أي أتدعون غير الله في هذه الحالة من الأصنام التي تعبدونها أم تدعون الله سبحانه، وقوله: "إن كنتم صادقين" تأكيد لذلك التوبيخ: أي أغير الله من الأصنام تدعون إن كنتم صادقين أن أصنامكم تضر وتنفع وأنها آلهة كما تزعمون.

بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ

قوله: 41- "بل إياه تدعون" معطوف على منفي مقدر أي لا تدعون غيره بل إياه تخصون بالدعاء "فيكشف ما تدعون إليه" أي فيكشف عنكم ما تدعونه إلى كشفه إن شاء أن يكشفه عنكم لا إذا لم يشأ ذلك. قوله: "وتنسون ما تشركون" أي وتنسون عند أن يأتيكم العذاب ما تشركون به تعالى: أي ما تجعلونه شريكاً له من الأصنام ونحوها فلا تدعونها، ولا ترجون كشف ما بكم منها، بل تعرضون عنها إعراض الناس. وقال الزجاج: يجوز أن يكون المعنى: وتتركون ما تشركون.

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ

قوله: 42- "ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك" كلام مبتدأ مسوق لتسلية النبي صلى الله عليه وسلم: أي ولقد أرسلنا إلى أمم كائنة من قبلك رسلاً فكذبوهم "فأخذناهم بالبأساء والضراء" أي البؤس والضر وقيل: البأساء المصائب في الأموال، والضراء المصائب في الأبدان، وبه قال الأكثر: "لعلهم يتضرعون" أي يدعون الله بضراعة، مأخوذ من الضراعة وهي الذل، يقال: ضرع فهو ضارع، ومنه قول الشاعر: لبيك يزيد ضارع لخصومة ومختبط مما تطيح الطوائح

فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ

قوله: 43- "فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا" أي فهلا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا لكنهم لم يتضرعوا، وهذا عتاب لهم على ترك الدعاء في كل الأحوال حتى عند نزول العذاب بهم لشدة تمردهم وغلوهم في الكفر، ويجوز أن يكون المعنى أنهم تضرعوا عند أن نزل بهم العذاب، وذلك تضرع ضروري لم يصدر عن إخلاص فهو غير نافع لصاحبه، والأول أولى كما يدل عليه "ولكن قست قلوبهم" أي صلبت وغلظت "وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون" أي أغواهم بالتصميم على الكفر والاستمرار على المعاصي.

فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ

قوله: 44- "فلما نسوا ما ذكروا به" أي تركوا ما ذكروا به، أو أعرضوا عما ذكروا به، لأن النسيان لو كان على حقيقته لم يؤاخذوا به، إذ ليس هو من فعلهم، وبه قال ابن عباس وابن جريج وأبو علي الفارسي. والمعنى: أنهم لما تركوا الاتعاظ بما ذكروا به من البأساء والضراء وأعرضوا عن ذلك "فتحنا عليهم أبواب كل شيء" أي لما نسوا ما ذكروا به استدرجناهم بفتح أبواب كل نوع من أنواع الخير عليهم "حتى إذا فرحوا بما أوتوا" من الخير على أنواعه فرح بطر وأشر وأعجبوا بذلك وظنوا أنهم إنما أعطوه لكون كفرهم الذي هم عليه حقاً وصواباً: "أخذناهم بغتة" أي فجأة وهم غير مترقبين لذلك والبغتة: الأخذ على غرة من غير تقدمة أمارة، وهي مصدر في موضع الحال لا يقاس عليها عند سيبويه. قوله: "فإذا هم مبلسون" المبلس: الحزين الآيس من الخير لشدة ما نزل به من سوء الحال، ومن ذلك اشتق اسم إبليس، يقال: أبلس الرجل إذا سكت، وأبلست الناقة إذا لم ترع. قال العجاج: صاح هل تعرف رسماً مكرساً قال نعم أعرفه وأبلســـا أي تحير لهول ما رأى، والمعنى: فإذا هم محزونون متحيرون آيسون من الفرح.

فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ

قوله: 45- "فقطع دابر القوم الذين ظلموا" الدابر الآخر، يقال: دبر القوم يدبرهم دبراً: إذا كان آخرهم في المجيء، والمعنى: أنه قطع آخرهم: أي استؤصلوا جميعا حتى آخرهم. قال قطرب: يعني أنهم استؤصلوا وأهلكوا. قال أمية بن أبي الصلت: فأهلكوا بعذاب حص دابرهم فما استطاعوا له صرفاً ولا انتصروا ومنه التدبير لأنه أحكام عواقب الأمور. قوله: "والحمد لله رب العالمين" أي على هلاكهم، وفيه تعليم للمؤمنين كيف يحمدونه سبحانه عند نزول النعم التي من أجلها هلاك الظلمة الذين يفسدون في الأرض لا يصلحون فإنهم أشد على عباد الله من كل شديد. اللهم أرح عبادك المؤمنين من ظلم الظالمين واقطع دابرهم وأبدلهم بالعدل الشامل لهم. وقد أخرج أبو الشيخ عن سعيد بن جبير في قوله: "فأخذناهم بالبأساء والضراء" قال: خوف السلطان وغلاء السعر. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "فلما نسوا ما ذكروا به" قال: يعني تركوا ما ذكروا به. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريج "فلما نسوا ما ذكروا به" قال: ما دعاهم الله إليه ورسله أبوه وردوه عليهم. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "فتحنا عليهم أبواب كل شيء" قال: رخاء الدنيا ويسرها. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة نحوه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله: "حتى إذا فرحوا بما أوتوا" قال: من الرزق "أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون" قال: مهلكون متغير حالهم "فقطع دابر القوم الذين ظلموا" يقول: فقطع أصل الذين ظلموا. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن محمد بن النضر الحارثي في قوله: "أخذناهم بغتة" قال: أمهلوا عشرين سنة، ولا يخفى أن هذا مخالف لمعنى البغتة لغة ومحتاج إلى نقل عن الشارع وإلا فهو كلام لا طائل تحته. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن زيد قال: المبلس المجهود المكروب الذي قد نزل به الشر الذي لا يدفعه، والمبلس أشد من المستكين، وفي قوله: "فقطع دابر القوم الذين ظلموا" قال: استؤصلوا.

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ

هذا تكرير للتوبيخ لقصد تأكيد الحجة عليهم، ووحد السمع لأنه مصدر يدل على الجمع بخلاف البصر ولهذا جمعه، والختم: الطبع، وقد تقدم تحقيقه في البقرة، والمراد: أخذ المعاني القائمة بهذه الجوارح أو أخذ الجوارح نفسها، والاستفهام في "من إله غير الله يأتيكم به" للتوبيخ، و من مبتدأ، و إله خبره، و غير الله صفة للخبر، ووحد الضمير في به مع أن المرجع متعدد على معنى: فمن يأتيكم بذلك المأخوذ أو المذكور. وقيل الضمير راجع إلى أحد هذه المذكورات، وقيل إن الضمير بمنزلة اسم الإشارة: أي يأتيكم بذلك المذكور، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنظر في تصريف الآيات وعدم قبولها لها تعجيباً له من ذلك، والتصريف المجيء بها على جهات مختلفة، تارة إنذار وتارة إعذار وتارة ترغيب وتارة ترهيب، وقوله: 46- "ثم هم يصدفون" عطف على نصرف، ومعنى يصدفون: يعرضون، يقال: صدف عن الشيء: إذا أعرض عنه صدفاً وصدوفاً.

قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ

قوله: 47- "قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله" أي أخبروني عن ذلك، وقد تقدم تفسير البغتة قريباً أنها الفجأة. قال الكسائي: بغتهم يبغتهم بغتاً وبغتة: إذا أتاهم فجأة: أي من دون تقديم مقدمات تدل على العذاب، والجهرة أن يأتي العذاب بعد ظهور مقدمات تدل عليه، وقيل البغتة: إتيان العذاب ليلاً، والجهرة: إتيان العذاب نهاراً كما في قوله تعالى: "بياتاً أو نهاراً". "هل يهلك إلا القوم الظالمون" الاستفهام للتقرير: أي ما يهلك هلاك تعذيب وسخط إلا القوم الظالمون. وقرئ يهلك على البناء للفاعل. قال الزجاج: معناه هل يهلك إلا أنتم ومن أشبهكم؟ انتهى.

وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آَمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ

قوله: 48- "وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين" كلام مبتدأ لبيان الغرض من إرسال الرسل: أي مبشرين لمن أطاعهم بما أعد الله له من الجزاء العظيم، ومنذرين لمن عصاهم بما له عند الله من العذاب الوبيل: وقيل مبشرين في الدنيا بسعة الرزق وفي الآخرة بالثواب، ومنذرين مخوفين بالعقاب، وهما حالان مقدرتان: أي ما نرسلهم إلا مقدرين تبشيرهم وإنذارهم "فمن آمن وأصلح" أي آمن بما جاءت به الرسل "وأصلح" حال نفسه بفعل ما يدعونه إليه "فلا خوف عليهم" بوجه من الوجوه "ولا هم يحزنون" بحال من الأحوال، هذا حال من آمن وأصلح.

وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ

49- "والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون" وأما حال المكذبين فهو أن يمسهم العذاب بسبب فسقهم: أي خروجهم عن التصديق والطاعة. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "يصدفون" قال: يعدلون. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "يصدفون" قال: يعرضون، وقال في قوله: "قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة" قال: فجأة آمنين، أو جهرة، قال: وهم ينظرون. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد قال: كل فسق في القرآن فمعناه الكذب.

قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ

أمره الله سبحانه بأن يخبرهم لما كثر اقتراحهم عليه وتعنتهم بإنزال الآيات التي تضطرهم إلى الإيمان أنه لم يكن عنده خزائن الله حتى يأتيهم بما اقترحوه من الآيات، والمراد خزائن قدرته التي تشتمل على كل شيء من الأشياء، ويقول لهم: إنه لا يعلم الغيب حتى يخبرهم به ويعرفهم بما سيكون في مستقبل الدهر "ولا أقول لكم إني ملك" حتى تكلفوني من الأفعال الخارقة للعادة ما لا يطيقه البشر، وليس في هذا ما يدل على أن الملائكة أفضل من الأنبياء، وقد اشتغل بهذه المفاضلة قوم من أهل العلم ولا يترتب على ذلك فائدة دينية ولا دنيوية. بل الكلام في مثل هذا من الاشتغال بما لا يعني، ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه "إن أتبع إلا ما يوحى إلي" أي ما أتبع إلا ما يوحيه الله إلي، وقد تمسك بذلك من لم يثبت اجتهاد الأنبياء عملاً بما يفيده القصر في هذه الآية، والمسألة مدونة في الأصول والأدلة عليها معروفة، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أوتيت القرآن ومثله معه". "قل هل يستوي الأعمى والبصير" هذا الاستفهام للإنكار، والمراد أنه لا يستوي الضال والمهتدي، أو المسلم والكافر أو من اتبع ما أوحي إليه ومن لم يتبعه، والكلام تمثيل "أفلا تتفكرون" في ذلك حتى تعرفوا عدم الاستواء بينهما، فإنه بين لا يلتبس على من له أدنى عقل وأقل تفكر.

وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ

قوله: 51- "وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم" الإنذار: الإعلام. والضمير في به راجع إلى ما يوحى، وقيل إلى الله، وقيل إلى اليوم الآخر. وخص الذين يخافون أن يحشروا، لأن الإنذار يؤثر فيهم لما حل بهم من الخوف، بخلاف من لا يخاف الحشر من طوائف الكفر لجحوده به وإنكاره له، فإنه لا يؤثر فيه ذلك. قيل ومعنى يخافون: يعلمون ويتيقنون أنهم محشورون، فيشمل كل من آمن بالبعث من المسلمين وأهل الذمة وبعض المشركين، وقيل معنى الخوف على حقيقته، والمعنى: أنه ينذر به من يظهر عليه الخوف من الحشر عند أن يسمع النبي صلى الله عليه وسلم يذكره وإن لم يكن مصدقاً به في الأصل، لكنه يخاف أن يصح ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، فإن من كان كذلك تكون الموعظة فيه أنجع والتذكير له أنفع. قوله: "ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع" الجملة في محل نصب على الحال: أي أنذر به هؤلاء الذين يخافون الحشر حال كونهم لا ولي لهم يواليهم ولا نصير يناصرهم ولا شفيع يشفع لهم من دون الله، وفيه رد على من زعم من الكفار المعترفين بالحشر أن آباءهم يشفعون لهم، وهم أهل الكتاب، أو أن أصنامهم تشفع لهم، وهم المشركون.

وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ

قوله: 52- "ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه" الدعاء: العبادة مطلقاً، وقيل المحافظة على صلاة الجماعة، وقيل الذكر وقراءة القرآن، وقيل المراد الدعاء لله يجلب النفع ودفع الضرر. قيل: والمراد بذكر الغداة والعشي الدوام على ذلك والاستمرار، وقيل هو على ظاهره، و "يريدون وجهه" في محل نصب على الحال. والمعنى: أنهم مخلصون في عبادتهم لا يريدون بذلك إلا وجه الله تعالى: أي يتوجهون بذلك إليه لا إلى غيره. قوله: "ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء" هذا كلام معترض بين النهي وجوابه متضمن لنفي الحامل على الطرد: أي حساب هؤلاء الذين أردت أن تطردهم موافقة لمن طلب ذلك منك هو على انفسهم ما عليك منه شيء، وحسابك على نفسك ما عليهم منه شيء فعلام تطردهم؟ هذا على فرض صحة وصف من وصفهم بقوله: "ما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا" وطعن عندك في دينهم وحسبهم، فكيف وقد زكاهم الله عز وجل بالعبادة والإخلاص، وهذا هو مثل قوله تعالى: "ولا تزر وازرة وزر أخرى" وقوله: "ما عليك من حسابهم من شيء" وهو من تمام الاعتراض: أي إذا كان الأمر كذلك فأقبل عليهم وجالسهم ولا تطردهم مراعاة لحق من ليس على مثل حالهم في الدين والفضل، ومن في "ما عليك من حسابهم من شيء" للتبعيض، والثانية للتوكيد، وكذا في "ما من حسابك عليهم من شيء". قوله: "فتكون من الظالمين" جواب للنهي أعني "ولا تطرد الذين يدعون ربهم" أي فإن فعلت ذلك كنت من الظالمين، وحاشاه عن وقوع ذلك، وإنما هو من باب التعريض لئلا يفعل ذلك غيره صلى الله عليه وسلم من أهل الإسلام كقوله تعالى: "لئن أشركت ليحبطن عملك"، وقيل إن "فتكون من الظالمين" معطوف على فتطردهم على طريق التسبب، والأول أولى.

وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ

قوله: 53- "وكذلك فتنا بعضهم ببعض" أي مثل ذلك الفتن العظيم فتناً بعض الناس ببعض، والفتنة: الاختبار: أي عاملناهم معاملة المختبرين، واللام في "ليقولوا" للعاقبة: أي ليقول البعض الأول مشيرين إلى البعض الثاني "أهؤلاء" الذين "من الله عليهم من بيننا" أي أكرمهم بإصابة الحق دوننا. قال النحاس: وهذا من المشكل، لأنه يقال: كيف فتنوا ليقولوا هذا القول وهو إن كان على طريقة الإنكار كفر، وأجاب بجوابين: الأول: أن ذلك واقع منهم على طريقة الاستفهام لا على سبيل الإنكار، والثاني: أنهم لما اختبروا بهذا كان عاقبته هذا القول منهم كقوله: "فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً". قوله: قوله: "أليس الله بأعلم بالشاكرين" هذا الاستفهام للتقرير. والمعنى: أن مرجع الاستحقاق لنعم الله سبحانه هو الشكر، وهو أعلم بالشاكرين له، فما بالكم تعترضون بالجهل وتنكرون الفضل.

وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ

قوله: 54- "وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا" هم الذين نهاه الله عن طردهم وهم المستضعفون من المؤمنين، كما سيأتي بيانه "فقل سلام عليكم" أمره الله بأن يقول لهم هذا القول تطييباً لخواطرهم وإكراماً لهم. والسلام، والسلامة: بمعنى واحد، فمعنى سلام عليكم: سلمكم الله. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية إذا رآهم بدأهم بالسلام، وقيل: إن هذا السلام هو من جهة الله: أي أبلغهم منا السلام. قوله: "كتب ربكم على نفسه الرحمة" أي أوجب ذلك إيجاب فضل وإحسان، وقيل: كتب ذلك في اللوح المحفوظ. قيل: هذا من جملة ما أمره الله سبحانه بإبلاغه إلى أولئك الذين أمره بإبلاغ السلام إليهم تبشيراً بسعة مغفرة الله وعظيم رحمته. قوله: "أنه من عمل منكم سوءاً بجهالة". قرأ ابن عامر وعاصم ونافع بفتح أن من أنه، وقرأ الباقون بكسرها. فعلى القراءة الأولى تكون هذه الجملة بدلاً من الرحمة: أي كتب ربكم على نفسه أنه من عمل إلى آخره. وعلى القراءة الثانية تكون هذه الجملة مفسرة للرحمة بطريق الاستئناف وموضع بجهالة النصب على الحال: أي عمله وهو جاهل. قيل: والمعنى أنه فعل فعل الجاهلين، لأن من عمل ما يؤدي إلى الضرر في العاقبة مع علمه بذلك أو ظنه، فقد فعل فعل أهل الجهل والسفه لا فعل أهل الحكمة والتدبير، وقيل المعنى: أنه عمل ذلك وهو جاهل لما يتعلق به من المضرة، فتكون فائدة التقييد بالجهالة الإيذان بأن المؤمن لا يباشر ما يعلم أنه يؤدي إلى الضرر. قوله: "ثم تاب من بعده" أي من بعد عمله "وأصلح" ما أفسده بالمعصية فراجع الصواب وعمل الطاعة " إن الله غفور رحيم ". قرأ ابن عامر وعاصم بفتح الهمزة من فإنه، وقرأ الباقون الكسر. فعلى القراءة الأولى تكون أن وما بعدها خبر مبتدأ محذوف: أي فأمره أن الله غفور رحيم، وهذا اختيار سيبويه، واختار أبو حاتم أن الجملة في محل رفع على الابتداء والخبر مضمر، كأنه قيل فله: "أنه غفور رحيم" قال: لأن المبتدأ هو ما بعد الفاء. وأما على القراءة الثانية فالجملة مستأنفة.

وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ

قوله: 55- "وكذلك نفصل الآيات" أي مثل ذلك التفصيل نفصلها، والتفصيل التبيين. والمعنى: أن الله فصل لهم ما يحتاجون إليه من أمر الدين وبين لهم حكم كل طائفة. قوله: "ولتستبين سبيل المجرمين". قال الكوفيون: هو معطوف على مقدر: أي وكذلك نفصل الآيات لنبين لكم ولتستبين. قال النحاس: وهذا الحذف لا يحتاج إليه. وقيل: إن دخول الواو للعطف على المعنى: قرئ "لتستبين" بالفوقية والتحتية، فالخطاب على الفوقية للنبي صلى الله عليه وسلم: أي لتستبين يا محمد سبيل المجرمين، وسبيل منصوب على قراءة نافع. وأما على قراءة ابن كثير وأبي عمرو وابن عامر وحفص بالرفع، فالفعل مسند إلى سبيل وأما على التحتية فالفعل مسند إلى سبيل ايضاً، وهي قراءة حمزة والكسائي وشعبة بالفرع، وإذا استبان سبيل المجرمين فقد استبان سبيل المؤمنين. وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: "قل هل يستوي الأعمى والبصير" قال: الأعمى الكافر الذي عمي عن حق الله وأمره ونعمه عليه، والبصير: العبد المؤمن الذي أبصر بصراً نافعاً فوحد الله وحده، وعمل بطاعة ربه، وانتفع بما أتاه الله. وأخرج أحمد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية عن عبد الله بن مسعود: قال مر الملأ من قريش على النبي صلى الله عليه وسلم وعنده صهيب وعمار وبلال وخباب ونحوهم من ضعفاء المسلمين، فقالوا: يا محمد أرضيت بهؤلاء من قومك "أهؤلاء من الله عليهم من بيننا" أنحن نكون تبعاً لهؤلاء، اطردهم عنا، فلعلك إن طردتهم أن نتبعك، فأنزل الله فيهم القرآن "وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم" إلى قوله: "والله عليم بالظالمين". وقد أخرج هذا السبب مطولاً ابن جرير وابن المنذر عن عطرمة، وفيه: إن الذين جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وقرظة بن عبد عمرو بن نوفل والحارث بن عامر بن نوفل ومطعم بن عدي بن الخيار بن نوفل في أشراف الكفار من عبد مناف. وأخرجه ابن أبي شيبة وابن ماجه وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في الدلائل عن خباب قال: جاء الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصن الفزاري، فذكر نحو حديث عبد الله بن مسعود مطولاً. قال ابن كثير: هذا حديث غريب، فإن هذه الآية مكية، والأقرع وعيينة إنما أسلما بعد الهجرة بدهر. وأخرج مسلم والنسائي وابن ماجه وغيرهم عن سعد بن أبي وقاص قال: لقد نزلت هذه الآية في ستة: أنا وعبد الله بن مسعود وبلال ورجل من هذيل ورجلان لست أسميهما، فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم: اطرد هؤلاء عنك لا يجترئون علينا، فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع فحدث نفسه، فأنزل الله: "ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي". وقد روي في بيان السبب روايات موافقة لما ذكرنا في المعنى. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "بالغداة والعشي" قال: يعني الصلاة المكتوبة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: الصلاة المكتوبة الصبح والعصر. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن إبراهيم النخعي في الآية قال: هم أهل الذكر لا تطردهم عن الذكر. قال سفيان: أي أهل الفقه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وكذلك فتنا بعضهم ببعض" يعني أنه جعل بعضهم أغنياء وبعضهم فقراء، فقال الأغنياء للفقراء: "أهؤلاء من الله عليهم من بيننا" يعني أهؤلاء هداهم الله، وإنما قالوا ذلك استهزاء وسخرية. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج " أهؤلاء من الله عليهم من بيننا " أي لو كان لهم كرامة على الله ما أصابهم هذا الجهد. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ماهان قال: أتى قوم النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إنا أصبنا ذنوباً عظاماً فما رد عليهم شيئاً فانصرفوا، فأنزل الله: "وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا" الآية فدعاهم فقرأها عليهم. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال: أخبرت أن قوله: "سلام عليكم" كانوا إذا دخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم بدأهم السلام، فقال: "سلام عليكم" وإذا لقيهم فكذلك أيضاً. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن قتادة في قوله: "وكذلك نفصل الآيات" قال: نبين الآيات. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله: "ولتستبين سبيل المجرمين" قال: الذين يأمرونك بطرد هؤلاء.

قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ

قوله: 56- "قل إني نهيت" أمره الله سبحانه أن يعود إلى مخاطبة الكفار ويخبرهم بأنه نهى عن عبادة ما يدعونه ويعبدونه من دون الله: أي نهاه اله عن ذلك وصرفه وزجره، ثم أمره سبحانه بأن يقول لهم: "لا أتبع أهواءكم" أي لا أسلك المسلك الذي سلكتموه في دينكم من اتباع الأهواء والمشي على ما توجيه المقاصد الفاسدة التي يتسبب عنها الوقوع في الضلال. قوله: "قد ضللت إذاً" أي اتبعت أهواءكم فيما طلبتموه من عبادة معبوداتكم وطرد من أردتم طرده "وما أنا من المهتدين" إن فعلت ذلك، وهذه الجملة الإسمية معطوفة على الجملة التي قبلها، والمجيء بها إسمية عقب تلك الفعلية للدلالة على الدوام والثبات، وقرئ "ضللت" بفتح اللام وكسرها وهما لغتان. قال أبو عمرو: ضللت بكسر اللام لغة تميم، وهي قراءة ابن وثاب وطلحة بن مصرف، والأولى هي الأصح والأفصح، لأنها لغة أهل الحجاز، وهي قراءة الجمهور. قال الجوهري: والضلال والضلالة ضد الرشاد، وقد ضللت أضل. قال الله تعالى: "قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي" قال فهذه: يعني المفتوحة لغة نجد وهي الفصيحة، وأهل العالية يقول: ضللت بالكسر أضل انتهى.

قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ

قوله: 57- "قل إني على بينة من ربي" البينة: الحجة والبرهان: أي إني على برهان من ربي ويقين، لا على هوى وشك، أمره الله سبحانه بأن يبين لهم أن ما هو عليه من عبادة ربه هو عن حجة برهانية يقينية، لا كما هم عليه من اتباع الشبه الداحضة والشكوك الفاسدة التي لا مستند لها إلا مجرد الأهوية الباطلة. قوله: "وكذبتم به" أي بالرب أو بالعذاب أو بالقرآن أو بالبينة، والتذكير للضمير باعتبار المعنى. وهذه الجملة إما حالية بتقدير قد: أي والحال أن قد كذبتم به، أو جملة مستأنفة مبينة لما هم عليه من التكذيب بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحجج الواضحة والبراهين البينة.

قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ

قوله: 58- "ما عندي ما تستعجلون به" أخبرهم بأنه لم يكن عنده ما يتعجلونه من العذاب، فإنهم كانوا لفرط تكذيبهم، يستعجلون نزوله استهزاء، نحوه قوله: "أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً"، وقولهم: "اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء"، وقولهم: "متى هذا الوعد إن كنتم صادقين"، وقيل: "ما عندي ما تستعجلون به" من الآيات التي تقترحونها علي. قوله: "إن الحكم إلا لله": أي ما الحكم في كل شيء إلا لله سبحانه، ومن جملة ذلك ما تستعجلون به من العذاب أو الآيات المقترحة. والمراد: الحكم الفاصل بين الحق والباطل. قوله: "يقص الحق" قرأ نافع وابن كثير وعاصم "يقص" بالقاف والصاد المهملة، وقرأ الباقون "يقض" بالضاد المعجمة والياء، وكذا قرأ علي وأبو عبد الرحمن السلمي وسعيد بن المسيب، وهو مكتوب في المصحف بغير ياء. فعلى القراءة الأولى هو من القصص: أي يقص القصص الحق، أو نم قص أثره: أي يتبع الحق فيما يحكم به. وعلى القراءة الثانية هو من القضاء: أي يقضي القضاء بين عباده، والحق منتصب على المفعولية، أو على أنه صفة لمصدر محذوف: أي يقضي القضاء الحق، أو يقص القصص الحق "وهو خير الفاصلين" أي بين الحق والباطل بما يقضي به بين عباده ويفصله لهم في كتابه، ثم أمره الله سبحانه أن يقول لهم: "لو أن عندي ما تستعجلون به" أي ما تطلبون تعجيله بأن يكون إنزاله بكم مقدوراً لي وفي وسعي "لقضي الأمر بيني وبينكم" أي لقضى الله الأمر بيننا بأن ينزله الله سبحانه بكم بسؤالي له وطلبي ذلك، أو المعنى: لو كان العذاب الذي تطلبونه وتستعجلون به عندي وفي قبضتي لأنزلته بكم، وعند ذلك يقضي الأمر بيني وبينكم "والله أعلم بالظالمين" وبالوقت الذي ينزل فيه عذابهم وبما تقتضيه مشيئته من تأخيره استدراجاً لهم وإعذاراً إليهم.

وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ

قوله: 59- "وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو" المفاتح جمع مفتح بالفتح: وهو المخزن: أي عنده مخازن الغيب، جعل للأمور الغيبية مخازن تخزن فيها على طريق الاستعارة، أو جمع مفتح بكسر الميم، وهو المفتاح، جعل للأمور الغيبية مفاتح يتوصل بها إلى ما في المخازن منها على طريق الاستعارة أيضاً، ويؤيد أنها جمع مفتح بالكسر قراءة ابن السميفع (وعنده مفاتيح الغيب) فإن المفاتيح جمع مفتاح والمعنى: إن عنده سبحانه خاصة مخازن الغيب، أو المفاتح التي يتوصل بها إلى المخازن. وقوله: "لا يعلمها إلا هو" جملة مؤكدة لمضمون الجملة الأولى، وأنه لا علم لأحد من خلقه بشيء من الأمور الغيبية التي استأثر الله بعلمها، ويندرج تحت هذه الآية علم ما يستعجله الكفار من العذاب كما يرشد إليه السياق اندراجاً أولياً. وفي هذه الآية الشريفة ما يدفع أباطيل الكهان والمنجمين والرمليين وغيرهم من المدعين ما ليس من شأنهم، ولا يدخل تحت قدرتهم ولا يحيط به علمهم، ولقد ابتلي الإسلام وأهله بقوم سوء من هذه الأجناس الضالة والأنواع المخذولة ولم يربحوا من أكاذيبهم وأباطيلهم بغير خطة السوء المذكورة في قول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: "من أتى كاهناً أو منجماً فقد كفر بما أنزل على محمد". قوله: "ويعلم ما في البر والبحر" خصهما بالذكر لأنهما من أعظم مخلوقات الله: أي يعلم ما فيهما من حيوان وجماد علماً مفصلاً لا يخفى عليه منه شيء، أو خصهما لكونهما أكثر ما يشاهده الناس ويتطلعون لعلم ما فيهما "وما تسقط من ورقة إلا يعلمها" أي من ورق الشجر وهو تخصيص بعد التعميم: أي يعلمها ويعلم زمان سقوطها ومكانه، وقيل: المراد بالورقة ما يكتب فيه الآجال والأرزاق، وحكى النقاش عن جعفر بن محمد أن الورقة يراد بها هنا السقط من أولاد بني آدم، قال ابن عطية: وهذا قول جار على طريقة الرموز ولا يصح عن جعفر بن محمد ولا ينبغي أن يلتفت إليه "ولا حبة" كائنة "في ظلمات الأرض" أي في الأمكنة المظلمة، وقيل في بطن الأرض: "ولا رطب ولا يابس" بالخفض عطفاً على حبة: وهي معطوفة على ورقة. وقرأ ابن السميفع والحسن وغيرهما بالرفع عطفاً على موضع من ورقة، وقد شمل وصف الرطوبة واليبوسة جميع الموجودات. قوله: "إلا في كتاب مبين" هو اللوح المحفوظ، فتكون هذه الجملة بدل اشتمال من "إلا يعلمها" وقيل: هو عبارة عن علمه فتكون هذه الجملة بدل كل من تلك الجملة. وقد أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أبي عمران الجوني في قوله: "قل إني على بينة من ربي" قال: على ثقة. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عكرمة في قوله: "لقضي الأمر بيني وبينكم" قال: لقامت الساعة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي في قوله: "وعنده مفاتح الغيب" قال: يقول خزائن الغيب. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "وعنده مفاتح الغيب" قال: هن خمس "إن الله عنده علم الساعة" إلى قوله: "عليم خبير". وأخرج أحمد والبخاري وغيرهما عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله، لا يعلم ما في غد إلا الله، ولا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم متى يأتي المطر إلا الله، ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله، ولا يعلم أحد متى تقوم الساعة إلا الله". وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس "وما تسقط من ورقة إلا يعلمها" قال: ما من شجرة في بر ولا بحر إلا وبها ملك يكتب ما يسقط من ورقها. وأخرج أبو الشيخ عن مجاهد نحوه. وأخرج أبو الشيخ عن محمد بن جحادة في قوله: "وما تسقط من ورقة" قال: لله تبارك وتعالى شجرة تحت العرش ليس مخلوق إلا له فيها ورقة فإذا سقطت ورقته خرجت روحه من جسده، فذلك قوله: "وما تسقط من ورقة إلا يعلمها". وأخرج الخطيب في تاريخه بسند ضعيف عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من زرع على الأرض ولا ثمار على أشجار إلا عليها مكتوب بسم الله الرحمن الرحيم، هذا رزق فلان ابن فلان" فذلك قوله تعالى: "وما تسقط من" الآية. وقد رواه ابن يزيد بن هارون عن محمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره. وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس أنه تلا هذه الآية: "ولا رطب ولا يابس" فقال: الرطب واليابس من كل شيء.

وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ

قوله: 60- "يتوفاكم بالليل" أي ينيمكم فيقبض فيه نفوسكم التي بها تميزون وليس ذلك موتاً حقيقة، فهو مثل قوله: "الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها" والتوفي استيفاء الشيء، وتوفيت الشيء واستوفيته: إذا أخذته أجمع، قال الشاعر: إن بني الأدرم ليسوا من أحد ولا توفاهم قريش في العدد قيل: الروح إذا خرجت من البدن في المنام بقيت فيه الحياة، وقيل: لا تخرج منه الروح بل الذهن فقط، والأولى أن هذا أمر لا يعرفه إلا الله سبحانه. قوله: "ويعلم ما جرحتم بالنهار" أي كسبتم بجوارحكم من الخير والشر. قوله: "ثم يبعثكم فيه" أي في النهار يعني اليقظة، وقيل: يبعثكم من القبور فيه: أي في شأن ذلك الذي قطعتم فيه أعماركم من النوم بالليل والكسب بالنهار، وقيل في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: هو الذي يتوفاكم بالليل ثم يبعثكم بالنهار ويعلم ما جرحتم فيه، وقيل ثم يبعثكم فيه: أي في المنام، ومعنى الآية: أن إمهاله تعالى للكفار ليس للغفلة عن كفرهم، فإنه عالم بذلك ولكن "ليقضى أجل مسمى" أي معين لكل فرد من أفراد العباد من حياة ورزق "ثم إليه مرجعكم" أي رجوعكم بعد الموت "ثم ينبئكم بما كنتم تعملون" فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.

وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ

قوله: 61- "وهو القاهر فوق عباده" المراد فوقية القدرة والرتبة كما يقال: السلطان فوق الرعية، وقد تقدم بيانه في أول السورة. قوله: "ويرسل عليكم حفظة" أي ملائكة جعلهم الله حافظين لكم، ومنه قوله: "وإن عليكم لحافظين" والمعنى: أنه يرسل عليكم من يحفظكم من الآفات ويحفظ أعمالكم، والحفظة جمع حافظ، مثل كتبة جمع كاتب "وعليكم" متعلق بيرسل لما فيه من معنى الاستيلاء، وتقديمه على حفظة ليفيد العناية بشأنه وأنه أمر حقيق بذلك، وقيل هو متعلق بحفظة. قوله: "حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا" حتى يحتمل أن تكون هي الغائبة: أي ويرسل عليكم حفظة يحفظون ما أمروا بحفظه مما يتعلق بكم "حتى إذا جاء أحدكم الموت" ويحتمل أن تكون الابتدائية، والمراد بمجيء الموت مجيء علاماته. وقرأ حمزة " توفته رسلنا " وقرأ الأعمش تتوفاه والرسل هم أعوان ملك الموت، ومعنى توفته: استوفت روحه "لا يفرطون" أي لا يقصرون ويضيعون، وأصله من التقدم، وقال أبو عبيدة: لا يتوانون. وقرأ عبيد بن عمير لا يفرطون بالتخفيف: أي لا يجاوزون الحد فيما أمروا به من الإكرام والإهانة.

ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ

قوله: 62- "ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق" معطوف على توفته، والضمير راجع إلى أحد لأنه في معنى الكل مع الالتفات من الخطاب إلى الغيبة: أي ردوا بعد الحشر إلى الله: أي إلى حكمه وجزائه "مولاهم" مالكهم الذي يلي أمورهم "الحق" قرأ الجمهور بالجر صفة لاسم الله. وقرأ الحسن "الحق" بالنصب على إضمار فعل: أي أعني أو أمدح، أو على المصدر "وهو أسرع الحاسبين" لكونه لا يحتاج إلى ما يحتاجون إليه من الفكر والروية والتدبر. وقد أخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مع كل إنسان ملك إذا نام يأخذ نفسه، فإذا أذن الله في قبض روحه قبضه وإلا ردها الله، فذلك قوله تعالى: "يتوفاكم بالليل"". وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عكرمة في الآية قال: ما من ليلة إلا والله يقبض الأرواح كلها، فيسأل كل نفس عما عمل صاحبها من النهار، ثم يدعو ملك الموت فيقول: اقبض روح هذا، وما من يوم إلا وملك الموت ينظر في كتاب حياة الإنسان، قائل يقول ثلاثةً، وقائل يقول خمساً. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في الآية قال: أما وفاته إياهم بالليل فمنامهم. وأما "جرحتم بالنهار" فيقول: ما اكتسبتم بالنهار "ثم يبعثكم فيه" قال: في النهار "ليقضى أجل مسمى" وهو الموت. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس "ويعلم ما جرحتم" قال: ما كسبتم من الإثم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله: "ويرسل عليكم حفظة" قال: هم المعقبات من الملائكة يحفظونه ويحفظون عمله. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في الآية قال: أعوان ملك الموت من الملائكة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله: "وهم لا يفرطون" يقول: لا يضيعون.

قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ

قيل المراد بظلمات البر والبحر: شدائدهما. قال النحاس: والعرب تقول يوم مظلم: إذا كان شديداً، فإذا عظمت ذلك قالت: يوم ذو كوكب: أي يحتاجون فيه لشدة ظلمته إلى كوكب، وأنشد سيبويه: بني أسد هل تعلمون بلاءنا إذا كان يوم ذو كواكب أشنعا والاستفهام للتقريع والتوبيخ: أي من ينجيكم من شدائدهما العظيمة؟ قرأ أبو بكر عن عاصم 63- "خفية" بكسر الخاء، وقرأ الباقون بضمها، وهما لغتان، وقرأ الأعمش "وخفية" من الخوف، وجملة "تدعونه" في محل نصب على الحال: أي من ينجيكم من ذلك حال دعائكم له دعاء تضرع وخفية أو متضرعين ومخفين. والمراد بالتضرع هنا: دعاء الجهر. قوله: "لئن أنجيتنا" كذا قرأ أهل المدينة وأهل الشام. وقرأ الكوفيون "لئن أنجانا" والجملة في محل نصب على تقدير القول: أي قائلين لئن أنجيتنا من هذه الشدة التي نزلت بنا وهي الظلمات المذكورة "لنكونن من الشاكرين" لك على ما أنعمت به علينا من تخليصنا من هذه الشدائد.

قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ

قوله: 64- "قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب". قرأ الكوفيون وهشام: "ينجيكم" بالتشديد، وقرأ الباقون بالتخفيف، وقراءة التشديد تفيد التكثير، وقيل معناهما واحد، والضمير في "منها" راجع إلى الظلمات. والكرب: الغم يأخذ بالنفس، ومنه رجل مكروب. قال عنترة: ومكروب كشفت الكرب عنه بطعنة فيص لما دعاني اهـ "ثم أنتم تشركون" بالله سبحانه بعد أن أحسن إليك بالخلوص من الشدائد وذهاب الكروب شركاء لا ينفعونكم ولا يضرونكم ولا تقدرون على تخليصكم من كل ما ينزل بكم، فكيف وضعتم هذا الشرك موضع ما وعدتم به من أنفسكم من الشكر؟

قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ

ثم أمره الله سبحانه أن يقول لهم: 65- "هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً" أي الذي قدر على إنجائكم من تلك الشدائد ودفع عنكم تلك الكروب قادر على أن يعيدكم في شدة ومحنة وكرب يبعث عذابه عليكم من كل جانب، فالعذاب المبعوث من جهة الفوق: ما ينزل من السماء من المطر والصواعق. والمبعوث من تحت الأرجل: الخسف والزلازل والغرق، وقيل: "من فوقكم" يعني الأمراء الظلمة " من تحت أرجلكم " يعني السفلة وعبيد السوء. قوله: "أو يلبسكم شيعاً" قرأ الجمهور بفتح التحتية، من لبس الأمر: إذا خلطه، وقرأ أبو عبد الله المديني بضمها: أي يجعل ذلك لباساً لكم، قيل والأصل: أو يلبس عليكم أمركم، فحذف أحد المفعولين مع حرف الجر كما في قوله تعالى: "وإذا كالوهم أو وزنوهم" والمعنى: يجعلكم مختلطي الأهواء مختلفي النحل متفرقي الآراء، وقيل: يجعلكم فرقاً يقاتل بعضكم بعضاً. والشيع: الفرق، أي يخلطكم فرقاً قوله: "ويذيق بعضكم بأس بعض" أي يصيب بعضكم بشدة بعض من قتل وأسر ونهب "ويذيق" معطوف على "يبعث"، وقرئ "نذيق" بالنون "انظر كيف نصرف الآيات" نبين لهم الحجج والدلالات من وجوه مختلفة "لعلهم يفقهون" الحقيقة فيعودون إلى الحق الذي بيناه لهم بيانات متنوعة. وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: "قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر" يقول: من كرب البر والبحر. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم في تفسير الآية عن ابن عباس قال: يقول إذا أضل الرجل الطريق دعا الله "لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله: "قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم" قال: يعني من أمرائكم "أو من تحت أرجلكم" يعني سفلتكم "أو يلبسكم شيعاً" يعني بالشيع الأهواء المختلفة "ويذيق بعضكم بأس بعض" قال: يسلط بعضكم على بعض بالقتل والعذاب. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه من وجه آخر في تفسير الآية قال: "عذاباً من فوقكم" أئمة السوء "أو من تحت أرجلكم" قال: خدم السوء. وأخرج أبو الشيخ عنه أيضاً من وجه آخر قال: "من فوقكم" من قبل أمرائكم وأشرافكم "أو من تحت أرجلكم" قال: من قبل سفلتكم وعبيدكم. وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن أبي مالك "عذاباً من فوقكم" قال: القذف "أو من تحت أرجلكم" قال: الخسف. وأخرج أبو الشيخ عن مجاهد مثله. وأخرج أبو الشيخ عن مجاهد أيضاً "من فوقكم" قال: الصيحة والحجارة والريح "أو من تحت أرجلكم" قال: الرجفة والخسف، وهما عذاب أهل التكذيب "ويذيق بعضكم بأس بعض" قال: عذاب أهل الإقرار. وأخرج البخاري وغيره عن جابر بن عبد الله قال:" لما نزلت هذه الآية "قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:أعوذ بوجهك "أو من تحت أرجلكم" قال: أعوذ بوجهك "أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض" قال: هذا أهون أو أيسر". وأخرج أحمد وعبد بن حميد ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه وغيرهم من حديث طويل عن ثوبان، وفيه: "وسألته أن لا يسلط عليهم عدواً من غيرهم فأعطانيها، وسألته أن لا يذيق بعضهم بأس بعض فمنعنيها". وأخرج مسلم وغيره من حديث سعد بن أبي وقاص: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أقبل ذات يوم من العالية، حتى إذا مر بمسجد بني معاوية دخل فركع فيه ركعتين وصلينا معه ودعا ربه طويلاً، ثم انصرف إلينا فقال: سألت ربي ثلاثاً فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة: سألته أن لا يهلك أمتي بالغرق، وسألته أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيهما وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها". وأخرج أحمد والحاكم وصححه من حديث جابر بن عتيك نحوه. وأخرج نحوه أيضاً ابن مردويه من حديث أبي هريرة. وأخرج أيضاً ابن أبي شيبة وابن مردويه من حديث حذيفة بن اليمان نحوه. وأخرج أحمد والنسائي وابن مردويه عن أنس نحوه أيضاً. وأخرج أحمد والترمذي وحسنه وابن أبي حاتم وابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص "عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية "قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم أو من تحت أرجلكم" فقال النبي صلى الله عليه وسلم:أما إنها كائنة ولم يأت تأويلها بعد". وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية والضياء في المختارة عن أبي بن كعب في هذه الآية قال: هن أربع وكلهن عذاب وكلهن واقع لا محالة، فمضت اثنتان بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس وعشرين سنة: فألبسوا شيعاً، وذاق بعضهم بأس بعض، وبقيت اثنتان واقعتان لا محالة: الخسف، والرجم. والأحاديث في هذا الباب كثيرة وفيما ذكرناه كفاية.

وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ

قوله: 66- "وكذب به قومك" الضمير راجع إلى القرآن أو إلى العذاب. وقومه المكذبون: هم قريش، وقيل كل معاند، وجملة "وهو الحق" في محل نصب على الحال: أي كذبوا بالقرآن أو العذاب، والحال أنه حق. وقرأ ابن أبي عبلة "وكذبت" بالتاء "قل لست عليكم بوكيل" أي لست بحفيظ على أعمالكم حتى أجازيكم عليها. قيل وهذه الآية منسوخة بآية القتال، وقيل ليست بمنسوخة إذ لم يكن إيمانهم في وسعه.

لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ

قوله: 67- " لكل نبإ مستقر " أي لكل شيء وقت يقع فيه. والنبأ: الشيء الذي ينبأ عنه، وقيل المعنى: لكل عمل جزاء. قال الزجاج: يجوز أن يكون وعيداً لهم بما ينزل بهم في الدنيا، وقال الحسن: هذا وعيد من الله للكفار، لأنهم كانوا لا يقرون بالبعث "وسوف تعلمون" ذلك بحصوله ونزوله بهم كما علموا يوم بدر بحصول ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوعدهم به.

وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ

قوله: 68- "وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم" الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، أو لكل من يصلح له. والخوض: أصله في الماء ثم استعمل في غمرات الأشياء التي هي مجاهل تشبيهاً بغمرات الماء، فاستعير من المحسوس للمعقول، وقيل هو مأخوذ من الخلط، وكل شيء خضته فقد خلطته، ومنه خاض الماء بالعسل: خلطه. والمعنى: إذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا بالتكذيب والرد والاستهزاء فدعهم ولا تقعد معهم لسماع مثل هذا المنكر العظيم حتى يخوضوا في حديث مغاير له، أمره الله سبحانه بالإعراض عن أهل المجالس التي يستهان فيها بآيات الله إلى غاية هي الخوض في غير ذلك. وفي هذه الآية موعظة عظيمة لمن يتسمح بمجالسة المبتدعة الذين يحرفون كلام الله ويتلاعبون بكتابه وسنة رسوله، ويرد ذلك إلى أهوائهم المضلة وبدعهم الفاسدة، فإنه إذا لم ينكر عليهم ويغير ما هم فيه فأقل الأحوال أن يترك مجالستهم، وذلك يسير عليه غير عسير. وقد يجعلون حضوره معهم مع تنزهه عما يتلبسون به شبهة يشبهون بها على العامة، فيكون في حضوره مفسدة زائدة على مجرد سماع المنكر. وقد شاهدنا من هذه المجالس الملعونة ما لا يأتي عليه الحصر، وقمنا في نصرة الحق ودفع الباطل بما قدرنا عليه وبلغت إليه طاقتنا، ومن عرف هذه الشريعة المطهرة حق معرفتها علم أن مجالسة أهل البدع المضلة فيها من المفسدة أضعاف أضعاف ما في مجالسة من يعصي الله بفعل شيء من المحرمات، ولا سيما لمن كان غير راسخ القدم في علم الكتاب والسنة، فإنه ربما يتفق عليه من كذباتهم وهذيانهم ما هو من البطلان بأوضح مكان، فينقدح في قلبه ما يصعب علاجه ويعسر دفعه فيعمل بذلك مدة عمره ويلقى الله به معتقداً أنه من الحق وهو من أبطل الباطل وأنكر المنكر. قوله: "وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى" إما هذه هي الشرطية وتلزمها غالباً نون التأكيد ولا تلزمها نادراً ومنه قول الشاعر: إما يصبك عدو في منازله يوماً فقل كيف يستعلي وينتصر وقرأ ابن عباس ينسيك بتشديد السين، ومثله قول الشاعر: وقد ينسيك بعض الحاجة الكسل والمعنى: إن أنساك الشيطان أن تقوم عنهم فلا تقعد بعد الذكرى إذا ذكرت "مع القوم الظالمين" أي الذين ظلموا أنفسهم بالاستهزاء بالآيات والتكذيب بها. قيل: وهذا الخطاب وإن كان ظاهره للنبي صلى الله عليه وسلم فالمراد التعريض لأمته لتنزهه عن أن ينسيه الشيطان، وقيل: لا وجه لهذا فالنسيان جائز عليه كما نطقت بذلك الأحاديث الصحيحة: "إنما أنا بشر أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني" ونحو ذلك.

وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ

قوله: 69- "وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء" أي ما على الذين يتقون مجالسة الكفار عند خوضهم في آيات الله من حساب الكفار من شيء. وقيل المعنى: ما على الذين يتقون ما يقع منهم من الخوض في آيات الله في مجالستهم لهم من شيء: وعلى هذا التفسير ففي الآية الترخيص للمتقين من المؤمنين في مجالسة الكفار إذا اضطروا إلى ذلك كما سيأتي عند ذكر السبب. قيل: وهذا الترخيص كان في أول الإسلام، وكان الوقت وقت تقية، ثم نزل قوله تعالى: "وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره" فنسخ ذلك. قوله: " ولكن ذكرى لعلهم "، ذكرى في موضع نصب على المصدر، أو رفع على أنها مبتدأ، وخبرها محذوف: أي ولكن عليهم ذكرى. وقال الكسائي: المعنى ولكن هذه ذكرى. والمعنى على الاستدراك من النفي السابق: أي ولكن عليهم الذكرى للكافرين بالموعظة والبيان لهم بأن ذلك لا يجوز. أما على التفسير الأول فلأن مجرد اتقاء مجالس هؤلاء الذين يخوضون في آيات الله لا يسقط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وأما على التفسير الثاني فالترخيص في المجالسة لا يسقط التذكير "لعلهم يتقون" الخوض في آيات الله إذا وقعت منكم الذكرى لهم. وأما جعل الضمير للمتقين فبعيد جداً.

وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِك

قوله: 70- "وذر الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً" أي اترك هؤلاء الذين اتخذوا الدين الذي كان يجب عليهم العمل به والدخول فيه لعباً ولهواً ولا تعلق قلبك بهم فإنهم أهل تعنت وإن كنت مأموراً بإبلاغهم الحجة. وقيل هذه الآية منسوخة بآية القتال، وقيل المعنى: أنهم اتخذوا دينهم الذي هم عليه لعباً ولهواً كما في فعلهم بالأنعام من تلك الجهالات والضلالات المتقدم ذكرها، وقيل المراد بالدين هنا العيد: أي اتخذوا عيدهم لعباً ولهواً، وجملة "وغرتهم الحياة الدنيا" معطوفة على "اتخذوا" أي غرتهم حتى آثروها على الآخرة وأنكروا البعث وقالوا: "إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين". قوله: "وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت" الضمير في "به" للقرآن أو للحساب. والإبسال: تسليم المرء نفسه للهلاك، ومنه أبسلت ولدي: أي رهنته في الدم، لأن عاقبة ذلك الهلاك. قال النابغة: ونحن رهناً بالإفاقة عامراً بما كان في الدرداء رهناً فأبسلا اهـ أي فهلك، والدرداء: كتيبة كانت لهم معروفة بهذا الاسم، فالمعنى: وذكر به خشية أو مخافة أو كراهة أن تهلك نفس بما كسبت: أي ترتهن وتسلم للهلكة، وأصل الإبسال: المنع، ومنه شجاع باسل: أي ممتنع من قرنه. قوله: "وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها" العدل هنا: الفدية. والمعنى: وإن بذلت تلك النفس التي سلمت للهلاك كل فدية لا يؤخذ منها ذلك العدل حتى تنجو به من الهلاك، وفاعل "يؤخذ" ضمير يرجع إلى العدل، لأنه بمعنى المفدى به كما في قوله: "ولا يؤخذ منها عدل" وقيل فاعله منها، لأن العدل هنا مصدر لا يسند إليه الفعل، وكل عدل منصوب على المصدر: أي عدلاً كل عدل، والإشارة بقوله: "أولئك" إلى المتخذين دينهم لعباً ولهواً، وخبره "الذين أبسلوا بما كسبوا" أي هؤلاء الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً هم الذين سلموا للهلاك بما كسبوا، و "لهم شراب من حميم" جواب سؤال مقدر كأنه قيل كيف حال هؤلاء؟ فقيل لهم شراب من حميم، وهو الماء الحار، ومثله قوله تعالى: " يصب من فوق رؤوسهم الحميم " وهو هنا شراب يشربونه فيقطع أمعاءهم.

قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُ

قوله: 71- "قل أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا" أمره الله سبحانه بأن يقول لهم هذه المقالة، والاستفهام للتوبيخ: أي كيف ندعوا من دون الله أصناماً لا تنفعنا بوجه من وجوه النفع إن أردنا منها نفعاً ولا نخشى ضرها بوجه من الوجوه، ومن كان هكذا فلا يستحق العبادة "ونرد على أعقابنا" عطف على ندعو. والأعقاب، جمع عقب: أي كيف ندعو من كان كذلك ونرجع إلى الضلالة التي أخرجنا الله منها. قال أبو عبيدة: يقال لمن رد عن حاجته ولم يظفر بها قد رد على عقبيه. وقال المبرد: تعقب بالشر بعد الخير وأصله من المعاقبة والعقبى، وهما ما كان تالياً للشيء واجباً أن يتبعه، ومنه "والعاقبة للمتقين"، ومنه عقب الرجل، ومنه العقوبة، لأنها تالية للذنب. قوله: "كالذي استهوته الشياطين في الأرض" هوى يهوي إلى الشيء أسرع إليه. وقال الزجاج: هو من هوي النفس، أي زين له الشيطان هواه، و "استهوته الشياطين" هوت به، والكاف في "كالذي" إما نعت مصدر محذوف: أي نرد على أعقابنا رداً كالذي، أو في محل نصب على الحال من فاعل نرد: أي نرد حال كوننا مشبهين للذي استهوته الشياطين: أي ذهبت به مردة الجن بعد أن كان بين الإنس. قرأ الجمهور "استهوته" وقرأ حمزة " استهوته " على تذكير الجمع. وقرأ ابن مسعود والحسن " استهوته الشياطين " وهو كذلك في قراءة أبي، و "حيران" حال: أي حال كونه متحيراً تائهاً لا يدري كيف يصنع؟ والحيران هو الذي لا يهتدي لجهة، وقد حار حيرة وحيرورة: إذا تردد، وبه سمي الماء المستنقع الذي لا منفذ له حائراً. قوله: "له أصحاب يدعونه إلى الهدى" صفة لحيران أو حالية: أي له رفقة يدعونه إلى الهدى يقولون له ائتنا فلا يجيبهم ولا يهتدي بهديهم. قوله: "قل إن هدى الله هو الهدى" أمره الله سبحانه بأن يقول لهم: "إن هدى الله" أي دينه الذي ارتضاه لعباده "هو الهدى" وما عداه باطل "ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه" "وأمرنا" معطوف على الجملة الإسمية: أي من جملة ما أمهر الله بأن يقوله، واللام في "لنسلم" هي لام العلة، والمعلل هو الأمر: أي أمرنا لأجل نسلم لرب العالمين. وقال الفراء: المعنى أمرنا بأن نسلم لأن العرب تقول أمرتك لتذهب، وبأن تذهب بمعنى. وقال النحاس: سمعت ابن كيسان يقول: هي لام الخفض.

وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ

قوله: 72- "وأن أقيموا الصلاة واتقوه" معطوف على "لنسلم" على معنى وأمرنا أن نسلم وأن أقيموا، ويجوز أن يكون عطفاً على يدعونه على المعنى: أي يدعونه إلى الهدى ويدعونه أن أقيموا "وهو الذي إليه تحشرون".

وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ

فكيف تخالفون أمره 73- "وهو الذي خلق السموات والأرض" خلقاً "بالحق" أو حال كون الخلق بالحق فكيف تعبدون الأصنام المخلوقة. قوله: "ويوم يقول كن فيكون قوله الحق" أي واذكر يوم يقول كن فيكون أو واتقوا يوم يقول كن فيكون، وقيل هو عطف على الهاء في "واتقوه" وقيل إن يوم ظرف لمضمون جملة "قوله الحق" والمعنى وأمره المتعلق بالأشياء الحق: أي المشهود له بأنه حق، وقيل قوله مبتدأ، والحق صفة له "ويوم يقول كن فيكون" خبره مقدماً عليه، والمعنى: قوله المتصف بالحق كائن يوم يقول كن فيكون، وقيل إن قوله مرتفع بيكون، والحق صفته: أي يوم يقول كن يكون قوله الحق. وقرأ ابن عامر "فنكون" بالنون، وهو إشارة إلى سرعة الحساب. وقرأ الباقون بالياء التحتية وهو الصواب. قوله: "وله الملك يوم ينفخ في الصور" الظرف منصوب بما قبله: أي له الملك في هذا اليوم، وقيل هو بدل من اليوم الأول، والصور قرن ينفخ فيه النفخة الأولى للفناء، والثانية للإنشاء، وكذا قال الجوهري: إن الصور القرن، قال الراجز: لقد نطحناهم غداة الجمعين نطحاً شديداً لا كنطح الصورين والصور بضم الصاد وبكسرها لغة، وحكي عن عمرو بن عبيد أنه قرأ "يوم ينفخ في الصور" بتحريك الواو، جمع صورة، والمراد: الخلق. قال أبو عبيدة: وهذا وإن كان محتملاً يرد بما في الكتاب والسنة. وقال الفراء: كن فيكون، يقال إنه للصور خاصة: أي ويوم يقول للصور كن فيكون. قوله: "عالم الغيب والشهادة" رفع عالم على أنه صفة للذي خلق السموات والأرض، ويجوز أن يرتفع على إضمار مبتدأ: أي هو عالم الغيب والشهادة، وروي عن بعضهم أنه قرأ ينفخ بالبناء للفاعل، فيجوز على هذه القراءة أن يكون الفاعل "عالم الغيب" ويجوز أن يرتفع بفعل مقدر كما أنشد سيبويه: ليبك يزيد ضارع لخصومة ومختبط مما تطيح الطوائح أي يبكيه مختبط. وقرأ الحسن والأعمش "عالم" بالخفض على البدل من الهاء في "له الملك"، "وهو الحكيم" في جميع ما يصدر عنه "الخبير" بكل شيء. وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله: "وكذب به قومك" يقول: كذبت قريش بالقرآن "وهو الحق" وأما الوكيل فالحفيظ، وأما " لكل نبإ مستقر " فكان نبأ القوم استقر يوم بدر بما كان يعدهم من العذاب. وأخرج النحاس في ناسخه عن ابن عباس في قوله: "لست عليكم بوكيل" قال: نسخ هذه الآية آية السيف "فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس "لكل نبإ مستقر" يقول: حقيقة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الحسن أنه قال في قوله: "لكل نبإ مستقر" قال: حبست عقوبتها حتى عمل ذنبها أرسلت عقوبتها. وأخرج ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله: "لكل نبإ مستقر" قال: فعل وحقيقة ما كان منه في الدنيا وما كان منه في الآخرة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم" ونحو هذا في القرآن قال: أمر الله المؤمنين بالجماعة ونهاهم عن الاختلاف والفرقة وأخبرهم أنما أهلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا" قال: يستهزئون بها، نهى محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقعد معهم إلا أن ينسى، فإذا ذكر فليقم وذلك قول الله: "فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين". وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن محمد بن سيرين أنه كان يرى أن هذه الآية نزلت في أهل الأهواء. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وأبو نعيم في الحلية عن أبي جعفر قال: لا تجالسوا أهل الخصومات فإنهم الذين يخوضون في آيات الله. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن محمد بن علي قال: إن أصحاب الأهواء من الذين يخوضون في آيات الله. وأخرج أبو الشيخ عن مقاتل قال: كان المشركون بمكة إذا سمعوا القرآن من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خاضوا واستهزأوا، فقال المسلمون: لا تصلح لنا مجالستهم نخاف أن نخرج حين نسمع قولهم ونجالسهم فلا نعيب عليهم، فأنزل الله هذه الآية. وأخرج أبو الشيخ أيضاً عن السدي أنه قال: إن هذه الآية منسوخة بآية السيف. وأخرج النحاس عن ابن عباس في قوله: "وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء" قال: نسخت هذه الآية المكية بالآية المدنية، وهي قوله: "وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها" الآية. وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن مجاهد "وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء" إن قعدوا ولكن لا يقعدوا. وأخرج ابن أبي شيبة عن هشام بن عروة عن عمر بن عبد العزيز أنه أتى بقوم قعدوا على شراب معهم رجل صائم فضربه وقال: لا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "وذر الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً" قال: هو مثل قوله: "ذرني ومن خلقت وحيداً" يعني أنه للتهديد. وأخرج عبد بن حميد وأبو داود في ناسخه عن قتادة في هذه الآية قال: نسختها آية السيف. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه في قوله: "لعباً ولهواً" قال: أكلاً وشرباً. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "أن تبسل" قال: أن تفضح، وفي قوله: "أبسلوا" قال: فضحوا. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه في قوله: "أبسلوا بما كسبوا" قال: أسلموا بجرائرهم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: "قل أندعوا من دون الله" قال: هذا مثل ضربه الله للآلهة وللدعاة الذين يدعون إلى الله. وقوله: "كالذي استهوته الشياطين في الأرض" يقول: أضلته، وهم الغيلان يدعونه باسمه واسم أبيه وجده فيتبعها ويرى أنه في شيء فيصبح وقد ألقته في هلكة، وربما أكلته أو تلقيه في مضلة من الأرض يهلك فيها عطشاً، فهذا مثل من أجاب الآلهة التي تعبد من دون الله. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: "كالذي استهوته الشياطين" قال: هو الرجل لا يستجيب لهدي الله، وهو الرجل أطاع الشيطان وعمل في الأرض بالمعصية وحاد عن الحق وضل عنه، و "له أصحاب يدعونه إلى الهدى" ويزعمون أن الذي يأمرونه به هدى يقول الله ذلك لأوليائهم من الإنس يقول: "إن الهدى هدى الله" والضلالة ما تدعو إليه الجن. وأخرج ابن المبارك في الزهد وعبد بن حميد وأبو داود والترمذي وحسنه والنسائي وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في البعث عن عبد الله بن عمرو قال:" سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الصور: فقال:قرن ينفخ فيه" والأحاديث الواردة في كيفية النفخ ثابتة في كتب الحديث لا حاجة لنا إلى إيرادها ها هنا. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "عالم الغيب والشهادة" يعني أن عالم الغيب والشهادة هو الذي ينفخ في الصور.

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آَزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آَلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ

قوله: 74- "لأبيه آزر" قال الجوهري: آزر اسم أعجمي، وهو مشتق من آزر فلان فلاناً إذا عاونه، فهو مؤازر قومه على عبادة الأصنام. وقال ابن عباس: إنه مشتق من القوة. قال الجويني في النكت من التفسير له: ليس بين الناس اختلاف في أن اسم والد إبراهيم تارخ، والذي في القرآن يدل على أن اسمه آزر. وقد تعقب في دعوى الاتفاق بما روي عن ابن إسحاق والضحاك والكلبي أنه كان له اسمان: آزر وتارخ. وقال مقاتل: آزر لقب. وتارخ اسم. وقال سليمان التيمي: إن آزر سب وعتب، ومعناه في كلامهم المعوج. وقال الضحاك: معنى آزر الشيخ الهم بالفارسية. وقال الفراء: هي صفة ذم بلغتهم كأنه قال: يا مخطئ. وروي مثله عن الزجاج. وقال مجاهد: هو اسم صنم. وعلى هذا إطلاق اسم الصنم على أبيه إما للتعبير له لكونه معبوده، أو على حذف مضاف: أي قال لأبيه عابد آزر أو أتعبد آزر على حذف الفعل. وقرأ ابن عباس أإزر بهمزتين الأولى مفتوحة والثانية مكسورة، وروي عنه أنه قرأ بهمزتين مفتوحتين، ومحل "إذ قال" النصب على تقدير واذكر إذ قال إبراهيم، ويكون هذا المقدر معطوفاً على "قل أندعوا من دون الله" وقيل هو معطوف على "وذكر به أن تبسل" وآزر عطف بيان. قوله: "أتتخذ أصناماً آلهة" الاستفهام للإنكار: أي أتجعلها آلهة لك تبعدها "إني أراك وقومك" المتبعين لك في عبادة الأصنام "في ضلال" عن طريق الحق "مبين" واضح.

وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ

قوله: 75- "وكذلك نري إبراهيم" أي ومثل تلك الإراءة نري إبراهيم، والجملة معترضة، و "ملكوت السموات والأرض" ملكهما، وزيدت التاء والواو للمبالغة في صفة، ومثله الرغبوت والرهبوت مبالغة في الرغبة والرهبة. قيل: أراد بملكوت السموات والأرض ما فيهما من الخلق، وقيل: كشف الله له عن ذلك حتى رأى إلى العرش وإلى أسفل الأرضين، وقيل: رأى من ملكوت السموات والأرض ما قصه الله في هذه الآية، وقيل: المراد بملكوتهما الربوبية والإلهية: أي نريه ذلك ونوفقه لمعرفته بطريق الاستدلال التي سلكها، ومعنى "نري" أريناه، حكاية حال ماضية. قوله: "وليكون من الموقنين" متعلق بمقدر: أي أريناه ذلك "ليكون من الموقنين" وقد كان آزر وقومه يعبدون الأصنام والكواكب والشمس والقمر، فأراد أن ينبههم على الخطأ، وقيل: إن ولد في سرب وجعل رزقه في أطراف أصابعه فكان يمصها. وسبب جعله في السرب أن النمروذ رأى رؤيا أن ملكه يذهب على يد مولود فأمر بقتل كل مولود، والله أعلم.

فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ

قوله: 76- "فلما جن عليه الليل" أي ستره بظلمته، ومنه الجنة والمجن والجن كله من الستر، قال الشاعر: ولولا جنان الليل أدرك ركضنا بذي الرمث والأرطي عياض بن ثابت والفاء للعطف على قال إبراهيم: أي واذكر إذ قال وإذ جن عليه الليل فهو قصة أخرى غير قصة عرض الملكوت عليه، وجواب لما "رأى كوكباً" قيل: رآه من شق الصخرة الموضوعة على رأس السرب الذي كان فيه، وقيل: رآه لما أخرجه أبوه من السرب وكان وقت غيبوبة الشمس، قيل رأى المشتري وقيل الزهرة. قوله: "هذا ربي" جملة مستأنفة جواب سؤال مقدر كأنه قيل: فماذا قال عند رؤية الكوكب؟ قيل: وكان هذا منه عند قصور النظر لأنه في زمن الطفولية، وقيل: أراد قيام الحجة على قومه كالحاكي لما هو عندهم وما يعتقدون لأجل إلزامهم، وبالثاني قال الزجاج، وقيل هو على حذف حرف الاستفهام: أي أهذا ربي، ومعناه إنكار أن يكون مثل هذا رباً، ومثله قوله تعالى: " أفإن مت فهم الخالدون " أي أفهم الخالدون، ومثله قول الهذلي: رقوني وقالوا يا خويلد لم ترع فقلت وأنكرت الوجوه هم هم أي أهم هم، وقول الآخر: لعمرك ما أدري وإن كنت داريا بسبع رمين الجمر أم بثمانيا أي أبسبع، وقيل المعنى: وأنتم تقولون هذا ربي فأضمر القول، وقيل المعنى على حذف مضاف: أي هذا دليل ربي "فلما أفل" أي غرب "قال" إبراهيم " لا أحب الأفلين " أي الآلهة التي تغرب، فإن الغروب تغير من حال إلى حال، وهو دليل الحدوث.

فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ

77- "فلما رأى القمر بازغاً" أي طالعاً، يقال: بزغ القمر إذا ابتدأ في الطلوع، والبزغ: الشق كان يشق بنوره الظلمة "فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي" أي لئن لم يثبتني على الهداية ويوفقني للحجة "لأكونن من القوم الضالين" الذين لا يهتدون للحق فيظلمون أنفسهم ويحرمونها حظها من الخير.

فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ

78- "فلما رأى الشمس بازغة" بازغاً وبازغة منصوبان على الحال، لأن الرؤية بصرية، وإنما "قال هذا ربي" مع كون الشمس مؤنثة، لأن مراده هذا الطالع قاله الكسائي والأخفش، وقيل هذا الضوء، وقيل الشخص "هذا أكبر" أي بما تقدمه من الكوكب والقمر "قال يا قوم إني بريء مما تشركون" أي من الأشياء التي تجعلونها شركاء لله وتعبدونها، وما موصولة أو مصدرية، قال: بهذا لما ظهر أن هذه الأشياء مخلوقة لا تنفع ولا تضر مستدلاً على ذلك بأفولها الذي هو دليل حدوثها.

إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ

79- " إني وجهت وجهي " أي قصدت بعبادتي وتوحيدي الله عز وجل، وذكر الوجه لأنه العضو الذي يعرف به الشخص، أو لأنه يطلق على الشخص كله كما تقدم، وقد تقدم معنى "فطر السموات والأرض حنيفاً" مائلاً إلى الدين الحق.

وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ

قوله: 80- "وحاجه قومه" أي وقعت منهم المحاججة له في التوحيد بما يدل على ما يدعونه من أن ما يشركون به ويعبدونه من الأصنام آلهة، فأجاب إبراهيم عليه السلام بما حكاه الله عنه أنه قال: "أتحاجوني في الله" أي في كونه لا شريك له ولا ند ولا ضد. وقرأ نافع بتخفيف نون "أتحاجوني". وقرأ الباقون بتشديدها بإدغام نون الجمع في نون الوقاية ونافع خفف فحذف إحدى النونين، وقد أجاز ذلك سيبويه. وحكي عن أبي عمرو بن العلاء أن قراءة نافع لحن، وجملة " وقد هدان " في محل نصب على الحال، أي هداني إلى توحيده وأنتم تريدون أن أكون مثلكم في الضلالة والجهالة وعدم الهداية. قوله: "ولا أخاف ما تشركون به" قال: هذا لما خوفوه من آلهتهم بأنها ستغضب عليه وتصيبه بمكروه: أي إني لا أخاف ما هو مخلوق من مخلوقات الله لا يضر ولا ينفع، والضمير في به يجوز رجوعه إلى الله وإلى معبوداتهم المدلول عليها بما في "ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئاً" أي إلا وقت مشيئة ربي بأن يلحقني شيئاً من الضرر بذنب عملته فالأمر إليه، وذلك منه لا من معبوداتكم الباطلة التي لا تضر ولا تنفع. والمعنى: على نفي حصول ضرر من معبوداتهم على كل حال، وإثبات الضرر والنفع لله سبحانه وصدورهما حسب مشيئته، ثم علل ذلك بقوله: "وسع ربي كل شيء علماً" أي إن علمه محيط بكل شيء، فإذا شاء الخير كان حسب مشيئته، وإذا شاء إنزال شر بي كان، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ثم قال لهم مكملاً للحجة عليهم ودافعاً لما خوفوه به.

وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ

81- "وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطاناً" أي كيف أخاف ما لا يضر ولا ينفع ولا يخلق ولا يزرق، والحال أنكم لا تخافون ما صدر منكم من الشرك بالله، وهو الضار النافع الخالق الرازق. وأورد عليهم هذا الكلام الإلزامي الذي لا يجدون عنه مخلصاً ولا متحولاً، والاستفهام للإنكار عليهم والتقريع لهم، "ما" في "ما لم ينزل به عليكم سلطاناً" مفعول أشركتم: أي ولا تخافون أنكم جعلتم الأشياء التي لم ينزل بها عليكم سلطاناً شركاء لله، أو لمعنى أن الله سبحانه لم يأذن بجعلها شركاء له ولا نزل عليهم بإشراكها حجة يحتجون بها، فيكف عبدوها واتخذوها آلهة وجعلوها شركاء لله سبحانه قوله: "فأي الفريقين أحق بالأمن" المراد بالفريقين فريق المؤمنين وفريق المشركين: أي إذا كان الأمر على ما تقدم من أن معبودي هو الله المتصف بتلك الصفات، ومعبودكم هي تلك المخلوقات، كيف تخوفوني بها، وكيف أخافها؟ وهي بهذه المنزلة ولا تخافون من إشراككم بالله سبحانه، وبعد هذا فأخبروني: أي الفريقين أحق بالأمن وعدم الخوف "إن كنتم تعلمون" بحقيقة الحال وتعرفون البراهين الصحيحة وتميزونها عن الشبه الباطلة، ثم قال الله سبحانه قاضياً بينهم ومبيناً لهم.

الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ

82- "الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم" أي هم الأحق بالأمن من الذين أشركوا، وقيل هو من تمام قول إبراهيم، وقيل هو من قول قوم إبراهيم. ومعنى "لم يلبسوا إيمانهم بظلم" لم يخلطوه بظلم. والمراد بالظلم الشرك، لما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن مسعود قال:" لما نزلت هذه الآية شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: أينا لم يظلم نفسه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:ليس هو كما تظنون، إنما هو كما قال لقمان: "يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم"" والعجب من صاحب الكشاف حيث يقول في تفسير هذه الآية: وأبى تفسير الظلم بالكفر لفظ اللبس وهو لا يدري أن الصادق المصدوق قد فسرها بهذا، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل والإشارة بقوله "أولئك" إلى الموصول المتصف بما سبق، و "لهم الأمن" جملة وقعت خبراً عن اسم الإشارة، هذا أوضح ما قيل مع احتمال غيره من الوجوه "وهم مهتدون" إلى الحق ثابتون عليه، وغيرهم على ضلال وجهل.

وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ

والإشارة بقوله: 83- "تلك حجتنا" إلى ما تقدم من الحجج التي أوردها إبراهيم عليهم: أي تلك البراهين التي أوردها إبراهيم عليهم من قوله: "فلما جن عليه الليل" إلى قوله: "وهم مهتدون". "حجتنا آتيناها إبراهيم" أي أعطيناه إياها وأرشدناه إليها، وجملة "آتيناها إبراهيم" في محل نصب على الحال، أو في محل رفع على أنها خبر ثان لاسم الإشارة "على قومه" أي حجة على قومه "نرفع درجات من نشاء" بالهداية والإرشاد إلى الحق وتلقين الحجة، أو بما هو أعم من ذلك "إن ربك حكيم عليم" أي حكيم في كل ما يصدر عنه عليم بحال عباده، وأن منهم من يستحق الرفع ومنهم من لا يستحقه. وقد أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس قال في قوله تعالى: "وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر" قال: الآزر الصنم، وأبو إبراهيم اسمه يأزر وأمه اسمها مثلي وامرأته اسمها سارة، وسريته أم إسماعيل اسمها هاجر. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: آزر لم يكن بأبيه ولكنه اسم صنم. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال: اسم أبيه تارخ واسم الصنم آزر. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج نحوه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن سليمان التيمي، أنه قرأ "وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر" قال: بلغني أنها أعوج وأنها أشد كلمة قالها إبراهيم لأبيه. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس أنه قالك إن والد إبراهيم لم يكن اسمه آزر، وإنما اسمه تارخ. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عنه في قوله تعالى: "وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض" قال: الشمس والقمر والنجوم. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه قال: في الآية كشف ما بين السموات حتى نظر إليهن على صخرة، والصخرة على حوت، وهو الحوت الذي منه طعام الناس، والحوت في سلسلة، والسلسلة في خاتم العزة. وأخرج ابن أبي شيبة عبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد في الآية: قال سلطانهما. وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس في قوله: "وحاجه قومه" يقول: خاصموه. وأخرج ابن أبي حاتم عن عباس في قوله: "أتحاجوني" قال: أتخاصموني. وأخرج ابن أبي شيبة والحكيم الترمذي وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي بكر الصديق أنه فسر "ولم يلبسوا إيمانهم بظلم" بالشرك، وكذلك أخرج أبو الشيخ عن عمر بن الخطاب، وكذلك أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن حذيفة بن اليمان، وكذلك أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن سلمان الفارسي، وكذلك أخرجا أيضاً عن أبي بن كعب، وكذلك أخرج ابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس. وأخرج عنه من طريق أخرى عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ مثله، وقد روي عن جماعة من التابعين مثل ذلك، ويغني عن الجميع ما قدمنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تفسير الآية كما هو ثابت في الصحيحين وغيرهما. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله تعالى: "وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه" قال: خصمهم. وأخرج أبو الشيخ عن زيد بن أسلم في قوله: "نرفع درجات من نشاء" قال: بالعلم. وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك قال: إن للعلماء درجات كدرجات الشهداء.

وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ

قوله: 84- "ووهبنا له" معطوف على جملة "وتلك حجتنا" عطف جملة فعلية على جملة إسمية وقيل معطوف على آتيناها والأول أولى. والمعنى: ووهبنا له ذلك جزاء له على الاحتجاج في الدين وبذل النفس فيه، و "كلاً هدينا" انتصاب كلا على أنه مفعول لما بعده مقدم عليه للقصر: أي كل واحد منهما هديناه، وكذلك نوحاً منصوب بهدينا الثاني أو بفعل مضمر يفسره ما بعده "ومن ذريته" أي من ذرية إبراهيم، وقال الفراء: من ذرية نوح. واختاره ابن جرير الطبري والقشيري وابن عطية، واختار الأول الزجاج، واعترض عليه بأنه عد من هذه الذرية يونس ولوطاً وما كانا من ذرية إبراهيم، فإن لوطاً هو ابن أخي إبراهيم، وانتصب "داود وسليمان" بفعل مضمر أي وهدينا من ذريته داود وسليمان، وكذلك ما بعدهما، وإنما عد الله سبحانه هداية هؤلاء الأنبياء من النعم التي عددها على إبراهيم، لأن شرف الأبناء متصل بالآباء. ومعنى من قبل في قوله: "ونوحاً هدينا من قبل" أي من قبل إبراهيم، والإشارة بقوله: "وكذلك" إلى مصدر الفعل المتأخر: أي ومثل ذلك الجزاء "نجزي المحسنين".

وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ

85- "وإلياس". قال الضحاك: هو من ولد إسماعيل، وقال القتيبي: هو من سبق يوشع بن نون. وقرأ الأعرج والحسن وقتادة "وإلياس" بوصل الهمزة.

وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ

وقرأ أهل الحرمين وأبو عمرو وعاصم واليسع مخففاً. وقرأ الكوفيون إلا عاصماً بلامين. وكذا قرأ الكسائي ورد القراءة الأولى، ولا وجه للرد فهو اسم أعجمي، والعجمة لا تؤخذ بالقياس بل تؤدي على حسب السماع، ولا يمتنع أن يكون في الاسم لغتان للعجم، أو تغيره العرب تغييرين. قال المهدوي: من قرأ بلام واحدة فالاسم يسع والألف واللام مزيدتان، كما في قول الشاعر: رأيت الوليد بن اليزيد مباركاً شديداً بأعباء الخلافة كاهله ومن قرأ بلامين فالاسم ليسع، وقد توهم قوم أن اليسع هو إلياس وهو وهم، فإن الله أفرد كل واحد منهما. وقال وهب: اليسع صاحب إلياس، وكانوا قبل يحيى وعيسى وزكريا، وقيل إلياس هو إدريس، وهذا غير صحيح لأن إدريس جد نوح وإلياس من ذريته، وقيل إلياس هو الخضر، وقيل لا بل اليسع هو الخضر "وكلاً فضلنا على العالمين" أي كل واحد فضلناه بالنبوة على عالمي زمانه، والجملة معترضة.

وَمِنْ آَبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ

قوله: 87- "ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم" أي هدينا، ومن للتبعيض: أي هدينا بعض آبائهم وذرياتهم وأزواجهم " واجتبيناهم " معطوف على فضلنا، والاجتباء الاصطفاء أو التخليص أو الاختيار، مشتق من جبيت الماء في الحوض جمعته، فالاجتباء ضم الذي تجتبيه إلى خاصيتك. قال الكسائي: جبيت الماء في الحوض جبي مقصور، والجابية الحوض، قال الشاعر: كجابية الشيخ العراقي تفهق

ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ

والإشارة بقوله: 88- "ذلك هدى الله" إلى الهداية والتفضيل والاجتباء المفهومة من الأفعال السابقة "يهدي به" الله "من يشاء من عباده" وهم الذين وفقهم للخير واتباع الحق "ولو أشركوا" أي هؤلاء المذكورون بعبادة غير الله "لحبط عنهم" من حسناتهم "ما كانوا يعملون" والحبوط البطلان. وقد تقدم تحقيقه في البقرة.

أُولَئِكَ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ

والإشارة بقوله: 89- "أولئك الذين آتيناهم الكتاب" إلى الأنبياء المذكورين سابقاً: أي جنس الكتاب ليصدق على كل ما أنزل على هؤلاء المذكورين "والحكم" العلم "والنبوة" الرسالة أو ما هو أعم من ذلك "فإن يكفر بها هؤلاء" الضمير في بها للحكم والنبوة والكتاب، أو للنبوة فقط، والإشارة بهؤلاء إلى كفار قريش المعاندين لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "فقد وكلنا بها قوماً" هذا جواب الشرط: أي ألزمنا بالإيمان بها قوماً " ليسوا بها بكافرين " وهم المهاجرون والأنصار، أو الأنبياء المذكورون سابقاً.

أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ

وهذا أولى لقوله فيما بعد "أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده" فإن الإشارة إلى الأنبياء المذكورين لا إلى المهاجرين والأنصار إذ لا يصح أن يؤمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بهداهم، وتقديم بهداهم على الفعل يفيد تخصيص هداهم بالاقتداء، والاقتداء طلب موافقة الغير في فعله. وقيل المعنى: اصبر كما صبروا، وقيل: اقتد بهم في التوحيد، وإن كانت جزئيات الشرائع مختلفة، وفيها دلالة على أنه صلى الله عليه وسلم مأمور بالاقتداء بمن قبله من الأنبياء فيما لم يرد عليه فيه نص. قوله: "قل لا أسألكم عليه أجراً" أمره الله بأن يخبرهم بأنه لا يسألهم أجراً على القرآن، وأن يقول لهم ما "هو إلا ذكرى" يعني القرآن "للعالمين" أي موعظة وتذكير للخلق كافة الموجودين عند نزوله ومن سيوجد من بعد. وقد أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن محمد بن كعب قال: الخال والد والعم والد، نسب الله عيسى إلى أخواله فقال: "ومن ذريته" حتى بلغ إلى قوله: "وزكريا ويحيى وعيسى". وأخرج أبو الشيخ والحاكم والبيهقي عن عبد الملك بن عمير قال: دخل يحيى بن يعمر على الحجاج فذكر الحسين، فقال الحجاج: لم يكن من ذرية النبي، فقال يحيى: كذب، فقال: صدقت. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي حرب بن أبي الأسود قال: أرسل الحجاج إلى يحيى بن يعمر فقال: بلغني أنك تزعم أن الحسن والحسين من ذرية النبي تجده في كتاب الله، وقد قرأته من أوله إلى آخره فلم أجده، فذكر يحيى بن يعمر نحو ما تقدم. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "واجتبيناهم" قال: أخلصناهم. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله: "ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون" قال: يريد هؤلاء الذين هديناهم وفعلنا بهم. وأخرج أبو الشيخ عن مجاهد قال: الحكم اللب. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "فإن يكفر بها هؤلاء" يعني أهل مكة، يقول: إن يكفروا بالقرآن "فقد وكلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين" يعني أهل المدينة والأنصار. وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "فقد وكلنا بها قوماً" قال: هم الأنبياء الثمانية عشر الذين قال الله فيهم: "فبهداهم اقتده" قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بهداهم وكان يسجد في ص، ولفظ ابن أبي حاتم عن مجاهد: سألت ابن عباس في السجدة التي في ص، فقال هذه الآية، وقال: أمر نبيكم أن يقتدي بداود عليه السلام. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "قل لا أسألكم عليه أجراً" قال: قل لهم يا محمد لا أسألكم على ما أدعوكم إليه عرضاً من عروض الدنيا.

وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا

قوله: 91- "وما قدروا الله حق قدره" قدرت الشيء وقدرته عرفت مقداره، وأصله: الستر، ثم استعمل في معرفة الشيء: أي لم يعرفوه حق معرفته حيث أنكروا إرساله للرسل وإنزاله للكتب. وقيل المعنى: وما قدروا نعم الله حق تقديرها. وقرأ أبو حمزة "وما قدروا الله حق قدره" بفتح الدال: وهي لغة، ولما وقع منهم هذا الإنكار وهم من اليهود أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يورد عليهم حجة لا يطيقون دفعها، فقال: "قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى" وهم يعترفون بذلك ويذعنون له، فكان في هذا من التبكيت لهم والتقريع ما لا يقادر قدره مع إلجائهم إلى الاعتراف بما أنكروه من وقوع إنزال الله على البشر وهم الأنبياء عليهم السلام، فبطل جحدهم وتبين فساد إنكارهم، وقيل: إن القائلين بهذه المقالة هم كفار قريش فيكون إلزامهم بإنزال الله الكتاب على موسى من جهة أنهم يعترفون بذلك ويعلمونه بالأخبار من اليهود، وقد كانوا يصدقونهم و "نوراً وهدى" منتصبان على الحال و "للناس" متعلق بمحذوف هو صفة لهدى: أي كائناً للناس. قوله: "تجعلونه قراطيس" أي تجعلون الكتاب الذي جاء به موسى في قراطيس تضعونه فيها ليتم لكم ما تريدونه من التحريف والتبديل وكتم صفة النبي صلى الله عليه وسلم المذكورة فيه، وهذا ذم لهم، والضمير في "تبدونها" راجع إلى القراطيس، وفي "تجعلونه" راجع إلى الكتاب، وجملة تجعلونه في محل نصب على الحال، وجملة تبدونها صفة لقراطيس "وتخفون كثيراً" معطوف على تبدونها: أي وتخفون كثيراً منها، والخطاب في "وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم" لليهود: أي والحال أنكم قد علمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم، ويحتمل أن تكون هذه الجملة استئنافية مقررة لما قبلها، والذي علموه هو الذي أخبرهم به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من الأمور التي أوحى الله إليه بها، فإنها اشتملت على ما لم يعلموه من كتبهم ولا على لسان أنبيائهم ولا علمه آباؤهم، ويجوز أن يكون ما في ما لم تعلموا عبارة عما علموه من التوراة، فيكون ذلك على وجه المن عليهم بإنزال التوراة، وقيل: الخطاب للمشركين من قريش وغيرهم، فتكون ما عبارة عما علموه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أمره الله رسوله بأن يجيب عن ذلك الإلزام الذي ألزمهم به حيث قال: "من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى" فقال: "قل الله" أي أنزله الله "ثم ذرهم في خوضهم يلعبون" أي ذرهم في باطلهم حال كونهم يلعبون: أي يصنعون صنع الصبيان الذين يلعبون.

وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ

قوله: 92- "وهذا كتاب أنزلناه مبارك" هذا من جملة الرد عليهم في قولهم: "ما أنزل الله على بشر من شيء" أخبرهم بأن الله أنزل التوراة على موسى، وعقبه بقوله: "وهذا كتاب أنزلناه" يعني على محمد صلى الله عليه وسلم فكيف تقولون: "ما أنزل الله على بشر من شيء" ومبارك ومصدق صفتان لكتاب، والمبارك كثير البركة، والمصدق كثير التصديق، والذي بين يديه ما أنزله الله من الكتب على الأنبياء من قبله كالتوراة والإنجيل، فإنه يوافقها في الدعوة إلى الله وإلى توحيده وإن خالفها في بعض الأحكام. قوله: "ولتنذر" قيل: هو معطوف على ما دل عليه مبارك كأنه قيل أنزلناه للبركات ولتنذر، وخص أم القرى وهي مكة لكونها أعظم القرى شأناً، ولكونها أول بيت وضع للناس، ولكونها قبلة هذه الأمة ومحل حجهم، فالإنذار لأهلها مستتبع لإنذار سائر أهل الأرض والمراد بمن حولها جميع أهل الأرض، والمراد بإنذار أم القرى: إنذار أهلها وأهل سائر الأرض فهو على تقدير مضاف محذوف كسؤال القرية "والذين يؤمنون بالآخرة" مبتدأ، و "يؤمنون به" خبره، والمعنى: أن من حق من صدق بالدار الآخرة أن يؤمن بهذا الكتاب ويصدقه ويعمل بما فيه، لأن التصديق بالآخرة يوجب قبول من دعا الناس إلى ما ينال به خيرها ويندفع به ضرها، وجملة "وهم على صلاتهم يحافظون" في محل نصب على الحال، وخص المحافظة على الصلاة من بين سائر الواجبات لكونها عمادها وبمنزلة الرأس لها.

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِم

قوله: 93- "ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً" هذه الجملة مقررة لمضمون ما تقدم من الاحتجاج عليهم بأن الله أنزل الكتب على رسله: أي كيف تقولون ما أنزل الله على بشر من شيء، وذلك يستلزم تكذيب الأنبياء عليهم السلام، ولا أحد أظلم ممن افترى على الله كذباً فزعم أنه نبي وليس بنبي، أو كذب على الله في شيء من الأشياء "أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء" أي والحال أنه لم يوح إليه شيء، وقد صان الله أنبياءه عما تزعمون عليهم، وإنما هذا شأن الكذابين رؤوس الإضلال كمسيلمة الكذاب والأسود العنسي وسجاح. قوله: "ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله" معطوف على من افترى أي ومن أظلم ممن افترى أو ممن قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء، أو ممن قال سأنزل مثل ما أنزل الله، وهم القائلون "لو نشاء لقلنا مثل هذا" وقيل: هو عبد الله بن أبي سرح، فإنه كان يكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأملى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم "ثم أنشأناه خلقاً آخر" فقال عبد الله: "فتبارك الله أحسن الخالقين" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:هكذا أنزلت فشك عبد الله حينئذ وقال: لئن كان محمد صادقاً لقد أوحي إلي كما أوحي إليه، ولئن كان كاذباً لقد قلت كما قال، ثم ارتد عن الإسلام ولحق بالمشركين، ثم أسلم يوم الفتح كما هو معروف. قوله: "ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت" الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل من يصلح له، والمراد كل ظالم، ويدخل فيه الجاحدون لما أنزل الله والمدعون للنبوات افتراء على الله دخولاً أولياً، وجواب لو محذوف: أي لرأيت أمراً عظيماً، والغمرات جمع غمرة: وهي الشدة، وأصلها الشيء الذي يغمر الأشياء فيغطيها، ومنه غمرة الماء، ثم استعملت في الشدائد، ومنه غمرة الحرب. قال الجوهري: والغمرة الشدة والجمع غمر: مثل نوبة ونوب، وجملة "والملائكة باسطوا أيديهم" في محل نصب: أي والحال أن الملائكة باسطوا أيديهم لقبض أرواح الكفار، وقيل للعذاب وفي أيديهم مطارق الحديد، ومثله قوله تعالى: "ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم". قوله: "أخرجوا أنفسكم" أي قائلين لهم أخرجوا أنفسكم من هذه الغمرات التي وقعتم فيها، أو أخرجوا أنفسكم من أيدينا وخلصوها من العذاب، أو أخرجوا أنفسكم من أجسادكم وسلموها إلينا لنقبضها "اليوم تجزون عذاب الهون" أي اليوم الذي تقبض فيه أرواحكم، أو أرادوا باليوم الوقت الذي يعذبون فيه الذي مبدؤه عذاب القبر، والهون والهوان بمعنى: أي اليوم تجزون عذاب الهوان الذي تصيرون به في إهانة وذلة بعدما كنتم فيه من الكبر والتعاظم، والباء في "بما كنتم تقولون على الله غير الحق" للسببية: أي بسبب قولكم هذا من إنكار إنزال الله كتبه على رسله والإشراك به "وكنتم عن آياته تستكبرون" عن التصديق لها والعمل بها فكان ما جوزيتم به من عذاب الهون "جزاء وفاقاً".

وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُن

قوله: 94- "ولقد جئتمونا فرادى". قرأ أبو حيوة فرادىً بالتنوين، وهي لغة تميم، وقرأ الباقون بألف التأنيث للجمع فلم ينصرف. وحكى ثعلب فراد بلا تنوين مثل: ثلاث ورباع، وفرادى جمع فرد كسكارى جمع سكران وكسالى جمع كسلان، والمعنى: جئتمونا منفردين واحداً واحداً كل واحد منفرد عن أهله وماله وما كان يعبده من دون الله فلم ينتفع بشيء من ذلك "كما خلقناكم أول مرة" أي على الصفة التي كنتم عليها عند خروجكم من بطون أمهاتكم، والكاف نعت مصدر محذوف: أي جئتمونا مجيئاً مثل مجيئكم عند خلقنا لكم، أو حال من ضمير فرادى: أي مشابهين ابتداء خلقنا لكم "وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم" أي أعطيناكم، والخول ما أعطاه الله للإنسان من متاع الدنيا: أي تركتم ذلك خلفكم لم تأتونا بشيء منه ولا انتفعتم به بوجه من الوجوه "وما نرى معكم شفعاءكم الذين" عبدتموهم وقلتم: "ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى" و "زعمتم أنهم فيكم شركاء" لله يستحقون منكم العبادة كما يستحقها. قوله: "لقد تقطع بينكم". قرأ نافع والكسائي وحفص بنصب بينكم على الظرفية، وفاعل تقطع محذوف: أي تقطع الوصل بينكم أنتم وشركاؤكم كما يدل عليه "وما نرى معكم شفعاءكم". وقرأ الباقون بالرفع على إسناد القطع إلى البين: أي وقع التقطع بينكم، ويجوز أن يكون معنى قراءة النصب معنى قراءة الرفع في إسناد الفعل إلى الظرف، وإنما نصب لكثرة استعماله ظرفاً. وقرأ ابن مسعود: لقد تقطع ما بينكم على إسناد الفعل إلى ما: أي الذي بينكم "وضل عنكم ما كنتم تزعمون" من الشركاء والشرك، وحيل بينكم وبينهم. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "وما قدروا الله حق قدره" قال: هم الكفار لم يؤمنوا بقدرة الله، فمن آمن أن الله على كل شيء قدير قد قدر الله حق قدره، ومن لم يؤمن بذلك فلم يقدر الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء. قالت اليهود: يا محمد أنزل الله عليك كتاباً؟ قال: نعم، قالوا: والله ما أنزل الله من السماء كتاباً، فأنزل الله "قل" يا محمد "من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى" إلى آخر الآية. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد "وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء" قالها مشركو قريش. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي قال: قال فنحاص اليهودي ما أنزل الله على محمد من شيء فنزلت. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن عكرمة قال: نزلت في مالك بن الصيف. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: جاء رجل من اليهود يقال له مالك بن الصيف، فخاصم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى هل تجد في التوراة أن الله يبغض الحبر السمين؟ وكان حبراً سميناً، فغضب وقال: والله ما أنزل الله على بشر من شيء، فقال له أصحابه: ويحك ولا على موسى؟ قال: ما أنزل الله على بشر من شيء، فنزلت". وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "تجعلونه قراطيس" قال: اليهود، وقوله: "وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم" قال: هذه للمسلمين. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "وعلمتم ما لم تعلموا" قال: هم اليهود آتاهم الله علماً فلم يقتدوا به ولم يأخذوا به ولم يعملوا به، فذمهم الله في علمهم ذلك. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "وهذا كتاب أنزلناه مبارك" قال: هو القرآن الذي أنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم. وأخرج عبد بن حميد عنه قال: "مصدق الذي بين يديه" أي من الكتب التي قد خلت قبله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله: "ولتنذر أم القرى" قال: مكة ومن حولها. قال: يعني ما حولها من القرى إلى المشرق والمغرب. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال: إنما سميت أم القرى لأن أول بيت وضع بها. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة في قوله: "ولتنذر أم القرى" قال: هي مكة، قال: وبلغني أن الأرض دحيت من مكة. وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء بن دينار نحوه. وأخرج الحاكم في المستدرك عن شرحبيل بن سعد قال: نزلت في عبد الله بن أبي سرح "ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء" الآية، فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فر إلى عثمان أخيه من الرضاعة، فغيبه عنده حتى اطمأن أهل مكة، ثم استأمن له. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي خلف الأعمى: أنها نزلت في عبد الله بن أبي سرح وكذلك روى ابن أبي حاتم عن السدي. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن ابن جريج في قوله: "ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء" قال: نزلت في مسيلمة الكذاب ونحوه ممن دعا إلى مثل ما دعا إليه "ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله" قال: نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن عكرمة نحوه. وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة لما نزلت " والمرسلات عرفا * فالعاصفات عصفا " قال: النضر وهو من بني عبد الدار: والطاحنات طحناً والعاجنات عجناً قولاً كثيراً، فأنزل الله "ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً" الآية. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "غمرات الموت" قال: سكرات الموت. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال في قوله: "والملائكة باسطوا أيديهم" هذا عند الموت، والبسط: الضرب "يضربون وجوههم وأدبارهم". وأخرج أبو الشيخ عنه قال: في الآية هذا ملك الموت عليه السلام. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الضحاك في قوله: "والملائكة باسطوا أيديهم" قال: بالعذاب. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله: "عذاب الهون" قال: الهوان. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عكرمة قال: قال النضر بن الحارث: سوف تشفع لي اللات والعزى، فنزلت: "ولقد جئتمونا فرادى" الآية. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير في قوله: "ولقد جئتمونا فرادى" الآية، قال: كيوم ولد يرد عليه كل شيء نقص منه يوم ولد. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله: "وتركتم ما خولناكم" قال: من المال والخدم "وراء ظهوركم" قال: في الدنيا. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: "لقد تقطع بينكم" قال: ما كان بينهم من الوصل. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "لقد تقطع بينكم" قال: تواصلكم في الدنيا.

إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ

قوله: 95- "إن الله فالق الحب والنوى" هذا شروع في تعداد عجائب صنعه تعالى وذكر ما يعجز آلهتهم عن أدنى شيء منه، والفلق الشق: أي هو سبحانه فالق الحب فيخرج منه النبات، وفالق النوى فيخرج منه الشجر، وقيل معنى "فالق الحب والنوى" الشق الذي فيهما من أصل الخلقة، وقيل معنى "فالق" خالق. والنوى: جمع نواة يطلق على كل ما فيه عجم كالتمر والمشمش والخوخ. قوله: "يخرج الحي من الميت" هذه الجملة خبر بعد خبر فهي في محل رفع، وقيل هي جملة مفسرة لما قبلها، لأن معناها معناه، والأول أولى، فإن معنى "يخرج الحي من الميت" يخرج الحيوان من مثل النطفة والبيضة وهي ميتة. ومعنى "ومخرج الميت من الحي" مخرج النطفة والبيضة وهي ميتة من الحي، وجملة "ومخرج الميت من الحي" معطوفة على "يخرج الحي من الميت" عطف جملة إسمية على جملة فعلية ولا ضير في ذلك، وقيل معطوفة على "فالق" على تقدير أن جملة "يخرج الحي من الميت" مفسرة لما قبلها، والأول أولى، والإشارة " ذلكم " إلى صانع ذلك الصنع العجيب المذكور سابقاً و "الله" خبره: والمعنى: أن صانع هذا الصنع العجيب هو المستجع لكل كمال، والمفضل بكل إفضال، والمستحق لكل حمد وإجلال "فأنى تؤفكون" فكيف تصرفون عن الحق مع ما ترون من بديع صنعه وكمال قدرته.

فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ

قوله: 96- "فالق الإصباح" مرتفع على أنه من جلمة أخبار إن في "إن الله فالق الحب والنوى"، وقيل هو نعت للاسم الشريف في "ذلكم الله"، وقرأ الحسن وعيسى بن عمر "فالق الإصباح" بفتح الهمزة، وقرأ الجمهور بكسرها، وهو على قراءة الفتح جمع صبح، وعلى قراءة الكسر مصدر أصبح، والصبح والصباح: أول النهار، وكذا الإصباح، وقرأ النخعي " فالق الإصباح " بفعل وهمزة مكسورة. والمعنى في "فالق الإصباح" أنه شاق الضياء عن الظلام وكاشفه، أو يكون المعنى على حذف مضاف: أي فالق ظلمة الإصباح، وهي الغبش، أو فالق عمود الفجر عن بياض النهار، لأنه يبدو مختلطاً بالظلمة ثم يصير أبيض خالصاً. وقرأ الحسن وعيسى بن عمر وعاصم وحمزة والكسائي "جعل الليل سكناً" حملاً على معنى "فالق" عند حمزة والكسائي، وأما عند الحسن وعيسى فعطفاً على فلق. وقرأ الجمهور "وجاعل" عطفاً على "فالق" وقرئ فالق و جاعل بنصبهما على المدح. وقرأ يعقوب وجاعل الليل ساكناً. والسكن: محل السكون، من سكن إليه: إذا اطمأن إليه، لأنه يسكن فيه الناس عن الحركة في معاشهم ويستريحون من التعب والنصب. قوله: "والشمس والقمر حسباناً" بالنصب على إضمار فعل: أي وجعل الشمس والقمر، وبالرفع على الابتداء، والخبر محذوف تقديره والشمس والقمر مجعولان حسباناً، وبالجر عطفاً على الليل على قراءة من قرأ " وجعل الليل ". قال الأخفش: والحسبان جمع حساب مثل شهبان وشهاب. وقال يعقوب: حسبان مصدر حسبت الشيء أحسبه حسباً وحسباناً. والحساب: الاسم، وقيل الحسبان بالضم مصدر حسب بالفتح، والحسبان بالكسر مصدر حسب. والمعنى: جعلهما محل حساب تتعلق به مصالح العباد وسيرهما على تقدير لا يزيد ولا ينقص ليدل عباده بذلك على عظيم قدرته وبديع صنعه، وقيل الحسبان: الضياء، وفي لغة أن الحسبان: النار، ومنه قوله تعالى: "ويرسل عليها حسباناً من السماء" والإشارة بـ "ذلك تقدير العزيز العليم" إلى الجعل المدلول عليه بجاعل أو بجعل على القراءتين. والعزيز: القاهر الغالب. والعليم: كثير العلم، ومن جملة معلوماته تسييرهما على هذا التدبير المحكم.

وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ

قوله: 97- "وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها" أي خلقها للاهتداء بها "في ظلمات" الليل عند المسير في "البر والبحر" وإضافة الظلمات إلى البر والبحر لكونها ملابسة لهما، أو المراد بالظلمات: اشتباه طرقهما التي لا يهتدى فيها إلا بالنجوم، وهذه إحدى منافع النجوم التي خلقها الله لها، ومنها ما ذكره الله في قوله: "وحفظاً من كل شيطان مارد". "وجعلناها رجوماً للشياطين"، ومنها: جعلها زينة للسماء، ومن زعم غير هذه الفوائد فقد أعظم على الله الفرية "قد فصلنا الآيات" التي بيناها بياناً مفصلاً لتكون أبلغ في الاعتبار "لقوم يعلمون" بما في هذه الآيات من الدلالة على قدرة الله وعظمته وبديع حكمته.

وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ

قوله: 98- "وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة" أي آدم عليه السلام كما تقدم، وهذا نوع آخر من بديع خلقه الدال على كمال قدرته "فمستقر ومستودع". قرأ ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن وأبو عمرو وعيسى والأعرج والنخعي بكسر القاف والباقون بفتحها، وهما مرفوعان على أنهما مبتدآن وخبرهما محذوف، والتقدير: فمنكم مستقر أو فلكم مستقر، التقدير الأول على القراءة الأولى، والثاني على الثانية: أي فمنكم مستقر على ظهر الأرض، أو فلكم مستقر على ظهرها، ومنكم مستودع في الرحم أو في باطن الأرض أو في الصلب، وقيل المستقر في الرحم، والمستودع في الأرض، وقيل المستقر في القبر. قال القرطبي: وأكثر أهل التفسير يقولون: المستقر ما كان في الرحم، والمستودع ما كان في الصلب، وقيل المستقر من خلق، والمستودع من لم يخلق، وقيل الاستيداع إشارة إلى كونهم في القبور إلى المبعث. ومما يدل على تفسير المستقر بالكون على الأرض قول الله تعالى: "ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين"، وذكر سبحانه هاهنا "يفقهون" وفيما قبله "يعلمون" لأن في إنشاء الأنفس من نفس واحدة وجعل بعضها مستقراً وبعضها مستودعاً من الغموض والدقة ما ليس في خلق النجوم للاهتداء، فناسبه ذكر الفقه لإشعاره بمزيد تدقيق وإمعان فكر.

وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّا

قوله: 99- "وهو الذي أنزل من السماء ماء" هذا نوع آخر من عجائب مخلوقاته. والماء هو ماء المطر، وفي "فأخرجنا به" التفات من الغيبة إلى التكلم إظهاراً للعناية بشأن هذا المخلوق وما ترتب عليه، والضمير في "به" عائد إلى الماء، و "نبات كل شيء" يعني كل صنف من أصناف النبات المختلفة، وقيل المعنى رزق كل شيء، والتفسير الأول أولى. ثم فصل هذا الإجمال فقال: "فأخرجنا منه خضراً". قال الأخفش: أي أخضر. والخضر: رطب البقول، وهو ما يتشعب من الأغصان الخارجة من الحبة، وقيل يريد القمح والشعير والذرة والأرز وسائر الحبوب "نخرج منه حباً" هذه الجملة صفة لخضراً: أي نخرج من الأغصان الخضر حباً متراكباً: أي مركباً بعضه على بعضه كما في السنابل "ومن النخل" خبر مقدم، و "من طلعها" بدل منه، وعلى قراءة من قرأ يخرج منه حب يكون ارتفاع قنوان على أنه معطوف على حب، وأجاز الفراء في غير القرآن قنواناً عطفاً على حباً، وتميم يقولون قنيان. وقرئ بضم القاف وفتحها باعتبار اختلاف اللغتين لغة قيس ولغة أهل الحجاز. والطلع: الكفري قبل أن ينشق عن الإغريض، والإغريض يسمى طلعاً أيضاً. والقنوان: جمع قنو، والفرق بين جمعه وتثنيته أن المثنى مكسور النون، والجمع على ما يقتضيه الإعراب، ومثله صنوان. والقنو: العذق. والمعنى: أن القنوان أصله من الطلع. والعذق هو عنقود النخل، وقيل القنوان: الجمار. والدانية: القريبة التي ينالها القائم والقاعد. قال الزجاج: المعنى منها دانية ومنها بعيدة فحذف، ومثله "سرابيل تقيكم الحر" وخص الدانية بالذكر لأن الغرض من الآية بيان القدر والامتنان، وذلك فيما يقرب تناوله أكثر. قوله: "وجنات من أعناب". قرأ محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى والأعمش وعاصم في قراءته الصحيحة عنه برفع جنات، وقرأ الباقون بالنصب. وأنكر القراءة الأولى أبو عبيدة وأبو حاتم حتى قال أبو حاتم هي محال، لأن الجنات لا تكون من النخل. قال النحاس: ليس تأويل الرفع على هذا ولكنه رفع بالابتداء، والخبر محذوف: أي ولهم جنات كما قرأ جماعة من الفراء "وحور عين" وقد أجاز مثل هذا سيبويه والكسائي والفراء، وأما على النصب فقيل هو معطوف على "نبات كل شيء" أي وأخرجنا به جنات كائنة من أعناب، أو النصب بفعل يقدر متأخراً: أي وجنات من أعناب أخرجناها، وهكذا القول في انتصاب الزيتون والرمان: وقيل هما منصوبان على الاختصاص لكونهما عزيزين، و "مشتبهاً" منتصب على الحال: أي كل واحد منهما يشبه بعضه بعضاً في بعض أوصافه ولا يشبه بعضه بعضاً في البعض الآخر، وقيل إن أحدهما يشبه الآخر في الورق باعتبار اشتماله على جميع الغصن وباعتبار حجمه، ولا يشبه أحدهما الآخر في الطعم، وقيل خص الزيتون والرمان لقرب منابتهما من العرب كما في قول الله سبحانه: "أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت"، ثم أمرهم سبحانه بأن ينظروا نظر اعتبار إلى ثمره إذا أثمر وإلى ينعه إذا أينع. والثمر في اللغة: جنى الشجر. واليانع: الناضج الذي قد أدرك وحان قطافه. قال ابن الأنباري: الينع جمع يانع، كركب وراكب. وقال الفراء: أينع احمر. قرأ حمزة والكسائي ثمره بضم الثاء والميم، وقرأ الباقون بفتحها، إلا الأعمش فإنه قرأ ثمره بضم الثاء وسكون الميم تخفيفاً. وقرأ محمد بن السميفع وابن محيصن وابن أبي إسحاق وينعه بضم الياء التحتية. قال الفراء: هي لغة بعض أهل نجد. وقرأ الباقون بفتحها، والإشارة بقوله: "إن في ذلكم" إلى ما تقدم ذكره مجملاً ومفصلاً "لآيات لقوم يؤمنون" بالله استدلالاً بما يشاهدونه من عجائب مخلوقاته التي قصها عليهم. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى: "إن الله فالق الحب والنوى" يقول: خلق الحب والنوى. وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة قال: يفلق الحب والنوى عن النبات. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد قال: الشقان اللذان فيهما. وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن أبي مالك نحوه. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه في قوله: "يخرج الحي من الميت" قال: النخلة من النواة والسنبلة من الحبة "ومخرج الميت من الحي" قال: النواة من النخلة والحبة من السنبلة. وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد "يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي" قال: الناس الأحياء من النطف، والنطفة ميتة تخرج من الناس الأحياء، ومن الأنعام والنبات كذلك أيضاً. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس "فأنى تؤفكون" أي فكيف تكذبون. وأخرج أيضاً عن الحسن قال: أنى تصرفون. وأخرج أيضاً عن ابن عباس في "فالق الإصباح" قال: خلق الليل والنهار. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال: يعني بالإصباح ضوء الشمس بالنهار وضوء القمر بالليل. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في "فالق الإصباح" قال: إضاءة الفجر. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة في قوله: "فالق الإصباح" قال: فالق الصبح. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: " وجعل الليل سكنا " قال: سكن فيه كل طير ودابة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "والشمس والقمر حسباناً" يعني عدد الأيام والشهور والسنين. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر" قال: يضل الرجل وهو في الظلمة والجور عن الطريق. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر والخطيب في كتاب النجوم عن عمر بن الخطاب قال: تعلموا من النجوم ما تهتدون به في بركم وبحركم ثم أمسكوا، فإنها والله ما خلقت إلا زينة للسماء ورجوماً للشياطين، وعلامات يهتدى بها. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة نحوه. وأخرج ابن مردويه والخطيب عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تعلموا من النجوم ما تهتدون به في ظلمات البر والبحر ثم انتهوا". وقد ورد في استحباب مراعاة الشمس والقمر لذكر الله سبحانه لا لغير ذلك أحاديث: منها عند الحاكم وصححه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحب عباد الله إلى الله الذين يراعون الشمس والقمر لذكر الله". وأخرج ابن شاهين والطبراني والحاكم والخطيب عن عبد الله بن أبي أوفى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر نحوه. وأخرج أحمد في الزهد والخطيب عن أبي الدرداء نحوه. وأخرج الخطيب في كتاب النجوم عن أبي هريرة نحو حديثه الأول مرفوعاً. وأخرج الحاكم في تاريخه والديلمي بسند ضعيف عن أبي هريرة أيضاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: التاجر الأمين، والإمام المقتصد، وراعي الشمس بالنهار". وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن سلمان الفارسي قال: "سبعة في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله، فذكر منهم الرجل الذي يراعي الشمس لمواقيت الصلاة". فهذه الأحاديث مقيدة بكون المراعاة لذكر الله والصلاة لا لغير ذلك. وقد جعل الله انقضاء وقت صلاة الفجر طلوع الشمس، وأول صلاة الظهر زوالها، ووقت العصر ما دامت الشمس بيضاء نقية، ووقت المغرب غروب الشمس. وورد في صلاة العشاء "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصليها لوقت مغيب القمر ليلة ثالث الشهر" وبها يعرف أوائل الشهور وأوساطها وأواخرها، فمن راعى الشمس والقمر بهذه الأمور فهو الذي أراده النبي صلى الله عليه وسلم، ومن راعاها لغير ذلك فهو غير مراد بما ورد، وهكذا النجوم، ورد النهي عن النظر فيها كما أخرجه ابن مردويه والخطيب عن علي قال: نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النظر في النجوم. وأخرج ابن مردويه والمرهبي والخطيب عن أبي هريرة قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النظر في النجوم. وأخرج الخطيب عن عائشة مرفوعاً مثله. وأخرج الطبراني وأبو نعيم في الحلية والخطيب عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا ذكر أصحابي فأمسكوا، وإذا ذكر القدر فأمسكوا، وإذا ذكرت النجوم فأمسكوا". وأخرج ابن أبي شيبة وأبو داود وابن مردويه عن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من اقتبس علماً من النجوم اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد" فهذه الأحاديث محمولة على النظر فيها لما عدا الاهتداء والتفكر والاعتبار. وما ورد في جواز النظر في النجوم فهو مقيد بالاهتداء والتفكر والاعتبار. وما ورد في جواز النظر في النجوم فهو مقيد بالاهتداء والتفكر والاعتبار كما يدل عليه حديث ابن عمر السابق، وعليه يحمل ما روي عن عكرمة فيما أخرجه الخطيب عنه: أنه سأل رجلاً عن حساب النجوم، فجعل الرجل يتحرج أن يخبره، فقال عكرمة: سمعت ابن عباس يقول: علم عجز الناس عنه ووددت أني علمته. وقد أخرج أبو داود والخطيب عن سمرة بن جندب أنه خطب فذكر حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أما بعد، فإن ناساً يزعمون أن كسوف هذه الشمس وكسوف هذا القمر وزوال هذه النجوم عن مواضعها لموت رجال عظماء من أهل الأرض، وإنهم قد كذبوا، ولكنها آيات من آيات الله يعبر بها عباده لينظر ما يحدث لهم من توبة". وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما في كسوف الشمس والقمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إنهما لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكن يخوف الله بهما عباده". وأخرج ابن مردويه عن أبي أمامة مرفوعاً: "إن الله نصب آدم بين يديه، ثم ضرب كتفه اليسرى فخرجت ذريته من صلبه حتى ملأوا الأرض" فهذا الحديث هو معنى ما في الآية، -"وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة"- وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وصححه من طرق عن ابن عباس في قوله: "فمستقر ومستودع" قال: المستقر ما كان في الرحم، والمستودع ما استودع في أصلاب الرجال والدواب. وفي لفظ: المستقر ما في الرحم وعلى ظهر الأرض وبطنها مما هو حي ومما قد مات. وفي لفظ المستقر ما كان في الأرض، والمستودع ما كان في الصلب. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن مسعود في الآية قال: مستقرها في الدنيا ومستودعها في الآخرة. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ عن ابن مسعود قال: المستقر الرحم، و المستودع المكان الذي يموت فيه. وأخرج أبو الشيخ عن الحسن وقتادة في الآية قالا: مستقر في القبر، ومستودع في الدنيا، أوشك أن يلحق بصاحبه. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله: "نخرج منه حباً متراكباً" قال: هذا السنبل. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن البراء بن عازب "قنوان دانية" قال قريبة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس "قنوان دانية" قال: قصار النخل اللاصقة عذوقها بالأرض. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه قنوان الكبائس، والدانية المنصوبة. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً في "قنوان دانية" قال: تهدل العذوق من الطلع. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: "مشتبهاً وغير متشابه" قال: متشابهاً ورقه مختلفاً ثمره. وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي في قوله: "انظروا إلى ثمره إذا أثمر" قال: رطبه وعنبه. وأخرج أبو عبيد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن البراء "وينعه" قال: نضجه.

وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ

هذا الكلام يتضمن ذكر نوع آخر من جهالاتهم وضلالاتهم. قال النحاس: الجن المفعول الأول، وشركاء المفعول الثاني كقوله تعالى: "وجعلكم ملوكاً" "وجعلت له مالاً ممدوداً" وأجاز الفراء: أن يكون الجن بدلاً من شركاء ومفسراً له. وأجاز الكسائي رفع الجن بمعنى هم الجن، كأنه قيل: من هم؟ فقيل: الجن، وبالرفع قرأ يزيد بن أبي قطيب وأبو حيان، وقرئ بالجر على إضافة شركاء إلى الجن للبيان. والمعنى: أنهم جعلوا شركاء لله فعبدوهم كما عبدوه، وعظموهم كما عظموه. وقيل: المراد بالجن هاهنا الملائكة لاجتنانهم: أي استتارهم، وهم الذين قالوا: الملائكة بنات الله، وقيل: نزلت في الزنادقة الذين قالوا: إن الله تعالى وإبليس أخوان، فالله خالق الناس والدواب، وإبليس خالق الحيات والسباع والعقارب. وروي ذلك عن الكلبي، ويقرب من هذا قول المجوس، فإنهم قالوا: للعالم صانعان هما الرب سبحانه والشيطان. وهكذا القائلون: كل خير من النور، وكل شر من الظلمة، وهم المانوية. قوله: "وخلقهم" جملة حالية بتقدير قد: أي وقد علموا أن الله خلقهم، أو خلق ما جعلوه شريكاً لله. قوله: "وخرقوا له بنين وبنات" قرأ نافع بالتشديد على التكثير، لأن المشركين ادعوا أن الملائكة بنات الله، والنصارى ادعوا أن المسيح ابن الله، واليهود ادعوا أن عزيراً ابن الله، فكثر ذلك من كفرهم فشدد الفعل لمطابقة المعنى. وقرأ الباقون بالتخفيف. وقرئ حرفوا من التحريف: أي زوروا. قال أهل اللغة: معنى خرقوا اختلقوا وافتعلوا وكذبوا، يقال: اختلق الإفك واخترقه وخرقه، أو أصله من خرق الثوب: إذا شقه: أي اشتقوا له بنين وبنات. قوله: "بغير علم" متعلق بمحذوف هو حال: أي كائنين بغير علم، بل قالوا ذلك عن جهل خالص، ثم بعد حكاية هذا الضلال البين والبهت الفظيع من جعل الجن شركاء لله، وإثبات بنين وبنات له نزه الله نفسه، فقال: "سبحانه وتعالى عما يصفون" وقد تقدم الكلام في معنى سبحانه. ومعنى تعالى: تباعد وارتفع عن قولهم الباطل الذي وصفوه به.

بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ

قوله: 101- "بديع السموات والأرض" أي مبدعهما، فكيف يجوز أن "يكون له ولد" وقد جاء البديع: بمعنى البدع كالسميع بمعنى المسمع كثيراً، ومنه قول عمرو بن معدي كرب: أمن ريحانة الداعي السميع يؤرقني وأصحابي هجـــوع اهـ أي المسمع، وقيل: هو من إضافة الصفة المشبهة إلى الفاعل، والأصل بديع سمواته وأرضه. وأجاز الكسائي خفضه على النعت لله. والظاهر أن رفعه على تقدير مبتدأ محذوف، أو على أنه مبتدأ وخبره "أنى يكون له ولد" وقيل: هو مرفوع على أنه فاعل تعالى، وقرئ بالنصب على المدح، والاستفهام في "أنى يكون له ولد" للإنكار. والاستبعاد: أي من كان هذا وصفه، وهو أنه خالق السموات والأرض وما فيهما كيف يكون له ولد؟ وهو من جملة مخلوقاته، وكيف يتخذ ما يخلقه ولداً، ثم بالغ في نفي الولد، فقال: "ولم تكن له صاحبة" أي كيف يكون له ولد والحال أنه لم تكن له صاحبة، والصاحبة إذا لم توجد استحال وجود الولد، وجملة "وخلق كل شيء" لتقرير ما قبلها، لأن من كان خالقاً لكل شيء استحال منه أن يتخذ بعض مخلوقاته ولداً "وهو بكل شيء عليم" لا تخفى عليه من مخلوقاته خافية.

ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ

والإشارة بقوله: 102- "ذلكم" إلى الأوصاف السابقة، وهو في موضع رفع على الابتداء وما بعده خبره، وهو الاسم الشريف، و "الله ربكم" بدلاً من اسم الإشارة، وكذلك "لا إله إلا هو خالق كل شيء" خبر المبتدأ، ويجوز ارتفاع خالق على إضمار مبتدأ، وأجاز الكسائي والفراء النصب فيه "فاعبدوه" أي من كانت هذه صفاته، فهو الحقيق بالعبادة فاعبدوه ولا تعبدوا غيره ممن ليس له من هذه الصفات العظيمة شيء.

لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ

قوله: 103- "لا تدركه الأبصار" الأبصار: جمع بصر، وهو الحاسة، وإدراك الشيء عبارة عن الإحاطة به. قال الزجاج: أي لا تبلغ كنه حقيقته، فالمنفي هو هذا الإدراك لا مجرد الرؤية. فقد ثبتت بالأحاديث المتواترة تواتراً لا شك فيه ولا شبهة، ولا يجهله إلا من يجهل السنة المطهرة جهلاً عظيماً، وأيضاً قد تقرر في علم البيان والميزان أن رفع الإيجاب الكلي سلب جزئي، فالمعنى لا تدركه بعض الأبصار وهي أبصار الكفار، هذا على تسليم أن نفي الإدراك يستلزم نفي الرؤية، فالمراد به هذه الرؤية الخاصة، والآية من سلب العموم لا من عموم السلب، والأول تخلفه الجزئية، والتقدير: لا تدركه كل الأبصار بل بعضها، وهي أبصار المؤمنين. والمصير إلى أحد الوجهين متعين لما عرفناك من تواتر الرؤية في الآخرة، واعتضادها بقوله تعالى: "وجوه يومئذ ناضرة" الآية. قوله: "وهو يدرك الأبصار" أي يحيط بها ويبلغ كنهها لا تخفى عليه منها خافية، وخص الأبصار ليجانس ما قبله. وقال الزجاج: في هذا دليل على أن الخلق لا يدركون الأبصار: أي لا يعرفون كيفية حقيقة البصر وما الشيء الذي صار به الإنسان يبصر من عينيه دون أن يبصر من غيرهما من سائر أعضائه انتهى "وهو اللطيف" أي الرفيق بعباده: يقال لطف فلان بفلان: أي رفق به، واللطف في العمل الرفق فيه، واللطف من الله التوفيق والعصمة، وألطفه بكذا: إذا أبره: والملاطفة: المبارة، هكذا قال الجوهري وابن فارس، و "الخبير" المختبر بكل شيء بحيث لا يخفى عليه شيء. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم" قال: والله خلقهم "وخرقوا له بنين وبنات بغير علم" قال: تخرصوا. وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله: "وخرقوا" قال: جعلوا. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: كذبوا. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن قتادة نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم والعقيلي وابن عدي وأبو الشيخ وابن مردويه بسند ضعيف عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: "لا تدركه الأبصار" قال: لو أن الإنس والجن والملائكة والشياطين منذ خلقوا إلى أن فنوا صفوا صفاً واحداً ما أحاطوا بالله أبداً. قال الذهبي: هذا حديث منكر انتهى. وفي إسناده عطية العوفي وهو ضعيف. وأخرج الترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن عباس قال: رأى محمد ربه. قال عكرمة: فقلت له أليس الله يقول: "لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار" قال: لا أم لك ذاك نوره إذا تجلى بنوره لا يدركه شيء، وفي لفظ: إنما ذلك إذا تجلى بكيفيته لم يقم له بصر. وأخرج ابن جرير عنه قال: لا يحيط بصر أحد بالله. وأخرج أبو الشيخ والبيهقي في كتاب الرؤية عن الحسن في قوله: "لا تدركه الأبصار" قال: في الدنيا. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن إسماعيل بن علية مثله.

قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ

البصائر: جمع بصيرة، وهي في الأصل: نور القلب، والمراد بها هنا الحجة البينة والبرهان الواضح، وهذا الكلام وارد على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال في آخره: 104- "وما أنا عليكم بحفيظ" ووصف البصائر بالمجيء تفخيماً لشأنها وجعلها بمنزلة الغائب المتوقع مجيئه كما يقال: جاءت العافية، وانصرف المرض، وأقبلت السعود، وأدبرت النحوس "فمن أبصر فلنفسه" أي فمن تعقل الحجة وعرفها وأذعن لها فنفع ذلك لنفسه لأنه ينجو بهذا الإبصار من عذاب النار "ومن عمي" عن الحجة ولم يتعقلها ولا أذعن لها، فضرر ذلك على نفسه لأنه يتعرض لغضب الله في الدنيا ويكون مصيره النار "وما أنا عليكم بحفيظ" برقيب أحصي عليكم أعمالكم، وإنما أنا رسول أبلغكم رسالات ربي وهو الحفيظ عليكم. قال الزجاج: نزل هذا قبل فرض القتال ثم أمر أن يمنعهم بالسيف من عبادة الأوثان.

وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ

105- "وكذلك نصرف الآيات" أي مثل ذلك التصريف البديع نصرفها في الوعد والوعيد والوعظ والتنبيه. قوله: "وليقولوا درست" العطف على محذوف: أي نصرف الآيات لتقوم الحجة وليقولوا درست، أو علة لفعل محذوف يقدر متأخراً: أي وليقولوا درست صرفناها، وعلى هذا تكون اللام للعاقبة أو للصيرورة. والمعنى: ومثل ذلك التصريف نصرف الآيات وليقولوا درست، فإنه لا احتفال بقولهم: ولا اعتداد بهم فيكون معناه الوعيد والتهديد لهم وعدم الاكتراث بقولهم. وقد أشار إلى مثل هذا الزجاج. وقال النحاس: وفي المعنى قول آخر حسن، وهو أن يكون معنى "نصرف الآيات" نأتي بها آية بعد آية "ليقولوا درست" علينا فيذكرون الأول بالأخر، فهذا حقيقته، والذي قاله أبو إسحاق: يعني الزجاج مجاز، وفي "درست" قراءات، قرأ أبو عمرو وابن كثير دارست بألف بين الدال والراء كفاعلت، وهي قراءة علي وابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة وأهل مكة. وقرأ ابن عامر "درست" بفتح السين وإسكان التاء من غير ألف كخرجت، ويه قراءة الحسن. وقرأ الباقون "درست" كضربت، فعلى القراءة الأولى المعنى: دارست أهل الكتاب ودارسوك: أي ذاكرتهم وذاكروك، ويدل على هذا ما وقع في الكتاب العزيز من إخبار الله عنهم بقوله: " وأعانه عليه قوم آخرون " أي أعان اليهود النبي صلى الله عليه وسلم على القرآن، ومثله قولهم: "أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلاً"، وقولهم: "إنما يعلمه بشر". والمعنى على القراءة الثانية قدمت هذه الآيات وعفت وانقطعت وهو كقولهم " أساطير الأولين " والمعنى على القراءة الثالثة مثل المعنى على القراءة الأولى. قال الأخفش: هي بمعنى دارست إلا أنه أبلغ. وحكي عن المبرد أنه قرأ "وليقولوا" بإسكان اللام فيكون فيه معنى التهديد: أي وليقولوا ما شاءوا فإن الحق بين، وفي هذا اللفظ أصله درس يدرس دراسة فهو من الدرس وهو القراءة، وقيل: من درسته: أي ذللته بكثرة القراءة، وأصله درس الطعام: أي داسه. والدياس: الدراس بلغة أهل الشام، وقيل: أصله من درست الثوب أدرسه درساً: أي أخلقته، ودرست المرأة درساً: أي حاضت، ويقال: إن فرج المرأة يكنى أبا دراس وهو من الحيض، والدرس أيضاً: الطريق الخفي. وحكى الأصمعي: بعير لم يدرس: أي لم يركب. وروي عن ابن عباس وأصحابه وأبي وابن مسعود والأعمش أنهم قرأوا درس أي درس محمد الآيات، وقرئ درست وبه قرأ زيد بن ثابت: أي الآيات على البناء للمفعول، ودارست أي دارست اليهود محمداً، واللام في "لنبينه" لام كي: أي نصرف الآيات لكي نبينه لقوم يعلمون، والضمير راجع إلى الآيات لأنها في معنى القرآن، أو إلى القرآن وإن لم يجر له ذكر، لأنه معلوم من السياق أو إلى التبيين المدلول عليه بالفعل.

اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ

قوله: 106- "اتبع ما أوحي إليك من ربك" أمره الله باتباع ما أوحي إليه وأن لا يشغل خاطره بهم، بل يشتغل باتباع ما أمره الله، وجملة "لا إله إلا هو" معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه لقصد تأكيد إيجاب الاتباع "وأعرض" معطوف على "اتبع" أمره الله بالإعراض عن المشركين بعدما أمره باتباع ما أوحي إليه، وهذا قبل نزول آية السيف.

وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ

107- "ولو شاء الله ما أشركوا" أي لو شاء الله عدم إشراكهم ما أشركوا، وفيه أن الشرك بمشيئة الله سبحانه، والكلام في تقرير هذا على الوجه الذي يتعارف به أهل علم الكلام والميزان معروف فلا نطيل بإيراده "وما جعلناك عليهم حفيظا" أي رقيباً "وما أنت عليهم بوكيل" أي قيم بما فيه نفعهم فتجلبه إليهم، ليس عليك غلا إبلاغ الرسالة.

وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ

قوله: 108- "ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم" الموصول عبارة عن الآلهة التي كانت تعبدها الكفار. والمعنى: لا تسب يا محمد آلهة هؤلاء الكفار التي يدعونها من دون الله، فيتسبب عن ذلك سبهم لله عدواناً وتجاوزاً عن الحق وجهلاً منهم. وفي هذه الآية دليل على أن الداعي إلى الحق والناهي عن الباطل إذا خشي أن يتسبب عن ذلك ما هو أشد منه من انتهاك حرم، ومخالفة حق، ووقوع في باطل أشد كان الترك أولى به، بل كان واجباً عليه، وما أنفع هذه الآية وأجل فائدتها لمن كان من الحاملين لحجج الله المتصدين لبيانها للناس إذا كان بين قوم من الصم البكم الذين إذا أمرهم بمعروف تركوه وتركوا غيره من المعروف، وإذا نهاهم عن منكر فعلوه وفعلوا غيره من المنكرات عناداً للحق وبغضاً لاتباع المحقين وجراءة على الله سبحانه سبحانه، فإن هؤلاء لا يؤثر فيهم إلا السيف، وهو الحكم العدل لمن عاند الشريعة المطهرة وجعل المخالفة لها والتجرؤ على أهلها ديدنه وهجيراه، كما يشاهد ذلك في أهل البدع الذين إذا دعوا إلى حق وقعوا في كثير من الباطل، وإذا أرشدوا إلى السنة قابلوها بما لديهم من البدعة، فهؤلاء هم المتلاعبون بالدين المتهاونون بالشرائع، وهم شر من الزنادقة، لأنهم يحتجون بالباطل وينتمون إلى البدع ويتظهرون بذلك غير خائفين ولا وجلين، والزنادقة قد ألجمتهم سيوف الإسلام وتحاماهم أهله، وقد ينفق كيدهم ويتم باطلهم وكفرهم نادراً على ضعيف من ضعفاء المسلمين مع تكتم وتحرز وخيفة ووجل، وقد ذهب جمهور أهل العلم إلى أن هذه الآية محكمة ثابتة غير منسوخة، وهي أصل أصيل في سد الذرائع وقطع التطرق إلى الشبه. وقرأ أهل مكة عدواً بضم العين والدال وتشديد الواو، وهي قراءة الحسن وأبي رجاء وقتادة. وقرأ من عداهم بفتح العين وإسكان الدال وتخفيف الواو، ومعنى القراءتين واحداً: أي ظلماً وعدواناً، وهو منتصب على الحال، أو على المصدر أو على أنه مفعول له "كذلك زينا لكل أمة عملهم" أي مثل ذلك التزيين زينا لكل أمة من أمم الكفار عملهم من الخير والشر "يضل من يشاء ويهدي من يشاء" "ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون" في الدنيا من المعاصي التي لم ينتهوا عنها ولا قبلوا من المرسلين ما أرسلهم الله به إليهم وما تضمنته كتبه المنزلة عليهم. وقد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: "قد جاءكم بصائر" أي بينة "فمن أبصر فلنفسه" أي فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه "ومن عمي" أي من ضل "فعليها". وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه والضياء في المختارة عن ابن عباس أنه كان يقرأ درست وقال: قرأت. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عنه "درست" قال: قرأت وتعلمت. وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عنه أيضاً قال دارست خاصمت جادلت تلوت. وأخرج أبو الشيخ عن السدي "وأعرض عن المشركين" قال: كف عنهم، وهذا منسوخ نسخه القتال "فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم". وأخرج ابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله: "ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله" قال: قالوا: يا محمد لتنتهين عن سبك آلهتنا أو لنهجون ربك، فنهاهم الله أن يسبوا أوثانهم "فيسبوا الله عدواً بغير علم". وقد ثبت في الصحيح "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:ملعون من سب والديه، قالوا يا رسول الله: وكيف يسب الرجل والديه؟ قال:يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه".

وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آَيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآَيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ

قوله: 109- "وأقسموا بالله" أي الكفار مطلقاً، أو كفار قريش، وجهد الأيمان أشدها: أي أقسموا بالله أشد أيمانهم التي بلغتها قدرتهم، وقد كانوا يعتقدون أن الله هو الإله الأعظم، فلهذا أقسموا به، وانتصاب جهد على المصدرية وهو بفتح الجيم المشقة، وبضمها الطاقة، ومن أهل اللغة من يجعلهما لمعنى واحد، والمعنى: أنهم اقترحوا على النبي صلى الله عليه وسلم آية من الآيات التي كانوا يقترحونها وأقسموا لئن جاءتهم هذه الآية التي اقترحوها "ليؤمنن بها" وليس غرضهم الإيمان، بل معظم قصدهم التحكم على رسول الله صلى الله عليه وسلم والتلاعب بآيات الله، فأمره الله سبحانه أن يجيب عليهم بقوله: "إنما الآيات عند الله" هذه الآية التي يقترحونها وغيرها وليس عندي من ذلك شيء، فهو سبحانه إن أراد إنزالها أنزلها، وإن أراد أن لا ينزلها لم ينزلها. قوله: "وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون". قرأ أبو عمرو وابن كثير بكسر الهمزة من أنها وهي قراءة مجاهد، ويؤيد هذه القراءة قراءة ابن مسعود (وما يشعركم إذا جاءت لا يؤمنون) قال مجاهد وابن زيد: المخاطب بهذا: المشركون: أي وما يدريكم، ثم حكم عليهم بقوله: "أنها إذا جاءت لا يؤمنون". وقال الفراء وغيره: الخطاب للمؤمنين، لأن المؤمنين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله لو نزلت الآية لعلهم يؤمنون، فقال الله تعالى: "وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون". وقرأ أهل المدينة والأعمش وحمزة والكسائي وعاصم وابن عامر "أنها إذا جاءت" بفتح الهمزة، قال الخليل: أنها بمعنى لعلها، وفي التنزيل "وما يدريك لعله يزكى" أي أنه يزكى، وحكي عن العرب ائت السوق أنك تشتري لنا شيئاً: أي لعلك، ومنه قول عدي بن زيد: أعاذل ما يدريك أن منيتي إلى ساعة في اليوم أو في ضحى الغد أي لعل منيتي، ومنه قول دريد بن الصمة: أريني جواداً مات هزلاً لأنني أرى ما ترين أو بخيلاً مخلدا أي لعلني، وقول أبي النجم: قلت لشيبان ادن من لقائه أني بعد اليوم من سوائه أي لعلي، وقول جرير: هل أنتم عائجون بنا لأن نرى العرصات أو أثر الخيام أي لعلنا اهـ. وقد وردت في كلام العرب كثيراً بمعنى لعله. وحكى الكسائي أنها كذلك في مصحف أبي بن كعب. وقال الكسائي أيضاً والفراء: إن لا زائدة، والمعنى: وما يشعركم أنها: أي الآيات، إذا جاءت يؤمنون فزيدت كما زيدت في قوله تعالى: "وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون" في قوله: " ما منعك أن لا تسجد " وضعف الزجاج والنحاس وغيرهما زيادة لا وقالوا: هو غلط وخطأ. وذكر النحاس وغيره أن في الكلام حذفاً والتقدير: أنها إذا جاءت لا يؤمنون أو يؤمنون، ثم حذف هذا المقدر لعلم السامع.

وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ

قوله: 110- "ونقلب أفئدتهم وأبصارهم" معطوف على "لا يؤمنون" قيل والمعنى: تقليب أفئدتهم وأبصارهم يوم القيامة على لهب النار وحر الجمر "كما لم يؤمنوا" في الدنيا "ونذرهم" في الدنيا: أي نمهلهم ولا نعاقبهم فعلى هذا بعض الآية في الآخرة. وبعضها في الدنيا، وقيل المعنى: ونقلب أفئدتهم وأبصارهم في الدنيا: أي نحول بينهم وبين الإيمان لو جاءتهم تلك الآية كما حلنا بينهم وبين ما دعوتهم إليه أول مرة عند ظهور المعجزة، وقيل: في الكلام تقدير وتأخير، والتقدير: أنها إذا جاءت لا يؤمنون كما لم يؤمنوا، ونقلب أفئدتهم وأبصارهم ونذرهم في طغيانهم يعمهون: أي يتحيرون، والكاف في "كما لم يؤمنوا" نعت مصدر محذوف، وما مصدرية، و "يعمهون" في محل نصب على الحال.

وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ

قوله: 111- " ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة " أي لا يؤمنون ولو نزلنا إليهم الملائكة كما اقترحوهم بقولهم: "لولا أنزل عليه ملك" "وكلمهم الموتى" الذين يعرفونهم بعد إحيائنا لهم، فقالوا لهم: إن هذا النبي صادق مرسل من عند الله فآمنوا به لم يؤمنوا "وحشرنا عليهم كل شيء" مما سألوه من الآيات "قبلاً" أي كفلاً وضمناً بما جئناهم به من الآيات البينات. هذا على قراءة من قرأ "قبلاً" بضم القاف وهم الجمهور. وقرأ نافع وابن عامر "قبلاً" بكسرها: أي مقابلة. وقال محمد بن يزيد المبرد: قبلاً بمعنى ناحية كما تقول لي: قبل فلان مال، فقبلاً نصب على الظرف، وعلى المعنى الأول ورد قوله تعالى: "أو تأتي بالله والملائكة قبيلاً" أي يضمنون كذا قال الفراء. وقال الأخفش: هو بمعنى قبيل قبيل: أي جماعة جماعة. وحكى أبو زيد لقيت فلاناً قبلاً ومقابلة وقبلاً كله واحد بمعنى المواجهة، فيكون على هذا الضم كالكسر وتستوي القراءتان. والحشر: الجمع "ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله" إيمانهم، فإن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، والاستثناء مفرغ "ولكن أكثرهم يجهلون" جهلاً يحول بينهم وبين درك الحق والوصول إلى الصواب.

وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ

قوله: 112- "وكذلك جعلنا لكل نبي" هذا الكلام لتسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم ودفع ما حصل معه من الحزن بعدم إيمانهم: أي مثل هذا الجعل "جعلنا لكل نبي عدواً" والمعنى: كما ابتليناك بهؤلاء فقد ابتلينا الأنبياء من قبلك بقوم من الكفار، فجعلنا لكل واحد منهم عدواً من كفار زمنهم، و "شياطين الإنس والجن" بدل من عدواً، وقيل: هو المفعول الثاني لجعلنا. وقرأ الأعمش الجن والإنس بتقديم الجن، والمراد بالشياطين المردة من الفريقين، والإضافة بيانية أو من إضافة الصفة إلى الموصوف، والأصل الإنس والجن الشياطين، وجملة "يوحي بعضهم إلى بعض" في محل نصب على الحال: أي حال كونه يوسوس بعضهم لبعض، وقيل: إن الجملة مستأنفة لبيان حال العدو، وسمي وحياً لأنه إنما يكون خفية بينهم، وجعل تمويههم زخرف القول لتزيينهم إياه، والزخرف: المزين، وزخارف الماء طرائقه، و "غروراً" منتصب على المصدر، لأن معنى يوحي بعضهم إلى بعض يغرونهم بذلك غروراً، ويجوز أن يكون في موضع الحال، ويجوز أن يكون مفعولاً له، والغرور: الباطل. قوله: "ولو شاء ربك ما فعلوه" الضمير يرجع إلى ما ذكر سابقاً من الأمور التي جرت من الكفار في زمنه وزمن الأنبياء قبله: أي لو شاء ربك عدم وقوع ما تقدم ذكره ما فعلوه وأوقعوه، وقيل: ما فعلوا الإيحاء المدلول عليه بالفعل "فذرهم" أي اتركهم، وهذا الأمر للتهديد للكفار كقوله: "ذرني ومن خلقت وحيداً" "وما يفترون" إن كانت ما مصدرية بالتقدير: اتركهم وافتراءهم، وإن كانت موصولة فالتقدير: اتركهم والذي يفترونه.

وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ

قوله: 113- " ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة " اللام في لتصغي لام كي، فتكون علة كقوله "يوحي" والتقدير: يوحي بعضهم إلى بعض ليغروهم ولتصغي، وقيل: هو متعلق بمحذوف يقدر متأخراً: أي لتصغي "جعلنا لكل نبي عدواً" وقيل: إن اللام للأمر وهو غلط، فإنها لو كانت لام الأمر جزم الفعل، والإصغاء: الميل، يقال: صغوت أصغو صغواً، وصغيت أصغي: ويقال: صغيت بالكسر، ويقال: أصغيت الإناء: إذا أملته ليجتمع ما فيه، وأصله الميل إلى الشيء لغرض من الأغراض، ويقال: صغت النجوم: إذا مالت للغروب، وأصغت الناقة: إذا أمالت رأسها، ومنه قول ذي الرمة: تصغي إذا شدها بالكور جانحة حتى إذا ما استوى في غرزها وثبت والضمير في إليه لزخرف القول، أو لما ذكر سابقاً من زخرف القول وغيره: أي أوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول ليغروهم " ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة " من الكفار "وليرضوه" لأنفسهم بعد الإصغاء إليه "وليقترفوا ما هم مقترفون" من الآثام، والاقتراف: الاكتساب، يقال: خرج ليقترف لأهله: أي ليكتسب لهم، وقارف فلان هذا الأمر: إذا واقعه، وقرفه: إذا رماه بالريبة، واقترف: كذب، وأصله اقتطاع قطعة من الشيء. وقد أخرج أبو الشيخ عن ابن عباس قال: نزلت "وأقسموا بالله جهد أيمانهم" في قريش "وما يشعركم" يا أيها المسلمون "أنها إذا جاءت لا يؤمنون". وأخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي قال: "كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً فقالوا: يا محمد تخبرنا أن موسى كان معه عصى يضرب بها الحجر، وأن عيسى كان يحيي الموتى، وأن ثمود لهم ناقة فأتنا من الآيات حتى نصدقك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:أي شيء تحبون أن آتيكم به؟، قالوا: تجعل لنا الصفا ذهباً، قال:فإن فعلت تصدقوني؟، قالوا: نعم، والله لئن فعلت لنتبعنك أجمعون، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو، فجاءه جبريل فقال له: إن شئت أصبح ذهباً فإن لم يصدقوا عند ذلك لنعذبنهم، وإن شئت فاتركهم حتى يتوب تائبهم، فقال: بل يتوب تائبهم، فأنزل الله: "وأقسموا بالله جهد أيمانهم" إلى قوله: "يجهلون"". وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ونقلب أفئدتهم وأبصارهم" قال: لما جحد المشركون ما أنزل الله لم تثبت قلوبهم على شيء وردت عن كل أمر. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه "وحشرنا عليهم كل شيء قبلاً" قال: معاينة "ما كانوا ليؤمنوا" أي أهل الشقاء "إلا أن يشاء الله" أي أهل السعادة والذين سبق لهم في علمه أن يدخلوا في الإيمان. وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن قتادة "وحشرنا عليهم كل شيء قبلاً" أي فعاينوا ذلك معاينة. وأخرج أبو الشيخ عن مجاهد قال: أفواجاً قبيلاً. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن" قال: إن للجن شياطين يضلونهم مثل شياطين الإنس يضلونهم، فيلتقي شيطان الإنس وشيطان الجن، فيقول هذا لهذا: أضلله بكذا وأضلله بكذا، فهو "يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً". وقال ابن عباس: الجن هم الجان وليسوا شياطين، والشياطين ولد إبليس وهم لا يموتون إلا مع إبليس والجن يموتون، فمنهم المؤمن ومنهم الكافر. وأخرج أبو الشيخ عن ابن مسعود قال: الكهنة هم شياطين الإنس. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "يوحي بعضهم إلى بعض" قال: شياطين الجن يوحون إلى شياطين الإنس، فإن الله يقول: "وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم". وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن قتادة في الآية قال: من الإنس شياطين ومن الجن شياطين يوحي بعضهم إلى بعض. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس زخرف القول قال: يحسن بعضهم لبعض القول ليتبعوهم في فتنتهم. وقد أخرج أحمد وابن أبي حاتم والطبراني عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا ذر تعوذ بالله من شر شياطين الجن والإنس، قال: يا نبي الله وهل للإنس شياطين؟ قال: نعم، شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً". وأخرج أحمد وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أبي ذر مرفوعاً نحوه. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس " ولتصغى " لتميل. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عنه " ولتصغى " تزيغ "وليقترفوا" يكتسبوا.

أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ

قوله: 114- "أفغير الله" الاستفهام للإنكار، والفاء للعطف على فعل مقدر، والكلام هو على إرادة القول، والتقدير: قل لهم يا محمد كيف أضل وأبتغي غير الله حكماً؟ و غير مفعول لأبتغي مقدم عليه، و حكماً المفعول الثاني أو العكس. ويجوز أن ينتصب حكماً على الحال، والحكم أبلغ من الحاكم كما تقرر في مثل هذه الصفة المشتقة. أمره الله سبحانه وتعالى أن ينكر عليهم ما طلبوه منه من أن يجعل بينه وبينهم حكماً فيما اختلفوا فيه، وإن الله هو الحكم العدل بينه وبينهم، وجملة "وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً" في محل نصب على الحال: أي كيف أطلب حكماً غير الله وهو الذي أنزل عليكم القرآن مفصلاً مبيناً واضحاً مستوفياً لكل قضية على التفصيل، ثم أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم بأن أهل الكتاب وإن أظهروا الجحود والمكابرة، فإنهم يعلمون أن القرآن منزل من عند الله بما دلتهم عليه كتب الله المنزلة كالتوراة والإنجيل من أنه رسول الله وأنه خاتم الأنبياء، و "بالحق" متعلق بمحذوف وقع حالاً: أي متلبساً بالحق الذي لا شك فيه ولا شبهة ثم نهاه عن أن يكون من الممترين في أن أهل الكتاب يعلمون بأن القرآن منزل من عند الله بالحق أو نهاه عن مطلق الامتراء ويكون ذلك تعريضاً لأمته عن أن يمتري أحد منهم، أو الخطاب لكل من يصلح له: أي فلا يكونن أحد من الناس من الممترين ولا يقدح في ذلك كون الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإن خطابه خطاب لأمته.

وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ

قوله: 115- " وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا ". قرأ أهل الكوفة كلمة بالتوحيد، وقرأ الباقون بالجمع، والمراد بالكلمات العبارات أو متعلقاتها من الوعد والوعيد. والمعنى: أن الله قد أتم وعده ووعيده، فظهر الحق وانطمس الباطل، وقيل: المراد بالكلمة أو الكلمات القرآن، و "صدقاً وعدلاً" منتصبان على التمييز أو الحال أو على أنهما نعت مصدر محذوف: أي تمام صدق وعدل "لا مبدل لكلماته" لا خلف فيها ولا مغير لما حكم به، والجملة المنفية في محل نصب على الحال أو مستأنفة "وهو السميع" لكل مسموع "العليم" بكل معلوم.

وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ

قوله: 116- "وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله" أخبره الله سبحانه بأنه إذا رام طاعة أكثر من في الأرض أضلوه، لأن الحق لا يكون إلا بيد الأقلين، ومنهم الطائفة التي تزال على الحق ولا يضرها خلاف من يخالفها، كما ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: المراد بالأكثر الكفار، وقيل: المراد بالأرض مكة: أي أكثر أهل مكة، ثم علل ذلك سبحانه بقوله: "إن يتبعون إلا الظن" أي ما يتبعون إلا الظن الذي لا أصل له، وهو ظنهم أن معبوداتهم تستحق العبادة وأنها تقربهم إلى الله "وإن هم إلا يخرصون" أي وما هم إلا يخرصون: أي يحدسون ويقدرون، وأصل الخرص القطع، ومنه خرص النخل يخرص: إذا حزره ليأخذ منه الزكاة، فالخارص يقطع بما لا يجوز القطع به إذ لا يقين منه، وإذا كان هذا حال أكثر من في الأرض فالعلم الحقيقي هو عند الله، فاتبع ما أمرك به ودع عنك طاعة غيره.

إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ

117- "إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين" وهو العالم بمن يضل عن سبيله ومن يهتدي إليه. قال بعض أهل العلم: إن "أعلم" في الموضعين بمعنى يعلم، قال ومنه قول حاتم الطائي: فحالفت طي من دوننا حلفاً والله أعلم ما كنا لهم خولا والوجه في هذا التأويل أن أفعل التفضيل لا ينصب الاسم الظاهر، فتكون من منصوبة بالفعل الذي جعل أفعل التفضيل نائباً عنه، وقيل: إن أفعل التفضيل على بابه والنصب بفعل مقدر، وقيل: إنها منصوبة بأفعل التفضيل أي إن ربك أعلم أي الناس يضل عن سبيله، وقيل: في محل نصب بنزع الخافض: أي بمن يضل قاله بعض البصريين، وقيل: في محل جر إضافة أفعل التفضيل إليها. وقد أخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "مفصلاً" قال: مبيناً. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: "صدقاً وعدلاً" قل: صدقاً فيما وعد، وعدلاً فيما حكم. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وأبو نصر السجزي في الإنابة عن محمد بن كعب القرظي في قوله: "لا مبدل لكلماته" قال: لا تبديل لشيء قاله في الدنيا والآخرة لقوله: "ما يبدل القول لدي". وأخرج ابن مردويه وابن النجار عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: " وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا " قال: لا إله إلا الله. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي اليمان عامر بن عبد الله قال:" دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد الحرام يوم فتح مكة ومعه مخصرة، ولكل قوم صنم يعبدونه، فجعل يأتيها صنماً صنما ويطعن في صدر الصنم بعصاً ثم يعقره، فكلما طعن صنماً أتبعه ضرباً بالقوس حتى يكسروه ويطرحوه خارجاً من المسجد، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: " وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم "".

فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآَيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ

لما تقدم ذكر ما يصنعه الكفار في الأنعام من تلك السنن الجاهلية أمر الله المسلمين بأن يأكلوا مما ذكر اسم الله عليه، وقيل: إنها نزلت في سبب خاص وسيأتي، ولكن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فكل ما ذكر الذابح عليه اسم الله حل إن كان مما أباح الله أكله. وقال عطاء: في هذه الآية الأمر بذكر الله على الشراب والذبح وكل مطعوم، والشرط في "إن كنتم بآياته مؤمنين" للتهييج والإلهاب: أي بأحكامه من الأوامر والنواهي التي من جملتها الأمر بالأكل مما ذكر اسم الله عليه.

وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ

والاستفهام في 119- " وما لكم أن لا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه " للإنكار: أي ما المانع لكم من أكل ما سميتم عليه بعد أن أذن الله لكم بذلك "و" الحال أن "قد فصل لكم ما حرم عليكم" أي بين لكم بياناً مفصلاً يدفع الشك ويزيل الشبهة بقوله: " قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما " إلى آخر الآية، ثم استثنى فقال: "إلا ما اضطررتم إليه" أي من جميع ما حرمه عليكم فإن الضرورة تحلل الحرام، وقد تقدم تحقيقه في البقرة. قرأ نافع ويعقوب "وقد فصل لكم ما حرم عليكم" بفتح الفعلين على البناء للفاعل، وهو الله سبحانه. وقرأ أبو عمرو وابن عامر وابن كثير بالضم فيهما على البناء للمفعول. وقرأ عطية العوفي فصل بالتخفيف: أي أبان وأظهر. قوله: "وإن كثيراً ليضلون بأهوائهم بغير علم" هم الكفار الذين كانوا يحرمون البحيرة والسائبة ونحوهما، فإنهم بهذه الأفعال المبنية على الجهل كانوا يضلون الناس فيتبعونهم ولا يعلمون أن ذلك جهل وضلالة لا يرجع إلى شيء من العلم.

وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ

120- "وذروا ظاهر الإثم وباطنه إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون" ثم أمرهم الله أن يتركوا ظاهر الإثم وباطنه. والظاهر: ما كان يظهر كأفعال الجوارح، والباطن: ما كان لا يظهر كأفعال القلب، وقيل: ما أعلنتم وما أسررتم: وقيل: الزنا الظاهر والزنا المكتوم. وأضاف الظاهر والباطن إلى الإثم لأنه يتسبب عنهما، ثم توعد الكاسبين للإثم بالجزاء بسبب افترائهم على الله سبحانه. وقد أخرج أبو داود والترمذي وحسنه والبزار وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس قال: جاءت اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: إنا نأكل مما قتلنا ولا نأكل مما قتل الله فأنزل الله: "فكلوا مما ذكر اسم الله عليه" إلى قوله: "وإن أطعتموهم إنكم لمشركون". وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير "فكلوا مما ذكر اسم الله عليه" فإنه حلال "إن كنتم بآياته" يعني القرآن "مؤمنين" قال: مصدقين: " وما لكم أن لا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه " يعني الذبائح "وقد فصل لكم ما حرم عليكم" يعني ما حرم عليكم من الميتة "وإن كثيراً" يعني من مشركي العرب "ليضلون بأهوائهم بغير علم" يعني في أمر الذبائح. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: "إلا ما اضطررتم إليه" أي من الميتة والدم ولحم الخنزير. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس "وذروا ظاهر الإثم" قال: هو نكاح الأمهات والبنات "وباطنه" قال: هو الزنا. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: الظاهر منه "لا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء" و "حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم" الآية، والباطن: الزنا. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال: علانيته وسره.

وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ

نهى الله سبحانه عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه بعد أن أمر بالأكل مما ذكر اسم الله عليه. وفيه دليل على تحريم أكل ما لم يذكر اسم الله عليه. وقد اختلف أهل العلم في ذلك، فذهب ابن عمر ونافع مولاه والشعبي وابن سيرين وهو رواية عن مالك وأحمد بن حنبل، وبه قال أبو ثور وداود الظاهري: أن ما لم يذكر اسم الله عليه من الذبائح حرام من غير فرق بين العامد والناسي لهذه الآية، ولقوله تعالى في آية الصيد: "فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه" ويزيد هذا الاستدلال تأكيداً قوله سبحانه في هذه الآية 121- "وإنه لفسق". وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة الأمر بالتسمية في الصيد وغيره. وذهب الشافعي وأصحابه وهو رواية عن مالك ورواية عن أحمد أن التسمية مستحبة لا واجبة، وهو مروي عن ابن عباس وأبي هريرة وعطاء بن أبي رباح، وحمل الشافعي الآية على من ذبح لغير الله وهو تخصيص للآية بغير مخصص. وقد روى أبو داود في المرسل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ذبيحة المسلم حلال، ذكر اسم الله أو لم يذكر". وليس في هذا المرسل ما يصلح لتخصيص الآية، نعم حديث عائشة أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: "إن قوماً يأتوننا بلحمان لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا؟ فقالوا: سموا أنتم وكلوا" يفيد أن التسمية عند الأكل تجزئ مع التباس وقوعها عند الذبح. وذهب مالك وأحمد في المشهور عنهما وأبو حنيفة وأصحابه وإسحاق بن راهويه أن التسمية إن تركت نسياناً لم تضر، وإن تركت عمداً لم يحل أكل الذبيحة. وهو مروي عن علي وابن عباس وسعيد بن المسيب وعطاء وطاوس والحسن البصري وأبي مالك وعبد الرحمن بن أبي ليلى وجعفر بن محمد وربيعة بن أبي عبد الرحمن، واستدلوا بما أخرجه البيهقي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المسلم إن نسي أن يسمي حين يذبح فليذكر اسم الله وليأكله" وهذا الحديث رفعه خطأ، وإنما هو من قول ابن عباس. وكذا أخرجه من قوله: عبد الرزاق وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر، نعم يمكن الاستدلال لهذا المذهب بمثل قوله تعالى: "ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا" كما سبق تقريره، وبقوله صلى الله عليه وسلم: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان" وأما حديث أبي هريرة الذي أخرجه ابن عدي "أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت الرجل منا يذبح وينسى أن يسمي؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اسم الله على كل مسلم" فهو حديث ضعيف قد ضعفه البيهقي وغيره. قوله: "وإنه لفسق" الضمير يرجع إلى "ما" بتقدير مضاف: أي وإن أكل ما لم يذكر لفسق، ويجوز أن يرجع إلى مصدر تأكلوا: أي فإن الأكل لفسق. وقد تقدم تحقيق الفسق. وقد استدل من حمل هذه الآية على ما ذبح لغير الله بقوله: "وإنه لفسق" ووجه الاستدلال أن الترك لا يكون فسقاً، بل الفسق الذبح لغير الله. ويجاب عنه بأن إطلاق اسم الفسق على تارك ما فرضه الله عليه غير ممتنع شرعاً "وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم" أي يوسوسون لهم بالوساوس المخالفة للحق المباينة للصواب قاصدين بذلك أن يجادلكم هؤلاء الأولياء بما يوسوسون لهم "وإن أطعتموهم" فيما يأمرونكم به وينهونكم عنه "إنكم لمشركون" مثلهم. وقد أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وأبو داود وابن ماجه وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس والطبراني وأبو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال: المشركون، وفي لفظ: قال اليهود: لا تأكلوا مما قتل الله وتأكلوا مما قتلتم أنتم، فأنزل الله: "ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه". وأخرج ابن جرير والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عنه قال: لما نزلت: "ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه" أرسلت فارس إلى قريش أن خاصموا محمداً، فقالوا له: ما تذبح أنت بيدك بسكين فهو حلال، وما ذبح الله بشمشار من ذهب يعني الميتة فهو حرام، فنزلت: "وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم" قال: الشياطين من فارس وأولياؤهم من قريش. وقد روي نحو ما تقدم في حديث ابن عباس الأول من غير طريق. وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عنه أيضاً في قوله: "وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم" قال: إبليس أوحى إلى مشركي قريش. وأخرج أبو داود وابن مردويه والبيهقي في سننه عنه أيضاً في قوله: "ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق" فنسخ، واستثني من ذلك فقال: "وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم". وأخرج عبد بن حميد عن عبد الله بن يزيد الخطمي قال: كلوا ذبائح المسلمين وأهل الكتاب مما ذكر اسم الله عليه. وروى ابن أبي حاتم عن مكحول نحو قول ابن عباس في النسخ.

أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ

قوله: 122- "أو من كان ميتاً فأحييناه". قرأ الجمهور بفتح الواو بعد همزة الاستفهام. وقرأ نافع وابن أبي نعيم بإسكانها، قال النحاس: يجوز أن يكون محمولاً على المعنى: أي انظروا وتدبروا "أفغير الله أبتغي حكماً" "أو من كان ميتاً فأحييناه" والمراد بالميت هنا الكافر أحياه الله بالإسلام، وقيل معناه: كان ميتاً حين كان نطفة فأحييناه بنفخ الروح فيه. والأول أولى، لأن السياق يشعر بذلك لكونه في تنفير المسلمين عن اتباع المشركين، وكثيراً ما تستعار الحياة للهداية والعلم، ومنه قول القائل: وفي الجهل قبل الموت موت لأهله فأجسامهم قبل القبور قبور وإن امرأ لم يحي بالعـــــلم ميــت فليس له حتى النشور نشور والنور عبارة عن الهداية والإيمان، وقيل: هو القرآن، وقيل: الحكمة، وقيل: هو النور المذكور في قوله تعالى: "يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم" والضمير في به راجع إلى النور "كمن مثله في الظلمات" أي كمن صفته في الظلمات، ومثله مبتدأ والظلمات خبره، والجملة صفة لمن، وقيل: مثل زائدة، والمعنى: كمن في الظلمات كما تقول: أنا أكرم من مثلك: أي منك، ومثله "فجزاء مثل ما قتل من النعم" "ليس كمثله شيء". وقيل المعنى: كمن مثله مثل من هو في الظلمات، و "ليس بخارج منها" في محل نصب على الحال: أي حال كونه ليس بخارج منها بحال من الأحوال.

وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ

قوله: 123- "وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها" أي مثل ذلك الجعل جعلنا في كل قرية، والأكابر جمع أكبر، قيل: هم الرؤساء والعظماء، وخصهم بالذكر لأنهم أقدر على الفساد، والمكر: الحيلة في مخالفة الاستقامة، وأصله القتل، فالماكر يفتل عن الاستقامة: أي يصرف عنها "وما يمكرون إلا بأنفسهم" أي وبال مكرهم عائد عليهم "وما يشعرون" بذلك لفرط جهلهم.

وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آَيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ

124- "وإذا جاءتهم آية" من الآيات "قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله" يريدون أنهم لا يؤمنون حتى يكونوا أنبياء، وهذا نوع عجيب من جهالاتهم الغريبة وعجرفتهم العجيبة، ونظيره "يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفاً منشرة". والمعنى: إذا جاءت الأكابر آية قالوا هذه المقالة، فأجاب الله عنهم بقوله: " الله أعلم حيث يجعل رسالته " أي إن الله أعلم بمن يستحق أن يجعله رسولاً ويكون موضعاً لها وأميناً عليها، وقد اختار أن يجعل الرسالة في محمد صفيه وحبيبه، فدعوا طلب ما ليس من شأنكم، توعدهم بقوله: "سيصيب الذين أجرموا صغار" أي ذل وهوان، وأصله من الصغر كأن الذل يصغر إلى المرء نفسه، وقيل: الصغار هو الرضا بالذل، روي ذلك عن ابن السكيت. وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس "أو من كان ميتاً فأحييناه" قال: كان كافراً ضالاً فهديناه "وجعلنا له نوراً" هو القرآن "كمن مثله في الظلمات" الكفر والضلالة. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عكرمة في الآية قال: نزلت في عمار بن ياسر. وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس" يعني عمر بن الخطاب "كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها" يعني أبا جهل بن هشام. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن زيد بن أسلم في الآية قال: نزلت في عمر بن الخطاب وأبي جهل بن هشام كانا ميتين في ضلالتهما فأحيا الله عمر بالإسلام وأعزه، وأقر أبا جهل في ضلالته وموته، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا فقال: "اللهم أعز الإسلام بأبي جهل بن هشام، أو بعمر بن الخطاب". وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن كرمة في قوله: "وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها" قال: نزلت في المستهزئين. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال: سلطنا شرارها فعصوا فيها، فإذا فعلوا ذلك أهلكناهم بالعذاب. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وأبو الشيخ عن مجاهد قال: "أكابر مجرميها" عظماءها. وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن جريج في قوله: "وإذا جاءتهم آية" الآية. قال: قالوا لمحمد حين دعاهم إلى ما دعاهم إليه من الحق: لو كان هذا حقاً لكان فينا من هو أحق أن يؤتى به من محمد "وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم". وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "سيصيب الذين أجرموا" قال: أشركوا "صغار" قال: هوان.

فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ

قوله: 125- "فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام" الشرح: الشق وأصله التوسعة، وشرحت الأمر بينته وأوضحته، والمعنى: من يرد الله هدايته للحق يوسع صدره حتى يقبله بصدر منشرح، "ومن يرد" إضلاله "يجعل صدره ضيقاً حرجاً". قرأ ابن كثير "ضيقاً" بالتخفيف مثل هين ولين. وقرأ الباقون بالتشديد وهما لغتان. وقرأ نافع "حرجاً" بالكسر، ومعناه الضيق، كرر المعنى تأكيداً، وحسن ذلك اختلاف اللفظ. وقرأ الباقون بالفتح، جمع حرجة وهي شدة الضيق، والحرجة الغيظة، والجمع حرج وحرجات، ومنه فلان يتحرج: أي يضيق على نفسه. وقال الجوهري: مكان حرج وحرج: أي ضيق كثير الشجر لا تصل إليه الراعية، والحرج الإثم. وقال الزجاج: الحرج أضيق الضيق. وقال النحاس: حرج اسم الفاعل وحرج مصدر وصف به كما يقال: رجل عدل. قوله: "كأنما يصعد في السماء". قرأ ابن كثير بالتخفيف من الصعود، شبه الكافر في ثقل الإيمان عليه بمن يتكلف ما لا يطيقه كصعود السماء. وقرأ النخعي " يصعد " وأصله يتصاعد. وقرأ الباقون "يصعد" بالتشديد وأصله يتصعد، ومعناه: يتكلف ما لا يطيق مرة بعد مرة كما يتكلف من يريد الصعود إلى السماء. وقيل: المعنى على جميع القراءات: كاد قلبه يصعد إلى السماء نبواً على الإسلام، وما في كأنما هي المهيئة لدخول كأن على الجمل الفعلية. قوله: "كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون": أي مثل ذلك الجعل الذي هو جعل الصدر ضيقاً حرجاً يجعل الله الرجس. والرجس في اللغة: النتن، وقيل: هو العذاب، وقيل: هو الشيطان يسلطه الله عليهم، وقيل: هو ما لا خير فيه، والمعنى الأول هو المشهور في لغة العرب، وهو مستعار لما يحل بهم من العقوبة وهو يصدق على جميع المعاني المذكورة.

وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ

والإشارة بقوله: 126- "وهذا صراط ربك" إلى ما عليه النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين: أي هذا طريق دين ربك لا اعوجاج فيه، وقيل: الإشارة إلى ما تقدم مما يدل على التوفيق والخذلان: أي هذا هو عادة الله في عباده يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وانتصاب "مستقيماً" على الحال كقوله تعالى: "وهو الحق مصدقاً" "وهذا بعلي شيخاً". "قد فصلنا الآيات" أي بيناها وأوضحناها "لقوم يذكرون" ما فيها ويتفهمون معانيها.

لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ

127- "لهم دار السلام عند ربهم" أي لهؤلاء المتذكرين الجنة لأنها دار السلامة من كل مكروه، أو دار الرب السلام مدخرة لهم عند ربهم يوصلهم إليها "وهو وليهم" أي ناصرهم، والباء في "بما كانوا يعملون" للسببية: أي بسبب أعمالهم.

وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِي

قوله: 128- "ويوم نحشرهم جميعاً" الظرف منصوب بمضمر يقدر متقدماً: أي واذكر يوم نحشرهم أو "ويوم نحشرهم" نقول: "يا معشر الجن"، والمراد حشر جميع الخلق في القيامة، والمعشر الجماعة: أي يوم الحشر نقول: يا جماعة الجن "قد استكثرتم من الإنس" أي من الاستمتاع بهم كقوله: "ربنا استمتع بعضنا ببعض" وقيل: استكثرتم من إغوائهم وإضلالهم حتى صاروا في حكم الأتباع لكم فعاشرناهم معكم، ومثله قولهم: استكثر الأمير من الجنود، والمراد التقريع والتوبيخ، وعلى الأول فالمراد بالاستمتاع التلذذ من الجن بطاعة الإنس لهم ودخولهم فيما يريدون منهم "وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض". أما استمتاع الجن بالإنس فهو ما تقدم من تلذذهم باتباعهم لهم، وأما استمتاع الإنس بالجن فحيث قبلوا منهم تحسين المعاصي فوقعوا فيها وتلذذوا بها، فذلك هو استمتاعهم بالجن، وقيل: استمتاع الإنس بالجن أنه كان إذا مر الرجل بواد في سفره وخاف على نفسه قال: أعوذ برب هذا الوادي من جميع ما أحذر، يعني ربه من الجن، ومنه قوله تعالى: "وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقاً" وقيل: استمتاع الجن بالإنس أنهم كانوا يصدقونهم فيما يقولون من الأخبار الغيبية الباطلة، واستمتاع الإنس بالجن أنهم كانوا يتلذذون بما يلقونه إليهم من الأكاذيب وينالون بذلك شيئاً من حظوظ الدنيا كالكهان "وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا" أي يوم القيامة اعترافاً منهم بالوصول إلى ما وعدهم الله به مما كانوا يكذبون به. ولما قالوا هذه المقالة أجاب الله عليهم فـ "قال النار مثواكم" أي موضع مقامكم. والمثوى: المقام، والجملة مستأنفة جواب سؤال مقدر. قوله: "خالدين فيها إلا ما شاء الله" المعنى الذي تقتضيه لغة العرب في هذا التركيب أنهم يخلدون في النار في كل الأوقات إلا في الوقت الذي يشاء الله عدم بقائهم فيها. وقال الزجاج: إن الاستثناء يرجع إلى يوم القيامة أي خالدين في النار إلا ما شاء الله من مقدار حشرهم من قبورهم ومقدار مدتهم في الحساب، وهو تعسف، لأن الاستثناء هو من الخلود الدائم ولا يصدق على من لم يدخل النار، وقيل: الاستثناء راجع إلى النار: أي إلا ما شاء الله من تعذيبهم بغيرها في بعض الأوقات كالزمهرير، وقيل: الاستثناء لأهل الإيمان، و ما بمعنى من: أي إلا من شاء الله إيمانه فإنه لا يدخل النار، وقيل المعنى: إلا ما شاء الله من كونهم في الدنيا بغير عذاب. وكل هذه التأويلات متكلفة، والذي ألجأ إليها ما ورد في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية من خلود الكفار في النار أبداً، ولكن لا تعارض بين عام وخاص لا سيما بعد وروده في القرآن مكرراً كما سيأتي في سورة هود: " خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد " ولعله يأتي هنالك إن شاء الله زيادة تحقيق. وقد أخرج ابن المبارك في الزهد وعبد الرزاق والفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات، عن أبي جعفر المدائني رجل من بني هاشم، وليس هو محمد بن علي قال: "سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية "فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام" قالوا: كيف يشرح صدره يا رسول الله؟ قال: نور يقذف فيه فينشرح صدره له وينفسح له، قالوا: فهل لذلك من أمارة يعرف بها؟ قال: الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل لقاء الموت". وأخرج عبد بن حميد عن فضيل نحوه. وأخرج ابن أبي الدنيا عن الحسن نحوه أيضاً. وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي الدنيا وابن جرير وأبو الشيخ والحاكم وابن مردويه والبيهقي في الشعب من طرق عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزلت هذه الآية فذكر نحوه. وأخرجه ابن مردويه عنه مرفوعاً من طريق أخرى. وأخرجه سعيد بن منصور وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات وابن النجار في تاريخه عن عبد الله بن المستورد، وكان من ولد جعفر بن أبي طالب قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية فذكر نحوه. وهذه الطرق يقوي بعضها بعضاً، والمتصل يقوي المرسل، فالمصير إلى هذا التفسير النبوي متعين. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال: كما لا يستطيع ابن آدم أن يبلغ السماء، كذلك لا يقدر على أن يدخل الإيمان والتوحيد قلبه حتى يدخله الله في قلبه. وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات عنه في الآية يقول: من أراد أن يضله يضيق عليه حتى يجعل الإسلام عليه ضيقاً والإسلام واسع وذلك حين يقول: "ما جعل عليكم في الدين من حرج" يقول: ما جعل عليكم في الإسلام من ضيق. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "دار السلام" قال: الجنة. وأخرج ابن أبي حاتم عن جابر بن زيد قال: السلام هو الله. وأخرج أبو الشيخ عن السدي قال: الله هو السلام، وداره الجنة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "قد استكثرتم من الإنس" يقول: من ضلالتكم إياهم، يعني أضللتم منهم كثيراً، وفي قوله: "خالدين فيها إلا ما شاء الله" قال: إن هذه الآية لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه لا ينزلهم جنة ولا ناراً.

وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ

قوله: 129- "وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً" أي مثل ما جعلنا بين الجن والإنس ما سلف "كذلك نولي بعض الظالمين بعضاً" والمعنى: نجعل بعضهم يتولى البعض فيكونون أولياء لبعضهم بعضاً، ثم يتبرأ بعضهم من البعض، فمعنى نولي على هذا: نجعله ولياً له. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: معناه نسلط ظلمة الجن على ظلمة الإنس. وروي عنه أيضاً أنه فسر هذه الآية بأن المعنى: نسلط بعض الظلمة على بعض فيهلكه ويذله، فيكون في الآية على هذا تهديد للظلمة بأن من لم يمتنع من ظلمه منهم سلط الله عليه ظالماً آخر. وقال فضيل بن عياض: إذا رأيت ظالماً ينتقم من ظالم فقف وانظر متعجباً، وقيل معنى نولي: نكل بعضهم إلى بعض فيما يختارونه من الكفر، والباء في "بما كانوا يكسبون" للسببية: أي بسبب كسبهم للذنوب ولينا بعضهم بعضاً.

يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ ك

قوله: 130- "يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم" أي يوم نحشرهم نقول لهم: "ألم يأتكم" أو هو شروع في حكاية ما سيكون في الحشر، وظاهره أن الله يبعث في الدنيا إلى الجن رسلاً منهم، كما يبعث إلى الإنس رسلاً منهم، وقيل معنى منكم: أي ممن هو مجانس لكم في الخلق والتكليف، والقصد بالمخاطبة، فإن الجن والإنس متحدون في ذلك، وإن كان الرسل من الإنس خاصة فهم من جنس الجن من تلك الحيثية، وقيل: إنه من باب تغليب الإنس على الجن كما يغلب الذكر على الأنثى، وقيل: المراد بالرسل إلى الجن هاهنا هم النذر منهم، كما في قوله: "ولوا إلى قومهم منذرين". قوله: "يقصون عليكم آياتي" صفة أخرى لرسل، قد تقدم بيان معنى القص. قوله: "قالوا شهدنا على أنفسنا" هذا إقرار منهم بأن حجة الله لازمة لهم بإرسال رسله إليهم، والجملة جواب سؤال مقدر فهي مستأنفة، وجملة "وغرتهم الحياة الدنيا" في محل نصب على الحال، أو هي جملة معترضة "وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين" هذه شهادة أخرى منهم على أنفسهم بأنهم كانوا كافرين في الدنيا بالرسل المرسلين إليهم والآيات التي جاءوا بها، وقد تقدم ما يفيد أن مثل هذه الآية المصرحة بإقرارهم بالكفر على أنفسهم، ومثل قولهم: "والله ربنا ما كنا مشركين" محمول على أنهم يقرون في بعض مواطن يوم القيامة وينكرون في بعض آخر لطول ذلك اليوم، واضطراب القلوب فيه وطيشان العقول، وانغلاق الأفهام وتبلد الأذهان.

ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ

والإشارة بقوله: 131- "ذلك" إلى شهادتهم على أنفسهم أو إلى إرسال الرسل إليهم. وأن في "أن لم يكن ربك مهلك القرى" هي المخففة من الثقيلة، واسمها ضمير شأن محذوف. والمعنى: ذلك أن الشأن "لم يكن ربك مهلك القرى" أو هي المصدرية، والباء في "بظلم" سببية: أي لم أكن أهلك القرى بسبب ظلم من يظلم منهم، والحال أن أهلها غافلون، لم يرسل الله إليهم رسولاً. والمعنى: أن الله أرسل الرسل إلى عباده لأنه لا يهلك من عصاه بالكفر من القرى، والحال أنهم غافلون عن الإعذار والإنذار بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، بل إنما يهلكهم بعد إرسال الرسل إليهم، وارتفاع الغفلة عنهم بإنذار الأنبياء لهم: "وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً"، وقيل المعنى: ما كان الله مهلك أهل القرى بظلم منه، فهو سبحانه يتعالى عن الظلم بل إنما يهلكهم بعد أن يستحقوا ذلك وترتفع الغفلة عنهم بإرسال الأنبياء، وقيل المعنى: أن الله لا يهلك أهل القرى بسبب ظلم من يظلم منهم مع كون الآخرين غافلين عن ذلك، فهو مثل قوله: "ولا تزر وازرة وزر أخرى".

وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ

132- "ولكل درجات مما عملوا" أي لكل من الجن والإنس درجات متفاوته مما عملوا فنجازيهم بأعمالهم، كم قال في آية أخرى: "ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون"، وفيه دليل على أن المطيع من الجن في الجنة، والعاصي في النار "وما ربك بغافل عما يعملون" من أعمال الخير والشر، والغفلة ذهاب الشيء عنك لاشتغالك بغيره. قرأ ابن عامر "تعملون" بالفوقية، وقرأ الباقون بالتحتية. وقد أخرج عبد الرزاق وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: "وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً" قال: يولي الله بعض الظالمين بعضاً في الدنيا يتبع بعضهم بعضاً في النار. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عبد الرحمن بن زيد في الآية مثل ما حكينا عنه قريباً. وأخرج أبو الشيخ عن الأعمش في تفسير الآية قال: سمعتهم يقولون: إذا فسد الزمان أمر عليهم شرارهم. وأخرج الحاكم في التاريخ والبيهقي في الشعب من طريق يحيى بن هاشم حدثنا يونس بن أبي إسحاق عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كما تكونون كذلك يؤمر عليكم". قال البيهقي: هذا منقطع ويحيى ضعيف. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "رسل منكم" قال: ليس في الجن رسل، وإنما الرسل في الإنس، والنذارة في الجن، وقرأ: " فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين ". وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ في العظمة أيضاً عن الضحاك قال: الجن يدخلون الجنة ويأكلون ويشربون. وأخرج أبو الشيخ في العظمة أيضاً عن ليث بن أبي سليم قال: مسلمو الجن لا يدخلون الجنة ولا النار، وذلك أن الله أخرج أباهم من الجنة فلا يعيده ولا يعيد ولده. وأخرج أبو الشيخ في العظمة أيضاً عن ابن عباس قال: الخلق أربعة فخلق في الجنة كلهم، وخلق في النار كلهم، وخلقان في الجنة والنار، فأما الذين في الجنة كلهم فالملائكة، وأما الذين في النار كلهم فالشياطين، وأما الذين في الجنة والنار فالإنس والجن، لهم الثواب وعليهم العقاب.

وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آَخَرِينَ

قوله: 133- "وربك الغني" أي عن خلقه لا يحتاج إليهم ولا إلى عبادتهم لا ينفعه إيمانهم ولا يضره كفرهم ومع كونه غنياً عنهم، فهو ذو رحمة بهم لا يكون غناه عنهم مانعاً من رحمته لهم، وما أحسن هذا الكلام الرباني وأبلغه، وما أقوى الاقتران بين الغنى والرحمة في هذا المقام، فإن الرحمة لهم مع الغنى عنهم هي غاية التفضل والتطول "إن يشأ يذهبكم" أيها العباد العصاة فيستأصلكم بالعذاب المفضي إلى الهلاك "ويستخلف من بعد" إهلاكـ " بعدكم ما يشاء " من خلقه ممن هو أطوع له وأسرع إلى امتثال أحكامه منكم "كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين" الكاف نعت مصدر محذوف، وما مصدرية: أي ويستخلف استخلافاً مثل إنشائكم من ذرية قوم آخرين، قيل: هم أهل سفينة نوح، ولكنه سبحانه لم يشأ ذلك فلم يهلكهم ولا استخلف غيرهم رحمة لهم ولطفاً بهم.

إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآَتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ

134- " إنما توعدون " من البعث والمجازاة "لآت" لا محالة فإن الله لا يخلف الميعاد "وما أنتم بمعجزين" أي بفائتين عن ما هو نازل بكم، وواقع عليكم: يقال أعجزني فلان: أي فاتني وغلبني.

قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ

قوله: 135- "قل يا قوم اعملوا على مكانتكم" المكانة: الطريقة، أي اثبتوا على ما أنتم عليه، فإني غير مبال بكم ولا مكترث بكفركم، إني ثابت على ما أنا عليه "فسوف تعلمون" من هو على الحق ومن هو على الباطل، وهذا وعيد شديد، فلا يرد ما يقال كيف يأمرهم بالثبات على الكفر؟ و "عاقبة الدار" هي العاقبة المحمودة التي يحمد صاحبها عليها: أي من له النصر في دار الدنيا، ومن له وراثة الأرض، ومن له الدار الآخرة. وقال الزجاج: معنى مكانتكم: تمكنكم في الدنيا، أي اعملوا على تمكنكم من أمركم، وقيل: على ناحيتكم، وقيل: على موضعكم. قرأ حمزة والكسائي "من يكون" بالتحتية، وقرأ الباقون بالفوقية. والضمير في " إنه لا يفلح الظالمون " للشأ،: أي لا يفلح من اتصف بصفة الظلم، وهو تعريض لهم بعدم فلاحهم لكونهم المتصفين بالظلم.

وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْ

قوله: 136- "وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً" هذا بيان نوع آخر من أنواع كفرهم وجهلهم وتأثيرهم لآلهتهم على الله سبحانه: أي جعلوا لله سبحانه مما خلق من حرثهم ونتاج دوابهم نصيباً ولآلهتهم نصيباً من ذلك يصرفونه في سدنتها والقائمين بخدمتها، فإذا ذهب ما لآلهتهم بانفاقه في ذلك عوضوا عنه ما جعلوه لله، وقالوا: الله غني عن ذلك، والزعم الكذب. قرأ يحيى بن وثاب والسلمي والأعمش والكسائي: "بزعمهم" بضم الزاي، وقرأ الباقون بفتحها، وهما لغتان "فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله" أي إلى المصارف التي شرع الله الصرف فيها كالصدقة وصلة الرحم، وقري الضيف "وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم" أي يجعلونه لآلهتهم وينفقونه في مصالحها "ساء ما يحكمون" أي ساء الحكم حكمهم في إيثار آلهتهم على الله سبحانه، وقيل معنى الآية: أنهم كانوا إذا ذبحوا ما جعلوه لله ذكروا عليه اسم أصنامهم، وإذا ذبحوا ما لأصنامهم لم يذكروا عليه اسم الله، فهذا معنى الوصول إلى الله، والوصول إلى شركائهم، وقد قدمنا الكلام في ذرأ.

وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ

قوله: 137- "وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم" أي ومثل ذلك التزيين الذي زينه الشيطان لهم في قسمة أموالهم بين الله وبين شركائهم زين لهم قتل أولادهم. قال الفراء والزجاج: شركاؤهم هاهنا هم الذين كانوا يخدمون الأوثان، وقيل: كان الرجل يحلف بالله لئن ولد له كذا من الذكور لينحرن أحدهم كما فعله عبد المطلب. قرأ الجمهور "زين" بالبناء للفاعل ونصب "قتل" على أنه مفعول زين وجر أولاد بإضافة قتل إليه، ورفع شركاؤهم على أنه فاعل زين، وقرأ الحسن بضم الزاي ورفع قتل، وخفض أولاد، ورفع شركاؤهم على أن قتل هو نائب الفاعل، ورفع شركاؤهم بتقدير يجعل يرجعه: أي زينه شركاؤهم، ومثله قول الشاعر: لبيك يزيد ضارع لخصومة ومختبط ما تطيح الطوائح أي يبكيه ضارع. وقرأ ابن عامر وأهل الشام بضم الزاي، ورفع قتل، ونصب أولاد، وخفض شركائهم على أن قتل مضاف إلى شركائهم، ومعموله أولادهم، ففيه الفصل بين المصدر وما هو مضاف إليه بالمفعول، ومثله في الفصل بين المصدر وما أضيف إليه قول الشاعر: تمر على ما تستمر وقد شفت علائل عبد القيس منها صدورها بجر صدورها، والتقدير: شفت عبد القيس علائل صدورها. قال النحاس: إن هذه القراءة لا تجوز في كلام ولا في شعر، وإنما أجاز النحويون التفريق بين المضاف والمضاف إليه بالظرف في الشعر لاتساعهم في الظروف، وهو أي الفصل بالمفعول به في الشعر بعيد، فإجازته في القرآن أبعد. وقال أبو غانم أحمد بن حمدان النحوي: إن قراءة ابن عامر هذه لا تجوز في العربية وهي زلة عالم، وإذا زل العالم لم يجز اتباعه ورد قوله إلى الإجماع، وإنما أجازوا في الضرورة للشاعر أن يفرق بين المضاف والمضاف إليه بالظرف كقول الشاعر: كما خط الكتاب بكف يوماً يهودي يقارب أو يــزيل وقول الآخر: لله در اليوم من لامها وقال قوم ممن انتصر لهذه القراءة: إنها إذا ثبتت بالتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم فهي فصيحة لا قبيحة. قالوا: وقد ورد ذلك في كلام العرب وفي مصحف عثمان رضي الله عنه شركائهم بالياء. وأقول: دعوى التواتر باطلة بإجماع القراء المعتبرين كما بينا ذلك في رسالة مستقلة، فمن قرأ بما يخالف الوجه النحوي فقراءته رد عليه، ولا يصح الاستدلال لصحة هذه القراءة بما ورد من الفصل في النظم كما قدمنا، وكقول الشاعر: فزججتـــــها بمزجــــة زج القلوص أبى مزاده فإن ضرورة الشعر لا يقاس عليها، وفي الآية قراءة رابعة وهي جر الأولاد والشركاء، ووجه ذلك أن الشركاء بدل من الأولاد لكونهم شركاؤهم في النسب والميراث. قوله: "ليردوهم" اللام لام كي: أي لكي يردوهم، من الإرداء وهو الإهلال "وليلبسوا عليهم دينهم" معطوف على ما قبله: أي فعلوا ذلك التزيين لإهلاكهم ولخلط دينهم عليهم "ولو شاء الله ما فعلوه" أي لو شاء الله عدم فعلهم ما فعلوه، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وإذا كان ذلك بمشيئة الله "فذرهم وما يفترون" فدعهم وافتراءهم فذلك لا يضرك. وقد أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أبان بن عثمان قال: الذرية الأصل، والذرية النسل. وأخرجا أيضاً عن ابن عباس "وما أنتم بمعجزين" قال: بسابقين. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله: "على مكانتكم" قال: على ناحيتكم. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عنه أيضاً في قوله: "وجعلوا لله" الآية. قال: جعلوا لله من ثمارهم ومائهم نصيباً وللشيطان والأوثان نصيباً، فإن سقط من ثمره ما جعلوه لله في نصيب الشيطان تركوه، وإن سقط مما جعلوه للشياطين في نصيب الله ردوه إلى نصيب الشيطان، وإن انفجر من سقي ما جعلوه لله في نصيب الشيطان تركوه، وإن انفجر من سقي ما جعلوه للشيطان في نصيب الله نزحوه، فهذا ما جعلوا لله من الحرث وسقي الماء، وأما وأما ما جعلوه للشيطان من الأنعام فهو قول الله: "ما جعل الله من بحيرة" الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عنه نحوه من طريق أخرى. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد قال: جعلوا لله مما ذرأ من الحرث جزءاً ولشركائهم جزءاً، فما ذهب به الريح مما سموا لله إلى جزء أوثانهم تركوه وقالوا الله عن هذا غني، وما ذهب به الريح من جزء أوثانهم إلى جزء الله أخذوه. والأنعام التي سموا لله: البحيرة والسائبة. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم" قال: شياطينهم يأمرونهم أن يئدوا أولادهم خوف العيلة.

وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ

هذا بيان نوع آخر من جهالاتهم وضلالاتهم. والحجر بكسر أوله وسكون ثانيه في قراءة الجمهور. وقرأ أبان بن عثمان حجر بضم الحاء والجيم، وقرأ الحسن وقتادة بفتح الحاء وإسكان الجيم، وقرأ ابن عباس وابن الزبير حرج بتقديم الراء على الجيم، وكذا هو في مصحف أبي، وهو من الحرج، يقال: فلان يتحرج: أي يضيق على نفسه الدخول فيما يشتبه عليه. والحجر على اختلاف القراءات فيه هو مصدر بمعنى اسم المفعول: أي محجور، وأصله المنع، فمعنى الآية: هذه أنعام وحرث ممنوعة، يعنون أنها لأصنامهم لا يطعمها إلا من يشاءون بزعمهم وهم خدام الأصنام. والقسم الثاني قولهم: 138- "وأنعام حرمت ظهورها" وهي البحيرة والسائبة والحام، وقيل: إن هذا القسم الثاني مما جعلوه لآلهتهم أيضاً. والقسم الثاني "أنعام لا يذكرون اسم الله عليها" وهي ما ذبحوا لآلهتهم فإنهم يذبحونها باسم أصنامهم لا باسم الله. وقيل: إن المراد لا يحجون عليها افتراء على الله: أي للافتراء عليه "سيجزيهم بما كانوا يفترون" أي بافترائهم أو بالذي يفترونه، ويجوز أن يكون افتراء منتصباً على أنه مصدر: أي افتروا افتراء، أو حال: أي مفترين، وانتصابه على العلة أظهر.

وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ

ثم بين الله سبحانه نوعاً آخر من جهالاتهم فقال: 139- "وقالوا ما في بطون هذه الأنعام" يعنون البحائر والسوائب من الأجنة "خالصة لذكورنا" أي حلال لهم "ومحرم على أزواجنا" أي على جنس الأزواج، وهن النساء فيدخل في ذلك البنات والأخوات ونحوهن، وقيل: هو اللبن جعلوه حلالاً للذكور ومحرماً على الإناث، والهاء في خالصة للمبالغة في الخلوص كعلامة ونسابة، قاله الكسائي والأخفش. وقال الفراء: تأنيثها لتأنيث الأنعام. ورد بأن ما في بطون الأنعام غير الأنعام، وتعقب هذا الرد بأن ما في بطون الأنعام أنعام، وهي الأجنة، و ما عبارة عنها، فيكون تأنيث خالصة باعتبار معنى ما، وتذكير محرم باعتبار لفظها. وقرأ الأعمش خالص قال الكسائي: معنى خالص وخالصة واحد، إلا أن الهاء للمبالغة كما تقدم عنه. وقرأ قتادة خالصة بالنصب على الحال من الضمير في متعلق الظرف الذي هو صلة لما، وخبر المبتدأ محذوف كقولك: الذي في الدار قائماً زيد، هذا قول البصريين. وقال الفراء: إنه انتصب على القطع. وقرأ ابن عباس خالصة بإضافة خالص إلى الضمير على أنه بدل من ما. وقرأ سعيد بن جبير خالصاً. "وإن يكن ميتة" قرئ بالتحتية والفوقية: أي وإن يكن الذي في بطون الأنعام "ميتة فهم فيه" أي في الذي في البطون "شركاء" يأكل منه الذكور والإناث "سيجزيهم وصفهم" أي بوصفهم على أنه منتصب بنزع الخافض، والمعنى: سيجزيهم بوصفهم الكذب على الله، وقيل المعنى: سيجزيهم جزاء وصفهم.

قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ

ثم بين الله سبحانه نوعاً آخر من جهالاتهم فقال: 140- "قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهاً" أي بناتهم بالوأد الذي كانوا يفعلونه سفهاً: أي لأجل السفه: وهو الطيش والخفة لا لحجة عقلية ولا شرعية كائناً ذلك منهم "بغير علم" يهتدون به. قوله: "وحرموا ما رزقهم الله" من الأنعام التي سموها بحائر وسوائب "افتراء على الله" أي للافتراء عليه أو افتروا افتراء عليه "قد ضلوا" عن طريق الصواب بهذه الأفعال "وما كانوا مهتدين" إلى الحق، ولا هم من أهل الاستعداد لذلك. وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وقالوا هذه أنعام وحرث حجر" قال: الحجر ما حرموا من الوصيلة وتحريم ما حرموا. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "وقالوا هذه أنعام وحرث حجر" قال: ما جعلوا لله ولشركائهم. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة "وحرث حجر" قال: حرام. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في الآية قال: يقولون حرام أن يطعم الابن شيئاً "وأنعام حرمت ظهورها" قال: البحيرة والسائبة والحامي "وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها" إذا نحروها. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أبي وائل في قوله: "وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها" قال: لم تكن يحج عليها وهي البحيرة. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس "وقالوا ما في بطون هذه الأنعام" الآية قال: اللبن. وأخرج هؤلاء إلا ابن جرير عن مجاهد في الآية قال: السائبة والبحيرة محرم على أزواجنا قال: النساء "سيجزيهم وصفهم" قال: قولهم الكذب في ذلك. وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال: كانت الشاة إذا ولدت ذكراً ذبحوه، فكان للرجال دون النساء وإن كانت أنثى تركوها فلم تذبح، وإن كانت ميتة كانوا فيها شركاء. وأخرج عبد بن حميد والبخاري وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس قال: إذا سرك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين ومائة من سورة الأنعام "قد خسر الذين قتلوا أولادهم" إلى قوله: "وما كانوا مهتدين". وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن عكرمة في الآية قال: نزلت فيمن كان يئد البنات من مضر وربيعة. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في الآية قال: هذا صنع أهل الجاهلية كان أحدهم يقتل ابنته مخافة السبي والفاقة ويغذو كلبه "وحرموا ما رزقهم الله" قال: جعلوه بحيرة وسائبة ووصيلة وحامياً تحكماً من الشيطان في أموالهم.

وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُس

هذا فيه تذكير لهم ببديع قدرة الله وعظيم صنعه 141- "أنشأ" أي خلق، والجنات: البساتين "معروشات" مرفوعات على الأعمدة "وغير معروشات" غير مرفوعات عليها، وقيل: المعروشات، ما انبسط على وجه الأرض مما يعرش مثل الكرم والزرع والبطيخ، وغير المعروشات: ما قام على ساق مثل النخل وسائر الأشجار، وقيل: المعروشات: ما أنبته الناس وعرشوه، وغير المعروشات: ما نبت في البراري والجبال. قوله: "والنخل والزرع" معطوف على جنات، وخصهما بالذكر مع دخولهما في الجنات لما فيها من الفضيلة "مختلفاً أكله" أي حال كونه مختلفاً أكله في الطعم والجودة والرداءة. قال الزجاج: وهذه مسألة مشكلة في النحو، يعني انتصاب مختلفاً على الحال لأنه يقال: قد أنشأها ولم يختلف أكلها، فالجواب أن الله سبحانه أنشأها مقدراً فيها الاختلاف، وقد بين هذا سيبويه بقوله: مررت برجل معه صقر صائداً به غداً: أي مقدراً للصيد به غداً، كما تقول: لتدخلن الدار آكلين شاربين: أي مقدرين ذلك، وهذه هي الحال المقدرة المشهورة عند النحاة المدونة في كتب النحو. وقال: "مختلفاً أكله" ولم يقل أكلهما اكتفاء بإعادة الذكر على أحدهما كقوله: "وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها" أو الضمير بمنزلة اسم الإشارة: أي أكل ذلك. قوله: "والزيتون والرمان" معطوف على جنات: أي وأنشأ الزيتون والرمان حال كونه متشابهاً وغير متشابه، وقد تقدم الكلام على تفسير هذا "كلوا من ثمره" أي من ثمر كل واحد منهما، أو من ثمر ذلك "إذا أثمر" أي إذا حصل فيه الثمر وإن لم يدرك ويبلغ حد الحصاد. قوله: "وآتوا حقه يوم حصاده". وقد اختلف أهل العلم هل هذه محكمة أو منسوخة أو محمولة على الندب، فذهب ابن عمر وعطاء ومجاهد وسعيد بن جبير إلى أن الآية محكمة، وأنه يجب على المالك يوم الحصاد أن يعطي من حضر من المساكين القبضة والضغث ونحوهما. وذهب ابن عباس ومحمد ابن الحنفية والحسن والنخعي وطاوس وأبو الشعثاء وقتادة والضحاك وابن جريج أن هذه الآية منسوخة بالزكاة. واختاره ابن جرير، ويؤتيه أن هذه الآية مكية وآية الزكاة مدنية في السنة الثانية بعد الهجرة، وإلى هذا ذهب جمهور أهل العلم من السلف والخلف. وقالت طائفة من العلماء: إن الآية محمولة على الندب لا على الوجوب. قوله: "ولا تسرفوا" أي في التصدق، وأصل الإسراف في اللغة: الخطأ، والإسراف في النفقة: التبذير، وقيل: هو خطاب للولاة يقول لهم: لا تأخذوا فوق حقكم، وقيل المعنى: لا تأخذوا الشيء بغير حقه وتضعونه في غير مستحقه.

وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ

قوله: 142- "ومن الأنعام حمولة وفرشاً" معطوف على جنات: أي وأنشأ لكم من الأنعام حمولة وفرشاً، والحمولة ما يحمل عليها، وهو يختص بالإبل فهي فعولة بمعنى فاعلة، والفرش: ما يتخذ من الوبر والصوف والشعر فراشاً يفترشه الناس، وقيل: الحمولة الإبل، والفرش: الغنم: وقيل: الحمولة: كل ما حمل عليه من الإبل والبقر والخيل والبغال والحمير، والفرش: الغنم، وهذا لا يتم إلا على فرض صحة إطلاق اسم الأنعام على جميع هذه المذكورات، وقيل: الحمولة: ما تركب، والفرش: ما يؤكل لحمه "كلوا مما رزقكم" من هذه الأشياء "ولا تتبعوا خطوات الشيطان" كما فعل المشركون من تحريم ما لم يحرمه الله وتحليل ما لم يحلله "إنه" أي الشيطان "لكم عدو مبين" مظهر للعداوة ومكاشف بها. وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وهو الذي أنشأ جنات معروشات" قال: المعروشات ما عرش الناس "وغير معروشات" ما خرج في الجبال والبرية من الثمار. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة قال: معروشات بالعيدان والقصب وغير معروشات قال: الضاحي. وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس "معروشات" قال: الكرم خاصة. وأخرج ابن المنذر والنحاس وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "وآتوا حقه يوم حصاده" قال: ما سقط من السنبل. وأخرج أبو عبيد وابن أبي شيبة وابن المنذر والنحاس والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عمر في قوله: "وآتوا حقه يوم حصاده" قال: كانوا يعطون من اعتز بهم شيئاً سوى الصدقة. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي عن مجاهد في الآية قال: إذا حصدت فحضرك المساكين فاطرح لهم من السنبل. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وأبو الشيخ عن ميمون بن مهران ويزيد الأصم قال: كان أهل المدينة إذا صرموا النخل يجيئون بالعذق فيضعونه في المسجد فيجيء السائل فيضربه بالعصا فيسقط منه، فهو قوله: "وآتوا حقه يوم حصاده". وأخرج أحمد وأبو داود في سننه من حديث جابر بن عبد الله: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من كل حادي عشرة أوسق من التمر بقنو يعلق في المسجد للمساكين. وإسناده جيد. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال: "وآتوا حقه يوم حصاده" نسخها العشر ونصف العشر. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وأبو داود في ناسخه وابن المنذر عن السدي نحوه. وأخرج النحاس وأبو الشيخ والبيهقي عن سعيد بن جبير نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة نحوه. وأخرج أبو عبيد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر عن الضحاك نحوه. وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن الشعبي قال: إن في المال حقاً سوى الزكاة. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أبي العالية قال: ما كانوا يعطون شيئاً سوى الزكاة، ثم إنهم تباذروا وأسرفوا، فأنزل الله: "ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن جريج قال: نزلت في ثابت بن قيس بن شماس جد نخلاً فقال: لا يأتيني اليوم أحد إلا أطعمته، فأطعم حتى أمسى وليس له تمرة، فأنزل الله: "ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين". وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قال: لو أنفقت مثل أبي قبيس ذهباً في طاعة الله لم يكن إسرافاً، ولو أنفقت صاعاً في معصية الله كان إسرافاً، وللسلف في هذا مقالات طويلة. وأخرج الفريابي وأبو عبيد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال: الحمولة ما حمل عليه من الإبل، والفرش صغار الإبل التي لا تحمل. وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس قال: الحمولة الكبار من الإبل، والفرش الصغار من الإبل. وأخرج أبو الشيخ عنه قال: الحمولة ما حمل عليه، والفرش ما أكل منه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً قال: الحمولة الإبل والخيل والبغال والحمير وكل شيء يحمل عليه، والفرش الغنم. وأخرج عبد بن حميد عن أبي العالية قال: الحمولة الإبل والبقر، والفرش الضأن والمعز.

ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آَلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ

اختلف في انتصاب 143- "ثمانية" على ماذا؟ فقال الكسائي: بفعل مضمر، أي وأنشأ ثمانية أزواج. وقال الأخفش سعيد: هو منصوب على البدل من حمولة وفرشاً، وقال الأخفش علي بن سليمان: هو منصوب بكلوا، أي كلوا لحم ثمانية أزواج، وقيل: منصوب على أنه بدل من ما في مما رزقكم الله والزوج خلاف الفرد، يقال: زوج أو فرد، كما يقال: شفع أو وتر، فقوله: "ثمانية أزواج" يعني ثمانية أفراد وإنما سمي الفرد زوجاً في هذه الآية لأن كل واحد من الذكر والأنثى زوج بالنسبة إلى الآخر، ويقع لفظ الزوج على الواحد، فيقال: هما زوج وهو زوج، ويقول: اشتريت زوجي حمام: أي ذكراً وأنثى. والحاصل أن الواحد إذا كان منفرداً سواء كان ذكراً أو أنثى، قيل له: فرد، وإن كان الذكر مع أنثى من جنسه قيل لهما زوج، ولكل واحد على انفراده منهما زوج، ويقال لهما أيضاً: زوجان، ومنه قوله تعالى: "فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى". قوله: " من الضأن اثنين " بدل من ثمانية منتصب بناصبه على حسب الخلاف السابق، والضأن ذوات الصوف من الغنم، وهو جمع ضائن، ويقال للأنثى: ضائنة، والجمع ضوائن، وقيل: هو جمع لا واحد له، وقيل في جمعه: ضئين كعبد وعبيد. وقرأ طلحة بن مصرف الضأن بفتح الهمزة، وقرأ الباقون بسكونها. وقرأ أبان بن عثمان: " من الضأن اثنين ومن المعز اثنين " رفعاً بالابتداء. "ومن المعز اثنين" معطوف على ما قبله مشارك له في حكمه. وقرأ ابن عامر وأبو عمرو وابن كثير وأهل البصرة بفتح العين من المعز. وقرأ الباقون بسكونها. قال النحاس: الأكثر في كلام العرب المعز والضأن بالإسكان، والمعز من الغنم خلاف الضأن، وهي ذوات الأشعار والأذناب القصار، وهو اسم جنس، وواحد المعز ماعز، مثل صحب وصاحب، وركب وراكب، وتجر وتاجر، والأنثى ماعزة. والمراد من هذه الآية: أن الله سبحانه بين حال الأنعام وتفاصيلها إلى الأقسام المذكورة توضيحاً للامتنان بها على عباده، ودفعاً لما كانت الجاهلية تزعمه من تحليل بعضها وتحريم بعضها تقولاً على الله سبحانه وافتراء عليه، والهمزة في "قل آلذكرين حرم أم الأنثيين" للإنكار، والمراد بالذكرين: الكبش والتيس، وبالأنثيين: النعجة والمعز، وانتصاب الذكرين بحرم، والأنثيين معطوف عليه منصوب بناصبه. والمعنى: الإنكار على المشركين في أمر البحيرة وما ذكر معها، وقولهم: "ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا" أي قل لهم إن كان حرم الذكور فكل ذكر حرام، وإن كان حرم الإناث فكل أنثى حرام، وإن كان حرم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين، يعني من الضأن والمعز فكل مولود حرام ذكراً كان أو أنثى وكلها مولود، فيستلزم أن كلها حرام. قوله: "نبئوني بعلم إن كنتم صادقين" أي أخبروني بعلم لا بجهل إن كنتم صادقين. والمراد من هذا التبكيت وإلزام الحجة لأنه يعلم أنه لا علم عندهم.

وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آَلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى الل

وهكذا الكلام في قوله: 144- "ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين" إلى آخره. قوله: "أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا" أم هي المنقطعة، والاستفهام للإنكار، وهي بمعنى بل والهمزة: أي بل أكنتم شهداء حاضرين مشاهدين إذ وصاكم الله بهذا التحريم. والمراد التبكيت وإلزام الحجة كما سلف قبله. قوله: "فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً" أي لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذباً فحرم شيئاً لم يحرمه الله ونسب ذلك إليه افتراء عليه كما فعله كبراء المشركين، واللام في "ليضل الناس بغير علم" للعلة: أي لأجل أن يضل الناس بجهل وهو متعلق بافترى "إن الله لا يهدي القوم الظالمين" على العموم، وهؤلاء المذكورون في السياق داخلون في ذلك دخولاً أولياً، وينبغي أن ينظر في وجه تقديم المعز والضأن على الإبل والبقر مع كون الإبل والبقر أكثر نفعاً وأكبر أجساماً وأعود فائدة، لا سيما في الحمولة والفرش اللذين وقع الإبدال منهما على ما هو الوجه الأوضح في إعراب ثمانية. وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه من طرق عن ابن عباس قال: الأزواج الثمانية من الإبل والبقر والضأن والمعز. وليت شعري ما فائدة نقل هذا الكلام عن ابن عباس من مثل هؤلاء الأئمة، فإنها لا تتعلق به فائدة، وكون الأزواج الثمانية هي المذكورة هو هكذا في الآية مصرحاً به تصريحاً لا لبس فيه. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة قال: الذكر والأنثى زوجان. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "ثمانية أزواج" قال: في شأن ما نهى الله عنه من البحيرة والسائبة. وأخرج ابن أبي حاتم عن ليث بن أبي سليم قال: الجاموس والبختي من الأزواج الثمانية. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس في قوله: "ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين" قال: فهذه أربعة "قل آلذكرين حرم أم الأنثيين" يقول: لم أحرم شيئاً من ذلك "أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين" يعني هل تشتمل الرحم إلى على ذكر أو أنثى فلم يحرمون بعضاً ويحلون بعضاً؟ "نبئوني بعلم إن كنتم صادقين" يقول: كلها حلال: يعني ما تقدم ذكره مما حرمه أهل الجاهلية.

قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِن

أمره الله سبحانه بأن يخبرهم أنه لا يجد في شيء مما أوحي إليه محرماً غير هذه المذكورات، فدل ذلك على انحصار المحرمات فيها لولا أنها مكية، وقد نزل بعدها بالمدينة سورة المائدة وزيد فيها على هذه المحرمات المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تحريم كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير وتحريم الحمر الأهلية والكلاب ونحو ذلك. وبالجملة فهذا العموم إن كان بالنسبة إلى ما يؤكل من الحيوانات كما يدل عليه السياق ويفيد الاستثناء، فيضم إليه كل ما ورد بعده في الكتاب أو السنة مما يدل على تحريم شيء من الحيوانات، وإن كان هذا العموم هو بالنسبة إلى كل شيء حرمه الله من حيوان وغيره فإنه يضم إليه كل ما ورد بعده مما فيه تحريم شيء من الأشياء. وقد روي عن ابن عباس وابن عمر وعائشة أنه لا حرام إلا ما ذكره الله في هذه الآية، وروي ذلك عن مالك وهو قول ساقط، ومذهب في غاية الضعف لاستلزامه لإهمال غيرهما مما نزل بعدها من القرآن، وإهمال ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قاله بعد نزول هذه الآية بلا سبب يقتضي ذلك ولا موجب يوجبه. قوله: "محرماً" صفة لموصوف محذوف: أي طعاماً محرماً "على" أي "طاعم يطعمه" من المطاعم، وفي "يطعمه" زيادة تأكيد وتقرير لما قبله "إلا أن يكون ميتة" أي ذلك الشيء أو ذلك الطعام أو العين أو الجثة أو النفس. وقرئ يكون بالتحتية والفوقية، وقرئ ميتة بالرفع على أن يكون تامة. والدم المسفوح: الجاري، وغير المسفوح معفو عنه كالدم الذي يبقى في العروق بعد الذبح، ومنه الكبد والطحال، وهكذا ما يتلطخ به اللحم من الدم. وقد حكى القرطبي الإجماع على هذا. قوله: "أو لحم خنزير" ظاهر تخصيص اللحم أنه لا يحرم الانتفاع منه بما عدا اللحم، والضمير في "فإنه" راجع إلى اللحم أو إلى الخنزير. والرجس: النجس، وقد تقدم تحقيقه. قوله: "أو فسقاً" عطف على لحم خنزير، و "أهل به لغير الله" صفة فسق: أي ذبح على الأصنام، وسمي فسقاً لتوغله في باب الفسق، قيل: ويجوز أن يكون "فسقاً" مفعولاً له لأهل: أي أهل به لغير الله فسقاً على عطف أهل على يكون، وهو تكلف لا حاجة إليه "فمن اضطر غير باغ ولا عاد" قد تقدم تفسيره في سورة البقرة فلا نعيده "فإن ربك غفور رحيم" أي كثير المغفرة والرحمة فلا يؤاخذ المضطر بما دعت إليه ضرورته. وقد أخرج عبد بن حميد عن طاوس قال: إن أهل الجاهلية كانوا يحرمون أشياء ويحلون أشياء، فنزلت: "قل لا أجد" الآية. وأخرج عبد بن حميد أبو داود وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء تعذراً، فبعث الله نبيه وأنزل كتابه وأحل حلاله وحرم حرامه، ما أحل فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، ثم تلا هذه الآية: "قل لا أجد" إلى آخرها. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عنه أنه تلا هذه الآية فقال: ما خلا هذا فهو حلال. وأخرج البخاري وأبو داود وابن المنذر وأبو الشيخ عن عمرو بن دينار قال: قلت لجابر بن زيد: إنهم يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر، فقال: قد كان يقول ذلك الحكم بن عمرو الغفاري عندنا بالبصرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن أبى ذلك البحر ابن عباس، وقرأ: "قل لا أجد" الآية. وأقول: وإن أبى ذلك البحر فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتمسك بقول صحابي في مقابلة قول النبي صلى الله عليه وسلم من سوء الاختيار وعدم الإنصاف. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: ليس شيء من الدواب حرام إلا ما حرم الله في كتابه: " قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما " الآية. وأخرج سعيد بن منصور وأبو داود وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عمر: أنه سئل عن أكل القنفذ، فقرأ: " قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما " الآية، فقال شيخ عنده: سمعت أبا هريرة يقول:" ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال:خبيثة من الخبائث، فقال ابن عمر: إن كان النبي صلى الله عليه وسلم قاله فهو كما قال". وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس وأبو الشيخ وابن مردويه عن عائشة: أنها كانت إذا سئلت عن كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير تلت: " قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما " الآية. وأخرج أحمد والبخاري والنسائي وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس: أن شاة لسودة بنت زمعة ماتت فقالت: يا رسول الله ماتت فلانة: تعني الشاة، قال: فلولا أخذتم مسكها؟ قالت: يا رسول الله أنأخذ مسك شاة قد ماتت؟ فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة " وأنتم لا تطعمونه، وإنما تدبغونه حتى تستنفعوا به، فأرسلت إليها فسلختها ثم دبغته، فاتخذت منه قربة حتى تخرقت عندها. ومثل هذا حديث شاة ميمونة، وهو في الصحيح. ومثله حديث: "إنما حرم من الميتة أكلها" وهو أيضاً في الصحيح. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "أو دماً مسفوحاً" قال: مهراقاً. وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال: كان أهل الجاهلية إذا ذبحوا أودجوا الدابة وأخذوا الدم فأكلوه، قال: هو دم مسفوح. وأخرج أبو الشيخ عن الشعبي: أنه سئل عن لحم الفيل والأسد فتلا " قل لا أجد في ما أوحي إلي " الآية. والأحاديث الواردة بتحريم كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير والحمر الأهلية ونحوها مستوفاة في كتب الحديث.

وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ

قدم 146- "على الذين هادوا" على الفعل للدلالة على أن هذا التحريم مختص بهم لا يجاوزهم إلى غيرهم. والذين هادوا: اليهود، ذكر الله ما حرمه عليهم عقب ذكر ما حرمه على المسلمين. والظفر: واحد الأظفار، ويجمع أيضاً على أظافير، وزاد الفراء في جموع ظفر أظافر وأظافرة وذو الظفر ما له أصبع من دابة أو طائر، ويدخل فيه الحافر والخف والمخلب، فيتناول الإبل والبقر والغنم والأوز والبط وكل ما له مخلب من الطير، وتسمية الحافر ظفراً مجاز. والأولى حمل الظفر على ما يصدق عليه اسم الظفر في لغة العرب، لأن هذا التعميم يأباه ما سيأتي من قوله: "ومن البقر والغنم" فإن كان في لغة العرب بحيث يقال على البقر والغنم كان ذكرهما من بعد تخصيصاً حرم الله ذلك عليهم عقوبة لهم على ما وقعوا فيه من الظلم كما قال تعالى: "فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم". قوله: "ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما" لا غير هذه المذكورات كلحمهما، والشحوم يدخل فيها الثروب وشحم الكلية، وقيل: الثروب جمع ثرب، وهو الشحم الرقيق الذي يكون على الكرش، ثم استثنى الله سبحانه من الشحوم ما حمتل ظهورهما من الشحم فإنه لم يحرمه الله عليهم، و "ما" في موضع نصب على الاستثناء "أو الحوايا" معطوف على ظهورهما أي إلا ما حملت ظهورهما أو حملت الحوايا، وهي المباعر التي يجتمع البعر فيها، فما حملته من الشحم غير حرام عليهم، وواحدها حاوية، مثل ضاربة وضوارب، وقيل: الحوايا: الأمعاء التي عليها الشحوم. قوله: "أو ما اختلط بعظم" معطوف على ما في "ما حملت" كذا قال الكسائي والفراء وثعلب، وقيل: إن الحوايا وما اختلط بعظم معطوفة على الشحوم. والمعنى: حرمنا عليهم شحومهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم إلا ما حملت ظهورهما فإنه غير محرم ولا وجه لهذا التكلف ولا موجب له لأنه يكون المعنى إن الله حرم عليهم إحدى هذه المذكورات. والمراد بما اختلط بعظم: ما لصق بالعظام من الشحوم في جميع مواضع الحيوان، ومنه الإلية فإنها لاصقة بعجب الذنب، والإشارة بقوله: "ذلك" إلى التحريم المدلول عليه بحرمنا أي ذلك التحريم جزيناهم به بسبب بغيهم. وقيل: إن الإشارة إلى الجزاء المدلول عليه بقوله: "جزيناهم" أي ذلك الجزاء جزيناهم، وهو تحريم ما حرمه الله عليهم "وإنا لصادقون" في كل ما نخبر به، ومن جملة ذلك هذا الخبر، وهو موجود عندهم في التوراة، ونصها: حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وكل دابة ليست مشقوقة الحافر وكل حوت ليس فيه سفاسق أي بياض انتهى.

فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ

والضمير في 147- "كذبوك" لليهود: أي فإن كذبك اليهود فيما وصفت من تحريم الله عليهم تلك الأشياء "فقل ربكم ذو رحمة واسعة" ومن رحمته حلمه عنكم وعدم معاجلته لكم بالعقوبة في الدنيا، وهو وإن أمهلكم ورحمكم فـ "لا يرد بأسه عن القوم المجرمين" إذا أنزله بهم واستحقوا المعاجلة بالعقوبة، وقيل المراد: لا يرد بأسه في الآخرة عن القوم المجرمين. والأول أولى، فإنه سبحانه قد عاجلهم بعقوبات منها تحريم الطيبات عليهم في الدنيا، وقيل: الضمير يعود إلى المشركين الذين قسموا الأنعام إلى تلك الأقسام وحللوا بعضها وحرموا بعضها، وقيل المراد: أنه ذو رحمة للمطيعين "ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين" ولا ملجئ لهذا. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "كل ذي ظفر" قال: هو الذي ليس بمنفرج الأصابع، يعني ليس بمشقوق الأصابع. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عنه "كل ذي ظفر" قال: البعير والنعامة. وأخرج أبو الشيخ عن مجاهد قال: هو كل شيء لم تنفرج قوائمه من البهائم، وما انفرج أكلته اليهود، قال: انفرجت قوائم الدجاج والعصافير فيهود تأكله، ولم ينفرج خف البعير ولا النعامة، ولا قائمة الوزينة فلا تأكل اليهود الإبل ولا النعام ولا الوزينة، ولا كل شيء لم تنفرج قائمته كذلك، ولا تأكل حمار الوحش. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله: "ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما" يعني ما علق بالظهر من الشحم "أو الحوايا" هي المبعر. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أبي صالح في قوله: "إلا ما حملت ظهورهما" قال: الألية "أو الحوايا" قال: المبعر "أو ما اختلط بعظم" قال: الشحم. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد في قوله: "أو الحوايا" قال: المباعر. وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم عن الضحاك "أو الحوايا" قال: المرائض والمباعر. وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن عباس "أو ما اختلط بعظم" قال: الألية اختلط شحم الألية بالعصعص فهو حلال وكل شحم القوائم والجنب والرأس والعين والأذن يقولون قد اختلط ذلك بعظم فهو حلال لهم، إنما حرم عليهم الثرب وشحم الكلية وكل شيء كان كذلك ليس في عظم. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "فإن كذبوك" قال: اليهود. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال: كانت اليهود يقولون: إن ما حرمه إسرائيل فنحن نحرمه، فذلك قوله: "فإن كذبوك" الآية.

سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلّ

أخبر الله عن المشركين أنهم سيقولون هذه المقالة، وهم كفار قريش أو جميع المشركين، يريدون أنه لو شاء الله عدم شركهم ما أشركوا هم ولا آباؤهم ولا حرموا شيئاً من الأنعام كالبحيرة ونحوها، وظنوا أن هذا القول يخلصهم عن الحجة التي ألزمهم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن ما فعلوه حق، ولو لم يكن حقاً لأرسل الله إلى آبائهم الذين ماتوا على الشرك، وعلى تحريم ما لم يحرمه الله رسلاً يأمرونهم بترك الشرك وبترك التحريم لما لم يحرمه الله، والتحليل لما لم يحلله 148- "كذلك كذب الذين من قبلهم" أي مثل ما كذب هؤلاء كذب من قبلهم من المشركين أنبياء الله "حتى ذاقوا بأسنا" أي استمروا على التكذيب حتى ذاقوا بأسنا الذي أنزلناه بهم، ثم أمره الله أن يقول لهم: "هل عندكم من علم فتخرجوه لنا" أي هل عندكم دليل صحيح بعد من العلم النافع فتخرجوه إلينا لننظر فيه ونتدبره، والمقصود من هذا التبكيت لهم، لأنه قد علم أنه لا علم عندهم يصلح للحجة ويقوم به البرهان ثم أوضح لهم أنهم ليسوا على شيء من العلم، وأنهم إنما يتبعون الظنون: أي ما يتبعون إلا الظن الذي هو محل الخطأ ومكان الجهل "وإن أنتم إلا تخرصون" أي تتوهمون مجرد توهم فقط كما يتوهم الخارص، وقد سبق تحقيقه.

قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ

ثم أمره الله سبحانه بأن يخبرهم أن لله الحجة البالغة على الناس: أي التي تنقطع عندها معاذيرهم وتبطل شبههم وظنونهم وتوهماتهم. والمراد بها الكتب المنزلة، والرسل المرسلة، وما جاءوا به من المعجزات 149- "فلو شاء" هدايتكم جميعاً "لهداكم أجمعين" ولكنه لم يشأ ذلك، ومثله قوله تعالى: "ولو شاء الله ما أشركوا" وما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله. ومثله كثير.

قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ

ثم أمره الله أن يقول لهؤلاء المشركين: "هلم شهداءكم" أي هاتوهم وأحضروهم، وهو اسم فعل يستوي فيه المذكر والمؤنث، والمفرد والمثنى والمجموع عند أهل الحجاز، وأهل نجد يقولون: هلما هلمي هلموا، فينطقون به كما ينطقون بسائر الأفعال، وبلغة أهل الحجاز نزل القرآن، ومنه قوله تعالى: "والقائلين لإخوانهم هلم إلينا" والأصل عند الخليل ها ضمت إليها لم، وقال غيره: أصلها هل زيدت عليهم الميم، وفي كتاب العين للخليل: أن أصلها هل أؤم: أي هل أقصدك، ثم كثر استعمالهم لها، وهذا أيضاً من باب التبكيت لهم حيث يأمرهم بإحضار الشهود على أن الله حرم تلك الأشياء مع علمه أن لا شهود لهم "فإن شهدوا" لهم بغير علم بل مجازفة وتعصب "فلا تشهد معهم" أي فلا تصدقهم ولا تسلم لهم فإنهم كاذبون جاهلون، وشهادتهم باطلة "ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا" أي ولا تتبع أهواءهم، فإنهم رأس المكذبين بآياتنا. قوله: "والذين لا يؤمنون بالآخرة" معطوف على الموصول: أي لا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا، وأهواء الذين لا يؤمنون بالآخرة "وهم بربهم يعدلون" أي يجعلون له عدلاً من مخلوقاته كالأوثان، والجملة إما في محل نصب على الحال، أو معطوفة على لا يؤمنون. وقد أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي في الأسماء والصفات عن مجاهد في قوله: "سيقول الذين أشركوا" قال: هذا قول قريش إن الله حرم هذا: أي البحيرة والسائبة، والوصيلة والحام. وأخرج أبو الشيخ عن عكرمة " قل فلله الحجة البالغة " قال: السلطان. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وصححه والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس أنه قيل له: إن ناساً يقولون ليس الشر بقدر، فقال ابن عباس: بيننا وبين أهل القدر هذه الآية: "سيقول الذين أشركوا" إلى قوله: " فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين ". قال ابن عباس: والعجز والكيس من القدر. وأخرج أبو الشيخ عن علي بن زيد قال: انقطعت حجة القدرية عند هذه الآية "قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين". وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله: "قل هلم شهداءكم" قال: أروني شهداءكم.

قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَ

قوله: 151- "قل تعالوا" أي تقدموا. قال ابن الشجري: إن المأمور بالتقدم في أصل وضع هذا الفعل كأنه كان قاعداً، فقيل له تعال: أي ارفع شخصك بالقيام وتقدم، واتسعوا فيه حتى جعلوه للواقف والماشي. وهكذا قال الزمخشري في الكشاف: إنه من الخاص الذي صار عاماً، وأصله أن يقوله من كان في مكان عال لمن هو أسفل منه، ثم كثر واتسع فيه حتى عم. قوله: "أتل ما حرم ربكم" أتل جواب الأمر، وما موصولة في محل نصب به: أي أتل الذي حرمه ربكم عليكم. والمراد من تلاوة ما حرم الله تلاوة الآيات المشتملة عليه، ويجوز أن تكون ما مصدرية: أي أتل تحريم ربكم. والمعنى: ما اشتمل على التحريم، قيل: ويجوز أن تكون ما استفهامية أي أتل أي شيء حرم ربكم على جعل التلاوة بمعنى القول، وهو ضعيف جداً، وعليكم أن تعلق بأتل، فالمعنى: أتل عليكم الذي حرم ربكم، وإن تعلق بحرم، فالمعنى أتل الذي حرم ربكم عليكم، وهذا أولى، لأن المقام مقام بيان ما هو محرم عليكم لا مقام بيان ما هو محرم مطلقاً، وقيل: إن عليكم للإغراء ولا تعلق لها بما قبلها. والمعنى عليكم أن لا تشركوا إلى آخره: أي الزموا ذلك كقوله تعالى: "عليكم أنفسكم" وهو أضعف مما قبله، وأن في " أن لا تشركوا " مفسرة لفعل التلاوة، وقال النحاس: يجوز أن تكون في موضع نصب بدلاً من ما: أي أتل عليكم تحريم الإشراك، وقيل: يجوز أن يكون في محل رفع بتقدير مبتدأ: أي المتلو أن لا تشركوا، وشيئاً مفعول أو مصدر أي لا تشركوا به شيئاً من الأشياء، أو شيئاً من الإشراك. قوله: "وبالوالدين إحساناً" أي أحسنوا بهما إحساناً، والإحسان إليهما البر بهما، وامتثال أمرهما ونهيهما. وقد تقدم الكلام على هذا. قوله: "ولا تقتلوا أولادكم من إملاق" لما ذكر حق الوالدين على الأولاد، ذكر حق الأولاد على الوالدين، وهو أن لا يقتلوهم من أجل إملاق. والإملاق الفقر، فقد كانت الجاهلية تفعل ذلك بالذكر والإناث خشية الإملاق وتفعله بالإناث خاصة خشية العار، وحكى النقاش عن مؤرج أن الإملاق الجوع بلغة الخم، وذكر منذر بن سعيد البلوطي أن الإملاق الإنفاق. يقال: أملق ماله: بمعنى أنفقه. والمعنى الأول هو الذي أطبق عليه أئمة اللغة، وأئمة التفسير هاهنا "ولا تقربوا الفواحش" أي المعاصي، ومنه " ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة " وما في "ما ظهر" بدل من الفواحش، وكذا ما بطن. والمراد بما ظهر ما أعلن به منها، وما بطن: ما أسر. وقد تقدم، "ولا تقتلوا النفس" اللام في النفس للجنس، و "التي حرم الله" صفة للنفس: أي لا تقتلوا شيئاً من الأنفس التي حرمها الله "إلا بالحق" أي إلا بما يوجبه الحق، والاستثناء مفرغ: أي لا تقتلوه في حال من الأحوال إلا في حال الحق، أو لا تقتلوها بسبب من الأسباب إلا بسبب الحق، ومن الحق قتلها قصاصاً وقتلها بسبب زنا المحصن، وقتلها بسبب الردة، ونحو ذلك من الأسباب التي ورد الشرع بها، والإشارة بقوله: "ذلكم" إلى ما تقدم مما تلاه عليهم، وهو مبتدأ " وصاكم به " خبره: أي أمركم به، وأوجبه عليكم.

وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْف

152- "ولا تقربوا مال اليتيم" أي لا تتعرضوا له بوجه من الوجوه إلا بـ الخصلة "التي هي أحسن" من غيرها، وهي ما فيه صلاحه وحفظه وتنميته، فيشمل كل وجه من الوجوه التي فيها نفع لليتيم وزيادة في ماله، وقيل: المراد بالتي هي أحسن التجارة "حتى يبلغ أشده" أي إلى غاية هي أن يبلغ اليتيم أشده، فإن بلغ ذلك فادفعوا إليه ماله، كما قال تعالى: "فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم". واختلف أهل العلم في الأشد، فقال أهل المدينة: بلوغه وإيناس رشده. وقال أبو حنيفة: خمس وعشرون سنة. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هو البلوغ. وقيل: إنه انتهاء الكهولة، ومنه قول سحيم الرباحي: أخو الخمسين مجتمع أشدى وبحديثي مداورة الشــؤون والأولى في تحقيق بلوغ الأشد أنه البلوغ إلى سن التكليف مع إيناس الرشد، وهو أن يكون في تصرفاته بماله سالكاً مسلك العقلاء، لا مسلك أهل السفه والتبذير، ويدل على هذا قوله تعالى في سورة النساء: "وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم" فجعل بلوغ النكاح، وهو بلوغ سن التكليف مقيداً بإيناس الرشد، ولعله قد سبق هنالك كلام في هذا، والأشد واحد لا جمع له، وقيل: واحده شد كفلس وأفلس وأصله من شد النهار: أي ارتفع. وقال سيبويه: واحده شدة. قال الجوهري: وهو حسن في المعنى، لأنه يقال: بلغ الكلام شدته، ولكن لا تجمع فعلة على أفعل. قوله: "وأوفوا الكيل والميزان بالقسط" أي بالعدل في الأخذ والإعطاء عند البيع والشراء "لا نكلف نفساً إلا وسعها" أي إلا طاقتها في كل تكليف من التكاليف، ومنه التكليف بإيفاء الكيل والوزن، فلا يخاطب المتولي بهما بما لا يمكن الاحتراز عنه في الزيادة والنقصان "وإذا قلتم فاعدلوا" أي إذا قلتم بقول في خبر أو شهادة أو جرح أو تعديل فاعدلوا فيه وتحروا الصواب، ولا تتعصبوا في ذلك لقريب ولا على بعيد، ولا تميلوا إلى صديق ولا على عدو، بل سووا بين الناس فإن ذلك من العدل الذي أمر الله به، والضمير في "ولو كان" راجع إلى ما يفيده "وإذا قلتم" فإنه لا بد للقول من مقول فيه، أو مقول له: أي ولو كان المقول فيه، أو المقول له "ذا قربى" أي صاحب قرابة لكم. وقيل إن المعنى: ولو كان الحق على مثل قراباتكم والأول أولى، ومثل هذه الآية قوله: "ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين". قوله: "وبعهد الله أوفوا" أي أوفوا بكل عهد عهده الله إليكم، ومن جملة ما عهده إليكم ما تلاه عليكم رسوله بأمره في هذا المقام، ويجوز أن يراد به كل عهد ولو كان بين المخلوقين، لأن الله سبحانه لما أمر بالوفاء به في كثير من الآيات القرآنية كان ذلك مسوغاً لإضافته إليه، والإشارة بقوله: "ذلكم" إلى ما تقدم ذكره "وصاكم به" أمركم به أمراً مؤكداً "لعلكم تذكرون" فتتعظون بذلك.

وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ

قوله: 153- "وأن هذا صراطي مستقيماً" أن في موضع نصب: أي واتل أن هذا صراطي قاله الفراء والكسائي. قال الفراء: ويجوز أن يكون خفضاً: أي وصاكم به، وبأن هذا. وقال الخليل وسيبويه: إن التقدير ولأن هذا صراطي مستقيماً كما في قوله سبحانه: "وأن المساجد لله". وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي: " وأن هذا " بكسر الهمزة على الاستئناف، والتقدير: الذي ذكر في هذه الآيات صراطي. وقرأ ابن أبي إسحاق ويعقوب " وأن هذا صراطي " بالتخفيف على تقدير ضمير الشأن. وقرأ الأعمش " هذا صراطي " وفي مصحف عبد الله بن مسعود (وهذا صراط ربكم) وفي مصحف أبي (وهذا صراط ربك) والصراط: الطريق، وهو طريق دين الإسلام، ونصب مستقيماً على الحال، والمستقيم المستوى الذي لا اعوجاج فيه، ثم أمرهم باتباعه ونهاهم عن اتباع سائر السبل: الأديان المتباينة طرقها "فتفرق بكم" أي تميل بكم "عن سبيله" أي عن سبيل الله المستقيم الذي هو دين الإسلام. قال ابن عطية: وهذه السبل تعم اليهودية والنصرانية والمجوسية وسائر أهل الملل وأهل البدع والضلالات من أهل الأهواء والشذوذ في الفروع وغير ذلك من أهل التعمق في الجدل والخوض في الكلام، هذه كلها عرضة للزلل ومظنة لسوء المعتقد، والإشارة بـ "ذلكم" إلى ما تقدم وهو مبتدأ وخبره "وصاكم به" أي أكد عليكم الوصية به "لعلكم تتقون" ما نهاكم عنه. وقد أخرج الترمذي وحسنه وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيكم يبايعني على هؤلاء الآيات الثلاث؟ ثم تلا "قل تعالوا" إلى ثلاث آيات، ثم قال: فمن وفى بهن فأجره على الله ومن انتقص منهن شيئاً فأدركه الله في الدنيا كانت عقوبته، ومن أخره إلى الآخرة كان أمره إلى الله إن شاء آخذه وإن شاء عفا عنه". وأخرج ابن أبي شيبة وابن الضريس وابن المنذر عن كعب الأحبار قال: أول ما أنزل في التوراة عشر آيات، وهي العشر التي أنزلت من آخر الأنعام "قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم" إلى آخرها. وأخرج أبو الشيخ عن عبيد الله بن عبد الله بن عدي بن الخيار قال: سمع كعب رجلاً يقرأ " قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا " فقال كعب: والذي نفس كعب بيده إنها لأول آية في التوراة: بسم الله الرحمن الرحيم "قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم" إلى آخر الآيات انتهى. قلت: هي الوصايا العشر التي في التوراة، وأولها أنا الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية لا يكن لك إله آخر غيري. ومنها: أكرم أباك وأمك ليطول عمرك في الأرض التي يعطيك الرب إلهك، لا تقتل، لا تزن، لا تسرق، لا تشهد على قريبك شهادة زور، لا تشته بيت قريبك، ولا تشته امرأة قريبك ولا عبده ولا أمته ولا ثوره ولا حماره ولا شيئاً مما لقريبك فلعل مراد كعب الأحبار هذا، ولليهود بهذه الوصايا عناية عظيمة وقد كتبها أهل الزبور في آخر زبورهم، وأهل الإنجيل في أول إنجيلهم. وهي مكتوبة في لوحين، وقد تركنا منها ما يتعلق بالسبت. وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن قتادة "ولا تقتلوا أولادكم من إملاق" قال: من خشية الفاقة، قال: وكان أهل الجاهلية يقتل أحدهم ابنته مخافة الفاقة عليها والسبي "ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن" قال: سرها وعلانيتها. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس "ولا تقتلوا أولادكم من إملاق" قال: خشية الفقر "ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن" قال: كانوا في الجاهلية لا يرون بالزنا بأساً في السر ويستقبحونه في العلانية فحرم الله الزنا في السر والعلانية. وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: "وأن هذا صراطي مستقيماً" قال: اعلموا أن السبيل سبيل واحد جماعة الهدى ومصيره الجنة، وأن إبليس اشترع سبلاً متفرقة جماعة الضلالة ومصيرها النار. وأخرج أحمد وعبد بن حميد والبزار والنسائي وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن مسعود قال: خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً بيده ثم قال: هذا سبيل الله مستقيماً، ثم خط خطوطاً عن يمين ذلك الخط وعن شماله ثم قال: وهذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه، ثم قرأ: "وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله". وأخرج أحمد وابن ماجه وابن مردويه من حديث جابر نحوه. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن مردويه عن ابن مسعود أن رجلاً سأله: ما الصراط المستقيم؟ قال: تركنا محمداً صلى الله عليه وسلم في أدناه وطرفه الجنة، وعن يمينه جواد وعن شماله جواد، وثم رجال يدعون من مر بهم، فمن أخذ في تلك الجواد انتهت به إلى النار، ومن أخذ على الصراط المستقيم انتهى به إلى الجنة، ثم قرأ ابن مسعود: "وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه" الآية. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس "ولا تتبعوا السبل" قال: الضلالات.

ثُمَّ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ

هذا الكلام مسوق لتقرير التوصية التي وصى الله عباده بها، وقد استشكل العطف بثم مع كون قصة موسى وإيتائه الكتاب قبل المعطوف عليه، وهو ما تقدم من قوله: "ذلكم وصاكم به" فقيل: إن ثم هاهنا بمعنى الواو، وقيل تقدير الكلام: ثم كنا قد آتينا موسى الكتاب قبل إنزالنا القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل المعنى: قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم، ثم أتل إيتاء موسى الكتاب، وقيل: إن التوصية المعطوف عليها قديمة لم يزل كل نبي يوصي بها أمته، وقيل: إن ثم للتراخي في الإخبار كما تقول: بلغني ما صنعت اليوم ثم ما صنعت بالأمس أعجب. قوله: 154- "تماماً" مفعول لأجله أو مصدر، و "على الذي أحسن" قرئ بالرفع وهي قراءة يحيى بن يعمر وابن أبي إسحاق، فيكون رفع أحسن على تقدير مبتدأ: أي على الذي هو أحسن، ومنه ما حكى سيبويه عن الخليل أنه سمع: ما أنا بالذي قائل لك شيئاً. وقرأ الباقون بالنصب على أنه فعل ماض عند البصريين، وأجاز الفراء والكسائي أن يكون اسماً نعتاً للذي، وهذا محال عند البصريين لأنه نعت للاسم قبل أن يتم، والمعنى عندهم تماماً على من أحسن قبوله والقيام به كائناً من كان، ويؤيد هذا أن ابن مسعود قرأ: (تماماً على الذين أحسنوا) وقال الحسن: كان فيهم محسن وغير محسن، فأنزل الله الكتاب تماماً على المحسنين، وقيل المعنى: أعطينا موسى التوراة زيادة على ما كان يحسنه موسى مما علمه الله قبل نزول التوراة عليه، وقيل المعنى: تماماً على الذي أحسن به الله عز وجل إلى موسى من الرسالة وغيرها، وقيل: تماماً على إحسان موسى بطاعة الله عز وجل قاله الفراء. قوله: "وتفصيلاً لكل شيء" معطوف على تماماً: أي ولأجل تفصيل كل شيء وكذا "هدى ورحمة" معطوفتان عليه: أي وللهدى والرحمة، والضمير في لعلهم راجع إلى بني إسرائيل المدلول عليه بذكر موسى، والباء في "بلقاء" متعلقة بيؤمنون.

وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ

قوله: 155- "وهذا كتاب أنزلناه مبارك" الإشارة إلى القرآن، واسم الإشارة مبتدأ وخبره كتاب، وأنزلناه صفة لكتاب ومبارك صفة أخرى له، وتقديم صفة الإنزال لكون الإنكار متعلقاً بها، والمبارك كثير البركة لما هو مشتمل عليه من المنافع الدنيوية والدينية "فاتبعوه" فإنه لما كان من عند الله وكان مشتملاً على البركة، كان اتباعه متحتماً عليكم "واتقوا" مخالفته والتكذيب بما فيه "لعلكم" إن قبلتموه ولم تخالفوه "ترحمون" برحمة الله سبحانه.

أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ

وأن في 156- "أن تقولوا" في موضع نصب. قال الكوفيون: لئلا تقولوا. وقال البصريون: كراهة أن تقولوا. وقال الفراء والكسائي: المعنى فاتقوا أن تقولوا يا أهل مكة "إنما أنزل الكتاب": أي التوراة والإنجيل "على طائفتين من قبلنا" وهم اليهود والنصارى ولم ينزل علينا كتاب "وإن كنا عن دراستهم" أي عن تلاوة كتبهم بلغاتهم "لغافلين" أي لا ندري ما فيها، ومرادهم إثبات نزول الكتابين مع الاعتذار عن اتباع ما فيهما بعدم الدراية منهم والغفلة عن معناهما.

أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آَيَاتِ

قوله: 157- "أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب" معطوف على "تقولوا" أي أو أن تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب كما أنزل على الطائفتين من قبلنا "لكنا أهدى منهم" إلى الحق الذي طلبه الله، فإن هذه المقالة والمعذرة منهم مندفعة بإرسال محمد صلى الله عليه وسلم إليهم وإنزال القرآن عليه، ولهذا قال: "فقد جاءكم بينة من ربكم" أي كتاب أنزله الله على نبيكم، وهو منكم يا معشر العرب، فلا تعتذروا بالأعذار الباطلة وتعللوا أنفسكم بالعلل الساقطة، فقد أسفر الصبح لذي عينين "وهدى ورحمة" معطوف على "بينة" أي جاءكم البينة الواضحة والهدى الذي يهتدي به كل من له رغبة في الاهتداء، ورحمة من الله يدخل فيها كل من يطلبها ويريد حصولها، ولكنكم ظلمتم أنفسكم بالتكذيب بآيات الله والصدوف عنها: أي الانصراف عنها، وصرف من أراد الإقبال إليها "فمن أظلم ممن كذب بآيات الله" التي هي رحمة وهدى للناس "وصدف عنها" فضل بانصرافه عنها، وأضل بصرف غيره عن الإقبال إليها "سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب" أي العذاب السيء بـ سبب "ما كانوا يصدفون" وقيل معنى صدف: أعرض، ويصدفون يعرضون، وهو مقارب لمعنى الصرف، وقد تقدم تحقيق معنى هذا اللفظ، والاستفهام في فمن أظلم للإنكار: أي إنكار أن يكون أحد أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها مع ما يفيده ذلك من التبكيت لهم. وقد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد "تماماً على الذي أحسن" قال: على المؤمنين المحسنين. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي صخر "تماماً على الذي أحسن" قال: تماماً لما كان قد أحسن الله. وأخرج أيضاً عن ابن زيد قال: تماماً لنعمته عليهم وإحسانه إليهم. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله "وهذا كتاب" قال: هو القرآن الذي أنزله الله على محمد "فاتبعوه واتقوا" يقول: فاتبعوا ما أحل الله فيه واتقوا ما حرم. وأخرج هؤلاء عن مجاهد في قوله: "على طائفتين من قبلنا" قال: اليهود والنصارى، خاف أن تقوله قريش. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: هم اليهود والنصارى "وإن كنا عن دراستهم" قال: تلاوتهم. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "لكنا أهدى منهم" قال: هذا قول كفار العرب. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله: "فقد جاءكم بينة من ربكم" يقول: قد جاءتكم بينة لسان عربي مبين حين لم يعرفوا دراسة الطائفتين. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "صدف عنها" قال: أعرض عنها. وأخرج عبد بن حميد عن الضحاك في قوله: "يصدفون" قال: يعرضون.

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آَمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْر

أي لما أقمنا عليهم الحجة وأنزلنا الكتاب على رسولنا المرسل إليهم، فلم ينفعهم ذلك ولم يرجعوا به عن غوايتهم فما بقي بعد هذا إلا أنهم 158- "ينظرون" أي ينتظرون "أن تأتيهم الملائكة" أي ملائكة الموت لقبض أرواحهم، وعند ذلك لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل "أو يأتي ربك" يا محمد كما اقترحوه بقولهم: "لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا" وقيل معناه: أو يأتي أمر ربك بإهلاكهم، وقيل المعنى: أو يأتي كل آيات ربك بدليل قوله: "أو يأتي بعض آيات ربك" وقيل: هو من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله، وقد جاء في القرآن حذف المضاف كثيراً كقوله "واسأل القرية" وقوله: "وأشربوا في قلوبهم العجل" أي حب العجل، وقيل: إتيان الله مجيئه يوم القيامة لفصل القضاء بين خلقه كقوله: "وجاء ربك والملك صفاً صفاً". قوله: "يوم يأتي بعض آيات ربك". قرأ ابن عمر وابن الزبير "يوم تأتي" بالفوقية، وقرأ الباقون بالتحتية. قال المبرد: التأنيث على المجاورة لمؤنث لا على الأصل ومنه قول جرير: لما أتى خبر الزبير تواضعت سور المدينة والجبال الخشع وقرأ ابن سيرين: لا تنفع بالفوقية. قال أبو حاتم: إن هذا غلط عن ابن سيرين. وقد قال الناس في هذا شيء دقيق من النحو ذكره نفطويه، وذلك أن الإيمان والنفس كل واحد منهما مشتمل على الآخر، فأنث الإيمان إذ هو من النفس. قال النحاس: وفيه وجه آخر وهو أن يؤنث الإيمان، لأنه مصدر كما يذكر المصدر المؤنث مثل "فمن جاءه موعظة من ربه". معنى "يوم يأتي بعض آيات ربك" يوم يأتي الآيات التي اقترحوها، وهي التي تضطرهم إلى الإيمان "لا ينفع نفساً إيمانها" أو ما هو أعم من ذلك فيدخل فيه ما ينتظرونه، وقيل: هي الآيات التي هي علامات القيامة المذكورة في الأحاديث الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي التي إذا جاءت لا ينفع نفساً إيمانها. قوله: "لم تكن آمنت من قبل" أي من قبل إتيان بعض الآيات، فأما التي قد كانت آمنت من قبل مجيء بعض الآيات فإيمانها ينفعها، وجملة "لم تكن آمنت من قبل" في محل نصب على أنها صفة نفساً. قوله: "أو كسبت في إيمانها خيراً" معطوف على "آمنت" والمعنى: أنه لا ينفع نفساً إيمانها عند حضور الآيات متصفة بأ،ها لم تكن آمنت من قبل، أو آمنت من قبل ولكن لم تكسب في إيمانها خيراً، فحصل من هذا أنه لا ينفع إلا الجمع بين الإيمان من قبل مجيء بعض الآيات مع كسب الخير في الإيمان، فمن آمن من قبل فقط ولم يكسب خيراً في إيمانه أو كسب خيراً ولم يؤمن فإن ذلك غير نافعه، وهذا التركيب هو كقولك: لا أعطي رجلاً اليوم أتاني لم يأتني بالأمس أو لم يمدحني في إتيانه إلي بالأمس، فإن المستفاد من هذا أنه لا يستحق العطاء إلا رجل أتاه بالأمس ومدحه في إتيانه إليه بالأمس، ثم أمره الله سبحانه أن يقول لهم: انتظروا ما تريدون إتيانه إنا منتظرون له، وهذا تهديد شديد ووعيد عظيم، وهو يقوي ما قيل في تفسير "يوم يأتي بعض آيات ربك" أنها الآيات التي اقترحوها من إتيان الملائكة وإتيان العذاب لهم من قبل الله كما تقدم بيانه. وقد أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن مسعود "هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة" قال: عند الموت "أو يأتي ربك" قال: يوم القيامة. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في تفسير الآية مثله. وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل "أو يأتي ربك" قال: يوم القيامة في ظلل من الغمام. وأخرج أحمد وعبد بن حميد في مسنده والترمذي وأبو يعلى وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "يوم يأتي بعض آيات ربك" قال: طلوع الشمس من مغربها. قال الترمذي: غريب. ورواه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد عن أبي سعيد موقوفاً. وأخرجه الطبراني وابن عدي وابن مردويه من حديث أبي هريرة مرفوعاً. وأخرجه سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد ونعيم بن حماد والطبراني عن ابن مسعود موقوفاً. فإذا ثبت رفع هذا التفسير النبوي من وجه صحيح لا قادح فيه فهو واجب التقديم له متحتم الأخذ به، ويؤيده ما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون فذلك حين لا ينفع نفساً إيمانها، ثم قرأ الآية". وأخرج مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم عن أبي ذر مرفوعاً نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس مرفوعاً نحوه أيضاً. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله: "أو كسبت في إيمانها خيراً" يقول: كسبت في تصديقها عملاً صالحاً هؤلاء أهل القبلة وإن كانت مصدقة لم تعمل قبل ذلك خيراً فعملت بعد أن رأت الآية لم يقبل منها، وإن عملت قبل الآية خيراً، ثم عملت بعد الآية خيراً قبل منها. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مقاتل في قوله: "أو كسبت في إيمانها خيراً" قال: يعني المسلم الذي لم يعمل في إيمانه خيراً وكان قبل الآية مقيماً على الكبائر. والآيات التي هي علامات القيامة قد وردت الأحاديث المتكاثرة في بيانها وتعدادها، وهي مذكورة في كتب السنة.

إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ

قرأ حمزة والكسائي 159- " فرقوا دينهم " وهي قراءة علي بن أبي طالب: أي تركوا دينهم وخرجوا عنه. وقرأ الباقون "فرقوا" بالتشديد إلا النخعي فإنه قرأ بالتخفيف. والمعنى: أنهم جعلوا دينهم متفرقاً فأخذوا ببعضه وتركوا بعضه، قيل: المراد بهم اليهود والنصارى. وقد ورد في معنى هذا، في اليهود قوله تعالى: "وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة"، وقيل: المراد بهم المشركون عبد بعضهم الصنم وبعضهم الملائكة، وقيل: الآية عامة في جميع الكفار وكل من ابتدع وجاء بما لم يأمر به الله، وهذا هو الصواب لأن اللفظ يفيد العموم فيدخل فيه طوائف أهل الكتاب وطوائف المشركين وغيرهم ممن ابتدع من أهل الإسلام، ومعنى شيعاً فرقاً وأحزاباً، فتصدق على كل قوم كان أمرهم في الدين واحداً مجتمعاً، ثم اتبع كل جماعة منهم رأي كبير من كبرائهم يخالف الصواب ويباين الحق "لست منهم في شيء" أي لست من تفرقهم، أو من السؤال عن سبب تفرقهم والبحث عن موجب تحزبهم في شيء من الأشياء فلا يلزمك من ذلك شيء ولا تخاطب به إنما عليك البلاغ، وهو مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "من غشنا فليس منا" أي نحن برآء منه، وموضع "في شيء" نصب على الحال. قال الفراء: هو على حذف مضاف: أي لست من عقابهم في شيء، وإنما عليك الإنذار، ثم سلاه الله تعالى بقوله: "إنما أمرهم إلى الله" فهو مجاز لهم بما يقتضيه مشيئته والحصر، بإنما هو في حكم التعليل لما قبله والتأكيد له "ثم" هو يوم القيامة "ينبئهم" أي يخبرهم بما ينزله بهم من المجازاة " بما كانوا يعملون " ـه من الأعمال التي تخالف ما شرعه الله لهم وأوجبه عليهم، وهذه الآية من جملة ما هو منسوخ بآية السيف.

مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ

قوله: 160- "من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها" لما توعد سبحانه المخالفين له بما توعد بين عقب ذلك مقدار جزاء العاملين بما أمرهم به الممتثلين لما شرعه لهم بأن من جاء بحسنة واحدة من الحسنات فله من الجزاء عشر حسنات، والتقدير: فله عشر حسنات أمثالها، فأقيمت الصفة مقام الموصوف. قال أبو علي الفارسي: حسن التأنيث في عشر أمثالها لما كان الأمثال مضافاً إلى مؤنث، نحو ذهبت بعض أصابعه. وقرأ الحسن وسعيد بن جبير والأعمش "فله عشر أمثالها" برفعهما. وقد ثبت هذا التضعيف في السنة بأحاديث كثيرة، وهذا التضعيف هو أقل ما يستحقه عامل الحسنة. وقد وردت الزيادة على هذا عموماً وخصوصاً، ففي القرآن كقوله: "كمثل حبة أنبتت سبع سنابل". وورد في بعض الحسنات أن فاعلها يجازى عليها بغير حساب، وورد في السنة المطهرة تضعيف الجزاء إلى ألوف مؤلفة. وقد قدمنا تحقيق هذا في موضعين من هذا التفسير فليرجع إليهما "ومن جاء بالسيئة" من الأعمال السيئة "فلا يجزى إلا مثلها" من دون زيادة عليها على قدرها في الخفة والعظم، فالمشرك يجازى على سيئة الشرك بخلوده في النار، وفاعل المعصية من المسلمين يجازى عليها بمثلها مما ورد تقديره من العقوبات كما ورد بذلك كثير من الأحاديث المصرحة بأن من عمل كذا فعليه كذا، وما لم يرد لعقوبته تقدير من الذنوب فعلينا أن نقول: يجازيه الله بمثله وإن لم نقف على حقيقة ما يجازى به، وهذا إن لم يتب، أما إذا تاب أو غلبت حسناته سيئاته أو تغمده الله برحمته وتفضل عليه بمغفرته فلا مجازاة، وأدلة الكتاب والسنة مصرحة بهذا تصريحاً لا يبقى بعده ريب لمرتاب، "وهم" أي من جاء بالحسنة ومن جاء بالسيئة "لا يظلمون" بنقص ثواب حسنات المحسنين ولا بزيادة عقوبات المسيئين. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: اختلفت اليهود والنصارى قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم فتفرقوا، فلما بعث محمد أنزل عليه "إن الذين فرقوا دينهم" الآية. وأخرج النحاس عنه في ناسخه "إن الذين فرقوا دينهم" قال: اليهود والنصارى تركوا الإسلام والدين الذي أمروا به "وكانوا شيعاً" فرقاً أحزاباً مختلفة "لست منهم في شيء" نزلت بمكة ثم نسخها "قاتلوا المشركين"-. وأخرج أبو الشيخ عنه "وكانوا شيعاً" قال: مللاً شتى. وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي هريرة في قوله: "إن الذين فرقوا دينهم" الآية قال: هم في هذه الأمة. وأخرج الحكيم الترمذي وابن جرير والطبراني والشيرازي في الألقاب وابن مردويه عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في الآية قال: هم أهل البدع والأهواء من هذه الأمة، وفي إسناده عبد بن كثير، وهو متروك الحديث ولم يرفعه غيره، ومن عداه وقفوه على أبي هريرة. وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي أمامة في الآية قال: هم الحرورية وقد رواه ابن أبي حاتم والنحاس وابن مردويه عن أبي غالب عن أبي أمامة مرفوعاً ولا يصح رفعه. وأخرج الحكيم الترمذي وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ وابن شاهين وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية وأبو نصر السجزي في الإبانة والبيهقي في شعب الإيمان عن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: "يا عائشة إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً هم أصحاب البدع وأصحاب الأهواء وأصحاب الضلالة من هذا الأمة ليست لهم توبة، يا عائشة إن لكل صاحب ذنب توبة غير أصحاب البدع وأصحاب الأهواء ليس لهم توبة وهم مني برآء". قال ابن كثير: هو غريب ولا يصح رفعه. وأخرج عبد بن حميد عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت "من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها" قال رجل من المسلمين: يا رسول الله لا إله إلا لله حسنة؟ قال: نعم أفضل الحسنات، وهذا مرسل ولا ندري كيف إسناده إلى سعيد؟. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية عن ابن مسعود "من جاء بالحسنة". قال: لا إله إلا الله. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس مثله. وأخرج أبو الشيخ عن أبي هريرة مثله أيضاً. وقد قدمنا الإشارة إلى أنها قد ثبتت الأحاديث الصحيحة بمضاعفة الحسنة إلى عشر أمثالها فلا نطيل بذكرها، ووردت أحاديث كثيرة في الزيادة على هذا المقدار، وفضل الله واسع، وعطاؤه جم.

قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ

لما بين سبحانه أن الكفار تفرقوا فرقاً وتحزبوا أحزاباً أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم: 161- "إنني هداني ربي" أي أرشدني بما أوحاه إلي "إلى صراط مستقيم" وهو ملة إبراهيم عليه السلام، و "ديناً" منتصب على الحال كما قال قطرب، أو على أنه مفعول هداني كما قال الأخفش، وقيل: منتصف بفعل يدل عليه هداني، لأن معناه عرفني: أي عرفني ديناً، وقيل: إنه بدل من محل إلى صراط، لأن معناه هداني صراطاً مستقيماً كقوله تعالى: "ويهديكم صراطاً مستقيماً" وقيل: منصوب بإضمار فعل، كأنه قيل: اتبعوا ديناً. قوله: "قيماً" قرأه الكوفيون وابن عامر بكسر القاف، والتخفيف وفتح الياء. وقرأه الباقون بفتح القاف وكسر الياء المشددة، وهما لغتان: ومعناه الدين المستقيم الذي لا عوج فيه، وهو صفة لديناً وصف به مع كونه مصدراً مبالغة، وانتصاب "ملة إبراهيم" على أنها عطف بيان لديناً، ويجوز نصبها بتقدير أعني، و "حنيفاً" منتصب على أنه حال من إبراهيم، قاله الزجاج. وقال علي بن سليمان: هو منصوب بإضمار أعني. والحنيف المائل إلى الحق، وقد تقدم تحقيقه "وما كان من المشركين" في محل نصب معطوف على حنيفاً، أو جملة معترضة مقررة لما قبلها.

قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ

قوله: 162- "قل إن صلاتي" أمره الله سبحانه أن يقول لهم بهذه المقالة عقب أمره بأن يقول لهم بالمقالة السابقة، قيل: ووجه ذلك أن ما تضمنه القول الأول إشارة إلى أصول الدين، وهذا إلى فروعها. والمراد بالصلاة جنسها فيدخل فيه جميع أنواعها، وقيل: المراد بها هنا صلاة الليل، وقيل: صلاة العيد. والنسك: جمع نسيكة، وهي الذبيحة كذا قال مجاهد والضحاك وسعيد بن جبير وغيرهم: أي ذبيحتي في الحج والعمرة. وقال الحسن: ديني. وقال الزجاج: عبادتي من قولهم: نسك فلان هو ناسك: إذا تعبد، وبه قال جماعة من أهل العلم "ومحياي ومماتي" أي ما أعمله في حياتي ومماتي من أعمال الخير، ومن أعمال الخير في الممات الوصية بالصدقات وأنواع القربات، وقيل: نفس الحياة ونفس الموت "لله" قرأ الحسن نسكي بسكون السين. وقرأ الباقون بضمها. وقرأ أهل المدينة "محياي" بسكون الياء. وقرأ الباقون بفتحها لئلا يجتمع ساكنان. قال النحاس: لم يجزه، أي السكون أحد من النحويين إلا يونس، وإنما أجازه لأن المدة التي في الألف تقوم مقام الحركة. وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر وعاصم الجحدري محيى من غير ألف وهي لغة عليا مضر، ومنه قول الشاعر: سبقوا هوي وأعنقوا لهواهم فتخرموا ولكل جنب مصرع "لله رب العالمين" أي خالصاً له لا شريك له فيه.

لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ

والإشارة 163- "بذلك" إلى ما أفاده " لله رب العالمين * لا شريك له " من الإخلاص في الطاعة وجعلها لله وحده. قوله: "وأنا أول المسلمين" أي أول مسلمي أمته، وقيل: أول المسلمين أجمعين، لأنه وإن كان متأخراً في الرسالة فهو أولهم في الخلق، ومنه قوله تعالى: "وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح" الآية، والأول أولى. قال ابن جرير الطبري: استدل بهذه الآية الشافعي على مشروعية افتتاح الصلاة بهذا الذكر، فإن الله أمر به نبيه وأنزله في كتابه، ثم ذكر حديث علي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلى الصلاة قال: "وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين" إلى قوله: "وأنا أول المسلمين" قلت: هذا هو في صحيح مسلم مطولاً، وهو أحد التوجهات الواردة، ولكنه مقيد بصلاة الليل كما في الروايات الصحيحة، وأصح التوجهات الذي كان يلازمه النبي صلى الله عليه وسلم ويرشد إليه هو: "اللهم باعد بيني وبين خطاياي" إلى آخره، وقد أوضحنا هذا في شرحنا للمنتقى بما لا يحتاج إلى زيادة عليه هنا. وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل في قوله: "إن صلاتي" قال: يعني المفروضة "ونسكي" يعني الحج. وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير "ونسكي" قال: ذبيحتي. وأخرجا أيضاً عن قتادة "إن صلاتي ونسكي" قال: حجي وذبيحتي. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "ونسكي" قال: ذبيحتي في الحج والعمرة. وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "ونسكي" قال: ضحيتي. وفي قوله: "وأنا أول المسلمين" قال: من هذه الأمة. وأخرج الحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا فاطمة قومي فاشهدي أضحيتك فإنه يغفر لك بأول قطرة تقطر من دمها كل ذنب عملته، وقولي إن صلاتي إلى وأنا أول المسلمين، قلت يا رسول الله: هذا لك ولأهل بيتك خاصة، فأهل ذلك أنتم أم للمسلمين عامة؟ قال:لا بل للمسلمين عامة".

قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ

الاستفهام في "أغير الله أبغي رباً" للإنكار وهو جواب على المشركين لما دعوه إلى عبادة غير الله: أي كيف أبغي غير الله رباً مستقلاً وأترك عبادة الله أو شريكاً لله فأعبدهما معاً، والحال أنه رب كل شيء، والذي تدعونني إلى عبادته هو من جملة من هو مربوب له مخلوق مثلي لا يقدر على نفع ولا ضر، وفي هذا الكلام من التقريع والتوبيخ لهم ما لا يقادر قدره، وغير منصوب بالفعل الذي بعده، ورباً تمييز أو مفعول ثان على جعل الفعل ناصباً لمفعولين قوله: "ولا تكسب كل نفس إلا عليها" أي لا يؤاخذ مما أتت من الذنب وارتكبت من المعصية سواها، فكل كسبها للشر عليها لا يتعداها إلى غيرها، وهو مثل قوله تعالى: "لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت" وقوله: " لتجزى كل نفس بما تسعى ". قوله: "ولا تزر وازرة وزر أخرى" أصل الوزر الثقل، ومنه قوله تعالى: "ووضعنا عنك وزرك" وهو هنا الذنب "وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم". قال الأخفش: يقال: وزر يوزر، ووزر يزر وزراً، ويجوز إزراً، وفيه رد لما كانت عليه الجاهلية من مؤاخذة القريب بذنب قريبه، والواحد من القبيلة بذنب الآخر. وقد قيل: إن المراد بهذه الآية في الآخرة وكذلك التي قبلها لقوله تعالى: "واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة" ومثله قول زينب بنت جحش:" يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث"، والأولى حمل الآية على ظاهرها: أعني العموم وما ورد من المؤاخذة بذنب الغير كالدية التي تحملها العاقلة ونحو ذلك، فيكون في حكم المخصص بهذا العموم ويقر في موضعه ولا يعارض هذه الآية قوله تعالى: "وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم" فإن المراد بالأثقال التي مع أثقالهم هي أثقال الذين يضلونهم كما في الآية الأخرى: "ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم" "ثم إلى ربكم مرجعكم" يوم القيامة "فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون" في الدنيا، وعند ذلك يظهر حق المحقين وباطل المبطلين.

وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ

قوله: 165- "وهو الذي جعلكم خلائف الأرض" خلائف جمع خليفة: أي جعلكم خلفاء الأمم الماضية والقرون السالفة، قال الشماخ: أصيبهم وتخطئني المنايـــا وأخلف في ربوع عن ربوع أو المراد أنه يخلف بعضهم بعضاً، أو أن هذا النوع الإنساني خلفاء الله في أرضه "ورفع بعضكم فوق بعض درجات" في الخلق والرزق والقوة والفضل والعلم، ودرجات منصوب بنزع الخافض: أي إلى درجات " ليبلوكم في ما آتاكم " أي ليختبركم فيما آتاكم من تلك الأمور، أو ليبتلي بعضكم ببعض كقوله تعالى: "وجعلنا بعضكم لبعض فتنة" ثم خوفهم فقال: "إن ربك سريع العقاب" فإنه وإن كان في الآخرة فكل آت قريب كما قال: "وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب" ثم رغب من يستحق الترغيب من المسلمين فقال: "وإنه لغفور رحيم" أي كثير الغفران والرحمة. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ولا تزر وازرة" قال: لا يؤاخذ أحد بذنب غيره. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله: "وهو الذي جعلكم خلائف الأرض" قال: أهلك القرون الأولى فاستخلفنا فيها بعدهم "ورفع بعضكم فوق بعض درجات" قال: في الرزق.


1-الفاتحة 2-البقرة 3-آل-عمران 4-النساء 5-المائدة 6-الأنعام 7-الأعراف 8-الأنفال 9-التوبة 10-يونس 11-هود 12-يوسف 13-الرعد 14-إبراهيم 15-الحجر 16-النحل 17-الإسراء 18-الكهف 19-مريم 20-طه 21-الأنبياء 22-الحج 23-المؤمنون 24-النور 25-الفرقان 26-الشعراء 27-النمل 28-القصص 29-العنكبوت 30-الروم 31-لقمان 32-السجدة 33-الأحزاب 34-سبأ 35-فاطر 36-يس 37-الصافات 38-ص 39-الزمر 40-غافر 41-فصلت 42-الشورى 43-الزخرف 44-الدخان 45-الجاثية 46-الأحقاف 47-محمد 48-الفتح 49-الحجرات 50-ق 51-الذاريات 52-الطور 53-النجم 54-القمر 55-الرحمن 56-الواقعة 57-الحديد 58-المجادلة 59-الحشر 60-الممتحنة 61-الصف 62-الجمعة 63-المنافقون 64-التغابن 65-الطلاق 66-التحريم 67-الملك 68-القلم 69-الحاقة 70-المعارج 71-نوح 72-الجن 73-المزمل 74-المدثر 75-القيامة 76-الإنسان 77-المرسلات 78-النبأ 79-النازعات 80-عبس 81-التكوير 82-الانفطار 83-المطففين 84-الانشقاق 85-البروج 86-الطارق 87-الأعلى 88-الغاشية 89-الفجر 90-البلد 91-الشمس 92-الليل 93-الضحى 94-الشرح 95-التين 96-العلق 97-القدر 98-البينة 99-الزلزلة 100-العاديات 101-القارعة 102-التكاثر 103-العصر 104-الهمزة 105-الفيل 106-قريش 107-الماعون 108-الكوثر 109-الكافرون 110-النصر 111-المسد 112-الإخلاص 113-الفلق 114-الناس