هي اثنتان وسبعون آية، وقيل خمس وسبعون وهي مكية في قول الحسن وعكرمة وجابر بن زيد. وأخرج ابن الضريس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: أنزلت سورة الزمر بمكة. وأخرج النحاس في ناسخه عنه قال: نزلت بمكة سورة الزمر سوى ثلاثة آيات نزلن بالمدينة في وحشي قاتل حمزة "يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم" الثلاث الآيات. وقال آخرون: إلى سبع آيات من قوله: "قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم" إلى آخر السبع. وأخرج النسائي عن عائشة قالت "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول ما يريد أن يفطر، ويفطر حتى نقول ما يريد أن يصوم، وكان يقرأ في كل ليلة بني إسرائيل والزمر". وأخرجه الترمذي عنها بلفظ: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينام حتى يقرأ الزمر وبني إسرائيل". قوله: 1- "تنزيل الكتاب" ارتفاعه على أنه خبر مبتدإ محذوف هو اسم إشارة: أي هذا تنزيل. وقال أبو حيان إن المبتدأ المقدر لفظ هو ليعود على قوله: "إن هو إلا ذكر للعالمين"، كأنه قيل: وهذا الذكرما هو؟ فقيل هو تنزيل الكتاب، وقيل ارتفاعه على أنه مبتدأ وخبره الجار والمجرور بعده: أي تنزيل كائن من الله، وإلى هذا ذهب الزجاج والفراء. قال الفراء: ويجوز أن يكون مرفوعاً بمعنى هذا تنزيل، وأجاز الفراء والكسائي النصب على أنه مفعول به لفعل مقدر: أي اتبعوا أو اقرأوا تنزيل الكتاب. وقال الفراء: يجوز نصبه على الإغراء: أي الزموا، والكتاب هو القرآن، وقوله: "من الله العزيز الحكيم" على الوجه الأول صلة للتنزيل، أو خبر بعد خبر، أو خبر مبتدإ محذوف، أو متعلق بمحذوف على أنه حال عمل فيه اسم الإشارة المقدر.
2- "إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق" الباء سببية متعلقة بالإنزال: أي أنزلناه بسبب الحق، ويجوز أن تتعلق بمحذوف هو حال من الفاعل: أي متلبسين بالحق، أو من المفعول: أي متلبساً بالحق، والمراد كل ما فيه من إثبات التوحيد والنبوة والمعاد وأنواع التكاليف. قال مقاتل: يقول لم ننزله باطلاً لغير شيء.
3- "فاعبد الله مخلصاً له الدين" الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، وانتصاب مخلصاً على الحال من فاعل اعبد، والإخلاص أن يقصد العبد بعمله وجه الله سبحانه، والدين العبادة والطاعة، ورأسها توحيد الله وأنه لا شريك له. قرأ الجمهور الدين بالنصب على أنه مفعول مخلصاً. وقرأ ابن أبي عبلة برفعه على أن مخلصاً مسند إلى الدين على طريقة المجاز. قيل وكان عليه أن يقرأ مخلصاً بفتح اللام. وفي الآية دليل على وجوب النية وإخلاصها عن الشوائب، لأن الإخلاص من الأمور القلبية التي لا تكون إلا بأعمال القلب، وقد جاءت السنة الصحيحة أن ملاك الأم في الأقوال والأفعال النية، كما في حديث "إنما الأعمال بالنيات"، وحديث "لا قول ولا عمل إلا بنية".
وجملة 4- "ألا لله الدين الخالص" مستأنفة مقررة لما قبلها من الأمر بالإخلاص: أي إن الدين الخالص من شوائب الشرك وغيره هو لله، وما سواه من الأديان فليس بدين الله الخالص الذي أمر به. قال قتادة: الدين الخالص شهادة أن لا إله إلا الله "والذين اتخذوا من دونه أولياء" لما أمر سبحانه بعبادته على وجه الإخلاص وأن الدين الخالص له لا لغيره بين بطلان الشرك الذي هو مخالف للإخلاص والموصول عبارة عن المشركين، ومحله الرفع على الابتداء، وخبره قوله "إن الله يحكم بينهم"، وجملة "ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى" في محل نصب على الحال بتقدير القول، والاستثناء مفرغ من أعم العلل، والمعنى: والذين لم يخلصوا العبادة لله، بل شابوها بعبادة غيره قائلين ما نعبدهم لشيء من الأشياء إلا ليقربونا إلى الله تقريباً والضمير في نعبدهم راجع إلى الأشياء التي كانوا يعبدونها من الملائكة وعيسى والأصنام، وهم المرادون بالأولياء والمراد بقوله: "إلا ليقربونا إلى الله زلفى" الشفاعة، كما حكاه الواحدي عن المفسرين. قال قتادة: كانوا إذا قيل لهم من ربكم وخالقكم ومن خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماء؟ قالوا: الله، فيقال لهم: ما معنى عبادتكم للأصنام؟ قالوا: ليقربونا إلى الله زلفى ويشفعوا لنا عنده. قال الكلبي: جواب هذا الكلام قوله في سورة الأحقاف: "فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قرباناً آلهة"، والزلفى اسم أقيم مقام المصدر، كأنه قال: إلا ليقربونا إلى الله تقريباً. وفي قراءة ابن مسعود وابن عباس ومجاهد قالوا ما نعبدهم ومعنى "إن الله يحكم بينهم" أي بين أهل الأديان يوم القيامة فيجازي كلاً بما يستحقه، وقيل بين المخلصين للدين وبين الذين لم يخلصوا، وحذف الأول لدلالة الحالة عليه، ومعنى " في ما هم فيه يختلفون " في الذي اختلفوا فيه من الدين بالتوحيد والشرك، فإن كل طائفة تدعي أن الحق معها "إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار" أي لا يرشد لدينه ولا يوفق للاهتداء إلى الحق من هو كاذب في زعمه أن الآلهة تقربه إلى الله وكفر باتخاذها آلهة وجعلها شركاء لله، والكفار صيغة مبالغة تدل على أن كفر هؤلاء قد بلغ إلى الغاية. وقرأ الحسن والأعرج كذاب على صيغة المبالغة ككفار، ورويت هذه القراءة عن أنس.
5- "لو أراد الله أن يتخذ ولداً لاصطفى" هذا مقرر لما سبق من إبطال قول المشركين بأن الملائكة بنات الله لتضمنه استحالة الولد في حقه سبحانه على الإطلاق، فلو أراد أن يتخذ ولداً لامتنع اتخاذ الولد حقيقة ولم يتأت ذلك إلا بأن يصطفي "مما يخلق ما يشاء" أي يختار من جملة خلقه ما يشاء أن يصطفيه، إذ لا موجود سواه إلا وهو مخلوق له، ولا يصح أن يكون المخلوق ولداً للخالق لعدم المجانسة بينهما، فلم يبق إلا أن يصطفيه عبداً كما يفيده التعبير بالاصطفاء مكان الاتخاذ، فمعنى الآية: لو أراد أن يتخذ ولداً لوقع منه شيء ليس هو من اتخاذ الولد، بل إنما هو من الاصطفاء لبعض مخلوقاته، ولهذا نزه سبحانه نفسه عن اتخاذ الولد عن الاطلاق فقال: "سبحانه" أي تنزيهاً له عن ذلك، وجملة "هو الله الواحد القهار" مبينة لتنزهه بحسب الصفات بعد تنزهه بحسب الذات: أي هو المستجمع لصفات الكمال المتوحد في ذاته فلا مماثل له القهار لكل مخلوقاته، ومن كان متصفاً بهذه الصفات استحال وجود الولد في حقه. لأن الولد مماثل لوالده ولا مماثل له سبحانه، ومثل هذه الآية قوله سبحانه "لو أردنا أن نتخذ لهواً لاتخذناه من لدنا".
ثم لما ذكر سبحانه كونه منزهاً عن الولد بكونه إلهاً واحداص قهاراً ذكر ما يدل على ذلك من صفاته فقال: 6- "خلق السموات والأرض بالحق" أي لم يخلقهما باطلاً لغير شيء، ومن كان هذا الخلق العظيم خلقه استحال أن يكون له شريك أو صاحبة أو ولد. ثم بين كيفية تصرفه في السموات والأرض فقال "يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل" التكوير في اللغة طرح الشيء بعضه على بعض. يقال كور المتاع: إذا ألقى بعضه على بعض، ومنه كور العمام، فمعنى تكوير الليل على النهار تغشيته إياه حتى يذهب ضوؤه، ومعنى تكوير النهار على الليل: تغشيته إياه حتى تذهب ظلمته، وهو معنى قوله تعالى: " يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا " هكذا قال قتادة وغيره. وقال الضحاك: أي يلقى هذا على هذا، وهذا على هذا، وهو مقارب للقول الأول. وقيل معنى الآية: أن ما نقص من الليل دخل في النهار، وما نقص من النهار دخل في الليل، وهو معنى قوله: "يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل" وقيل المعنى: إن هذا يكر على هذا وهذا يكر على هذا كروراً متتابعاً. قال الراغب: تكوير الشيء إدارته وضم بعضه إلى بعض ككور العمامة اهـ. والإشارة بهذا التكوير المذكور في الآية إلى جريان الشمس في مطالعها وانتقاص الليل والنهار وازديادهما. قال الرازي: إن النور والظلمة عسكران عظيمان، وفي كل يوم يغلب هذا ذاك، وذاك هذا، ثم ذكر تسخيره لسلطان النهار وسلطان الليل، وهما الشمس والقمر فقال: "وسخر الشمس والقمر" أي جعلهما منقادين لأمره بالطلوع والغروب لمنافع العباد، ثم بين كيفية هذا التسخير فقال: "كل يجري لأجل مسمى" أي يجري في فلكه إلى أن تنصرم الدنيا، وذلك يوم القيامة وقد تقدم الكلام على الأجل المسمى لجريهما مستوفى في سورة يس "ألا هو العزيز الغفار" ألا حرف تنبيه، والمعنى: تنبهوا أيها العباد، فالله هو الغالب الساتر لذنونب خلقه بالمغفرة. ثم بين سبحانه نوعاً آخر من قدرته وبديع صنعه، فقال: "خلقكم من نفس واحد" وهي نفس آدم "ثم جعل منها زوجها" جاء بثم للدلالة على ترتيب خلق حواء على خلق آدم، وتراخيه عنه لأنها خلقت منه، والعطف: إما على مقدر هو صفة لنفس. قال الفراء والزجاج التقدير خلقكم من نفس خلقها واحدة ثم جعل منها زوجها. ويجوز أن يكون العطف على معنى واحدة: أي من نفس انفردت ثم جعل إلخ، والتعبير بالجعل دون الخلق مع العطف بثم للدلالة على أن خلق حواء من ضلع آدم أدخل في كونه آية باهرة دالة على كمال القدرة، لأن خلق آدم هو على عادة الله المستمرة في خلقه، وخلقها على الصفة المذكورة لم تجر به عادة لكونه لم يخلق سبحانه أنثى من ضلع رجل غيرها، وقد تقدم تفسير هذه الآية مستوفى في سورة الأعراف. ثم بين سبحانه نوعاً آخر من قدرته الباهرة فقال: "وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج" وهو معطوف على خلقكم، وعبر بالإنزال لما يروى أنه خلقها في الجنة ثم أنزلها، فيكون الإنزال حقيقة، ويحتمل أن يكون مجازاً لأنها لم تعش إلا بالنبات، والنبات إنما يعي بالماء والماء منزل من السماء، كانت الأنعام كأنها منزلة، لأن سبب سببها منزل كما أطلق على السبب في قوله: إذا نزل السماء بأرض قوم رعيناه وإن كانوا غضابا وقيل إن أنزل بمعنى أنشأ وجعل، أو بمعنى أعطى، وقيل جعل الخلق إنزالاً، لأن الخلق إنما يكون بأمر ينزل من السماء، والثمانية الأزواج هي ما في قوله: " من الضأن اثنين ومن المعز اثنين " "ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين" ويعني بالاثنين في الأربعة المواضع الذكر والأنثى، وقد تقدم تفسير الآية في سورة الأنعام. ثم بين سبحانه نوعاً آخر من قدرته البديعة فقال: "يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلق" والجملة استئنافية لبيان ما تضمنته من الأطوار المختلفة في خلقهم، وخلقاً مصدر مؤكد للفعل المذكور، و"من بعد خلق" صفة له: أي خلقاً كائناً من بعد خلق. قال قتادة والسدي: نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظماً ثم لحماً. وقال ابن زيد: خلقكم خلقاً في بطون أمهاتكم من بعد خلقكم في ظهر آدم، وقوله: "في ظلمات ثلاث" متعلق بقوله يخلقكم وهذه الظلمات الثلاث هي: ظلمة البطن، وظلمة الرحم،وظلمة المشيمة قاله مجاهد وعكرمة وقتادة والضحاك. وقال سعيد بن جبير: ظلمة المشيمة، وظلمة الرحم، وظلمة الليل. وقال أبو عبيدة: ظلمة صلب الرجل، وظلمة بطن المرأة، وظلمة الرحم، والإشارة بقوله: "ذلك الله" إليه سبحانه باعتبار أفعاله السابقة، والاسم الشريف خبره "ربكم" خبر آخر "له الملك" الحقيقي في الدنيا والآخرة لا شركة لغير فيه، وهو خبر ثالث، وقوله: "لا إله إلا هو" خبر رابع "فأنى تصرفون" أي فكيف تنصرفون عن عبادته وتنقلبون عنها إلى عبادة غيره. قرأ حمزة " أمهاتكم " بكسر الهمزة والميم. وقرأ الكسائي بكسر الهمزة وفتح الميم. وقرأ الباقون بضم الهمزة وفتح الميم. وقد أخرج ابن مردويه عن يزيد الرقاشي أن رجلاً قال: "يا رسول الله إنا نعطي أموالنا التماس الذكر فهل لنا في ذلك من أجر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:لا، قال: يا رسول الله إنما نعطي التماس الأجر والذكر فهل لنا أجر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله لا يقبل إلا ما أخلص له، ثم تلا هذه الآية "ألا لله الدين الخالص"". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "يكور الليل" قال: يحمل الليل. وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "خلقاً من بعد خلق" قال: علقة ثم مضغة ثم عظاماً "في ظلمات ثلاث" البطن والرحم والمشيمة.
لما ذكر سبحانه النعمالتي أنعم بها على عباده وبين لهم من بديع صنعه وعجيب فعله ما يوجب على كل عاقل أن يؤمن به عقبه بقوله: 7-"إن تكفروا فإن الله غني عنكم" أي غير محتاج إليكم ولا إلى أيمانكم ولا إلى عبادتكم له فإنه الغني المطلق، "و" مع كون كفر الكافر لا يضره كما أنه لا ينفعه إيمان المؤمن، فهو أيضاً "لا يرضى لعباده الكفر" أي لا يرضى لأحد من عباده الكفر ولا يحبه ولا يأمر به، ومثل هذه الآية قوله: " إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد " ومثلها ما ثبت في صحيح مسلم من قوله صلى الله عليه وسلم: "يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على قلب أفجر رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً". وقد اختلف المفسرون في هذه الآية هل هي على عمومها، وإن الكفر غير مرضي لله سبحانه على كل حال كما هو الظاهر، أو هي خاصة؟ والمعنى: لا يرضى لعباده المؤمنين الكفر، وقد ذهب إلى التخصيص حبر الأمة ابن عباس رضي الله عنه كما سيأتي بيانه آخر البحث، وتابعه على ذلك عكرمة والسدي وغيرهما. ثم اختلفوا في الآية اختلافاً آخر. فقال قوم: إنه يريد كفر الكافر ولا يرضاه، وقال آخرون: إنه لا يريده ولا يرضاه، والكلام في تحقيق مثل هذا يطول جداً. وقد استدل القائلون بتخصيص هذه الآية، والمثبتون للإرادة مع عدم الرضى بما ثبت في آيات كثيرة من الكتاب العزيز أنه سبحانه "يضل من يشاء" "ويهدي من يشاء" " وما تشاؤون إلا أن يشاء الله " ونحو هذا مما يؤدي معناه كثير في الكتاب العزيز. ثم لما ذكر سبحانه أنه لا يرضى لعباده الكفر بين أنه يرضى لهم الشكر فقال: "وإن تشكروا يرضه لكم" أي يرضى لكم الشكر المدلول عليه بقوله وإن تشكروا ويثبكم عليه، وإنما رضي لهم سبحانه الشكر لأنه سبب سعادتهم في الدنيا والآخرة كما قال سبحانه: "لئن شكرتم لأزيدنكم" قرأ أبو جعفر وأبو عمرو وشيبة وهبيرة عن عاصم بإسكان الهاء من يرضه، وأشبع الضمة على الهاء ابن ذكوان وابن كثير والكسائي وابن محيصن وورش عن نافع، واختلس الباقون "ولا تزر وازرة وزر أخرى" أي لا تحمل نفس حاملة للوزر حمل نفس أخرى، وقد تقدم تفسير هذه الآية مستوفى "ثم إلى ربكم مرجعكم" يوم القيامة "فينبئكم بما كنتم تعملون" من خير وشر، وفيه تهديد شديد "إنه عليم بذات الصدور" أي ما تضمره القلوب وتستره، فكيف بما تظهره وتبديه.
8- "وإذا مس الإنسان ضر" أي ضر كان من مرض أو فقر أو خوف "دعا ربه منيباً إليه" أي راجعاً إليه مستغيثاً به في دفع ما نزل به تاركاً ما كان يدعوه ويستغيث به من ميت أو حي أو صنم أو غير ذلك "ثم إذا خوله نعمة منه" أي أعطاء وملكه، يقال خوله أي ملكه إياه، وكان أبو عمرو بن العلاء ينشد: هنالك إن يستخولوا المال يخولوا وإن يسألوا يعطوا وإن ييسروا يغلوا ومنه قول أي النجم: أعطى ولم يبخل ولم يبخل كوم الذرى من خول المخول "نسي ما كان يدعو إليه من قبل" أي نسي الضر الذي كان يدعو الله إلى كشفه عنه من قبل أن يخوله ما خوله وقيل نسي الدعاء الذي كان يتضرع به وتركه أو نسي ربه الذي كان يدعوه ويتضرع إليه، ثم جاوز ذلك إلى الشرك بالله، وهو معنى قوله:"وجعل لله أنداداً" أي شركاء من الأصنام أو غيرها يستغيث بها ويعبدها "ليضل عن سبيله" أي ليضل الناس عن طريق الله التي هي الإسلام والتوحيد. وقال السدي: يعني أنداداً من الرجال يعتمد عليهم في جميع أموره. ثم أمر الله سبحانه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهدد من كان متصفاً بتلك الصفة فقال: "قل تمتع بكفرك قليلاً" أي تمتعاً قليلاً أو زماناً قليلاً، فمتاع الدنيا قليل، ثم علل ذلك بقوله: "إنك من أصحاب النار" أي مصيرك إليها عن قريب، وفيه من التهديد أمر عظيم. قال الزجاج: لفظه لفظ الأمر، ومعناه التهديد والوعيد قرأ الجمهور "ليضل" بضم الياء، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتحها.
ثم لما ذكر سبحانه صفات المشركين وتمسكهم بغير الله عند اندفاع المكروهات عنهم ذكر صفات المؤمنين فقال: 9- "أمن هو قانت آناء الليل" وهذا إلى آخره من تمام الكلام المأمور به رسول الله صلى الله عليه وسلم. والمعنى ذلك الكافر أحسن حالاً ومالاً، أمن هو قائم بطاعات الله في السراء والضراء في ساعات الليل، مستمر على ذلك غير مقتصر على دعاء الله سبحانه عند نزول الضرر به. قرأ الحسن وأبو عمرو وابن عامر وعاصم والكسائي "أمن" بالتشديد، وقرأ نافع وابن كثير وحمزة ويحيى بن وثاب والأعمش بالتخفيف، فعلى القراءة الأولى أم داخلة على من الموصولة وأدغمت الميم في الميم وأم هي المتصلة معادلها محذوف تقديره: الكافر خير أم الذي هو قانت. وقيل هي المنقطعة المقدرة ببل والهمزة أي بل أمن هو قانت كالكافر، وأما على القراءة الثانية فقيل الهمزة للاستفهام دخلت على من، والاستفهام للتقرير ومقابله محذوف: أي أمن هو قانت كمن كفر. وقال الفراء: إن الهمزة في هذه القراءة للنداء ومن منادى، وهي عبارة عن النبي صلى الله عليه وسلم المأمور بقوله قل تمتع والتقدير: يا من هو قانت، قيل كيت وكيت، وقيل التقدير: يا من هو قانت إنك من أصحاب الجنة. ومن القائلين بأن الهمزة للنداء الفراء، وضعف ذلك أبو حيان، وقال: هو أجنبي عما قبله وعما بعده، وقد سبقه إلى هذا التضعيف أبو علي الفارسي، واعترض على هذه القراءة من أصلها أبو حاتم والأخفش ولا وجه لذلك فإنا إذا ثبتت الرواية بطلت الدراية. وقد اختلف في تفسير القانت هنا فقيل المطيع، وقيل الخاشع في صلاته، وقيل القائم في صلاته، وقيل الداعي لربه. قال النحاس: أصل القنوت الطاعة، فكل ما قيل فيه فهو داخل في الطاعة، والمراد بآناء الليل ساعاته، وقيل جوفه، وقيل ما بين المغرب والعشاء، وانتصاب "ساجداً وقائماً" على الحال أي جامعاً بين السجود والقيام، وقدم السجود على القيام لكونه أدخل في العبادة، ومحل "يحذر الآخرة" النصب على الحال أيضاً: أي يحذر عذاب الآخرة قاله سعيد بن جبير ومقاتل " ويرجو رحمة ربه " فيجمع بين الرجاء والخوف، وما اجتمعا في قلب رجل إلا فاز. قيل وفي الكلام حذف، والتقدير: كمن لا يفعل شيئاً من ذلك كما يدل عليه السياق. ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم قولاً آخر يتبين به الحق من الباطل فقال " قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون " أي الذي يعلمون أن ما وعد الله به من البعث والثواب والعقاب حق والذين لا يعلمون ذلك، أو الذي يعلمون ما أنزل الله على رسله والذين لا يعلمون ذلك، أو المراد العلماء والجهال ومعلوم عند كل من له عقل أنه لا استواء بين العلم والجهل، ولا بين العالم والجاهل. قال الزجاج: أي كما لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، كذلك لا يستوي المطيع والعاصي. وقيل المراد بالذين يعلمون: هم العاملون بعلمهم فإنهم المنتفعون به، لأن من لم يعمل بمنزلة من لم يعلم " إنما يتذكر أولو الألباب " أي إنما يتعظ ويتدبر ويتفكر أصحاب العقول، وهم المؤمنون لا الكفار، فإنهم وإن زعموا أن لهم عقولاً فهي كالعدم وهذه الجملة ليست من جملة الكلام المأمور به بل من جهة الله سبحانه.
10-"قل يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم" لما نفى سبحانه المساواه بين من يعلم ومن لا يعلم، وبين أنه " إنما يتذكر أولو الألباب " أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يأمر المؤمنين من عباده بالثبات على تقواه والإيمان به. والمعنى: يا أيها الذين صدقوا بتوحيد الله اتقوا ربكم بطاعته، واجتناب معاصيه، وإخلاص الإيمان له، ونفي الشركاء عنه، والمراد قل لهم قولي هذا بعينه. ثم لما أمر الله سبحانه المؤمنين بالتقوى بين لهم ما في هذه التقوى من الفوائد فقال: "للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة" أي للذين عملوا الأعمال الحسنة في هذه الدنيا على وجه الإخلاص حسنة عظيمة وهي الجنة، وقوله: "في هذه الدنيا" متعلق بأحسنوا، وقيل هو متعلق بحسنة على أنه بيان لمكانها، فيكون المعنى: للذين أحسنوا في العمل حسنة في الدنيا بالصحة والعافية والظفر والغنيمة، والأول أولى. ثم لما كان بعض العباد قد يتعسر عليه فعل الطاعات والإحسان في وطنه أرشد الله سبحانه من كان كذلك إلى الهجرة فقال:"وأرض الله واسعة" أي فليهاجر إلى حيث يمكنه طاعة الله. والعمل بما أمر به، والترك لما نهى عنه، ومثل ذلك قوله سبحانه: "ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها" وقد مضى الكلام في الهجرة مستوفى في سورة النساء، وقيل المراد بالأرض هنا: أرض الجنة، رغبهم في سعتها وسعة نعيمها كما في قوله: "جنة عرضها السموات والأرض" والأول أولى. ثم لما بين سبحانه ما للمحسنين إذا أحسنوا، وكان لا بد في ذلك من الصبر على فعل الطاعة وعلى كف النفس عن الشهوات، أشار إلى فضيلة الصبر وعظيم مقداره فقال: "إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب" أي يوفيهم الله أجرهم في مقابلة صبرهم بغير حساب: أي بما لا يقدر على حصره حاصر، ولا يستطيع حسبانه حاسب. قال عطاء: بما لا يهتدي إليه عقل ولا وصف. وقال مقاتل: أجرهم الجنة، وأرزاقهم فيها بغير حساب. والحاصل أن الآية تدل على أن ثواب الصابرين وأجرهم لا نهاية له، لأن كل شيء يدخل تحت الحساب فهو متناه، وما كان لا يدخل تحت الحساب فهو غير متناه، وهذه فضيلة عظيمة ومثوبة جليلة تقتضي أن على كل راغب في ثواب الله، وطامع فيما عنده من الخير أن يتوفر على الصبر ويزم نفسه بزمامه ويقيدها بقيده، فإن الجزع لا يرد قضاءً قد نزل، ولا يجلب خيراً قد سلب، ولا يدفع مكروهاً قد وقع، وإذا تصورالعاقل هذا حق تصوره وتقله حق تعقله علم أن الصابر على ما نزل به قد فاز بهذا الأجر العظيم، وظفر بهذا الجزاء الخطير، وغير الصابر قد نزل به القضاء شاء أم أبى، ومع ذلك فاته من الأجر ما لا يقادر قدره ولا يبلغ مداه، فضم إلى مصيبته مصيبة أخرى ولم يظفر بغير الجزع، وما أحسن قول من قال: أرى الصبر محموداً وعنه مذاهب فكيف إذا ما لم يكن عنه مذهب هناك يحق الصبر والصبر واجب وما كان منه للضرورة أوجب
ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يخبرهم بما أمر به من التوحيد والإخلاص فقال: 11- " قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين " أي أعبده عبادة خالصة من الشرك والرياء وغير ذلك. قال مقاتل: إن كفار قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ما يحملك على الذي أتيتنا به، ألا تنظر إلى ملة أبيك وجدك وسادات قومك يعبدون اللات والعزى فتأخذ بها؟ فأنزل الله الآية، وقد تقدم بيان معنى الآية في أول هذه السورة.
12- "وأمرت لأن أكون أول المسلمين" أي من هذه الأمة، وكذلك كان صلى الله عليه وسلم فإنه أول من خالف دين آبائه ودعا إلى التوحيد، واللام للتعليل: أي وأمرت بما أمرت به لأجل أن أكون، وقيل إنها مزيدة للتأكيد، والأول أولى. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله: "إن تكفروا فإن الله غني عنكم" يعني الكفار الذي لم يردالله أن يطهر قلوبهم، فيقولون لا إله إلا الله ثم قال: "ولا يرضى لعباده الكفر" وهم عباده المخلصون الذين قال: "إن عبادي ليس لك عليهم سلطان" فألزمهم شهادة أن لا إله إلا الله وحببها إليهم. وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة "ولا يرضى لعباده الكفر" قال: لا يرضى لعباده المسلمين الكفر. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة قال: والله ما رضي الله لعبد ضلالة ولا أمره بها ولا دعا إليها، ولكن رضي لكم طاعته وأمركم بها ونهاكم عن معصيته. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية وابن عساكر عن ابن عمر أنه تلا هذه الآية: "أمن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة" قال: ذاك عثمان بن عفان وفي لفظ: نزلت في عثمان بن عفان. وأخرج ابن سعد في طبقاته وابن مردويه وابن عساكر عن ابن عباس في قوله: "أمن هو قانت" الآية قال: نزلت في عمار بن ياسر. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله: "يحذر الآخرة" يقول: يحذر عذاب الآخرة. وأخرج الترمذي والنسائي وابن ماجه عن أنس قال "دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل وهو في الموت فقال: كيف تجدك؟ قال: أرجو الله وأخاف ذنوني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله الذي يرجو وأمنه الذي يخاف". أخرجوه من طريق سيار بن حاتمعن جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس. قال الترمذي: غريب، وقد رواه بعضهم عن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً.
قوله: 13- " قل إني أخاف إن عصيت ربي " أي بترك إخلاص العبادة له وتوحيده والدعاء إلى ترك الشرك وتضليل أهله "عذاب يوم عظيم" وهو يوم القيامة. قال أكثر المفسرين: المعنى إني أخاف إن عصيت ربي بإجابة المشركين إلى ما دعوني إليه من عبادة غير الله. قال أبو حمزة اليماني وابن المسيب: هذه الآية منسوخة بقوله: "ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر" وفي هذه الآية دليل على أن الأمر للوجوب، لأن قلبه "إنما أمرت أن أعبد الله" فالمراد عصيان هذا الأمر.
14- "قل الله أعبد" التقديم مشعر بالاختصاص: أي لا أعبد غيره لا استقالاً ولا على جهة الشركة، ومعنى "مخلصاً له ديني" أنه خالص لله غير مشوب بشرك ولا رياء ولا غيرهما، وقد تقدم تحقيقه في أول السورة. قال الرازي: فإن قيل ما معنى التكرير في قوله: "قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين" وقوله: " قل الله أعبد مخلصا له ديني " قلنا: ليس هذا بتكرير، لأن الأول إخبار بأنه مأمور من جهة الله بالإيمان والعبادة، والثاني إخبار بأنه أمر أن لا يعبد أحداً غير الله.
15- "فاعبدوا ما شئتم" أن تعبدوه "من دونه" هذا الأمر للتهديد والتقريع والتوبيخ كقوله: " اعملوا ما شئتم " وقيل إن الأمر على حقيقته، وهو منسوخ بآية السيف، والأول أولى "قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة" أي إن الكاملين في الخسران هم هؤلاء، لأن من دخل النار فقد خسر نفسه وأهله. قال الزجاج: وهذا عيني به الكفار فإنهم خسروا وأنفسهم بالتخليد في النار، وخسروا أهليلهم، لأنهم لم يدخلوا مدخل المؤمنين الذين لهم أهل في الجنة، وجملة "ألا ذلك هو الخسران المبين" مستأنفة لتأكيد ما قبلها، وتصديرها بحرف التنبيه للإشعار بأن هذا الخسران ووصفه بكونه مبيناً، فإنه يدل على أنه الفرد الكامل من أفراد الخسران وأنه لا خسران يساويه ولا عقوبة تدانيه.
ثم بين سبحانه هذا الخسران الذي حل بهم والبلاء النازل فوقهم بقوله: 16-"لهم من فوقهم ظلل من النار" الظلل عبارة عن أطباق النار: أي لهم من فوقهم أطباق من النار تلتهب عليهم "ومن تحتهم ظلل" أي أطباق من النار، وسمي ما تحتهم ظللاً لأنها تظل من تحتها من أهل النار، لأن طبقات النار صار في كل طبقة منها طائفة من طوائف الكفار ، ومثل هذه الآية قوله : " لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش " وقوله: "يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم" والإشارة بقوله: "ذلك" إلى ما تقدم ذكره من وصف عذابهم في النار، وهو مبتدأ وخبره قوله: "يخوف الله به عباده" أي يحذرهم بما توعد به الكفار من العذاب ليخافوه فيتقوه، وهو معنى "يا عباد فاتقون" أي اتقوا هذه المعاصي الموجبة لمثل هذا العذاب على الكفار، ووجه تخصيص العباد بالمؤمنين أن الغالب في القرآن إطلاق لفظ العباد عليهم، وقيل هو للكفار وأهل المعاصي، وقيل هو عام للمسلمين والكفار.
17- "والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها" الموصول مبتدأ وخبره قوله: "لهم البشرى" والطاغوت بناء مبالغة في المصدر كالرحموت والعظموت، وهو الأوثان والشيطان. وقال مجاهد وابن زيد: هو الشيطان. وقال الضحاك والسدي: هو الأوثان. وقيل إنه الكاهن، وقيل هو اسم أعجمي مثل طالوت وجالوت، وقيل إنه اسم عربي مشتق من الطغيان. قال الأخفش: الطاغوت جمع، ويجوز أن يكون واحده مؤنثاً، ومعنى اجتنبوا الطاغوت: أعرضوا عن عبادته وخصوا عبادتهم بالله عز وجل، وقوله: أن يعبدوها في محل نصب على البدل من الطاغوت بدل اشتمال، كأنه قال: اجتنبوا عبادة الطاغوت، وقد تقدم الكلام على تفسير الطاغوت مستوفى في سورة البقرة، وقوله: "وأنابوا إلى الله" معطوف على اجتنبوا، والمعنى: رجعوا إليه وأقبلوا على عبادته معرضين عما سواه "لهم البشرى" بالثواب الجزيل وهو الجنة، وهذه البشرى إما على ألسنة الرسل، أو عند حضور الموت أو عند البعث.
18- " فبشر عباد * الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه " المراد بالعباد هنا العموم، فيدخل الموصوفون بالاجتناب والإنابة إليه دخولاً أولياً، والمعنى: يستمعون القول الحق من كتاب الله وسنة رسوله فيتبعون أحسنه أي محكمه، ويعملون به. قال السدي: يتبعون أحسن ما يؤمرون به فيعملون بما فيه، وقيل هو الرجل يسمع الحسن والقبيح فيتحدث بالحسن وينكف عن القبيح فلا يتحدث به، وقيل يستمعون القرآن وغيره فيتبعون القرآن، وقيل يستمعون الرخص والعزائم فيتبعون العزائم ويتركون الرخص، وقيل يأخذون بالعفو ويتركون العقوبة. ثم أثنى سبحانه على هؤلاء المذكورين فقال: " أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب " أي هم الذين أوصلهم الله إلى الحق وهم أصحاب العقول الصحيحة، لأنهم الذين انتفعوا بعقولهم ولم ينتفع من عداهم بعقولهم.
ثم ذكر سبحانه من سبقت له الشقاوة وحرم السعادة فقال: 19- "أفمن حق عليه كلمة العذاب" من هذه يحتمل أن تكون موصولة في محل رفع بالابتداء وخبرها محذوف: أي كمن يخاف، أو فأنت تخلصه أو تتأسف عليه ويحتمل أن تكون شرطية، وجوابه "أفأنت تنقذ من في النار" فالفاء فاء الجواب دخلت على جملة الجزاء وأعيدت الهمزة الإنكارية لتأكيد معين الإنكار. وقال سيبويه إنه كرر الاستفهام لطول الكلام. وقال الفراء: المعنى أفأنت تنقذ من حقت عليه كلمة العذاب، والمراد بكلمة العذاب هنا هي قوله تعالى لإبليس: "لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين" وقوله: "لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين" ومعنى الآية التسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه كان حريصاً على إيمان قومه، فأعلمه الله أن من سبق عليه القضاء وحقت عليه كلمة الله لا يقدر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينقذه من النار بأن يجعله مؤمناً. قال عطاء: يريد أبا لهب وولده ومن تخلف من عشيرة النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان، وفي الآية تنزيل لمن يستحق العذاب بمن قد صار فيه، وتنزيل دعائه إلى الإيمان منزلة الإخراج له من عذاب النار.
ولما ذكر سبحانه فيما سبق أن لأهل الشقاوة ظللاً من فوقهم النار ومن تحتهم ظلل استدرك عنهم من كان من أهل السعادة فقال: 20- "لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبنية" وذلك لأن الجنة درجات بعضها فوق بعض، ومعنى مبنية أنها مبنية بناء المنازل في إحكام أساسها وقوة بنائها وإن كانت منازل الدنيا ليست بشيء بالنسبة إليها "تجري من تحتها الأنهار" أي مت تحت تلك الغرف، وفي ذلك كما لبهجتها وزيادة لرونقها، وانتصاب "وعد الله" على المصدرية المؤكدة لمضمون الجملة، لأن قوله "لهم غرف" في معنى وعدهم الله بذلك، وجملة "لا يخلف الله الميعاد"مقررة للوعد: أي لا يخلف الله ما وعد به الفريقين من الخير والشر. وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: "قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم" الآية. قال: هم الكفار الذين خلقهم الله للنار زالت عنهم الدنيا وحرمت عليهم الجنة. وأخرج ابن المنذر عنه في قوله: "خسروا أنفسهم وأهليهم" قال: أهليهم من أهل الجنة كانوا أعدوا لهم لو عملوا بطاعة الله فغيبوهم. وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر قال: كان سعيد بن زيد وأبو ذر وسلمان يتبعون في الجاهلية أحسن القول والكلام لا إله إلا الله قالوا بها، فأنزل الله على نبيه"يستمعون القول فيتبعون أحسنه" الآية. وأخرج ابن مردويه عن أبي سعيد: "قال لما نزل. " فبشر عباد * الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه " أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم منادياً فنادى: من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة، فاستقبل عمر الرسول فرده فقال: يا رسول الله خشيت أن يتكل الناس فلا يعملون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو يعلم الناس قدر رحمة ربي لاتكلوا، ولو يعلمون قدر سخط ربي وعقابه لاستصغروا أعمالهم" وهذا الحديث أصله في الصحيح من حديث أبي هريرة.
لما ذكر سبحانه الآخرة ووصفها بوصف يوجب الرغبة فيها والشوق إليها أتبعه بذكر الدنيا ووصفها بوصف يوجب الرغبة عنها والنفرة منها، فذكر تمثيلاً لها في سرعة زوالها وقريب اضمحلالها مع ما في ذلك من ذكر نوع من أنواع قدرته الباهرة وصنعه البديع فقال: 21- "ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء" أي من السحاب مطراً "فسلكه ينابيع في الأرض" أي فأدخله وأسكنه فيها، والينابيع جمع ينبوع من نبع الماء ينبع، والينبوع عين الماء والأمكنة التي ينبع منها الماء، والمعنى أدخل الماء النازل من السماء في الأرض وجعله فيها عيوناً جارية، أو جعله في ينابيع: أي في أمكنة ينبع منها الماء، فهو على الوجه الثاني منصوب بنزع الخافض. قال مقاتل: فجعله عيوناً وركايا في الأرض "ثم يخرج به زرعاً مختلفاً ألوانه" أي يخرج بذلك الماء من الأرض زرعاً مختلفاً ألوانه من أصفر وأخضر وأبيض وأحمر، أو من بر وشعير وغيرهما إذا كان المراد بالألوان الأصناف "ثم يهيج" يقال هاج النبت يهيج هيجاً إذا تم جفافه. قال الجوهري: يقال هاج النبت هياجاً: إذا يبس، وأرض هائجة يبس بقلها أو اصفر، وأهاجت الريح النبت أيبسته. قال المبرد: قال الأصمعي: يقال هاجت الأرض تهيج: إذا أدبر نبتها وولى. قال: وكذلك هاج النبت "فتراه مصفراً" أي تراه بعد خضرته ونضارته وحسن رونقه مصفراً قد ذهبت خضرته ونضارته "ثم يجعله حطاماً" أي متفتتاً منكسراً، من تحطم العود إذا تفتت من اليبس " إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب " أي فيما تقدم ذكره تذكير لأهل العقول الصحيحة، فإنهم الذين يتعقلون الأشياء على حقيقتها فيتفكرون ويعتبرون ويعلمون بأن الحياة الدنيا حالها كحال هذا الزرع في سرعة التصرم وقرب التقضي، وذهاب بهجتها وزوال رونقها ونضارتها، فإذا أنتج لهم التفكر والاعتبار العلم بذلك لم يحصل منهم الاغترار بها والميل إليها وإيثارها على دار النعيم الدائم والحياة المستمرة واللذة الخالصة، ولم يبق معهم شك في أن الله قادر على البعث والحشر، لأن من قدر على هذا قدر على ذلك. وقيل هو مثل ضربه الله للقرآن ولصدور من في الأرض. والمعنى: أنزل من السماء قرآناً فسلكه في قلوب المؤمنين، ثم يخرجبه ديناً بعضه أفضل من بعض، فأما المؤمن فيزداد إيماناً ويقيناً، وأما الذي في قلبه مرض فإنه يهيج كما يهيج الزرع، وهذا بالتغيير أشبه منه بالتفسير. وقرأ الجمهور "ثم يجعله" بالرفع عطفاً على ما قبله، وقرأ أبو بشر بالنصب بإضمار أن، ولا وجه لذلك.
ثم لما ذكر سبحانه أن في ذلك لذكرى لأولي الألباب، ذكر شرح الصدر للإسلام، لأن الانتفاع الكامل لا يحصل إلا به فقال: 22- "أفمن شرح الله صدره للإسلام" أي وسعه لقبول الحق وفتحه للاهتداء إلى سبيل الخير. قال السدي: وسع صدره للإسلام للفرح به والطمأنينة إليه، والكلام في الهمزة والفاء كما تقدم في "أفمن حق عليه كلمة العذاب" ومن مبتدأ وخبرها محذوف تقديره كم قسا قلبه وجرح صدره، ودل على هذا الخبر المحذوف قوله: "فويل للقاسية قلوبهم" والمعنى: أفمن وسع الله صدره للإسلام فقلبه واهتدى بهديه "فهو" بسبب ذلك الشرح "على نور من ربه" يفيض عليه كمن قسا قلبه لسوء اختياره، فصار في ظلمات الضلالة وبليات الجهالة. قال قتادة: النور كتاب الله به يؤخذ وإليه ينتهى. قال الزجاج: تقدير الآية: أفمن شرح الله صدره كمن طبع على قلبه فلم يهتد لقسوته "فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله" قال الفراء والزجاجك أي عن ذكر الله كما تقول أتخمت عن طعام أكلته ومن طعام أكلته، والمعنى: أنه غلظ قلبه وجفا عن قبول ذكر الله، يقال قسا القلب إذا صلب، وقلب قاس: أي صلب لا يرق ولا يلين، وقيل معنى من ذكر الله من أجل ذكره الذي حقه أن تنشرح له الصدور وتطمئن به القلوب. والمعنى: أنه إذا ذكر الله اشمأزوا، والأول أولى، ويؤيده قراءة من قرأ عنذكر الله، والإشارة بقوله: "أولئك" إلى القاسية قلوبهم، وهو مبتدأ وخبره "في ضلال مبين" أي ظاهر واضح.
ثم ذكر سبحانه بعض أوصاف كتابه العزيز فقال: 23- "الله نزل أحسن الحديث" يعني القرآن وسماه حديثاً لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحدث به قومه ويخبرهم بما ينزل عليه منه. وفيه بيان أن أحسن القول المذكور سابقاً هو القرآن، وانتصاب "كتاباً" على البدل من أحسن الحديث، ويحتلم أن يكون حالاً منه "متشابهاً" صفة لكتاباً: أي يشبه بعضه بعضاً في الحسن والإحكام وصحة المعاني وقوة المباني، وقيل يشبه كتب الله المنزلة عن أنبيائه، و"مثاني" صفة أخرى لكتاباً: أي تثنى فيه القصص وتنكرر فيه المواعظ والأحكام. وقيل يثنى من التلاوة فلا يمل سامعه ولا يسأم قارئه. قرأ الجمهور "مثاني" بفتحالياء، وقرأ هشام عن ابن عامر وبشر بسكونها تخفيفاً واستثقالاً لتحريكها، أو على أنها خبر مبتدإ محذوف: أي هو مثاني، وقال الرازي في تبيين مثانية أن أكثر الأشياء المذكورة في القرآن متكررة زوجين زوجين مثل الأمر والنهي والعام والخاص والمجمل والمفصل وأحوال السموات والأرض والجنة والنار والنور والظلمة واللوح والقلم والملائكة والشياطين والعرش والكرسي والوعد والوعيد والرجاء والخوف، والمقصود من ذلك البيان بأن كل ما سوى الحق زوج، وأن الفرد الأحد الحق هو الله ولا يخفى ما في كلامه هذا من التكلف والبعد عن مقصود التنزيل "تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم" هذه الجملة يجوز أن تكون صفة لكتاباً، وأن تكون حالاً منه، لأنه وإن كان نكرة فقد تخصص بالصفة، أو مستأنفة لبيان ما يحصل عند سماعه من التأثر لسامعيه، والاقشعرار التقبض، يقال اقشعر جلده: إذا تقبض وتجمع من الخوف. والمعنى: أنها تأخذهم منه قشعريرة. قال الزجاج: إذا ذكرت آيات العذاب اقشعرت جلود الخائفين لله "ثم تلين جلودهم وقلوبهم" إذا ذكرت آيات الرحمة. قال الواحدي: وهذا قول جميع المفسرين، ومن ذلك قول امرئ القيس: فبت أكابد ليل التمام والقلب من خشية مقشعر وقيل المعنى: أن القرآن لما كان في غاية الجزالة والبلاغة، فكانوا إذا رأوا عجزهم عن معارضته اقشعرت الجلود منه إعظاماً له وتعجباً من حسنه وبلاغته ثم تلين جلودهم وقلوبهم "إلى ذكر الله" عدي تلين بإلى لتضمينه فعلا يتعدى بها، كأنه قيل: سكنت واطمأنت إلى ذكر الله لينة غير منقبضة، ومفعول ذكر الله محذوف، والتقدير: إلى ذكر الله رحمته وثوابه وجنته، وحذف للعلم به. قال قتادة: هذا نعت أولياء الله نعتهم بأنها تقشعر جلودهم وتطمئن قلوبهم إلى ذكر الله، ولم ينعتهم بذهاب عقولهم والغشيان عليهم إنما ذكر في أهلالبدع وهو من الشيطان، والإشارة بقوله: "ذلك" إلى الكتاب الموصوف بتلك الصفات، وهو مبتدأ، و"هدى الله" خبره: أي ذلك الكتاب هى الله "يهدي به من يشاء" أي يهديه من عباده، وقيل إن الإشارة بقوله ذلك إلى ما وهبه الله لهؤلاء من خشية عذابه ورجاء ثوابه "ومن يضلل الله" أي يجعل قلبه قاسياً مظلماً غير قابل للحق "فما له من هاد" يهديه الحق ويخلصه من الضلال. قرأ الجمهور "من هاد" بغير ياء. وقرأ ابن كثير وابن محيصن بالياء.
ثم لما حكم على القاسية قلوبهم بحكم في الدنيا وهو الضلال، حكم عليهم في الآخرة بحكم آخر وهو العذاب فقال: 24- "أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة" والاستفهام للإنكار، وقد تقدم الكلام فيه وفي هذه الفاء الداخلة على من في قوله: "أفمن حق عليه كلمة العذاب" ومن مبتدأ وخبرها محذوف لدلالة المقام عليه، والمعنى: أفمن شأنه أن يقي نفسه بوجهه الذي هو أشرف أعضائه سوء العذاب يوم القيامة لكون يده قد صارت مغلولة إلى عنقه كم هو آمن لا يعتريه شيء من ذلك ولا يحتاج إلى الاتقاء. قال الزجاج: المعنى أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب كمن يدخل الجنة. قال عطاء وابن زيد: يرمى به مكتوفاً في النار، فأول شيء تمس منه وجهه. وقال مجاهد يجر على وجهه في النار. قال الأخفش: المعنى أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب أفضل أم من سعد؟ مثل قوله: "أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمناً يوم القيامة" ثم أخبر سبحانه عما تقوله الخزنة للكفار فقال: "وقيل للظالمين ذوقوا ما كنتم تكسبون" وهو معطوف على يتقي: أي ويقال لهم، وجاء بصيغة الماضي للدلالة على التحقيق. قال عطاء: أي جزاء ما كنتم تعملون، ومثل هذه الآية قوله:"هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون" وقد تقدم الكلام على معنى الذوق في غير موضع.
ثم أخبر سبحانه عن حال من قبلهم من الكفار، فقال: 25- "كذب الذين من قبلهم" أي من قبل الكفار المعاصرين لمحمد صلى الله عليه وسلم. والمعنى: أنهم كذبوا رسلهم "فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون" أي من جهة لا يحتسبون إتيان العذاب منها، وذلك عند أمنهم وغفلتهم عن عقوبة الله لهم بتكذيبهم.
26- "فأذاقهم الله الخزي" أي الذل والهوان "في الحياة الدنيا" بالمسخ والخسف والقتل والأسر وغير ذلك "ولعذاب الآخرة أكبر" لكونه في غاية الشدة مع دوامه "لو كانوا يعلمون"أي لو كانوا ممن يعلم الأشياء ويتفكر فيها ويعمل بمقتضى علمه. قال المبرد: يقال لكم ما نال الجارحة من شيء قد ذاقته: أي وصل إليها كما تصل الحلاوة والمرارة إلى الذائق لهما. قال: والخزي المكروه. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء" الآية قال: ما في الأرض ماء إلا نزل من السماء، ولكنعروق في الأرض تغيره، فذلك قوله:"فسلكه ينابيع في الأرض" فمن سره أن يعود الملح عذباً فليصعده. وأخرج ابن مردويه عنه في قوله: "أفمن شرح الله صدره للإسلام" قال: أبو بكر الصديق. وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال: " تلا النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية "أفمن شرح الله صدره" قلنا يا نبي الله كيف انشراح صدره؟ قال: إذا دخل النور القلب انشرح وانفسح. قلنا: فما علامة ذلك يا رسول الله؟ فقال: الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والتأهب للموت قبل نزول الموت". وأخرجابن مردويه عن محمد بن كعب القرظي مرفوعاً مرسلاً. وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن ابن عمر "أن رجلاً قال: يا نبي الله أي المؤمنين أكيس؟ قال: أكثرهم ذكراً للموت، وأحسنهم له استعداداً، وإذا دخل النور في القلب انفسح واستوسع، فقالوا: ما آية ذلك يا نبي الله. قال: الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزول الموت". وأخرجه عن أبي جعفر عبد الله بن المسور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه، وزاد فيه. ثم قرأ "أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه". وأخرج الترمذي وابن مردويه وابن شاهين في الترغيب في الذكر، والبيهقي في الشعب عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب، وإن أبعدالناس من الله القلب القاسي". وأخرج ابن جرير عن ابن عباس "قال: قالوا يا رسول الله لو حدثتنا، فنزل "الله نزل أحسن الحديث" الآية". وأخرج ابن مردويه عنه في قوله: "مثاني" قال: القرآن كله مثاني. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً في الآي قال: القرآن يشبه بعضه بعضاً ويرد بعضه إلى بعض. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عنه أيضاً في الآية قال: كتاب الله مثاني ثني فيه الأمر مراراً. وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن مردويه وابن عساكر عن عبد الله بن عروة بن الزبير قال: قلت لجدتي أسماء كيف كان يصنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأوا القرآن؟ قالت: كانوا كما نعتهم الله تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم، قلت: فإن ناساً ها هنا إذا سمعوا ذلك تأخذهم عليه غشية، قالت: أعوذ بالله من الشيطان. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: "أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب" قال: ينطلق به إلى النار مكتوفاً ثم يرمى به فيها، ما تمس وجهه النار.
قوله: 27- "ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل" قد قدمنا تحقيق المثل وكيفية ضربه في غير موضع، ومعنى "من كل مثل" ما يحتاجون إليه، وليس المراد ما هو أعم من ذلك، فهو هنا كما في قوله: "ما فرطنا في الكتاب من شيء" أي من شيء يحتاجون إليه في أمر دينهم، وقيل المعنى: ما ذكرنا من إهلاك الأمم السالفة مثل لهؤلاء "لعلهم يتذكرون" يتعظمون فيعتبرون.
وانتصاب 28- "قرآناً عربياً" على الحال من هذا وهي حال مؤكدة، وتسمى هذه حالاً موطئة، لأن الحال في الحقيقة هو عربياً، وقرآناً توطئة له، نحو جاءني زيد رجلاً صالحاً: كذا قال الأخفش، ويجوز أن ينتصب على المدح. قال الزجاج: عربياً منتصب على الحال، وقرآناً توكيد، ومعنى "غير ذي عوج" لا اختلاف فيه بوجه من الوجوه. قال الضحاك: أي غير مختلف. قال النحاسأحسن ما قيل في معناه قول الضحاك، وقيل غير متضاد. وقيل غير ذي لبس، وقيل غير ذي لحن، وقيل غير ذي شك كما قال الشاعر: وقد أتاك يمين غير ذي عوج من الإله وقول غير مكذوب "لعلهم يتقون" علة أخرى بعد العلة الأولى. وهي "لعلهم يتذكرون" أي لكي يتقوا الكفر والكذب.
ثم ذكر سبحانه مثلاً من الأمثال القرآنية للتذكير والإيقاظ، فقال: 29- "ضرب الله مثلاً" أي تمثيل حالة عجيبة بأخرى مثلها. ثم بين المثل فقال: "رجلاً فيه شركاء متشاكسون" قال الكسائي: نصب رجلاً لأنه تفسير للمثل، وقيل هو منصوب بنزع الخافض: أي ضرب الله مثلاً برجل، وقيل إن رجلاً هو المفعول الأول، ومثلاً هو المفعول الثاني، وأخر المفعول الأول ليتصل بما هو من تمامه، وقد تقدم تحقيق هذا في سورة يس، وجملة "فيه شركاء" في محل نصب صفة لرجل، والتشاكس التخالف. قال الفراء: أي مختلفون. وقال المبرد: أي متعاسرون من شكس يشكس شكساً فهو شكس مثل عسر يعسر عسراً فهو عسر. قال الجوهري: التشاكس الاختلاف. قال: ويقال رجل شكس بالتسكين: أي صعب الخلق، وهذا مثل من أشرك بالله وعبد آلة كثيرة. ثم قال: "ورجلاً سلماً لرجل" أي خالصاً له، وهذا مثل من يعبد الله وحده. قرأ الجمهور "سلماً" بفتح السين واللام، وقرأ سعيد بن جبير وعكرمة وأبو العالية بكسر السين وسكون اللام. وقرأ ابن عباس ومجاهد والجحدري وأبو عمرو وابن كثير ويعقوب " سلما " بالألف وكسر اللام اسم فاعل من سلم له فهو سالم، واختار هذه القراءة أبو عبيد قال: لأن السالم الخالص ضد المشترك، والسلم ضد الحرب ولا موضع للحرب ها هنا. وأجيب عنه بأن الحرف إذا كان له معنيان لم يحمل إلا على أولاهما فالسلم وإن كان ضد الحرب فله معنى آخر بمعنى سالم، من سلم له كذ: إذا خلص له. وأيضاً يلزمه في سالم ما ألزمه به، لأنه قال شيء سالم: أي لا عاهة به، واختار أبو حاتم القراءة الأولى. والحاصل أن قراءة الجمهور هي على الوصف بالمصدر للمبالغة، أو على حذف مضاعف: أي ذا سلم، ومثلها قراءة سعيد بن جبير ومن معه. ثمجاء سبحانه بما يدل على التفاوت بين الرجلين فقال: "هل يستويان مثلاً" وهذا الاستفهام للإنكار والاستبعاد، والمعنى: هل يستوي هذا الذي يخدم جماعة شركاء أخلاقهم مختلفة ونياتهم متباينة يستخدمه كل واحد منهم فيتعب وينصب مع كون كل واحد منهم غير راض بخدمته، وهذا الذي يخدم واحداً لا ينازعه غيره إذا أطاعه رضي عنه، وإذا عصاه عفا عنه. فإن بين هذين من الاختلاف الظاهر الواضح ما لا قدر عاقل أن يتفوه باستوائهما، لأن أحدهما في أعلى المنزل، والآخر في أدناها، وانتصاب مثلاً على التمييز المحول عن الفاعل لأن الأصل هل يستوي مثلهما، وأفرد التمييز ولم يثنه لأن الأصل في التمييز الإفراد لكونه مبيناً للجنس وجملة "الحمد لله" تقرير لما قبلها من نفي الاستواء، وللإيذان للموحدين بما في توحيدهم لله من النعمة العظيمة المستحقة لتخصيص الحمد به. ثم أضرب سحانه عن نفي الاستواء المفهوم عن الاستفهام الإنكاري إلى بيان أكثر الناس لا يعلمون فقال: "بل أكثرهم لا يعلمون" وهم المشركون فإنهم لا يعلمون ذلك مع ظهوره ووضوحه. قال الواحدي والبغوي: والمراد بالأكثر الكل والظاهر خلاف ما قالاه، فإن المؤمنين بالله يعلمون ما في التوحيد من رفعة شأنه وعلو مكانه، وإن الشرك لا يماثله بوجه من الوجوه، ولا يساويه في وصف من الأوصاف، ويعلمون أن الله سبحانه يستحق الحمد على هذه النعمة، وأن الحمد مختص به.
ثم أخبر سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بأن الموت يدركه ويدركهم لا محالة فقال: 30-"إنك ميت وإنهم ميتون" قرأ الجمهور "ميت"، و"ميتون" بالتشديد وقرأ ابن محيصن وابن أبي عبلة وعيسى بن عمر وابن أبي إسحاق واليماني مائت ومائتون وبها قرأ عبد الله بن الزبير. وقد استحسن هذه القراءة بعض المفسرين لكون موته وموتهم مستقبلاً، ولا وجه للاستحسان، فإن قراءة الجمهور تفيد هذا المعنى. قال الفراءوالكسائي: الميت بالتشديد من لم يمت وسيموت، والميت بالتخفيف من قدمات وفارقته الروح. قال قتادة: نعيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم نفسه ونعيت إليهم أنفسهم. ووجه هذا الاختيار الإعلام للصحابة بأنه يموت.
فقد كان بعضهم يعتق أنه لا يموت مع كونه توطئة وتمهيداً لما بعده حيث قال: 31- "ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون" أي تخاصمهم يا محمد وتحتج عليهم بأنك قد بلغتهم وأنذرتهم وهم يخاصمونك، أو يخاصم المؤمن الكافر والظالم والمظلوم.
ثم بين سبحانه حال كل فريق من المختصمين فقال: 32- "فمن أظلم ممن كذب على الله" أي لا أحد أظلم ممن كذب على الله، فزعم أن له ولداً أو شريكاً أو صاحبة "وكذب بالصدق إذ جاءه" وهو ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من دعاء الناس إلى التوحيد، وأمرهم بالقيام بفرائض الشرع ونهيهم عن محرماته وإخبارهم بالبعث والنشور، وما أعد الله للمطيع والعاصي. ثم استفهم سبحانه استفهاماً تقريرياً فقال: "أليس في جهنم مثوى للكافرين" أي أليس لهؤلاء المفترين المكذبين بالصدق، والمثوى المقام، وهو مشتق من ثوى بالمكان إذا أقام به يثوي ثواءً وثوباً، مثل مضى مضاءً ومضياً. وحكى أبو عبيد أنه يقال أثوى وأنشد قول الأعشى: أثوى وأقصر ليله ليرودا فمضت وأخلف من قبيلة موعدا وأنكر ذلك الأصمعيوقال لا نعرف أثوى.
ثم ذكر سبحانه فريق المؤمنين المصدقين فقال: 33- "والذي جاء بالصدق وصدق به" الموصول في موضع رفع الابتداء، وهو عبارة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تابعه وخبره "أولئك هم المتقون" وقيل الذي جاء بالصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي صدق أبو بكر. وقال مجاهد: الذي جاء بالصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي صدق به علي بن أبي طالب. وقال السدي: الذي جاء بالصدق جبريل، والذي صدق به رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال قتادة ومقاتل وابن زيد: الذي جاء بالصدق النبي صلى الله عليه وسلم، والذي صدق به المؤمنون. وقال النخعي: الذي جاء بالصدق وصدق به هم المؤمنون الذين يجيئون بالقرآن يوم القيامة. وقيل إن ذلك عام في كل من دعا إلى توحيد الله وأرشد إلى ما شرعه لعباده، واختار هذا ابن جرير وهو الذي اختاره من هذه الأقوال، ويؤيده قراءة ابن مسعود والذين جاءوا بالصدق وصدقوا به. ولفظ كما وقع في قراءة الجمهور وإن كان مفرداً فمعناه الجمع، لأنه يراد به الجنس كما يفيده قوله: "أولئك هم المتقون" أي المتصفون بالتقوى التي هي عنوان النجاة. وقرأ أبو صالح وصدق به مخخفاً: أي صدق به الناس.
ثم ذكر سبحانه ما لهؤلاء الصادقين المصدقين في الآخرة: 34- " لهم ما يشاؤون عند ربهم " أي لهم كل ما يشاءونه من رفع الدرجات ودفع المضرات وتكفير السيئات، وفي هذا ترغيب عظيم وتشويق بالغ، والإشارة بقوله: "ذلك" إلى ما تقدم ذكره من جزائهم وهو مبتدأ، وخبره قوله: "جزاء المحسنين" أي الذين أحسنوا في أعمالهم. وقد ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
ثم بين سبحانه ما هو الغاية مما لهم عند ربهم فقال: 35- "ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا" فإن ذلك هو أعظم ما يرجونه من دفع الضرر عنهم لأن الله سبحانه إذا غفر لهم ما هو الأسوأ من أعمالهم غفر لهم ما دونه بطريقة الأولى، واللام متعلقة بيشاءون أو بالمحسنين أو بمحذوف. قرأ الجمهور "أسوأ" على أنه أفعل تفضيل. وقيل ليست للتفضيل بل بمعنى سيء الذي عملوا. وقرأ ابن كثير في رواية عنه أسواء بألف بين الهمزة والواو بزنة أجمال جمع سوء، "ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون" لما ذكر سبحانه ما يدل على المضار عنهم ذكر ما يدل على جلب أعظم المنافع إليهم وإضافة الأحسن إلى ما بعده ليست من إضافة المفضل إلى المفضل عليه، بل من إضافة الشيء إلى بعضه قصداً إلى التوضيح من غير اعتبار تفضيل. قال مقاتل: يجزيهم بالمحاسن من أعمالهم ولا يجزيهم المساوئ. وقد أخرج الآجري والبيهقي عن ابن عباس في قوله: "غير ذي عوج" قال: غير مخلوق. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله: "ضرب الله مثلاً رجلاً" الآية قال: الرجل يعبد آلهة شتى، فهذا مثل ضربه الله لأهل الأوثان " ورجلا سلما " يعبد إلهاً واحداً ضرب لنفسه مثلاً. وأخرجا عنه أيضاً في قوله: " ورجلا سلما " قال: ليس لأحد فيه شيء. وأخرج عبد بن حميد والنسائي وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن ابن عمر قال: لقد لبثنا برهة من دهرنا، ونحن نرى أن هذه الآية نزلت فينا وفي أهل الكتابين من قبلنا "إنك ميت وإنهم ميتون" الآية، حتى رأيت بعضنا يضرب وجوه بعض بالسيف، فعرفت أنها نزلت فينا. وأخرج نعيم بن حماد في الفتن والحاكم وصححه وابن مردويه عنه نحوه بأطول منه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن مردويه عنه أيضاً قال: نزلت علينا الآية "ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون" وما ندري ما تفسيرها حتى وقعت الفتنة، فقلنا هذا الذي وعدنا ربنا أن نختصم فيه. وأخرج عبد الرزاق وأحمد وابن منيع وعبد بن حميد والترمذي وصححه وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في البعث والنشور عن الزبير بن العوام قال: "لما نزلت " إنك ميت وإنهم ميتون * ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون " قلت: يا رسول الله أيكرر علينا ما يكون بيننا في الدنيا مع خواص الذنوب؟ قال: نعم ليكررن عليكم ذلك حتى يؤدي إلى كل ذي حق حقه. قال الزبير: فوالله إن الأمر لشديد". وأخرج سعيد بن منصور عن أبي سيعد الخدري قال: لما نزلت "ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون" كنا نقول: ربنا واحد وديننا واحد ونبينا واحد فما هذه الخصومة؟ فلما كان يوم صفين وشد بعضنا على بعض بالسيوف، قلنا نعم هو هذا. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله: "والذي جاء بالصدق" يعني بلا إله إلا الله "وصدق به" يعني برسول الله صلى الله عليه وسلم "أولئك هم المتقون" يعني اتقوا الشرك. وأخرج ابن جرير والباوردي في معرفة الصحابة وابن عساكر من طريق أسيد بن صفوان، وله صحبة عن علي بن أبي طالب قال: الذي جاء بالصدق محمد صلى الله عليه وسلم، وصدق به أبو بكر. وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة مثله.
قوله: 36- "أليس الله بكاف عبده" قرأ الجمهور "عبده" بالإفراد. وقرأ حمزة والكسائي "عباده" بالجمع، فعلى القراءة الأولى المراد النبي صلى الله عليه وسلم أو الجنس، ويدخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم دخولاً أولياً، وعلى القراءة الأخرى المراد الأنبياء أو المؤمنون أو الجميع، واختار أبو عبيد قراءة الجمهور لقوله عقبه ويخوفونك والاستفهام للإنكار لعدم كفايته سبحانه على أبلغ وجه كأنه بمكان من الظهور لا يتيسر لأحد أن ينكره. وقيل المراد بالعبد والعباد ما يعم المسلم والكافر. قال الجرجاني: إن الله كاف عبده المؤمن وعبده الكافر هذا بالثواب، وهذا بالعقاب. وقرئ بكافي عباده بالإضافة، وقرئ يكافي بصيغة المضارع، وقوله: "ويخوفونك بالذين من دونه" يجوز أن يكون في محل نصب على الحال، إذ المعنى أليس كافيك حال تخويفهم إياك، ويجوز أن تكون مستأنفة، والذين من دونه عبارة عن المعبودات التي يعبدونها "ومن يضلل الله فما له من هاد" أي من حق عليه القضاء بضلاله فما له من هاد يهديه إلى الرشد ويخرجه من الضلالة.
37- "ومن يهد الله فما له من مضل" يخرجه من الهداية ويوقعه في الضلالة "أليس الله بعزيز" أي غالب لكل شيء قاهر له "ذي انتقام" ينتقم من عصاته بما يصبه عليهم من عذابه وما ينزله بهم من سوط عقابه.
38- "ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله" ذكر سبحانه اعترافهم إذا سئلوا عن الخالق بأن الله سبحانه مع عبادتهم للأوثان، واتخاذهم الآلهة من دون الله، وفي هذا أعظم دليل على أنهم كانوا في غفلة شديدة وجهالة عظيمة لأنهم إذا علموا أن الخالق لهم ولما يعبدون من دون الله هو الله سبحانه، فكيف استحسنت عقولهم عبادة غير خالق الكل وتشريك مخلوق مع خالقه في العبادة؟ وقد كانوا يذكرون بحسن العقول وكمال الإدراك والفطنة التامة، ولكنهم لما قلدوا أسلافهم وأحسنوا الظن بهم هجروا ما يقتضيه العقل، وعملوا بما هو محض الجهل. ثم أمر الله سبحانه رسوله أن يبكتهم بعد هذا الاعتراف ويوبخهم فقال: "قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره" أي أخبروني عن آلهتكم هذه هل تقدر على كشف ما أراده الله بي من الضر، والضر هو الشدة أو أعلى: "أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته" عني بحيث لا تصل إلي، والرحمة النعمة والرخاء. قرأ الجمهور ممسكات وكاشفات في الموضعين بالإضافة وقرأهما أبو عمر بالتنوين. قال مقاتل: لما نزلت هذه الآية سألهم النبي صلى الله عليه وسلم فسكتوا، وقال غيره: قالوا لا تدفع شيئاً من قدر الله ولكنها تشفع، فنزل "قل حسبي الله" في جميع أموري في جلب النفع ودفع الضر "عليه يتوكل المتوكلون" أي عليه، لا على غيره يعتمد المعتمدون، واختار أبو عبيد وأبو حاتم قراءة أبي عمرو. لأن كاشفات اسم فاعل في معنى الاستقبال، وما كان كذلك فتنوينه أجود، وبها قرأ الحسن وعاصم.
ثم أمره الله أن يهددهم ويتوعدهم فقال: 39- "قل يا قوم اعملوا على مكانتكم" أي على حالتكم التي أنتم عليها وتمكنتم منها "إني عامل" أي على حالتي التي أنا عليها وتمكنت منها، وحذف ذلك للعلم به مما قبله.
40- "فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه" أي يهينه ويذله في الدنيا، فيظهر عند ذلك أنه المبطل وخصمه المحق، والمراد بهذا العذاب عذاب الدنيا وما حل بهم من القتل والأسر والقهر والذلة. ثم ذكر عذاب الآخرة فقال: "ويحل عليه عذاب مقيم" أي دائم مستمر في الدار الآخرة، وهو عذاب النار.
ثم لما كان يعظم على رسول الله صلى الله عليه وسلم إضرارهم على الكفر أخبره بأنه لم يكلف إلا بالبيان، لا بأن يهدي من ضل، فقال: 41- "إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس" أي لأجلهم ولبيان ما كلفوا به، و"بالحق" حال من الفاعل أو المفعول: أي محقين أو متلبساً بالحق "فمن اهتدى" طريق الحق وسلكها "فلنفسه ومن ضل" عنها "فإنما يضل عليها" أي على نفسه، فضرر ذلك عليه لا يتعدى إلى غيره "وما أنت عليهم بوكيل" أي بمكلف بهدايتهم مخاطب بها، بل ليس عليك إلا البلاغ وقد فعلت. وهذه الآيات هي منسوخة بآية السيف، فقد أمر الله رسوله بعد هذا أن يقاتلهم حتى يقولوا لا إله إلا الله ويعملوا بأحكام الإسلام.
ثم ذكر سبحانه نوعاً من أنواع قدرته البالغة وصنعته العجيبة فقال: 42- "الله يتوفى الأنفس حين موتها" أي يقبضها عند حضور أجلها ويخرجها من الأبدان "والتي لم تمت في منامها" أي ويتوفى الأنفس التي لم تمت: أي لم يحضر أجلها في منامها. وقد اختلف في هذا، فقيل يقبضها عن التصرف مع بقاء الروح في الجسد. وقال الفراء: المعنى ويقبض التي لم تمت عند انقضاء أجلها قال: وقد يكون توفيها نومها، فيكون التقدير على هذا: والتي لم تمت وفاتها نومها. قال الزجاج: لكل إنسان نفسان: أحدهما نفس التمييز وهي التي تفارقه إذا نام فلا يعقل، والأخرى نفس الحياة إذا زالت زال معها النفس والنائم يتنفس. قال القشيري: في هذا بعد إذ المفهوم من الآية أن النفس المقبوضة في الحالين شيء واحد، ولهذا قال: "فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى" أي النائمة "إلى أجل مسمى" وهو الوقت المضروب لموته، وقد قال بمثل قول الزجاج ابن الأنباري. وقال سعيد بن جبير: إن الله يقبض أرواح الأموات إذا ماتوا وأرواح الأحياء إذا ناموا فتتعارف ما شاء الله أن تتعارف "فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى" فيعيدها، والأولى أن يقال إن توفي الأنفس حال النوم بإزالة الإحساس وحصول الآفة به في محل الحس، فيمسك التي قضى عليها الموت ولا يردها إلى الجسد الذي كانت فيه ويرسل الأخرى بأن يعيد عليها إحساسها. قيل ومعنى "يتوفى الأنفس حين موتها" هو على حذف مضاف: أي عند موت أجسادها. وقد اختلف العقلاء في النفس والروح هل هما شيء واحد أو شيئان؟ والكلام في ذلك يطول جداً وهو معروف في الكتب الموضوعة لهذا الشأن. قرأ الجمهور قضى مبنياً للفاعل: أي قضى الله عليها الموت وقرأ حمزة والكسائي والأعمش ويحيى بن وثاب على البناء للمفعول، واختار أبو عبيد وأبو حاتم القراءة الأولى لموافقتها لقوله: "الله يتوفى الأنفس" والإشارة بقوله: "إن في ذلك" إلى ما تقدم من التوفي والإمساك والإرسال للنفوس "لآيات" أي لآيات عجيبة بديع دال على القدرة الباهرة، ولكن ليس كون ذلك آيات يفهمه كل أحد بل "لقوم يتفكرون" في ذلك ويتدبرونه ويستدلون به على توحيد الله وكمال قدرته، فإن في هذا التوفي والإمساك والإرسال موعظة للمتعظين وتذكرة للمتذكرين. وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "الله يتوفى الأنفس حين موتها" الآية قال: نفس وروح بينهما مثل شعاع الشمس، فيتوفى الله النفس في منامها ويدع الروح في جوفه تتقلب وتعيش، فإن بدا له أن يقبضه قبض الروح فمات، وإن أخر أجله رد النفس إلى مكانها من جوفه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والطبراني في الأوسط، وأبو الشيخ في العظمة، وابن مردويه والضياء في المختارة عنه في الآية قال: تلتقي أرواح الأحياء وأرواح الأموات في المنام فيتساءلون بينهم ما شاء الله، ثم يمسك الله أرواح الأموات ويرسل أرواح الأحياء في أجسادهم "إلى أجل مسمى" لا يغلط بشيء منها فذلك قوله "إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون". وأخرج عبد بن حميد عنه أيضاً في الآية قال: كل نفس لها سبب تجري فيه، فإذا قضي عليها الموت نامت حتى ينقطع السبب، والتي لم تمت في منامها تترك. وأخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أوى أحدكم إلى فراشه لينفضه بداخلة إزاره فإنه لا يدري ما خلفه عليه، ثم ليقل باسمك ربي وضعت جنبي وباسمك أرفعه، إن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين".
قوله: 43- "أم اتخذوا من دون الله شفعاء" أم هي المنقطعة المقدرة ببل والهمزة: أي بل اتخذوا من دون الله آلهة شفعاء تشفع لهم عند الله " قل أو لو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون " الهمزة للإنكار والتوبيخ والواو للعطف على محذوف مقدر: أي أيشفعون ولو كانوا إلخ، وجواب لو محذوف تقديره تتخذونهم: أي وإن كانوا بهذه الصفة تتخذونهم، ومعنى لا يملكون شيئاً أنهم غير مالكين لشيء من الأشياء وتدخل الشفاعة في ذلك دخولاً أولياً أو يعقلون شيئاً من الأشياء لأنها جمادات لا عقل لها، وجمعهم بالواو والنون لاعتقاد الكفار فيهم أنهم يعقلون.
ثم أمره سبحانه بأن يخبرهم أن الشفاعة لله وحده فقال: 44- "قل لله الشفاعة جميعاً" فليس لأحد منها شيء إلا أن يكون بإذنه لمن ارتضى، كما في قوله: "من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه" وقوله: "ولا يشفعون إلا لمن ارتضى" وانتصاب جميعاً على الحال، وإنما أكد الشفاعة بما يؤكد به الاثنان فصاعداً لأنها مصدر يطلق على الواحد والاثنين والجماعة ثم وصفه بسعة الملك فقال: "له ملك السموات والأرض" أي يملكهما ويملك ما فيهما ويتصرف في ذلك كيف يشاء ويفعل ما يريد "ثم إليه ترجعون" لا إلى غيره، وذلك بعد البعث.
45- "وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة" انتصاب وحده على الحال عند يونس، وعلى المصدر عند الخليل وسيبويه، والاشمئزاز في اللغة النفور. قال أبو عبيدة: اشمأزت نفرت، وقال المبرد: انقبضت. وبالأول قال قتادة، وبالثاني قال مجاهد المعنى متقارب. وقال المؤرج: أنكرت، وقال أبو زيد: اشمأز الرجل ذعر من الفزع، والمناسب للمقام تفسير اشمأزت بانقبضت، وهو في الأصل الازورار، وكان المشركون إذا قيل لهم لا إله إلا الله انقبضوا، كما حكاه الله عنهم في قوله: "وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفوراً" ثم ذكر سبحانه استبشارهم بذكر أصنامهم فقال: "وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون" أي يفرحون بذلك يوبتهجون به، والعامل في إذا في قوله: "وإذا ذكر الله" الفعل الذي بعدها، وهو اشمأزت، والعامل في إذا في قوله: "وإذا ذكر الذين من دونه" الفعل العامل في إذا الفجائية، والتقدير: فاجئوا الاستبشار وقت ذكر الذين من دونه.
ولما لم يقبل المتمردون من الكفار ما جاءهم به صلى الله عليه وسلم من الدعاء إلى الخير وصمموا على كفرهم، أمره الله سبحانه أن يرد الأمر فقال: 46- " قل اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك في ما كانوا فيه يختلفون " وقد تقدم تفسير فاطر السموات، وتفسير عالم الغيب والشهادة، وهما منصوبان على النداء ومعنى "تحكم بين عبادك" تجازي المحسن بإحسانه وتعاقب المسيء بإساءته، فإنه بذلك يظهر من هو المحق ومن هو المبطل، ويرتفع عنده خلاف المختلفين وتخاصم المتخاصمين.
ثم لما حكى عن الكفار ما حكاه من الاشمئزاز عند ذكر الله والاستبشار عند ذكر الأصنام ذكر ما يدل على شدة عذابهم وعظيم عقوبتهم فقال: 47- "ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعاً" أي جميع ما في الدنيا من الأموال والذخائر "ومثله معه" أي منضماً إليه "لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة" أي من سوء عذاب ذلك اليوم وقد مضى تفسير هذا في آل عمران "وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون" أي ظهر لهم من عقوبات الله وسخطه وشدة عذابه ما لم يكن في حسابهم، وفي هذا وعيد عظيم وتهديد بالغ، وقال مجاهد: عملوا أعمالاً توهموا أنها حسنات فإذا هي سيئات، وكذا قال السدي. وقال سفيان الثوري: ويل لأهل الرياء، ويل لأهل الرياء، ويل لأهل الرياء هذه آيتهم وقصتهم. وقال عكرمة بن عمار: جزع محمد بن المنكدر عند موته جزعاً شديداً، فقيل له ما هذا الجزع؟ قال: أخاف آية من كتاب الله "وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون" فأنا أخشى أن يبدو لي ما لم أكن أحتسب.
48- "وبدا لهم سيئات ما كسبوا" أي مساوئ أعمالهم من الشرك وظلم أولياء الله، وما يحتمل أن تكون مصدرية: أي سيئات كسبهم، وأن تكون موصولة: أي سيئات الذي كسبوه "وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون" أي أحاط بهم ونزل بهم ما كانوا يستهزئون به من الإنذار الذي كان ينذرهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "وإذا ذكر الله وحده اشمأزت" الآية قال: قست ونفرت "قلوب" هؤلاء الأربعة " الذين لا يؤمنون بالآخرة " أبو جهل بن هشام والوليد بن عقبة وصفوان وأبي بن خلف "وإذا ذكر الذين من دونه" اللات والعزى: "إذا هم يستبشرون". وأخرج مسلم وأبو داود والبيهقي في الأسماء والصفات عن عائشة قالت "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل افتتح صلاته: اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم".
قوله: 49- "فإذا مس الإنسان" المراد بالإنسان هنا الجنس باعتبار بعض أفراده أو غالبها، وقيل المراد به الكفار فقط والأول أولى، ولا يمنع من حمله على الجنس خصوص سببه، لأن الاعتبار بعموم اللفظ وفاء بحق النظم القرآني ووفاء بمدلوله، والمعنى: أن شأن غالب نوع الإنسان أنه إذا مسه ضر من مرض أو فقر أو غيرهما دعا الله وتضرع إليه في رفعه ودفعه "ثم إذا خولناه نعمة منا" أي أعطيناه نعمة كائنة من عندنا "قال إنما أوتيته على علم" مني بوجوه المكاسب، أو على خير عندي، أو على علم من الله بفضلي. وقال الحسن: على علم علمني الله إياه، وقيل قد علمت أني إذا أوتيت هذا في الدنيا أن لي عند الله منزلة وجاء بالضمير في أوتيته مذكراً مع كونه راجعاً إلى النعمة لأنها بمعنى الإنعام. وقيل إن الضمير عائد إلى ما، وهي موصولة، والأول أولى "بل هي فتنة" هذا رد لما قاله أي ليس ذلك الذي أعطيناك لما ذكرت، بل هو محنة لك واختبار لحالك أتشكر أم تكفر؟ قال الفراء: أنث الضمير في قوله هي لتأنيث الفتنة، ولو قال بل هو فتنة لجاز. وقال النحاس: بل عطيته فتنة. وقيل تأنيث الضمير باعتبار لفظ الفتنة، وتذكير الأول في قوله أوتيته باعتبار معناها "ولكن أكثرهم لا يعلمون" أن ذلك استدراج لهم من الله وامتحان لما عندهم من الشكر أو الكفر.
50- "قد قالها الذين من قبلهم" أي قال هذه الكلمة التي قالوها وهي قولهم: إنما أوتيته على علم الذين من قبلهم كقارون وغيره، فإن قارون قال: "إنما أوتيته على علم عندي"، "فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون" يجوز أن تكون ما هذه نافية: أي لم يغن عنهم ما كسبوا من متاع الدنيا شيئاً، وأن تكون استفهامية: أي أي شيء أغنى عنهم ذلك.
51- "فأصابهم سيئات ما كسبوا" أي جزاء سيئات كسبهم، أو أصابهم سيئات هي جزاء كسبهم، وسمي الجزاء سيئات لوقوعها في مقابلة سيئاتهم، فيكون ذلك من باب المشاكلة كقوله: "وجزاء سيئة سيئة مثلها"، ثم أوعد سبحانه الكفار في عصره فقال: "والذين ظلموا من هؤلاء" الموجودين من الكفار "سيصيبهم سيئات ما كسبوا" كما أصاب من قبلهم، وقد أصابهم في الدنيا ما أصابهم من القحط والقتل والأسر والقهر "وما هم بمعجزين" أي يفائتين على الله بل مرجعهم إليه يصنع بهم ما شاء من العقوبة.
52- " أولم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء " أي يوسع الرزق لمن يشاء أن يوسعه له "ويقدر" أي يقبضه لمن يشاء أن يقبضه ويضيقه عليه. قال مقاتل: وعظهم الله ليعتبروا في توحيده، وذلك حين مطروا بعد سبع سنين، فقال: أو لم يعلموا أن الله يوسع الرزق لمن يشاء ويقتر على من يشاء "إن في ذلك لآيات" أي في ذلك المذكور لدلالات عظيمة وعلامات الوعيد عقبة بذكر سعة رحمته وعظيم مغفرته.
وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يبشرهم بذلك فقال: 53- "قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله" المراد بالإسراف الإفراط في المعاصي والاستكثار منها. ومعنى لا تقنطوا: لا تيأسوا من رحمة الله من مغفرته. ثم لما نهاهم عن القنوط أخبرهم بما يدفع ذلك ويرفعه ويجعل الرجاء مكان القنوط فقال: "إن الله يغفر الذنوب جميعاً". واعلم أن هذه الآية أرجى آية في كتاب الله سبحانه لاشتمالها على أعظم بشارة، فإنه أولاً أضاف العباد إلى نفسه لقصد تشريفهم ومزيد تبشيرهم، ثم وصفهم بالإسراف في المعاصي والاستكثار من الذنوب، ثم عقب ذلك بالنهي عن القنوط من الرحمة لهؤلاء المستكثرين من الذنوب، فالنهي عن القنوط للمذنبين غير المسرفين من باب الأولى وبفحوى الخطاب، ثم جاء بما لا يبقى بعده شك ولا يتخالج القلب عند سماعه ظن، فقال: "إن الله يغفر الذنوب" فالألف واللام قد صيرت الجمع الذي دخلت عليه للجنس الذي يستلزم استغراق أفراده، فهو في قوة إن الله يغفر كل ذنب كائناً ما كان، إلا ما أخرجه النص القرآني وهو الشرك "إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء" ثم لم يكتف بما أخبر عباده به من مغفرة كل ذنب، بل أكد ذلك بقوله: "جميعاً" فيا لها من بشارة ترتاح لها قلوب المؤمنين المحسنين ظنهم بربهم الصادقين في رجائه. الخالعين لثياب القنوط الرافضين لسوء الظن بمن لا يتعاظمه ذنب، ولا يبخل بمغفرته ورحمته على عباده المتوجهين إليه في طلب العفو الملتدئين به في مغفرة ذنوبهم وما أحسن ما علل سبحانه به هذا الكلام قائلاً إنه هو الغفور الرحيم. أي كثير المغفرة والرحمة عظيمهما بليغهما واسعهما، فمن أبى هذا التفضل العظيم والعطاء الجسيم، وظن أن تقنيط عباد الله وتأييسهم من رحمته أولى بهم مما بشرهم الله به، فقد ركب أعظم الشطط وغلط أقبح الغلط، فإن التبشير وعدم التقنيط الذي جاءت به مواعيد الله في كتابه العزيز، والمسلك الذي سلكه رسوله صلى الله عليه وسلم كما صح عنه من قوله "يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا". وإذا تقرر لك هذا فاعلم أن الجمع بين هذه الآية وبين قوله: "إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء" وهو أن كل ذنب كائناً ما كان ما عدا الشرك بالله مغفور لمن شاء الله أن يغفر له، على أنه يمكن أن يقال إن إخباره لنا بأنه يغفر الذنوب جميعاً يدل على أنه يشاء غفرانها جميعاً، وذلك يستلزم أنه يشاء المغفرة لكل المذنبين من المسلمين فلم يبق بين الآيتين تعارض من هذه الحيثية. وأما ما يزعمه جماعة من المفسرين من تقييد هذه الآية بالتوبة وأنها لا تغفر إلا ذنوب التائبين وزعموا أنهم قالوا ذلك للجمع بين الآيات. فهو جمع بين الضب والنون، وبين الملاح والحادي، وعلى نفسها براقش تجني، ولو كانت هذه البشارة العظيمة مقيدة بالتوبية لم يكن لها كثير موقع، فإن التوبة من المشرك يغفر الله له بها ما فعله من الشرك بإجاع المسلمين، وقد قال "إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء" فلو كانت التوبة قيداً في المغفرة لم يكن للتنصيص على الشرك فائدة، وقد قال سبحانه: "وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم" قال الواحدي: المفسرون كلهم قالوا: إن هذه الآية في قوم خافوا إن أسلموا أن لا يغفر لهم ما جنوا من الذنوب العظام، كالشرك وقتل النفس ومعاداة النبي صلى الله عليه وسلم. قلت: هب أنها في هؤلاء القوم، فكان ماذا؟ فإن الاعتبار بما اشتملت عليه من العموم لا بخصوص السبب كما هو متفق عليه بين أهل العلم، ولو كانت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية مقيدة بأسبابها غير متجاوزة لها لارتفعت أكثر التكاليف عن الأمة إن لم ترتفع كلها، واللازم باطل بالإجماع، فالملزوم مثله. وفي السنة المطهرة من الأحاديث الثابتة في الصحيحين وغيرهما في هذا الباب ما إن عرفه المطلع عليه حق معرفته وقدره حق قدره علم صحة ما ذكرناه وعرف حقية ما حررناه. قرأ الجمهور "يا عبادي" بإثبات الياء وصلاً ووقفاً، وروى أبو بكر عن عاصم أنه يقف بغير ياء. وقرأ الجمهور "تقنطوا" بفتح النون، وقرأ أبو عمرو والكسائي بكسرها.
54- "وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون" أي ارجعوا إليه بالطاعة لما بشرهم سبحانه بأنه يغفر الذنوب جميعاً، أمرهم بالرجوع إليه بفعل الطاعات واجتناب المعاصي، وليس في هذا ما يدل على تقييد الآية الأولى بالتوبة لا بمطابقة ولا تضمن ولا التزام، بل غاية ما فيها أنه بشرهم بتلك البشارة العظمى، ثم دعاهم إلى الخير وخوفهم من الشر على أنه يمكن أن يقال: إن هذه الجملة مستأنفة خطاباً للكفار الذين لم يسلموا بدليل قوله: "وأسلموا له" جاء بها لتحذير الكفار وإنذارهم بعد ترغيب المسلمين بالآية الأولى وتبشيرهم، وهذا وإن كان بعيداً ولكنه يمكن أن يقال به، والمعنى على ما هو الظاهر: أن الله جمع لعباده بين التبشير العظيم، والأمر بالإنابة إليه والإخلاص له والاستسلام لأمره والخضوع لحكمه، وقوله:"من قبل أن يأتيكم العذاب" أي عذاب الدنيا كما يفيده قوله: "من قبل أن يأتيكم" فليس في ذلك ما يدل على ما زعمه الزاعمون وتمسك به القانطون المقنطون والحمد لله رب العالمين.
55- "واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم" يعني القرآن، يقول: أحلوا حلاله وحرموا حرامه، والقرآن كله حسن. قال الحسن: التزموا طاعته واجتنبوا معاصيه. وقال السدي: الأحسن ما أمر الله به في كتابه. وقال ابن زيد: يعني المحكمات وكلوا علم المتشابه إلى عالمه. وقيل الناسخ دون المنسوخ. وقيل العفو دون الانتقام بما يحق فيه الانتقام، وقيل أحسن ما أنزل إليكم من أخبار الأمم الماضية "من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون" أي من قبل أن يفاجئكم العذاب وأنتم غافلون عنه لا تشعرون به، وقيل أراد أنهم يموتون بغتة فيقعون في العذاب. والأول أولى لأن الذي يأتيهم بغتة هو العذاب في الدنيا بالقتل والأسر والقهر والخوف والجدب، لا عذاب الآخرة ولا الموت، لأنه لم يسند الإتيان إليه.
56- " أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله " قال البصريون: أي حذراً أن تقول. وقال الكوفيون: لئلا تقول. قال المبرد: بادروا خوف أن تقول، أو حذراً من أن تقول نفس. وقال الزجاج: خوف أن تصيروا إلى حال تقولون فيها: يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله، قيل والمراد بالنفس هنا النفس الكافرة، وقيل المراد به التكثير كما في قوله: "علمت نفس ما أحضرت" قرأ الجمهرو " يا حسرتى " بالألف بدلاً من الياء المضاف إليها، والأصل يا حسرتي، وقرأ ابن كثير " يا حسرتنا " بهاء السكت وقفاً، وقرأ أبو جعفر يا حسرتي بالياء على الأصل. والحسرة: الندامة، ومعنى "على ما فرطت في جنب الله" على ما فرطت في طاعة الله، قاله الحسن. وقال الضحاك: على ما فرطت في ذكر الله، ويعني به القرآن والعمل به. وقال أبو عبيدة "في جنب الله" أي في ثواب الله. وقال الفراء: الجنب القرب والجوار: أي في قرب الله وجواره، ومنه قوله: "والصاحب بالجنب" والمعنى على هذا القول، على ما فرطت في طلب جنب الله: أي في طلب جواره وقربه وهو الجنة، وبه قال ابن الأعرابي وقال الزجاج: أي فرطت في الطريق الذي هو طريق الله من توحيده والإقرار بنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا فالجنب بمعنى الجانب: أي قصرت في الجانب الذيب يؤدي إلى رضى الله، ومنه قول الشاعر: للناس جنب والأمير جنب أي الناس من جانب والأمير من جانب "وإن كنت لمن الساخرين" أي وما كنت إلا من المستهزئين بدين الله في الدنيا، ومحل الجملة النصب على الحال. قال قتادة: لم يكفه أن ضيع طاعة الله حتى سخر من أهلها.
57- "أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين" أي لو أن الله أرشدني إلى دينه لكنت ممن يتقي الشرك والمعاصي، وهذا من جملة ما يحتج به المشركون من الحجج الزائفة، ويتعللون به من العلل الباطلة كما في قوله: "سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا" فهي كلمة حق يريدون بها باطلاً.
ثم ذكر سبحانه مقالة أخرى مما قالوا فقال: 58- "أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة" أي رجعة إلى الدنيا "فأكون من المحسنين" المؤمنين بالله الموحدين له، المحسنين في أعمالهم، وانتصاب أكون إما لكونه معطوفاً على كرة فإنها مصدر، وأكون في تأويل المصدر: كما في قول الشاعر: للبس عباءة وتقر عيني أحب إلي من لبس الشفوف وأنشد الفراء على هذا: فما لك منها غير ذكرى وخشية وتسأل عن ركبانها أين يمموا وإما لكونه جواب التمني المفهوم من قوله: "لو أن لي كرة".
ثم ذكر سبحانه جوابه على هذه النفوس المتمنية المتعللة بغير علة فقال: 59-"بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين". المراد بالآيات هي الآيات التنزيلية وهو القرآن. ومعنى التكذيب بها قوله: إنها ليس من عند الله وتكبر عن الإيمان بها، وكان مع ذلك التكذيب والاستكبار من الكافرين بالله. وجاء سبحانه بخطاب المذكر في قوله: جاءتك وكذبت واستكبرت وكنت، لأن النفس تطلق على المذكر والمؤمن. قال المبرد: تقول العرب نفس واحد: أي إنسان واحد، وبفتح التاء في هذه المواضع قرأ الجمهور. وقرأ الجحدري وأبو حيوة ويحيى بن يعمر بكسرها في جميعها، وهي قراءة أبي بكر وابنته عائشة وأم سلمة، ورويت عن ابن كثير.
60- "ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة" أي ترى الذين كذبوا على الله بأن له شركاء وصاحبة وولداً وجوههم مسودة لما أحاط بهم من العذاب، وشاهدوه من غضب الله ونقمته، وجملة وجوههم مسودة في محل نصب على الحال. قال الأخفش: ترى غير عامل في وجوههم مسودة، إنما هو مبتدأ وخبر، والأول أن ترى إن كانت من الرؤية البصرية، فجملة وجوههم مسودة حالية، وإن كانت قلبية فهي في محل نصب على أنها المفعول الثاني لترى، والاستفهام في قوله: "أليس في جهنم مثوى للمتكبرين" للتقرير: أي ليس فيها مقام للمتكبرين عن طاعة الله، والكبر هو بطر الحق وغمط الناس كما ثبت في الحديث الصحيح.
61- "وينجي الله الذين اتقوا" أي اتقوا الشرك ومعاصي الله، والباء في "بمفازتهم" متعلقة بمحذوف هو حال من الموصول: أي ملتبسين بمفازتهم. قرأ الجمهور "بمفازتهم" بالإفراد على أنها مصدر ميمي والفوز: الظفر باخير والنجاة من الشر. قال المبرد: المفازة مفعلة من الفوز وهو السعادة، وإن جمع فحسن: كقولك السعادة والسعادات. والمعنى ينجيهم الله بفوزهم: أي بنجاتهم من النار وفوزهم بالجنة. وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر "بمفازتهم" جمع مفازة، وجمعها مع كونها مصدراً لاختلاف الأنواع، وجملة "لا يمسهم السوء" في محل نصب على الحال من الموصول، وكذلك جملة "ولا هم يحزنون" في محل نصب على الحال: أي ينفي السوء والحزن عنهم، يوجوز أن تكون الباء في بمفازتهم للسببية: أي بسبب فوزهم مع انتفاء مساس السوء لهم وعدم وصول الحزن إلى قلوبهم لأنهم رضوا بثواب الله وأمنوا من عقابه. وقد أخرج ابن أبي حاتم قال السيوطي بسند صيحيح وابن مردويه عن ابن عباس قال: أنزلت "قل يا عبادي الذين أسرفوا" الآية في مشركي أهل مكة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عمر قال: كنا نقول ليس لمفتتن توبة وما الله بقابل منه شيئاً، عرفوا الله وآمنوا به وصدقوا رسوله ثم رجعوا عن ذلك لبلاء أصابهم، وكانوا يقولونه لأنفسهم، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أنزل الله فيهم "يا عبادي الذين أسرفوا" الآيات، قال ابن عمر: فكتبتها بيدي، ثم بعثت بها إلى هشام بن العاصي. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي سعيد قال: لما أسلم وحشي أنزل أنزل الله "والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق" قال وحشي وأصحابه: قد ارتكبنا هذا كله، فأنزل الله "قل يا عبادي الذين أسرفوا" الآية. وأخرج البخاري في الأدب المفرد عن أبي هريرة قال: "خرج النبي صلى الله عليه وسلم على رهط من أصحابه وهم يضحكون ويتحدثون فقال: والذي نفسي بيده لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، ثم انصرف وأبكى القوم، وأوحى الله إليه: يا محمد لم تقنط عبادي فرجع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أبشروا وسددوا وقاربوا". وأخرج ابن مردويه والبيهقي في سننه عن عمر بن الخطاب أنها نزلت فيمن أفتن. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس أنها نزلت في مشركي مكة لما قالوه إن الله لا يغفر لهم ما قد اقترفوه من الشرك وقتل الأنفس وغير ذلك. وأخرج أحمد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه واليبيهقي في الشعب عن ثوبان: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية "يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم" إلى آخر الآية، فقال رجل ومن أشرك؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، قال ألا ومن أشرك ثلاث مرات". وأخرج أحمد وعبد بن حيمد وأبو داود والترمذي وحسنه وابن المنذر وابن الأنباري في المصاحف والحاكم وابن مردويه عن أسماء بنت يزيد" سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً ولا يبالي إنه هو الغفور الرحيم". وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا في حسن الظن بالله وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود أنه مر على قاض يذكر الناس فقال: يا مذكر الناس لا تقنط الناس، ثم قرأ "يا عبادي الذين أسرفوا" الآية. وأخرج ابن جرير عن ابن سيرين قال: قال علي: أي آية أوسع؟ فجعلوا يذكرون آيات من القرآن "من يعمل سوءاً أو يظلم نفسه" الآية ونحوها، فقال علي: ما في القرآن أوسع من "يا عبادي" الآية. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم" الآية قال: قد دعا الله إلى مغفرته من زعم أن المسيح ابن الله، ومن زعم أن عزيزاً ابن الله، ومن زعم أن الله فقير، ومن زعم أن يد الله مغلولة، ومن زعم أن الله ثالث ثلاثة يقول لهؤلاء "أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم" ثم دعا إلى توبته من هو أعظم قولاً من هؤلاء من "قال أنا ربكم الأعلى" وقال "ما علمت لكم من إله غيري" قال ابن عباس، ومن آيس العباد من التوبة بعد هذا فقد جحد كتاب الله، ولكن لا يقدر العبد أن يتوب حتى يتوب الله عليه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "أن تقول نفس" قال: أخبر الله ما العباد قائلون قبل أن يقولوا، وعلمهم قبل أن يعلموا.
قوله: 62- "الله خالق كل شيء" من الأشياء الموجودة في الدنيا والآخرة كائناً ما كان من غير فرق بين شيء وشيء وقد تقدم تفسير هذه الآية في الأنعام "وهو على كل شيء وكيل" أي الأشياء كلها موكولة إليه فهو القائم بحفظها وتدبيرها من غير مشارك له.
63- "له مقاليد السموات والأرض" المقاليد واحدها مقليد ومقلاد أو لا واحد له من لفظه كأساطير، وهي مفاتيح السموات والأرض والرزق والرحمة. قاله مقاتل وقتادة وغيرهما. وقال الليث: المقلاد الخزانة، ومعنى الآية له خزائن السموات والأرض والرزق والرحمة. قاله مقاتل وقتادة وغيرهما. وقال الليث: المقلاد الخزانة، ومعنى الآية له خزائن السموات والأرض، وبه قال الضحاك والسدي. وقيل خزائن السموات المطر وخزائن الأرض النبات. وقيل هي عبارة عن قدرته سبحانه وحفظه لها، والأول أولى. قال الجوهري: الإقليد المفتاح، ثم قال: والجمع المقاليد. وقيل هي لا إله إلا الله والله أكبر، وسبحان الله وبحمده، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وقيل غير ذلك "والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون" أي بالقرآن وسائر الآيات الدالة على الله سبحانه وتوحيده، ومعنى الخاسرون: الكاملون في الخسران لأنهم صاروا بهذا الكفر إلى النار.
64- "قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون" الاستفهام للإنكار التوبيخي، والفاء للعطف على مقدر كنظائره، وغير منصوب بأعبد، وأعبد معمول لتأمروني على تقدير أن المصدرية، فلما حذفت بطل عملها، والأصل: أفتأمروني أن أعبد غير الله. قال الكسائي وغيره. ويجوز أن يكون غير منصوباً بتأمروني، وأعبد بدل منه بدل اشتمال، وأن مضمرة معه أيضاً. ويجوز أن يكون غير منصوبة بفعل مقدر: أي أفتلزموني غير الله: أي عبادة غير الله أو أعبد غير الله أعبد. أمره سبحانه أن يقول هذا للكفار لما دعوه إلى ما هم عليه من عبادة الأصنام وقالوا هو دين آبائك. قرأ الجمهور " تأمرنا " بإدغام نون الرفع في نون الوقاية على خلاف بينهم في فتح الياء وتسكينها. وقرأ نافع "تأمروني" بنون خفيفة وفتح الياء، وقرأ ابن عامر " تأمروني " بالفك وسكون الياء.
65- " ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك " أي من الرسل "لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين" هذا الكلام من باب التعريض لغير الرسل، لأن الله سبحانه قد عصمهم عن الشرك، ووجه إيراده على هذا الوجه التحذير والإنذار للعباد من الشرك، لأنه إذا كان موجباً لإحباط عمل الأنبياء على الفرض،. والتقدير فهو محبط لعمل غيرهم من أممهم بطريق الأولى. قيل وفي الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: ولد أوحى إليك لئن أشركت وأوحى إلى الذين من قبلك كذلك. قال مقاتل: أي أوحى إليك وإلى الأنبياء قبلك بالتوحيد والتوحيد محذوف، ثم قال: لئن أشركت يا محمد ليحبطن عملك، وهو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة. وقيل إفراد الخطاب في قوله: "لئن أشركت" باعتبار كل واحد من الأنبياء: كأنه قيل أوحي إليك وإلى كل واحد من الأنبياء هذا الكلام، وهو لئن أشركت، وهذه الآية مقيدة بالموت على الشرك كما في الآية الأخرى "ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم" وقل هذا خالص بالأنبياء لأن الشرك منهم أعظم ذنباً من الشرك من غيرهم، والأول أولى.
ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بتوحيده، فقال: 66- "بل الله فاعبد" وفي هذا رد على المشركين حيث أمروه بعبادة الأصنام، ووجه الرد ما يفيده التقديم من القصر. قال الزجاج: لفظ اسم الله منصوب باعبد قال: ولا اختلاف في هذا بين البصريين والكوفيين. وقال الفراء: هو منصوب بإضمار فعل، وروي مثله عن الكسائي، والأول أولى. قال الزجاج: والفاء في فاعبد للمجازاة. وقال الأخفش: زائدة. قال عطاء ومقاتل معنى فاعبد وحد، لأن عبادته لا تصح إلا بتوحيده "وكن من الشاكرين" لإنعامه عليك بما هداك إليه من التوحيد والدعاء إلى دينه واختصك به من الرسالة.
67- "وما قدروا الله حق قدره" قال المبرد: أي ما عظموه حق عظمته، من قولك فلان عظيم القدر، وإنما وصفهم بهذا لأنهم عبدوا غير الله وأمروا رسوله بأن يكون مثلهم في الشرك. وقرأ الحسن وأبو حيوة وعيسى بن عمر قدروا بالتشديد "والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة" القبضة في اللغة ما قبضت عليه بجميع كفك، فأخبر سبحانه عن عظيم قدرته بأن الأرض كلها مع عظمها وكثافتها في مقدوره كالشيء الذي يقبض عليه القابض بكفه كما يقولون: هو في يد فلان وفي قبضته للشيء الذي يهون عليه التصرف فيه وإن لم يقبض عليه، وكذا قوله: "والسموات مطويات بيمينه" فإن ذكر اليمين للمبالغة في كمال القدرة كما يطوي الواحد منا الشيء المقدور له طيه بيمينه، واليمين في كلام العرب قد تكون بمعنى القدرة والملك. قال الأخفش بيمينه يقول في قدرته، نحو قوله: "أو ما ملكت أيمانكم" أي ما كانت لكم قدرة عليه، وليس الملك لليمين دون الشمال وسائر الجسد، ومنه قوله سبحانه: "لأخذنا منه باليمين" أي بالقوة والقدرة، ومنه قول الشاعر: إذا ما راية نصبت لمجد تلقاها عرابة باليمين وقول الآخر: ولما رأيت الشمس أشرق نورها تناولت منها حاجتي بيمين وقول الآخر: عطست بأنف شامخ وتناولت يداي الثريا قاعداً غير قائم وجملة "والأرض جميعاً قبضته" في محل نصب على الحال: أي ما عظموه حق تعظيمه، والحال أنه متصف بهذه الصفة الدالة على كمال القدرة. قرأ الجمهور برفع "قبضته" على أنها خبر المبتدأ، وقرأ الحسن بنصبها، ووجه ابن خالويه بأنه على الظرفية: أي في قبضته. وقرأ الجمهور " مطويات " بالرفع على أنها خبر المبتدأ، والجملة في محل نصب على الحال كالتي قبلها، وبيمينه متعلق بمطويات، أو حال من الضمير في مطويات على الأرض، وتكون قبضته خبراً على الأرض والسموات، وتكون مطويات حالاً، أو تكون مطويات منصوبة بفعل مقدر، وبيمينه الخب{، وخص يوم القيامة بالذكر وإن كانت قدرته شاملة، لأن الدعاوى تنقطع فيه كما قال سبحانه "الملك يومئذ لله" وقال "مالك يوم الدين" ثم نزه سبحانه نفسه فقال: "سبحانه وتعالى عما يشركون" به من المعبودات التي يجعلونها شركاء له مع هذه القدرة العظيمة والحكمة الباهرة.
68- "ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض" هذه هي النفخة الأولى، والصور هو القرن الذين ينفخ فيه إسرافيل، وقد تقدم غير مرة، ومعنى صعق: زالت عقولهم فخروا مغشياً عليهم، وقيل ماتوا. قال الواحدي: قال المفسرون مات من الفزع وشدة الصوت أهل السموات والأرض. قرأ الجمهور "الصور" بسكون الواو، وقرأ قتادة وزيد بن علي بفتحها جمع صورة، والاستثناء في قوله: "إلا من شاء الله" متصل، والمستثنى جبريل وميكائيل وإسرافيل، وقيل رضوان وحملة العرش وخزنة الجنة والنار "ثم نفخ فيه أخرى" يجوز أن يكون أخرى في محل رفع على النيابة وهي صفة لمصدر محذوف: أي نفخة أخرى، ويجوز أن يكون في محل نصب والقائم مقام الفاعل فيه "فإذا هم قيام ينظرون" يعني الخلق كلهم قيام على أرجلهم ينظرون ما يقال لهم أو ينتظرون ذلك. قرأ الجمهور قيام بالرفع على أنه خبر، وينظرون في محل نصب على الحال وقرأ زيد بن علي بالنصب على أنه حال، والخبر ينظرون، والعامل في الحال ما عمل في إذا الفجائية. قال الكسائي كا تقول خرجت فإذا زيد جالساً.
69- "وأشرقت الأرض بنور ربها" الإشراق الإضاءة، يقال أشرقت الشمس: إذا أضاءت، وشرقت: إذا طلعت، ومعنى بنور ربها: بعدل ربها، قاله الحسن وغيره. وقال الضحاك: بحكم ربها، والمعنى: أن الأرض أضاءت وأنارت بما أقامه الله من العدل بين أهلها، وما قضى به من الحق فيهم، فالعدل نور والظلم ظلمات. وقيل إن الله يخلق نوراً يوم القيامة يلبسه وجه الأرض فتشرق به غير نور الشمس والقمر، ولا مانع من الحمل على المعنى الحقيقي، فإن الله سبحانه هو نور السموات والأرض. قرأ الجمهور "أشرقت" مبنياً للفاعل، وقرأ ابن عباس وأبو الجوزاء وعبيد بن عمير على البناء للمفعول ووضع الكتاب قيل هو اللوح المحفوظ. وقال قتادة: يعني الكتب والصحف التي فيها أعمال بني آدم فآخذ بيمينه وآخذ بشماله، وكذا قال مقاتل. وقيل هو من وضع المحاسب كتاب المحاسبة بين يديه: أي وضع الكتاب للحساب "وجيء بالنبيين" أي جيء بهم إلى الموقف فسئلوا عما أجابتهم به أممهم "والشهداء" الذين يشهدون على الأمم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم كما في قوله: "وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس" وقيل المراد بالشهداء الذين استشهدوا في سبيل الله، فيشهدون يوم القيامة لمن ذب عن دين الله. وقيل هم الحفظة كما قال تعالى: "وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد" "وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون" أي وقي بين العباد بالعدل والصدق، والحال أنهم لا يظلمون: أي لا ينقصون من ثوابهم ولا يزاد على ما يستحقونه من عقابهم.
70- "ووفيت كل نفس ما عملت" من خير وشر "وهو أعلم بما يفعلون" في الدنيا لا يحتاج إلى كاتب ولا حاسب ولا شاهد، وإنما وضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء لتكميل الحجة وقطع المعذرة.
ثم ذكر سبحانه تفصيل ما ذكره من توفية كل نفس ما كسبت فقال: 71- "وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمراً" أي سيق الكافرون إلى النار حال كونهم زمراً: أي جماعات متفرقة بعضها يتلو بعضاً. قال أبو عبيدة والأخفش، زمراً جماعات متفرقة بعضها إثر بعض، ومنه قول الشاعر: وترى الناس إلى أبوابه زمراً تنتابه بعد زمر واشتقاقه من الزمر، وهو الصوت، إذ الجماعة لا تخلو عنه " حتى إذا جاؤوها فتحت أبوابها " أي فتحت أبواب النار ليدخلوها، وهي سبعة أبواب، وقد مضى بيان ذلك في سورة الحجر "وقال لهم خزنتها" جمع خازن نحو سدنة وسادن "ألم يأتكم رسل منكم" أي من أنفسكم "يتلون عليكم آيات ربكم" التي أنزلها عليهم "وينذرونكم لقاء يومكم هذا" أي يخوفونكم لقاء هذا اليوم الذي صرتم فيه، قالوا لهم هذا القول تقريعاً وتوبيخاً، فأجابوا بالاعتراف ولم يقدروا على الجدل الذي كانوا يتعللون به في الدنيا لانكشاف الأمر وظهوره، ولهذا "قالوا بلى" أي قد أتتنا الرسل بآيات الله وأنذرونا بما سنلقاه "ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين" وهي "لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين".
فلما اعترفوا هذا الاعتراف 72- "قيل ادخلوا أبواب جهنم" التي قد فتحت لكم لتدخلوها وانتصاب "خالدين" على الحال: أي مقدرين الخلود "فبئس مثوى المتكبرين" المخصوص بالذم محذوف: أي بئس مثواهم جهنم، وقد تقدم تحقيق المثوى في غير موضع. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "مقاليد السموات والأرض" قال: مفاتيحها. وأخرج أبو يعلى ويوسف القاضي في سننه وأبو الحسن القطان وابن السني وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن عثمان بن عفان قال:" سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله "له مقاليد السموات والأرض" فقال لي: يا عثمان لقد سألتني عن مسألة لم يسألني عنها أحد قبلك، مقاليد السموات والارض: لا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله، والحمد الله، وأستغفر الله الذي لا إله إلا هو، والأول والآخر، والظاهر والباطن، يحيي ويميت وهو حي لا يموت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، ثم ذكر فضل هذه الكلمات". وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس عن عثمان قال: جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: أخبرني عن مقاليد السموات والأرض، فذكره. وأخرجه الحارث بن أبي أسامة وابن مردويه عن أبي هريرة عن عثمان. وأخرجه العقيلي والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عمر عن عثمان. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أن قريشاً دعت رسول الله صلى الله عليه وسمل أن يعطوه مالاً فيكون أغنى رجل بمكة ويزوجوه ما أراد من النساء ويطأون عقبه، فقالوا له: هذا لك يا محمد وتكف عن شتم آلهتنا ولا تذكرها بسوء، قال: حتى أنظر ما يأتيني من ربي، فجاء بالوحي "قل يا أيها الكافرون" إلى آخر السورة، وأنزل الله عليه "قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون" إلى قوله: "من الخاسرين". وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود قال: جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد إنا نجد أن الله يحمل السموات يوم القيامة على أصبع والشجر على أصبع والماء والثرى على أصبع، وسائر الخلق على أصبع، فيقول أنا الملك، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد إنا نجد أن الله يحمل السموات يوم القيامة على أصبع والشجر على أصبع والماء والثرى على أصبع، وسائر الخلق على أصبع، فيقول أنا الملك، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم " وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة ". وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يقبض الله الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه ثم يقول: أنا الملك أين ملوك الأرض؟". وفي الباب أحاديث وآثار تقتضي حمل الآية على ظاهرها من دون تكلف لتأويل ولا تعسف لقال وقيل. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة قال: " قال رجل من اليهود بسوق المدينة: والذي اصطفى موسى على البشر، فرفع رجل من الأنصار يده فلطمه، فقال: أتقول هذا وفينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: قال الله: "ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون" فأكون أول من يرفع رأسه، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أرفع رأسه قبلي، أو كان ممن استثنى الله". وأخرج أبو يعلى والدارقطني في الإفراد وابن المنذر والحاكم وصححه، وابن مردويه والبيهقي في البعث عن أي هريرة "عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "إلا من شاء الله" قال:هم الشهداء متقلدون أسيافهم حول عرشه تتلقاهم الملائكة يوم القيامة" الحديث. وأخرجه سعيد بن منصور وعبد بن حميد من أقوال أبي هريرة. وأخرج الفريابي وابن جرير وأبو نصر السجزي في الإبانة وابن مردويه "عن أنس أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسم عن قوله: "إلا من شاء الله" فقال: جبريل وميكائيل وملك الموت وإسرافيل وحملةالعرش". وأخرج ابن المنذر عن جابر في قوله: "إلا من شاء الله" قال: موسى، لأنه كان صعق قبل. والأحاديث الواردة في كيفية نفخ الصور كثيرة. وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس في قوله: "وجيء بالنبيين والشهداء" قال: النبيين الرسل، والشهداء الذين يشهدون لهم بالبلاغ ليس فيهم طعان ولا لعان. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عنه في الآية قال: يشهدون بتبليغ الرسالة وتكذيب الأمم إياهم.
لما ذكر فيما تقدم حال الذين كفروا وسوقهم إلى جهنم، ذكر هنا حال المتقين وسوقهم إلى الجنة فقال 73- "وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً" أي ساقتهم الملائكة سوق إعزاز وتشريف وتكريم. وقد سبق بيان معنى الزمر " حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها " جواب إذا محذوف. قال المبرد تقديره: سعدوا وفتحت، وأنشد قول الشاعر: فلو أنها نفس تموت جميعة ولكنها نفس تساقط أنفسا فحذف جواب لو، والتقدير: لكان أروح. وقال الزجاج: القول عندي أن الجواب محذوف على تقدير: حتى إذا جاءوها، وكانت هذه الأشياء التي ذكرت دخلوها فالجواب دخلوها وحذف لأن في الكلام دليلاً عليه. وقال الأخفش والكوفيون: الجواب فتحت والواو زائدة، وهو خطأ عند البصريين، لأن الواو من حروف المعاني فلا تزاد. وقيل إن زيادة الواو دليل على أن الأبواب فتحت لهم قبل أن يأتوا لكرامتهم على الله، والتقدير: حتى إذا جاءوها وأبوابها مفتحة بدليل قوله "جنات عدن مفتحة لهم الأبواب" وحذفت الواو في قصة أهل النار، لأنهم وقفوا على النار وفتحت بعد وقوفهم إذلالاً وترويعاً. ذكر معناه النحاس منسوباً إلى بعض أهل العلم، قال: ولا أعلم أنه سبقه إليه أحد. وعلى هذا القول تكون الواو واو الحال بتقدير قد: أي جاءوها وقد فتحت لهم الأبواب. وقيل إنها واو الثمانية، وذلك أن من عادة العرب أنهم كانوا يقولون في العدد: خمسة ستة سبعة وثمانية، وقد مضى القول في هذا في سورة براءة مستوفى وفي سورة الكهف أيضاً. ثم أخبر سبحانه أن خزنة الجنة يسلمون على المؤمنين فقال: "وقال لهم خزنتها سلام عليكم" أي سلام لكم من كل آفة "طبتم" في الدنيا فلم تتدنسوا بالشرك والمعاصي. قال مجاهد: طبتم بطاعة الله، وقيل بالعمل الصالح، والمعنى واحد. قال مقاتل: إذا قطعوا جسر جهنم حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم حتى إذا هذبوا طيبوا قال لهم رضوان وأصحابه " سلام عليكم " الآية "فادخلوها" أي ادخلوا الجنة "خالدين" أي مقدرين الخلود.
فعند ذلك قال أهل الجنة 74- "الحمد لله الذي صدقنا وعده" بالبعث والثواب بالجنة "وأورثنا الأرض" أي أرض الجنة كأنها صارت من غيرهم إليهم فلمكوها وتصرفوا فيها، وقيل إنهم ورثوا الأرض التي كانت لأهل النار لو كانوا مؤمنين. قاله أكثر المفسرين. وقيل إنها أرض الدنيا، وفي الكلام تقديم وتأخير "نتبوأ من الجنة حيث نشاء" أي نتخذ فيها من المنازل ما نشاء حيث نشاء "فنعم أجر العاملين" المخصوص بالمدح محذوف: أي فنعم أجر العاملين في الجنة، وهذا من تمام قول أهل الجنة.
وقيل هو من قول الله سبحانه 75- "وترى الملائكة حافين من حول العرش" أي محيطين محدقين به، يقال حف القوم بفلان إذا أطافوا به، ومن مزيدة قاله الأخفش، أو للابتداء، والمعنى: أن الرائي يراهم بهذه الصفة في ذلك اليوم وجملة "يسبحون بحمد ربهم" في محل نصب على الحال: أي حال كونهم مسبحين لله ملتبسين بحمده، وقيل معنى يسبحون يصلون حول العرش شكراً لربهم، والحافين جمع حاف، قاله الأخفش. وقال الفراء: لا واحد له إذ لا يقع لهم هذا الاسم إلا مجتمعين "وقضي بينهم بالحق" أي بين العباد بإدخال بعضهم الجنة وبعضهم النار، وقيل بين النبيين الذين جيء بهم مع الشهداء وبين أممهم بالحق، وقيل بين الملائكة بإقامتهم في منازلهم على حسب درجاتهم، والأول أولى "وقيل الحمد لله رب العالمين" القائلون هم المؤمنون حمدوا لله على قضائه بينهم وبين أهل النار بالحق، وقيل القائلون هم الملائكة حمدوا الله تعالى على عدله في الحكم وقضائه بين عباده بالحق. وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والذين يلونهم على ضوء أشد كوكب دري في السماء إضاءة". وأخرجه وغيرهما عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "في الجنة ثمانية أبواب منها باب يسمى باب الريان لا يدخله إلا الصائمون". وقد ورد في كون أبواب الجنة ثمانية أبواب أحاديث في الصحيحين وغيرهما. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة في قوله: "وأورثنا الأرض" قال: أرض الجنة. وأخرج هناد عن أبي العالية مثله.