islamkingdomfaceBook islamkingdomtwitter islamkingdominstagram islamkingdomyoutube islamkingdomnew

فتح القدير
19407

43-الزخرف

حم

هي تسع وثمانون آية قال القرطبي: هي مكية بالإجماع. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت سورة حم الزخرف بمكة قال مقاتل: إلا قوله: "واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا" يعني فإنها نزلت بالمدينة. قوله: 1- "حم".

وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ

قوله: 2- " حم * والكتاب المبين " الكلام ها هنا في الإعراب كالكلام الذي قدمناه في " يس * والقرآن الحكيم " فإن جعلت حم قسماً كانت الواو عاطفة، وإن لم تجعل قسماً فالواو للقسم.

إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ

وجواب القسم 3- "إنا جعلناه" وقال ابن الأنباري: من جعل جواب والكتاب حم كما تقول: نزل والله، وجب والله وقف على الكتاب المبين، ومعنى جعلناه: أي سميناه ووصفناه، ولذلك تعدى إلى مفعولين. وقال السدي: المعنى أنزلناه "قرآناً" وقال مجاهد: قلناه. وقال سفيان الثوري: بيناه "عربياً" وكذا قال الزجاج: أي أنزل بلسان العرب، لان كل نبي أنزل كتابه بلسان قومه. وقال مقاتل: لأن لسان أهل الجنة عربي "لعلكم تعقلون" أي جعلنا ذلك الكتاب قرآناً عربياً لكي تفهموه وتتعقلوا معانية وتحيطوا بما فيه. قال ابن زيد: لعلكم تتفكرون.

وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ

4- "وإنه في أم الكتاب" أي وإن القرآن في اللوح المحفوظ "لدينا" أي عندنا "لعلي حكيم" رفيع القدر محكم النظم لا يوجد فيه اختلاف ولا تناقص والجملة عطف على الجملة المقسم بها داخلة تحت معنى القسم، أو مستأنفة مقررة لما قبلها. قال الزجاج: أم الكتاب أصل الكتاب، وأصل كل شيء أمه، والقرآن مثبت عند الله في اللوح المحفوظ كما قال: " بل هو قرآن مجيد * في لوح محفوظ " وقال ابن جريح: المراد بقوله وإنه أعمال الخلق من إيمان وكفر وطاعة ومعصية. قال قتادة أخبر عن منزلته وشرفه وفضله: أي إن كذبتم به يا أهل مكة فإنه عندنا شريف رفيع محكم من الباطل.

أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ

5- "أفنضرب عنكم الذكر صفحاً" يقال ضربت عنه وأضرت عنه: إذا تركته وأمسكت عنه، كذا قال الفراء والزجاج وغيرهما، وانتصاب صفحاً على المصدرية، وقيل على الحال على معنى: أفنضرب عنكم الذكر صافحين، والصفح مصدر قولهم: صفحت عنه إذا أعرضت عنه، وذلك أنك توليه صفحة وجهك وعنقك، المراد بالذكر هنا القرآن، والاستفهام للإنكار والتوبيخ. قال الكسائي: المعنى أفنضرب عنكم الذكر طياً فلا توعظون ولا تؤمرون. وقال مجاهد وأبو صالح والسدي: أنفضرب عنكم العذاب ولا نعاقبكم على إسرافكم وكفركم. وقال قتادة: المعنى أنهلككم ولا نأمركم ولا ننهاكم. وروي عنه أنه قال: المعنى أفنمسك عن إنزال القرآن من قبل أنكم لا تؤمنون به. وقيل الذكر التذكير، كأنه قال: أنترك تذكيركم " أن كنتم قوما مسرفين "، قرأ نافع وحمزة والكسائي "إن كنتم" بكسر إن على أنها الشرطية والجزاء محذوف لدلالة ما قبله عليه. وقرأ الباقون بفتحها على التعليل: أي لأن كنتم قوماً منهمكين في الإسراف مصرين عليه، واختار أبو عبيد قراءة الفتح.

وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ

ثم سلى سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم فقال: 6- "وكم أرسلنا من نبي في الأولين" كم هي الخبرية التي معناها التكثير، والمعنى: ما أكثر ما أرسلنا من الأنبياء في الأمم السابقة.

وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ

7- " وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزئون " كاستهزاء قومك بك.

فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ

8- "فأهلكنا أشد منهم بطشاً" أي أهلكنا قوماً أشد قوة من هؤلاء القوم، وانتصاب بطشاً على التمييز أو الحال: أي باطشين "ومضى مثل الأولين" أي سلف في القرآن ذكرهم غير مرة. وقال قتادة: عقوبتهم، وقيل صفتهم، والمثل الوصف والخبر. وفي هذا تهديد شديد، لأنه يتضمن أن الأولين أهلكوا بتكذيب الرسل، وهؤلاء إن استمروا على تكذيبك والكفر بما جئت به هلكوا مثلهم.

وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ

9- "ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم" أي لئن سألت هؤلاء الكفار من قومك من خلق هذه الأجرام العلوية والسفلية أقروا بأن الله خالقهن ولم ينكروا، وذلك أسوأ لحالهم وأشد لعقوبتهم، لأنهم عبدوا بعض مخلوقات الله خالقهن ولم ينكروا، وذلك أسوأ لحالهم وأشد لعقوبتهم، لأنهم عبدوا بعض مخلوقات الله وجعلوه شريكاً له، بل عمدوا إلى ما لا يسمع ولا يبصر ولا ينفع ولا يضر من المخلوقات وهي الأصنام فجعلوها شركاء الله.

الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ

ثم وصف سبحانه نفسه بما يدل على عظيم نعمته على عباده وكمال قدرته في مخلوقاته فقال: 10- " الذي جعل لكم الأرض مهدا " وهذا كلام مبتدأ غير متصل بما قبله، ولو كان متصلاً بما قبله من جملة مقول الكفار لقالوا الذي جعل لنا الأرض مهاداً، والمهاد الفراش والبساط، وقد تقدم بيانه، قرأ الجمهور "مهاداً" وقرأ الكوفيون "مهداً" "وجعل لكم فيها سبلاً" أي طرقاً تسلكونها إلى حيث تريدون، وقيل معايش تعيشون بها "لعلكم تهتدون" بسلوكها إلى مقاصدكم ومنافعكم.

وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ

11- "والذي نزل من السماء ماء بقدر" أي بقدر الحاجة وحسبما تقتضيه المصلحة ولم ينزل عليكم منه فوق حاجتكم حتى يهلك زرائعكم ويهدم منازلكم ويهلككم بالغرق، ولا دونها حتى تحتاجوا إلى الزيادة، وعلى حسب ما تقتضيه مشيئته في أرزاق عباده بالتوسيع تارة والتقتير أخرى " فأنشرنا به بلدة ميتا " أي أحيينا بذلك الماء بلدة مقفرة من النبات. قرأ الجمهور " ميتا " بالتخفيف. وقرأ عيسى وأبو جعفر بالتشديد "كذلك تخرجون" من قبوركم: أي مثل ذلك الإحياء للأرض بإخراج نباتها بعد أن كانت لا نبات بها تبعثون من قبوركم أحياء، فإن من قدر على هذا قدر على ذلك، وقد مضى بيان هذا في آل عمران والأعراف. قرأ الجمهور "تخرجون" مبنياً للمفعول وقرأ الأعمش ويحيى بن وثاب وحمزة والكسائي وابن ذكوان عن ابن عامر مبنياً للفاعل.

وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ

12- "والذي خلق الأزواج كلها" المراد بالأزواج هنا الأصناف، قال سعيد بن جبير: الأصناف كلها. وقال الحسن: الشتاء والصيف والليل والنهار والسموات والأرض والجنة والنار، وقيل أزواج الحيوان من ذكر وأنثى، وقيل أزواج النبات، كقوله: "وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج" و"من كل زوج كريم" وقيل ما يتقلب فيه الإنسان من خير وشر وإيمان وكفر، والأول أولى "وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون" في البحر والبر: أي ما تركبونه.

لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ

13- "لتستووا على ظهوره" الضمير راجع إلى ما قاله أبو عبيد. وقال الفراء: أضاف الظهور إلى واحد، لأن المراد ظهور هذا الجنس والاستواء الاستعلاء: أي لتستعلوا على ظهور ما تركبون من الفلك والأنعام "ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه" أي هذه النعمة التي أنعم بها عليكم من تسخير ذلك المركب في البحر والبر. وقال مقاتل والكلبي: هو أن يقول الحمد الله الذي رزقني هذا وحملني عليه "وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا" أي ذلل لنا هذا المركب، وقرأ علي بن أبي طالب سبحان من سخر لنا هذا قال قتادة: قد علمكم كيف تقولون إذا ركبتم، ومعنى "وما كنا له مقرنين" ما كنا له مطيقين، يقال أقرن هذا البعير: إذا أطاقه. وقال الأخفش وأبو عبيدة: مقرنين ضابطين، وقيل مماثلين له في القوة، من قولهم هو قرن فلان إذا كان مثله في القوة، وأنشد قطرب قول عمرو بن معدي كرب: لقد علم القبائل ما عقيل لنا في النائبات بمقرنينا قال آخر: ركبتم صعبتي أشر وجبن ولستم للصعاب بمقرنينا والمراد بالأنعام هنا الإبل خاصة، وقيل الإبل والبقر، والأول أولى.

وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ

14- "وإنا إلى ربنا لمنقلبون" أي راجعون إليه، وهذا تمام ما يقال عند ركوب الدابة أو السفينة.

وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ

ثم رجع سبحانه إلى ذكر الكفار الذين تقدم ذكرهم، فقال: 15- "وجعلوا له من عباده جزءاً" قال قتادة: أي عدلاً، يعني ما عبد من دون الله. وقال الزجاج والمبرد: الجزء هنا البنات، والجزء عند أهل العربية البنات، يقال قد أجزأت المرأة: إذا ولدت البنات، ومنه قول الشاعر: إن أجزأت حرة يوماً فلا عجب قد تجزئ الحرة المذكار أحيانا وقد جعل صاحب الكشاف تفسير الجزء بالبنات من بدع التفسير، وصرح بأنه مكذوب على العرب. ويجاب عنه بأنه قد رواه الزجاج والمبرد، وهما إمامة اللغة العربية وحافظاها ومن إليهما المنتهي في معرفتها، ويؤيد تفسير الجزء بالبنات ما سيأتي من قوله: "أم اتخذ مما يخلق بنات" وقوله: " وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن " وقوله: "وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً" وقيل المراد الجزاء هنا الملائكة فإنهم جعلوهم أولاد الله سبحانه قاله مجاهد والحسن. قال الأزهري: ومعنى الآية أنهم جعلوا لله من عباده نصيباً مبالغ فيه، قيل المراد بالغنسان هنا الكافر، فإنه الذي يجحد نعم الله عليه جحوداً بيناً.

أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ

ثم أنكر عليهم هذا فقال: 16- "أم اتخذ مما يخلق بنات" وهذا استفهام تقريع وتوبيخ. و "أم" هي المنقطعة، والمعنى: أتخذ ربكم لنفسه البنات "وأصفاكم بالبنين" فجعل لنفسه المفضول من الصنفين ولكم الفاضل منهما، يقال أصفيته بكذا: أي آثرته به، وأصفيته الود: أخلصته له، ومثل هذه الآية قوله: " ألكم الذكر وله الأنثى * تلك إذا قسمة ضيزى " وقوله "أفأصفاكم ربكم بالبنين" وجملة "وأصفاكم" معطوفة على "اتخذ" داخلة معها تحت الإنكار.

وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ

ثم زاد في تقريعهم وتوبيخهم فقال: 17- "وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلاً" أي بما جعله للرحمن سبحانه من كونه جعل لنفسه البنات، والمعنى: أنه إذا بشر أحدهم بأنها ولدت له بنت اغتم لذلك وظهر عليه أثره، وهو معنى قوله: "ظل وجهه مسوداً" أي صار وجهه مسوداً بسبب حدوث الأنثى له حيث لم يكن الحادث له ذكراً مكانها "وهو كظيم" أي شديد الحزن كثير الكرب مملوء منه. قال قتادة: حزين. وقال عكرمة: مكروب، وقيل ساكت، وجملة "وهو كظيم" في محل نصب على الحال.

أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ

ثم زاد في توبيخهم وتقريعهم فقال 18- " أو من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين " معنى ينشأ يربى، والنشوء التربية، والحلية الزينة، ومن في محل نصب بتقدير مقدر معطوف على جعلوا، والمعنى: أو جعلوا له سبحانه من شأنه أن يربى في الزينة وهو عاجز عن أن يقوم بأمور نفسه، وإذا خوصم لا يقدر على إقامة حجته ودفع ما يجادله به خصمه لنقصان عقله وضعف رأيه. قال المبرد: تقدير الآية: أو يجعلون له من ينشأ في الحلية: أي ينبت في الزينة. قرأ الجمهور "ينشأ" بفتح الياء وإسكان النون، وقرأ ابن عباس والضحاك وابن وثاب وحفص وحمزة والكسائي وخلف بضم الياء وفتح النون وتشديد الشين. واختار القراءة الأولى أبو حاتم، واختار الثانية أبو عبيد. قال الهروي: الفعل على القراءة الأولى لازم، وعلى الثانية متعد. والمعنى: يربى ويكبر في الحلية. قال قتادة: قلما تتكلم امرأة بحجتها إلا تكلمت بالحجة عليها. وقال ابن زيد والضحاك: الذي ينشأ في الحلية أصنامهم التي صاغوها من ذهب وفضة.

وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ

19- " وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا " الجعل هنا بمعنى القول والحكم على الشيء كما تقول: جعلت زيداً أفضل الناس: أي قلت بذلك وحكمت له به. قرأ الكوفيون "عباد" بالجمع، وبها قرأ ابن عباس. وقرأ الباقون "عند الرحمن" بنون ساكنة، واختار القراءة الأولى أبو عبيد، لأن الإسناد فيها أعلى، ولأن الله إنما كذبهم في قوله: إنهم بنات الله فأخبرهم أنهم عباده، ويؤيد هذا القراءة قوله: "بل عباد مكرمون" واختار أبو حاتم القراءة الثانية، قال: وتصديق هذه القراءة قوله: "إن الذين عند ربك". ثم وبخهم وقرعهم فقال: "أشهدوا خلقهم" أي أحضروا خلق الله إياهم فهو من الشهادة التي هي الحضور، وفي هذا تهكم بهم وتجهيل لهم. قرأ الجمهور "أشهدوا" على الاستفهام بدون واو. وقرأ نافع " أشهدوا ". وقرأ الجمهور "ستكتب شهادتهم" بضم التاء الفوقية وبناء الفعل للمفعول ورفع شهادتهم، وقرأ السلمي وابن السميفع وهبيرة عن حفص بالنون وبناء الفعل للفاعل ونصب شهادتهم، وقرأ أبو رجاء شهاداتهم بالجمع، والمعنى: سنكتب هذه الشهادة التي شهدوا بها في ديوان أعمالهم لنجازيهم على ذلك "ويسألون" عنها يوم القيامة.

وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ

20- "وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم" هذا فن آخر من فنون كفرهم بالله جاءوا به للاستهزاء والسخرية، ومعناه: لو شاء الرحمن في زعمكم ما عبدنا هذه الملائكة، وهذا كلام حق يراد به باطل، وقد مضى بيانه في الأنعام، فبين سبحانه جهلهم بقوله: "ما لهم بذلك من علم" أي ما لهم بما قالوه من أن الله لو شاء عدم عبادتهم للملائكة ما عبدوهم من علم، بل تكلموا بذلك جهلاً، وأرادوا بما صورته صورة الحق باطلاً، وزعموا أنه إذا شاء فقد رضي. ثم بين انتفاء علمهم بقوله: "إن هم إلا يخرصون" أي ما هم إلا يكذبون فيما قالوا ويتملحون تمحلاً باطلاً. وقيل الإشارة بقوله: "ذلك" إلى قوله: "وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً". قاله قتادة ومقاتل والكلبي، وقال مجاهد وابن جريج: أي ما لهم بعبادة الأوثان من علم. وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: إن أول ما خلق الله من شيء القلم وأمره أن يكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة والكتاب عنده، ثم قرأ "وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم". وأخرج ابن مردويه نحوه. عن أنس مرفوعاً. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: "أفنضرب عنكم الذكر صفحاً" قال: أحببتم أن يصفح عنكم ولم تفعلوا ما أمرتم به. وأخرج مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي والحاكم وابن مردويه عن ابن عمر: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سافر ركب راحلته ثم كبر ثلاثاً ثم قال: " سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين * وإنا إلى ربنا لمنقلبون "". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وما كنا له مقرنين" قال: مطيقين. وأخرج عبد بن حميد عنه " أو من ينشأ في الحلية " قال: هو النساء فرق بين زيهن وزي الرجال ونقصهن من الميراث وبالشهادة وأمرهن بالقعدة وسماهن الخوالف. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن سعيد بن جبير قال: كنت أقرأ هذا الحرف " الذين هم عباد الرحمن إناثا " فسألت ابن عباس فقال: عباد الرحمن؟ قلت: فإنها في مصحفي عند الرحمن قال: فامحها واكتبها عباد الرحمن.

أَمْ آَتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ

قوله: 21- "أم آتيناهم كتاباً من قبله" أم هي المنقطعة: أي بل ءأعطيناهم كتاباً من قبل القرآن بأن يعبدوا غير الله "فهم به مستمسكون" يأخذون بما فيه ويحتجون به ويجعلونه لهم دليلاً، ويحتمل أن تكون أم معادة لقوله أشهدوا فتكون متصلة، والمعنى أحضروا خلقهم أم آتيناهم كتاباً إلخ. وقيل إن الضمير في "من قبله" يعود إلى ادعائهم: أي أم آتيناهم كتاباً من قبل ادعائهم ينطق بصحة ما يدعونه، والأول أولى.

بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ

ثم بين سبحانه أنه لا حجة بأيديهم ولا شبهة، ولكنهم اتبعوا آباءهم في الضلالة فقال: 22- "بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون" فاعترفوا بأنه لا مستند لهم سوى تقليد آبائهم، ومعنى على أمة: على طريقة ومذهب. قال أبو عبيد: هي الطريقة والدين، وبه قال قتادة وغيره. قال الجوهري: والأمة الطريقة والدين، يقال فلان لا أمة له: أي لا دين له ولا نحلة، ومنه قول قيس بن الخطيم: كنا على أمة آبائنا ونقتدي بالأول الأول وقول الآخر: وهل يستوي ذا أمة وكفور وقال الفراء وقطرب: على قبلة. وقال الأخفش: على استقامة، وأنشد قول النابغة: حلفت فلم أترك لنفسك ريبة وهل يأثمن ذو أمة وهو طائع قرأ الجمهور "أمة" بمض الهمزة، وقرأ مجاهد وقتادة وعمر بن عبد العزيز بكسرها. قال الجوهري: والإمة بالكسر: النعمة، والإمة: أيضاً لغة في الأمة، ومنه ول عدي بن زيد: ثم بعد الفلاح والملك والأمـ ـة وارتهم هناك قبور

وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ

ثم أخبر سبحانه أن غير هؤلاء من الكفار قد سبقهم إلى هذه المقالة وقال بها فقال: 23- "وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون" مترفوها: أغنياؤها ورؤساؤها، قال قتادة: مقتدون متبعون، ومعنى الاهتداء والاقتداء متقارب، وخصص المترفين تنبيهاً على أن التنعم هو سبب إهمال النظر.

قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آَبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ

ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يرد عليهم، فقال: 24- " قال أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم " أي أتتبعون آباءكم ولو جئتكم بدين أهدى من دين آبائكم، قال الزجاج: المعنى قل لهم أتتبعون ما وجدتم عليه آباءكم وإن جئتكم بأهدى منه. قرأ الجمهور " قال أو لو جئتكم " وقرأ ابن عامر وحفص " قال أو لو جئتكم " وهو حكاية ملا جرى بين المنذرين وقومهم: أي قال كل منذر من أولئك المنذرين لأمته، وقيل إن كلا القراءتين حكاية لما جرى بين الأنبياء وقومهم، كأنه قال: لكل نبي قل، بدليل قوله: "قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون" وهذا من أعظم الأدلة الدالة على بطلان التقليد وقبحه، فإن هؤلاء المقلدة في الإسلام إنما يعملون بقول أسلافهم ويتبعون آثارهم ويقتدون بهم، فإذا رام الداعي إلى الحق أن يخرجهم من ضلالة أو يدفعهم عن بدعة قد تمسكوا بها وورثوها عن أسلافهم بغير دليل نير ولا حجة واضحة، بل بمجرد قال وقيل لشبهة داحضة وحجة زائفة ومقالة باطلة، قالوا بما قاله المترفون من هذه الملل: إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون، أو بما يلاقي معناه معنى ذلك، فإن قال لهم الداعي إلى الحق: قد جمعتنا الملة الإسلامية وشملنا هذا الدين المحمدي، ولم يتعبدنا الله ولا تعبدكم وتعبد آباءكم من قبلكم إلا بكتابه الذي أنزله على رسوله وبما صح عن رسوله، فإنه المبين لكتاب الله الموضح لمعانيه، الفارق بين محكمه ومتشابهه، فتعالوا نرد ما تنازعنا فيه إلى كتاب الله وسنة رسوله كما أمرنا الله بذلك في كتابه بقوله: "فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول" فإن الرد إليهما أهدى لنا ولكم من الرد إلى ما قاله أسلافكم ودرج عليه آباؤكم، نفروا نفور الوحوش، ورموا الداعي لهم إلى ذلك بكل حجر ومدر، كأنهم لم يسمعوا قول الله سبحانه: "إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا" ولا قوله: "فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً" فإن قال لهم القائل: هذا العالم الذي تقتدون به وتتبعون أقواله هو مثلكم في كونه متعبداً بكتاب الله وسنة رسوله، مطلوباً منه ما هو مطلوب منكم، وإذا عمل برأيه عند عدم وجدانه للدليل، فذلك رخصة له لا يحل أن يتبعه غيره عليها، ولا يجوز له العمل بها، وقد وجدوا الدليل الذي لم يجده، وها أنا أوجدكموه في كتاب الله، أو فيما صح من سنة رسوله، وذلك أهدى لكم مما وجدتم عليه آباءكم، قالوا: لا نعمل بهذا ولا سمع لك ولا طاعة، ووجدوا في صدورهم أعظم الحرج من حكم الكتاب والسنة، ولم يسلموا ذلك ولا أذعنوا له، وقد وهب لهم الشيطان عصا يتوكأون عليها عند أن يسمعوا من يدعوهم إلى الكتاب والسنة، وهي أنهم يقولون: إن إمامنا الذي قلدناه واقتدينا به أعلم منك بكتاب الله وسنة رسوله، وذلك لأن أذهانهم قد تصورت من يقتدون به تصوراً عظيماً بسبب تقدم العصر وكثرة الأتباع، وما علموا أن هذا منقوض عليهم مدفوع به في وجوههم، فإنه لو قيل لهم إن في التابعين من هو أعظم قدراً، وأقدم عصراً من صاحبكم، فإن كان لتقدم العصر وجلالة القدر مزية حتى توجب الاقتداء، فتعالوا حتى أريكم من هو أقدم عصراً وأجل قدراً، فإن أبيتم ذلك، فها أنا أدلكم على من هو أعظم قدراً وأجل خطراً وأكثر أتباعاً وأقدم عصراً، وهو محمد بن عبد الله نبينا ونبيكم رسول الله إلينا وإليكم فتعالوا فهذه سنته موجودة في دفاتر الإسلام ودواوينه التي تلقتها جميع هذه الأمة قرناً بعد قرن وعصراً بعد عصر، وهذا كتاب ربنا خالق الكل ورازق الكل وموجد الكل بين أظهرنا موجود في كل بيت، وبيد كل مسلم لم يلحقه تغيير ولا تبديل ولا زيادة ولا نقص ولا تحريف ولا تصحيف، ونحن وأنتم ممن يفهم ألفاظه ويتعقل معانيه، فتعالوا لنأخذ الحق من معدنه ونشرب صفو الماء من منبعه، فهو أهدى مما وجدتم عليه آباءكم، قالوا: لا سمع ولا طاعة، إما بلسان المقال أو بلسان الحال، فتدبر هذا وتأمله إن بقي فيك بقية من إنصاف وشعبة من خير ومزعة من حياء وحصة من دين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وقد أوضحت هذا غاية الإيضاح في كتابي الذي سميته أدب الطلب ومنتهى الأرب فارجع إليه إن رمت أن تنجلي عنك ظلمات التعصب وتنقشع لك سحائب التقليد.

فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ

25- "فانتقمنا منهم" وذلك الانتقام ما أوقعه الله بقوم نوح وعاد وثمود "فانظر كيف كان عاقبة المكذبين" من تلك الأمم، فإن آثارهم موجودة.

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ

26- "وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه" أي واذكر لهم وقت قوله لأبيه وقومه الذين قلدوا آباءهم وعبدوا الأصنام "إنني براء مما تعبدون" البراء مصدر نعت به للمبالغة، وهو يستعمل للواحد والمثنى والمجموع والمذكر والمؤنث. قال الجوهري: وتبرأت من كذا وأنا منه براء وخلاء، لا يثنى ولا يجمع لأنه مصدر في الأصل.

إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ

ثم استثنى خالقه من البراءة فقال: 27- "إلا الذي فطرني" أي خلقني "فإنه سيهدين" سيرشدني لدينه ويثبتني على الحق، والاستثناء إما منقطع: أي لكن الذي فطرني، أو متصل من عموم ما، لأنهم كانوا يعبدون الله والأصنام، وإخباره بأنه سيهديه جزماً لثقته بالله سبحانه وقوة يقينه.

وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ

28- "وجعلها كلمة باقية في عقبه" الضمير في جعلها عائد إلى قوله: "إلا الذي فطرني" وهي بمعنى التوحيد كأنه قال: وجعل كلمة التوحيد باقية في عقب إبراهيم وهم ذريته، فلا يزال فيهم من يوحد الله سبحانه، وفاعل جعلها إبراهيم، وذلك حيث وصاهم بالتوحيد وأمرهم بأن يدينوا به كما في قوله: " ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب " الآية، وقيل الفاعل هو الله عز وجل: أي وجعل الله عز وجل كلمة التوحيد باقية في عقب إبراهيم، والعقب من بعد. قال مجاهد وقتادة: الكلمة لا إله إلا الله لا يزال من عقبه من يعبد الله إلى يوم القيامة. وقال عكرمة: هي الإسلام. قال ابن زيد: الكلمة هي قوله: "أسلمت لرب العالمين" وجملة "لعلهم يرجعون" تعليل للجعل: أي جعلها باقية رجاء أن يرجع إليها من يشرك منهم بدعاء من يوحد. وقيل الضمير في لعلهم راجع إلى أهل مكة: أي لعل أهل مكة يرجعون إلى دينك الذي هو دين إبراهيم. وقيل في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: فإنه سيهدين لعلهم يرجعون وجعلها إلخ. قال السدي: لعلهم يتوبون. فيرجعون عما هم عليه إلى عبادة الله.

بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ

ثم ذكر سبحانه نعمته على قريش ومن وافقهم من الكفار المعاصرين لهم فقال: 29- "بل متعت هؤلاء وآباءهم" أضرب عن الكلام الأول إلى ذكر ما متعهم به من الأنفس والأهل والأموال وأنواع النعم وما متع به آباءهم ولم يعاجلهم بالعقوبة، فاغتروا بالمهلة وأكبوا على الشهوات "حتى جاءهم الحق" يعني القرآن "ورسول مبين" يعني محمداً صلى الله عليه وسلم. ومعنى مبين ظاهر الرسالة واضحها، أو مبين لهم ما يحتاجون إليه من أمر الدين فلم يجيبوه ولم يعملوا بما أنزل عليه.

وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ

ثم بين سبحانه ما صنعوه عند مجيء الحق فقال: 30- "ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر وإنا به كافرون" أي جاحدون، فسموا القرآن سحراً وجحدوه. واستحقروا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ

31- "وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم" المراد بالقريتين مكة والطائف، وبالرجلين الوليد بن المغيرة من مكة، وعروة بن مسعود الثقفي من الطائف كذا قال قتادة وغيره. وقال مجاهد وغيره: عتبة بن ربيعة من مكة، وعمير بن عبد ياليل الثقفي من الطائف. وقيل غير ذلك. وظاهر النظم أن المراد رجل من إحدى القريتين عظيم الجاه واسع المال مسود في قومه والمعنى: أنه لو كان قرآنا لنزل على رجل عظيم من عظماء القريتين.

أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ

فأجاب الله سبحانه عنهم بقوله: 32- "أهم يقسمون رحمة ربك" يعني النبوة أو ما هو أعم منها، والاستفهام للإنكار. ثم بين أنه سبحانه هو الذي قسم بينهم ما يعيشون به من أمور الدنيا فقال: "نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا" ولم نفوض ذلك إليهم، وليس لأحد من العباد أن يتحكم في شيء بل الحكم لله وحده، وإذا كان الله سبحانه هو الذي قسم بينهم أرزاقهم ورفع درجات بعضهم على بعض فكيف لا يقنعون بقسمته في أمر النبوة وتفويضها إلى من يشاء من خلقه. قال مقاتل: يقول أبأيديهم مفاتيح الرسالة فيضعونها حيث شاءوا. قرأ الجمهور "معيشتهم" بالإفراد، وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن محيصن معايشهم بالجمع "و" معنى "رفعنا بعضهم فوق بعض درجات" أنه فاضل بينهم فجعل بعضهم أفضل من بعض في الدنيا بالرزق والرياسة والقوة والحرية والعقل والعلم، ثم ذكر العلة لرفع درجات بعض في الدنيا بالرزق والرياسة والقوة والحرية والعقل والعلم، ثم ذكر العلة لرفع درجات بعضهم على بعض، فقال: "ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً" أي ليستخدم بعضهم بعضاً فيستخدم الغني الفقير والرئيس والمرؤوس والقوي الضعيف والحر العبد والعاقل من هو دونه من العقل والعالم الجاهل، وهذا في غالب أحوال أهل الدنيا، وبه تتم مصالحهم وينتظم معاشهم ويصل كل واحد منهم إلى مطلوبه، فإن كل صناعة دنيوية يحسنها قوم دون آخرين، فجعل البعض محتاجاً إلى البعض لتحصل المواساة بينهم في متاع الدنيا، ويحتاج هذا إلى هذا، ويصنع هذا هذا، ويعطي هذا هذا. قال السدي وابن زيد: سخرنا خولنا وخدماً يسخر الأغنياء الفقراء فيكون بعضهم سبباً لمعاش بعض. وقال قتادة والضحاك: ليملك بعضهم بعضاً، وقيل هو السخرية التي بمعنى الاستهزاء، وهذا وإن كان مطابقاً للمعنى اللغوي، ولكنه بعيد من معنى القرآن ومناف لما هو مقصود السياق "ورحمة ربك خير مما يجمعون" يعني بالرحمة ما أعده الله لعباده الصالحين في الدار الآخرة، وقيل هي النبوة لأنها المراد بالرحمة المتقدمة في قوله: "أهم يقسمون رحمة ربك" ولا مانع من أن يراد كل ما يطلق عليه اسم الرحمة إما شمولاً أو بدلاً، ومعنى مما يجمعون ما يجمعونه من الأموال وسائر متاع الدنيا.

وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ

ثم بين سبحانه حاقرة الدنيا عنده فقال: 33- "ولولا أن يكون الناس أمة واحدة" أي لولا أن يجتمعوا على الكفر ميلاً إلى الدنيا وزخرفها "لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة" جمع الضمير في بيوتهم وأفرده في يكفر باعتبار معنى من ولفظها، و لبيوتهم بدل اشتمال من الموصول والسقف جمع سقف. قرأ الجمهور بضم السين والقاف كرهن ورهن. قال أبو عبيدة: ولا ثالث لهما. وقال الفراء: هو جمع سقيف نحو كثير وكثب ورغيف ورغف، وقيل هو جمع سقوف فيكون جمعاً للجمع. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح السين وإسكان القاف على الإفراد ومعناه الجمع لكونه للجنس. قال الحسن: معنى الآية: لولا أن يكفر الناس جميعاً بسبب ميلهم إلى الدنيا وتركهم الآخرة لأعطيناهم في الدنيا ما وصفناه لهوان الدنيا عند الله وقال أكثر المفسرين. وقال ابن زيد: لولا أن يكون الناس أمة واحدة في طلب الدنيا واختيارهم لها على الآخرة. وقال الكسائي: المعنى لولا أن يكون في الكفار غني وفقير، وفي المسلمين مثل ذلك لأعطينا الكفار من الدنيا هذا لهوانها "ومعارج عليها يظهرون" المعارج: الدرج جمع معراج، والمعراج السلم. قال الأخفش: إن شئت جعلت الواحدة معرج ومعرج مثل: مرقاة ومرقاة، والمعنى: فجعلنا لهم معارج في فضة عليها يظهرون، أي على المعارج يرتقون ويصعدون، يقال ظهرت على البيت: أي علوت سطحه، ومنه قول النابغة: بلغنا السماء مجدا وفخرا وسؤددا وإنا لنرجوا فوق ذلك مظهرا أي مصعداً.

وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ

34- "ولبيوتهم أبوابا وسررا" أي وجعلنا لبيوتهم أبواباً من فضة وسرراً من فضة "عليها يتكئون" أي على السرر وهو جمع سرير، وقيل جمع أسرة فيكون جمعاً للجمع، والاتكاء والتوكؤ: التحامل على الشيء، ومنه "أتوكأ عليها" واتكأ على الشيء، فهو متكئ، والموضع متكأ، والزخرف: الذهب. وقيل الزينة أعم من أن تكون ذهباً أو غيره. قال ابن زيد: هو ما يتخذه الناس في منازلهم من الأمتعة والأثاث. وقال الحسن: النقوش وأصله الزينة، يقال زخرفت الدار: أي زينتها.

وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ

35- "و" انتصاب "زخرفاً" بفعل مقدر: أي وجعلنا لهم مع ذلك زخرفاً، أو بنزع الخافض: أي أبواباً وسرراً من فضة ومن ذهب، فلما حذفت الخافض انتصب. ثم أخبر سبحانه أن جميع ذلك إنما يتمتع به في الدنيا فقال: "وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا" قرأ الجمهور "لما" بالتخفيف وقرأ عاصم وحمزة وهشام عن ابن عامر بالتشديد. فعلى القراءة الأولى تكون إن هي المخففة من الثقيلة، وعلى القراءة الثانية هي النافية و لما بمعنى إلا: أي ما كل ذلك إلا شيء يتمتع به في الدنيا. وقرأ أبو رجاء بكسر اللام من لما على أن اللام للعلة وما موصولة والعائد محذوف: أي للذي هو متاع "والآخرة عند ربك للمتقين" أي لمن اتقى الشرك والمعاصي وآمن بالله وحده وعمل بطاعته، فإنها الباقية التي لا تفنى ونعيمها الدائم الذي لا يزول. وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس "إنا وجدنا آباءنا على أمة" قال: على دين. وأخرج عبد بن حميد عنه "وجعلها كلمة باقية" قال: لا إله إلا الله "في عقبه" قال: عقب إبراهيم ولده. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه عنه أيضاً أنه سئل عن قول الله "لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم" ما القريتان؟ قال: الطائف ومكة، قيل فمن الرجلان؟ قال: عمير بن مسعود، وخيار قريش. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه أيضاً قال: يعني بالقريتين مكة والطائف، والعظيم الوليد بن المغيرة القرشي وحبيب بن عمير الثقفي. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً في الآية قال: يعنون أشرف من محمد للوليد بن المغيرة من أهل مكة ومسعود بن عمرو الثقفي من أهل الطائف. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: "لولا أن يكون الناس أمة واحدة" الآية يقول: لولا أن نفعل الناس كلهم كفاراً لجعلت لبيوت الكفار سقفاً من فضة ومعارج من فضة، وهي درج عليها يصعدون إلى الغرف وسرر فضة، و زخرفاً: هو الذهب. وأخرج الترمذي وصححه وابن ماجه عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء".

وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ

قوله: 36- "ومن يعش عن ذكر الرحمن" يقال عشوت إلى النار: قصدتها، وعشوت عنها أعرضت عنها، كما تقول: عدلت إلى فلان وعدلت عنه، وملت إليه وملت عنه، كذا قال الفراء والزجاج وأبو الهيثم والأزهري. فالمعنى: ومن يعرض عن ذكر الحمن. قال الزجاج: معنى الآية أن من أعرض عن القرآن وما فيه من الحكمة إلى أباطيل المضلين يعاقبه الله بشيطان يقيضه له حتى يضله ويلازمه قريناً له، فلا يهتدي مجازاة له حين آثر بالباطل على الحق البين. وقال الخليل: العشو النظر الضعيف، ومنه: لنعم الفتى تعشو إلى ضوء ناره إذا الريح هبت والمكان جديب والظاهر أن معنى البيت القصد إلى النار لا النظر إليها ببصر ضعيف كما قال الخليل، فيكون دليلاً على ما قدمنا من أنه يأتي بمعنى القصد وبمعنى الإعراض، وهكذا ما أنشده الخليل مستشهداً به على ما قاله من قول الحطيئة: متى تأته تعشو إلى ضوء ناره تجد خير نار عندها خير موقد فإن الظاهر أن معناه: تقصد إلى ضوء ناره، لا تنظر إليها ببصر ضعيف. ويمكن أن يقال: إن المعنى في البيتيت المبالغة في ضوء النار وسطوعها، بحيث لا ينظرها الناظر إلا كما ينظر من هو معشى البصر لما يلحق بصره من الضعف عندما يشاهده من عظم وقودها. وقال أبو عبيدة والأخفش: إن معنى "ومن يعش" ومن تظلم عينه، وهو نحو قول الخليل، وهذا على قراءة الجمهور "ومن يعش" بضم الشين من عشا يعشو. وقرأ ابن عباس وعكرمة ومن يعش بفتح الشين، يقال عشى الرجل يعشى عشياً إذا عمي، ومنه قول الأعشى: رأت رجلاً غايب الوافدين ومختلف الخلق أعشى ضريرا وقال الجوهري: والعشا مقصور مصدر الأعشى: وهو الذي لا يبصر بالليل ويبصر بالنهار والمرأة عشواء. وقرئ يعشو بالواو على أن من موصولة غير متضمنة معنى الشرط. قرأ الجمهور "نقيض له شيطاناً" بالنون وقرأ السلمي وابن أبي إسحاق ويعقوب وعصمة عن عاصم والأعمش بالتحتية مبنياً للفاعل، وقرأ ابن عباس بالتحتية مبنياً للمفعول ورفع شيطان على النيابة "فهو له قرين" أي ملازم له لا يفارقه أو هو ملازم للشيطان لا يفارقه، بل يتبعه في جميع أموره ويطيعه في كل ما يوسوس به إليه.

وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ

37- "وإنهم ليصدونهم عن السبيل" أي وإن الشياطين الذين يقيضهم الله لكل أحد ممن يعشو عن ذكر الرحمن كما هو معنى من ليصدونهم: أي يحولون بينهم وبين سبيل الحق ويمنعونهم منه، ويوسوسون لهم أنهم على الهدى حتى يظنون صدق ما يوسوسون به، وهو معنى قوله: "ويحسبون أنهم مهتدون" أي يحسب الكفار أن الشياطين مهتدون فيطيعونهم، أو يحسب الكفار بسبب تلك الوسوسة أنهم في أنفسهم مهتدون.

حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ

38- "حتى إذا جاءنا" قرأ الجمهور بالتثنية: أي الكافر والشيطان المقارن له، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وحفص بالإفراد: أي الكافر أو جاء كل واحد منها "قال" الكافر مخاطباً للشيطان "يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين" أي بعد ما بين المشرق والمغرب، فغلب المشرق على المغرب. قال مقاتل: يتمنى الكافر أن بينهما بعد مشرق أطول يوم في السنة من مشرق أقصر يوم في السنة، والأول أولى، وبه قال الفراء "فبئس القرين" المخصوص بالذم محذوف أي أنت أيها الشيطان.

وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ

39- "ولن ينفعكم اليوم" هذا حكاية لما سيقال لهم يوم القيامة " إذ ظلمتم " أي لأجل ظلمكم أنفسكم في الدنيا، وقيل إن إذا بدل من اليوم لأنه تبين في ذلك اليوم أنهم ظلموا أنفسهم في الدنيا. قرأ الجمهور "أنكم في العذاب مشتركون" بفتح أن على أنها وما بعدها في محل رفع على الفاعلية: أي لن ينفعكم اليوم اشتراككم في العذاب. قال المفسرون: لا يخفف عنهم بسبب الاشتراك شيء من العذاب لأن لكل أحد من الكفار والشياطين الحظ الأوفر منه. وقيل إنها للتعليل لنفي النفع: أي لأن حقكم أن تشتركوا أنتم وقرناؤكم في العذاب كما كنتم مشتركني في سببه في الدنيا، ويقوي هذا المعنى قراءة ابن عامر على اختلاف عليه فيها بكسر إن.

أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ

ثم ذكر سبحانه أنها لا تنفع الدعوة والوعظ من سبقت له الشقاوة فقال: 40- "أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي" الهمزة لإنكار التعجب: أي ليس لك ذلك فلا يضيق صدرك إن كفروا، وفيه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإخبار له أنه لا يقدر على ذلك إلا الله عز وجل، وقوله: "ومن كان في ضلال مبين" عطف على العمي: أي إنك لا تهدي من كان كذلك، ومعنى الآية: أن هؤلاء الكفار بمنزلة الصم الذين لا يعقلون ما جئت به، وبمنزلة العمي الذين لا يبصرونه فإفراطهم في الضلالة وتمكنهم من الجهالة.

فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ

41- " فإما نذهبن بك " بالموت قبل أن ينزل العذاب بهم "فإنا منهم منتقمون" إما في الدنيا أو في الآخرة، وقيل المعنى: تخرجنك من مكة.

أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ

42- "أو نرينك الذي وعدناهم" من العذاب قبل موتك "فإنا عليهم مقتدرون" متى شئنا عذبناهم. قال كثير من المفسرين: قد أراه الله ذلك يوم بدر. وقال الحسن وقتادة: هي في أهل الإسلام يريد ما كان بعد النبي صلى الله عليه وسلم من الفتن، وقد كان بعد النبي صلى الله عليه وسلم فتنة شديدة، فأكرم الله نبيه صلى الله عليه وسلم فلم يره في أمته شيئاً من ذلك، والأول أولى.

فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ

43- "فاستمسك بالذي أوحي إليك" أي من القرآن وإن كذب به من كذب "إنك على صراط مستقيم" أي طريق واضح، والجملة تعليل لقوله: فاستمسك.

وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ

44- "وإنه لذكر لك ولقومك" أي وإن القرآن لشرف لك ولقومك من قريش إذ نزل عليك وأنت منهم بلغتك ولغتهم ومثله قوله: "لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم" وقيل بيان لك ولأمتك فيما لكم إليه حاجة، وقيل تذكرة تذكرون بها أمر الدين وتعلمون به "وسوف تسألون" عما جعله الله لكم من الشرف، كذا قال الزجاج والكلبي وغيرهما. وقيل يسألون عما يلزمهم من القيام به فيه والعمل به.

وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آَلِهَةً يُعْبَدُونَ

45- "واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون" قال الزهري وسعيد بن جبير وابن زيد: إن جبريل قال ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم لما أسري به. فالمراد سؤال الأنبياء في ذلك الوقت عند ملاقاته لهم، وبه قال جماعة من السلف. وقال المبرد والزجاج وجماعة من العلماء: إن المعنى واسأل أمم من قد أرسلنا. وبه قال مجاهد والسدي والضحاك وقتادة وعطاء والحسن ومعنى الآية على القولين: سؤالهم هل أذن الله بعبادة الأوثان في ملة من الملل وهل سوغ ذلك لأحد منهم؟ والمقصود تقريع مشركي قريش بأن ما هم عليه لم يأت في شريعة من الشرائع. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن عثمان المخزومي أن قريشاً قالت: قيضوا لكل رجل من أصحاب محمد رجلاً يأخذه، فقيضوا لأبي بكر طلحة بن عبيد الله، فأتاه وهو في القوم، فقال أبو بكر: إلام تدعوني؟ قال: أدعوك إلى عبادة اللات والعزى. قال أبو بكر: وما اللات؟ قال أولاد الله. قال: وما العزى. قال: بنات الله. قال أبو بكر: فمن أمهم؟ فسكت طلحة فلم يجبه، فقال لأصحابه: أجيبوا الرجل، فسكت القوم، فقال طلحة: قم يا أبا بكر أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فأنزل الله: "ومن يعش عن ذكر الرحمن" الآية. وثبت في صحيح مسلم وغيره أن مع كل إنسان قريناً من الجن. وأخرج ابن مردويه عن علي في قوله: "فإما نذهبن بك" قال: ذهب نبيه صلى الله عليه وسلم وبقيت نقمته في عدوه. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله: ‌"أو نرينك الذي وعدناهم" قال: يوم بدر. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الشعب من طرق عنه في قوله: "وإنه لذكر لك ولقومك" قال: شرف لك ولقومك. وأخرج ابن عدي وابن مردويه عن علي وابن عباس قالا: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على القبائل بمكة ويعدهم الظهور، فإذا قالوا لمن الملك بعدك؟ أمسك فلم يجبهم بشيء لأنه لم يؤمر في ذلك بشيء حتى نزلت "وإنه لذكر لك ولقومك" فكان بعد إذا سئل قال لقريش فلا يجيبونه حتى قبلته الأنصار على ذلك. وأخرج عبد بن حميد من طريق الكلبي عن ابن عباس في قوله: "واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا" قال اسأل الذين أرسلنا إليهم قبلك من رسلنا.

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ

لما أعلم الله سبحانه نبيه بأن منتقم له من عدوه وذكر اتفاق الأنبياء على التوحيد أتبعه بذكر قصة موسى وفرعون وبيان ما نزل بفرعون وقومه من النقمة فقال: 46- "ولقد أرسلنا موسى بآياتنا" وهي التسع تقدم بيانها " إلى فرعون وملئه " الملأ: الأشراف "فقال إني رسول رب العالمين" أرسلني إليكم.

فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآَيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ

47- "فلما جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون" استهزاءً وسخرية، وجواب لما هو إذا الفجائية، لأن التقدير: فاجئوا وقت ضحكهم.

وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ

48- "وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها" أي كل واحدة من آيات موسى أكبر مما قبلها، وأعظم قدراً مع كون التي قبلها عظيمة في نفسها، وقيل المعنى: إن الأولى تقتضي علماً والثانية تقتضي علماً، فإذا ضمت الثانية إلى الأولى ازداد الوضوح، ومعنى الأخوة بين الآيات: أنها متشاكلة متناسبة في دلالتها على صحة نبوة موسى كما يقال هذه صاحبة هذه: أي هما قرينتان في المعنى، وجملة "إلا هي أكبر من أختها" في محل جر صفة لآية، وقيل المعنى: أن كل واحدة من الآيات إذا انفردت ظن الظان أنها أكبر من سائر الآيات، ومثل هذا قول القائل: من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم مثل النجوم التي يسري بها الساري "وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون" أي بسبب تكذيبهم بتلك الآيات، والعذاب هو المذكور في قوله: "ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات" الآية، وبين سبحانه أن العلة في أخذه لهم بالعذاب هو رجاء رجوعهم.

وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ

ولما عاينوا ما جاءهم به من الآيات البينات والدلالات الواضحات ظنوا أن ذلك من قبيل السحر 49- "وقالوا يا أيها الساحر" وكانوا يسمون العلماء سحرة ويوقرون السحرة ويعظمونهم ولم يكن السحر صفة ذم عندهم. قال الزجاج: خاطبوه بما تقدم له عندهم من التسمية بالساحر "ادع لنا ربك بما عهد عندك" أي بما أخبرتنا من عهده إليك إنا إذا آمنا كشف عنا العذاب، وقيل المراد بالعهد النبوة، وقيل استجابة الدعوة على العموم "إننا لمهتدون" أي إذا كشف عنا العذاب الذي نزل بنا فنحن مهتدون فيما يستقبل من الزمان، ومؤمنون بما جئت به.

فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ

50- "فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون" في الكلام حذف، والتقدير: فدعا موسى ربه فكشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون في الكلام حذف، والتقدير: فدعا موسى ربه فكشف عنهم العذاب فلما كشف عنهم العذاب فاجئوا وقت نكثهم للعهد الذي جعلوه على أنفسهم من الاهتداء، والنكث: النقض.

وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ

51- "ونادى فرعون في قومه" قيل لما رأى تلك الآيات خاف ميل القوم إلى موسى، فجمعهم ونادى بصوته فيما بينهم أو أمر منادياً ينادي بقوله: "يا قوم أليس لي ملك مصر" لا ينازعني فيه أحد ولا يخالفني مخالف "وهذه الأنهار تجري من تحتي" أي من تحت قصري، والمراد أنها النيل. وقال قتادة: المعنى تجري بين يدي. وقال الحسن تجري بأمري: أي تجري تحت أمري. وقال الضحاك: أراد بالأنهار القواد والرؤساء والجبابرة وأنهم يسيرون تحت لوائه. وقيل أراد بالأنهار الأموال، والأول أولى. والواو في هذه عاطفة على ملك مصر، وتجري في محل نصب على الحال أو هي واو الحال، واسم الإشارة مبتدأ، والأنهار صفة له، وتجري خبره، والجملة في محل نصب "أفلا تبصرون" ذلك وتستدلون به على قوة ملكي وعظيم قدري وضعف موسى عن مقاومتي.

أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ

52- "أم أنا خير من هذا الذي هو مهين" أم هي المنقطعة المقدرة ببل التي للإضطراب دون الهمزة التي للإنكار: أي بل أنا خير قال أبو عبيدة: أم بمعنى بل، والمعنى: قال فرعون لقومه: بل أنا خير. وقال الفراء: إن شئت جعلتها من الاستفهام الذي جعل بأم لاتصاله بكلام قبله، وقيل هي زائدة، وحكى أبو زيد عن العرب أنهم يجعلون أم زائدة، والمعنى: أنا خير من هذا. وقال الأخفش: في الكلام حذف، والمعنى: أفلا تبصرون أم تبصرون؟ ثم ابتدأ فقال "أنا خير" وروي عن الخليل وسيبويه نحو قول الأخفش، ويؤيد هذا أن عيسى الثقفي ويعقوب الحضرمي وقفا على أم على تقدير أم تبصرون، فحذف لدلالة الأول عليه، وعلى هذا فتكون أم متصلة لا منقطعة والأول أولى. ومثله قول الشاعر الذي أنشده الفراء: بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى وصورتها أم أنت في العين أملح أي بل أنت. وحكى الفراء أن بعض القراء قرأ أما أنا خير أي ألست خيراً من هذا الذي هو مهين: أي ضعيف حقير ممتهن في نفسه لا عز له "ولا يكاد يبين" الكلام لما في لسانه من العقدة، وقد تقدم بيانه في سورة طه.

فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ

53- " فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب " أي فهلا حلي بأساورة الذهب إن كان عظيماً، وكان الرجل فيهم إذا سودوه سوروه بسوار من ذهب، وطوقوه بطوق من ذهب. قرأ الجمهور " أسورة " جمع أسورة جمع سوار. وقال أبو عمرو بن العلاء: واحد الأساورة والأساور والأساوير أسوار، وهي لغة في سوار. وقرأ حفص أسورة جمع سوار، وقرأ أبي: أساور، وابن مسعود أساوير. قال مجاهد: كانوا إذا سودوا رجلاً سوروه بسوارين وطوقوه بطوق ذهب علامة لسيادته "أو جاء معه الملائكة مقترنين" معطوف على ألقي، والمعنى: هلا جاء معه الملائكة متتابعين متقارنين إن كان صادقاً يعينونه على أمره ويشهدون له بالنبوة، فأوهم اللعين قومه أن الرسل لا بد أن يكونوا على هيئة الجبابرة ومحفوفين بالملائكة.

فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ

54- "فاستخف قومه فأطاعوه" أي حملهم على خفة الجهل والسفه بقوله وكيده وغروره، فأطاعوه فيما أمرهم به، وقبلوا وكذبوا موسى "إنهم كانوا قوماً فاسقين" أي خارجين عن طاعة الله. قال ابن الأعرابي: المعنى فاستجهل قومه فأطاعوه بخفة أحلامهم وقلة عقولهم، يقال استخفه الفرح: أي أزعجه، واستخفه: أي حمله، ومنه "ولا يستخفنك الذين لا يوقنون" وقيل استخف قومه: أي وجدهم خفاف العقول وقد استخف بقومه وقهرهم حتى اتبعوه.

فَلَمَّا آَسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ

55- "فلما آسفونا انتقمنا منهم" قال المفسرون: أغضبونا، والأسف الغضب، وقيل أشد الغضب، وقيل السخط، وقيل المعنى: أغضبوا رسلنا. ثم بين العذاب الذي وقع به الانتقام فقال: "فأغرقناهم أجمعين" في البحر.

فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآَخِرِينَ

56- "فجعلناهم سلفاً" أي قدوة لمن عمل بعملهم من الكفار في استحقاق العذاب. قرأ الجمهور "سلفاً" بفتح السين واللام جمع سالف كخدم وخادم، ورصد وراصد، وحرس وحارس، يقال سلف يسلف: إذا تقدم ومضى. قال الفراء والزجاج: جعلناهم متقدمين ليتعظ بهم الآخرون، وقرأ حمزة والكسائي: "سلفاً" بضم السين واللام. قال الفراء: هو جمع سليف، نحو سرر وسرير. وقال أبو حاتم هو جمع سلف نحو خشب وخشب. وقرأ علي وابن مسعود وعلقمة وأبو وائل والنخعي وحميد بن قيس بضم السين وفتح اللام جمع سلفة وهي الفرقة المتقدمة نحو غرف وغرفة، كذا قال النضر بن شميل "ومثلاً للآخرين" أي عبرة وموعظة لمن يأتي بعدهم، أو قصة عجيبة تجري مجرى الأمثال. وقد أخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "ولا يكاد يبين" قال: كانت بموسى لثغة في لسانه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه "فلما آسفونا" قال: أسخطونا. وأخرجا عنه أيضاً آسفونا قال: أغضبونا، وفي قوله: "سلفاً" قال: أهواء مختلفة. وأخرج أحمد والطبراني والبيهقي في الشعب وابن أبي حاتم عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رأيت الله يعطي العبد ما شاء وهو مقيم على معاصيه فإنما ذلك استدراج منه له، وقرأ "فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين"". وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن طارق بن شهاب قال: كنت عند عبد الله فذكر عنده موت الفجأة فقال: تخفيف على المؤمن وحسرة على الكافر، "فلما آسفونا انتقمنا منهم".

وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ

لما قال سبحانه: "واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون" تعلق المشركون بأمر عيسى وقالوا: ما يريد محمد إلا أن نتخذه إلهاً كما اتخذت النصارى عيسى ابن مريم، فأنزل الله 57- "ولما ضرب ابن مريم مثلاً" كذا قال قتادة ومجاهد. وقال الواحدي: أكثر المفسرين على أن هذه الآية نزلت في مجادلة ابن الزعبري مع النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل قوله تعالى: "إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم" فقال ابن الزعبري: خصمتك ورب الكعبة، أليست النصارى يعبدون المسيح واليهود عزيراً وبنو مليح الملائكة؟ ففرح بذلك من قوله، فأنزل الله: "إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون" ونزلت هذه الآية المذكورة هنا، وقد مضى هذا في سورة الأنبياء. ولا يخفاك أن ما قاله ابن الزبعري مندفع من أصله وباطل برمته، فإن الله سبحانه قال: "إنكم وما تعبدون" ولم يقل ومن تعبدون حتى يدخل في ذلك العقلاء كالمسيح وعزير والملائكة "إذا قومك منه يصدون" أي إذا قومك يا محمد من ذلك المثل المضروب يصدون: أي يضجون ويصيحون فرحاً بذلك المثل المضروب، والمراد بقومه هنا كفار قريش. قرأ الجمهور "يصدون" بكسر الصاد، وقرأ نافع وابن عامر والكسائي بضمها. قال الكسائي والفراء والزجاج والأخفش: هما لغتان ومعناهما: يضجون قال الجوهري: صد يصد صديداً: أي ضج. وقيل إنها بالضم: الإعراضن وبالكسر من الضجيج، قاله قطرب. قال أبو عبيد: لو كانت من الصدود عن الحق لقال: إذا قومك عنه يصدون. وقال الفراء: هما سواء منه وعنه. وقال أبو عبيدة: من ضم فمعناه يعدلون، ومن كسر فمعناه يضجون.

وَقَالُوا أَآَلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ

58- " وقالوا أآلهتنا خير أم هو " أي ءآلهتنا خير أم المسيح؟ قال السدي وابن زيد: خاصموه وقالوا: إن كان كل من عبد غير الله في النار فنحن نرضى أن تكون آلهتنا مع عيسى وعزير والملائكة. وقال قتادة يعنون محمداً: أي ءآلهتنا خير أم محمد؟ ويقوي هذا قراءة ابن مسعود: ءآلهتنا خير أم هذا. قرأ الجمهور بتسهيل الهمزة الثانية بين بين، وقرأ الكوفيون ويعقوب بتحقيقها " ما ضربوه لك إلا جدلا " أي ما ضربوا لك هذا المثل في عيسى إلا ليجادلوك، على أن جدلاً منتصب على العلة، أو مجادلين على أنه مصدر في موضع الحال، وقرأ ابن مقسم جدالاً " بل هم قوم خصمون " أي شديدو الخصومة كثيرو اللدد عظيموا الجدل.

إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ

ثم بين سبحانه أن عيسى ليس برب وإنما هو عبد من عباده اختصه بنبوته فقال: 59- "إن هو إلا عبد أنعمنا عليه" بما أكرمناه به "وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل" أي آية وعبرة لهم يعرفون به قدرة الله سبحانه، فإنه كان من غير أب، وكان يحيي الموتى، ويبرئ الأكمه والأبرص، وكل مريض.

وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ

60- "ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون" أي لو نشاء أهلكناكم وجعلنا بدلاً منكم ملائكة في الأرض يخلفون: أي يخلفونكم فيها. قال الأزهري: ومن قد تكون للبدل كقوله: "لجعلنا منكم" يريد بدلاً منكم. وقيل المعنى: لو نشاء لجعلنا من بني آدم ملائكة. والأول أولى. ومقصود الآية: أنا لو نشاء لأسكنا الملائكة الأرض وليس في إسكاننا إياهم السماء شرف حتى يعبدوا. وقيل معنى يخلفون يخلف بعضهم بعضاً.

وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ

61- "وإنه لعلم للساعة" قال مجاهد والضحاك والسدي وقتادة: إن المراد المسيح، وإن خروجه مما يعلم به قيام الساعة لكونه شرطاً من أشراطها، لأن الله سبحانه ينزله من السماء قبيل تمام الساعة، كما أن خروج الدجال من أعلام الساعة. وقال الحسن وسعيد بن جبير: المراد القرآن، لأنه يدل على قرب مجيء الساعة، وبه يعلم وقتها وأهوالها وأحوالها، وقيل المعنى: أن حدوث المسيح من غير أب وإحياءه للموتى دليل على صحة البعث. وقيل الضمير لمحمد صلى الله عليه وسلم، والأول أولى. قرأ الجمهور لعلم بصيغة المصدر جعل المسيح علماً مبالغة لما يحصل من العلم بحصولها عند نزوله، وقرأ ابن عباس وأبو هريرة وأبو مالك الغفاري وقتادة ومالك بن دينار والضحاك وزيد بن علي بفتح العين واللام: أي للعلامة التي يعرف بها قيام الساعة "فلا تمترن بها" أي فلا تشكن في وقوعها ولا تكذبن بها، فإنها كائنة لا محالة "واتبعون هذا صراط مستقيم" أي اتبعوني فيما آمركم به من التوحيد وبطلان الشرك، وفرائض الله التي فرضها عليكم، هذا الذي آمركم به من التوحيد وبطلان الشرك، وفرائض الله التي فرضها عليكم، هذا الذي آمركم به وأدعوكم إليه طريق قيم موصل إلى الحق. قرأ الجمهور بحذف الياء من "اتبعون" وصلاً ووقفاً، وكذلك قرأوا بحذفها في الحالين في "أطيعون" وقرأ يعقوب بإثباتها وصلاً ووقفاً فيهما وقرأ أبو عمرو وهي رواية عن نافع بحذفها في الوصل دون الوقف.

وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ

62- "ولا يصدنكم الشيطان" أي لا تغتروا بوساوسه وشبهه التي يوقعها في قلوبكم فيمنعكم ذلك من اتباعي، فإن الذي دعوتكم إليه هو دين الله الذي اتفق عليه رسله وكتبه. ثم علل نهيهم عن أن يصدهم الشيطان ببيان عداوته لهم فقال: "إنه لكم عدو مبين" أي مضر لعداوته لكم غير متحاش عن ذلك ولا متكتم به كما يدل على ذلك ما وقع بينه وبين آدم وما ألزم به نفسه من إغواء جميع بني آدم إلا عباد الله المخلصين.

وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ

63- "ولما جاء عيسى بالبينات" أي جاء إلى بني إسرائيل بالمعجزات الواضحة والشرائع. قال قتادة: البينات هنا: الإنجيل "قال قد جئتكم بالحكمة" أي النبوة، وقيل الإنجيل، وقيل ما يرغب في الجميل ويكف عن القبيح "ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه" من أحكام التوراة. وقال قتادة: يعني اختلاف الفرق الذي تحزبوا في أمر عيسى. قال الزجاج: الذي جاء به عيسى في الإنجيل إنما هو بعض الذي اختلفوا فيه، فبين لهم في غير الإنجيل ما احتاجوا إليه. وقيل إن بني إسرائيل اختلفوا بعد موت موسى في أشياء من أمر دينهم. وقال أبو عبيدة إن البعض هنا بمعنى الكل كما في قوله: "يصبكم بعض الذي يعدكم" وقال مقاتل: هو كقوله: "ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم": يعني ما أحل في الإنجيل مما كان محرماً في التوراة كلحم الإبل والشحم من كل حيوان، وصيد السمك يوم السبت واللام في "ولأبين لكم" معطوفة على مقدر كأنه قال: قد جئتكم بالحكمة لأعلمكم إياها ولأبين لكم. ثم أمرهم بالتقوى والطاعة فقال: "فاتقوا الله" أي اتقوا معاصيه "وأطيعون" فيما آمركم به من التوحيد والشرائع.

إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ

64- "إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه" هذا بيان لما أمرهم بأن يطيعوه فيه " هذا صراط مستقيم " أي عبادة الله وحده والعمل بشرائعه.

فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ

65- "فاختلف الأحزاب من بينهم". قال مجاهد والسدي: الأحزاب هم أهل الكتاب من اليهود والنصارى. وقال الكلبي ومقاتل: هم فرق النصارى اختلفوا في أمر عيسى. قال قتادة: ومعنى من بينهم: أنهم اختلفوافيما بينهم. وقيل اختلفوا من بين من بعث إليهم من اليهود والنصارى، والأحزاب هي الفرق المتحزبة "فويل للذين ظلموا" من هؤلاء المتخلفين، وهم الذين أشركوا بالله ولم يعملوا بشرائعه "من عذاب يوم أليم" أي أليم عذابه وهو يوم القيامة.

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ

66- "هل ينظرون إلا الساعة" أي هل يرتقب هؤلاء الأحزاب وينتظرون إلا الساعة "أن تأتيهم بغتة" أي فجأة "وهم لا يشعرون" أي لا يفطنون بذلك، وقيل المراد بالأحزاب الذين تحزبوا على النبي صلى الله عليه وسلم وكذبوه، وهم المرادون بقوله: "هل ينظرون إلا الساعة" والأول أولى.

الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ

67- "الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو" أي الأخلاء في الدنيا المتحابون فيها يوم تأتيهم الساعة بعضهم لبعض عدو: أي يعادي بعضهم بعضاً، لأنها قد انتقطعت بينهم العلائق واشتغل كل واحد منهم بنفسه، ووجدوا تلك الأمور التي كانوا فيها أخلاءأسبابا للعذاب فصاروا أعداء . ثم استثنى المتقين فقال : " إلا المتقين " فإنهم أخلاء في الدنيا والآخرة، لأنهم وجدوا تلك الخلة التي كانت بينهم من أسباب الخير والثواب فبقيت خلتهم على حالها.

يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ

68- " يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون " أي يقال لهؤلاء المتقين المتحابين في الله بهذه المقالة فيذهب عند ذلك خوفهم ويرتفع حزنهم.

الَّذِينَ آَمَنُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ

69- "الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين" الموصول يجوز أن يكون نعتاً لعبادي، أو بدلاً منه، أو عطف بيان له، أو مقطوعاً عنه في محل نصب على المدح، أو في محل رفع بالابتداء وخبره "ادخلوا الجنة" على تقدير: يقال لهم ادخلوا الجنة. والأول أولى، وبه قال الزجاج. قال مقاتل: إذا وقع الخوف يوم القيامة نادى مناد يا عبادي لا خوف عليكم، فإذا سمعوا النداء رفع الخلائق رؤوسهم، فيقال: الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين فينكس أهل الأوثان رؤوسهم غير المسلمين. قرأ نافع وابن عامر وأبو عمرو "يا عبادي" بإثبات الياء ساكنة وصلاً ووقفاً، وقرأ أبو بكر وزر بن حبيش بإثباتها وفتحها في الحالين، وقرأ الباقون بحذفها في الحالين.

ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ

70- "ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم" المراد بالأزواج نساؤهم المؤمنات، وقيل قرناؤهم من المؤمنين، وقيل زوجاتهم من الحور العين "تحبرون" تكرمون، وقيل تنعمون، وقيل تفرحون، وقيل تسرون، وقيل تعجبون، وقيل تلذذون بالسماع، والأولى تفسير ذلك بالفرح والسرور الناشئين عن الكرامة والنعمة.

يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ

71- "يطاف عليهم بصحاف من ذهب" الصحاف جمع صحفة: وهي القصعة الواسعة العريضة. قال الكسائي: أعظم القصاع الجفنة ثم القصعة، وهي تشبع عشرة، ثم الصحفة، وهي تشبه خمسة، ثم المكيلة وهي تشبه الرجلين والثلاثة، والمعنى: أن لهم في الجنة أطعمة يطاف عليهم بها في صحاف الذهب "و" لهم فيها أشربة يطاف عليهم بها في الـ "أكواب" وهي جمع كوب. قال الجوهري: الكوب كوز لا عروة له، والجمع أكواب. قال الأعشى: صريفية طيب طعمها لها زبد بين كوب ودن وقال آخر: متكئاً تصفق أبوابه يسعى عليه العبد بالكوب قال قتادة: الكوب المدور القصير العنق القصير العروة، والإبريق المستطيل العنق الطويل العروة. وقال الأخفش: الأكواب الأباريق التي لا خراطيم لها. وقال قطرب: هي الأباريق التي ليس لها عرى "وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين" وقرأ الجمهور "تشتهي" وقرأ نافع وابن عامر وحفص "تشتهيه" بإثبات الضمير العائد على الموصول، والمعنى: ما تشتهيه أنفس أهل الجنة من فنون الأطعمة والأشربة ونحوهما مما تطلبه النفس وتهواه كائناً ما كان، وتلذ الأعين من كل المستلذات التي تستلذ بها وتطلب مشاهدتها، تقول لذ الشيء يلذ لذاذاً ولذاذة: إذا وجده لذيذاً والتذ به، وفي مصحف عبد الله بن مسعود تشتهيه الأنفس وتلذه الأعين "وأنتم فيها خالدون" لا تموتون ولا تخرجون منها.

وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ

72- "وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون" أي يقال لهم يوم القيامة هذه المقالة: أي صارت إليكم كما يصير الميراث إلى الوارث بما كنتم تعملونه في الدنيا من الأعمال الصالحة، واسم الإشارة مبتدأ، والجنة صفته، والتي أورثتموها صفة للجنة، والخبر بما كنتم تعملون، وقيل الخبر الموصول مع صلته، والأول أولى.

لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ

73- "لكم فيها فاكهة كثيرة" الفاكهة كعروفة، وهي الثمار كلها رطبها ويابسها: أي لهم في الجنة سوى الطعام والشراب فاكهة كثيرة الأنواع والأصناف "منها تأكلون" من تبعيضية أو ابتدائية، وقدم الجار لأجل الفاصلة. وقد أخرج أحمد وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لقريش: "إنه ليس أحد يعبد من دون الله فيه خير، قالوا: ألست تزعم أن عيسى كان نبياً وعبداً من عباد الله صالحاً وقد عبدته النصارى؟ فإن كنت صادقاً فإنه كآلهتهم، فأنزل الله "ولما ضرب ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يصدون" قلت: وما يصدون؟ قال: يضجون " وعنده علم الساعة " قال: خروج عيسى ابن مريم قبل يوم القيامة". وأخرج سعيد بن منصور وأحمد وعبد بن حميد والترمذي وصححه، وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه، وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدال، ثم تلا هذه الآية "ما ضربوه لك إلا جدلاً"". وقد ورد في ذم الجدال بالباطل أحاديث كثيرة. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس "أن المشركين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أرأيت ما نعبد من دون الله أين هم؟ قال: في النار، قالوا: والشمس والقمر؟ قال: والشمس والقمر قالوا: فعيسى ابن مريم قال: قال الله: "إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل"" وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور ومسدد وعبد بن حميد وابن أبي حاتم والطبراني من طرق عنه في قوله: "وإنه لعلم للساعة" قال: خروج عيسى قبل يوم القيامة. وأخرج الحاكم وابن مردويه عنه مرفوعاً. وأخرج عبد بن حميد عن أبي هريرة نحوه. وأخرج ابن مردويه عن سعد بن معاذ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان يوم القيامة انقطعت الأرحام، وقلت الأنساب، وذهبت الأخوة إلا الأخوة في الله، وذلك قوله: "الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين"". وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وحميد بن زنجويه في ترغيبه وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن علي بن أبي طالب في قوله: "الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين" قال: خليلان مؤمنان وخليلان كافران توفي أحد المؤمنين فبشر بالجنة، فذكر خليله وقال: اللهم إن خليلي فلاناً كان يأمرني بطاعتك وطاعة رسولك ويأمرني بالخير وينهاني عن الشر وينبئني أني ملاقيك، اللهم لا تضله بعدي حتى تريه مثل ما أريتني وترضى عنه كما رضيت عني، فيقال له: اذهب، فلو تعلم ما له عندي لضحكت كثيراً ولبكيت قليلاً، ثم يموت الآخر فيجمع بين أرواحهما فيقال: ليثن كل واحد منكما على صاحبه، فيقول كل واحد منهما لصاحبه: نعم الأخ ونعم الصاحب ونعم الخليل، وإذا مات أحد الكافرين بشر بالنار، فيذكر خليله، فيقول: اللهم إن خليلي فلاناً كان يأمرني بمعصيتك ومعصية رسولك، ويأمرني بالشر وينهاني عن الخير وينبئني أني غير ملاقيك، اللهم فلا تهده بعدي حتى تريه مثل ما أريتني وتسخط عليه كما سخطت علي، فيموت الآخر فيجمع بين أرواحهما فيقال: ليثن كل واحد منكما على صاحبه، فيقول كل منهما لصاحبه: بئس الأخ وبئس الصاحب وبئس الخليل. وأخرج ابن جرير عن ابن عبسا قال: الأكواب الجرار من الفضة. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من أحد إلا وله منزل في الجنة ومنزل في النار، فالكافر يرث المؤمن منزله من النار، والمؤمن يرث الكافر منزله في الجنة، وذلك قوله: "وتلك الجنة التي أورثتموها"".

إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ

قوله: 74- "إن المجرمين" أي أهل الإجرام الكفرية، كما يدل عليه إيرادهم في مقابلة المؤمنين الذين لهم ما ذكره الله سبحانه قبل هذا "في عذاب جهنم خالدون" لا ينقظع عنهم العذاب أبداً.

لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ

75- "لا يفتر عنهم" أي لا يخفف عنهم ذلك العذاب، والجملة في محل نصب على الحال "وهم فيه مبلسون" أي آيسون من النجاة، وقيل ساكتون سكوت يأس، وقد مضى تحقيق معناه في الأنعام.

وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ

76- "وما ظلمناهم" أي ما عذبناهم بغير ذنب ولا بزيادة على ما يستحقونه "ولكن كانوا هم الظالمين" لأنفسهم بما فعلوا من الذنوب. قرأ الجمهور "الظالمين" بالنصب على أنه خبر كان، والضمير ضمير فصل. وقرأ ابو زيد النحوي الظالمون بالرفع على أن الضمير مبتدأ وما بعده خبره، والجملة خبر كان.

وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ

77- "ونادوا يا مالك" أي نادى المجرمون هذا النداء، ومالك هو خازن النار. قرأ الجمهور "يا مالك" بدون ترخيم. وقرأ علي وابن مسعود ويحيى بن وثاب والأعمش يا مال بالترخيم "ليقض علينا ربك" بالموت توسلوا بمالك إلى الله سبحانه ليسأله لهم أن يقضي عليهم بالموت ليستريحوا من العذاب "قال إنكم ماكثون" أي مقيمون في العذاب، قيل سكت عن إجابتهم ثمانين سنة، ثم أجابهم بهذا الجواب، وقيل سكت عنهم ألف عام، وقيل مائة سنة، وقيل أربعين سنة.

لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ

78- "لقد جئناكم بالحق" يحتمل أن يكون هذا من كلام الله سبحانه، ويحتمل أن يكون من كلام مالك، والأول أظهر، والمعنى: إنا أرسلنا إليكم الرسل وأنزلنا عليهم الكتب فدعوكم فلم تقبلوا ولم تصدقوا، وهو معنى قوله: "ولكن أكثركم للحق كارهون" لا يقبلونه، والمراد بالحق: كل ما أمر الله به على ألسن رسله وأنزله في كتبه. وقيل هو خاص بالقرآن. قيل ومعنى أكثرهم: كلكم. وقيل أراد الرؤساء والقادة، ومن عداهم أتباع لهم.

أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ

79- "أم أبرموا أمراً فإنا مبرمون" أم هي المنقطعة التي بمعنى بل والهمزة: أي بل أبرموا أمراً. وفي ذلك انتقال من توجع أهل النار إلى حكاية ما يقع من هؤلاء، والإبرام: الإتقان والإحكام، يقال أبرمت الشيء: أحكمته وأتقنته، وأبرم الحبل: إذا أحكم فتله، والمعنى: بل أحكموا كيداً للنبي صلى الله عليه وسلم فإنا محكمون لهم كيداً قاله مجاهد وقتادة وابن زيد، ومثل هذا قوله تعالى: "أم يريدون كيداً فالذين كفروا هم المكيدون" وقيل المعنى: أم قضوا أمراً فإنا قاضون عليهم أمرنا بالعذاب.

أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ

قاله الكلبي:80- "أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم" أي بل أيحسبون أنا لا نسمع ما يسرون به في أنفسهم، أو ما يتحدثون به سراً في مكان خال وما يتناجون به فيما بينهم "بلى" نسمع ذلك ونعمل به "ورسلنا لديهم يكتبون" أي الحفظة عندهم يكتبون جميع ما يصدر عنهم من قول أو فعل، والجملة في محل نصب على الحال، أومعطوفة على الجملة التي تدل عليها بلى.

قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ

ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول للكفار قولاً يلزمهم به الحجة ويقطع ما يوردونه من الشبهة فقال: 81- "قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين" أي إن كان له ولد في قولكم وعلى زعمكم فأنا أول من عبد الله وحده، لأن من عبد الله وحده فقد دفع أن يكون له ولد، كذا قال ابن قتيبة. وقال الحسن والسدي: إن المعنى ما كان للرحمن ولد، ويكون قوله: "فأنا أول العابدين" ابتداء كلام، وقيل المعنى: قل يا محمد إن ثبت لله ولد، فأنا أول من يعبد هذا الولد الذي تزعمون ثبوته، ولكنه يستحيل أن يكون له ولد. وفيه نفي للولد على أبلغ وجه وأتم عبارة وأحسن أسلوب، وهذا هو الظاهر من النظم القرآني، ومن هذا القبيل قوله تعالى: "إنا أو إياكم لعلى هدىً أو في ضلال مبين" ومثل هذا قول الرجل لمن يناظره: إن تثبت ما تقوله بالدليل فأنا أول من يعتقده ويقول به، فتكون إن في إن كان شرطية، ورجح هذا ابن جرير وغيره. وقيل معنى العابدين: الآنفين من العبادة، وهو تكلف لا ملجئ إليه، ولكنه قرأ أبو عبد الرحمن اليماني العبدين بغير ألف، يقال عبد يعبد عبداً بالتحريك: إذا أنف وغضب فهو عبد، والاسم العبدة مثل الأنفة، ولعل الحامل لمن قرأ هذه القراءة الشاذة البعيدة هو استبعاد معنى "فأنا أول العابدين" وليس بمستعد ولا مستنكر. وقد حكى الجوهري: عن أبي عمرو في قوله: "فأنا أول العابدين" أنه من الأنف والغضب. وحكاه الماوردي عن الكسائي والقتيبي، وبه قال الفراء. وكذا قال ابن الأعرابي: إن معنى العابدين الغضاب الآنفين. وقال أبو عبيدة: معناه الجاحدين، وحكي عبدني حقي: أي جحدني، وقد أنشدوا على هذا المعنى الذي قالوه قول الفرزدق: أولئك أحلاسي فجئني بمثلهم وأعبد أن أهجو كليبا بدارم وقوله أيضاً: أولاك أناس لو هجوني هجوتهم وأعبد أن يهجى كليب بدارم ولا شك أن عبد وأعبد بمعنى أنف أو غضب ثابت في لغة العرب وكفى بنقل هؤلاء الأئمة حجة، ولكن جعل ما في القرآن من هذا من التكلف الذي لا ملجئ إليه ومن التعسف الواضح. وقد رد ابن عرفة ما قالوه فقال: إنما يقال عبد يعبد فهو عبد، وقل ما يقال عابد والقرآن لا يأتي بالقليل من اللغة ولا الشاذ. قرأ الجمهور "ولد" بالإفراد، وقرأ أهل الكوفة إلا عاصماً "ولد" بضم الواو وسكون اللام.

سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ

82- "سبحان رب السموات والأرض رب العرش عما يصفون" أي تنزيهاً له وتقديساً عما يقولون من الكذب بأن به ولداً ويفترون عليه سبحانه ما لا يليق بجانبه، وهذا إن كان من كلام الله سبحانه فقد نزه نفسه عما قالوه، وإن كان من تمام كلام رسوله الذي أمره بأن يقوله فقد أمره بأن يضم إلى ما حكاه عنهم بزعمهم الباطل تنزيه ربه وتقديسه.

فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ

83- "فذرهم يخوضوا ويلعبوا" أي اترك الكفار حيث لم يهتدوا بما هديتهم به ولا أجابوك فيما دعوتهم إليه يخوضوا في أباطيلهم ويلهوا في دنياهم "حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون" وهو يوم القيامة، وقيل العذاب في الدنيا، قيل وهذا منسوخ بآية السيف، وقيل هو غير منسوخ وإنما أخرج مخرج التهديد. قرأ الجمهور "يلاقوا" وقرأ مجاهد وابن محيصن وحميدوابن السميفع حتى يلقوا بفتح الياء وإسكان اللام من غير ألف، ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو.

وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ

84- "وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله" الجار والمجرور في الموضعين متعلق بإله لأنه بمعنى معبود أو مستحق للعبادة، والمعنى: وهو الذي معبود في السماء ومعبود في الأرض، أو مستحق للعبادة في السماء والعبادة في الأرض. قال أبو علي الفارسي: وإله في الموضعين مرفوع على أنه خبر مبتدإ محذوف: أي وهو الذي في السماء هو إله وفي الأرض هو إله وحسن حذفه لطول الكلام، قال: والمعنى على الإخبار بإلاهيته، لا على الكون فيهما. قال قتادة: يعبد في السماء والأرض، وقيل في بمعنى على: أي هو القادر على السماء والأرض كما في قوله: "ولأصلبنكم في جذوع النخل" وقرأ عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وابن مسعود وهو الذي في السماء الله وفي الأرض الله على تضمين العلم معنى المشتق فيتعلق به الجار والمجرور من هذه الحيثية "وهو الحكيم العليم" أي البليغ الحكمة الكثير العلم.

وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ

85- "وتبارك الذي له ملك السموات والأرض وما بينهما" تبارك تفاعل من البركة وهي كثيرة الخيرات، والمراد بما بينهما الهواء وما فيه من الحيوانات "وعنده علم الساعة" أي علم الوقت الذي يكون قيامها فيه "وإليه ترجعون" فيجازى كل أحد بما يستحقه من خير وشر، وفيه وعيد شديد. قرأ الجمهور "ترجعون" بالفوقية، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي بالتحتية.

وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ

86- "ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة" أي لا يملك من يدعونه من دون الله من الأصنام ونحوها الشفاعة عند الله كما يزعمون أنهم يشفعون لهم. قرأ الجمهور "يدعون" بالتحتية، وقرأ السلمي وابن وثاب بالفوقية " إلا من شهد بالحق " أي التوحيد "وهم يعلمون" أي هم على علم وبصيرة بما شهدوا به، والاستثناء يحتمل أن يكون متصلاً، والمعنى: إلا من شهد بالحق، وهم المسيح وعزير والملائكة، فإنهم يملكون الشفاعة لمن يستحقها. وقيل هو منقطع، والمعنى: لكن من شهد بالحق يشفع فيه هؤلاء. ويجوز أن يكون المستثنى منه محذوفاً: أي لا يملكون الشفاعة في أحد إلا فيمن شهد بالحق. قال سعيد بن جبير وغيره: معنى الآية: أنه لا يملك هؤلاء الشفاعة إلا لمن شهد بالحق وآمن على علم وبصيرة. وقال قتادة: لا يشفعون لعابديها، بل يشفعون لمن شهد بالوحدانية. وقيل مدار الاتصال في هذا الاستثناء على جعل الذين يدعون عاماً لكل ما يعبد من دون الله، ومدار الانقطاع على جعله خاصاً بالأصنام.

وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ

87- "ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله" اللام هي الموطئة للقسم، والمعنى: لئن سألت هؤلاء المشركين العابدين للأصنام من خلقهم أقروا واعترفوا بأن خالقهم الله ولا يقدرون على الإنكار، ولا يستطيعون الجحود لظهور الأمر وجلائه "فأنى يؤفكون" أي فكيف ينقلبون عن عبادة الله إلى عبادة غيره وينصرفون عنها مع هذا الاعتراف، فإن المعترف بأن الله خالقه إذا عمد إلى صنم أو حيوان وعبده مع الله أو عبده وحده فقد عبد بعض مخلوقات الله، وفي هذا من الجهل ما لا يقادر قدره. يقال أفكه يأفكه إفكاً: إذا قلبه وصرفه عن الشيء. وقيل المعنى: ولئن سألت المسيح وعزيراً والملائكة من خلقهم ليقولن الله، فأنى يؤفك هؤلاء الكفار في اتخاذهم لها آلهة. وقيل المعنى: ولئن سألت العابدين والمعبودين جميعاً.

وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ

قرأ الجمهور 88- "وقيله" بالنصب عطفاً على محل الساعة، كأنه قيل: إنه يعلم الساعة ويعلم قيله أو عطفاً على سرهم ونجواهم: أي يعلم سرهم ونجواهم ويعلم قيله، أو عطفاً على مفعول يكتبون المحذوف: أي يكتبون ذلك ويكتبون قيله، أو عطفاً على مفعول يعلمون المحذوف: أي يعلمون ذلك ويعلمون قيله أو هي مصدر: أي قال قيله، أو منصوب بإضمار فعل: أي الله يعلم قيل رسوله، أو هو معطوف على محل بالحق: أي شهد بالحق وبقيله، أو منصوب على حذف حرف القسم. ومن المجوزين للوجه الأول المبرد وابن الأنباري، ومن المجوزين للثاني الفراء والأخفش، ومن المجوزين للنصب على المصدرية الفراء والأخفش أيضاً. وقرأ حمزة وعاصم "وقيله ي" بالجر عطفاً على لفظ الساعة: أي وعنده علم الساعة وعلم قيله، والقول والقال والقيل بمعنى واحد، أو على أن الواو للقسم، وقرأ قتادة ومجاهد والحسن وأبو قلابة والأعرج وابن هرمز ومسلم بن جندب وقيله بالرفع عطفاً على علم الساعة: أي وعنده علم الساعة وعنده قيله، أو على الابتداء، وخبره الجملة المذكورة بعده، أو خبره محذوف تقديره وقيله كيت وكيت، أو وقيله مسموع. قال أبو عبيد: يقال قلت قولاً وقيلاً وقالاً، والضمير في وقيله راجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم. قال قتادة: هذا نبيكم يشكو قومه إلى ربه، وقيل: الضمير عائد إلى المسيح، وعلى الوجهين فالمعنى: أنه قال منادياً لربه "يا رب إن هؤلاء" الذين أرسلتني إليهم " قوم لا يؤمنون ".

فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ

ثم لما نادى ربه بهذا أجابه بقوله: 89- "فاصفح عنهم" أي أعرض عن دعوتهم " وقل سلام " أي أمري تسليم منكم ومتاركة لكم. قال عطاء: يريد مداراة حتى ينزل حكمي، ومعناه المتاركة كقوله: " سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين ". وقال قتادة: أمره بالصفح عنهم ثم أمره بقتالهم فصار الصفح منسوخاً بالسيف، وقيل هي محكمة لم تنسخ "فسوف تعلمون" فيه تهديد شديد، ووعيد عظيم من الله عز وجل. قرأ الجمهور "يعلمون" بالتحتية، وقرأ نافع وابن عامر بالفوقية. قال الفراء: إن سلام مرفوع بإضمار عليكم. وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في البعث والنشور عن ابن عباس في قوله: "ونادوا يا مالك" قال: يمكث عنهم ألف سنة ثم يجيبهم "إنكم ماكثون". وأخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي قال: بينا ثلاثة بين الكعبة وأستارها، وقرشيان وثقفي، أو ثقفيان وقرشي، فقال واحد منهم: ترون أن الله يسمع كلامنا؟ فقال واحد منهم: إذا جهرتم سمع، وإذا أسررتم لم يسمع، فنزلت "أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم" الآية. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "إن كان للرحمن ولد" يقول: إن يكن للرحمن ولد "فأنا أول العابدين" قال: الشاهدين. وأخرج ابن جرير عن زيد بن أسلم في قوله: "إن كان للرحمن ولد" قال: هذا معروف من كلام العرب إن كان هذا الأمر قط: أي ما كان. وأخرج ابن جرير عن قتادة نحوه.


1-الفاتحة 2-البقرة 3-آل-عمران 4-النساء 5-المائدة 6-الأنعام 7-الأعراف 8-الأنفال 9-التوبة 10-يونس 11-هود 12-يوسف 13-الرعد 14-إبراهيم 15-الحجر 16-النحل 17-الإسراء 18-الكهف 19-مريم 20-طه 21-الأنبياء 22-الحج 23-المؤمنون 24-النور 25-الفرقان 26-الشعراء 27-النمل 28-القصص 29-العنكبوت 30-الروم 31-لقمان 32-السجدة 33-الأحزاب 34-سبأ 35-فاطر 36-يس 37-الصافات 38-ص 39-الزمر 40-غافر 41-فصلت 42-الشورى 43-الزخرف 44-الدخان 45-الجاثية 46-الأحقاف 47-محمد 48-الفتح 49-الحجرات 50-ق 51-الذاريات 52-الطور 53-النجم 54-القمر 55-الرحمن 56-الواقعة 57-الحديد 58-المجادلة 59-الحشر 60-الممتحنة 61-الصف 62-الجمعة 63-المنافقون 64-التغابن 65-الطلاق 66-التحريم 67-الملك 68-القلم 69-الحاقة 70-المعارج 71-نوح 72-الجن 73-المزمل 74-المدثر 75-القيامة 76-الإنسان 77-المرسلات 78-النبأ 79-النازعات 80-عبس 81-التكوير 82-الانفطار 83-المطففين 84-الانشقاق 85-البروج 86-الطارق 87-الأعلى 88-الغاشية 89-الفجر 90-البلد 91-الشمس 92-الليل 93-الضحى 94-الشرح 95-التين 96-العلق 97-القدر 98-البينة 99-الزلزلة 100-العاديات 101-القارعة 102-التكاثر 103-العصر 104-الهمزة 105-الفيل 106-قريش 107-الماعون 108-الكوثر 109-الكافرون 110-النصر 111-المسد 112-الإخلاص 113-الفلق 114-الناس