الثناء الجميل مستحق لله تعالى الذى أنزل على عبده محمد صلى الله عليه وسلم القرآن، ولم يجعل فيه شيئًا من الانحراف عن الصواب، بل كان فيه الحق الذى لا ريب فيه.
وجعله قيمًا مستقيمًا فى تعاليمه لينذر الجاحدين بعذاب شديد صادر من عنده، ويبشر المصدقين الذين يعملون الأعمال الصالحات بأن لهم ثوابًا جزيلاً.
هو الجنة خالدين فيها أبدا.
ويُنذر - على وجه الخصوص - الذين قالوا عن الله: إنه اتخذ ولدا، وهو المنزه عن أن يكون كالحوادث يَلِدُ أو يُوَلَدُ له.
وليس عندهم علم بذلك ولا عند آبائهم من قبل، فما أعظم الافتراء فى هذه الكلمة التى تجرءوا على إخراجها من أفواههم! ما يقولون: إلا افتراء ليس بعده افتراء.
لا تهلك نفسك - أيها النبى - أسفًا وحزنًا على إعراضهم عن دعوتك غير مصدقين بهذا القرآن.
إنا قد خلقناهم للخير والشر، وصيَّرنا ما فوق الأرض زينة لها ومنفعة لأهلها، لنعاملهم معاملة المختبر ليُظهر منهم الأصلح عملا، فمن استهوته الدنيا ولم يلتفت إلى الآخرة ضلَّ، ومن آمن بالآخرة اهتدى.
وإنا لمصيِّرون عند انقضاء الدنيا ما فوقها مثل أرض مستوية لا نبات فيها، بعد أن كانت خضراء عامرة بمظاهر الحياة.
لقد أنكر الذين استهوتهم الدنيا بزينتها البعث، مع أن الوقائع تثبت الحياة بعد الرقود الطويل، وهذه قصة أهل الكهف فى الجبل واللوح الذى رقمت فيه أسماؤهم بعد موتهم لم تكن عجبًا وحدها دون سائر الآيات، وإن كان شأنها خارقًا للعادة، فليس أعجب من آياتنا الدالة على قدرتنا.
اذكر حين صار هؤلاء الفتيان إلى هذه المغارة وجعلوها مأوى لهم، فرارًا بدينهم من الشرك والمشركين، فقالوا: يا ربنا آتنا من عندك مغفرة وأمنًا من عدونا، ويسِّر لنا من شأننا هداية وتوفيقا.
فاستجبنا دعاءهم فَأنَمْنَاهُمْ آمنين فى الكهف سنين عديدة.
ثم أيقظهم الله بعد أن ظلوا نيامًا أمدًا طويلاً، لتكون عاقبة ذلك إظهار عِلْمنا من أصاب من الفريقين فى تقدير مدة مكثهم.
نحن نقص عليك - أيها الرسول - خبرهم بالصدق: إنهم فتيان كانوا قبل العهود السابقة على دين الحق، صدَّقوا بوحدانية ربهم وسط قوم مشركين، وزدناهم يقينا.
وثبتنا قلوبهم على الإيمان والصبر على الشدائد، حين قاموا فى قومهم فقالوا متعاهدين: ربنا أنت الحق رب السموات والأرض لن نعبد من غيره إلها، ولن نتحول عن هذه العقيدة.<BR>والله إذا قلنا غير هذا لكان قولنا بعيدًا عن الصواب.
ثم قال بعضهم لبعض: هؤلاء قومنا أشركوا بالله غيره، هلاَّ يأتون على ألوهية من يعبدونهم من دون الله بحُجة ظاهرة؟ إنهم لظالمون فيما فعلوا، ولا أحد أشد ظلمًا ممن افترى على الله كذبًا بنسبة الشريك إليه.
وقال بعضهم لبعض: ما دمنا قد اعتزلنا القوم فى كفرهم وشركهم فالجئوا إلى الكهف فرارًا بدينكم، يبسط لكم ربكم من مغفرته، ويسهل لكم من أمركم ما تنتفعون به (1) من مرافق الحياة.<BR>________<BR>(1) لم يمكن على وجه التحقيق معرفة أصحاب الكهف ولا زمانهم، ولا مكان الكهف الذى آوى إليه هؤلاء الفتية، ومع ذلك فلا بأس من القيام بمحاولة قد تلقى ضوءاً ولو خافتًا عليهم.<BR>ولما كان القرآن الكريم قد نص على أنهم فتية آمنوا بربهم؛ فلابد أنهم وشعبهم قد تعرضوا لاضطهاد دينى رأى معه هؤلاء الفتية الاعتصام بالكهف.<BR>ويشير التاريخ ( القديم ) إلى وقوع اضطهادات دينية فى الشرق القديم، حدثت فى أوقات مختلفة، ونذكر فيما يلى اضطهادين قد يكون أحدهما مناسبًا للمقام: أما أولهما: فقد حدث فى عهد الملك السلوقى أنتيوخوس الرابع الملقب بنابيفانيس (حوالى 176
وقد كان فى الكهف فتحة متسعة فى الجبل، وهى متجهة إلى الشمال يجيئهم منها النسيم العليل، وإذا طلعت الشمس من الشرق عن يمينهم مالت أشعتها عنهم، وإذا غربت عن يسارهم تجاوزتهم ولم تدخل أشعتها فى كهفهم، فحرارة الشمس لا تؤذيهم.<BR>ونسيم الهواء يأتيهم، وذلك كله من دلائل قدرة الله، ومن يوفقه الله لإدراكها يهتدى، ومن لا يوفقه فلا مرشد له من بعد.
وتظنهم - أيها الناظر - منتبهين، وفى الحقيقة هم نيام، ونقلبهم فى نومهم يمينا مرة ويسارا مرة لنحفظ أجسامهم من تأثير الأرض، وكلبهم - الذى صاحبهم - مادا ذراعيه بالفناء وهو نائم أيضاً فى شكل اليقظان، لو أطلعت - أيها المخاطب - عليهم وهم على تلك الحال لفررت منهم هاربا، ولملئ قلبك منهم فزعا لهيبتهم فى منامهم، فلا يقع نظر أحد عليهم إلا هابهم، كيلا يدنو منهم أحد، ولاتمسهم يد حتى تنتهى المدة.
وكما أًنَمْنَاهم أيقظناهم ليسأل بعضهم بعضًا عن مدة مكثهم نائمين، فقال واحد منهم: ما الزمن الذى مكثتموه فى نومكم؟.<BR>فقالوا: مكثنا يومًا أو بعض يوم، ولما لم يكونوا مُسْتَيقنين من ذلك قالوا: اتركوا الأمر لله، فهو الأعلم به، وليذهب واحد منكم بهذه العملة الفضية إلى المدينة وليتخير أطيب الأطعمة فيأتيكم بطعام منه، وليكن حسن التفاهم، ولا يظهرن أمركم لأحد من الناس.
إنهم إن رأوكم يقتلوكم رجمًا بالحجارة أو يعيدوكم إلى الشرك بالقوة، وإذا عدتم إليه فلن تفلحوا فى الدنيا والآخرة.
وكما أنمناهم وبعثناهم أطلعنا أهل المدينة عليهم ليعلم المطلعون أن وعد الله بالبعث حق، وأن القيامة لا شك فى إتيانها.<BR>فآمن أهل المدينة بالله واليوم الآخر، ثم أمات الله الفتية فتنازعوا فى شأنهم، فقال بعضهم: ابنوا على باب الكهف بنيانًا ونتركهم وشأنهم فربهم أعلم بحالهم، وقال أصحاب الكلمة فى القوم: لنتخذن على مكانهم مسجدًا للعبادة.
سيقول فريق من الخائضين فى قصتهم من أهل الكتاب: هم ثلاثة رابعهم كلبهم، ويقول آخرون: هم خمسة سادسهم كلبهم.<BR>ظنا خاليًا من الدليل، ويقول آخرون: هم سبعة وثامنهم كلبهم.<BR>قل لهؤلاء المختلفين: ربى عليم علمًا ليس فوقه علم بعددهم.<BR>ولا يعلم حقيقته إلا قليل من الناس أطلعهم الله على عددهم، فلا تجادل هؤلاء المختلفين فى شأن الفتية إلا جدالا ظاهرًا لينًا دون محاولة إقناعهم، فإنهم لا يقتنعون.<BR>ولا تسأل أحدًا منهم عن نبئهم، فقد جاءك الحق الذى لا مِرْيَة فيه.
ولا تقولن لشىء تُقْدِم عليه وتهتم به: إنى فاعل ذلك فيما يستقبل من الزمان.
إلا قولا مقترنًا بمشيئة الله بأن تقول: إن شاء الله! وإذا نسيت أمرًا فتدارك نفسك بذكر الله، وقل عند اعتزامك أمرًا وتعليقه على مشيئة الله: عسى أن يوفقنى ربى إلى أمر خير مما عزمت عليه وأرشد منه.
وإن الفتية مكثوا فى كهفهم نيامًا ثلاثمائة سنين زادت تسعا (1).<BR>_______<BR>(1) تشير هذه الآية إلى حقيقة فلكية، وهى أن ثلاثمائة سنة شمسية تقابلها ثلاثمائة وتسع سنوات قمرية، وقد سبقت الآية علم الفلك.
وقل - أيها الرسول - للناس: إن الله - وحده - هو العالم بزمنهم كله، إنه سبحانه هو المختص بعلم الغيب فى السموات والأرض، فما أعظم بصره فى كل موجود، وما أعظم سمعه لكل مسموع، وما لأهل السموات والأرض من يتولى أمورهم غيره، ولا يشرك فى قضائه أحدًا من خلقه.
واقرأ - أيها الرسول - ما أُوحى إليك من القرآن، ومنه ما أُوحى إليك من نبأ الفتية، ولا تستمع لما يهزأون به من طلب تبديل معجزة القرآن بمعجزة أخرى، فإنه لا مغيِّر لما ينبئه الله بكلمة الحق فى معجزاته، فإنه لا يقدر أحد على تبديله، ولا تخالف أمر ربك، فإنك حينئذ لن تجد غيره ملجأ يحفظك منه.
وقل - أيها الرسول - إن ما جئت به هو الحق من عند ربكم، فمن شاء أن يؤمن به فليؤمن، فذلك خير له، ومن شاء أن يكفر فليكفر فإنه لم يظلم إلا نفسه.<BR>إننا أعددنا لمن ظلم نفسه بالكفر نارًا تحيط بهم كالسرادق.<BR>وإن يستغث الظالمون بطلب الماء وهم فى جهنم؛ يؤت لهم بماء كالزيت العكر الشديد الحرارة يحرق الوجوه بلهيبه.<BR>قَبُحَ هذا الشراب لهم، وقبحت جهنم مكانًا لراحتهم.
أما الذين آمنوا بالله وبدينه الحق الذى يُوحى إليك، وعملوا ما أمرهم به ربهم من الأعمال الصالحة، فإنا لا نضيع أجرهم على ما أحسنوا من الأعمال.
هؤلاء لهم جنات يقيمون فيها منعَّمين أبدا، تنساب الأنهار من بين أشجارها وقصورها، يتحلون فيها بمظاهر السعادة فى الدنيا، كالأساور الذهبية، وملابسهم فيها الثياب الخضر من الحرير على اختلاف أنواعه، متكئين فيها على السرر بين الوسائد والستائر، نعم الثواب لهم، وحَسُنت الجنة دار مقام وراحة، يجدون فيها كل ما يطلبون.
بيِّن - أيها الرسول - فى شأن الكفار الأغنياء مع المؤمنين الفقراء مثلا وقع فيما سلف بين رجلين: كافر ومؤمن، وللكافر حديقتان من أعناب، وأحطناهما بالنخيل زينة وفائدة، وجعلنا بين الجنتين زرعا نضِرًا مثمرًا.
وقد أثمرت كل واحدة من الجنتين ثمرها ناضجًا موفورًا، ولم تنقص منه شيئًا، وفجَّرنا نهرًا ينساب خلالهما.
وكان لصاحب الجنتين أموال أخرى مثمرة، فداخله الزهو بتلك النعم، فقال لصاحبه المؤمن فى غرور وهما يتناقشان: أنا أكثر منك مالا وأقوى عشيرة ونصيرا.
ثم دخل إحدى جنتيه مع صاحبه المؤمن، وهو مأخوذ بغروره فقال: ما أظن أن تفنى هذه الجنة أبدا!.
وما أظن القيامة حاصلة، ولو فرض ورجعت إلى ربى بالبعث كما تزعم، والله لأجدن خيرًا من هذه الجنة عاقبة لى؛ لأننى أهل للنعيم فى كل حال، فهو يقيس الغائب على الحاضر، ولا يعلم أن الغائب فيه الجزاء على الإيمان وفعل الخير.
قال صاحبه المؤمن مجيبًا له: أتسوغ لنفسك أن تكفر بربك الذى خلق أصلك آدم من تراب، ثم من نطفة مائية، ثم صوّرك رجلا كاملا، فإن اعتززت بمالك وعشيرتك، فاذكر ربك وأصلك الذى هو من الطين.
لكن أقول: إن الذى خلقنى وخلق هذا العالم كله هو الله ربى، وأنا أعبده - وحده - ولا أشرك معه أحدا.
ولولا قلت عند دخولك جنتك والنظر إلى ما فيها: هذا ما شاء الله ولا قوة لى على تحصيله إلا بمعونة الله، فيكون ذلك شكرًا كفيلا بدوام نعمتك.<BR>ثم قال له: إن كنت ترانى أقل منك مالا وأقل ولدا ونصيرا.
فلعل ربى يعطينى خيرًا من جنتك فى الدنيا أو الآخرة، ويرسل على جنتك قدْرًا قدَّره لها كصواعق من السماء، فتصير أرضًا ملساء لا ينبت فيها شىء، ولا يثبت عليها قدم.
أو يصير ماؤها غائرًا فى الأرض لا يمكن الوصول إليه، فلا تقدر على إخراجه لسقيها.
قد عاجل الله الكافر، وأحاطت المهلكات بثمار جنته، وأهلكتها، وأبادت أصولها، فأصبح يقلب كفيه ندمًا وتحسرًا على ما أنفق فى عمارتها، ثم عاجلها الخراب، فتمنى أن لم يكن أشرك بربه أحدا.
عند هذه المحنة لم تكن له عشيرة تنصره من دون الله كما كان يعتز، وما كان هو بقادر على نصرة نفسه.
فإن النصرة فى كل حال ثابتة لله الحق - وحده - وهو سبحانه خير لعبده المؤمن يجزل له الثواب ويحسن له العاقبة.
واذكر - أيها الرسول - للناس مثلا للحياة الدنيا فى نضرتها وبهجتها ثم سرعة فنائها، بأنها كماء أُنزل من السماء فارتوى به نبات الأرض فاخضر وأينع، ثم لم يلبث طويلا حتى جف وصار يابسا متكسرًا تفرقه الرياح، والله قادر على كل شىء إنشاءً وإفناءً.
المال والبنون جمال ومتعة لكم فى الحياة الدنيا وهما قوتها، ولكن لا دوام لها، بل هى فانية غير باقية، والأعمال الصالحة الباقية خير لكم عند الله، يجزل ثوابها، وخير أمل يتعلق به الإنسان.
وأنذر الناس - أيها الرسول - بيوم يفنى هذا الوجود، فيزيل فيه الجبال، وتبصر فيه الأرض ظاهرة مستوية لا يسترها شىء مما كان عليها، ونحشر فيه الناس للحساب فلا نترك منهم أحدا.
ويعرض الناس فى هذا اليوم على الله فى جموع مصفوفة للحساب، ويقول الله تعالى: لقد بعثناكم بعد الموت كما أحييناكم أول مرة، وجئتمونا فرادى بلا مال ولا بنين، وكنتم فى الدنيا تكذبون بالبعث والحساب.
ووضع فى يد كل واحد كتاب أعماله، فَيبْصره المؤمنون فرحين مما فيه، ويبصره الجاحدون خائفين مما فيه من الأعمال السيئة، ويقولون إذا رأوها: يا هلاكنا، إنا نعجب لهذا الكتاب الذى لم يترك من أعمالنا صغيرة ولا كبيرة إلا سجَّلها علينا، ووجدوا جزاء ما عملوا حقًا، ولا يظلم ربك أحدًا من عباده.
واذكر - أيها الرسول - لهم بدء خلقهم ليعلموا أنهم من الطين، وليس لهم أن يغتروا بما هم فيه، ويخضعوا لعدوّ أبيهم إبليس، لأنه كان من الجن، فاستكبر وتمرد على الله، فكيف بعد ما عرفتم من شأنه تتخذونه وذريته أنصارًا لكم من دون الله، وهم لكم أعداء؟! قبُح هذا البدل لمن ظلم نفسه فأطاع الشيطان.
ما أحضرت إبليس ولا ذريته خلْق السموات والأرض، ولا أشهدت بعضهم خلْق بعض لأستعين بهم، وما كنت فى حاجة إلى معين.<BR>فضلا عن أن أتخذ المفسدين أعوانًا، فكيف تطيعون الشيطان وتعصوننى؟.
واذكر لهم يوم يقول الله للمشركين: نادوا الذين ادعيتم فى الدنيا أنهم شركائى فى العبادة ليشفعوا لكم بزعمكم، فاستغاثوا بهم فلم يجيبوهم، وجعلنا الآن ما كان بينهم هلاكًا للكفار بعد أن كان فى الدنيا تواصل عبادة ومحبة.
وعاين المجرمون النار فأيقنوا أنهم واقعون فيها، ولم يجدوا بديلا عنها مكانًا يحلُّون فيه.
ولقد ذكر الله للناس فى هذا القرآن الذين كفروا به، وطلبوا معجزة أخرى غيره، أمثلة متنوعة ليعظهم بما فيها، ولكن الإنسان فى طبيعته حب الجدل، فإذا كان جاحدا جادل بالباطل.
وما منع المشركين من الإيمان حين جاءهم سبب الهدى - وهو الرسول والقرآن ليؤمنوا ويستغفروا الله - إلا تعنتهم وطلبهم من الرسول أن تأتيهم سنة الله فى الأولين، وهى الهلاك المستأصل الذى أتى الأولين، أو يأتيهم العذاب عيانًا.
ولكن الله لا يرسل رسله إلا للتبشير والإنذار، ولم يرسلهم ليقترح عليهم المعاندون معجزات معينة، ولكن الذين كفروا يعرضون عن الحُجَّة، ويجادلون المرسلين بالباطل ليبطلوا الحق، وقد وقفوا من القرآن والنُّذر موقف المستهزئ الساخر الذى يُعْنى بطلب الحقائق.
وليس أحد أظلم ممن وُعِظ بآيات ربه فلم يتدبرها، ونسى عاقبة ما عمل من المعاصى.<BR>إنا بسبب ميلهم إلى الكفر جعلنا على قلوبهم أغطية، فلا تعقل ولا يصل إليها النور، وفى آذانهم صمما فلا تسمع سماع فهم، وإن تدعهم - أيها الرسول - إلى الدين الحق فلن يهتدوا ما دامت هذه طبيعتهم البتة.
وربك العظيم المغفرة لذنوب عباده، صاحب الرحمة الواسعة لمن أناب إليه منهم، ولو شاء أن يؤاخذهم بما اجترحوا من السيئات لعجَّل لهم العذاب كما سلف لغيرهم، ولكنه - لحكمة قدَّرها - أخرهم لموعد يذوقون فيه أشد العقاب، ولن يجدوا ملجأ يحفظهم منه.
وها هى ذى القرى الماضية التى دمرناها لما ظلم أهلها بتكذيب رسلهم، وجعلنا لهلاكهم موْعدا لا يتخلف، فكذلك حال المكذبين من قومك إذا لم يؤمنوا.
وإن علم الله لا يحيط به أحد، إلا أن يعطيه نبيًا أو صالحًا، واذكر - أيها الرسول - أن موسى بن عمران قال لفتاه - خادمه وتلميذه -: لا أزال أسير حتى أبلغ ملتقى البحرين أو أسير زمنًا طويلاً.
فلما بلغ موسى وفتاه المكان الجامع بين البحرين، نسيا فيه حوتهما الذى حملاه بأمر الله، فانحدر فى البحر واتخذ طريقه فى الماء.
فلما ابتعد موسى وفتاه عن المكان، وأحسا بالجوع والتعب، قال موسى لفتاه: آتنا ما نتغذى به، لقد لقينا فى سفرنا هذا تعبا ومشقة.
قال له فتاه: أتذكر حين التجأنا إلى الصخرة، فإنى نسيت الحوت، وما أنسانى ذلك إلا الشيطان، ولابد أن يكون الحوت اتخذ سبيله فى البحر، وإنى لأعجب من نسيانى هذا.
قال له موسى: إن هذا الذى حدث هو ما كنا نطلبه لحكمة أرادها الله، فرجعا فى الطريق الذى جاءا منه يتتبعان أثر سيرهما.
حتى وصلا الصخرة، فوجدا عبدًا من عبادنا الصالحين أعطيناه الحكمة، وعلمناه من عندنا علمًا غزيرًا.
قال موسى للعبد الصالح: هل أسير معك على أن تعلمن مما علمك الله؟.
قال له: إنك لن تستطيع الصبر على مصاحبتى.
وكيف يمكنك الصبر على شىء لا خبرة لك بمثله؟
قال موسى: سترانى إن شاء الله صابرًا مطيعًا لك فيما تأمر به.
قال العبد الصالح: فإن اتبعتنى ورأيت ما تنكره، فلا تفاتحنى بالسؤال عنه حتى أحدثك عنه.
فانطلقا يمشيان على ساحل البحر حتى وجدا سفينة، فركباها، فخرقها العبد الصالح فى أثناء سيرها، فاعترض موسى قائلا: أخرقتها قاصدًا إغراق أهلها؟ لقد ارتكبت أمرًا منكرًا!.
قال العبد الصالح: إننى قلت لك: إنك لن تستطيع الصبر على مصاحبتى.
قال له موسى: لا تؤاخذنى على نسيان وصيتك، ولا تكلفنى مشقة فى تحصيل العلم منك وتجعله عسيرًا.
وبعد أن خرجا من السفينة ذهبا منطلقين، فلقيا فى طريقهما صَبِيًّا فقتله العبد الصالح، فقال موسى مستنكرًا: أتقتل نفسًا طاهرة بريئة من الذنوب بغير أن يقتل صاحبها أحدا؟! لقد أتيت فعلا مستنكرًا!.
قال العبد الصالح لموسى: لقد قلت لك: إنك لن تستطيع صبرا على السكوت عن سؤالى.
قال موسى: إن سألتك عن شىء بعد هذه المرة فلا تصاحبنى، لأنك قد بلغت الغاية التى تعذر بها فى فراقى.
فسارا حتى أتيا قرية، فطلبا من أهلها طعامًا، فأبوا ضيافتهما، فوجدا فيها جدارًا مائلاً يكاد يسقط، فنقضه العبد الصالح وبناه حتى أقامه، قال موسى: لو شئت طلب أجر على النقض والبناء لفعلت.
قال العبد الصالح: هذا التعرض منك مرارًا لما أفعل سبب الفراق بينى وبينك.<BR>وسأخبرك بحكمة هذه التصرفات التى خفى عليك أمرها، ولم تستطع صبرًا على ما خفى حتى تعرف حقيقته وسره.
أما السفينة التى خرقتها، فهى لضعفاء محتاجين يعملون بها فى البحر لتحصيل رزقهم، فأردت أن أحدث بها عيبًا يُزهد فيها، لأن خلفهم ملكًا يغتصب كل سفينة صالحة.
وأما الغلام الذى قتلته فكان أبواه مؤمنين، فعلمنا - إن عاش - أنه سيصير سببًا لكفرهما.
فأردنا بقتله أن يعوِّضهما الله عنه خيرًا منه دينًا وأعظم برًا وعطفًا.
وأما الجدار الذى أقمته - دون أجر - فكان لغلامين يتيمين من أهل المدينة، وكان تحته كنز تركه أبوهما لهما، وكان رجلا صالحًا، فأراد الله أن يحفظ لهما الكنز حتى يبلغا رشدهما، ويستخرجاه، رحمة بهما، وتكريمًا لأبيهما فى ذريته.<BR>وما فعلت ما فعلت باجتهادى، إنما فعلته بتوجيه من الله، هذا تفسير ما خفى عليك يا موسى ولم تستطع الصبر عليه.
يسألك - أيها الرسول - بعض الكفار عن نبإ ذى القرنين، فقل لهم: سأقص عليكم بعض أخباره.
لقد مكنَّا لأمره فى الأرض، يتصرف فيها بتدبيره وسلطانه، وآتيناه الكثير من العلم بالأسباب ما يستطيع به توجيه الأمور.
فاستعان بهذه الأسباب على بسط سلطانه فى الأرض، واتخذ سببًا يوصّله إلى بلوغ المغرب.
وسار حتى وصل إلى مكان سحيق جهة الغرب، فوجد الشمس - فى رأى العين - تغرب فى مكان به عين ذات ماء حار وطين أسود، وبالقرب من هذه العين وجد ذو القرنين قومًا كافرين، فألهمه الله أن يتخذ فيهم أحد أمرين: إما أن يدعُوهم إلى الإيمان، وهذا أمر حسن فى ذاته، وإما أن يقاتلهم إن لم يجيبوا داعى الإيمان.
فأعلن ذو القرنين فيهم: أن من ظلم منهم نفسه بالبقاء على الشرك، استحق العذاب الدنيوى على يديه، ثم يرجع إلى ربه فيعذبه عذابًا شديدًا ليس معروفًا لهم.
وأن من استجاب له وآمن بربّه وعمل صالحًا، فله العاقبة الحسنى فى الآخرة، وسنعامله فى الدنيا برفق ويسر.
ثم سار ذو القرنين كذلك، مستعينًا بتوفيق الله، واتبع سببًا للوصول إلى مطلع الشمس مشرقا.
حتى بلغ مشرق الشمس - فى رأى العين - فى نهاية ما وصل إليه من العمران، فوجدها تطلع على قوم يعيشون على الفطرة الأولى لا يسترهم من حرها ساتر.
وكما دعا ذو القرنين السابقين من أهل المغرب إلى الإيمان، دعا هؤلاء وسار فيهم سيرته الأولى.
ثم سار كذلك مستعينًا بما هيَّأ الله له من أسباب التوفيق، سالكًا طريقًا بين الشرق والغرب.
حتى وصل - فى رحلته الثالثة - إلى مكان سحيق بين جبلين مرتفعين، وهناك وجد قومًا لا يفقهون ما يُقال لهم إلا فى عسر ومشقة (1).<BR>_________<BR>(1) السد بين الجبلين المذكورين فى التفسير هما جبلا: أذربيجان وأرمينية، وقيل: هما جبلان فى أواخر الشمال منقطع أرض التركستان.
فلما آنسوا فيه القوة، طلبوا منه أن يُقيم لهم سدًا فى وجه يأجوج ومأجوج، وهم قوم كانوا يَغِيرون عليهم، فيفسدون فى أرضهم ويخربون، على أن يجعلوا له ضريبة فى نظير هذا العمل.
فرد عليهم قائلا: إن ما منحنيه الله من الثروة والسلطان خير مما تعرضون علىّ.<BR>وشرع يُقيم السد طالبًا منهم أن يعينوه بكل ما يقدرون عليه من رجال وأدوات، ليحقق لهم ما أرادوا.
وطلب منهم أن يجمعوا له قطع الحديد.<BR>فجمعوا له منها ما أراد، فأقام به سدًا عاليًا ساوى به بين حافتى الجبلين، ثم أمرهم أن يوقدوا عليه النار، فأوقدوها حتى انصهر الحديد، فصب عليه النحاس المذاب فأصبح سدًا صلبًا منيعًا.
فما استطاع هؤلاء المغيرون أن يتسلقوا السد لارتفاعه، ولا أن يثقبوه لصلابته.
وبعد أن أتم ذو القرنين بناء السد قال شاكرًا لله: هذا السد رحمة من ربى بعباده، وسيظل قائمًا حتى يجىء أمر الله بهدمه، فيصير أرضًا مستويًا، وأمر الله نافذ لا محالة.
ومنذ إتمام السد ظل يأجوج ومأجوج من ورائه يضطربون فيما بينهم، وحبس شرهم عن الآخرين، فإذا كان يوم القيامة ونفخ فى الصور جمع الله الخلائق جميعًا للحساب والجزاء.
وعند ذلك يبرز الله جهنم للكافرين إبرازًا يروعهم ويحشرهم فيها.
وذلك لأن أعينهم فى الدنيا كانت فى غفلة عن التبصر فى آيات الله كأن عليها غطاء، وكانوا لضلالهم لا يستطيعون سماع دعوة الحق كفاقدى حاسة السمع (1).<BR>_________<BR>(1) { الذين كانت أعينهم فى غطاء عن ذكرى وكانوا لا يستطيعون سمعا }: الذين كانت أعينهم فى غفلة عن تدبر مواضع التذكير بى فى السموات والأرض، وبذلك تدعو الآية الكريمة إلى دراسة كل ما يحيط بالإنسان من شواهد دالة على وجود الله.
هل عميت بصائر الذين كفروا، فظنوا أن اتخاذهم آلهة من عبادى - كالملائكة وعيسى - يعبدونها من دونى نافع لهم وصارف عنهم العذاب؟.<BR>إنا اعتدنا لهم جهنم مقرًا ينالون فيه ما يستحقون من جزاء.
قل - أيها الرسول - لهؤلاء الكافرين: هل أخبركم بأشد الناس خسرانًا لأعمالهم، وحرمانًا من ثوابها؟
هم الذين بطل عملهم فى الحياة الدنيا لفساد اعتقادهم، وهم يعتقدون أنهم يحسنون بعملهم صنيعًا.
هؤلاء هم الذين كفروا بدلائل قدرة الله، وأنكروا يوم البعث والحساب، فضاعت أعمالهم، واستحقوا يوم القيامة التحقير والإهمال، إذ ليس لهم عمل يُعْتدّ به.
ذلك الذى بيَّناه وفصَّلناه شأن هؤلاء، وجزاؤهم عليه جهنم، بسبب كفرهم وسخريتهم بما أنزل الله من آيات، وما أرسل من رسل.
إن الذين صدقوا فى الإيمان وعملوا الأعمال الصالحة؛ جزاؤهم جنات الفردوس ينزلون فيها.
وينعمون فيها أبدا لا يبغون عنها بديلا.
قل - أيها الرسول - للناس: إن علم الله محيط بكل شىء، ولو كان ماء البحر مدادًا يُسطَّر به كلمات الله الدالة على علمه وحكمته، لنفد هذا المداد، ولو مُدّ بمثله قبل أن تنفد كلمات الله.
قل - أيها الرسول - للناس: إنما أنا إنسان مثلكم، مرسل إليكم، أعلمكم ما علمنى الله إياه، يوحى إلىّ أنما إلهكم إله واحد لا شريك له، فمن كان يطمع فى لقاء الله وثوابه؛ فليعمل الأعمال الصالحة مخلصًا، وليتجنب الإشراك بالله فى العبادة.