{ الم } أنا الله أعلم .
{ ذلك الكتاب } أي : هذا الكتاب ، يعني : القرآن . { لا ريب فيه } أي : لاشك فيه ، أي : إنه صدق وحق . وقيل لفظه لفظ خبر ، ويراد به النهي عن الارتياب . قال : { فلا رفث ولا فسوق } ولا ريب فيه أنه {هدى } : بيان ودلالة { للمتقين } : للمؤمنين الذين يتقون الشرك . في تخصيصه كتابه بالهدى للمتقين دلالة على أنه ليس بهدى لغيرهم ، وقد قال : { والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر } .
{ الذين يؤمنون :} يصدقون { بالغيب } : بما غاب عنهم من الجنة والنار والبعث . { ويقيمون الصلاة } : يديمونها ويحافظون عليها ، { ومما رزقناهم } : أعطيناهم مما ينتفعون به . { ينفقون } : يخرجونه في طاعة الله تعالى .
{ والذين يؤمنون بما أنزل إليك } نزلت في (مؤمني ) أهل الكتاب يؤمنون بالقرآن ، { وما أنزل من قبلك } يعني : التوراة ، { وبالآخرة } يعني : وبالدار الآخرة { هم يوقنون } : يعلمونها علما باستدلال .
{ أولئك } يعني : الموصوفين بهذه الصفات . { على هدى } : بيان وبصيرة { من ربهم } أي : من عند ربهم ، { وأولئك هم المفلحون } : الباقون في النعيم المقيم .
{ إن الذين كفروا } : ستروا ما أنعم الله عز وجل به عليهم من الهدى والآيات فجحدوها ، وتركوا توحيد الله تعالى { سواء عليهم } : معتدل ومتساو عندهم { أأنذرتهم} : أعلمتهم وخوفتهم { أم لم تنذرهم } أم تركت ذلك { لا يؤمنون } نزلت في أبي جهل وخمسة من أهل بيته ، ثم ذكر سبب تركهم الإيمان .
{ ختم الله على قلوبهم } أي : طبع الله على قلوبهم واستوثق منها حتى لا يدخلها الإيمان ، { وعلى سمعهم } : أي : مسامعهم حتى لا ينتفعوا بما يسمعون ، { وعلى أبصارهم } : على أعينهم { غشاوة } غطاء فلا يبصرون الحق ، { ولهم عذاب عظيم } متواصل لا تتخلله فرجة .
{ ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر } . نزلت في المنافقين حين أظهروا كلمة الإيمان ، وأسروا الكفر ، فنفى الله سبحانه عنهم الإيمان بقوله : { وما هم بمؤمنين }فدل أن حقيقة الإيمان ليس الإقرار فقط .
{ يخادعون الله والذين آمنوا } أي : يعملون عمل المخادع بإظهار غير ما هم عليه ، ليدفعوا عنهم أحكام الكفر ، { وما يخدعون إلا أنفسهم } لأن وبال خداعهم عاد عليهم بإطلاع الله تعالى نبيه عليه السلام والمؤمنين على أسرارهم وافتضاحهم ،{وما يشعرون } : وما يعلمون ذلك .
{ في قلوبهم مرض } شك ونفاق ، { فزادهم الله مرضا} أي : بما أنزل من القرآن فشكوا فيه كما شكوا في الذي قبله ،{ ولهم عذاب أليم } : مؤلم { بما كانوا يكذبون } بتكذيبهم آيات الله عز وجل ونبيه صلى الله عليه وسلم . ( ومن قرأ يكذبون فمعناه : بكذبهم في ادعائهم الإيمان) .
{ وإذا قيل لهم } ( لهؤلاء ) المنافقين : { لا تفسدوا في الأرض } بالكفر وتعويق الناس عن الإيمان { قالوا إنما نحن مصلحون } أي : الذين نحن عليه هو صلاح عند أنفسنا ، فرد الله تعالى عليهم ذلك ، فقال .
{ ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون } : لا يعلمون أنهم مفسدون .
{ وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس } هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم { قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء } أي : لا نفعل كما فعلوا ، وهذا القول كانوا يقولونه فيما بينهم ، فأخبر الله تعالى به عنهم .
{ وإذا لقوا الذين آمنوا } إذا اجتمعوا مع المؤمنين ورأوهم { قالوا آمنا } { وإذا خلوا } من المؤمنين وانصرفوا { إلى شياطينهم } : كبرائهم وقادتهم { قالوا إنا معكم } ( أي : على دينكم ) { إنما نحن مستهزئون } : مظهرون غير ما نضمره .
{ الله يستهزئ بهم } : يجازيهم جزاء استهزائهم { ويمدهم } : يمهلهم ويطول أعمارهم { في طغيانهم } : في إسرافهم ومجاوزتهم القدر في الكفر { يعمهون } يترددون متحيرين .
{ أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } : أخذوا الضلالة وتركوا الهدى { فما ربحت تجارتهم } فما ربحوا في تجارتهم ( وإضافة الربح إلى التجارة على طريق الاتساع ، كإضافة الإيضاء إلى النار ) . {وما كانوا مهتدين } فيما فعلوا .
{مثلهم كمثل الذي استوقد نارا } أي : حالهم في نفاقهم وإبطانهم الكفر كحال من أوقد نارا فاستضاء بها ، وأضاءت النار ما حوله مما يخاف ويحذر وأمن ، فبينما هو كذلك إذ طفئت ناره فبقي مظلما خائفا متحيرا ، فذلك قوله تعالى : { ذهب الله بنورهم } الآية . كذلك المنافقون لما أظهروا كلمة الإيمان اغتروا بها وأمنوا ، فلما ماتوا عادوا إلى الخوف والعذاب .
{ صم } لتركهم قبول ما يسمعون { بكم } لتركهم القول بالخير { عمي } لتركهم ما يبصرون من الهداية { فهم لا يرجعون } عن الجهل والعمى إلى الإسلام ، ثم ذكر تمثيلا آخر فقال .
{ أو كصيب } أو كأصحاب مطر شديد { من السماء } : من السحاب { فيه } : في ذلك السحاب { ظلمات ورعد } وهو صوت ملك موكل بالسحاب { وبرق } وهي النار التي تخرج منه . { يجعلون أصابعهم في آذانهم } يعني : أهل هذا المطر { من الصواعق } من شدة صوت الرعد يسدون آذانهم بأصابعهم كيلا يموتوا بشدة ما يسمعون من الصوت ، فالمطر مثل للقرآن لما فيه من حياة القلوب ، والظلمات مثل لما في القرآن من ذكر الكفر والشرك ، وبيان الفتن والأهوال ، والرعد مثل لما خوفوا به من الوعيد وذكر النار ، والبرق مثل لحجج القرآن وما فيه من البيان ، وجعل الأصابع في الآذان حذر الموت مثل لجعل المنافقين أصابعهم في آذانهم كيلا يسمعوا القرآن مخافة ميل القلب إلى القرآن ، فيؤدي ذلك إلى الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وذلك عندهم كفر ، والكفر موت . { والله محيط بالكافرين } مهلكهم وجامعهم في النار .
{ يكاد البرق يخطف أبصارهم } هذا تمثيل آخر ، يقول : يكاد ما في القرآن من الحجج يخطف قلوبهم من شدة إزعاجها إلى النظر في أمر دينهم { كلما أضاء لهم مشوا فيه } : كلما سمعوا شيئا مما يحبون صدقوا ، وإذا سمعوا ما يكرهون وقفوا ، وذلك قوله عز وجل : { وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم } أي : بأسماعهم الظاهرة ، وأبصارهم الظاهرة ، كما ذهب بأسماعهم وأبصارهم الباطنة حتى صاروا صما عميا ، فليحذروا عاجل عقوبة الله سبحانه وآجلها ، فـ{ إن الله على كل شيء قدير } من ذلك .
{ يا أيها الناس } يعني : أهل مكة { اعبدوا ربكم } : اخضعوا له بالطاعة { الذي خلقكم } : ابتدأكم ولم تكونوا شيئا { والذين من قبلكم } (آبائكم ) ( وخاق الذين من قبلكم).أي : إن عبادة الخالق أولى من عبادة المخلوق وهو الصنم { لعلكم تتقون } لكي تتقوا بعبادته عقوبته أن تحل بكم .
{ الذي جعل لكم الأرض فراشا } بساطا ، لم يجعلها حزنة غليظة لا يمكن الاستقرار عليها { والسماء بناء } سقفا { وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات } يعني : حمل الأشجار وجميع ما ينتفع به مما يخرج من الأرض { فلا تجعلوا لله أندادا } : أمثالا من الأصنام التي تعبدونها { وأنتم تعلمون } أنهم لا يخلقون ، والله هو الخالق ، وهذا احتجاج عليهم في إثبات التوحيد ، ثم احتج عليهم في إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بما قطع عذرهم به .فقال:
{ وإن كنتم في ريب مما نزلنا } أي : وإن كنتم في شك من صدق هذا الكتاب الذي أنزلناه على محمد صلى الله عليه وسلم ، وقلتم : لا ندري هل هو من عند الله أم لا { فاتوا بسورة } من مثل هذا القرآن في الإعجاز ، وحسن النظم ، والإخبار عما كان وما يكون ، { وادعوا شهداءكم } واستعينوا بآلهتكم التي تدعونها { من دون الله إن كنتم صادقين } أن محمدا تقوله من نفسه .
{ فإن لم تفعلوا } هذا فيما مضى ، { ولن تفعلوا }ه أيضا فيما يستقبل أبدا { فاتقوا } : فاحذروا أن تصلوا { النار التي وقودها } ما يوقد به { الناس والحجارة } يعني حجارة الكبريت ، وهي أشد لاتقادها { أعدت } ( خلقت وهيئت ) جزاء { للكافرين } بتكذيبهم . ثم ذكر جزاء المؤمنين فقال:
{ وبشر الذين آمنوا } أي : أخبرهم خبرا يظهر به أثر السرور على بشرتهم { وعملوا الصالحات } أي : الأعمال الصالحات ، يعني الطاعات فيما بينهم وبين ربهم { أن لهم } : بأن لهم { جنات } : حدائق ذات الشجر { تجري من تحتها } من تحت أشجارها ومساكنها { الأنهار } { كلما رزقوا } : أطعموا من تلك الجنات ثمرة { قالوا هذا الذي رزقنا من قبل } لتشابه ما يؤتون به ، وأرادوا : هذا من نوع ما رزقنا من قبل { وأتوا به متشابها } في اللون والصورة ، مختلفا في الطعم ، وذلك أبلغ في باب الإعجاب { ولهم فيها أزواج } : من الحور العين والآدميات { مطهرة } عن كل أذى وقذر مما في نساء الدنيا ، ومن مساوئ الأخلاق ، وآفات الشيب والهرم { وهم فيها خالدون } لأن تمام النعمة بالخلود .
{ إن الله لا يستحي } الآية . لما ضرب الله سبحانه المثل للمشركين بالذباب والعنكبوت في كتابه ضحكت اليهود ، وقالوا : ما يشبه هذا كلام الله سبحانه ، فأنزل الله تعالى : { إن الله لا يستحي } لا يترك ولا يخشى { أن يضرب مثلا } أن يبين شبها { ما بعوضة } ما زائدة مؤكدة ، والبعوض : صغار البق ، الواحدة : بعوضة . { فما فوقها } يعني : فما هو أكبر منها ، والمعنى : إن الله تعالى لا يترك ضرب المثل ببعوضة فما فوقها إذا علم أن فيه عبرة لمن اعتبر ، وحجة على من جحد ( واستكبر ) { فأما الذين آمنوا فيعلمون } أن المثل وقع في حقه ، { وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا }أي : أي شيء أرادالله بهذا من الأمثال ؟ والمعنى ئئئئانهم يقولون : أي فائدة في ضرب الله المثل بهذا ؟ فأجابهم الله سبحانه فقال { يضل به كثيرا} أي : أراد الله بهذا المثل أن يضل به كثيرا من الكافرين ، وذلك أنهم ينكرونه ويكذبونه { ويهدي به كثيرا } من المؤمنين ، لأنهم يعرفونه ويصدقونه { وما يضل به إلا الفاسقين } الكافرين الخارجين عن طاعته .
{ الذين ينقضون } يهدمون ويفسدون { عهد الله } : وصيته وأمره في الكتب المتقدمة بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم { من بعد ميثاقه } من بعد توكيده عليهم بإيجابه ذلك { ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل } يعني : الرحم ، وذلك أن قريشا قطعوا رحم النبي صلي الله عليه وسلم بالمعاداة معه { ويفسدون في الأرض } بالمعاصي وتعويق الناس عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم { أولئك هم الخاسرون } ( مغبونون ) بفوت المثوبة ، والمصير إلى العقوبة .
{ كيف تكفرون بالله } معنى كيف ها هنا استفهام في معنى التعجب للخلق ، أي : اعجبوا من هؤلاء كيف يكفرون بالله وحالهم أنهم كانوا ترابا فأحياهم ، بأن خلق فيهم الحياة ، فالخطاب للكفار ، والتعجب للمؤمنين ، وقوله تعالى : { ثم يميتكم } أي : في الدنيا { ثم يحييكم } في الآخرة للبعث { ثم إليه ترجعون } تردون فيفعل بكم ما يشاء ، فاستعظم المشركون أمر البعث والإعادة ، فاحتج الله سبحانه عليهم بخلق السماوات والأرض ،فقال:
{ هو الذي خلق لكم } لأجلكم { ما في الأرض جميعا} بعضها للإنتفاع ، وبعضها للإعتبار ، { ثم استوى إلى السماء } : أقبل على خلقها ، وقصد إليها { فسواهن سبع سماوات } فجعلهن سبع سماوات مستويات لا شقوق فيها ولا فطور ولا تفاوت { وهو بكل شيء عليم } إذ بالعلم يصح الفعل المحكم .
{ وإذ قال ربك } واذكر لهم يا محمد إذ قال ربك { للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة } يعني : آدم ، جعله خليفة عن الملائكة الذين كانوا سكان الأرض بعد الجن ، والمراد بذكر هذه القصة ذكر بدء خلق الناس . { قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها } كما فعل بنو الجان ، قاسوا (الشاهد) على الغائب { ونحن نسبح بحمدك } نبرئك من كل سوء ، ونقول : سبحان الله وبحمده ، { ونقدس لك } وننزهك عما لا يليق بك { قال إني أعلم ما لا تعلمون } من إضمار إبليس العزم على المعصية ، فلما قال الله تعالى هذا للملائكة قالوا فيما بينهم : لن يخلق ربنا خلقا هو أعلم منا ، ففضل الله تعالى عليهم آدم بالعلم ، وعلمه اسم كل شيء حتى القصعة( والقصيعة) والمغرفة ،وذلك قوله تعالى:
{ وعلم آدم الأسماء كلها } أي : خلق في قلبه علما بالأسماء على سبيل الابتداء ، { ثم عرضهم } أي : عرض المسميات بالأسماء من الحيوان والجماد وغير ذلك { على الملائكة فقال أنبئوني } أخبروني { بأسماء هؤلاء } وهذا أمر تعجيز ، أراد الله تعالى أن يبين عجزهم عن علم مايرون ويعاينون { إن كنتم صادقين } أني لا أخلق خلقا أعلم منكم ، فقالت الملائكة إقرارا بالعجز واعتذارا :
{ سبحانك } تنزيها لك عن الاعتراض عليك في حكمك { لا علم لنا إلا ما علمتنا } اعترفوا العجز عن علم ما لم يعلموه { إنك أنت العليم } العالم { الحكيم } الحاكم تحكم بالحق وتقضي به ، فلما ظهر عجز الملائكة قال الله تعالى لآدم:
{ يا آدم أنبئهم بأسمائهم } أخبرهم بتسمياتهم ، فسمى كل شيء باسمه ، وألحق كل شيء بجنسه { فلما أنبأهم بأسمائهم }: أخبرهم بمسمياتهم { قال } الله تعالى للملائكة : { ألم أقل لكم } وهذا استفهام يتضمن التوبيخ لهم على قولهم : { أتجعل فيها من يفسد فيها } . { إني أعلم غيب السماوات والأرض } أي : ما غاب فيهما عنكم { وأعلم ما تبدون } : علانيتكم { وما كنتم تكتمون } : سركم ، لا يخفى علي شيء من أموركم .
{ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم } سجود تعظيم وتسليم وتحية ، وكان ذلك انحناءا يدل على التواضع ، ولم يكن وضع الوجه على الأرض ، { فسجدوا إلا إبليس أبى } امتنع { واستكبر وكان من الكافرين } في سابق علم الله عز وجل .
{ وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة } اتخذاها مأوى ومنزلا { وكلا منها رغدا } واسعا { حيث شئتما } ما شئتما إذا شئتما ( كيف شئتما ) { ولا تقربا هذه الشجرة } لاتحوما حولها بالأكل منها ، يعني السنبلة { فتكونا } فتصيرا { من الظالمين } : العاصين الذين وضعوا أمر الله عز وجل غير موضعه .
{ فأزلهما الشيطان } نحاهما وعدهما { عنها فأخرجهما مما كانا فيه } من الرتبة وليس العيش { وقلنا } لآدم وحواء وإبليس والحية : { اهبطوا } أي : انزلوا إلى الأرض { بعضكم لبعض عدو } يعني : العداوة التي بين آدم وحواء والحية ، وبين ذرية آدم عليه السلام من المؤمنين وبين إبليس لعنه الله ، { ولكم في الأرض مستقر } موضع قرار { ومتاع إلى حين } ما تتمتعون به مما تنبته الأرض إلى حين االموت.
{ فتلقى آدم من ربه } أخذ وتلقن { كلمات } وهو أن الله تعالى ألهم آدم عليه السلام حين اعترف بذنبه وقال : { ربنا ظلمنا أنفسنا } الآيه { فتاب عليه } فعاد عليه بالمغفرة حين اعترف بالذنب واعتذر { إنه هو التواب } يتوب على عبده بفضله إذا تاب إليه من ذنبه .
{ قلنا اهبطوا منها جميعا } كرر الأمر بالهبوط للتأكيد { فإما يأتينكم مني هدى} أي : فإن يأتكم مني شريعة ورسول وبيان ودعوة { فمن تبع هداي } أي : قبل أمري ، واتبع ما آمره به { فلا خوف عليهم } في الآخرة ولا حزن ، والخطاب لآدم وحواء وذريتهما ، أعلمهم الله تعالى أنه يبتليهم بالطاعة ، ويجازيهم بالجنة عليها ، ويعاقبهم بالنار على تركها ،وهو قوله تعالى:
{ والذين كفروا وكذبوا بآياتنا } أي : بأدلتنا وكتبنا { أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } .
{ يا بني إسرائيل } أولاد يعقوب عليه السلام { اذكروا } اشكروا ، وذكر النعمة هو شكرها { نعمتي } يعني : نعمي { التي أنعمت عليكم } يعني : فلق البحر ، والإنجاء من فرعون ، وتظليل الغمام ، إلى سائر ما أنعم الله تعالى به عليهم ، والمراد بقوله تعالى : { عليكم } أي : على آبائكم ، والنعمة على آبائهم نعمة عليهم ، وشكر هذه النعم طاعته في الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ، ثم صرح بذلك ، فقال { وأوفوا بعهدي } أي : في محمد صلى الله عليه وسلم { أوف بعهدكم } أدخلكم الجنة { وإياي فارهبون } فخافوني في نقض العهد .
{ وآمنوا بما أنزلت } يعني : القرآن { مصدقا لما معكم } موافقا للتوراة في التوحيد والنبوة { ولا تكونوا أول كافر به } أي : أول من يكفر به من أهل الكتاب ، لأنكم إذا كفرتم كفر أتباعكم ، فتكونوا أئمة في الضلالة ، والخطاب لعلماء اليهود . { ولا تشتروا } ولا تستبدلوا { بآياتي } ببيان صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته { ثمنا قليلا } عوضا يسيرا من الدنيا . يعني : ما كانوا يصيبونه من سفلتهم ، فخافوا إن هم بينوا صفة محمد صلى الله عليه وسلم أن تفوتهم تلك المآكل والرياسة ، { وإياي فاتقون } فاخشوني في أمر محمد صلى الله عليه وسلم لا ما يفوتكم من الرياسة .
{ ولا تلبسوا الحق بالباطل } أي : لا تخلطوا الحق الذي أنزلت عليكم من صفة محمد عليه السلام بالباطل الذي تكتبونه بأيديكم من تغيير صفته ، وتبديل نعته ، { وتكتموا الحق } أي : ولا تكتموا الحق ، فهو جزم عطف على النهي ، { وأنتم تعلمون } أنه نبي مرسل قد أنزل عليكم في كتابكم ، فجحدتم نبوته مع العلم به .
{ وأقيموا الصلاة } المفروضة { وآتوا الزكاة } الواجبة في المال { واركعوا مع الراكعين } وصلوا مع المصلين محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه في جماعة .
{ أتأمرون الناس بالبر } كانت اليهود تقول لأقربائهم من المسلمين : اثبتوا على ما أنتم عليه ، ولا يؤمنون به ، فأنزل الله تعالى توبيخا لهم : { أتأمرون الناس بالبر } بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم { وتنسون } وتتركون { أنفسكم } فلا تأمرونها بذلك { وأنتم تتلون الكتاب } تقرؤون التوراة وفيها صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته { أفلا تعقلون } أنه حق فتتبعونه ؟! ثم أمرهم الله تعالى بالصوم والصلاة ، لأنهم إنما كان يمنعهم عن الإسلام الشره ، وخوف ذهاب مأكلتهم ، وحب الرياسة ، فأمروا بالصوم الذي يذهب الشره ، وبالصلاة التي تورث الخشوع ، وتنفي الكبر ، وأريد بالصلاة الصلاة التي معها الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ،فقال .
{ واستعينوا بالصبر } يعني بالصوم ، { والصلاة } لأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر ، { وإنها لكبيرة } لثقيلة ( يعني : وإن الاستعانة بالصبر والصلاة لثقيلة ) { إلا على الخاشعين } الساكنين إلى الطاعة . وقال بعضهم : رجع بهذا القول إلى خطاب المسلمين ، فأمرهم أن يستعينوا على ما يطلبونه من رضاء الله تعالى ونيل جنته بالصبر على أداء فرائضه ( وهو الصوم ) والصلاة .
{ الذين يظنون } يستيقنون { أنهم ملاقوا ربهم } أنهم مبعوثون وأنهم محاسبون وأنهم راجعون إلى الله تعالى ، أي : يصدقون بالبعث والحساب .
{ يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم } مضى تفسيره ، { وأني فضلتكم } أعطيتكم الزيادة { على العالمين } : على عالمي زمانكم ، وهو ما ذكره في قوله تعالى : { إذ جعل فيكم أنبياء } ، والمراد بهذا التفضيل سلفهم ، ولكن تفضيل الآباء شرف الأبناء .
{ واتقوا يوما } واحذروا واجتنبوا عقاب يوم { لا تجزي } لا تقضي ولا تغني { نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة } أي : لا يكون شفاعة فيكون لها قبول ، وذلك أن اليهود كانوا يقولون : يشفع لنا آباؤنا الأنبياء ، فآيسهم الله تعالى عن ذلك { ولا يؤخذ منها عدل } فداء { ولا هم ينصرون } يمنعون من عذاب الله تعالى .
{ وإذ نجيناكم } واذكروا ذلك { من آل فرعون } أتباعه ومن كان على دينه { يسومونكم } : يكلفونكم { سوء العذاب } شديد العذاب ، وهو قوله تعالى : { يذبحون } : ويقتلون { أبناءكم ويستحيون نساءكم } يستبقوهن أحياء ( لقول بعض الكهنة له : إن مولودا يولد في بني إسرائيل يكون سببا له ذهاب ملكه ) . { وفي ذلكم } الذي كانوا يفعلونه بكم { بلاء } : ابتلاء واختبار وامتحان { من ربكم عظيم } وقيل : وفي تنجيتكم من هذه المحن نعمة عظيمة ، والبلاء : النعمة ، والبلاء : الشدة .
{ وإذ فرقنا بكم البحر } فجعلناه اثنى عسر طريقا حتى خاض فيه بنو إسرائيل . { فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون } إلى انطباق البحر عليهم وإنجائكم منهم .
{ وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة } أي : انقضاءها وتمامها للتكلم معه { ثم اتخذتم العجل } معبودا وإلاها { من بعده } من بعد خروجه عنكم للميقات { وأنتم ظالمون } واضعون العبادة في غير موضعها ، وهذا تنبيه على أن كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ليس بأعجب من كفرهم وعبادتهم العجل في زمن موسى عليه السلام .
{ ثم عفونا } محونا ذنوبكم { عنكم من بعد ذلك } من بعد عبادة العجل { لعلكم تشكرون } لكي تشكروا نعمتي بالعفو.
{ وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان } ( عطف تفسيري ) يعني : التوراة الفارق بين ( الحق والباطل ) والحلال والحرام { لعلكم تهتدون } لكي تهتدوا بذلك الكتاب ( من الضلال ) .
{ وإذ قال موسى لقومه } الذين عبدوا العجل { يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل } إلاها { فتوبوا إلى بارئكم } يعني : خالقكم . قالوا : كيف نتوب ؟ قال { فاقتلوا أنفسكم } أي : ليقتل البريء منكم المجرم { ذلكم } أي : التوبة { خير لكم عند بارئكم } من إقامتكم على عبادة العجل ، ثم فعلتم ما أمرتم به { فتاب عليكم } قبل توبتكم . { إنه هو التواب الرحيم } .
{ وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك } يعني : الذين اختارهم موسى عليه السلام ليعتذروا إلى الله سبحانه من عبادة العجل ، فلما سمعوا كلام الله تعالى ، وفرغ موسى من مناجاة الله عز وجل قالوا له : { لن نؤمن لك } لن نصدقك { حتى نرى الله جهرة } أي : عيانا لا يستره عنا شيء { فأخذتكم الصاعقة } وهي نار جاءت من السماء فأحرقتهم جميعا { وأنتم تنظرون } إليها حين نزلت ، وإنما أخذتهم الصاعقة ، لأنهم امتنعوا من الإيمان بموسى عليه السلام بعد ظهور معجزته حتى يريهم ربهم جهرة ، والإيمان بالأنبياء واجب بعد ظهور معجزتهم ، ولا يجوز اقتراح المعجزات عليه ، فلهذا عاقبهم الله تعالى ، وهذه الآية توبيخ لهم على مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم مع قيام معجزته ، كما خالف أسلافهم موسى مع ما أتى به من الآيات الباهرة .
{ ثم بعثناكم } نشرناكم وأعدناكم أحياء { من بعد موتكم لعلكم تشكرون } نعمة البعث .
{ وظللنا عليكم الغمام } سترناكم عن الشمس في التيه بالسحاب الرقيق { وأنزلنا عليكم المن } الطرنجبين كان يقع على أشجارهم بالأسحار { والسلوى } وهي طير أمثال السماني ، وقلنا لهم : { كلوا من طيبات } من حلالات { ما رزقناكم وما ظلمونا } بإبائهم على موسى عليه السلام دخول قرية الجبارين ، ولكنهم ظلموا أنفسهم حين تركوا أمرنا فحبسناهم في التيه ، فلما انقضت مدة حبسهم وخرجوا من التيه قال الله تعالى لهم :
{ ادخلوا هذه القرية } وهي أريحا { وادخلوا الباب } يعني : بابا من أبوابها { سجدا } منحنين متواضعين { وقولوا حطة } وذلك أنهم أصابوا خطيئة بإبائهم على موسى عليه السلام دخول القرية ، فأراد الله تعالى أن يغفرها لهم فقال لهم : قولوا حطة ، أي : مسألتنا حطة ، وهو أن تحط عنا ذنوبنا ، { وسنزيد المحسنين } الذين لم يكونوا من أهل تلك الخطيئة إحسانا وثوابا .
{ فبدل الذين ظلموا قولا } منهم { غير الذي قيل لهم } أي : غيروا تلك الكلمة التي أمروا بها ، وقالوا : حنطة { فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا } : ظلمة وطاعونا ، فهلك منهم في ساعة واحدة سبعون ألفا جزاء لفسقهم بتبديل ما أمروا به من الكلمة .
{ وإذ استسقى موسى لقومه } في التيه { فقلنا اضرب بعصاك الحجر } وكان حجرا خفيفا مربعا مثل رأس الرجل { فانفجرت } أي : فضرب ، فانفجرت ، يعني : فانشقت { منه اثنتا عشرة عينا } فكان يأتي كل سبط عينهم التي كانوا يشربون منها ، فذلك قوله تعالى : { قد علم كل أناس مشربهم } وقلنا لهم : { كلوا } من المن والسلوى { واشربوا } من الماء ، فهذا كله { من رزق الله } { ولا تعثوا في الأرض مفسدين } ، أي : لا تسعوا فيها بالفساد ، فملوا ذلك العيش ، وذكروا عيشا كان لهم بمصر ، فقالوا :
{ يا موسى لن نصبر على طعام واحد } يعني : المن الذي كانوا يأكلونه والسلوى ، فكانا طعاما واحدا { فادع لنا ربك } سله وقل له : أخرج { يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها } وهو كل نبات لا يبقى له ساق { وقثائها } وهو نوع من الخضراوات { وفومها } وهو الحنطة ، فقال لهم موسى عليه السلام : { أتستبدلون الذي هو أدنى } أي : أخس وأوضع { بالذي هو خير } أي : أرفع وأجل ؟ فدعا موسى عليه السلام فاستجبنا له وقلنا لهم : { اهبطوا مصرا } : انزلوا بلدة من البلدان { فإن لكم ما سألتم } أي : فإن الذي سألتم لا يكون إلا في القرى والأمصار { وضربت عليهم } أي : على اليهود الذين كانوا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم { الذلة } يعني : الجزية وزي اليهودية ومعنى ضرب الذلة : إلزامهم إياها إلزاما لا يبرح { والمسكنة } زي الفقر وأثر البؤس { وباءوا } احتملوا وانصرفوا { بغضب من الله ذلك } أي : ذلك الضرب والغضب { بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله } التي أنزلت على محمد صلى الله عليه وسلم { ويقتلون النبيين } أي : يتولون أولئك الذين فعلوا ذلك { بغير حق } أي : قتلا بغير حق ، يعني : بالظلم { ذلك } الكفر والقتل بشؤم ركوبهم المعاصي وتجاوزهم أمر الله تعالى .
{ إن الذين آمنوا } أي : بالأنبياء الماضين ولم يؤمنوا بك { والذين هادوا } دخلوا في دين اليهودية { والنصارى والصابئين } الخارجين من دين إلى دين ، وهم قوم يعبدون النجوم { من آمن } من هؤلاء { بالله واليوم الآخر وعمل صالحا } بالإيمان بمحمد عليه السلام ، لأن الدليل قد قام أن من لم يؤمن به لا يكون عمله صالحا { فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون }
{ وإذ أخذنا ميثاقكم } بالطاعة لله تعالى والإيمان بمحمد عليه السلام في حال رفع الطور فوقكم . يعني : الجبل ، وذلك لأنهم أبوا قبول شريعة التوراة ، فأمر الله سبحانه جبلا فانقلع من أصله حتى قام على رؤوسهم ، فقبلوا خوفا من أن يرضخوا على رؤوسهم بالجبل ، وقلنا لكم : { خذوا ما آتيناكم } اعملوا بما أمرتم به { بقوة } بجد ومواظبة على طاعة الله عز وجل { واذكروا ما فيه } من الثواب والعقاب { لعلكم تتقون } .
{ ثم توليتم من بعد ذلك } أعرضتم عن أمر الله تعالى وطاعته من بعد أخذ الميثاق { فلولا فضل الله عليكم ورحمته } بتأخير العذاب عنكم { لكنتم من الخاسرين } الهالكين في العذاب .
{ ولقد علمتم } عرفتم حال { الذين اعتدوا } جاوزوا ما حد لهم من ترك الصيد في السبت { فقلنا لهم كونوا } بتكويننا إياكم { قردة خاسئين } مطرودين مبعدين .
{ فجعلناها } أي : تلك العقوبة والمسخة { نكالا } عبرة { لما بين يديها } للأمم التي ترى الفرقة الممسوخة { وما خلفها } من الأمم التي تأتي بعدها { وموعظة } عبرة { للمتقين } للمؤمنين الذين يتقون من هذه الأمة .
{ وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة } وذلك أنه وجد قتيل في بني إسرائيل ولم يدروا قاتله ، فسألوا موسى عليه السلام أن يدعو الله تعالى ليبين لهم ذلك ، فسأل موسى ربه فأمرهم بذبح بقرة ، فقال لهم موسى عليه السلام : إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة { قالوا أتتخذنا هزوا } أتستهزئ بنا حين نسألك عن القتيل فتأمرنا بذبح البقرة ؟! { قال أعوذ بالله } أمتنع به أن أكون من المستهزئين بالمؤمنين ، فلما علموا أن ذلك عزم من الله عز وجل سألوه الوصف ، فقالوا :
{ ادع لنا ربك } أي : سله بدعائك إياه { يبين لنا ما هي } ما تلك البقرة ، وكيف هي ، وكم سنها ؟ وهذا تشديد منهم على أنفسهم { قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض } مسنة كبيرة { ولا بكر } فتية صغيرة { عوان } نصف بين السنين { فافعلوا ما تؤمرون } ( فيه تنبيه على منعهم ) . وقوله تعالى :
{ فاقع لونها } أي : شديد الصفرة { تسر الناظرين } تعجبهم بحسنها .
{ قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي } أسائمة أم عاملة ؟ { إن البقر } جنس البقر { تشابه } اشتبه وأشكل { علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون } إلى وصفها . < قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وايم الله ، لو لم يستثنوا لما بينت لهم آخر الأبد > .
{ قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول } مذللة بالعمل { تثير الأرض } تقلبها للزراعة ، أي : ليست تقلب ، لأنها ليست ذلولا { ولا تسقي الحرث } الأرض المهيأة للزراعة { مسلمة } من العيوب وآثار العمل { لا شية فيها } لا لون فيها يفارق سائر لونها { قالوا الآن جئت بالحق } بالوصف التام الذي تتميز به من أجناسها ، فطلبوها فوجدوها { فذبحوها وما كادوا يفعلون } لغلاء ثمنها .
{ وإذ قتلتم نفسا } هذا أول القصة ، ولكنه مؤخر في الكلام { فادارأتم } فاختلفتم وتدافعتم { والله مخرج } مظهر { ما كنتم تكتمون } من أمر القتيل .
{ فقلنا اضربوه ببعضها } بلسانها فيحيى ، فضرب فيحيى { كذلك يحيي الله الموتى } أي : كما أحيا هذا القتيل { ويريكم آياته } آيات قدرته في خلق الحياة في الأموات ، ( كما خلق في عاميل ) .
{ ثم قست قلوبكم } يا معشر اليهود ، أي : اشتدت وصلبت { من بعد ذلك } من بعد هذه الآيات التي تقدمت من المسخ ورفع الجبل فوقهم ، وانبجاس الماء من الحجر ، وإحياء الميت بضرب عضو ، وهذه الآيات مما يصدقون بها { فهي كالحجارة } في القسوة وعدم المنفعة ، بل { أشد قسوة } وإنما عنى بهذه القسوة تركهم الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم بعد ما عرفوا صدقه ، وقدرة الله تعالى على عقابهم بتكذيبهم إياه ، ثم عذر الحجارة وفضلها على قلوبهم فقال : { وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط } ينزل من علو إلى سفل { من خشية الله } . قال مجاهد : كل حجر تفجر منه الماء ، أو تشقق عن ماء ، أو تردى من رأس جبل فهو من خشية الله تعالى ، نزل به القرآن . ثم أوعدهم فقال : { وما الله بغافل عما تعملون } ثم خاطب النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، فقطع طمعهم عن إيمانهم ، فقال :
{ أفتطمعون أن يؤمنوا لكم } وحالهم أن طائفة منهم كانوا { يسمعون كلام الله } يعني التوراة { ثم يحرفونه } يغيرونه عن وجهه . يعني : الذين غيروا أحكام التوراة ، وغيروا آية الرجم ، وصفة محمد صلى الله عليه وسلم { من بعد ما عقلوه } أي : لم يفعلوا ذلك عن نسيان وخطأ ، بل فعلوه عن تعمد { وهم يعلمون } أن ذلك مكسبة للأوزار .
{ وإذا لقوا الذين آمنوا } يعني : منافقي اليهود { قالوا آمنا } بمحمد ، وهو نبي صادق نجده في كتبنا { وإذا خلا بعضهم إلى بعض } يعني : إذا رجع هؤلاء المنافقون إلى رؤساهم لاموهم فقالوا : { أتحدثونهم } أتخبرون أصحاب محمد _ صلى الله عليه وسلم _ { بما فتح الله عليكم } من صفة النبي المبشر به { ليحاجوكم } ليجادلوكم ويخاصموكم { به } بما قلتم لهم { عند ربكم } في الآخرة . يقولون : كفرتم به بعد أن وقفتم على صدقه { أفلا تعقلون } أفليس لكم ذهن الإنسانية ؟ فقال الله تعالى :
{ أو لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون } من التكذيب ، يعني : هؤلاء المنافقين { وما يعلنون } من التصديق .
{ ومنهم } ومن اليهود { أميون } لا يكتبون ولا يقرؤون { لا يعلمون الكتاب إلا أماني } إلا أكاذيب وأحاديث مفتعلة يسمعونها من كبرائهم { وإن هم إلا يظنون } أي : إلا ظانين ظنا وتوهما ، فيجحدون نبوتك بالظن .
{ فويل } فشدة عذاب { للذين يكتبون الكتاب بأيديهم } أي : من قبل أنفسهم من غير أن يكون قد أنزل { ثم يقولون هذا من عند الله } . يعني اليهود ، عمدوا إلى صفة محمد صلى الله عليه وسلم وكتبوا صفته على غير ما كانت في التوراة ، وأخذوا عليه الأموال فذلك قوله تعالى : { وويل لهم مما يكسبون }( من حطام الدنيا )فلما أوعدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنار عند تكذيبهم إياه قالوا :
{ لن تمسنا النار إلا أياما معدودة } قليلة ، ويعنون الأيام التي عبد آباؤهم فيها العجل ، فكذبهم الله سبحانه فقال : قل لهم يا محمد : { أتخذتم عند الله عهدا } أخذتم بما تقولون من الله ميثاقا ؟ { فلن يخلف الله عهده } والله لا ينقض ميثاقه { أم تقولون على الله } الباطل جهلا منكم ، ثم رد على اليهود قولهم : لن تمسنا النار ، فقال { بلى } أعذب .
{ من كسب سيئة } وهي الشرك { وأحاطت به خطيئته } : سدت عليه مسالك النجاة ، وهو أن يموت على الشرك { فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } الذين يخلدون في النار . ثم أخبر عن أخذ الميثاق عليهم بتبيين نعت محمد صلى الله عليه وسلم فقال :
قوله تعالى{ والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون}
{ وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل } أي : في التوراة { لا تعبدون } أي : بأن لا تعبدوا { إلا الله وبالوالدين إحسانا } أي : ووصيناهم بالوالدين إحسانا { وذي القربى } أي : القرابة في الرحم { واليتامى } يعني : الذين مات أبوهم قبل البلوغ { وقولوا للناس حسنا } أي : صدقا وحقا في شأن محمد عليه السلام ، وهو خطاب لليهود ، { ثم توليتم } أعرضتم عن العهد والميثاق ، يعني : أوائلهم { إلا قليلا منكم } يعني : من كان ثابتا على دينه ، ثم آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم { وأنتم معرضون } عما عهد إليكم كأوائلكم .
{ وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم } بأن لا يقتل بعضكم بعضا ، ولا يخرج بعضكم بعضا من داره ولا يغلبه عليها ، { ثم أقررتم } أي : قبلتم ذلك { وأنتم } اليوم { تشهدون } على إقرار أوائلكم ، ثم أخبر أنهم نقضوا هذا الميثاق فقال :
{ ثم أنتم هؤلاء } أراد : يا هؤلاء ، { تقتلون أنفسكم } يقتل بعضكم بعضا . { وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم } تتعاونون على أهل ملتكم { بالإثم والعدوان } : بالمعصية والظلم { وإن يأتوكم أسارى } مأسورين يطلبون الفداء فديتموهم { وهو محرم عليكم إخراجهم } أي : وإخراجهم عن ديارهم محرم عليكم { أفتؤمنون ببعض الكتاب } يعني : فداء الأسير { وتكفرون ببعض } يعني : القتل والإخراج والمظاهرة على وجه الإباحة ؟ قال السدي : أحذ الله تعالى عليهم أربعة عهود : ترك القتل ، وترك الإخراج ، وترك المظاهرة ، وفداء أسرائهم ، فأعرضوا عن كل ما أمروا به إلا الفداء . { فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي } فضيحة وهوان { في الحياة الدنيا } ، وقوله :
{ فلا يخفف عنهم العذاب } معناه : في الدنيا والآخرة ، وقيل : هذه الحالة مختصة بالآخرة .
{ ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل } أي : وأرسلنا رسولا بعد رسول { وآتينا عيسى ابن مريم البينات } يعني : ما أوتي من المعجزة { وأيدناه } وقويناه { بروح القدس } بجبريل عليه السلام ، وذلك أنه كان قرينه يسير معه حيث سار ، يقول : فعلنا بكم كل هذا فما استقمتم ، لأنكم { كلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم } ثم تعظمتم عن الإيمان به { ففريقا كذبتم } مثل عيسى ومحمد عليهما السلام { وفريقا تقتلون } مثل يحيى وزكريا عليهما السلام .
{ وقالوا قلوبنا غلف } هو أن اليهود قالوا استهزاء وإنكارا لما أتى به محمد عليه السلام : قلوبنا غلف عليها غشاوة ، فهي لا تعي ولا تفقه ما تقول ، وكل شيء في غلاف فهو أغلف ، وجمعه : غلف ، ثم أكذبهم الله تعالى فقال : { بل لعنهم الله } أي : أبعدهم من رحمته فطردهم { فقليلا ما يؤمنون } أي : فبقليل يؤمنون بما في أيديهم . وقال قتادة : فقليلا ما يؤمنون أي : ما يؤمن منهم إلا قليل ، كعبد الله بن سلام .
{ ولما جاءهم كتاب} يعني : القرآن { مصدق } موافق { لما معهم } { وكانوا } يعني : اليهود { من قبل } نزول الكتاب { يستفتحون } يستنصرون { على الذين كفروا } بمحمد عليه السلام وكتابه ، ويقولون : اللهم انصرنا بالنبي المبعوث في آخر الزمان { فلما جاءهم ما عرفوا } يعني : الكتاب وبعثة النبي { كفروا } ثم ذم صنيعهم فقال :
{ بئسما اشتروا به أنفسهم } أي : بئس ما باعوا به حظ أنفسهم من الثواب بالكفر بالقرآن { بغيا } أي : حسدا { أن ينزل الله } أي : إنزال الله { من فضله على من يشاء من عباده } وذلك أن كفر اليهود لم يكن من شك ولا اشتباه ، وإنما كان حسدا حيث صارت النبوة في ولد إسماعيل عليه السلام { فباءوا } فانصرفوا واحتملوا { بغضب } من الله عليهم لأجل تضييعهم التوراة { على غضب } لكفرهم بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن .
{ وإذا قيل } لليهود { آمنوا بما أنزل الله } بالقرآن { قالوا نؤمن بما أنزل علينا } يعني : التوراة { ويكفرون بما وراءه } بما سواه { وهو الحق } يعني : القرآن { مصدقا لما معهم } موافقا للتوراة ، ثم كذبهم الله تعالى في قولهم : نؤمن بما أنزل علينا بقوله : { فلم تقتلون أنبياء الله } أي : أي كتاب جوز فيه قتل نبي ؟! { إن كنتم مؤمنين } شرط ، وجوابه ما قبله ، ثم ذكر أنهم كفروا بالله تعالى مع وضوح الآيات في زمن موسى عليه السلام فقال :
{ ولقد جاءكم موسى بالبينات } يعني : العصا واليد وفلق البحر { ثم اتخذتم العجل من بعده } إلها { وأنتم ظالمون } .
{ وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا } مضى تفسيره ، ومعنى : واسمعوا ، أي : اقبلوا ما فيه من حلاله وحرامه وأطيعوا { قالوا سمعنا } ما فيه { وعصينا } ما أمرنا به { وأشربوا في قلوبهم العجل } وسقوا حب العجل وخلطوا بحب العجل حتى اختلط بهم ، والمعنى : حبب إليهم العجل { بكفرهم } باعتقادهم التشبيه ، لأنهم طلبوا ما يتصور في نفوسهم { قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين } هذا تكذيب لهم في قولهم : نؤمن بما أنزل علينا ، وذلك أن آبائهم ادعوا الإيمان ، ثم عبدوا العجل ، فقيل لهم : بئس الإيمان إيمان يأمركم بالكفر ، والمعنى : لو كنتم مؤمنين ما عبدتم العجل ، يعني : آبائهم ، كذلك أنتم لو كنتم مؤمنين بما أنزل عليكم ما كذبتم محمدا .
{ قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين } كانت اليهود تقول : لن يدخل الجنة إلا من كان هودا ، فقيل لهم : إن كنتم صادقين فتمنوا الموت ، فإن من كان لا يشك في أنه صائر إلى الجنة ، فالجنة آثر عنده .
{ولن يتمنوه أبدا } لأنهم عرفوا أنهم كفرة ، ولا نصيب لهم في الجنة ، وهو قوله تعالى : { بما قدمت أيديهم } أي : بما عملوا من كتمان أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، وتغيير نعته { والله عليم بالظالمين } فيه معنى التهديد .
{ ولتجدنهم } يا محمد ، يعني : علماء اليهود { أحرص الناس على حياة } لأنهم علموا أنهم صائرون إلى النار إذا ماتوا ، لما أتوا به في أمر محمد صلى الله عليه وسلم { ومن الذين أشركوا } أي : وأحرص من منكري البعث ، ومن أنكر البعث أحب طول العمر ، لأنه لا يرجو بعثا ، فاليهود أحرص منهم ، لأنهم علموا ما جنوا فهم يخافون النار { يود أحدكم } أي : أحد اليهود { لو يعمر ألف سنة } لأنه يعلم أن آخرته قد فسدت عليه { وما هو } أي : وما أحدهم { بمزحزحه } بمبعده من { العذاب أن يعمر } تعميره .
{ قل من كان عدوا لجبريل } سألت اليهود نبي الله صلى الله عليه وسلم عن من يأتيه من الملائكة ؟ فقال : جبريل ، فقالوا : هو عدونا ، ولو أتاك ميكائيل آمنا بك ، فأنزل الله هذه الآية ، والمعنى : قل من كان عدوا لجبريل فليمت غيظا { فإنه نزله } أي : نزل القرآن { على قلبك بإذن الله } بأمر الله { مصدقا } موافقا لما قبله من الكتب { وهدى وبشرى للمؤمنين } رد على اليهود حين قالوا : إن جبريل ينزل بالحرب والشدة ، فقيل إنه _ وإن كان ينزل بالحرب والشدة على الكفرين _ فإنه ينزل بالهدى والبشرى للمؤمنين .
{ من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين } أي : من كان عدوا لأحد هؤلاء فإن الله عدو له ، لأن عدو الواحد عدو الجميع ، وعدو محمد عدو الله ، والواو ها هنا بمعنى أو كقوله : { ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله } . لأن الكافر بالواحد كافر بالكل ، وقوله : { فإن الله عدو للكافرين } أي : إنه تولى تلك العداوة بنفسه ، وكفى ملائكته ورسله أمر من عاداهم .
{ ولقد أنزلنا إليك آيات بينات } دلالات واضحات ، وهذا جواب لابن صوريا حين قال : يا محمد ، ما أنزل عليك من آية بينة فنتبعك بها { وما يكفر بها إلا الفاسقون } الخارجون عن أديانهم ، واليهود خرجت بالكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم عن شريعة موسى عليه السلام ، ولما ذكر محمد صلى الله عليه وسلم لهم ما أخذ الله تعالى عليهم من العهد فيه قال مالك بن الصيف : والله ما عهد إلينا في محمد عهد ولا ميثاق ، فأنزل الله تعالى :
{ أو كلما عاهدوا عهدا } الآيه ، وقوله { نبذه فريق منهم } يعني : الذين نقضوه من علمائهم { بل أكثرهم لا يؤمنون } لأنهم من بين ناقض للعهد ، وجاحد لنبوته معاند له ، وقوله :
{ نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب } يعني : علماء اليهود { كتاب الله } يعني التوراة { وراء ظهورهم } أي : تركوا العمل به حين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن { كأنهم لا يعلمون } أنه حق ، وأن ما أتى به صدق ، وهذا إخبار عن عنادهم ، ثم أخبر أنهم رفضوا كتابه واتبعوا السحر فقال : { واتبعوا } يعني : علماء اليهود .
{ ما تتلوا الشياطين } أي : ما كانت الشياطين تحدث وتقص من السحر { على ملك سليمان } في عهده وزمان ملكه ، وذلك أن سليمان عليه السلام لما نزع ملكه دفنت الشياطين في خزانته سحرا ونيرنجات ، فلما مات سليمان دلت الشياطين عليها الناس حتى استخرجوها ، وقالوا للناس : إنما ملككم سليمان بهذا فتعلموه ، فأقبل بنو إسرائيل على تعلمها ، ورفضوا كتب أنبيائهم ، فبرأ الله سليمان عليه السلام فقال : { وما كفر سليمان } أي : لم يكن كافرا ساحرا يسحر { ولكن الشياطين كفروا } بالله { يعلمون الناس السحر } يريد : ما كتب لهم الشياطين من كتب السحر { وما أنزل على الملكين } أي : ويعلمونهم ما أنزل عليهما ، أي : ما علما وألهما ، وقذف في قلوبهما من علم التفرقة ، وهو رقية وليس بسحر ، وقوله : { وما يعلمان } يعني : الملكين السحر { من أحد } أحدا { حتى يقولا إنما نحن فتنة } ابتلاء واختبار { فلا تكفر } وذلك أن الله عز وجل امتحن الناس بالملكين في ذلك الوقت ، وجعل المحنة في الكفر والإيمان أن يقبل القابل تعلم السحر ، فيكفر بتعلمه ويؤمن بتركه ، ولله تعالى أن يمتحن عباده بما شاء ، وهذا معنى قوله : { إنما نحن فتنة فلا تكفر } أي : محنة من الله نحبرك أن عمل السحر كفر بالله ، وننهاك عنه ، فإن أطعتنا نجوت وإن عصيتنا هلكت ، وقوله تعالى { فيتعلمون } أي : فيأتون فيتعلمون من الملكين { ما يفرقون به بين المرء وزوجه } وهو أن يؤخذ كل واحد منهما عن صاحبه ويبغض كل واحد منهما إلى الآخر { وما هم } أي : السحرة الذين يتعلمون السحر { بضارين به } بالسحر { من أحد } أحدا { إلا بإذن الله } بإرادته كون ذلك ، أي : لا يضرون بالسحر إلا من أراد الله أن يلحقه ذلك الضرر { ويتعلمون ما يضرهم } في الآخرة { ولا ينفعهم } (في الدنيا) { ولقد علموا } يعني : اليهود { لمن اشتراه } من اختار السحر { ما له في الآخرة من خلاق } من نصيب في الجنة ، ثم ذم صنيعهم فقال : { ولبئس ما شروا به أنفسهم } أي : بئس شيء باعوا به حظ أنفسهم حيث اختاروا السحر ونبذوا كتاب الله { لو كانوا يعلمون } كنه ما يصير إليه من يخسر الآخرة من العقاب .
{ ولو أنهم آمنوا } بمحمد عليه السلام والقرآن { واتقوا } اليهودية والسحر ، لأثيبوا ما هو خير لهم من الكسب بالسحر ، وهو قوله تعالى : { لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون } .
{ يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا } كان المسلمون يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم : راعنا سمعك ، وكان هذا بلسان اليهودية سبا قبيحا ، فلما سمعوا هذه الكلمة يقولونها لرسول الله صلى الله عليه وسلم أعجبتهم ، فكانوا يأتونه ويقولون ذلك ويضحكون فيما بينهم ، فنهى الله تعالى المؤمنين عن ذلك ، وأنزل هذه الآية ، وأمرهم أن يقولوا بدل راعنا { انظرنا } أي : انظر إلينا حتى نفهمك ما نقول { واسمعوا } أي : أطيعوا واتركوا هذه الكلمة ، لأن الطاعة تجب بالسمع . { ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم } أي : خير من عند ربكم .
{ والله يختص برحمته } يخص بنبوته { من يشاء والله ذو الفضل العظيم } .
{ ما ننسخ من آية أو ننسها } أي : مانرفع آية من جهة النسخ بأن نبطل حكمها ،أو بالإنساء لها بأن نمحوها عن القلوب { نأت بخير منها } أي : أصلح لمن تعبد بها ، وأنفع لهم وأسهل عليهم ، وأكثر لأجرهم { أو مثلها } في المنفعة والمثوبة { ألم تعلم أن الله على كل شيء } من النسخ والتبديل وغيرهما { قدير } . نزلت هذه الآية حين قال المشركون : إن محمدا يأمر أصحابه بأمر ، ثم ينهاهم عنه ، ويأمرهم بخلافه ، ويقول اليوم قولا ويرجع عنه غدا . ما هذا القرآن إلا كلام محمد ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وقوله : { وإذا بدلنا آية مكان آية } الآيه.
{ ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض } يعمل فيهما ما يشاء ، وهو أعلم بوجه الصلاح فيما يتعبدهم به من ناسخ ومنسوخ { وما لكم من دون الله من ولي } أي : وال يلي أمركم ويقوم به { ولا نصير } ينصركم ، وفي هذا تحذير من عذابه إذ لا مانع منه .
{ أم تريدون } أي : بل أتريدون { أن تسألوا رسولكم } محمدا صلى الله عليه وسلم { كما سئل موسى من قبل } وذلك أن قريشا قالوا : يا محمد ، اجعل لنا الصفا ذهبا ، ووسع لنا أرض مكة ، فنهوا أن يقترحوا عليه الآيات كما اقترح قوم موسى عليه السلام حين قالوا : { أرنا الله جهرة } وذلك أن السؤال بعد قيام البراهين كفر ، ولذلك قال : { ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل } قصده ووسطه .
{ ود كثير من أهل الكتاب } . نزلت حين قالت اليهود للمسلمين بعد وقعة أحد : ألم تروا إلى ما أصابكم ، ولو كنتم على الحق ما هزمتم فارجعوا إلى ديننا ، فذلك قوله تعالى : { لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم } أي : في حكمهم وتدينهم ما لم يؤمروا به { من بعد ما تبين لهم الحق } في التوراة أن قول محمد صدق ودينه حق { فاعفوا واصفحوا } وأعرضوا عن مساوئ أخلقهم وكلامهم وغل قلوبهم { حتى يأتي الله بأمره } بالقتال .
قال تعالى{ وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله إن الله بما تعملون بصير}
{ وقالوا لن يدخل الجنة } . أي : قالت اليهود : لن يدخل الجنة { إلا من كان هودا } وقالت النصارى : لن يدخلها إلا النصارى ، { تلك أمانيهم } التي تمنوها على الله سبحانه باطلا { قل هاتوا برهانكم } قربوا حجتكم على ما تقولون ، ثم بين من يدخلها فقال :
{ بلى } يدخلها { من أسلم وجهه لله } انقاد لأمره وبذل له وجهه في السجود { وهو محسن } مؤمن مصدق بالقرآن .
{ وقالت اليهود ليست النصارى على شيء } لما قدم وفد نجران فتنازعوا مع اليهود ، وكفر كل واحد من الفريقين الآخر ، وقوله تعالى : { وهم يتلون الكتاب } يعني : إن الفريقين يتلون التوراة وقد وقع بينهما هذا الاختلاف وكتابهم واحد ، فدل بهذا على ضلالتهم { كذلك قال الذين لا يعلمون } يعني : كفار الأمم الماضية ، وكفار هذه الأمة { مثل قولهم } في تكذيب الأنبياء والاختلاف عليهم ، فسبيل هؤلاء الذين يتلون الكتاب كسبيل من لا يعلم الكتاب من المشركين في الإنكار لدين الله سبحانه { فالله يحكم بينهم } . أي يريهم عيانا من يدخل الجنة ومن يدخل النار .
{ ومن أظلم ممن منع مساجد الله } يعني : بيت المقدس ومحاربيه . نزلت في أهل الروم حين خربوا بيت المقدس { أولئك } يعني : أهل الروم { ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين } لم يدخل بيت المقدس بعد أن عمره المسلمون رومي إلا خائفا لو علم به قتل { لهم في الدنيا خزي } يعني : القتل للحربي ، والجزية للذمي .
{ ولله المشرق والمغرب } أي : إنه خالقهما . نزلت في قوم من الصحابة سافروا فأصابهم الضباب فتحروا القبلة وصلوا إلى أنحاء مختلفة ، فلما ذهب الضباب استبان أنهم لم يصيبوا ، فلما قدموا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك . وقوله تعالى : { فأينما تولوا } أي : تصرفوا وجوهكم { فثم وجه الله } أي : فهناك قبلة الله وجهته التي تعبدكم الله بالتوجه إليها { إن الله واسع عليم } أي : واسع الشريعة يوسع على عباده في دينهم . ( اختلف العلماء في حكم هذه الآية ، فمنهم من قال : هي منسوخة الحكم بقوله : { فول وجهك شطر المسجد الحرام } ، ومنهم من قال : حكمها ثابت غير أنها مخصوصة بالنوافل في السفر . وقيل : إنها نزلت في شأن النجاشي حين صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه وقولهم له : كيف تصلي على رجل صلى إلى غير قبلتنا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية . وبين أن النجاشي وإن صلى إلى المشرق أو المغرب فإنما قصد بذلك وجه الله وعبادته ، ومعنى { فثم وجه الله } أي : فثم رضا الله وأمره ، كما قال : { إنما نطعمكم لوجه الله } . والوجه والجهة والوجهة : القبلة ).
{ وقالوا اتخذ الله ولدا } يعني : اليهود في قولهم : { عزير ابن الله } والنصارى في قولهم : { المسيح ابن الله } والمشركين في قولهم : الملائكة بنات الله ، ثم نزه نفسه عن الولد فقال { سبحانه بل } ليس الأمر كذلك { له ما في السماوات والأرض } عبيدا وملكا . { كل له قانتون } مطيعون : يعني : أهل طاعته دون الناس أجمعين .
{ بديع السماوات والأرض } خالقهما وموجدهما لا على مثال سبق . { وإذا قضى أمرا } قدره وأراد خلقه { فإنما يقول له كن فيكون } أي : إنما يكونه فيكون ، وشرطه أن يتعلق به أمره . ( وقال الأستاذ أبو الحسن : يكونه بقدرته فيكون على ما أراد ) .
{ وقال الذين لا يعلمون } يعني : مشركي العرب قالوا لمحمد : لن نؤمن لك حتى { يكلمنا الله } أنك رسوله { أو تأتينا آية } يعني : ما سألوا من الآيات الأربع في قوله تعالى : { وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا } . ومعنى { لولا يكلمنا الله } أي : هلا يكلمنا الله أنك رسوله . { كذلك قال الذين من قبلهم } يعني : كفار الأمم الماضية كفروا بالتعنت بطلب الآيات كهؤلاء { تشابهت قلوبهم } أشبه بعضها بعضا في الكفر والقسوة ومسألة المحال { قد بينا الآيات لقوم يوقنون } أي : من أيقن وطلب الحق فقد أتته الآيات ، لأن القرآن برهان شاف .
{ إنا أرسلناك بالحق } بالقرآن والإسلام ، أي : مع الحق { بشيرا } مبشرا للمؤمنين { ونذيرا } مخوفا ومحذرا للكافرين { ولا تسأل عن أصحاب الجحيم } أي : لست بمسؤول عنهم ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لو أن الله عز وجل أنزل بأسه باليهود لآمنوا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، أي : ليس عليك من شأنهم عهدة ولا تبعة .
{ ولن ترضى عنك اليهود } الآية نزلت في تحويل القبلة ، وذلك أن اليهود والنصارى كانوا يرجون أن محمدا صلى الله عليه وسلم يرجع إلى دينهم ، فلما صرف الله تعالى القبلة إلى الكعبة شق عليهم ، وأيسوا منه أن يوافقهم على دينهم ، فأنزل الله تعالى : { ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم } يعني : دينهم وتصلي إلى قبلتهم { قل إن هدى الله هو الهدى } أي : الصراط الذي دعا إليه ، وهدى إليه هو طريق الحق { ولئن اتبعت أهواءهم } يعني : ما كانوا يدعونه إليه من المهادنة والإمهال { بعد الذي جاءك من العلم } أي : البيان بأن دين الله عز وجل هو الإسلام وأنهم على الضلالة { ما لك من الله من ولي ولا نصير } .
{ الذين آتيناهم الكتاب } يعني : مؤمني اليهود { يتلونه حق تلاوته } يقرؤونه كما أنزل ولا يحرفونه ، ويتبعونه حق اتباعه .
قال تعالى {يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين}
قال تعالى {واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون} .
{ وإذ ابتلى إبراهيم ربه } اختبره ، أي : عامله معاملة المختبر { بكلمات } هي عشر خصال : خمس في الرأس ، وهي الفرق ، والمضمضة ، والاستنشاق ، والسواك ، وقص الشارب ، وخمس في الجسد ، وهي : تقليم الأظفار ، وحلق العانة ، والختان ، والاستنجاء ، ونتف الرفغنين { فأتمهن } أداهن تامات غير ناقصات { قال } الله تعالى : { إني جاعلك للناس إماما } يقتدي بك الصالحون . فقال إبراهيم : { ومن ذريتي } أي : ومن أولادي أيضا فاجعل أئمة يقتدى بهم ، فقال الله عز وجل { لا ينال عهدي الظالمين } يريد : من كان من ولدك ظالما لا يكون إماما ، ومعنى : { عهدي } أي : نبوتي .
{ وإذ جعلنا البيت } يعني : الكعبة { مثابة للناس } معادا يعودون إليه لا يقضون منه وطرا ، كلما انصرفوا اشتاقوا إليه { وأمنا } أي ك مؤمنا ، وكانت العرب يرى الرجل منهم قاتل أبيه في الحرم فلا يتعرض له ، وأما اليوم فلا يهاج الجاني إذا التجأ إليه عند أهل العراق ، وعند الشافعي : الأولى أن لا يهاج ، فإن أخيف بإقامة الحد عليه جاز . وقد قال كثير من المفسرين : من شاء آمن ، ومن شاء لم يؤمن ، كما أنه لما جعله مثابة ، من شاء ثاب ، ومن شاء لم يثب . { واتخذوا } أي : الناس { من مقام إبراهيم } وهو الحجر الذي يعرف بمقام إبراهيم ، وهو موضع قدميه { مصلى } وهو أنه تسن الصلاة خلف المقام، قرئ على هذا الوجه على الخبر ، وقرئ بالكسر على الأمر . { وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل } أمرناهما وأوصينا إليهما { أن طهرا بيتي } من الأوثان والريب ({ للطائفين } حوله ، وهم النزائع إليه من آفاق الأرض { والعاكفين } أي : المقيمين فيه ، وهم سكان الحرم { والركع } جمع راكع و { السجود } جمع ساجد ، مثله : قاعد وقعود) .
{ وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا } أي : هذا المكان وهذا الموضع { بلدا } مسكنا { آمنا } أي : ذا أمن لا يصاد طيره ، ولا يقطع شجره ولا يقتل فيه أهله . { وارزق أهله من الثمرات } أنواع حمل الشجر { من آمن منهم بالله واليوم الآخر } خص إبراهيم عليه السلام بطلب الرزق المؤمنين . قال تعالى : { ومن كفر فأمتعه قليلا } فسأرزفه إلى منهى أجله { ثم أضطره } ألجئه في الآخرة { إلى عذاب النار وبئس المصير } هي .
{ وإذ يرفع إبراهيم القواعد } أصول الأساس { من البيت وإسماعيل } ويقولان : { ربنا تقبل منا } تقربنا إليك ببناء هذا البيت { إنك أنت السميع } لدعائنا { العليم } بما في قلوبنا .
{ ربنا واجعلنا مسلمين لك } مطيعي منقادين لحكمك { ومن ذريتنا أمة } جماعة { مسلمة لك } وهم المهاجرون والأنصار والتابعون بإحسان { وأرنا مناسكنا } عرفنا متعبداتنا .
{ ربنا وابعث فيهم } في الأمة المسلمة { رسولا منهم } يريد : محمدا صلى الله عليه وسلم { يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة } أي : القرآن { ويزكيهم } ويطهرهم من الشرك { إنك أنت العزيز } الغالب القوي الذي لا يعجزه شيء ، ومضى تفسير الحكيم .
{ ومن يرغب عن ملة إبراهيم } أي : وما يرغب عنها ولا يتركها { إلا من سفه نفسه } أي : جهلها بأن لم يعلم أنها مخلوقة لله تعالى يجب عليها عبادة خالقها { ولقد اصطفيناه في الدنيا } اخترناه للرسالة { وإنه في الآخرة لمن الصالحين } أي : من الأنبياء .
{ إذ قال له ربه أسلم } أخلص دينك لله سبحانه بالتوحيد ، وقيل : أسلم نفسك إلى الله { قال أسلمت } بقلبي ولساني وجوارحي { لرب العالمين } .
{ ووصى بها } أي : أمر بالملة ، وقيل : بكلمة الإخلاص { إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني } أراد : أن يا بني { إن الله اصطفى لكم الدين } أي : الإسلام دين الحنيفية { فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون } أي : الزموا الإسلام حتى إذا أدرككم الموت صادفكم عليه .
{ أم كنتم شهداء } ترك الكلام الأول ، وعاد إلى مخاطبة اليهود . المعنى : بل أكنتم شهداء ، أي : حضورا { إذ حضر يعقوب الموت } وذلك أن اليهود قالت النبي صلى الله عليه وسلم : ألست تعلم أن يعقوب يوم مات أوصى بنيه باليهودية ؟ فأكذبهم الله تعالى ، وقال : أكنتم حاضرين وصيته { إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي } .
{ تلك أمة } يعني : إبراهيم وبنيه ، ويعقوب وبنيه { قد خلت } قد مضت { لها ما كسبت } من العمل { ولكم } يا معشر اليهود { ما كسبتم } أي : حسابهم عليهم ، وإنما تسألون عن أعمالكم .
{ وقالوا كونوا هودا أو نصارى } نزلت في يهود المدينة ونصارى نجران . قال كل واحد من الفريقين للمؤمنين : كونوا على ديننا فلا دين إلا ذلك ، فقال الله تعالى : { قل بل ملة إبراهيم حنيفا } يعني : بل نتبع ملة إبراهيم حنيفا مائلا عن الأديان كلها إلى دين الإسلام ، ثم أمر المؤمنين أن يقولوا :
{ آمنا بالله وما أنزل إلينا } يعني : القرآن { وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط } وهم أولاد يعقوب ، وكان فيهم أنبياء لذلك قال : وما أنزل إليهم . وقوله تعالى : { لا نفرق بين أحد منهم } أي : لا نكفر ببعض ونؤمن ببعض ، كما فعلت اليهود والنصارى .
{ فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به } أي : إن أتوا بتصديق مثل تصديقكم ، وكان إيمانهم كإيمانكم { فقد اهتدوا } فقد صاروا مسلمين { وإن تولوا } أعرضوا { فإنما هم في شقاق } في خلاف وعداوة { فسيكفيكهم الله } ثم فعل ذلك ، فكفاه أمر اليهود بالقتل والسبي في قريظة ، والجلاء والنفي في بني النضير ، والجزية والذلة في نصارى نجران .
{ صبغة الله } أي : الزموا دين الله { ومن أحسن من الله صبغة } أي : ومن أحسن من الله دينا ؟
{ قل } يا محمد لليهود والنصارى : { أتحاجوننا في الله } أتخاصموننا في دين الله ؟ وذلك أنهم قالوا : إن ديننا هو الأقدم ، وكتابنا هو الأسبق ، ولو كنت نبيا لكنت منا { ولنا أعمالنا } نجازى بحسنها وسيئها ، وأنتم في أعمالكم على مثل سبيلنا { ونحن له مخلصون } موحدون .
{ أم تقولون } إن الأنبياء من قبل أن تنزل التوراة والإنجيل { كانوا هودا أو نصارى } { قل أأنتم أعلم أم الله } أي : قد أخبرنا الله سبحانه أن الأنبياء كان دينهم الإسلام ، ولا أحد أعلم منه { ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله } هذا توبيخ لهم ، وهو أن الله تعالى أشهدهم في التوراة والإنجيل أنه باعث فيهم محمدا صلى الله عليه وسلم من ذرية إبراهيم عليه السلام ، وأخذ مواثيقهم أن يبينوه ولا يكتموه ، ثم ذكر قصة تحويل القبلة ، فقال :
{تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون}
{ سيقول السفهاء من الناس } يعني : مشركي مكة ويهود المدينة { ما ولاهم } ما صرفهم ؟ يعنون النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين { عن قبلتهم التي كانوا عليها } وهي الصخرة { قل لله المشرق والمغرب } يأمر بالتوجه إلى أي جهة شاء { يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } دين مستقيم . يريد : إني رضيت هذه القبلة لمحمد صلى الله عليه وسلم ، ثم مدح أمته فقال :
{ وكذلك } أي : وكما هديناكم صراطا مستقيما { جعلناكم أمة وسطا } عدولا خيارا { لتكونوا شهداء على الناس } لتشهدوا على الأمم بتبليغ الأنبياء { ويكون الرسول عليكم } على صدقكم { شهيدا } وذلك أن الله تعالى يسأل الأمم يوم القيامة ، فيقول : هل بلغكم الرسل الرسالة ؟ فيقولون : ما بلغنا أحد عنك شيئا ، فيسأل الرسل فيقولون : بلغناهم رسالتك فعصوا ، فيقول : هل لكم شهيد ؟ فيقولون : نعم ، أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، فيشهدون لهم بالتبليغ وتكذيب قومهم إياهم ، فتقول الأمم : يارب ، بم عرفوا ذلك ، وكانوا بعدنا ؟ فيقولون : أخبرنا بذلك نبينا في كتابه ، ثم يزكيهم محمد صلى الله عليه وسلم . { وما جعلنا القبلة التي كنت عليها } أي : التي أنت عليها اليوم ، وهي الكعبة ، قبلة { إلا لنعلم } لنرى وقيل : معناه : لنميز { من يتبع الرسول } في تصديقه بنسخ القبلة { ممن ينقلب على عقبيه } يرتد ويرجع إلى الكفر ، وذلك أن الله تعالى جعل نسخ القبلة عن الصخرة إلى الكعبة ابتلاء لعباده المؤمنين ، فمن عصمه صدق الرسول في ذلك ، ومن لم يعصمه شك في دينه وتردد عليه أمره ، وظن أن محمدا صلى الله عليه وسلم في حيرة من أمره ، فارتد عن الإسلام ، وهذا معنى قوله : { وإن كانت لكبيرة } أي : وقد كانت التولية إلى الكعبة لثقيلة إلا { على الذين هدى الله } عصمهم الله بالهداية ، فلما حولت القبلة قالت اليهود : فكيف بمن مات منكم وهو يصلي على القبلة الأولى ؟ لقد مات على الضلالة ، فأنزل الله تعالى : { وما كان الله ليضيع إيمانكم } أي : صلاتكم التي صليتم وتصديقكم بالقبلة الأولى { إن الله بالناس } يعني : بالمؤمنين { لرؤوف رحيم } والرأفة أشد الرحمة .
{ قد نرى تقلب وجهك } . كانت الكعبة أحب القبلتين إلى رسول الله ، ورأى أن الصلاة إليها أدعى لقومه إلى الإسلام ، فقال لجبريل عليه السلام : وددت أن الله صرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها ، فقال جبريل عليه السلام : إنما أنا عبد مثلك ، وأنت كريم على ربك فسله ، ثم ارتفع جبريل عليه السلام وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يديم النظر إلى السماء رجاء أن يأتيه جبريل عليه السلام بالذي سأل ، فأنزل الله تعالى : { قد نرى تقلب وجهك في السماء } أي : في النظر إلى السماء { فلنولينك } فلنصيرنك تستقبل { قبلة ترضاها } تحبها وتواها { فول وجهك } أي : أقبل بوجهك { شطر المسجد الحرام } نحوه وتلقاءه { وحيث ما كنتم } في بر أو بحر وأردتم الصلاة { فولوا وجوهكم شطره } فلما تحولت القبلة إلى الكعبة قالت اليهود : يا محمد ، ما أمرت بهذا ، وإنما هو شيء تبتدعه من تلقاء نفسك ، فأنزل الله تعالى : { وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق } أن المسجد الحرام قبلة إبراهيم وأنه لحق { وما الله بغافل عما تعملون } يا معشر المؤمنين من طلب مرضاتي .
{ ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب } يعني : اليهود والنصارى { بكل آية } (دلالة ومعجزة) { ما تبعوا قبلتك } لأنهم معاندون جاحدون نبوتك مع العلم بها { وما أنت بتابع قبلتهم } حسم بهذا أطماع اليهود في رجوع النبي صلى الله عليه وسلم إلى قبلتهم ، لأنهم كانوا يطمعون في ذلك { وما بعضهم بتابع قبلة بعض } أخبر أنهم _ وإن اتفقوا في التظاهر على النبي صلى الله عليه وسلم _ مختلفون فيما بينهم ، فلا اليهود تتبع قبلة النصارى ، ولا النصارى تتبع قبلة اليهود { ولئن اتبعت أهواءهم } أي : صليت إلى قبلتهم { بعد ما جاءك من العلم } أن قبلة الله الكعبة { إنك إذا لمن الظالمين } أي : إنك إذا مثلهم ، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم في الظاهر ، وهو في المعنى لأمته .
{ الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه } يعرفون محمدا صلى الله عليه وسلم بنعته وصفته { كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق } من صفته في التوراة { وهم يعلمون } لأن الله بين ذلك في كتابهم .
{ الحق من ربك } أي : هذا الحق من ربك { فلا تكونن من الممترين } الشاكين في الجملة التي أخبرتك بها من أمر القبلة ، وعناد اليهود وامتناعهم عن الإيمان بك .
{ ولكل } أي : ولكل أهل دين { وجهة } قبلة ومتوجه إليها في الصلاة { هو موليها } وجهه ، أي : مستقبلها { فاستبقوا الخيرات } فبادروا إلى القبول من الله عز وجل ، وولوا وجوهكم حيث أمركم الله تعالى { أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعا } يجمعكم الله تعالى للحساب ، فيجزيكم بأعمالكم ، ثم أكد استقبال القبلة أينما كان بآيتين ، وهما قوله تعالى :
{ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وإنه للحق من ربك وما الله بغافل عما تعملون}
{ ومن حيث خرجت } الآية ، وقوله : { ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة } يعني : اليهود ، وذلك أن اليهود كانوا يقولون : ما درى محمد أين قبلته حتى هديناه ، ويقولون : يخالفنا محمد في ديننا ويتبع قبلتنا ، فهذا كان حجتهم التي كانوا يحتجون بها تمويها على الجهال ، فلما صرفت القبلة إلى الكعبة بطلت هذه الحجة ، ثم قال تعالى : { إلا الذين ظلموا منهم } من الناس ، وهم المشركون فإنهم قالوا : توجه محمد إلى قبلتنا ، وعلم أنا أهدى سبيلا منه ، فهؤلاء يحتجون بالباطل ، ثم قال : { فلا تخشوهم } يعني : المشركين في تظاهرهم عليكم في المحاجة والمحاربة { واخشوني } في ترك القبلة ومخالفتها ، { ولأتم نعمتي عليكم } أي : ولكي أتم _ عطف على { لئلا يكون } _ نعمتي عليكم بهدايتي إياكم إلى قبلة إبراهيم ، فتتم لكم الملة الحنيفية { ولعلكم تهتدون } ولكي تهتدوا إلى قبلة إبراهيم .
{ كما أرسلنا فيكم } المعنى : ولأتم نعمتي عليكم كإرسالي إليكم رسولا ، أي : أتم هذه كما أتممت تلك بإرسالي { رسولا منكم } تعرفون صدقه ونسبه { يتلو عليكم آياتنا } يعني : القرآن ، وهذا احتجاج عليهم ، لأنهم عرفوا أنه أمي لا يقرأ ولا يكتب ، فلما قرأ عليهم تبين لهم صدقه في النبوة { ويزكيكم } أي : يعرضكم لما تكونوا به أزكياء من الأمر بطاعة الله تعالى .
{ فاذكروني } بالطاعة { أذكركم } بالمغفرة { واشكروا لي } نعمتي { ولا تكفرون } أي : لا تكفروا نعمتي .
{ يا أيها الذين آمنوا استعينوا } على طلب الآخرة { بالصبر } على الفرائض ، { والصلاة } وبالصلوات الخمس على تمحيص الذنوب { إن الله مع الصابرين } أي : إني معكم أنصركم ولا أخذلكم .
{ ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات } نزلت في قتلى بدر من المسلمين ، وذلك أنهم كانوا يقولون لمن يقتل في سبيل الله : مات فلان وذهب عنه نعيم الدنيا ، فقال الله تعالى : ولا تقولوا للمقتولين في سبيلي هم أموات { بل } هم { أحياء } لأن أرواح الشهداء في أجواف طير خضر تسرح في الجنة . { ولكن لا تشعرون } بما هم فيه من النعيم والكرامة .
{ ولنبلونكم } ولنعاملنكم معاملة المبتلي { بشيء من الخوف } يعني : خوف العدو { والجوع } يعني : القحط { ونقص من الأموال } يعني : الخسران والنقصان في المال وهلاك المواشي { والأنفس } يعني : الموت والقتل في الجهاد والمرض والشيب { والثمرات } يعني : الجوائح وموت الأولاد ، فمن صبر على هذه الأشياء استحق الثواب ، ومن لم يصبر لم يستحق . يدل على هذا قوله تعالى: { وبشر الصابرين } .
{ الذين إذا أصابتهم مصيبة } مما ذكر { قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون } أي : أموالنا لله ، ونحن عبيده يصنع بنا ما يشاء ، ثم وعدهم على هذا القول المغفرة .
{ أولئك عليهم صلوات من ربهم } أي : مغفرة { ورحمة } ونعمة { وأولئك هم المهتدون } إلى الجنة والثواب ، والحق والصواب . وقيل : زيادة الهدى ، وقيل : هم المنتفعون بالهداية .
{ إن الصفا والمروة } وهما جبلان معروفان بمكة { من شعائر الله } أي : متعبداته { فمن حج البيت } زاره معظما له { أو اعتمر } قصد البيت للزيارة { فلا جناح عليه } فلا إثم عليه { أن يطوف بهما } بالجبلين ، وذلك أن أهل الجاهلية كانوا يطوفون بينهما وعليهما صنمان يمسحونهما ، فكره المسلمون الطواف بينهما ، فأنزل الله تعالى هذه الآية . { ومن تطوع خيرا } فعل غير المفترض عليه من طواف ، وصلاة ، وزكاة ، وطاعة { فإن الله شاكر } مجاز له بعمله { عليم } بنيته .
{ إن الذين يكتمون ما أنزلنا } يعني : علماء اليهود { من البينات } من الرجم والحدود والأحكام { والهدى } أمر محمد صلى الله عليه وسلم ونعته { من بعد ما بيناه للناس } لبني إسرائيل { في الكتاب } في التوراة { أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون } كل شيء إلا الجن والإنس .
{ إلا الذين تابوا } رجعوا من بعد الكتمان { وأصلحوا } السريرة { وبينوا } صفة محمد صلى الله عليه وسلم { فأولئك أتوب عليهم } أعود عليهم بالمغفرة .
{ إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين } يعني : المؤمنين .
{ خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون } أي : ولا هم يمهلون للرجعة والتوبة والمعذرة ، إذ قد زال التكليف .
{ وإلهكم إله واحد } كان للمشركين ثلاثمائة وستون صنما يعبدونها من دون الله سبحانه وتعالى ، فبين الله سبحانه أنه إلههم ، وأنه واحد ، فقال : { وإلهكم إله واحد } أي : ليس له في الإلهية شريك ، ولا له في ذاته نظير { لا إله إلا هو الرحمن الرحيم } كذبهم الله عز وجل في إشراكهم معه آلهة ، فعجب المشركون من ذلك ، وقالوا : إن محمدا يقول : { وإلهكم إله واحد } فلأتنا بآية إن كان من الصادقين ، فأنزل الله تعالى :
{ إن في خلق السماوات والأرض } مع عظمهما وكثرة أجزائهما { واختلاف الليل والنهار } ذهابهما ومجيئهما { والفلك } السفن { التي تجري في البحر بما ينفع الناس } من التجارات { وما أنزل الله من السماء من ماء } من مطر { فأحيا به الأرض } أخصبها بعد جدوبتها { وبث } وفرق { فيها من كل دابة وتصريف الرياح } تقليبها مرة جنوبا ومرة شمالا ، وباردة وحارة { والسحاب المسخر } المذلل لأمر الله { بين السماء والأرض لآيات } لدلالات على وحدانية الله { لقوم يعقلون } فعلمهم الله عز وجل بهذه الآية كيفية الاستدلال على الصانع وعلى توحيده ، وردهم إلى التفكر في آياته والنظر في مصنوعاته ، ثم أعلم أن قوما بعد هذه الآيات والبينات يتخذون الأنداد مع علمهم أنهم لا يأتون بشيء مما ذكر ، فقال :
{ ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا } يعني : الأصنام التي هي أنداد بعضها لبعض ، أي : أمثال { يحبونهم كحب الله } أي : كحب المؤمنين الله { والذين آمنوا أشد حبا لله } لأن الكافر يعرض عن معبوده في وقت البلاء ، والمؤمن لا يعرض عن الله في السراء والضراء ، والشدة والرخاء ، { ولو يرى الذين ظلموا } كفروا { إذ يرون العذاب } شدة عذاب الله تعالى وقوته لعلموا مضرة اتخاذ الأنداد ، وجواب ( لو ) محذوف ، وهو ما ذكرنا .
{ إذ تبرأ الذين اتبعوا } هذه الآية تتصل بما قبلها ، لآن المعنى : وإن الله شديد العذاب حين تبرأ المتبعون في الشرك من أتباعهم عند رؤية العذاب ، يقولون : لم ندعكم إلى الضلالة وإلى ما كنتم { وتقطعت بهم } عنهم { الأسباب } الوصلات التي كانت بينهم في الدنيا من الأرحام والمودة ، وصارت مخالتهم عداوة .
{ وقال الذين اتبعوا } وهم الأتباع { لو أن لنا كرة } وجعة إلى الدنيا تبرأنا منهم { كما تبرؤوا منا كذلك } أي : كتبرئ بعضهم من بعض { يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم } يعني : عبادتهم الأوثان رجاء أن تقربهم إلى الله تعالى ، فلما عذبوا على ما كانوا يرجون ثوابه تحسروا .
{ يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا } نزلت هذه الآية في الذين حرموا على أنفسهم السوائب والوصائل والبحائر ، فأعلم الله سبحانه أنها يحل أكلها ، وأن تحريمها من عمل الشيطان ، فقال : { ولا تتبعوا خطوات الشيطان } أي : سبله وطرقه ، ثم بين عداوة الشيطان ، فقال :
{ إنما يأمركم بالسوء } بالمعاصي { والفحشاء } البخل ، وقيل : كل ذنب فيه حد { وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } من تحريم الأنعام والحرث .
{ وإذا قيل لهم } أي : لهؤلاء الذين حرموا من الحرث والأنعام أشياء : { اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا } ما وجدنا { عليه آباءنا } فقال الله تعالى منكرا عليهم : { أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون } يتبعونهم ؟ والمعنى : أيتبعون آباءهم وإن كانوا جهالا ؟! ثم ضرب للكفار مثلا ، فقال :
{ ومثل الذين كفروا } في وعظهم ودعائهم إلى الله عز وجل { كمثل }الراعي { الذي ينعق } يصيح بالغنم وهي لا تعقل شيئا ، ومعنى ينعق : يصيح ، وأراد { بما لا يسمع إلا دعاء ونداء } البهائم التي لا تعقل ولا تفهم ما يقول الراعي ، إنما تسمع صوتا لا تدري ما تحته ، كذلك الذين كفروا يسمعون كلام النبي صلى الله عليه وسلم وهم كالغنم ، إذ كانوا لا يستعملون ما أمره به ، ومضى تفسير قوله : { صم بكم عمي } ، ثم ذكر أن ما حرمه المشركون حلال ، فقال :
{ يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم } أي : حلالات ما رزقناكم من الحرث والنعم وما حرمه المشركون على أنفسهم منهما { واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون } أي : إن كانت العبادة لله واجبة عليكم بأنه إلهكم فالشكر له واجب ، بأنه منعم عليكم ، ثم بين المحرم ما هو فقال :
{ إنما حرم عليكم الميتة } وهي كل ما فارقه الروح من غير ذكاة مما يذبح { والدم } يعني : الدم السائل لقوله في كوضع آخر : { أو دما مسفوحا } وقد دخل هذين الجنسين الخصوص بالسنة ، وهو < قوله صلى الله عليه وسلم : أحلت لنا ميتتان ودمان > . وقوله تعالى : { ولحم الخنزير } يعني : الخنزير بجميع أجزائه ، وخص اللحم لأنه المقصود بالأكل { وما أهل به لغير الله } يعني : ما ذبح للأصنام ، فذكر عليه غير اسم الله تعالى { فمن اضطر } أي : أحوج وألجئ في حال الضرورة . وقيل : من أكره على تناوله ، وأجبر على تناوله كما يجبر على التلفظ بالباطل { غير باغ } أي : غير قاطع للطريق مفارق للأئمة مشاق للأمة { ولا عاد } ولا ظالم متعد ، فأكل { فلا إثم عليه } وهذا يدل على أن العاصي بسفره لا يستبيح أكل الميتة عند الضرورة { إن الله غفور } للمعصية فلا يأخذ بما جعل فيه الرخصة { رحيم } حيث رخص للمضطر .
{ إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب } يعني : رؤساء اليهود { ويشترون به } بما أنزل الله من نعت محمد صلى الله عليه وسلم في كتابهم { ثمنا قليلا } يعني : ما يأخذون من الرشى على كتمان نعته { أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار } إلا ما هو عاقبته النار { ولا يكلمهم الله يوم القيامة } أي : كلاما يسرهم { ولا يزكيهم } ولا يطهرهم من دنس ذنوبهم .
{ أولئك الذين اشتروا الضلالة } استبدلوها { بالهدى والعذاب بالمغفرة } حين جحدوا أمر محمد صلى الله عليه وسلم وكتموا نعته { فما أصبرهم } أي : فأي شيء صبرهم على النار ، ودعاهم إليها حين تركوا الحق واتبعوا الباطل ؟! وهذا استفهام معناه التوبيخ لهم . ( وقيل : ما أجرأهم على النار ) .
{ ذلك } أي : ذلك العذاب لهم { بأن الله نزل الكتاب بالحق } يعني : القرآن فاختلفوا فيه { وإن الذين اختلفوا في الكتاب } فقالوا : إنه رجز ، وشعر ، وكهانة ، وسحر { لفي شقاق بعيد } لفي خلاف للحق طويل .
{ ليس البر } . كان الرجل في ابتداء الإسلام إذا شهد الشهادتين ، وصلى إلى أي ناحية كانت ثم مات على ذلك وجبت له الجنة ، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلت الفرائض وصرفت القبلة إلى الكعبة أنزل الله تعالى هذه الآية ، فقال : { ليس البر } كله أن تصلوا ولا تعملوا غير ذلك { ولكن البر } أي : ذا البر { من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه } أي : على حب المال . ( وقيل : الضمير راجع إلى الإيتاء ) { ذوي القربى } قيل : عنى به قرابة النبي صلى الله عليه وسلم . ( وقيل : أراد به قرابة الميت ) { وابن السبيل } هو المنقطع يمر بك ، والضيف ينزل بك { وفي الرقاب } أي : وفي ثمنها . يعني : المكاتبين { والموفون بعهدهم إذا عاهدوا } الله أو الناس { والصابرين في البأساء } الفقر { والضراء } المرض { وحين البأس } وقت القتال في سبيل الله { أولئك } أهل هذه الصفة هم { الذين صدقوا } في إيمانهم .
{ يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى } نزلت في حيين من العرب أحدهما أشرف من الآخر ، فقتل الأوضع من الأشرف قتلى ، فقال الأشرف : لنقتلن الحر بالعبد ، والذكر بالأنثى ، ولنضاعفن الجراح ، فأنزل الله تعالى هذه الآية . وقوله : { كتب } : أوجب وفرض { عليكم القصاص } اعتبار المماثلة والتساوي بين القتلى ، حتى لا يجوز أن يقتل حر بعبد ، أو مسلم بكافر ، فاعتبار المماثلة واجب ، وهو قوله : { الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى } ودل قوله في سورة المائدة : { أن النفس بالنفس } على أن الذكر يقتل بالأنثى فيقتل الحر بالحرة { فمن عفي له } أي : ترك له { من } دم { أخيه } المقتول { شيء } وهو أن يعفو بعض الأولياء فيسقط القود { فاتباع بالمعروف } أي : فعلى العافي الذي هو ولي الدم أن يتبع القاتل بالمعروف ، وهو أن يطالبه بالمال من غير تشدد وأذى ، وعلى المطلوب منه المال { أداء } تأدية المال إلى العافي { بإحسان } وهو ترك المطل والتسويف . { ذلك تخفيف من ربكم ورحمة } هو أن الله تعالى خير هذه الأمة بين القصاص والدية والعفو ، ولم يكن ذلك إلا لهذه الأمة { فمن اعتدى } أي : ظلم بقتل القاتل بعد أخذ الدية { فله عذاب أليم } .
{ ولكم في القصاص حياة } أي : في إثباته حياة ، وذلك أن القاتل إذا قتل ارتدع عن القتل كل من يهم بالقتل ، فكان القصاص سببا لحياة الذي يهم بقتله ، ولحياة الهام أيضا ، لأنه أن قتل قتل . { يا أولي الألباب } يا ذوي العقول { لعلكم تتقون } إراقة الدماء مخافة القصاص .
{ كتب عليكم } . كان أهل الجاهلية يوصون بمالهم للبعداء رياء وسمعة ، ويتركون أقاربهم فقراء ، فأنزل الله تعالى هذه الآية . { كتب عليكم } فرض عليكم وأوجب { إذا حضر أحدكم الموت } أي : أسبابه ومقدماته { إن ترك خيرا } مالا { الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف } يعني : لا يزيد على الثلث { حقا } أي : حق ذلك حقا { على المتقين } الذين يتقون الشرك ، وهذه الآية منسوخة بآية المواريث ، ولا تجب الوصية على أحد ( ولا تجوز الوصية للوارث ) .
{ فمن بدله بعد ما سمعه } أي : بدل الإيصاء وغيره من وصي وولي وشاهد بعد ما سمعه عن الميت { فإنما إثمه } إثم التبديل { على الذين يبدلونه } وبرئ الميت { إن الله سميع } سمع ما قاله الموصي { عليم } بنيته وما أراد ، فكانت الأولياء والأوصياء يمضون وصية الميت بعد نزول هذه الآية وإن استغرقت المال ، فأنزل الله تعالى :
{ فمن خاف } أي : علم { من موص جنفا } خطأ في التوصية من غير عمد ، وهو أن يوصي لبعض ورثته ، أو يوصي بماله كله خطأ { أو إثما } أي : قصدا للميل ، فخاف من الوصية وفعل ما لا يجوز متعمدا { فأصلح } بعد موته بين ورثته وبين الموصى لهم { فلا إثم عليه } أي : إنه ليس بمبدل يأثم ، بل هو متوسط للإصلاح ، وليس عليه إثم .
{ يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام } يعني صيام شهر رمضان { كما كتب } يعني : كما أوجب { على الذين من قبلكم } أي : أنتم متعبدون بالصيام كما تعبد من قبلكم { لعلكم تتقون } لكي تتقوا الأكل والشرب والجماع في وقت وجوب الصوم .
{ أياما معدودات } يعني : شهر رمضان { فمن كان منكم مريضا أو على سفر } فأفطر { فعدة } أي : فعليه عدة ، أي : صوم عدة . يعني : بعدد ما أفطر { من أيام أخر } سوى أيام مرضه وسفره { وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين } هذا كان في ابتداء الإسلام ، من أطاق الصوم جاز له أن يفطر ، ويطعم لكل يوم مسكينا مدا من طعام ، فنسخ بقوله : { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } . { فمن تطوع خيرا } زاد في الفدية على مد واحد { فهو خير له وأن تصوموا خير لكم } أي : والصوم خير لكم من الإفطار والفدية ، وهذا ( إنما ) كان قبل النسخ .
{ شهر رمضان } أي : هي شهر رمضان . يعني : تلك الأيام المعدودات شهر رمضان { الذي أنزل فيه القرآن } أنزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ في ليلة القدر من شهر رمضان ، فوضع في بيت العزة في سماء الدنيا ، ثم نزل به جبريل عليه السلام على محمد صلى الله عليه وسلم نجوما نجوما عشرين سنة {هدى للناس } هاديا للناس { وبينات من الهدى } وآيات واضحات من الحلال والحرام ، والحدود والأحكام { والفرقان } الفرق بين الحق والباطل { فمن شهد منكم الشهر } فمن حضر منكم بلده في الشهر { فليصمه } { ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر } أعاد هاهنا تخيير المريض والمسافر ، لأن الآية الأولى وردت في التخيير للمريض والمسافر والمقيم ، وفي هذه الآية نسخ تخيير المقيم ، فأعيد ذكر تخيير المريض والمسافر ليعلم أنه باق على ما كان { يريد الله بكم اليسر } بالرخصة للمسافر والمريض { ولا يريد بكم العسر } لأنه لم يشدد ولم يضيق عليكم { ولتكملوا } ( عطف على محذوف ) والمعنى : يريد الله بكم اليسر ، ولا يريد بكم العسر ليسهل عليكم { ولتكملوا العدة } أي : ولتكملوا عدة ما أفطرتم بالقضاء إذا أقمتم وبرأتم { ولتكبروا الله } يعني التكبير ليلة الفطر إذا رئي هلال شوال { على ما هداكم } أرشدكم من شرائع الدين .
{ وإذا سألك عبادي عني } الآية . سأل بعض الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم : أقريب ربنا فنناجيه ، أم بعيد فنناديه ؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وقوله تعالى { فإني قريب } يعني : قربه بالعلم { أجيب } أسمع { دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي } أي : فليجيبوني بالطاعة وتصديق الرسل { وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون } ليكونوا على رجاء من إصابة الرشد .
{ أحل لكم ليلة الصيام } الآيه . كان في ابتداء الإسلام لا تحل المجامعة في ليالي الصوم ، ولا الأكل ولا الشرب بعد العشاء الآخرة ، فأحل الله تعالى ذلك كله إلى طلوع الفجر ، وقوله : { الرفث إلى نسائكم } يعني : الإفضاء إليهن بالجماع { هن لباس لكم } أي : فراش { وأنتم لباس } لحاف { لهن } عند الجماع { علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم } تخونون أنفسكم بالجماع ليالي رمضان ، وذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وغيره فعلوا ذلك ، ثم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه ، فنزلت الرخصة { فتاب عليكم } فعاد عليكم بالترخيص { وعفا عنكم } ما فعلتم قبل الرخصة { فالآن باشروهن } جامعوهن { وابتغوا } واطلبوا {ما كتب الله لكم } ما قضى الله سبحانه لكم من الولد { وكلوا واشربوا } الليل كله { حتى يتبين لكم الخيط الأبيض } يعني : بياض الصبح { من الخيط الأسود } من سواد الليل { من الفجر } بيان أن هذا الخيط الأبيض من الفجر لا من غيره { ثم أتموا الصيام إلى الليل } بالامتناع من هذه الأشياء { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد } نهي للمعتكف عن الجماع ، لأنه يفسده ، { تلك } أي : هذه الأحكام التي ذكرها { حدود الله } ممنوعاته { فلا تقربوها } فلا تأتوها { كذلك } أي : مثل هذا البيان { يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون } المحارم .
{ ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } أي : لا يأكل بعضكم مال بعض بما لا يحل في الشرع ، من الخيانة والغضب ، والسرقة والقمار ، وغير ذلك { وتدلوا بها إلى الحكام } ولا تصانعوا ( أي : لاترشوا ) بأموالكم الحكام لتقتطعوا حقا لغيركم { لتأكلوا فريقا } طائفة { من أموال الناس بالإثم } بأن ترشوا الحاكم ليقضي لكم { وأنتم تعلمون } أنكم مبطلون ، وأنه لا يحل لكم ، والأصل في الإدلاء : الإرسال ، من قولهم : أدليت الدلو .
{ يسألونك عن الأهلة } سأل معاذ بن جبل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن زيادة القمر ونقصانه ، فأنزل الله تعالى : { يسألونك عن الأهلة } وهي جمع هلال { قل هي مواقيت للناس والحج } أخبر الله عنه أن الحكمة في زيادته ونقصانه زوال الالتباس عن أوقات الناس في حجهم ومحل ديونهم ، وعدد نسائهم ، وأجور أجرائهم ،ومدد حواملهم ، وغير ذلك . { وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها } كان الرجل في الجاهلية إذا إذا أحرم نقب من بيته نقبا من مؤخره يدخل فيه ويخرج ، فأمرهم الله بتر ك سنة الجاهلية ، وأعلمهم أن ذلك ليس ببر { ولكن البر } بر{ من اتقى } مخالفة الله { وأتوا البيوت من أبوابها } الآية .
{ وقاتلوا في سبيل الله } الآية . نزلت هذه الآية في صلح الحديبية ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انصرف من الحديبية إلى المدينة المنورة حين صده المشركون عن البيت ، صالحهم على أن يرجع عامه القابل ويخلوا له مكة ثلاثة أيام ، فلما كان العام القابل تجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لعمرة القضاء ، وخافوا أن لا تفي لهم قريش وأن يصدوهم عن البيت ويقاتلوهم ، وكره أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قتالهم في الشهر الحرام في الحرم ، فأنزل الله تعالى : { وقاتلوا في سبيل الله } أي : في دين الله وطاعته { الذين يقاتلونكم } يعني : قريشا { ولا تعتدوا } ولا تظلموا فتبدؤوا في الحرم بالقتال .
{ واقتلوهم حيث ثقفتموهم } وجدتموه وأخذتموهم { وأخرجوهم من حيث أخرجوكم } يعني : من مكة { والفتنة أشد من القتل } يعني : وشركهم بالله تعالى أعظم من قتلكم إياهم في الحرم { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه } نهوا عن ابتدائهم بقتل أو قتال حتى يبتدىء المشركون { فإن قاتلوكم فاقتلوهم } أي : إن ابتدؤوا بقتالكم عند المسجد الحرام فلكم القتال على سبيل المكافأة ، ثم بين أنهم إن انتهوا ، أي : كفوا عن الشرك والكفر والقتال وأسلموا { فإن الله غفور رحيم } أي : يغفر لهم كفرهم وقتالهم من قبل ، وهو منعم عليهم بقبول توبتهم وإيمانهم بعد كفرهم وقتالهم .
قال تعالى{فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم}
{ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة } أي : شرك . يعني : قاتلوهم حتى يسلموا ، وليس يقبل من المشرك الوثني جزية { ويكون الدين } أي : الطاعة والعبادة { لله } وحده فلا يعبد دونه شيء { فإن انتهوا } عن الكفر { فلا عدوان } أي : فلا قتل ولا نهب { إلا على الظالمين } والكافرين .
{ الشهر الحرام بالشهر الحرام } أي : إن قاتلوكم في الشهر الحرام فقاتلوهم في مثله { والحرمات قصاص } أي : إن انتهكوا لكم حرمة فانتهكوا منهم مثل ذلك أعلم الله سبحانه أنه لا يكون للمسلمين أن ينتهكوها على سبيل الابتداء ، ولكن على سبيل القصاص ، وهو معنى قوله : { فمن اعتدى عليكم } الآيه.
{ وأنفقوا في سبيل الله } في طاعة الله تعالى من الجهاد وغيره { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } ولا تمسكوا عن الإنفاق في الجهاد { وأحسنوا } أي : الظن بالله تعالى في الثواب والإخلاف عليكم .
{ وأتموا الحج والعمرة لله } بمناسكها وحدودها وسننها ، وتأدية كل ما فيهما { فإن أحصرتم } حبستم ومنعتم دون تمامهما { فما استيسر } فواجب عليكم ما تيسر { من الهدي } وهو ما يهدى إلى بيت الله سبحانه ، أعلاه بدنة ، وأوسطه بقرة ، وأدناه شاة ، فعليه ما تيسر من هذه الأجناس { ولا تحلقوا رؤوسكم } أي : لا تحلوا من إحرامكم { حتى يبلغ الهدي محله } حتى ينحر الهدي بمكة في بعض الأقوال ، وهو مذهب أهل العراق ، وفي قول غيرهم : محله حيث يحل ذبحه ونحره ، وهو حيث أحصر ، وهو مذهب الشافعي { فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه } يعني الهوام تقع في الشعر وتكثر فحلق { ففدية من صيام } وهو صيام ثلاثة أيام { أو صدقة } وهي إطعام ستة مساكين . لكل مسكين مدان { أو نسك } ذبيحة { فإذا أمنتم } أي : من العدو ، أو كان حج ليس فيه خوف من عدو { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج } أي : قدم مكة محرما واعتمر في أشهر الحج ، وأقام حلالا بمكة حتى ينشئ منها الحج عامه ذلك ، واستمتع بمحظورات الإحرام ، لأنه حل بالعمرة ، فمن فعل هذا { ف } عليه { ما استيسر من الهدي فمن لم يجد } ثمن الهدي { فصيام ثلاثة أيام في } أشهر { الحج وسبعة إذا رجعتم } أي : بعد الفراغ من الحج { تلك عشرة كاملة ذلك } أي : ذلك الفرض الذي أمرنا به من الهدي أو الصيام { لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام } أي : لمن لم يكن من أهل مكة .
{ الحج أشهر } أي : أشهر الحج أشهر { معلومات } موقتة معينة ، وهي شوال وذو القعدة وتسع من ذي الحجة { فمن فرض } أوجب على نفسه { فيهن الحج } بالإحرام والتلبية { فلا رفث } فلا جماع { ولا فسوق } ولا معاصي { ولا جدال } وهو أن يجادل صاحبه حتى يغضبه ، والمعنى : لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا { في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله } أي : يجازيكم به الله العالم { وتزودوا }نزلت في قوم كانوا يحجون بلا زاد ، ويقولون : نحن متوكلون ، ثم كانوا يسألون الناس وربما ظلموهم وغصبوهم ، فأمرهم الله أن يتزودوا فقال { وتزودوا } ما تتبلغون به { فإن خير الزاد التقوى } يعني : ما تكفون به وجوهكم عن السؤال وأنفسكم عن الظلم .
{ وليس عليكم جناح } . كان قوم يزعمون أنه لا حج لتاجر ولا جمال ، فأعلم الله تعالى أنه لا حرج في ابتغاء الرزق بقوله : { ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم } أي : رزقا بالتجارة في الحج { فإذا أفضتم } أي : دفعتم وانصرفتم من { من عرفات فاذكروا الله } بالدعاء والتلبية { عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم } أي : ذكرا مثل هدايته إياكم ، أي : يكون جزاء لهدايته إياكم { وإن كنتم من قبله } أي : وما كنتم من قبل هداه إلا ضالين .
{ ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس } يعني : العرب وعامة الناس إلا قريشا ، وذلك أنهم كانوا لا يقفون بعرفات وإنما يقفون بالمزدلفة ويقولون نحن أهل حرم الله ، فلا نخرج منه ، فأمرهم الله أن يقفوا بعرفات ، كما يقف سائر الناس حتى تكون الإفاضة معهم منها . { فإذا قضيتم مناسككم } أي : فرغتم من عبادتكم التي أمرتم بها في الحج { فاذكروا الله كذكركم آباءكم } كانت العرب إذا فرغوا من حجهم ذكروا مفاخر آبائهم ، فأمرهم الله عز وجل بذكره { أو أشد ذكرا } يعني : وأشد ذكرا { فمن الناس } ، وهم المشركون كانوا يسألون المال والإبل والغنم ، ولا يسألون حظا في الآخرة ، لأنهم لم يكونوا مؤمنين بها ، والمسلمون يسألون الحظ في الدنيا والآخرة ، وهو قوله :
قال تعالى{فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق} .
{ ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة } ومعنى { في الدنيا حسنة } : العمل بما يرضي الله ، { وفي الآخرة حسنة } : الجنة .
{ أولئك لهم نصيب مما كسبوا } أي : ثواب ما عملوا { والله سريع الحساب } مع هؤلاء ، لأنه يغفر سيئاتهم ويضاعف حسناتهم .
{ واذكروا الله في أيام معدودات } يعني : التكبير أدبار الصلوات في أيام التشريق { فمن تعجل في يومين } من أيام التشريق فنفر في اليوم الثاني من منى { فلا إثم عليه } في تعجله ، { ومن تأخر } عن النفر إلى اليوم الثالث { فلا إثم عليه } في تأخره { لمن اتقى } أي : طرح المأثم يكون لمن اتقى في حجه تضييع شيء مما حده الله تعالى .
{ ومن الناس من يعجبك قوله } يعني : الأخنس بن شريق ، وكان منافقا حلو الكلام ، حسن العلانية سيئ السريرة ، وقوله { في الحياة الدنيا } لأن قوله إنما يعجب الناس في الحياة الدنيا ، ولا ثواب له عليه في الآخرة { ويشهد الله على ما في قلبه } لأنه كان يقول للنبي صلى الله عليه وسلم : والله ، إني بك لمؤمن ، ولك محب { وهو ألد الخصام } أي : شديد الخصومة ، وكان جدلا بالباطل .
{ وإذا تولى سعى في الأرض } ، الآية ، وذلك أنه رجع إلى مكة ، فمر بزرع وحمر للمسلمين ، فأحرق الزرع وعقر الحمر ، فهو قوله : { ويهلك الحرث والنسل } أي : نسل الدواب .
{ وإذا قيل له اتق الله } وإذا قيل له : مهلا مهلا { أخذته العزة بالإثم } حملته الأنفة وحمية الجاهلية على الفعل بالإثم { فحسبه جهنم } كافية الجحيم جزاء له { ولبئس المهاد } ولبئس المقر جهنم .
{ ومن الناس من يشري } أي : يبيع { نفسه } يعني : يبذلها لأوامر الله تعالى { ابتغاء مرضاة الله } لطلب رضا الله . نزلت في صهيب الرومي .
{ يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم } أي : في الإسلام { كافة } أي : جميعا ، أي : في جميع شرائعه . نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه ، وذلك أنهم بعدما دخلوا في الإسلام عظموا السبت ، وكرهوا لحمان الإبل فأمروا بترك ذلك ، وإنه ليس من شرائع الإسلام تحريم السبت وكراهة لحوم الإبل { ولا تتبعوا خطوات الشيطان } أي : آثاره ونزغاته { إنه لكم عدو مبين } .
{ فإن زللتم } تنحيتم عن القصد بتحريم السبت ولحوم الإبل { من بعد ما جاءتكم البينات } أي : القرآن { فاعلموا أن الله عزيز } في نقمته لاتعجزونه ولا يعجزه شيء { حكيم } فيما شرع لكم من دينه .
{ هل ينظرون } أي : هل ينتظرون . يعني : التاركين الدخول في الإسلام ، و(هل) استفهام معناه النفي ، أي : ما ينتظر هؤلاء في الآخرة { إلا أن يأتيهم } عذاب { الله في ظلل من الغمام } والظلل جمع : ظلة ، وهي كل ما أظلك ، والمعنى : أن العذاب يأتي فيها ، ويكون أهول { والملائكة } أي : الملائكة الذين وكلوا بتعذيبهم { وقضي الأمر } فرغ لهم مما يوعدون بأن قدر ذلك عليهم { وإلى الله ترجع الأمور } يعني : في الجزاء من الثواب والعقاب .
{ سل بني إسرائيل } سؤال توبيخ وتبكيت وتقريع ( كما يقال : سله كم وعظته فلم يقبل ) { كم آتيناهم من آية بينة } من فلق البحر ، وإنجائهم من عدوهم ، وإنزال المن والسلوى ، وغير ذلك { ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته } يعني : ما أنعم الله به عليهم من العلم بشأن محمد عليه السلام ، فبدلوه وغيروه .
{ زين للذين كفروا } أي : رؤساء اليهود { الحياة الدنيا } فهي همتهم وطلبتهم ، فهم لا يريدون غيرها . { ويسخرون من الذين آمنوا } أي : فقراء المهاجرين { والذين اتقوا } الشرك وهم هؤلاء الفقراء { فوقهم يوم القيامة } لأنهم في الجنة ، وهي عالية ، والكافرين في النار ، وهي هاوية { والله يرزق من يشاء بغير حساب } يريد : إن أموال قريظة والنضير تصير إليهم بلا حساب ولا قتال ، بل بأسهل شيء وأيسره .
{ كان الناس } على عهد إبراهيم عليه السلام { أمة واحدة } كفارا كلهم { فبعث الله النبيين } إبراهيم وغيره { وأنزل معهم الكتاب } والكتاب اسم الجنس { بالحق } بالعدل والصدق { ليحكم بين الناس } أي : الكتاب { فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا } أي: وما اختلف في أمر محمد بعد وضوح الدلالات لهم بغيا وحسدا إلا اليهود الذين أوتوا الكتاب ، لأن المشركين - وإن اختلفوا في أمر محمد عليه السلام - فإنهم لم يفعلوا ذلك للبغي والحسد ، ولم تأتهم البينات في شأن محمد عليه السلام ، كما أتت اليهود ، فاليهود مخصوصون من هذا الوجه { فهدى الله الذين آمنوا } { ل } معرفة { ما اختلفوا فيه من الحق بإذنه } بعلمه وإرادته فيهم .
{ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة } . نزلت في فقراء المهاجرين حين اشتد الضر عليهم ، لأنهم خرجوا بلا مال ، فقال الله لهم _ أي لهؤلاء المهاجرين - : أم حسبتم أن تدخلوا الجنة من غير بلاء ولا مكروه { ولما يأتكم } أي : ولم يأتكم { مثل الذين خلوا } أي : مثل محنة الذين مضوا { من قبلكم } أي : ولم يصبكم مثل الذي أصابهم ، فتصبروا كما صبروا { مستهم البأساء } الشدة { والضراء } المرض والجوع { وزلزلوا } أي : حركوا بأنواع البلاء { حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله } أي : حين استبطؤوا النصر ، فقال الله : { ألا إن نصر الله قريب } أي : أنا ناصر أوليائي لا محالة .
{ يسألونك ماذا ينفقون } نزلت في عمرو بن الجموح ، وكان شيخا كبيرا وعنده مال عظيم ، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : ماذا ننفق من أموالنا ؟ وأين نضعها ؟ فنزلت هذه الآية . قال كثير من المفسرين : هذا كان قبل فرض الزكاة ، فلما فرضت الزكاة نسخت الزكاة هذه الآية .
{ كتب عليكم القتال } فرض وأوجب عليكم الجهاد { وهو كره لكم } أي : مشقة عليكم لما يدخل منه على النفس والمال { وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم } لأن في الغزو إحدى الحسنيين ، إما الظفر والغنيمة ، وإما الشهادة والجنة { وعسى أن تحبوا شيئا } أي : القعود عن الغزو { وهو شر لكم } لما فيه من الذل والفقر ، وحرمان الغنيمة والأجر { والله يعلم } ما فيه مصالحكم ، فبادروا إلى ما يأمركم به وإن شق عليكم .
{ يسألونك عن الشهر الحرام } نزلت في سرية بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقاتلوا المشركين وقد أهل رجب وهم لا يعلمون ذلك ، فاستعظم المشركون سفك الدماء في رجب ، فأنزل الله تعالى : { يسألونك } يعني : المشركين . وقيل : هم المسلمون { عن الشهر الحرام قتال فيه } أي : وعن قتال فيه { قل قتال فيه كبير } ثم ابتدأ فقال : { وصد } ومنع { عن سبيل الله } أي : طاعته . يعني : صد المشركين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن البيت الحرام عام الحديبية { وكفر به } بالله { والمسجد الحرام } أي : وصد عن المسجد الحرام { وإخراج أهله } أي : أهل المسجد . يعني : رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حين أخرجوا من مكة { منه أكبر } وأعظم وزرا { عند الله والفتنة } أي : والشرك { أكبر من القتل } يعني : قتل السرية المشركين في رجب { ولا يزالون } يعني : المشركين { يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم } إلى الكفر { إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه } الإسلام ، أي : يرجع فيموت على الكفر { فأولئك حبطت أعمالهم } . ( بطلت أعمالهم ) . فقال هؤلاء السرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أصبنا القوم في رجب ، أنرجو أن يكون لنا أجر المجاهدين في سبيل الله ؟ فأنزل الله تعالى :
{ إن الذين آمنوا والذين هاجروا } فارقوا عشائرهم وأوطانهم { وجاهدوا } المشركين { في سبيل الله } في نصرة دين الله { أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم } غفر لهؤلاء السرية ما لم يعلموا ورحمهم ، والإجماع اليوم منعقد على أن قتال المشركين يجوز في جميع الأشهر حلالها وحرامها .
{ يسألونك عن الخمر والميسر } نزلت في عمر ، ومعاذ ، وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم ، أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : أفتنا في الخمر والميسر ، فإنهما مذهبة للعقل ، مسلبة للمال ، فنزل قوله عز وجل { يسألونك عن الخمر } وهو كل مسكر مخالط للعقل مغط عليه { والميسر } : القمار { قل فيهما إثم كبير } يعني : الإثم بسببهما لما فيهما من المخاصمة والمشاتمة وقول الفحش والزور وغير ذلك . { ومنافع للناس } ما كانوا يصيبونه من المال في بيع الخمر والتجارة فيها ، واللذة عند شربها ، ومنفعة الميسر ما يصاب من القمار ، ويرتفق به الفقراء ، ثم بين أن ما يحصل بسببهما من الإثم أكبر من نفعهما ، فقال { وإثمهما أكبر من نفعهما } ، وليست هذه الآية المحرمة للخمر والميسر ، إنما المحرمة التي في سورة المائدة ، وهذه الآية نزلت قبل تحريمها . { ويسألونك ماذا ينفقون } نزلت في سؤال عمرو بن الجموح لما نزل قوله : { فللوالدين والأقربين } في سؤاله أعاد السؤال ، وسأل عن مقدار ما ينفق ؟ فنزل قوله : { قل العفو } أي : ما فضل من المال عن العيال ، وكان الرجل بعد نزول هذه الآية يأخذ من كسبه ما يكفيه ، وينفق باقيه إلى أن فرضت الزكاة ، فنسخت آية الزكاة التي في براءة هذه الآية وكل صدقة أمروا بها قبل الزكاة { كذلك } أي : كبيانه في الخمر والميسر ، أو في الإنفاق { يبين الله لكم الآيات } لتتفكروا في أمر الدنيا والآخرة ، فتعرفوا فضل الآخرة على الدنيا .
{ ويسألونك عن اليتامى } كانت العرب في الجاهلية يشددون في أمر اليتيم ولا يؤاكلونه ، وكانوا يتشاءمون بملابسة أموالهم ، فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وقوله : { قل إصلاح لهم خير } يعني : الإصلاح لأموالهم من غير أجرة خير وأعظم أجرا { وإن تخالطوهم } تشاركوهم في أموالهم وتخلطوها بأموالكم فتصيبوا من أموالهم عوضا عن قيامكم بأمورهم { فإخوانكم } أي : فهم إخوانكم ، والإخوان يعين بعضهم بعضا ، ويصيب بعضهم من مال بعض ، { والله يعلم المفسد } لأموالهم { من المصلح } لها ، فاتقوا الله في مال اليتيم ، ولا تجعلوا مخالطتكم إياهم ذريعة إلى إفساد أموالهم وأكلها بغير حق { ولو شاء الله لأعنتكم } لضيق عليكم وآثمكم في مخالطتكم . ومعناه : التذكير بالنعمة في التوسعة { إن الله عزيز } في ملكه { حكيم } فيما أمر به .
{ ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن } نزلت في أبي مرثد الغنوي ، كانت له خليلة مشركة ، فلما أسلم سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أيحل له أن يتزوج بها ؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية ، والمشركات ها هنا عامة في كل من كفرت بالنبي صلى الله عليه وسلم . حرم الله تعالى بهذه الآية نكاحهن ، ثم استثنى الحرائر الكتابيات بالآية التي في المائدة ، فبقي نكاح الأمة الكتابية على التحريم { ولأمة مؤمنة } نزلت في عبد الله بن رواحة كانت له أمة مؤمنة فأعتقها وتزوجها ، فطعن عليه ناس ، وعرضوا عليه حرة مشركة ، فنزلت هذه الآية ، وقوله : { ولو أعجبتكم } المشركة بمالها وجمالها { ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا } لا يجوز تزويج المسلمة من المشرك بحال { أولئك } أي : المشركون { يدعون إلى النار } أي : الأعمال الموجبة للنار { والله يدعو إلى الجنة والمغفرة } أي : العمل الموجب للجنة والمغفرة { بإذنه } بأمره . يعني : إنه بأوامره يدعوكم .
{ ويسألونك عن المحيض }( ذكر المفسرون أن العرب كانت إذا حاضت المرأة لم يؤاكلوها ولم يشاربوها ، ولم يساكنوا معها في بيت ، كفعل المجوس )، فسأل أبو الدحداح رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ، كيف نصنع بالنساء إذا حضن ؟ فنزلت هذه الآية ، والمحيض : الحيض { قل هو أذى } أي : قذر ودم { فاعتزلوا النساء في المحيض } أي : مجامعتهن إذا حضن { ولا تقربوهن } أي : ولا تجامعوهن { حتى يطهرن } أي : يغتسلن ، ومن قرأ { يطهرن } بالتخفيف ، أي : ينقطع عنهن الدم ، أي : توجد طهارة وهي الغسل { فإذا تطهرن } اغتسلن {فاتوهن } أي : جامعوهن { من حيث أمركم الله } بتجنبه في الحيض _ وهو الفرج _ { إن الله يحب التوابين } من الذنوب و { المتطهرين } بالماء من الأحداث والجنابات .
{ نساؤكم حرث لكم } أي : مزرع ومنب للولد { فاتوا حرثكم أنى شئتم } أي : كيف شئتم ومن أين شئتم بعد أن يكون في صمام واحد ، فنزلت هذه الآية تكذيبا لليهود ، وذلك أن المسلمين قالوا : إنا نأتي النساء باركات وقائمات ومستلقيات ، ومن بين أيديهم ، ومن خلفهن بعد أن يكون المأتى واحدا ، فقالت اليهود : ما أنتم إلا أمثال البهائم ، لكنا نأتيهن على هيئة واحدة ، وإنا لنجد في التوراة أن كل إتيان يؤتى النساء غير الإستلقاء دنس عند الله ، فأكذب الله تعالى اليهود . { وقدموا لأنفسكم } أي : العمل لله بما يحب ويرضى { واتقوا الله } فيما حد لكم من الجماع وأمر الحائض { واعلموا أنكم ملاقوه } أي : راجعون إليه { وبشر المؤمنين } الذين خافوه وحذروا معصيته .
{ ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم } أي : لا تجعلوا اليمين بالله سبحانه علة مانعة من البر والتقوى من حيث تتعمدون اليمين لتعتلوا بها . نزلت في عبد الله بن رواحة حلف أن لا يكلم ختنه ، ولا يدخل بينه وبين خصم له ، وجعل يقول : قد حلفت أن لا أفعل فلا يحل لي ، وقوله { أن تبروا } أي : في أن لا تبروا ، أو لدفع أن تبروا ، ويجوز أن يكون قوله : { أن تبروا } ابتداء ، وخبره محذوف على تقدير : أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس أولى ، أي : البر والتقى أولى . { والله سميع عليم } يسمع أيمانكم ، ويعلم ما تقصدون بها .
{ لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم } أي : ما يسبق به اللسان من غير عقد ولا قصد ، ويكون كالصلة للكلام ، وهو مثل قول القائل : لا والله ، وبلى والله . وقيل : لغو اليمين : اليمين المكفرة ، سميت لغوا لأن الكفارة تسقط الإثم منه { ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم } أي : عزمتم وقصدتم ، وعلى القول الثاني في لغو اليمين معناه : ولكن يؤاخذكم بعزمكم على ألا تبروا وتعتلوا في ذلك بأيمانكم بأنكم حلفتم { والله غفور حليم } يؤخر العقوبة عن الكفار والعصاة .
{ للذين يؤلون من نسائهم } أي : يحلفون أن لا يطؤوهن { تربص أربعة أشهر } جعل الله تعالى الأجل في ذلك أربعة أشهر ، فإذا مضت هذه المدة فإما أن يطلق أو يطأ ، فإن أباهما جميعا طلق عليه الحاكم { فإن فاؤوا } رجعوا عما حلفوا عليه ، أي : بالجماع { فإن الله غفور رحيم } يغفر له ما قد فعل ، ( ولزمته كفارة اليمين ) .
{ وإن عزموا الطلاق } أي : طلقوا ولم يفيؤوا بالوطء { فإن الله سميع } لما يقوله { عليم } بما يفعله .
{ والمطلقات } أي : المخليات من حبال الأزواج . يعني : البالغات المدخول بهن غير الحوامل ، لأن في الآية بيان عدتهن { يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } أي : ثلاثة أطهار ، يعني : ينتظرون انقضاء مدة ثلاثة أطهار حتى تمر عليهن ثلاثة أطهار وقيل : ثلاث حيض . { ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن } يعني : الولد ، ليبطلن حق الزوج من الرجعة { إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر } وهذا تغليظ عليهن في إظهار ذلك { وبعولتهن } أي : أزواجهن { أحق بردهن } بمراجعتهن { في ذلك } في الأجل الذي أمرن أن يتربصن فيه { إن أرادوا إصلاحا } لا إضرارا { ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف } أي : للنساء على الرجال مثل الذي للرجال عليهن من الحق بالمعروف ، أي : بما أمر الله من حق الرجل على المرأة { وللرجال عليهن درجة } يعني : بما ساقوا من المهر ، وأنفقوا من المال { والله عزيز حكيم } يأمر كما أراد ويمتحن كما أحب .
{ الطلاق مرتان } كان طلاق الجاهلية غير محصور بعدد ، فحصر الله الطلاق بثلاث ، فذكر في هذه الآية طلقتين ، وذكر الثالثة في الآية الأخرى ، وهي قوله :{ فإن طلقها فلا تحل له من بعد } الآية . وقيل : المعنى في الآية : الطلاق الذي يملك فيه الرجعة مرتان. { فإمساك بمعروف } يعني : إذا راجعها بعد الطلقتين فعليه إمساك بما أمر الله تعالى { أو تسريح بإحسان } وهو أن يتركها حتى تبين بانقضاء العدة ، ولا يراجعها ضرارا { ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا } لا يجوز للزوج أن يأخذ من امرأته شيئا مما أعطاها من المهر ليطلقها إلا في الخلع ، وهو قوله { إلا أن يخافا } أي : يعلما { أن لا يقيما حدود الله } والمعنى : إن المرأة إذا خافت أن تعصي الله في أمر زوجها بغضا له ، وخاف الزوج إذا لم تطعه امرأته أن يعتدي عليها حل له أن يأخذ الفدية منها إذا دعت إلى ذلك { فإن خفتم } أيها الولاة والحكام { أن لا يقيما حدود الله } يعني : الزوجين { فلا جناح عليهما فيما افتدت به } المرأة ، لا جناح عليها فيما أعطته ، ولا على الرجل فيما أخذ { تلك حدود الله } يعني : ما حده من شرائع الدين .
{ فإن طلقها } يعني : الزوج المطلق اثنتين { فلا تحل له } المطلقة ثلاثا { من بعد } أي : من بعد التطليقة الثالثة { حتى تنكح زوجا غيره } غير المطلق ( ويجامعها ) { فإن طلقها } أي : الزوج الثاني { فلا جناح عليهما أن يتراجعا } بنكاح جديد { إن ظنا } أي : علما وأيقنا { أن يقيما حدود الله } ما بين الله من حق أحدهما على الآخر .
{ وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن } أي : قاربن انقضاء عدتهن { فأمسكوهن بمعروف } أي : راجعوهن بإشهاد على الرجعة وعقد لها لا بالوطء كما يقول أبو حنيفة { أو سرحوهن بمعروف } أي : اتركوهن حتى تنقضي عدتهن ويكن أملك بأنفسهن { ولا تمسكوهن ضرارا } أي : لا تراجعوهن مضارة وأنتم لا حاجة بكم إليهن { لتعتدوا } عليهن بتطويل العدة { ومن يفعل ذلك } الاعتداء { فقد ظلم نفسه } ضرها وأثم بينه وبين الله عز وجل { ولا تتخذوا آيات الله هزوا } كان الرجل يطلق في الجاهلية ويقول : إنما طلقت وأنا لاعب ، فيرجع فيها ، فأنزل الله تعالى هذه الآية . { واذكروا نعمة الله عليكم } بالإسلام { وما أنزل عليكم من الكتاب } يعني : القرآن { والحكمة } مواعظ القرآن .
{ وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن } انقضت عدتهن { فلا تعضلوهن } لا تمنعوهن { أن ينكحن أزواجهن } بنكاح جديد ، أي : الذين كانوا أزواجا لهن . نزلت في أخت معقل بن يسار طلقها زوجها ، فلما انقضت عدتها جاء يخاطبها ، فأبى معقل أن يزوجها ومنعها بحق الولاية { إذا تراضوا بينهم بالمعروف } بعقد حلال ومهر جائز { ذلك } أي : أمر الله بترك العضل { يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر ذلكم أزكى } أي : ترك العضل خير { لكم } وأفضل { وأطهر } لقلوبكم من الريبة ، وذلك أنهما إذا كان في قلب كل واحد منهما علاقة حب لم يؤمن عليهما { والله يعلم } ما لكم فيه من الصلاح .
{ والوالدات يرضعن أولادهن } لفظه لفظ الخبر ومعناه الأمر ، وهو أمر استحباب لا أمر إيجاب . يريد : إنهن أحق بالإرضاع من غيرهن إذا أردن ذلك { حولين } سنتين { كاملين } تامين ، وهذا تحديد لقطع التنازع بين الزوجين إذا اشتجرا في مدة الرضاع . يدل على هذا قوله{لمن أراد} أي: هذا التقرير والبيان{لمن أراد أن يتم الرضاعة}،{ وعلى المولود له } أي : الأب { رزقهن وكسوتهن } رزق الوالدات ولباسهن . قال المفسرون : وعلى الزوج رزق المرأة المطلقة وكسوتها إذا أرضعت الولد { بالمعروف } بما يعرفون أنه عدل على قدر الإمكان ، وهو معنى قوله : { لا تكلف نفس إلا وسعها } لا تلزم نفس إلا ما يسعها { لا تضار والدة بولدها } لا ينزع الولد منها إلى غيرها بعد أن رضيت بإرضاعه ، وألفها الصبي ، ولا تلقيه هي إلى أبيه بعدما عرفها تضاره بذلك ، وهو قوله : { ولا مولود له بولده } ، { وعلى الوارث مثل ذلك } هذا نسق على قوله : { وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن } بمعنى : على وارث الصبي _ الذي لو مات الصبي وله مال ورثه _ مثل الذي كان على أبيه في حياته ، وأراد بالوارث من كان من عصبته كائنا من كان من الرجال { فإن أرادا } يعني : الأبوين { فصالا } فطاما للولد { عن تراض منهما } قبل الحولين { وتشاور } بينهما { فلا جناح عليهما وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم } مراضع غير الوالدة { فلا جناح عليكم } فلا إثم عليكم { إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف } أي : إذا سلمتم إلى الأم أجرتها بمقدار ما أرضعت .
{ والذين يتوفون منكم } أي : يموتون { ويذرون } ويتركون ( ويخلفون ) { أزواجا } نساء { يتربصن بأنفسهن } خبر في معنى الأمر { أربعة أشهر وعشرا } هذه المدة عدة المتوفى عنها زوجها إلا أن تكون حاملا { فإذا بلغن أجلهن } انقضت عدتهن { فلا جناح عليكم } أيها الأولياء { فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف } أي : من تزوج الأكفاء بإذن الأولياء . هذا تفسير المعروف ها هنا ، لأن التي تزوج نفسها سماها النبي صلى الله عليه وسلم زانية ، وهذه الآية ناسخة لقوله تعالى : { متاعا إلى الحول غير إخراج } الآية .
{ ولا جناح عليكم فيما عرضتم به } أي : تكلمتم به من غير تصريح ، وهو أن يضمن الكلام دلالة على ما يريد { من خطبة النساء } أي : التماس نكاحهن في العدة . يعني : المتوفى عنها الزوج يجوز التعريض بخطبتها في العدة ، وهو أن يقول لها وهي في العدة : إنك لجميلة ، وإنك لنافقة ، وإنك لصالحة ، وإن من عزمي أن أتزوج ، وما أشبه ذلك { أو أكننتم } أسررتم وأضمرتم { في أنفسكم } من خطبتهن ونكاحهن { علم الله أنكم ستذكرونهن } يعني : الخطبة { ولكن لا تواعدوهن سرا } أي : لا تأخذوا ميثاقهن أن لا ينكحن غيركم { إلا أن تقولوا قولا معروفا } أي : التعريض بالخطبة كما ذكرنا { ولا تعزموا عقدة النكاح } أي : لا تصححوا عقدة النكاح { حتى يبلغ الكتاب أجله } حتى تنقضي العدة المفروضة { واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم } أي : مطلع على ما في ضمائركم . { فاحذروه } فخافوه .
{ لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن } نزلت في رجل من الأنصار تزوج امرأة ولم يسم لها مهرا ، ثم طلقها قبل أن يمسها ، فأعلم الله تعالى أن عقد التزويج بغير مهر جائز ، ومعناه : لا سبيل للنساء عليكم إن طلقتموهن من قبل المسيس والفرض بصداق ولا نفقة .وقوله : { أو تفرضوا لهن فريضة } أي : توجبوا لهن صداقا { ومتعوهن } أي : زودوهن وأعطوهن من ما لكم ما يتمتعن به ، فالمرأة إذا طلقت قبل تسمية المهر وقبل المسيس فإنها تستحق المتعة بإجماع العلماء ، ولا مهر لها و { على الموسع } أي : الغني الذي يكون في سعة من غناه { قدره } أي : قدر إمكانه { وعلى المقتر } الذي في ضيق من فقره قدر إمكانه .أعلاها خادم ، وأوسطها ثوب ، وأقلها أقل ماله ثمن . قال الشافعي : وحسن ثلاثون درهما . { متاعا } أي : متعوهن متاعا { بالمعروف } بما تعرفون أنه القصد وقدر الإمكان { حقا } واجبا { على المحسنين } .
{ وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن } هذا في المطلقة بعد التسمية وقبل الدخول ، حكم الله تعالى بنصف المهر ، وهو قوله : { فنصف ما فرضتم } أي : فالواجب نصف ما فرضتم { إلا أن يعفون } أي : النساء ، أي : إلا أن يتركن ذلك النصف ، فلا يطالبن الأزواج به { أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح } أي : الزوج لا يرجع في شيء من المهر ، فيدع لها المهر الذي وفاه عملا { وأن تعفو } خطاب للرجال والنساء { أقرب للتقوى } أي : أدعى إلى اتقاء معاصي الله ، لأن هذا العفو ندب ، فإذا انتدب المرء له علم أنه - لما كان فرضا - أشد استعمالا { ولا تنسوا الفضل بينكم } لا تتركوا أن يتفضل بعضكم على بعض . هذا أمر للزوج والمرأة بالفضل والإحسان .
{ حافظوا على الصلوات } بأدائها في أوقاتها { والصلاة الوسطى } أي : صلاة الفجر ، لأنها بين صلاتي ليل وصلاتي نهار . أفردها بالذكر تخصيصا { وقوموا لله قانتين } مطيعين .
{ فإن خفتم فرجالا } أي : إن لم يمكنكم أن تصلوا موفين للصلاة حقها فصلوا مشاة على أرجلكم { أو ركبانا } على ظهور دوابكم ، وهذا في المطاردة والمسايفة { فإذا أمنتم فاذكروا الله } أي : فصلوا الصلوات الخمس تامة بحقوقها { كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون } كما افترض عليكم في مواقيتها .
{ والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية } فعليهم وصية { لأزواجهم } لنسائهم ، وهذا كان في ابتداء الإسلام لم يكن للمرأة ميراث من زوجها ، وكان على الزوج أن يوصي لها بنفقة حول ، فكان الورثة ينفقون عليها حولا ، وكان الحول عزيمة عليها في الصبر عن التزوج ، وكانت مخيرة في أن تعتد إن شاءت في بيت الزوج ، وإن شاءت خرجت قبل الحول وتسقط نفقتها ، فذلك قوله : { متاعا إلى الحول } أي : متعوهن متاعا . يعني : النفقة { غير إخراج } أي : من غير إخراج الورثة إياها { فإن خرجن فلا جناح عليكم } يا أولياء الميت في قطع النفقة عنهن ، وترك منعها عن التشوف للنكاح والتصنع للأزواج ، وذلك قوله : { في ما فعلن في أنفسهن من معروف } وهذا كله منسوخ بآية المواريث وعدة المتوفى عنها زوجها .
{ وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين } لما ذكر الله تعالى متعة المطلقة في قوله : { حقا على المحسنين } قال رجل من المسلمين : إن أحسنت فعلت ، وإن لم أرد ذلك لم أفعل ، فأوجبها الله تعالى على المتقين . الذين يتقون الشرك .
{ كذلك يبين الله لكم آياته } شبه الله البيان الذي يأتي بالبيان الذي مضى في الأحكام التي ذكرها .
{ ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم } ألم تعلم ، ألم ينته علمك إلى هؤلاء ، وهم قوم من بني إسرائيل خرجوا من بلدتهم هاربين من الطاعون ، حتى نزلوا واديا فأماتهم الله جميعا ، فذلك قوله : { حذر الموت } أي : لحذر الموت { فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم } مقتهم الله على فرارهم من الموت ، فأماتهم عقوبة لهم ثم بعثهم ليستوفوا بقية آجالهم { إن الله لذو فضل على الناس } أي : تفضل عليهم بأن أحياهم بعد موتهم .
{ وقاتلوا في سبيل الله } يحرض المؤمنين على القتال { واعلموا أن الله سميع } لما يقوله المتعلل { عليم } بما يضمره ، فإياكم والتعلل .
{ من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا } أي : من ذا الذي يعمل عمل المقرض ، بأن يقدم من ماله فيأخذ أضعاف ما قدم ، وهذا استدعاء من الله تعالى إلى أعمال البر { والله يقبض } أي : يمسك الرزق على من يشاء { ويبسط } أي : ويوسع على من يشاء .
{ ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل } أي : إلى الجماعة { إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا } سألوا نبيهم أشمويل عليه السلام ملكا تنتظم به كلمتهم ، ويستقيم حالهم في جهاد عدوهم ، وهو قوله : { نقاتل في سبيل الله } { فقال } لهم ذلك النبي : { هل عسيتم إن كتب عليكم القتال أن لا تقاتلوا } أي : لعلكم أن تجبنوا عن القتال { قالوا وما لنا أن لا نقاتل في سبيل الله } أي : وما يمنعنا عن ذلك ؟ { وقد أخرجنا من ديارنا } { و } أفردنا من { أبنائنا } بالسبي والقتل . إذا بلغ الأمر منا هذا فلا بد من الجهاد . قال الله تعالى : { فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم } وهم الذين عبروا النهر ، ويأتي ذكرهم .
{ وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا } أي : قد أجابكم إلى ما سألتم من بعث الملك { قالوا } : كيف يملك علينا ؟ وكان من أدنى بيوت بني إسرائيل ، ولم يكن من سبط المملكة ، فأنكروا ملكه وقالوا : { ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال } أي : لم يؤت ما يتملك به الملوك { قال } النبي : { إن الله اصطفاه عليكم } ( اختاره ) بالملك { وزاده بسطة في العلم والجسم } كان طالوت يومئذ أعلم رجل في بني إسرائيل وأجمله وأتمه . والبسطة : الزيادة في كل شيء { والله يؤتي ملكه من يشاء } ليس بالوراثة { والله واسع } أي : واسع الفضل والرزق والرحمة ، فسألوا نبيهم على تمليك طالوت آية فـ .
{ وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت } وكان تابوتا أنزله الله تعالى على آدم عليه السلام فيه صور الأنبياء عليهم السلام . كانت بنو إسرائيل يستفتحون به على عدوهم ، فغلبتهم العمالقة على التابوت ، فلما سألوا نبيهم البينة على ملك طالوت قال : إن آية ملكه أن يرد الله تعالى التابوت عليكم ، فحملت الملائكة التابوت حتى وضعته في دار طالوت ، وقوله : { فيه سكينة من ربكم } أي : طمأنينة . كانت قلوبهم تطمئن بذلك ، ففي أي مكان كان التابوت سكنوا هناك ، وكان ذلك من أمر الله تعالى { وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون } أي : تركاه هما ، وكانت البقية نعلي موسى وعصاه وعمامة هارون ، وقفيزا من المن الذي كان ينزل عليهم { تحمله الملائكة } أي : التابوت . { إن في ذلك لآية } أي : في رجوع التابوت إليكم علامة أن الله قد ملك طالوت عليكم { إن كنتم مؤمنين } أي : مصدقين .
{ فلما فصل طالوت بالجنود } أي : خرج بهم من الموضع الذي كانوا فيه إلى جهاد العدو { قال } لهم طالوت : { إن الله مبتليكم } أي : مختبركم ومعاملكم معاملة المختبر { بنهر } أي : بنهر فلسطين ليتميز المحقق ومن له نية في الجهاد من المعذر { فمن شرب منه } أي : من مائه { فليس مني } أي : من أهل ديني { ومن لم يطعمه } لم يذقه { فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده } أي : مرة واحدة ، أي : أخذ منه بجرة أو قربة وما أشبه ذلك مرة واحدة . قال لهم طالوت : من شرب من النهر وأكثر فقد عصى الله ، ومن اغترف غرفة بيده أقنعته ، فهجموا على النهر بعد عطش شديد ، فوقع أكثرهم في النهر وأكثروا الشرب ، فهؤلاء جبنوا عن لقاء العدو ، وأطاع قوم قليل عددهم فلم يزيدوا على الاغتراف ، فقويت قلوبهم وعبروا النهر ، فذلك قوله : { فشربوا منه إلا قليلا منه } وكانوا ثلثمائة وبضعة عشر رجلا { فلما جاوزه } أي : النهر { هو والذين آمنوا معه قالوا } يعني : الذين شربوا وخالفوا أمر الله تعالى : { لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال } يعني : القليل الذين اغترفوا وهم { الذين يظنون } أي : يعلمون { أنهم ملاقوا الله } أي : راجعون إليه : { كم من فئة قليلة } أي : جماعة قليلة { غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين } بالمعونة والنصر .
{ ولما برزوا } أي : خرجوا { لجالوت وجنوده } أي : لقتالهم { قالوا ربنا أفرغ } اصبب { علينا صبرا وثبت أقدامنا } بتقوية قلوبنا .
{ فهزموهم } فردوهم وكسروهم { بإذن الله } بقضائه وقدره { وقتل داود } النبي ، وكان في عسكر بني إسرائيل { جالوت } الكافر { وآتاه الله الملك } ( أعطى الله داود ملك بني إسرائيل ) { والحكمة } أي : جمع له الملك والنبوة { وعلمه مما يشاء } صنعة الدروع ومنطق الطيور { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض } لولا دفع الله بجنود المسلين لغلب المشركون على الأرض ، فقتلوا المؤمنين وخربوا البلاد والمساجد .
{ تلك آيات الله } أي : هذه الآيات التي أخبرتك بها آيات الله ، أي : علامات توحيده . { وإنك لمن المرسلين } أي : أنت من هؤلاء الذين قصصت عليك آياتهم .
`````{ تلك الرسل } أي : جماعة الرسل { فضلنا بعضهم على بعض } أي : لم نجعلهم سواء في الفضيلة وإن استووا في القيام بالرسالة { منهم من كلم الله } وهو موسى عليه السلام { ورفع بعضهم درجات } يعني محمدا صلى الله عليه وسلم أرسل إلى الناس كافة { وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس } مضى تفسيره ، { ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم } أي : من بعد الرسل { من بعد ما جاءتهم البينات } من بعد ما وضحت لهم البراهين { ولكن اختلفوا فمنهم من آمن } ثبت على إيمانه { ومنهم من كفر } كالنصارى بعد المسيح اختلفوا فصاروا فرقا ، ثم تحاربوا { ولو شاء الله ما اقتتلوا } كرر ذكر المشيئة باقتتالهم تكذيبا لمن زعم انهم فعلوا ذلك من عند أنفسهم ، لم يجري به قضاء من الله { ولكن الله يفعل ما يريد } فيوفق من يشاء فضلا ، ويخذل من يشاء عدلا .
{ يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم } أي : الزكاة المفروضة ، وقيل : أراد النفقة في الجهاد { من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه } يعني : يوم القيامة . يعني : لا يؤخذ في ذلك اليوم بدل ولا فداء { ولا خلة } ولا صداقة { ولا شفاعة } عم نفي الشفاعة لأنه عنى الكافرين بأن هذه الأشياء لا تنفعهم ، ألا ترى أنه قال : { والكافرون هم الظالمون } أي : هم الذين وضعوا أمر الله في غير موضعه .
{ الله لا إله إلا هو الحي } الدائم البقاء { القيوم } القائم بتدبير أمر الخلق في إنشائهم وأرزاقهم { لا تأخذه سنة } وهي أول النعاس { ولا نوم } وهو الغشية الثقيلة { له ما في السماوات وما في الأرض } ملكا وخلقا { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } أي : لا يشفع عنده أحد إلا بأمره ، إبطالا لزعم الكفار أن الأصنام تشفع لهم { يعلم ما بين أيديهم } من أمر الدنيا { وما خلفهم } من أمر الآخرة . { ولا يحيطون بشيء من علمه } أي : لا يعلمون شيئا من معلوم الله تعالى : { إلا بما شاء } إلا بما أنبأ الله به الأنبياء وأطلعهم عليه { وسع كرسيه السماوات والأرض } أي : احتملهما وأطاقهما . يعني : ملكه وسلطانه . وقيل : هو الكرسي بعينه ، وهو مشتمل بعظمته على السماوات والأرض . وروي عن ابن عباس أن الكرسي علمه . { ولا يؤوده } أي : لا يجهده ولا يثقله { حفظهما } أي : حفظ السماوات والأرض { وهو العلي } بالقدرة ونفوذ السلطان عن الأشباه والأمثال { العظيم } عظيم الشأن .
{ لا إكراه في الدين } بعد إسلام العرب ، لأنهم أكرهوا على الإسلام فلم يقبل منهم الجزية ، لأنهم كانوا مشركين ، فلما أسلموا أنزل الله تعالى هذه الآية .{ قد تبين الرشد من الغي } ظهر الإيمان من الكفر ، والهدى من الضلالة بكثرة الحجج { فمن يكفر بالطاغوت } بالشيطان والأصنام { ويؤمن بالله } واليوم الآخر { فقد استمسك } أي : تمسك { بالعروة الوثقى } عقد لنفسه عقدا وثيقا ، وهو الإيمان وكلمة الشهادتين { لا انفصام لها } أي : لا انقطاع لها { والله سميع } لدعائك يا محمد إياي بإسلام أهل الكتاب ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب إسلام أهل الكتاب الذين حول المدينة ، ويسأل الله ذلك { عليم } بحرصك واجتهادك .
{ الله ولي الذين آمنوا } أي : ناصرهم ومتولي أمرهم { يخرجهم من الظلمات } من الكفر والضلالة إلى الإيمان والهداية { والذين كفروا } أي : اليهود { أولياؤهم الطاغوت } يعني : رؤساءهم كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب { يخرجونهم من النور } يعني : مما كانوا عليه من الإيمان بمحمد عليه السلام قبل بعثه { إلى الظلمات } إلى الكفر به بعد بعثه .
{ ألم تر إلى الذي حاج } جادل وخاصم { إبراهيم في ربه } حين قال له : من ربك ؟ { أن آتاه الله الملك } أي : الملك الذي آتاه الله . يريد : بطر الملك حمله على ذلك ، وهو نمروذ بن كنعان { إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت } فقال عدو الله : { أنا أحيي وأميت } فعارضه بالاشتراك في العبارة من غير فعل حياة ولا موت ، فلما لبس في الحجة بأن قال : أنا أفعل ذلك احتج إبراهيم عليه بحجة لا يمكنه فيها أن يقول : أنا أفعل ذلك ، وهو قوله : { قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر } أي : انقطع وسكت .
{ أو كالذي مر على قرية } عطف على المعنى لا على اللفظ ، كأنه قال : أرأيت الذي حاج ، أو كالذي مر وهو عزيز { على قرية } وهي إيليا { وهي خاوية } ساقطة متهدمة { على عروشها } أي : سقوفها { قال : أنى يحيي هذه الله } أي : من أين يحيي هذه الله { بعد موتها } يعمرها بعد خرابها ؟! استعبد أن يفعل الله ذلك ، فأحب الله أن يريه آية في نفسه في إحياء القرية { فأماته الله مائة عام } وذلك أنه مر بهذه القرية على حمار ومعه ركوة عصير ، وسلة تين ، فربط حماره ، وألقى الله عز وجل عليه النوم ، فلما نام نزع الله عز وجل روحه مائة سنة ، فلما مضت مائة سنة أحياه الله تعالى ، وذلك قوله : { ثم بعثه } { قال كم لبثت } كم أقمت ومكثت ها هنا ؟ { قال : لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك } أي : التين { و } إلى { شرابك } أي : العصير { لم يتسنه } أي : لم يتغير ولم ينتن بعد مائة سنة ، وأراه علامة مكثه مائة سنة . ببلى عظام حماره ، فقال : { وانظر إلى حمارك } فرأى حماره ميتا ، عظامه بيض تلوح { ولنجعلك آية للناس } الواو زائدة ، والمعنى : لبثت مائة عام لنجعلك آية للناس ، وكونه آية أن بعثه شابا أسود الرأس واللحية ، وبنو بنيه شيب { وانظر إلى العظام } أي : عظام حماره { كيف ننشزها } أي : نحييها . يقال : أنشر الله الموتى ، وقرىء : { ننشزها } أي : نرفعها من الأرض ، ونشوز كل شيء : ارتفاعه { ثم نكسوها لحما فلما تبين له } شاهد ذلك { قال : أعلم أن الله على كل شيء قدير } أي : أعلم العلم الذي لا يعترض عليه الإشكال ، وتأويله : إني قد علمت مشاهدة ما كنت أعلمه غيبا .
{ وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى } وذلك أنه رأى جيفة بساحل البحر يتناولها سباع الطير والوحش ودواب البحر ، ففكر كيف يجتمع ما قد تفرق منها ، وأحب أن يرى ذلك ، فسأل الله تعالى أن يريه إحياء الموتى ، فقال الله تعالى : { أولم تؤمن } ألست آمنت بذلك ؟ { قال بلى ولكن ليطمئن قلبي } بالمعاينة بعد الإيمان بالغيب { قال : فخذ أربعة من الطير } طاوسا ونسرا وغرابا وديكا { فصرهن إليك } أي : قطعهن ، كأنه قال : خذ إليك أربعة من الطير فقطعهن { ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا } ثم أمر أن يخلط ريشها ولحومها ، ثم يفرق أجزاءها بأن يجعلها على أربعة أجبل ففعل ذلك إبراهيم ، وأمسك رؤوسهن عنده ، ثم دعاهن فقال : تعالين بإذن الله ، فجعلت أجزاء الطيور يطير بعضها إلى بعض حتى تكاملت أجزاؤها ، ثم أقبلن على رؤوسهن فذلك قوله : { ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز } لا يمتنع عليه ما يريد { حكيم } فيما يدبر ، فلما ذكر الدلالة على توحيده بما أتى الرسل من البينات حث على الجهاد والإنفاق فيه فقال :
{ مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله } أي : مثل صدقاتهم وإنفاقهم { كمثل حبة أنبتت سبع سنابل } يريد أنه يضاعف الواحد بسبع مائة ، وجعله كالحبة تنبت سبع مائة حبة ، ولا يشترط وجود هذا على ضرب المثل .
{ الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا } الآيه وهو أن يقول : أحسنت إلى فلان ونعشته ، وجبرت خلله ، يمن بما فعل { ولا أذى } وهو أن يذكر إحسانه لمن لا يحب الذي أحسن إليه وقوفه عليه .
{ قول معروف } كلام حسن ورد على السائل جميل { ومغفرة } أي : تجاوز عن السائل إذا استطال عليه عند رده { خير من صدقة يتبعها أذى } أي : من وتعيير للسائل بالسؤال ، { والله غني } عن صدقة العباد { حليم } إذ لم يعجل بالعقوبة على من يمن .
{ يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم } أي : ثوابها { بالمن } وهو أن يمن بما أعطى { والأذى } وهو أن يوبخ المعطي المعطى له { كالذي ينفق } أي : كإبطاله رياء الناس ، وهو المنافق يعطي ليوهم أنه مؤمن { فمثله } أي : مثل هذا المنافق { كمثل صفوان } وهو الحجر الأملس { عليه تراب فأصابه وابل } مطر شديد { فتركه صلدا } براقا أملس . وهذا مثل ضربه الله تعالى للمان والمنافق ، يعني : إن الناس يرون في الظاهر أن لهؤلاء أعمالا كما يرى التراب على هذا الحجر ، فإذا كان يوم القيامة اضمحل كله وبطل ، كما أذهب الوابل ما كان على الصفوان ، فلا يقدر أحد من الخلق على ذلك التراب ، كذلك هؤلاء إذا قدموا على ربهم لم يجدوا شيئا ، وهو قوله جل وعز { : لا يقدرون على شيء } أي :على ثواب شيء { مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين } لا يجعل جزاءهم على كفرهم أن يهديهم ، ( ثم ضرب مثلا لمن ينفق يريد ما عند الله ولا يمن ولا يؤذي فقال ) :
{ ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا } أي : يقينا وتصديقا { من أنفسهم } بالثواب لا كالمنافق الذي لا يؤمن بالثواب { كمثل جنة بربوة } وهي ما ارتفع من الأرض ، وهي أكثر ريعا من المستفل { أصابها وابل } وهو أشد المطر { فآتت } أعطت { أكلها } ما يؤكل منها { ضعفين } أي : حملت في سنة من الريع ما يحمل غيرها في سنتين { فإن لم يصبها وابل } وهو أشد المطر ، وأصابها طل وهو المطر الضعيف ، فتلك حالها في البركة ، يقول : كما أن هذه الجنة تثمر في كل حال ولا يخيب صاحبها قل المطر أو كثر ، كذلك يضعف الله ثواب صدقة المؤمن قلت نفقته أم كثرت ، ثم قرر مثل المرائي في النفقة والمفرط في الطاعة إلى أن يموت بقوله :
{ أيود أحدكم } يقول : مثلهم كمثل رجل كانت له جنة فيها من كل الثمرات { وأصابه الكبر } فضعف عن الكسب ، وله أطفال لا يجدون عليه ولا ينفعونه { فأصابها إعصار } وهي ريح شديدة { فيه نار فاحترقت } ففقدها أحوج ما كان إليها عند كبر السن وكثرة العيال وطفولة الولد ، فبقي هو وأولاده عجزة متحيرين { لا يقدرون على } حيلة ، كذلك يبطل الله عمل المنافق والمرائي حتى لا توبة لهما ولا إقالة من ذنوبهما { كذلك يبين الله } كمثل بيان هذه الأقاصيص { يبين الله لكم الآيات } في أمر توحيده .
{ يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم } نزلت في قوم كانوا يتصدقون بشرار ثمارهم ورذالة أموالهم ، والمراد بالطيبات هاهنا الجياد الخيار مما كسبتم ، أي : التجارة { ومما أخرجنا لكم من الأرض } يعني : الحبوب التي يجب فيها الزكاة{ ولا تيمموا } أي : لاتقصدوا { الخبيث منه تنفقون } أي : تنفقونه { ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا } أي : بآخذي ذلك الخبيث لو أعطيتم في حق لكم إلا بالإغماض والتساهل ، وفي هذا بيان أن الفقراء شركاء رب المال ، والشريك لا يأخذ الرديء من الجيد إلا بالتساهل .
{ الشيطان يعدكم الفقر } أي : يخوفكم به . يقول : أمسك مالك ، فإنك إن تصدقت افتقرت { ويأمركم بالفحشاء } بالبخل ومنع الزكاة { والله يعدكم } أن يجازيكم على صدقتكم { مغفرة } لذنوبكم وأن يخلف عليكم .
{ يؤتي الحكمة } علم القرآن والفهم فيه . وقيل : هي النبوة { من يشاء } . { وما يذكر إلا أولو الألباب } أي : وما يتعظ إلا ذوو العقول .
{ وما أنفقتم من نفقة } أديتم من زكاة { أو نذرتم من نذر } في صدقة التطوع ، أي : نويتم أن تصدقوا بصدقة { فإن الله يعلمه } يجازي عليه { وما للظالمين من أنصار } وعيد لمن أنفق في غير الوجه الذي يجوز له من رياء أو معصية ، أو من مال مغصوب .
{ إن تبدوا الصدقات } . سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : صدقة السر أفضل أم صدقة العلانية ؟ فنزلت هذه الآية ، والمفسرون على أن هذه الآية في التطوع لا في الفرض ، فإن الفرض إظهاره أفضل ، وعند بعضهم الآية عامة في كل صدقة ، وقوله : { ويكفر عنكم من سيئاتكم } أي يغفرها لكم ، ومن للصلة والتأكيد .
{ ليس عليك هداهم } نزلت حين سألت قتيلة أم أسماء بنت أبي بكر ابنتها أن تعطيها شيئا وهي مشركة ، فأبت وقالت : حتى أستأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمزلت هذه الآية . والمعنى : ليس عليك هدى من خالفك فمنعهم الصدقة ليدخلوا في الإسلام { وما تنفقوا من خير } أي : مال { فلأنفسكم } ثوابه { وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله } خبر والمراد به الأمر . وقيل : هو خاص في المؤمنين ، أي : قد علم الله ذلك منكم { وما تنفقوا من خير } من مال على فقراء أصحاب الصفة . { يوف إليكم } أي : يوفر لكم جزاؤه { وأنتم لا تظلمون } أي : لا تنقصون من ثواب أعمالكم شيئا .
{ للفقراء } أي : هذه الصدقات والإنفاق التي تقدم ذكرها { للفقراء الذين أحصروا } أي : حبسوا ، أي : هم فعلوا ذلك . حبسوا أنفسهم { في سبيل الله } في الجهاد . يعني : فقراء المهاجرين { لا يستطيعون ضربا } أي : سيرا { في الأرض } لا يتفرغون إلى طلب المعاش ، لأنهم قد ألزموا أنفسهم أمر الجهاد ، فمنعهم ذلك من التصرف ، حث الله تعالى المؤمنين على الإنفاق عليهم { يحسبهم الجاهل } يخالهم { أغنياء من التعفف } عن السؤال { تعرفهم بسيماهم } بعلامتهم ، التخشع والتواضع وأثر الجهد { لا يسألون الناس إلحافا } أي : إلحاحا . إذا كان عندهم غداء لم يسألوا عشاء ، وإذا كان عندهم عشاء لم يسألوا غداء .
{ الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار } . نزلت في علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان عنده أربعة دراهم لا يملك غيرها ، فتصدق بدرهم سرا ، ودرهم علانية ، ودرهم ليلا ، ودرهم نهارا .
{ الذين يأكلون الربا } أي : يعاملون به ، فنبه بالأكل على غيره { لا يقومون } من قبورهم يوم القيامة { إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان } يصيبه بجنون { من المس } من الجنون ، وذلك أن آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنونا { ذلك } أي : ذلك الذي نزل بهم { بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا } وهو أن المشركين قالوا : الزيادة على رأس المال بعد محل الدين كالزيادة بالربح في أول البيع ، فكذبهم الله تعالى فقال : { وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه } أي : وعظ { فانتهى } عن أكل الربا { فله ما سلف } أي : ما أكل من الربا ، ليس عليه رد ما أخذ قبل النهي { وأمره إلى الله } والله ولي أمره { ومن عاد } إلى استحلال الربا { فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } .
{ يمحق الله الربا } أي : ينقصه ويذهب بركته وإن كان كثيرا ، كما يمحق القمر { ويربي الصدقات } يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فصيله { والله لا يحب كل كفار } بتحريم الربا مستحل له { أثيم } فاجر بأكله( مصر عليه) .
قال تعالى{ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون}.
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا } نزلت في العباس وعثمان رضي الله عنهما طلبا ربا لهما كانا قد أسلفنا قبل نزول التحريم ، فلما نزلت هذه الآية سمعها وأطاعا ، وأخذا رؤوس أموالهما ، ومعنى الآية : تحريم ما بقي دينا من الربا ، وإيجاب أخذ رأس المال دون الزيادة على جهة الربا ، وقوله : { إن كنتم مؤمنين } أي : إن من كان مؤمنا فهذا حكمه .
{ فإن لم تفعلوا } فإن لم تذروا ما بقي من الربا { فأذنوا } فاعلموا { بحرب من الله ورسوله } أي : فأيقنوا أنكم في امتناعكم من وضع ذلك حرب لله ورسوله { وإن تبتم } عن الربا { فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون } بطلب الزيادة { ولا تظلمون } بالنقصان عن رأس المال .
{ وإن كان ذو عسرة } أي : وإن وقع غريم ذو عسرة { فنظرة } أي : فعليكم نظرة ، أي : تأخير { إلى ميسرة } إلى غنى ووجود المال { وأن تصدقوا } على المعسرين برأس المال { خير لكم } .
{ واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله } يعني : يوم القيامة تردون فيه إلى الله { ثم توفى كل نفس ما كسبت } أي : جزاء ما كسبت من الأعمال { وهم لا يظلمون } لا ينقصون شيئا ، فلما حرم الله تعالى الربا أباح السلم فقال :
{ يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى } أي : تباعيتم بدين { فاكتبوه } أمر الله تعالى في الحقوق المؤجلة بالكتابة والإشهاد في قوله : { وأشهدوا إذا تبايعتم } حفظا منه للأموال ثم نسخ ذلك بقوله : { فإن أمن بعضكم بعضا } الآية . { وليكتب بينكم } بين المستدين والمدين { كاتب بالعدل } بالحق والإنصاف ، ولا يزيد في المال والأجل ولا ينقص منهما : { ولا يأب كاتب أن يكتب } أي : لا يمتنع من ذلك إذا أمر ، وكانت هذه عزيمة من الله واجبة على الكاتب والشاهد ، فنسخها قوله : { ولا يضار كاتب ولا شهيد } ثم قال { كما علمه الله فليكتب } أي : كما فضله الله بالكتابة { وليملل الذي عليه الحق } أي : الذي عليه الدين يملي ، لأنه المشهود عليه فيقر على نفسه بلسانه ليعلم ما عليه { ولا يبخس منه شيئا } أمر أن يقر بمبلغ المال من غير نقصان { فإن كان الذي عليه الحق } ( أي : الدين ) { سفيها } طفلا { أو ضعيفا } عاجزا أحمق { أو لا يستطيع أن يمل هو } لخرس أو لعي { فليملل وليه } وارثه أو من يقوم مقامه { بالعدل } بالصدق والحق { واستشهدوا } وأشهدوا { شهيدين من رجالكم } أي : من أهل ملتكم من الأحرار البالغين ، وقوله : { ممن ترضون من الشهداء } أي : من أهل الفضل والدين { أن تضل إحداهما } تنسى إحداهما { فتذكر إحداهما الأخرى } الشهادة { ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا } لتحمل الشهادة وأدائها { ولا تسأموا أن تكتبوه } لا يمنعكم الضجر والملالة أن تكتبوا ما أشهدتم عليه من الحق { صغيرا أو كبيرا إلى أجله } إلى أجل الحق { ذلكم } أي : الكتابة { أقسط } أعدل { عند الله } في حكمه { وأقوم } أبلغ في الاستقامة { للشهادة } لأن الكتاب يذكر الشهود ، فتكون شهادتهم أقوم { وأدنى أن لا ترتابوا } أي : أقرب إلى أن لا تشكوا في مبلغ الحق والأجل { إلا أن تكون } تقع { تجارة حاضرة } أي : متجر فيه حاضر من العروض وغيرها مما يتقابض ، وهو معنى قوله : { تديرونها بينكم } وذلك أن ما يخاف في النساء والتأجيل يؤمن في البيع يدا بيد ، وذلك قوله : { فليس عليكم جناح أن لا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم } قد ذكرنا أن هذا منسوخ الحكم فلا يجب ذلك { ولا يضار كاتب ولا شهيد } نهى الله تعالى الكاتب والشاهد عن الضرار ، وهو أن يزيد الكاتب أو ينقص أو يحرف ، وأن يشهد الشاهد بما لم يستشهد عليه ، أو يمتنع من إقامة الشهادة { وإن تفعلوا } شيئا من هذا { فإنه فسوق بكم } .
{ وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا } الآية ، أمر الله تعالى عند عدم الكاتب بأخذ الرهن ليكون وثيقة بالأموال ، وذلك قوله : { فرهان مقبوضة } أي : فالوثيقة رهن مقبوضة { فإن أمن بعضكم بعضا } أي : لم يخف خيانته وجحوده الحق { فليؤد الذي اؤتمن } أي : أمن عليه { أمانته وليتق الله ربه } بأداء الأمانة { ولا تكتموا الشهادة } إذا دعيتم لإقامتها { ومن يكتمها فإنه آثم } فاجر { قلبه } .
{ لله ما في السماوات وما في الأرض } ملكا ، فهو مالك أعيانه { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله } لما نزل هذا جاء ناس من الصحابة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : كلفنا من العمل ما لا نطيق ، إن أحدنا ليحدث نفسه بما لا يحب أن يثبت في قلبه ، فنحن نحاسب بذلك ؟ فقال النبي : فلعلكم تقولون كما قالت بنو إسرائيل : سمعنا وعصينا ، وقولوا : سمعنا وأطعنا فقالوا : سمعنا وأطعنا ، فأنزل الله تعالى الفرج بقوله : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } فنسخت هذه الآية ما قبلها ، وقيل : إن هذا في كتمان الشهادة وإقامتها ، ومعنى قوله : { يحاسبكم به الله } يخبركم به ويعرفكم إياه .
{ آمن الرسول } الآية ، لما ذكر الله تعالى في هذه السورة الأحكام والحدود ، وقصص الأنبياء وآيات قدرته ، ختم السورة بذكر تصديق نبيه عليه السلام والمؤمنين بجميع ذلك ، { لا نفرق بين أحد } أي : يقولون : لا نفرق بين أحد من رسله كما فعل أهل الكتاب ، آمنوا ببعض الرسل وكفروا ببعض ، بل نجمع بينهم في الإيمان بهم { وقالوا سمعنا } قوله { وأطعنا } أمره { غفرانك } أي : اغفر غفرانك .
{ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } ذكرنا أن هذه الآية نسخت ما شكاه المؤمنين من المحاسبة بالوسوسة وحديث النفس { لها ما كسبت } ( من العمل بالطاعة ) { وعليها ما اكتسبت } ( من العمل بالإثم ) أي : لا يؤاخذ أحد بذنب غيره { ربنا لا تؤاخذنا } أي : قولوا ذلك على التعليم للدعاء ، ومعناه : لا تعاقبنا إن نسينا . كانت بنو إسرائيل إذا نسوا شيئا مما شرع لهم عجلت لهم العقوبة بذلك ، فأمر الله نبيه والمؤمنين أن يسألوه ترك مؤاخذتهم بذلك { أو أخطأنا } تركنا الصواب : { ربنا ولا تحمل علينا إصرا } أي : ثقلا ، والمعنى : لا تحمل علينا أمرا يثقل { كما حملته على الذين من قبلنا } نحو ما أمر به بنو إسرائيل من الأثقال التي كانت عليهم { ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } أي : لا تعذبنا بالنار { أنت مولانا } ناصرنا والذي تلي علينا أمورنا { فانصرنا على القوم الكافرين } في إقامة حجتنا وغلبتنا إياهم في حربه ، وسائر أمورهم حتى يظهر ديننا على الدين كله كما وعدتنا .